أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - رحى الحرب قسطنطين سيونوف















المزيد.....



رحى الحرب قسطنطين سيونوف


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 4021 - 2013 / 3 / 4 - 20:08
المحور: الادب والفن
    



رحى الحرب الجزء الثاني



بعد انتهائي من قراءة الجزء الثاني لرحى الحرب، دفعنا ذلك إلى إعادة تقيم الرواية بما تستحق من اهتمام، وذلك لأنها تتطرق إلى جملة من المشاكل والصعوبات التي عانى منها الروس في زمن الحرب، واهم هذه المشكلات ـ الاحتلال و الانتهازية ـ، إن الرواية تبحث في أدق التفاصيل للشخصيات القيادية والكيفية التي تفكر بها.
كما أنها تعطينا صورة عن ستالين الذي يمثل القائد الفذ ونقيضه، فهو شخصية ذات إشكالية مختلف عليها، حيث أن الانجازات الكبيرة التي حققها الروس كانت في عهده، إلا انه يمثل أيضا اكبر دكتاتور عرفته روسيا على مر العصور، وقد استطاع قسطنطين سيمونوف أن يرسم لنا تفاصيل مهمة من شخصية ستالين المتناقضة وبكل ايجابياتها وسلبياتها، رغم الانحياز المفترض ـ للكاتب ـ لهذه الشخصية، وكذلك الأمر بالنسبة للمؤسسة العسكرية السوفيتية التي حملها الكثير من الإخفاقات التي ألمت بالاتحاد السوفيتي نتيجة عدم تقديرها السليم للقوة العسكرية الألمانية.
كما إن الرواية تتطرق إلى ظروف العمل في الجبهة الداخلية والصعوبة والمشقة التي يتعرض لها العمال في الورش والمصانع، وإذا تعمقنا في شخصيات الرواية نجدها شبه متوازنة بين الرجل و المرأة، فهي تشغل دور مهم في الرواية ولها تأثيرها الفاعل على سير الأحداث، كما أن الكاتب استطاع الولوج إلى نفسية الأب وألام والدخول في أعماق هذين الكائنين وإيضاح الطريقة التي يفكران بها، أما الحدث الرئيسي في الرواية فهو الحرب وما تخلفه من مصائب وكوارث وأهوال على الشعوب والأفراد .

