أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - جواد البشيتي - حقيقة -النقود-















المزيد.....


حقيقة -النقود-


جواد البشيتي

الحوار المتمدن-العدد: 4044 - 2013 / 3 / 27 - 11:04
المحور: الادارة و الاقتصاد
    



في بعضٍ من أهم بذوره، يعود علم الاقتصاد السياسي إلى أرسطو وابن خلدون.
هل النقود (المال، أو الأموال) تَلِد؟
هل تَلِد مولوداً من جنسها؟
هل المال يَلِد مالاً؟
لوسألتَ رَبِّ عمل، مقدِّسٍ للرأسمالية، ضيِّق الأفْق، هذا السؤال (بصيغه الثلاث التي أوْردنا) لأجابكَ على البديهة قائلاً: "نَعَم، النقود تَلِد"؛ وللرأسماليين مصلحة في أنْ يُقْنِعوا العمَّال (والناس جميعاً) بـ "شرعية أرباحهم"؛ فالرأسمالي، على ما يَزْعمون، إنَّما يربح من طريق رأسماله، أيْ من طريق استثمار أمواله في الصِّناعة؛ ولا يربح، من ثمَّ، سِنْتاً واحداً من العامِل نفسه!
وقد يلجأ إلى ما يشبه السِّحْر والشَّعوذة في "تفسير" و"تعليل" ربحه، فيقول: إنَّ ماله، ولجهة إنفاقه له، جُزْءان، جُزْء يذهب أجوراً (عادلة) لعمَّاله، ويسمَّى "رأسمالٍ متغيِّرٍ (متحوِّلٍ)"، وجُزْء يذهب لاقتناء الآلات والمواد والطاقة..، ويسمَّى "رأسمالٍ ثابتٍ"؛ فَلَمَّا "يتفاعلان"، في "العمل"، يُنْتِجان "سِلِعاً (بضائع)"، تُباع جميعاً بمبلغٍ من المال أكبر من المال الذي أَنْفَق؛ وهذه الزيادة في المال (أو المال الفائض) لم تأتِ من "العمَّال (وعملهم)"، على ما يَزْعُم؛ وإنَّما من "تَفَاعُل" جُزْئيِّ رأسماله، في أثناء العمل؛ فالعامِل نال أجْراً يَعْدِل (من وجهة نظر هذا الرأسمالي) ما أعطى من عَمَلٍ؛ وقوله ("التفسيري" و"التعليلي") هذا أُنْسِبُه إلى ما يشبه السِّحْر والشَّعْوذة؛ لأنَّه يشبه أنْ تقول إنَّ 1+1=3 عندما "يتفاعلان".
أرسطو، ومن قَبْلِ بقرون من الزمان، وبذهنه الوقَّاد، أدركَ "الحقيقة"، فقال إنَّ المال لا يَلِد مالاً؛ فالمال في حدِّ ذاته عاقِر.
وتأمَّل أرسطو "السِّلعة"، فاكتشف فيها "قيمتين": "قيمة استعمالية"، تَظْهَر عند "استهلاكها"، و"قيمة تبادلية"، تَظْهَر في السوق عند "التبادل"، أيْ عند مبادلتها بغيرها من السِّلع.
أرسطو توقَّف عند هذا الحد؛ لكنَّ ابن خلدون، الذي بدأ من حيث انتهى أرسطو، وتوقَّف، تساءل قائلاً: ما الشيء (الخاصِّيَّة) المشترَك بين سلعتين مختلفتين في استعمالهما، الكامِن فيهما، فإذا تساوتا فيه أمكن تبادلهما (بالمقايضة مثلاً)؟
فيهما يكمن ما يجعلهما قابلتين لـ "القياس"؛ وللتبادل، من ثمَّ؛ وهذا "المقياس الموضوعي" إنَّما هو "العمل"، لجهة المقدار المُخَزَّن منه في السِّلعة.
هذا "مِلْح"، وذاك "سُكَّر"؛ كلاهما مختلف عن الآخر في خواصه وصفاته، وفي "قيمته الاستعمالية" من ثمَّ؛ وينبغي لهذين الشيئين أنْ يكونا مختلفين في خواصهما، وصفاتهما، أيْ في قيمتيهما الاستعماليتين، قبل، ومن أجل، مبادلة أحدهما بالآخر (المقايضة).
