أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - محمود عبد الوهاب .. سعادة الصداقة ومرارتها..















المزيد.....


محمود عبد الوهاب .. سعادة الصداقة ومرارتها..


جاسم المطير

الحوار المتمدن-العدد: 4027 - 2013 / 3 / 10 - 01:16
المحور: الادب والفن
    



العديد من أصدقائي الذين يعرفون الكثير عن علاقتي مع الكاتب الراحل محمود عبد الوهاب سألوني عن سبب إحجامي عن الكتابة عن بعض ذكرياتي، وعن سبب إحجامي عما اعرفه عن حياته الخصوصية والثقافية وعن أفضلياته الإبداعية وعن كل ضرورة أدبية تتعلق به وبنشاطه العمومي، بما في ذلك بعض جوانب نشاطه السياسي، وعن جميع ما تعرض له من ظلم أدبي – نقدي في كل العهود ،التي مر بها ، خاصة وأن علاقتي به تمتد منذ أوائل خمسينات القرن الماضي حتى قبل وفاته بأيام قليلة .
لا بد من تذكير الأصدقاء جميعا أن الموت تحرّك، خلال العامين الماضيين، ليختطف تباعاً مجموعة من أعز أصدقائي الذين تمتعت معهم في منتزهات النضال السياسي والأدبي . كان لهم جميعا تأثير كبير في تعليمي وفي صقل عاداتي وأخلاقي الشعبية وفي إلهامي الأدبي فقد رحلت بالتتابع مجموعة من أسماء تحتل مكانة سامية بين أضلاعي. رحل حميد الناصر في لندن وسليم إسماعيل في برلين وسلطان ملا علي في البصرة وأخيرا أغلقتُ جهاز الكومبيوتر في بيتي ذات ليلة في العام الماضي على خبر رحيل محمود عبد الوهاب. كل هذا الرحيل شكل ضغطاً هادئاً عليّ ، لكنه ضغط قويّ لم يزودني بتمديد كتاباتي إلى أي واحد منهم، مما جعل البعض من الأصدقاء يسألون عن سبب عدم مساهمتي بتحريك ماء الذكريات لتغذية بحيرة هؤلاء الراحلين الذين لم يكفوا أو يتوقفوا يوما واحدا من أيام حياتهم عن العطاء السخي لمدينة البصرة لكنهم ما نالوا سخاء أقلام أصحابهم عنهم.
اليوم وجدتُ تعويضاً ضرورياً بالكتابة عن آخر أصدقائي الراحلين محمود عبد الوهاب، الذي كان يحب الحياة حباً من نوع خاص وكان يقتحمها اقتحاماً هادئاً. كان من أظرف ظرفاء أدباء البصرة المعاصرين وأكثرهم حيوية ومرحاً .. يبدو أنه من اسعد الناس في بعض لقاءاته مع أصدقائه رغم الحزن البادي على سيماء وجهه في بعض لقاءات أخرى . أجد نفسي ، اليوم، متجهاً نحو مطالعة بعض صفحات الذكريات مع هذا الأديب لتسجيل بعض المقتطفات منها مضيئا ما هو غير معروف عنه .