الحرب

وسنحاول الدخول بشكل أكثر تفصيلا حول هذه المواضيع والتعرف معا على أهمية هذا العمل الروائي العظيم في حجمه وموضوعه وأسلوبه وأفكاره، ولنبدأ من الموضوع الرئيس في الرواية ـ الحرب ـ وكيف يصفها لنا قسطنطين سيمونوف، " فلا عمل في الوجود يشغل الإنسان ويبتلعه كليا إلا عمل الحرب ... كانت فرقته مجرد جزء صغير لذلك المجهود الهائل فعلا" ج 1 ص 12 "ولكن الآخرين يواصلون الهجوم هناك في الدماء والدخان . ولكي يتمكنوا الآن، في الشتاء، من الهجوم هناك تعرضت فرقة سربيلين طوال الصيف والخريف لملايين الاطلاقات وعشرات الآلاف من القذائف، سحقت الدبابات جنودها في الخنادق ودفنتهم القنابل إحياء تحت التراب" ج1 ص13، إننا أمام مشهد مروع للكيفية التي يدمر بها الإنسان والآلة التي تبتلعه دون رحمة وشفقة، فهنا تحدث الكاتب عن الدبابات التي تسحق الإنسان، ليعظم ويضخم الصورة التي تتم بها عملية الإبادة والموت، فالآلة لا تعرف الرحمة، ومن هنا جعلها تقوم بالأعمال الفظيعة، ولم يعطي عملية القتل للإنسان، ولو نسب ذلك له لكان هناك شيء من الرأفة أو الشفقة على الضحية.
كما إن وصف الحرب التي تطحن الإنسان جعلها خارج سيطرته وكأنها كائن حي آخر ليس لنا سلطة علية، وهذا الكائن ـ الحرب ـ هو من يقوم بكل تلك الأعمال التدميرية وليس نحن البشر.
"لو كان عندي ماء لهانت الأمور . فالثلج يجب أن يذوب أولاً . عندما وصلتم كنت قد وضعت الثلج فقط لتذويبه، ثم أضفت إليه ثلجا آخر وضغطت عليها لأحصل على المزيد . إنا نفسي مستعجل . حطمت تختا من اجل الحطب الناشف" ج2 ص130 "لكن لست هناك عدوى .فالقمل يدب بحثا عن الدفء لينقذ نفسه . عندما ندخل السقيفة يخيل ألينا أنها دافئة بعد البرودة الشديدة في الخارج، أما في الداخل فالحرارة اقل من الصفر . وتلك هي الحال أكثر من شهرين ... ألم تلاحظي أنهم خلعوا ثياب الموتى؟ ارتدوا بعضها وأشعلوا البعض الآخر لأجل الدفء . فالموتى لا يحتاجون الثياب، الأحياء فقط يحتاجونها . جلست قرب احدهم وقلت القمل عندكم كثير . فقال ـ لا تخف يا دكتور، ليس عندنا عدوى هنا، فالعدوى تجمدت من البرد .عندنا الآن مرض واحد هو الموت . ولا وجود الأمراض أخرى بيننا" ج2 ص131 ففي الحالة الأولى نجد صعوبة الأوضاع التي يعيشها الجنود في الجبهة، فإذا كان الطباخ لا يستطيع أن يوفر الماء بشكل طبيعي فكيف حال الجنود في ساحات الاشتباك؟ فالماء ـ العنصر الأساسي في حياة الإنسان ـ لا يمكن الحصول علية فكيف الأمر للعناصر والمتطلبات الأخرى ؟، ثم ينقلنا الكاتب إلى وضع آخر من أهوال الحرب وهذا الأمر يتعلق بالنظافة الجسدية للجنود، إن تفشي القمل والحكة والألم الذي يتركه على الإنسان لم تعد تهم الجنود في الجبهة، وإنما الذي يهمهم هو الموت، إنهم يستطيعون أن يتحملوا هذا الوباء وهم أيضا مجبرون على مواجهة الموت، ونعتقد بان الصورة الفنية التي رسمها الكاتب "العدوى تجمدت" تمثل فعلا المأساة الحقيقية التي يمر بها الجنود في الجبهة.