إنَّ مِلْحاً (أيْ كمية منه) نبادله بسُكَّر (أيْ بكمية منه). وفي هذه المبادلة (أو المقايضة) تكمن "مساواة"؛ وهذه "المساواة" إنَّما تعني فحسب أنَّ العمل المبذول لإنتاج هذا المِلْح يساوي، ويَعْدِل، العمل المبذول لإنتاج هذا السُّكَّر؛ فالمبادَلَة إنَّما هي مبادلة سلعة بسلعة، تختلفان في الحاجة التي تلبِّيها كلتاهما، وتتماثلان (تتساويان) في العمل المبذول لإنتاج كلتيهما.
مع نشوء واتِّساع التبادل (تبادُل السِّلع) اشتدت الحاجة إلى "النقود"؛ فظهرت "النقود السِّلعية" أوَّلاً؛ ثمَّ "النقود المعدنية (الذَّهبية والفضِّية في المقام الأوَّل)"؛ ثمَّ "النقود الورقية"؛ ولن نَفْهَم "النقود"، لجهة ماهيتها وأهميتها ووظائفها، إلاَّ إذا تأمَّلْنا ظاهرة "مبادلة سلعة بسلعة (مِلْح بسُكَّر مثلاً)".
لقد بادَلْتُ مقداراً من المِلْح بمقدارٍ من السُّكَّر؛ وهذا إنَّما يعني، أوَّلاً، أنَّني أخَذْتُ مقداراً من المِلْح (الذي لدى زيد مثلاً) بدلاً من مقدار السُّكَّر الذي أعطيته.
إنَّها مبادَلة مِلْح بسُكَّر؛ ولن تكون مبادَلة إذا ما كانت مبادَلة مِلْح بمِلْح، أو سُكَّر بسُكَّر.
ولن تكون مبادلة إلاَّ إذا كانت مبادلة مقدار من المِلْح بمقدار من السُّكَّر، وكان العمل المبذول لإنتاج أحد طرفيِّ المبادَلة (المِلْح) مساوياً للعمل المبذول لإنتاج الآخر (السُّكَّر). والمبادَلة على هذا النحو تسمَّى "مقايضة"؛ فَلْنُمْعِن النَّظر في "المقايضة".
في "المقايضة"، على ما نرى، لا انفصال أبداً، في "الزمان"، أو "المكان"، بين "البيع" و"الشراء"؛ وكلا طرفيِّ "المقايضة"، "بائع" و"شارٍ" في آن؛ وكلاهما، من ثمَّ، ليس بـ "دائنٍ"، ولا بـ "مدين".
ومع تقسيم، واتِّساع تقسيم، العمل، وتنوُّع المنتجات، اشتدت الحاجة إلى سلعة ما، لتؤدِّي وظيفة "النقد"، أو إحدى وظائفه (واسطة لتبادل السِّلَع). وقد تواضَع وتوافَق الباعة والشراة على سلعة ما (أو على بعض السِّلَع) قبل ظهور "النَّقْد الذَّهبي" لتؤدِّي وظائف "النقد"، أو وظيفتا "مقياس القيمة" و"واسطة التبادل".
وللسبب نفسه، اشتدت الحاجة إلى "المعادِل العام"؛ وكان "الذَّهب"، أو "سلعة الذَّهب"؛ فمعدن الذَّهب تَواضَع على اتِّخاذه "نقداً" كل الناس؛ كل الباعة والشُّراة؛ فهو الذي بقليلٍ منه نحصل على سِلَعٍ قيمها التبادلية كبيرة؛ وهو الذي لا يتلف، وقابل للتجزئة، ويحتاج الناس دائماً إلى اقتنائه واستعماله؛ وهو الذي، بصفة كونه "سلعة"، يظل محتفظاً بقيمته التبادلية نفسها زمناً طويلاً.
"النَّقْد الذَّهبي" هو الدرجة العلياً من "النقود السلعية"؛ ولقد غدا "مقياس قِيَم السلع جميعاً"، و"واسطة تبادلها (سلعة ـ نقد ذهبي ـ سلعة)"، و"وسيلة للإدِّخار"؛ فلا ملاذ آمناً لثروات الناس المادية، وفي أوقات الضيق والشدة على وجه الخصوص، إلاَّ المعدن الأصفر.