كانت لي معه ذكريات رائعة : علاقات مقاهي ،علاقات حانات بيرة وخمر ، علاقات أدبية، علاقات خلايا حزبية وأحاديث سياسية ، علاقات سفر مشترك، علاقات طويلة من أصناف متنوعة في مختلف ظروف التقلبات السياسية التي مرت بالعراق والعالم العربي المتأرجحة بين أفكار اليمين واليسار ومفاهيم الاشتراكية والرأسمالية، الديمقراطية والثورية، رغم أن خياره المفضل ظل مقتصرا على الأدب ، خاصة القصة والرواية ، حيث كانت كتبها باللغة الانكليزية تحت وسادته أينما نام في بيته أو في بيتي – بعض الأحيان – أو في غرف الفنادق التي كنا نرتادها في بغداد أيضا. كان كثير الجدل والنقاش حول (الأدب) أكثر بكثير من جدله ونقاشه حول السياسة .له تأثير كبير عليّ في هذا الجانب. حتى أن نقاشه في" الخلية الحزبية" كان هامشياً وثانوياً، تماماً مثلما كانت أحاديثه عن الحب والعاطفة قليلة بصورة عامة. أحاديثه جميعها من أصناف ثقافية جيدة تحتاج مني إلى إحماء عقلي ومخزوني من الذاكرة لكي لا تكون معادلة مقالتي هذه مضطربة. كانت أحاديثه عن الامبولات والأدوية والطب أكثر الأحاديث حباً إلى نفسه بعد أحاديثه عن النكات الواقعية، التي يجيد دائماً تقديمها في الجلسات التي غالبا ما يكون فيها المتحدث الأول. كانت روحه سريعة التيه في أي حديث عن مرض ما ، يكتظ بــ(الوهواس) حال سماعه عن مرض أو موت احد معارفه . لذلك اعتاد على تخصيب الأجواء في كل جلساته بالفكاهة والنكتة. كان استخدامه للنكات ذكياً وحكيماً فوراء كل نكتة يلقيها تـُضحك أصدقائه معنى انتقادياً لحالة من الحالات الاجتماعية أو السياسية أو غيرها. كان يقرّب شقة الخلاف إذا ما حدثت بين اثنين أو أكثر من الأصدقاء برواية نكتة تراثية أو نكتة واقعية فيضحك الحاضرون ليبزغ الصلح بين المتخاصمين . كل نكتة يرويها هي (قصة قصيرة جدا) ينحل فيها وبها كل جدل صاخب متشدد أو متشكك بين الأصدقاء. يستخدم أسماءً مستعارة حين يصب في آذان مستمعيه نكاته المتدفقة، حتى أنني كثيرا ما اقترحت عليه أن يكتب ما يرويه من أحاديث ساخرة وأقاصيص من هذا النوع الزاخر بالمرارة أحيانا وبالحكمة أحيانا أخرى. لكنه كان يجيبني أن غرضه من رواية الأحاديث الساخرة هو ردم آلامنا في مقبرة الضحك والفرفشة ليس غير . لا يتورع عن الحديث عن ابن خلدون وعن بعض أقواله ونظرياته حالما ينهي إلقاء نكتة. في تلك الفترة لم أكن قد قرأتُ عن ابن خلدون شيئاً عميقا أو واسعاً، بل لم أتعرف على أي كتاب من كتبه لكن أي فكرة من أفكار (الدعاية الخلدونية) لمحمود عبد الوهاب لم تنغرس في أعماق أي واحد منا لأن أفكار لينين وستالين وماو تسي تونج كانت موضع اهتمامنا الأول حتى وجد أن الأفضل له أن يكف عن تقديم عينات خلدونية في أحاديثه منصرفاً إلى التركيز على طاقته في الاستفادة من تقديم أمثلته عن الأدباء والمثقفين الفرنسيين والانكليز. كثيرا ما اختلفتُ معه حول كتابات عباس محمود العقاد المعادية للشيوعية في وقت كان فيه محمود عبد الوهاب من اشد المعجبين بأدب العقاد ومقالاته النقدية التي يسميها (المقالات العالية) لكنه يقظ جدا من مقالاته السياسية التي كان يسميها ( المقالات الخاوية ).