من صور صراع البقاء الذي افلح سيمونوف في رسمه لنا، الجنود وهم يخلعون لباس الموتى لارتدائه، وذلك للتدفئة به، يوضح لنا معنى الحرب والويلات التي يتكبدها الإنسان بسببها، "وسارا على الجثث صامتين مرة أخرى" ج2 ص132 "لكن تانيا تنظر إلى هناك وتعلم أن هذا الجدار ليس من تراب وجليد، بل من جثث البشر" ج2 ص133 بعد حديث الكاتب عن الأوضاع والصعوبات التي تواجه الأحياء أعطانا صورة عن للأموات، ولكثرتهم بدأ الجنود يطئون على الجثث و دون اعتبار لحرمتها، فإذا كان المشهد السابق ـ خلع الملابس ـ فيه بعض التجاوزات لحرمة الأموات فهنا تم انتهاك حرمتهم كاملة، من خلال السير عليهم دون مراعاة إنسانيتهم، الحرب جعلت من البشر مجرد أعداد سرمدية ليس لها أي اهتمام أو قيمة ومن هنا تم الإشارة إليها ب "جدار من الجثث"
"لم تكن الجثث مسجاة على الثلج، بل كانت مغروزة فيه ومتلاحمة معه لأنهم كانوا يمشون عليها من زمان، فلا مجال هنا دون أن يدوسوا عليها، لان المكان كله، حتى السقيفة، مفروشة بالجثث، كانت متجلدة شبه عارية وقد ارتمت أيديها وأرجلها على بعضها البعض بشكل يصعب التفريق بين يدي ورجلي هذه الجثة أو تلك،" ج2 ص122 "وبعد ذلك لم تتحمل مشهد الرؤوس الميتة الجامدة المهروسة المقلوبة، والعيون الميتة المغمضة والمفتحة، فسارت متعثرة هنا وهناك ... سارت على أجساد البشر على ما كان بشرا، كل واحد منهم خدم في وحدة ما، وولد في مكان ما، وكتب رسائل إلى أهله في زمن ما، ولا احد منهم سجل في قوائم القتلى، فأهليهم ينتظرونهم ولا بد، ولكنهم راقدون هنا مغروزين في الثلج والجليد، ولن يعرف احد أبدا أسماءهم فلا تبقى أي إمكانية لمعرفتها" ج2 ص123 صورة أخرى عن أهوال الحرب والبشاعة التي تخلفها ، والإنسان هو الذي يدفع الثمن.
أن الحديث عن طبيبة عسكرية، من المفترض أن تمتلك من قوة لتحتمل مشاهد الموت بهذه الكيفية، لكن هول الصور جعلها ـ تضعف ولا تحتمل الصمود أمام جثث الموتى ـ يمثل الهول الكبير الذي تسببه الحرب، فهي غول مخيف لا يستطيع البشر مشاهدته.
ويعود الكاتب لتذكيرنا بأننا أمام بشر وليس كتل من الحديد أو الإسمنت، فهؤلاء القتلى هم مولودون في مكان ـ جغرافي ـ ويرسلون الرسائل ـ بشر ـ ولهم أهل ينتظروهم، ولهم أسماء، لقد أعادنا سيمونوف إلى ماهية الإنسان التي نسيناها في أتون الحرب، لنقف أمام مشهد عظيم تقترفه أيدينا وينطلي على فكرنا ـ من خلال صورة القتلى وأشكالهم وعددهم ـ وكأننا نحن القراء ـ أصبحنا جزءً من الرحى التي تطحن البشر، فيذكرنا بإنسانيتنا التي فقدنا جزأً منها من خلال سرد الحدث الروائي، وذهبنا مع أحداثها وكأنها أصبحت لنا مجرد قصة مسلية ليس مطلوبا منا أكثر من التعاطف معها، إلا أن إعادة الحديث عن البشر الذين تتحدث عنهم، حتى نصاب بالاندهاش وبالإحباط لما وصلنا إليه من انحطاط في تفكيرنا الذي لم يعد إنسانيا.
أن الحديث عن الأهل الذين ينتظرون أبناءهم من المعركة مقابل صورتهم "راقدون هنا مغروزين في الثلج والجليد" تمثل بشاعة وقذارة الحرب، ففي الحالة الأولى نجد المشاعر الإنسانية التي تتلهف لملاقاة لأحباء، والمشهد الثاني الحرب التي جمدت الأحباء هناك ومنعتهم من العودة والى الأبد، وهنا تكمن الروعة الأدبية التي استطاع سيمونوف رسمها لنا، المفارقة بين المشهدين تجعلنا ننحاز وبشكل تلقائي إلى مناقضة الحرب وبكل ما أوتينا من قوة .