الآن، أصبح في مقدوري أنْ أعطي زيد المقدار الذي يحتاج إليه من السُّكَّر الذي أَمْلك، لأحْصَل منه، عوضاً عنه، على مقدار من الذَّهب (النقد الذَّهبي) الذي يَمْلك. وهذا الذَّهب يمكنني الاحتفاظ به إلى أنْ أشتري به سلعة ما، من مكان ما، في المستقبل؛ فـ "النَّقْد الذَّهبي" هو الذي أتى بالانفصال (المكاني والزماني) بين "البيع" و"الشِّراء"، وبالوسيلة الفضلى للإدِّخار.
وكان يكفي تجميع مُدَّخرات الناس (من النقود الذَّهبية) في مكان واحد (أيْ البنك) حتى يزداد ويتَّسِع "الاستثمار"؛ فـ "المُسْتَثْمِر" الذي اقْتَرَض نقوداً ذهبية من البنك يَسْتَثْمِر هذا القرض في الصناعة، مُنْتِجاً سلعةً ما؛ و"النتيجة النهائية" هي "ربح ثلاثي"، ربح للمستَثْمِر، أيْ المُقْتَرِض، وربح للوسيط، أيْ البنك، وربح للمدَّخِر؛ فلا استثمار بلا ادِّخار؛ ولا ادِّخار قبل ظهور النقود الذَّهبية.
ومع مرور الوقت، واتِّساع تبادُل السِّلع أكثر، تحوَّل "النقد الذَّهبي" من شكله السِّلعي (أيْ من شكل سلعة الذَّهب) إلى الشَّكل الورقي، فظهرت "النقود الورقية"، التي تَرْمُز فحسب إلى "النقد السِّلعي الذَّهبي"؛ فـ "الورقة النقدية" لا قيمة (مادية اقتصادية) لها في حدِّ ذاتها.
لقد كنتُ أدَّخِر نقوداً ذهبية (سلعية) في بنك، ولمَّا جئتُ لأسْحَب بعضها (من أجل شراء سلع) قال لي صاحب البنك: خُذْ هذه "الأوراق" بدلاً منها، وأقضِ بها حاجتك (أيْ اشْترِ السِّلع التي تريد) فإنَّ جمهوراً واسعاً من الباعة والتُّجار والمستثمرين.. "يَثِقُ" بالبنك، ويَقْبَل، من ثمَّ، التعامُل بهذه "الأوراق" التي تنوب عن "النقود الذَّهبية" في البيع والشراء.
وبعد نجاح هذه التجربة الجديدة، وتعميمها، أصبح بنكاً واحداً فحسب، هو البنك المركزي"، أيْ بنك الدولة، هو الذي يملك سلطة إصدار هذه "الأوراق (النقود الورقية)". وهكذا أضافت "الدولة" إلى سلطانها السياسي سلطاناً مالياً؛ فهي الآن تَطْبَع وتُصْدِر "النقود الورقية".
دَعُوني الآن أعود إلى زيد، الذي كنتُ، في المقايضة، أعطيه مقداراً من السُّكَّر (الذي أملك) فيعطيني بدلاً منه مقداراً من الملح (الذي يملك).
الآن، أعطيته مقداراً من السُّكَّر، فأعطاني بدلاً منه "مقداراً من الأروراق (عديمة القيمة المادية الاقتصادية السِّلعية)"، تسمَّى "نقوداً ورقية"؛ وإنَّ أهمية هذه "النقود الورقية" تكمن، فحسب، في كَوْن مواطني بلدي جميعاً يَثِقون بمُصْدِرها، وهو الدولة وبنكها المركزي، ويَقْبَلونها واسطة في مبادلاتهم التجارية (في البيع والشِّراء).
صلتي الجديدة بزيدٍ إنَّما هي صلة "دائنٍ"، هو أنا، بـ "مدين"، هو زيد؛ لا بَلْ هو كلُّ بائع لسلعة ما، أو لخدمة ما، في بلدي.