عند النظر إلى عينيه حين يتحدث أو عند سلوكياته اليومية لا نجد عنده أي شيء غريب ، لكن الغرابة في اهتماماته وفي حركاته وقراراته نجد أشياء كثيرة غريبة الأطوار لا يستطيع مقاومتها . في مرة من المرات قررنا أن نسافر معا إلى بغداد لقضاء أسبوع ترفيهي فيها رغم أن كل منا كان له ما ينجزه في هذه السفرة. كنت شخصيا موفداً بمهمة حزبية معينة. انطلقنا بسيارتي في السادسة صباحا وقد تناولنا فطورنا في مطعم صغير يقدم التكة والكباب على نهر الكحلاء وحين انتهينا انقلب علي بإصرار متخذا قراره بالعودة إلى البصرة طالبا مني مواصلة السفر وحدي إلى بغداد. حاولتُ كثيرا الضغط عليه للتراجع عن قراره لكنني ما استطعتُ فقد بدا مصرّاً على ضرورة عودته إلى البصرة ثم اللحاق بي بواسطة القطار واللقاء صباح اليوم التالي في بغداد في مقهى البرازيلية . اضطررتُ للعودة معه إلى البصرة. كنت منزعجا بينما كان هو يشعر بسعادة غامرة بالعودة التي أصبحتُ طرفا فيها رغما عني. تبين لي بعد وصولنا إلى البصرة والذهاب إلى بيته ثم اخبرني أن سبب العودة هو نسيانه لرسالة كان قد كلفه احد أصدقائه ( صبري شمعون) بحملها معه إلى بغداد وتسليمها إلى شقيقته التي كانت هاربة من البصرة بعد صدور أمر إلقاء قبض عليها كما جلب معه كتابا لمؤلف مصري – لا أتذكره الآن - عن فلسفة أرسطو لم يكمل قراءته بعد، وقد كان ميله شديدا لإكمال قراءته أثناء وجوده في بغداد لسبب لا أعرفه. في الطريق كله كان يحدثني أنه في شبابه الأول كان قد حفظ عن ظهر قلب (المزامير) في التوراة حين أراد أن يكون شاعراً وهو في المدرسة المتوسطة لكن الإلهام الشعري لم يطل عليه لذلك فقد نسى المزامير على مر الزمن لكنه ظل يترنم ببعض عباراتها وأمثالها .
كثيرا ما كان يواجه ضغطاً شديداً من عائلته وأقربائه وأصدقائه عن سبب عزوبيته والإصرار على عدم السماح لأحد بمواصلة أي حديث حول هذا الموضوع الذي يعتبره شديد الخصوصية . كان محمود عبد الوهاب في غاية الوسامة. كان (كامل الأوصاف) وكان مثاليا في خلقه وتواضعه . لذلك فقد كان أمر عزوبيته لا يخلو من الغرابة. فاتحتني طالبة لبنانية من طالبات المدرسة الثانوية للبنات بالبصرة، حين كنت رئيساً لاتحاد طلبة البصرة، مغرمة به إلى حد لا يصدق وقد كلمتني بصراحة تامة أنها تحبه وتهواه وأنها تريد الزواج منه لكنها لا تستطيع مكاشفته بسبب فارق السن بينهما. كانت قد صارحت أمها بهذه الحقيقة اضطررت لعقد اجتماع بين أم الطالبة ومحمود عبد الوهاب في بيتي للبحث في إمكانية تقريب الاثنين من بعضهما لكنه اعتذر بلباقة وقدرة مقنعة للأم بأنه يريد مغادرة العراق إلى لندن لإكمال دراسة الدكتوراه قريبا وتم إنهاء الموضوع مع تدفق الدمع من عيني الطالبة ذات الكارزما القوية المعروفة بنشاطها الطلابي كعضو في اتحاد الطلبة العام بالبصرة . كان أبوها الموظف في شركة نفط البصرة صديقاً من أصدقائنا لكنه لا يعرف شيئاً عن غرام أبنته .
ذات مرة كنا معاً في بغداد . بعد استقرارنا في صباح تموزي حار من يوم الجمعة في فندق الجامعة العربية بساحة حافظ القاضي. ذهبنا إلى سوق السراي للبحث عن كتب قديمة رخيصة الثمن ثم عرجنا على شارع المتنبي فأخذنا أنفاساً من عبق الكتب الجديدة الواردة من بيروت مفروشة في عربات . كان البيع بعربات الدفع اليدوي منتشرا في تلك الآونة ولم يكن فرش الكتب على الشارع أو الأرصفة معروفا بعدُ، كما هو الحال الواسع في التسعينات بشارع المتنبي . غصنا في البحث عما نرغب به ونفتش عنه من الكتب لكننا ما خرجنا إلا بكتاب واحد لكل منا لم يتجاوز سعر الواحد منهما أكثر من مائة فلس كما أتذكر. ثم بدأنا حركة الجوال في شارع الرشيد من بدايته حتى نهايته ثم عدنا من الباب الشرقي لقضاء وقت قراءة الجرائد في المقهى البرازيلية . بعد تناول القهوة عبرنا الجسر إلى صوب الكرخ لزيارة بيت صديقنا نجيب شمعون الكائن في الصالحية بجانب مستشفى الرمد في الفرع المقابل لمبنى الإذاعة والتلفزيون .