الفرد والحرب

هذه الصورة العامة للحرب وللمعارك التي تخوضها الجيوش، أما صورة الإنسان الفرد الذي هو جزء منها فلم يتركه الكاتب قبل أن يتحدث عنه وعن همومه والأعباء التي يعاني منها "أمس الأول رأيت حصانا يجر زحافة، وعلى الزحافة احد هاونات الفوج، وخلفها جندي يسير ماشيا . وعند المفترق سار الحصان في اتجاه والجندي في اتجاه أخر . ناديته، فتضح لي انه غفا ماشيا . فما اشد تعب الرجال" ج2 ص314 "يمكن لقائد الكتبة أن يمنحك ميدالية، ويمكن لقائد الجيش أن يقلدك وساما ... لا يستطيع أن يعدك يا آمر الكتبة، بان تنام أثناء الحرب عشرة ساعة متواصلة" ج2 ص276 الحرب وبالاً ليست على الجيوش وحسب بل كذلك على الفرد أيضا، الفرد الذي يشكل مع الآخرين سرية والسرايا تشكل كتيبة والكتائب تشكل لواء والألوية تشكل فرق والفرق تشكل جيش، هي الحرب ليست نزهة نذهب إليها لاستجمام، ولكن للجحيم، تأكل الإنسان قبل أي شيء، وتدمره من الداخل قبل تدمير ما شيده وأنجزه .