هي صلة دائن بمدين؛ لأنَّني أعطيته سلعة أملكها، ولم يُعْطِني بدلاً منها سلعة؛ فكل ما أعطاني إيَّاه إنَّما هو رزمة من أوراق، تشبه صَكَّ دَيْن.
لقد بعته سلعة لم أنتجها لاستهلكها؛ وإنَّما لأبيعها وأتَّجِر بها؛ وهذا البيع لم يَقْتَرِن بشراءٍ؛ فأنا حصلتُ (من طريق هذا البيع) على "أوراق" فحسب؛ لكنَّها "أوراق" تعني، وتؤكِّد، أنَّ لي الحق (المكفول قانونياً) في أنْ أشتري بها ما أشاء، ووقتما أشاء، وأينما أشاء (في داخل أسواق بلدي).
قد أحتفظ بهذه "الأوراق" في يدي، زمناً يطول، أو يقصر؛ وقد أشتري بها (لغرض الاستهلاك) سلعة ما، أو خدمة ما، من بائع ما، في بلدي؛ وقد أشتري بها، وبغيرها، "سلعاً إنتاجية (آلات ومواد..)" لأعيد إنتاج مادة، أو سلعة، السُّكَّر، التي أتَّجِر بها؛ وقد أضعها (أيْ أستثمرها) في بنك ما، فيُقْرِضها صاحب البنك (أيْ صاحب الرأسمال البنكي) لمستثمر ما، فيحصل هذا "المُقْتَرِض ـ المستثمِر"، في آخر المطاف، على مبلغ (إضافي) من المال، يأخذ جزءاً منه على شكل "ربح صناعي"، ويعطي البنك الجزء الآخر؛ أمَّا صاحب البنك فيتقاسم هذا الجزء معي بصفة كوني "المودِع"؛ فهو حصل على "ربحه البنكي"، وأنا حصلتُ على "الفائدة".
كل ورقة نقدية تملك إنَّما تعني أنَّكَ "دائن"، وأنَّ أيَّ بائع (لسلعة أو خدمة) في بلدك مدين لك؛ وتعني أنَّ لكَ حقَّاً (مكفولاً قانونياً) في أنْ تشتري بها ما تريد من السلع والخدمات؛ لكن ليس لكَ الحق في أنْ تَذْهَب إلى مُصْدِر هذه الورقة، وهو الدولة وبنكها المركزي، لتقول له: خُذْ ورقتكَ، وأعِدْ لي ما تُمثِّله (وتَرْمُز إليه) من "نقد ذهبي (سلعي)". سيُجيبكَ قائلاً: هذا ليس حقك، وهذا ليس واجبي؛ فاذهبْ إلى السوق واشترِ منها ذهباً إذا ما أردت.
كان لك حقٌّ في ذلك عندما كانت المبادلات التجارية الدولية بواسطة الذَّهب؛ فالدولة (وبنكها المركزي، وغيره) تعطيكَ ذَهَباً (بدلاً من نقودك الورقية) لتشتري به سلعاً من دولة أخرى؛ والآن، لا تعطيكَ ذهباً؛ وإنَّما "الورقة الخضراء (الدولار)"، أو غيرها من "القطع النادر (العملات الصعبة)". وأنتَ يكفي أنْ تملك دولاراً واحداً حتى تصبح دائناً، ويصبح كل بائع في العالم (والولايات المتحدة على وجه الخصوص) مديناً لكَ.
افْتَرِضْ الآن أنَّ مقدار السُّكَّر الذي تملك، ومقدار الملح الذي يملكه زيد، هما كل الاقتصاد القومي في بلدك؛ فما هي "الثروة المادية" لبلدك؟
إنَّها فحسب مقدارا السُّكَّر والمِلْح، وكل ما بقي لديكَ ولديه من عناصر (هي أيضاً سلع) لإنتاج هاتين المادتين، أو السلعتين.
ثمَّ افْتَرِضْ أنَّ زيداً لم يُعْطِكَ مقداراً من المِلْح بدلاً من مقدار السُّكَّر الذي أعطيته، وإنَّما أعطاك "ورقة" كتب فيها (أيْ الْتَزَم) أنَّه سيعطيك مقدار المِلْح بعد بضعة أيام؛ فهل تُحْسَب هذه "الورقة" جزءاً من تلك "الثروة المادية"؟
كلاَّ، لا تُحْسَب.