انهينا وجبة الغداء بسرعة ثم تلقينا دعوة من الصديق نجيب شمعون للذهاب إلى سينما بابل حيث يعرض فيلم أمريكي من بطولة مارلين مونرو ربما كان اسمه ( حكة السنوات السبع ). كانت سينما بابل هي أكثر صالات بغداد قدرة للتخلص من حرارة الطقس في بغداد آنذاك حيث التبريد المركزي. بعد دقائق من وجودنا داخل السينما في الساعة الرابعة عصرا غطّ محمود عبد الوهاب في قيلولة عميقة لم يفق منها إلا عند لحظة نهاية الفيلم . كان وجهه يحفه النعاس إذ لم يكن وقت الفيلم كما قال يكفي لتغييب نعاسه فهو يحتاج لمزيد منه مقترحا العودة إلى الفندق في ساحة حافظ القاضي. اتجهنا ثلاثتنا نحو الباب الشرقي وكان جسد محمود متكاسلا. أوقفتنا، على الفور وبالإلحاح، فتاة جميلة أنيقة على الرصيف أمام السينما بقرب سيارتها الصغيرة . السيارة وقفت إلى جانب الرصيف وبداخلها شخص يمسك بمقودها . وقفت الفتاة إلى جانبها وهي تنظر إلينا مبتسمة . صافحتْ محمود بحرارة وكان قد تم بينهما حديث سريع لم نسمع تفاصيله لأنهما ابتعدا قليلا عن مكان وقوفنا . انتهت بينهما دقائق الحديث العشرة، ثم قدمت له ورقة صغيرة لم نتعرف محتواها لكنني وجدته مسرورا بل مترعا بالسرور. لم نسمع من الفتاة الشابة غير بضعة كلمات تقولفيها بهدوء: (شاهدتك منذ لحظة دخولك إلى صالة السينما بقيت واقفة بانتظارك لتسليمك رسالتي سأنتظر جوابك السريع.. سأنتظر موافقتك السريعة). كان برق لامع في عينيه لكنه ظل باهتاً مستغرباً ليس بمقدوره أن يتكلم بشيء كأنما استعصى عليه أن يفيق من غفوة صالة السينما . فتاة في غاية الجمال بعينين واسعتين محدقتين بدت أمامنا ملاكاً مجهولاً. كنت والصديق نجيب في حالة من الصمت. تجمدت روحينا في تلك اللحظة لكن سرعان ما فتح مظروف الرسالة ليقرأها بصمت من دون أن يذكر لنا شيئا عن مضمونها. تجمد بلا ابتسامة. سألته عن الفتاة وعن المفاجأة وعن مضمون الرسالة لكنه ظل بلا جواب إلى حين وصولنا صالة فندق الجامعة العربية حيث أوغل بالصمت وإغماض عينيه حين جلس قبالتي طالبا مني عدم تكرار السؤال عن هذه الفتاة التي شاهدتها اليوم لأنه قرر منذ تخرجه من الجامعة أن يضع ذكرياته معها بمثوى أخير، فقد كانت تحبه منذ ذلك الوقت وهي من طبقة المجتمع العليا في زمان العهد الملكي حيث كان والدها مديرا عاما في وزارة الداخلية مقرباً من العائلة المالكة ومن الوصي على عرش العراق بالذات. وقد طالت علاقته بها مرارة كبيرة لا يريد أن يتذكر طعمها فهي فتاة طيبة جدا تخرجت من الكلية الطبية لكن أباها موظف من صنف خطير ومن معدن لا يشرف أحداً الانتساب إليه. ضاع منه هذا الحب و كان يختصر القول أنها فتاة طيبة لكنه لا يريد أن يركب عربة عائلتها ثم كشف لي سراً بعدئذ أن قراره المفاجئ بالعودة من لبنان حين اعتلى الطائرة إليها بقصد السفر إلى لندن لإكمال دراسته العليا فيها والحصول على شهادة الدكتوراه كان بسبب الفتاة نفسها. رفض عدة مرات الحديث لي عن تلك المرارة حتى مع تعاقب السنين وتباعدها فقد رفض