الأعداء

هناك الكثيرين الذين كتبوا عن الحرب، ولكن بصورة وردية، كأنها رحلة استجمام، والقليل الذين تحدثوا عنها بموضوعية وتجرد، فرغم إن الكاتب ينتمي للسوفيت، إلا انه وقف في الحياد عندما تحدث عن الم الإنسان، فوقود الحرب كان الألمان والسوفيت، فسيمونوف لم يترك من هم أعداء دون ذكر معاناتهم وآلامهم، بل تحدث عنهم بإنسانية مطلقة ومتجرداً من قوميته وانتمائه، فقد ترك الحقد والبغض جانباً، رغم ما سببه الألمان لشخصه ولشعبه من مصائب ودمار، فها هو زيريانوف يقول "لو كنت بدلا من قيادتهم لقتلت كل من يرفع يديه مستسلما، وانتحرت في آخر الأمر دون استسلام .... فما قيمة الحياة في الأسر عندهم أم عندنا" ج2 ص319 إننا أمام حياد ما بعده حياد، مساواة مشاعرنا مع مشاعر أعداءنا، وما لا نقبله لأنفسنا لا نقبله لهم، نحكم لهم كما نحكم لأنفسنا، إن عملية وضع أعداءك في عين المكان الذي تضع فيه نفسك، ثم نسقط عليهم مفاهيمك الأخلاقية وتطالبهم بان ينفذوها، رغم ما سيسببه لك ذلك من مشاق وصعوبات، ويمكن أن يكون الثمن الحياة نفسها ، لهو شيء عظيم يستحق منا الوقوف أمامه بجلال واحترام .
والكاتب يصر على أن الألمان لم يكونوا مجرد عصافير أو حمائم يتم اصطيادها بكل سهولة، وإنما رجال محاربين ذوي خبرة ودراية ومعرفة في شؤون الحرب، وحتى أكثر من الروس أنفسهم، "... وكأنا نحش الألمان كالأعشاب وان كل رفاقنا سالمون . فلمن يكتب مثل هذا الكلام" ج2 ص196 "لقد تعبوا حتى نسوا الخوف من الموت / .... الاحترام السابق الممزوج بالحقد على الألمان، كلا، ليس على الألمان، بل على مهارتهم في القتال" ج1 ص384 و185 "نكتب سخافات عن الألمان وكأنهم جوز كسر وابصق القشور" ج2 ص98.
إذن نحن أمام معاير عادلة، نعطي من قاموا بمحاربتنا كامل الحقوق، ونبدي لهم كل الاحترام والتقدير لمجهودهم وقدرتهم في القتال، فهم أصحاب مقدرة كبيرة ومهارات عالية في فنون الحرب، من هنا يجب علي ـ الروس ـ الاعتراف بهذا الأمر وعدم التغاضي عنه، حتى لو كان هذا الاعتراف يزعج من هم في القيادة، ولا يخدم الماكينة الإعلامية الرسمية، الاحترام للأعداء يتركز في مقدرتهم على القتال، ولنقرأ ما كتبه سيمونوف عندما تحدث عنهم في الأسر "ـ ستضمدينها . وسأحدث أنا العاملين في المؤخرة ليؤمنوا تقديم كل ما يلزم إلى أسراهم كلا يصلبوا بالهزل لا سمح الله ." ج2 ص138و139 ، إن الكاتب أصر وبعناد على تذكيرنا بإنسانيتنا رغم صعوبة ومشقة تطبيقها في ظروف الحرب، وضمن حالة طقس شديد البرودة وليس من السهل توفير المتطلبات الأساسية للجنود الروس أنفسهم، فما بالك للأسرى الألمان؟، وكأنه يقول لنا يجب تطبيق وثيقة جنيف لأسرى الحرب في كل زمان ومكان، ومهما كانت الظروف والصعوبات، وهو بذلك يكون قد نقد القوات الأمريكية والإسرائيلية لمعاملتهما السيئة للجنود العراقيين والمقاومين الفلسطينيين، ومن هنا نذكر كلمة الحق يكون لها حضورا ومكانا رغم مرور الزمن عليها، إذن نحن أمام معادلة إنسانية توازي بين الناس رغم هول وجحيم الحرب، التي من المفترض أن تدفع بنا إلى الوقوف ومآزرة بني جلدتنا ضد الآخرين الذين يسببون لنا الدمار والموت، لكن سيمونوف يدفع بنا إلى الجهة الانسانية وليس إلى الانفعالات والرغبات وردات الفعل، ونحن نعتقد بان ذروة الأخلاق تتمثل في المساواة وقت الشدة وليس وقت الرخاء، فمن السهل جدا الحديث عن المثل والمبادئ وقت الرخاء، وعندما لا يكون ذلك الأمر منوط بنا بل بالآخرين، فنكون مماثلين الأنبياء والمصلحون في وعظاتنا، ولكن صعوبة تطبيق ذلك على ارض الواقع عندما نكون نحن أصحاب الشأن، فنمسي وحوشا مفترسة لا تبحث إلا عن إشباع غريزتها، وكسر الآخر بكل وحشية والتلذذ بآلامه وتعذيبه، وكأننا أصبحنا مجموعة من الصاديين تتلذذ باقتناص فريستها، وما تم في سجن أبو غريب في العراق، وطريقة معاملة الجنود الإسرائيليين لمدنين الفلسطينيين، خاصة صورة الجنود الذين أطلقوا النار على محمد الدرة، وصورة الجندي الذي أطلق النار على المعتقل المقيد في بلدة بعلين يمثل مستوى الانحطاط الذي تمارسه القوات ـ المنتصرة ـ وغياب كافة المفاهيم الأخلاقية التي ينادي بها البعض .

