أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال الدين أحمد عزام - فراسة














المزيد.....

فراسة


جمال الدين أحمد عزام

الحوار المتمدن-العدد: 4038 - 2013 / 3 / 21 - 13:22
المحور: الادب والفن
    


فراسة

الملامح و القسمات، التضاريس و التجاعيد، عضلات الوجه، انبساطها و انقباضها، حركات الشفتين، انفراجهما و انضمامهما، رفة العين، ارتعاش الجفنين، اتساع الحدقتين، الزيغ، الحركة السريعة، التحديق و الرنو و الشرود، كل الأسرار و كل الكلام محبوس في الكرتين. الحاجبين فوقهما يرسمان بتقوساتهما المختلفة التكشيرة، البشاشة، الدهشة، الراحة. إنه الوجه بكل سماته، يتفاعل بعضلاته و تلون جلده و نحته ثناياه مع الخبايا المدفونة في الأعماق، يعلنها واضحة ظاهرة مهما تلبسته الأقنعة و هاضته السنين و تجعد و تغضن. و لكن من يتفرس و يفك الطلسم و يحل الشفرة.
لم أدرك تلك القدرة الخاصة الكامنة في إلا صدفة عندما رأيت جدي، الذي لم يكن يشكو من أي مرض، رأيته قبل يوم من وفاته، فتبينت في وجه إطلالة الموت. سمعت صراخ أمي في اليوم التالي فلقد مات جدي. لم ألق بالا فقد تكون صدفة، و لكنها تكررت مع خالي، رأيت المرض في وجهه. علم بعد يومين أنه مصاب بالسرطان و أخبرنا بذلك. أفزعتني تلك القدرة، جربتها مع زملائي في المدرسة، كانت قراءة الوجوه سهلة، أعرف أحيانا ما حل بهم و يكتمونه و أحيانا تنبئ الوجوه بما سيحدث و لكني ألتزم الصمت و لا أخبر أحدا بشيء.
أصبحت قليل الكلام فكل ما يشغلني تأمل الوجوه. بعض الوجوه مكشوفة تماما مفتوحة على العمق، و بعضها يحاول الإخفاء، و بعضها يتقن التنكر و الادعاء، و تلك الأخيرة هي التي أكتشفها بسرعة بعد نظرة واحدة. ما يتعبني هي تلك الوجوه التي تحاول، فالملامح تكون مضطربة تحت وطأة المحاولة، فتنتشر الاضطرابات على الوجه كتموج لسطح الماء الرائق فوق العمق فتكون الصورة مشوشة مما يستدعي التفرس لوقت أطول.
كانت إطلالة واحدة على وجه أختي تخبرني بما في داخلها، حتى رأيت يوما وجها غير الوجه. ليتني لم أعرف، ليتني أكون مخطئا. كنت الوحيد الذي يعرف لماذا ترفض الزواج رغم اقترابها من الأربعين. كنت في البداية غاضبا منها، ثم بدأت أشعر بألمها، ثم بدأت أواسيها دون أن تعرف أني أعرف. و لكني سأعرفه بمجرد رؤيته ذلك الذي أطفأ البراءة في وجهها.
قلت الوجوه الكاشفة و تنحت جانبا، لم يتبقى إلا وجوه مدعية و أخرى تحاول الادعاء. تمنيت لو تخلصت من تلك النقمة بعدما اكتويت بنار الكذب. الكل تقريبا يكذب على الكل حتى أنا. أتفرس وجهي كل صباح فأعرف مدى كذبي الذي سأكذبه اليوم، فأبدأ بتشكيله و تزيينه تلقائيا كما يفعل الجميع خوفا من ظهور الحقيقة التي أخجل منها لشدة سوءها، متمنيا ألا أقع فريسة أحد عباقرة التفرس، و إن كنت ساعتها سأواجهه بما يخفيه هو الآخر.
أصبحت التصرفات و الأقوال مجرد حركات و أصوات لا معنى لها بالنسبة لي، ففي عالمي أرى و أسمع الحقيقة. المشكلة ليست في إخفاء الحقيقة إنما في مدى بشاعتها و شدة مناقضتها لما ينبغي أن نكون عليه، أو ما نظن أنه ينبغي أن نكون عليه، أصبحت حركتنا في الحياة متأرجحة متباطئة كحركة خائف يمشي على سلك رفيع بين جبلين. ليتني أخدع أو أضلل فأرتاح، و لكن لا فائدة، فنظرة على الوجه لا تمر عليها ثانية تفضحه فورا، فقد نمت قدرتي معضدَة بتصديق الواقع لما حدث و ما سيحدث.