"الورقة النقدية" إنَّما هي "رَمْز"، و"ممثِّل"؛ فإنَّها تَرْمُز إلى وَزْن ما من سلعة الذَّهب، أو تُمثِّله (وتنوب عنه). وقيمة هذا الوزن (أيْ قيمته التبادلية، بصفة كونه سلعة) ثابتة نسبياً؛ لكنَّ قيمته التبادلية النسبية (أيْ نسبةً إلى سلعة ما، أو سلع ما) تتغيَّر، فإذا كان وزنٌ ما من الذَّهب يَعْدِل الآن (في التبادُل) مقداراً ما من السُّكَّر، فإنَّه قد يَعْدِل مستقبلاً مقداراً أكبر (أو أقل) من السُّكَّر. إنَّ القيمة التبادلية لسلعة الذَّهب (كمثل القِيَم التبادلية للسلع كافَّةً) تتغيَّر فحسب (هبوطاً) مع كل تضاؤل في مقدار العمل (الضروري) المُخْتَزَن فيها؛ وكلَّما تعاظَم "التركيب العضوي" للرأسمال المستثمَر في صناعة الذَّهَب (وتعاظَمَت "الإنتاجية" من ثمَّ) تضاءل مقدار العمل (الضروري) المُخْتَزَن في سلعة الذَّهب (وتضاءلت، من ثمَّ، قيمتها التبادلية). لكنَّ هذا التضاؤل (في القيمة التبادلية لسلعة الذَّهب) لا يُتَرْجَم فوراً (أو بعد وقت قصير) برُخْص السِّعْر (أيْ بسعرٍ جديد أقل، يوافِق التضاؤل في القيمة التبادلية). وهذا "المانِع" يعود إلى فِعْل قانون اقتصادي (موضوعي) آخر، هو قانون "رؤوس الأموال المتساوية تعطي أرباحاً متساوية، بصرف النَّظر عن التركيب العضوي للرأسمال".
قُلْنا إنَّ أهمية "الورقة النقدية" تكمن في كونها تَضْمَن لصاحبها (أو حاملها) الحق في أنْ يحصل بواسطتها على سلعة، أو سلع؛ فلْتَسْأَلْ دائما: كَمْ من الذَّهَب الخالص أشتري بهذه "الورقة النقدية"؟ وكَمْ من سلعة ما (أو سلع ما) أشتري بها؟ إنَّ الإجابة تفيدني في معرفة "القيمة (أو القوَّة) الشرائية" لهذه "الورقة".
هذه "القيمة (أو القوَّة) الشرائية"، والتي هي نفسها "قيمة العملة (مقدَّرة بالسِّلَع)"، تتغيَّر، صعوداً، أو هبوطاً، مع كل تزايد، أو تناقص، في المعروض من السلعة في السوق، ومع كل تناقص، أو تزايد، في الطَّلب على هذه السلعة.
كل "ورقة نقدية" أمْلك إنَّما هي دَيْنٌ، أنا فيه "الدائن"، وكل بائع في بلدي هو "المدين"؛ وكأنَّ هذه "الورقة (التي أمْلُك)" تُخْبرني أنَّني قد تخلَّيْتُ لغيري (مِنْ قَبْل) عن سلع كنتُ أمْلكها، ولم أحصل حتى الآن على ما يَعْدلها قيمةً من سِلَع أخرى.
وهذا الأمر قد يلتبس ويشكل إذا ما جاء أخي (مثلاً) وأخذ (أيْ أعطيته) بعضاً ممَّا أمْلك من "الأوراق النقدية". وهذا يشبه أنْ تَحْصَل مِنِّي "الدولة" على "ضريبة الدَّخل".
وإنَّني سأظلُّ "دائناً" ما ظَلَلْتُ محتفظاً بـ "الأوراق النقدية"؛ ولن تزول صفة "الدائن" عنِّي إلاَّ عندما أشتري سلعاً بهذه "الأوراق".