الانتهازية

وألان لنقرأ معا كيف تطرق سيمونوف إلى الانتهازية ومحاولته تعرينها وكشف مسلكيتها ثم العمل على الوقوف أمامها ومحاولة التغير قدر المستطاع، ولنبدأ بالمؤسسة العسكرية السوفيتية "فاعلم بان آخر ما نهتم به نحن المسؤولين السياسيين هو رتبتنا العسكرية ... نحلم بالرتب والمناصب فقط ؟" ج1 ص10، هذا ليس أول مرض يتفشي في الجيش السوفيتي وحسب وإنما في الكثير من الجيوش، ويتبع سيمونوف هذا المرض بمضاعفات أخرى تنعكس على سير المعركة، وتـأثير ذلك على الجنود والدم الذي سفك بدون مبرر، إلا دفع ضريبة أخطاء القيادة العسكرية، فمثل هذا الطرح يمثل الهوة السحيقة بين من يقومون بتوجيه الأوامر ومن ينفذونها، فهناك فئة تلقي التعليمات دون مراعاة للإنسان الذي ينفذها، وهي تهدف قبل كل شيء إلى إظهار مقدرتها ولو شكليا حتى ترضي من هم اعلي منها، وذلك نظير إبقاءهم أو ترقيتهم، ولكن سيمونوف طالبنا بالوقوف في وجه هؤلاء، وعدم مهادنتهم، فها هو سربيلين يحادث ستالين نفسه بأخطاء القيادة العسكرية دون خوف أو مجاملة "حاربت القوات في العملية المذكورة بشكل لا بأس به. وسبب بعض الهفوات أن تلك بالنسبة للأغلبية أول تجربة في المعارك الهجومية الكبرى، وتعود الخسائر التي كان بالإمكان تفاديها بالدرجة الأولى إلى الكليشهات التي لا تزال موجودة في السعي إلى الزحف الجبهوي . فالتوجيه القائل بضرورة التقدم إلى الأمام كل يوم وفي كل مكان وان خطوة واحدة يكلف غاليا في بعض الأحيان . ويصادف أن نضحي بالرجال دون جدوى للاستيلاء على بضع مئات من الأمتار في مكان غير حاسم إطلاقا كان سيقع في أيدينا على أية حال بعد الاستيلاء على هذا الموقع الحساس أو ذاك . وتحدث سربيلين عن المدفعية أيضا وقال إن استخدام قادة المشاة لإمكانياتها ليس على ما يرام . ولا تزال واضحة آثار عدم الفهم الكامل لضرورة تقدم نقاط النار إلى الأمام إذا كنا نريد للمشاة أن تتقدم في ظروف الحرب الحديثة" ج2 ص387، إننا أمام قائد ميداني يحترم مركزه ويقدر ظروف المعركة ويواجه القيادة بأخطائها وبكل موضوعية وجرأة، ومن هنا تم تصويب المسار الذي أدى إلى التراجع في بداية المعارك، ولنستمع إلى قول ايفان الكسييفيتش احد القادة العسكريين عن المؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها "... وقد اطلعت عليها، بحكم وظيفتي، على مسودة تقرير . كان في الاجتماع 225 آمر لأفواج المشاة . فماذا تعتقد ؟ كم عدد خريجي أكاديمية فرونزه بينهم ؟ ، .... وإذا قلت لك انه لم يكن بينهم خريج واحد، ..... وكم شخصا في رأيك من بين ال225، انهوا المدارس العسكرية ؟ خمسة وعشرون . أما الباقون فهم لم ينهوا غير دورة الملازمين ومدارس الأفواج" ج2 ص416، إن مثل هذه الأعمال التي تخص حياة الإنسان، وكذلك مصير الوطن برمته، لا يمكن أن يقدم على فعلها لا من هم خارجين عنه وعلى الإنسان فيه، فعملة إرسال الرجال للمعركة بهذه الطريقة يمثل ذروة ألامبالاة، ويتماثل مع عمل الأعداء والاشتراك معه في قتل الموطن والوطن معا، لكن هل كانت هذه الأعمال ـ إرسال الجنود بدون قادة أكفاء ـ عمل ممنهج أم مجرد أخطاء عابرة؟، يجيب على ذلك سيمونوف "... أما باتيوك فلا يحب لأحد من الذين يظلهم تحت جنحه أن يبرز . وفي تلك الحالة نجد باتيوك مستعد للافتراق حتى عن رئيس الأركان الجيد . والمؤسف أنهم يأخذونه إلى الجبهة . فان باتيوك لا يحب أن يعمل مرؤوسوه السابقون في أركان اعلي ) ج1 ص66 إذن أسباب الفساد واضحة وضوح الشمس هناك أفراد ينظرون إلى الأمور بصورة شخصية، وهم على استعداد لحرق الأخضر واليابس في سبيل إشباع رغباتهم السادية، متجاهلين خطورة ذلك عليهم وعلى الآخرين وعلى الوطن الذي يعيشون فيه، فهؤلاء ليس لهم دور ايجابي بتاتا وكل ما يقومون به يمثل الخراب والدمار للوطن والمواطن، وهذا ما أشار إليه سيمونوف على لسان سربيلين "لا تبخل . البارحة بخلوا بالقذائف فخسرنا بالأرواح
ـ لم ابخل . ـ اعترض المدفعي ـ لم يطلبوا منا شيئا .
ـ تلك هي المشكلة . لم يطلبوا منكم شيئا، بينما زجوا بالمقاتلين في النار واحرقوا" ج1ص77 إننا أمام عملية دمار وقتل منظمة تهدف في المقام الأول الحفاظ على المركز القيادة وثانيا إبقاء الآخرين ما دون ذلك.

