أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - خرائب الوعي .. 17 - شيزوفرينيا














المزيد.....

خرائب الوعي .. 17 - شيزوفرينيا


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 4038 - 2013 / 3 / 21 - 13:22
المحور: الادب والفن
    


كان واقفا في وسط الغرفة الصغيرة، بعد أن أقفل الباب وراءه كما تعود أن يفعل كل مرة يعود إلى حجرته في الطابق الثاني. يلف المكان بنظراته وكأنه ينتظر أن يكتشف شيئا جديدا، غير أن كل شيء باق في مكانه كما هو ، الكرسي والطاولة والسرير والنافذة والجدران والكتب على الأرض وكأس القهوة، باقية كما هي عند خروجه في الصباح. الزمن نسي أن يمر من هنا هذا اليوم، قال ذلك في نفسه وهو يخلع معطفه ويعلقه في مسمار على الجدار، ثم كالعادة يستلقي على السرير ويغمض عينيه. اللوح الزجاجي المغطى ببقع الذباب السوداء، وبطبقة صفراء شفافة من الدخان اللزج تفصله عن ضجة الشارع وأصوات الآخرين، وتفصله عن نفسه وعن إحساسه بجسده. "أنا" في الجانب الآخر، تحاوره دون أن يسمع ما تقوله الكلمات المبهمة. هذا اللوح الزجاجي الداكن هذا الحاجز الهش يفصلني ويبعدني عني وعنكم وعن كل الآخرين. يبدون من بعيد كالأشباح التائهة تتحرك في جميع الاتجاهات، يمسكون عشرات الأشياء الغريبة في أيديهم، وفوق رؤوسهم، وفي أفواههم، وفوق جباههم ترتسم رموز وإشارات العبودية. يتحركون بسرعة وببطء، يتوقفون، ينحنون وينبطحون على الأرض، يتمرغون في التراب والوحل، ثم ينهضون، ويواصلون رحلتهم اليومية. حركة مستمرة بلا هدف، لا أسمعهم، ولا أراهم، فقط أميز ظلالهم خلف اللوح الزجاجي الداكن. طعم البيرة، أو القهوة، لا أتذكر جيدا هذه التفاصيل، يحملني بعيدا عنهم، يحملني إلى جغرافية أخرى، وتاريخ آخر، مررت بهما ذات يوم، وسأعودإليهما حتما بعد غد، أو بعد اسبوع. سأركب البحر، سأجوب العالم في صندوق خشبي صغير، سأقايض هذه الأراضي السوداء التي سئمت مني وسئمت منها، ببحار غريبة، الأسود والأبيض والأحمر والأصفر، وعشرات البحار الأخرى التي لا لون ولا أسماء لها. سأغرق في مثلث برمودا ومربع ماليفيتش، وقد اجد ذلك اللون الذي لا أسم له ذا العينين المشتعلتين، والتي تغوي كل من يمر بتلك البقعة من السماء، وتقوده إلى أعماق البحر، حيث ينتهي وسط قبر في إحدى ساحات الجنة، محاطا بحدائق لم تطأها سوى أقدام الضائعين. زجاجة أخرى على الطاولة الخضراء، وسألتقي بسندباد، يقول ذلك وهو يضحك ويملأ الكأسين .. لا .. لا .. أنا لست سندباد، ولم أحب في حياتي ألف ليلة وليلة، لا .. ذلك الجو العابق بالبخور والجلابيب والعمائم، إن ذلك يثير خيال بعض المثقفين، أما أنا فلست مثقفا، وأكره المثقفين أكثر حتى من الجنرالات والعسكر ورجال السياسة. لا .. أنا لست سندباد، ولست أوليس، ولست ديدالوس. أنا مجرد كرنافة ملقاة على قارعة الطريق، وفي وسط الكرنافة شريط، لا يتوقف، كلمات تلهث الواحدة تلو الأخرى، دون أي منطق صوري أو لوني أو سمعي، مجرد صوت القلم على الورقة، أو صوت اللون السائل يسقط على القماش الأبيض المتوتر، قطرات وخطوط وظلال وأصوات. مجرد كلمات، كل الكلمات، كل الكلمات، الكلمات التي ابتلعتها حينما كنت طفلا، هذا إذا كنت طفلا في يوم ما، أو حينما كنت سجينا، هذا إذا ما كنت سجينا في يوم من الأيام. الكلمات التي هربت وأظل ألاحقها من شارع لشارع ومن مدينة لمدينة ومن زمن لآخر. الكلمات التي ذابت في لون عيون الليل وتبخرت دخانا يتصاعد من بين أصابعه ومن بين الأوراق. لست سندباد، ولست جلجامش، ولست أوليس او ديدالوس، لست شيئا من هذا النوع، "أنا" فقط شيء يتكون. وحيدا في وجه الرياح، أسس قضيته على اللاشيء. اللاشيئ الذي لا يحتمل التفصيل ولا يحتمل التفاصيل، اللاشيء المطلق. الأموركلها سواء، وكل البشر والبلدان والتواريخ تتركز في نقطة وحيدة معتمة في نهاية الجملة أو بين كلمتين. غير انه في لحظات معينة - الآن مثلا مستلقيا على السرير محدقا في السقف، ذلك أنه فتح عينيه منذ دقيقتين - يحس بتلك الرغبة الانسانية البدائية في معرفة هدوء البيوت الدافئة، والحصول على مكان ثابت فوق سطح الأرض ندس فيه رؤوسنا، مكان دافئ، وعنوان نستقبل فيه رسائل الناس الذين نسينا وجوههم المتعبة واسماءهم، وآلامهم وأحلامهم. تمنيت ذلك في يوم من الأيام، غير انني لم اكتب أبدا أية رسالة ولا أتذكر إن كنت تعلمت الكتابة ذات يوم.



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خرائب الوعي .. 16 - الريح والكلمات
- خرائب الوعي .. 15 - إستراحة
- بيان من أنصار البدعة
- تداعيات 3- شيطان المحبرة
- تداعيات 2- الغثيان
- تداعيات 1- الرجوع
- خرائب الوعي .. 14 - إفتح يا سمسم
- خرائب الوعي .. 13 - الرأس المقطوعة
- خرائب العقل .. 12 - تحرش بعد الغروب
- خرائب الوعي .. 11 - الشاعر والعطش
- خرائب الوعي .. 10 - المرأة التي أكلها النمل
- خرائب الوعي .. 9 - لا يحب الله والله لا يحبه
- خرائب الوعي .. 8 - الطابق الثاني
- خرائب الوعي .. 7 - قوارب الهجرة إلى الجحيم
- خرائب الوعي .. 6 - الصندوق
- خرائب العقل .. 5- الحاشية
- خرائب الوعي .. 4 - مقبرة الضباع
- خرائب الوعي .. 3 - العمياء وقصر الغول
- خرائب العقل .. 2- وطني حقيبة وأنا مسافر
- خرائب الوعي 1- البداية


المزيد.....




- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - خرائب الوعي .. 17 - شيزوفرينيا