الحديث عنها في السبعينات وفي الثمانينات وفي التسعينات من القرن الماضي. كان دائم المحاولة للتهرب من هذا الجواب و يعتقد أن نسيان بحر هواه الأول والأخير قد يجعله أديباً بقلم يمنحه غزارة العطاء الأدبي في القصة والرواية متحديا جرحه النافذ إلى أعماقه، الجرح الغائر في عمق جسده جعله في حالة من التراخي والكسل إذ لم يترك نتاجاً روائياً يتناسب مع عمق ثقافته ومع غزارة مادته المعرفية التي أثبتها في آفاق محاضراته وندواته الكثيرة . حين صدر كتابه الأول الصغير المعنون (ثريا النص) عن دار الشئون الثقافية - الموسوعة الصغيرة - كنتُ أول من حرّك قلمه في الصحافة العراقية لتقديمه إلى القراء بتلذذ تام لكي اكشف ما يمتلكه عقل محمود عبد الوهاب من علم أدبي غزير. من دون شك صار هذا الكتاب علامة من علامات الوجه الصحيح في فنون الكتابة العراقية.
أتذكر أننا ذهبنا معاً إلى معرض بغداد الدولي في إحدى دوراته في ثمانينات القرن الماضي حيث في احد قاعاته ( معرض الكتاب الدولي) الذي أقامته الدار الوطنية لنشر وتوزيع الكتب. لم يرافقني الجوال في القاعات المختلفة لدول عربية وعالمية مشاركة بسبب قضاء جل وقته في (قاعة الكتب) التي خرج منها بعلاّقة بلاستيكية مليئة بالكتب العربية والانكليزية. كان مسرورا لأن نسبة تخفيض الأسعار كانت حقيقية ومناسبة له.
بعد انتفاضة عام 1991 زارني ذات مرة ورفض إلحاحي عليه بضرورة عدم العودة إلى البصرة والبقاء في بغداد. كان شديد التمسك بالبقاء في مدينته البصرة رافضا مغادرتها مهما كانت الظروف صعبة والأسباب قاهرة . في العادة تكون محطته الأولى في أية زيارة لبغداد هي في بيتي أو في مكتبي بالباب الشرقي ، أما باقي أيام وجوده في بغداد - طالت أم قصرت - يكون فيها ضيفا في شقة الصديق قحطان الملاك في الاعظمية – صاحب مكتبة الملاك - ومنها ينطلق في جواله اليومي على باقي أصدقائه.
كنت اعرض عليه بعض كتاباتي القصصية والروائية ليقدم لي بعدها ملاحظاته النقدية والتصحيحية التي تسرني، آخذا بها. كما أنه هو الذي اقترح علي ثريا نص روايتي ( رسائل حب خليجية) وعناوين بعض القصص القصيرة . في مرة من المرات زارني بمكتبي في الباب الشرقي – عمارة فاطمة وكان موجودا في زيارتي تلك الساعة السيد محمد حسن الصوري الذي كنتُ قد نشرتُ له كتابا عن القرامطة . في اللقاء هذا عرض الصوري على محمود مسودة (قصص صينية) كان قد حققها لبعض الصينيين الذين يكتبون بالعربية خلال وجوده في الصين فترة ستينات القرن الماضي. بعد ثلاثة أيام أعاد المجموعة مع عدد غير قليل من الملاحظات. قدم الصوري شكره الجزيل إلى محمود لعنايته بها وقد علمتُ أن المجموعة نشرت في بيروت بعد 10 – 12 سنة من لقائهما لكنني ما عرفت عما إذا كانت الملاحظات التي قدمها محمود قد أخذها الصوري بالاعتبار أم لا . كان من سمات محمود عبد الوهاب انه يبخل بالوقت على نفسه لكنه حريص تمام الحرص على تقديم خبرته ومعونته الأدبية وغيرها إلى أي صديق من أصدقائه يطلبها منه.