ظهور "الأوراق النقدية" أسَّس لاقتصاد موازٍ للاقتصاد الحقيقي (الذي تُنْتَج فيه السلع، والثروة الحقيقية للأمم). وهذا الاقتصاد الموازي، الذي لا يُضيف سنتاً واحداً للثروة الحقيقية للمجتمع، ولا يُفْقِدها سنتاً واحداً، يشبه أكثر ما يشبه، بأرباح الرابحين وبخسائر الخاسرين، في "لعبة القمار".
وكان "سعر صرف" العملة هو الشكل الأوَّل لـ "اللعبة المالية"؛ فقيمة العملة النسبية (نسبةً إلى الدولار مثلاً) تَعْظُم بتضاؤل الطَّلب على الدولار في السوق القومية، وتتضاءل بتعاظمه.
ثمَّ اسْتُحْدِثت لـ "اللعبة" أوراق أخرى كالسهم (والسند). وقد انفصل حَمَلَة الأسهم عن الاقتصاد الحقيقي بنشاطهم، وأسَّسوا لهم، ولنشاطهم هذا، أسواقاً خاصَّة بهم، وبه، يبيعون فيها، ويشترون، الأسهم، التي يتحكَّم قانون "العرض والطَّلب" في أسعارها. وفي هذا النوع من الاستثمار تتعادَل أرباح الرابحين وخسائر الخاسرين، فتتصَفَّر النتيجة الاستثمارية النهائية.
إنَّهم كلاعِبَيْن اثنين من "الدائنين"، يلعبان بصكوك الدَّيْن، وهي الأسهم، فلا يربح أحدهما إلاَّ ليخسر الآخر، في الوقت نفسه؛ ورِبْح أحدهما يَعْدِل خسارة الآخر؛ أمَّا الاثنان معاً فلا يربحان، ولا يخسران.
ولتبيان وتوضيح الفَرْق النوعي بين الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي والاستثمار في سوق الأوراق المالية، أو البورصات، أقول: افْتَرِضْ أنَّك تملك مليون دولار، فاستثمرتَ هذا المبلغ المالي في الصناعة، أو في سوق الأوراق الأوراق المالية (في تجارة الأسهم مثلاً).
لقد عاد عليكَ هذا الاستثمار، أو ذاك، في آخر المطاف، بمبلغ مالي آخر، 200 ألف دولار مثلاً، على شكل ربح.
إذا استثمرتَ في الصناعة، فإنَّ هذا المبلغ المالي الإضافي هو إضافة إلى الثروة الحقيقية للمجتمع؛ أمَّا إذا استثمرتَ في تجارة الأسهم، فإنَّه لا يضيف سِنْتاً واحداً إلى هذه الثروة؛ فربحكَ يَعْدِل خسارة تكبدَّها، في الوقت نفسه، مستثمر آخر في سوق الأسهم.
ثروة المجتمع (المادية، والحقيقية) إنَّما تأتي، وتنمو، فحسب، من طريق إنتاج (صناعة) أشياء، يستهلكها، أو يمكن أنْ يستهلكها، الفرد، أو الجماعة، تلبيةً لحاجة ما، كالحاجة إلى حذاء، أو إلى حافلة؛ أو لإنتاج شيء آخر، كالآلة، يُسْتَعْمَل (أو يُسْتَهْلَك إنتاجياً) في إنتاج الحذاء أو الحافلة..
وهذا "الشيء (الذي في استهلاك الفرد، أو الجماعة، له تُلبَّى حاجة، فردية، أو جماعية، ما)" لا يمكن أنْ يكون في الرأسمالية إلاَّ على هيئة "سلعة"، هي كالوعاء الذي فيه يُخْتَزَن مقدار من العمل الضروري؛ وهي، أيْ "السلعة"، من ثمَّ، جزء من ثروة المجتمع (المادية، الحقيقية).
إذا جِئْتَ بـ "مادة ما"، وشرعتَ تبذل جهداً لتغييرها على نحو ما، مستعيناً بأداة ما، وأنْتَجْتَ، من ثمَّ، شيئاً يلبِّي حاجة ما، فإنَّكَ، عندئذٍ، تكون قد أَضَفْتَ نَزْراً إلى الثروة الحقيقية للمجتمع.
وفي هذا الشيء الذي أَنْتَجْت اخْتُزِنَت مقداراً من العمل (الضروري). وهذا المقدار لا يُقاس إلاَّ بـ "الزَّمن".