تأكد لي مع مرور السنين أن القصة ليست أننا و كما يبدو على السطح منافقون متجملون و حسب، بل هناك شيء كامن، شيء خبيث يبنينا من الداخل بتسلسل دون أن ندري، فيجعلنا نبدي ما تعارفنا عليه مما توارثناه من معتقدات أصيلة فينا مهما كانت حسنة أو سيئة، و نخفي تلك الاختراقات السرية التي تخالف هذا الإرث تمام المخالفة. نبدي الروحانية و الترفع عن المادة و نستبطن العكس من وله شديد بكل ما هو مادي، بالقصور و السيارات و الهواتف و الذهب و الجوهر. نرتدي عباءة الدين فوق أطنان من الجاهلية الجديدة البراقة المتمثلة في تقنية جبارة و سلع فانية. تخبرني الوجوه بالسوق الذي يسكننا، سوق تجاري ضخم لا يساوي أحد فيه شيئا إلا قيمة ما يملك من مادة الكون. لقد فجَرَت الوجوه كذبا و ادعاء بالتعفف و الاستغناء و الزهد و الورع، بينما المتعة الحسية و اللذة هي المحرك الحقيقي وراء الوجه الوجل السخيف. لقد أصبح الأمر مضحكا و مبكيا في الوقت نفسه، فالعينان تسح منهما الحقائق سحا، بينما اللسان يتحرك بكلام آخر.
لا بد في مجتمع كاذب من الفراسة حتى تستطيع التعامل مع الآخرين فلو صدقتهم ضاع وقتك. فعندما يخبرك أحدهم بأمر ما إنما هو في الغالب يريد أمرا آخر يكاد يكون عكسه، فتسير وراء الكاذب حتى تضل و لا تصل أبدا لباب الدار. لذا اعتزلت الناس فلم أعد قادرا على التعامل مع تلك الثنائية الغريبة. فلا خجلنا يمتنع فنتعامل بما هو فينا بصدق رغم فجاجته و نتوقف عن لعبة المهرج الذي يضحك وجهه دائما مهما حل به، و لا ما ندعيه ينتصر و يصبح هو حقيقتنا. هناك قوى شريرة خفية ممنهجة تصنع فينا هذا التناقض عمدا و تحيلنا إلى بهلوانات في سيرك الحياة، و لكنها بهلوانات تُبكي و لا تُضحك.
اعتزلت و تقوقعت على نفسي، لا أريد أن أرى الوجوه البلاستيكية المنحوتة بالأكاذيب. سأظل في غرفتي المعزولة عن وجوهكم بعيدا عن اللعبة الجهنمية. لم يعد الأمر مهما فقد اختفت الوجوه الصادقة تماما و لم تعد لرؤية الوجوه أي معنى، ففي النهاية، المخفي هو لذة أو متعة أو شبق أو مال أو جاه أو سلطة أو حقد أو حسد أو كراهية. كل جميل و نقي و راق ضاع و قوض مع لعبة الوجوه. كلا لن ألعب معكم، لن ألعب حتى مع نفسي.
و لكني بحكم العادة نظرت في مرآتي هذا الصباح و تفرست ملامحي فانتابني فزع هائل مما رأيت؛ فقد ضيعت عمري متفرسا؛ لم أحرك ساكنا و ها هو الموت مني اقترب.
تمت



#جمال_الدين_أحمد_عزام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إيناس
- ماتروشكا
- سعاد
- مكان شاغر
- أزمة مرور
- بيت الشمس
- رسائل من العالم الآخر
- خواء العودة
- يقظة ذكرى
- العقاب
- كان لي صديق
- رائحة الليل
- المأوى
- تي
- الجلاد
- فستان الزفاف
- العصفور الأحمر
- ثورة يناير و نظرية الفوضى 1
- ثورة يناير و نظرية الفوضى 2
- وفاء


المزيد.....




- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال الدين أحمد عزام - فراسة