في مرة من مرات وجوده في بغداد قدّم لمجموعة من الأصدقاء البصريين المقيمين في بغداد خلال التسعينات مشروعاً مقترحا بتحقيق لقاء بصراوي في أول يوم ثلاثاء من كل شهر في بيت احد البصريين المقيمين بالعاصمة. كانت الموافقة قد ضمت 11 بصراوياً في بغداد. جوهر المقترح أن تكون جلسات الثلاثاء محاولة في إعادة العلاقات الجماعية القديمة. وضع أسس اللقاءات وفق شروط الالتزام التام بالمواعيد التي تبدأ صيفاً أو شتاء في السابعة مساء وتنتهي في الثانية عشرة . كل أول ثلاثاء من كل شهر تكون الجلسة في بيت بصراوي من المشاركين في مشروع محمود عبد الوهاب. على صاحب الدعوة تهيئة وجبة العشاء وأنواع المزات. أما مشروب الجلسة فعلى كل واحد أن يجلب ما يشاء وما يرغب. كان يستعد وهو في البصرة للمجيء إلى بغداد كل أول يوم أثنين من كل شهر بعد عدة مكالمات تلفونية تتعلق بجلسة الشهر المقررة في بيت من بيوت الأصدقاء. يمكث معي ساعة واحدة حال وصوله بغداد يتم فيها اللقاء باليوم التالي لاصطحابه إلى الجلسة حيث يكون موعدنا في الساعة السادسة من يوم الثلاثاء للذهاب معا إلى بيت الجلسة الثلاثائية التي تبدأ في السابعة عادة . لم يمنعه المطر والبرد وحر تموز عن المجيء والمشاركة، حتى المرض ما كان يعيق حضوره. ذات مرة كانت الجلسة مقررة في بيت القاص مهدي عيسى الصقر وكان مصابا بنوبة من الأنفلونزا الحادة لكنه حضر بالموعد المحدد حتى انه لم يستطع مغادرة البيت في تلك الليلة بعد نهاية الجلسة فبات في بيت الصقر. أتذكر أن حديثه كان في تلك الجلسة عن القردة والغوريلا والشمبانزي وعن شارل دارون الذي كشف عن خسارة أصول الإنسان وانتسابه إلى القردة. كانت الفكاهة ، كعادته ، أساس أحاديثه وتعليقاته مؤكدا أن أول اكتشاف طبي للأنفلونزا قد تم من خلال غوريلا في إحدى الغابات الإفريقية . كانت الأحاديث السياسية هي الغالبة في الاجتماعات تدور حول الأوضاع الداخلية والعالمية لكننا كنا نستمتع ليس بالتطرق إلى مختلف الشئون بل نستمتع بتعليقاته الفكاهية، التي يلح عليها المحامي الديمقراطي محمد السعدون المتأصل في حب الفكاهة باعتبارها الدواء الناجع للمآسي الناجمة عن السياسة والحكام في تلك الأيام. أطول الجلسات الثلاثائية كانت في بيت المحامي الشيوعي نصيف الحجاج بالعامرية حيث استمرت الجلسة الممتعة حتى الساعة الرابعة صباحاً. صاغ متعتها محمود عبد الوهاب بأحاديث كثيرة عن الوضع السياسي القمعي وعن أزمة الطباعة في العراق وعن ارتفاع أسعار الورق. حال الورق صار مثل حال المواد المعيشية مما أعاق ويعيق الشعراء والفلاسفة والروائيين وكل المؤلفين من بقاء إنتاجهم في الأدراج وقد اقبل الحاضرون متوهجين جميعاً، بين الجد والهزل، لانتقاد محمود عبد الوهاب وتقصيره في نشر ما يكتب مما جعل نتاجه الروائي – القصصي حتى ذلك الحين سرياً مثل نتاج صديقه محمود البريكان الذي لا يهوى نشر قصائده ولا طبع دواوينه الشعرية. لكن محمود رد الضربة النقدية بأروع منها حين قال أن زمان ما نكتبه هو العائق وعلى أي حال ما نكتبه اليوم سيظل إلى الآتي من الأزمان .