افْتَرِضْ أنَّ هذ المقدار يساوي عشر ساعات عمل، فإنَّ أربع ساعات منها كانت مُخْتَزَنَة (مِنْ قَبْل) في "المادة" التي شَرَعْتَ تُغيِّرها، وساعتان نُقِلتا إلى هذه "المادة" من "الأداة" التي اسْتَعْمَلْت؛ فـ "الأداة" تُسْتَهْلَك بهذا المعنى؛ أمَّا أنتَ فأَضَفْتَ إلى "المادة"، التي تُنْفِق في تغييرها جهداً، أربع ساعات.
ساعتان من الساعات الأربع الأخيرة (التي أدْخَلْتَها أنتَ في "المادة") تَكْفِيان لتعويضكَ ما خَسِرْتَ من جهد وطاقة؛ فلو تَرْجَمْنا قيمتهما بنقود، فإنَّهما تساويان (مثلاً) دولاريْن، بهما تشتري من الطعام ما يكفي لتعويضكَ خسارتكَ من الجهد والطاقة. والساعتان "الفائضتان" هما "ثروة إضافية"؛ فإنَّ فيهما يكمن معنى "نمو الثروة".
أنتَ ببيعكَ هذا الذي أنْتَجْت تحصل، أيضاً، على ما يَعْدِل قيمة الساعتين "الفائضتين"؛ أمَّا لو كان غيرك هو الذي يملك "المادة" و"الأداة"، فلن تحصل إلاَّ على قيمة تَعْدِل ساعتين اثنتين من ساعات العمل الأربع التي أضفتها، ليحصل هو (بصفة كونه ملك "المادة" و"الأداة") على قيمة تَعْدِل الساعتين المتبقِّيَتَيْن؛ وهذه قِسْمَة عادلة، بحسب شريعة الرأسمالية؛ لأنَّ "السلعة" الوحيدة التي تملك (بصفة كونكَ عاملاً) وهي "قوَّة عملك"، لا تساوي قيمتها (التبادلية) إلاَّ ما يَعْدِل ساعتين اثنتين من العمل؛ فلو كانت قيمة الساعتين، مُعَبَّراً عنها بالنقود، تساوي دولارَيْن، فإنَّكَ تستطيع بهذا المبلغ المالي شراء طعام يكفي لإعادة إنتاج "سلعتكَ"، أيْ "قوَّة عملك".
لكنَّ "العمل الحيِّ" درجات؛ فإنَّ الساعة الواحدة من "العمل الحيِّ" الذي يمثِّل الدرجة العليا (كعمل ذوي الاختصاص الرَّفيع) تَعْدِل (وكأنَّها "ساعة مُركَّبة") خمس ساعات (مثلاً) من "عملٍ حيٍّ" يمثِّل الدرجة السفلى (كعمل صانع الأحذية مثلاً).
إنَّ الثروة الحقيقية للمجتمع تنمو من طريق "العمل الحيِّ" فحسب؛ فإنَّ كل عملٍ حيٍّ، لا يمكن الاستغناء عنه إذا ما أردنا إنتاج شيء يلبِّي حاجة، هو عمل خالِق (ومُنَمٍّ) لثروة المجتمع الحقيقية. أمَّا "العمل الحي" الذي لا يَدْخُل في إنتاج هذا الشيء (أو السلعة) فيَنال صاحبه أجْراً (على خدمة ما) من غير أنْ يُضيف سِنْتاً واحداً لهذه الثروة، كعمل المعلِّم أو الجندي أو الطبيب أو الصحافي أو التاجر..
من طريق الاتِّجار بالسلع (أيْ من طريق بيعها وشرائها) يَحْصَل مالك السلعة (ومن حيث المبدأ) على نقود تُمثِّل قيمتها، وتَرْمُز إليها؛ ومن هذه الطريق "تتحقَّق" قِيَم السلع.
أمَّا من طريق الاتِّجار بـ "الرموز"، أيْ النقود الورقية، وسائر أنواع الأوراق المالية، فلا نضيف شيئاً إلى ثروة المجتمع الحقيقية، ولا ننتقص منها شيئاً؛ مع أنَّ هذا النوع من النشاط الاستثماري يشتمل على أرباح وخسائر، وعلى رابحين وخاسرين.
احْسِبْ كل ما تملكه من أشياء قابلة للبيع (منزل، سيَّارة، أثاث، أجهزة، معدَّات، مؤونة). واحْسِبْ كل ما تملكه من "رموز (نقود ورقية، أسهم، سندات)"؛ لكن بقيمها الذهبية السلعية. بهذه الحسبة، وتلك، تَقِف على حجم ثروتك الحقيقية (التي لا تشتمل على أيِّ دَيْنٍ عليكَ ينتقص منها). وفي الطريقة نفسها، ينبغي للمجتمع أنْ يَحْسِب ثروته الحقيقية.
وفي هذا السياق، دعونا نتحدث، ولو في إيجاز، عمَّا يسمَّى "الهاوية المالية" التي تَقِف الولايات المتحدة على حافتها؛ فالقوَّة العظمى في العالم هي المدين الأكبر في العالَم، وفي التاريخ.
إنَّ حكومتها تُنْفِق، وينبغي لها أنْ تُنْفِق، من المال ما يفوق كثيراً إيراداتها من الضرائب، ومن مصادِر أخرى؛ فمن أين تأتي بمالٍ إضافي يَسُدُّ هذا العجز؟
أَمِنْ طريق الاقتراض وهي المدينة بما يمنع المُقْرضين من إقراضها؟!
أمْ من طريق خفض الإنفاق وهي التي إنْ سارت في هذه الطريق أصابت من اقتصادها مقتلاً؟!
أمْ من طريق "الطباعة (أيْ طباعة مزيد من "الورقة الخضراء")"، وإشعال ناز التضحم من ثمَّ لأنَّ لا إنتاج يكفي لموزانة الكتلة النقدية الجديدة (المطبوعة)؟!



#جواد_البشيتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في الجغرافيا السياسية للصراع السوري
- لقد -تكلَّم- أوباما.. فهل رأيتموه؟!
- الأهمية الديمقراطية لتجربة -النَّشْر الإلكتروني-
- السَّرِقَة
- أوباما إذْ جاء سائحاً!
- بشَّار مجاهِداً!
- نظرية -فائض القيمة- تُجيبكم الآن..!
- دَحْضَاً لحُجَج مُنْكري فَضْل ماركس!
- لهذه الأسباب ما زال ماركس حيَّاً وعلى صواب!
- أربع سنوات ونَلِد -حكومة برلمانية-!
- متى تتفتَّح -زهرة الآخر- في -الربيع العربي-؟!
- شيءٌ من -الديمقراطية التوافقية- يُنْقِذ ثورة مصر!
- المرأة العربية ما زالت للعبيد عَبْدة!
- القصة الحقيقية ل -العجز في الموازنة-!
- مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في ضوء مأساة مخيَّم اليرموك!
- فضائيات لبثِّ السُّموم الطائفية!
- -جبهة الإنقاذ- ولعبة -المُنْقِذ البونابرتي-!
- ما ينبغي للمعلِّم أنْ يَعْلَمه!
- -إخوان الدولة- و-دولة الإخوان-!
- هذا الاحتلال الإسرائيلي للرواتب الفلسطينية!


المزيد.....




- اشتريه وأنت مغمض وعلى ضمنتي!!.. مواصفات ومميزات هاتفRealme ...
- صعود أسعار النفط بعد بيانات مخزونات الخام الأمريكية
- وظائف جانبية لكسب المال من المنزل في عام 2024
- بلينكن يحث الصين على توفير فرص متكافئة للشركات الأميركية
- أرباح بنك الإمارات دبي الوطني ترتفع 12% في الربع الأول
- ألمانيا ترفع توقعاتها للنمو بشكل طفيف في 2024
- مشروع قطري-جزائري لإنتاج الحليب في الجزائر بـ3.5 مليار دولار ...
- -تيك توك- تتعهد بالطعن على قانون أميركي يهدد بحظرها
- النفط مستقر وسط مخاوف الطلب الأميركي وصراع الشرق الأوسط
- جني الأرباح يهبط بأسعار الذهب للجلسة الرابعة على التوالي


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - جواد البشيتي - حقيقة -النقود-