حين خرجنا فجرا من دار نصيف الحجاج متوجهين بسيارتي إلى دارنا وجدنا في نهاية شارع العامرية ضابط شرطة نجدة واقفا قرب السيارة على رصيف يؤشر بيده إلي أن أوقف سيارتي للاستفسار عن هوياتنا ولم يكن ذلك شيئاً اعتيادياً، بل كان منبعثا من خوف السلطة بين الحين والأخر من حركة الناس فجراً. بعد حركتنا بقليل علق محمود بالقول : إذا كنتم، أيها البوليس، قد سلمتم من ليالي ونهار المنتفضين في 1991 لكن الموت سيظل يلاحق الخائفين منه .
في ثلاثاء آخر كان اجتماعنا في بيت أبي وسام المحامي الديمقراطي مرتضى الحجاج في المنصور قريبا من بيتي. تصاعدت موجة الفكاهة في هذه الجلسة بعد أن غمرنا حديث سياسي طويل فيه الكثير من شجون البصرة وعذابات أهلها التي لم يستطع الزمان أن يمحوها حتى الآن. كانت الأمواج في تلك الليلة تقلب ذكريات كل واحد من الحاضرين عن مدينته البصرة الفيحاء وقد كان الهتاف يتصاعد من الجميع متوجها إلى أم وسام المقيمة في المطبخ منذ ساعة دخولنا لتسعفنا كل ساعة أو اقل بنوع متعدد من المشويات المملحة التي لا تنسجم مع اضطراب معدة محمد السعدون ومحمود عبد الوهاب لكننا تناولنا المأكل اللذيذ حتى طلوع الفجر.
في هدوء ليلة أول ثلاثاء من شهر تشرين الثاني 1995 كنا جالسين في بيتنا حيث تأهبتُ للجلسة الدورية المقررة. كان هو الوحيد على علم بقراري بمغادرة بغداد إلى الأردن وربما منها لمكان أبعد . كان ثمة شيء ضار أصابه حين علم السر فلم تكن ثرثرته الفكاهية في تلك الليلة كما هو حالها في الجلسات الثلاثائية السابقة.
بقينا بعد مغادرتي العراق على صلة تلفونية بين لاهاي والبصرة ، شهرية أحيانا وفصلية في أحيان أخرى. آخر لقاء معه كان قصيراً حين شق طريقه ذات يوم إلى بيتي ببغداد ، حين علم بوجودي فيها بعد سقوط رمز الظلم عن عرشها عام 2003 فقد لقاء مفتوحا حكينا فيه عن كل شيء ، عن الماضي والحاضر وعن احتمال أن يبقى صراخ الناس كائنا قائما إلى حين طويل في المستقبل .
كانت اعمق صرخة أحدثت هوة في صدري تلك التي خلفها غيابه الأبدي المرير.



#جاسم_المطير (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- براءة العراقيين من فسقة الحكومة ومجلس النواب..!
- وزراء بغداد.. لصوص وعسطوس من الدرجة الأولى ..!
- مها الدوري في عيد الحب..!
- بيان هام من الله سبحانه وتعالى ..
- محافظ نيويورك يستنجد بأمين العاصمة بغداد ..!
- بعض مظاهر الفساد في قلب الشركات الرأسمالية المنتجة للسلاح ..
- القضاء العراقي موضع السؤال عن العدالة ..
- حوار مع الرئيس جورج بوش الابن ..!
- أفلام الرعب من أخراج الشيخ صباح الساعدي..!
- عالية نصيف لا تملك الحاسة السادسة ..!!
- اضطراب عصبي في مجلس النواب العراقي..!
- كوكب حمزة يبحث عن قيم الحرية
- شيء عن بدر شاكر السياب لم يكتمل بعد..
- ليس بالسياسة وحدها يحيا الإنسان ..!
- طبائع الفساد و الفاسدين
- أجمل ما في بلادنا حرية اللصوص..!
- تأبط شراً ..ّ وتأبطوا شراً .. !
- الأحلام والديمقراطية
- تمثلات الاستبداد والتوليتاريا في روايات جورج أورويل
- عن نظرية : خلي بالك من زوزو..!


المزيد.....




- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جاسم المطير - محمود عبد الوهاب .. سعادة الصداقة ومرارتها..