فساد الاستخبارات

إن هؤلاء الساديين لم يقتصر وجودهم على القادة العسكريين وحسب بل شمل أيضا العاملين في السلك ألاستخباراتي في الجيش، فهم مثل الآخرين لا يقومون سوى بأعمال شكلية تخدم أولا وأخيرا الأعداء، ولنقرأ ما يقوله سربيلين حول هؤلاء "نحن نتستر ونسمي المشاة بالتلفون : ثقاب، أعواد، والالمان إذا لم يكونوا بلهاء تماما، يعرفون معنى هذه الرموز ... لا تصلح حتى للشفرة والرموز، فنحن أنفسنا نعود الناس على اللامبالاة" ج1ص77، الفساد متكامل ومنسجم مع بعضه البعض، عمل القادة العسكريين يكمله الاستخبارات العسكرية التي لا تعرف حتى استخدام رموز تساعد الجيش على التحرك بحرية وتحول دون كشف حركاته، هذا على مستوى استخدام الرموز، أما فيما يتعلق بالمعلومات عن الألمان وحجم القوات وتسلحها وأماكن تواجدها فيتحدث عنها ايفان الكسييفيتش "... أما بلاغات استخباراتنا فواضح منها أن هناك ميلا لعدم مراعاته بالكامل . شيء خطير، أنا لا أريد أن أقول إن الاستطلاعيين يشوهون الوقائع عمدا لكن الأمزجة من الأعلى تضغط عليهم فلا يبحثون عن الحقيقة المرة، في حين يجب البحث عنها" ج2 ص414، إننا في وضع من الفساد يبدو للناظر أنه لا يوجد مخرج منه، حيث يستفحل المرض في الأفراد والمؤسسة العسكرية معا، ولكن هل توقف ذلك عليهم فقط ؟ أم طال الافراد في الجيش ايضا ؟.

فساد الأفراد

فها هو سينتسوف يوبخ احد الافراد من الجيش لمحاولتهم قتل الأسرى الألمان "... اعتقد انه من المجرمين الجنائيين سابقا . فهم يحبون تمزيق قمصانهم حتى الصرة وإطلاق النار على الأسرى . وصلتني مرة إمدادات من هؤلاء، حوالي خمسة عشر شخصا، بعضهم لا بأس به، والبعض الأخر هستيريون وسفلة قساة مثل هذا" ج2 ص260، هذه صور متعددة من الجبهة يصورها لنا سيمونوف، إذن هناك العديد من صور الفساد والمفسدين في الجبهة ومن يشاركون في الحرب.

فساد الدولة والنظام

وهناك فساد آخر تطرق له سيمونوف يكمن في النظام السوفيتي نفسه، فقبل اندلاع الحرب يكمن السبب الرئيس وراء الهزائم التي لحقت بالجيش وأدت إلى اندحاره في بداية المعارك، "فالذين أطلق سراحهم يحاربون، والذين بقوا هناك لا يزالون على حالهم . في حين إن عدد الذين عادوا لم يكن كبير، ففي عام 1937 و1938 لم يبقى في الجيش فوج أو فرقة أو فيلق إلا وسجن آمره أو مفوضه أو رئيس أركانه أو ثلاثتهم معا، ولا يزال باقين هناك كل الذين لم يعدموا رميا بالرصاص أو لم يطلق سراحهم . وفي المعسكر الأخير الذي احتجز فيه سربيلين بدون سماح بالمراسلة، في هذا المعسكر وحده كان بين السجناء ثلاثة أشخاص بوسعهم أن يقودوا فرقا أو فيالق في الحرب، .. اعتقد بان تلك المؤامرة لم تكن موجودة، واقتنع بان كل الأشخاص الذين اعتقلوا بموجب المادة الثامنة والخمسين اللعينة، ما عدا في حالات نادرة، هم اناس مثله تحمل بعضهم كل شيء ولم يعترفوا بأنهم مذنبون، ... هكذا كان .والافضع منه أن الأمور لا تزال على هذه الحال حتى الآن . معسكرات الاعتقال غاصة كالسابق بأناس مستعدين لإراقة آخر قطرة من دمهم في سبيل السلطة السوفييتية" ج1 ص143، هذا الاقتباس الطويل يؤكد على أن بداية الفساد كانت قبل سنوات الحرب، وليس أثنائها، من هنا اخذ الاحتلال الألماني الأرض بكل سهولة ودون معاناة تذكر، واستطاع في فترة وجيزة أن يصل إلى مشارف موسكو العاصمة، ففساد النظام الذي عمل على إرهاب الكثير من قياداته العسكرية، من خلال الاعتقالات والإعدامات، لم تبقي عناصر قيادية قادرة ومؤهلة لخوض حرب ضد أعداء الوطن.

رأس الدولة

لم تجعل تلك الفترة من سربيلين شخص انهزامي أو متآمر على الدولة والوطن، فقد تجاهلها تماما ونخرط في خط المواجه الأول، واثبت بكل جدارة بان الهموم الفردية يجب تجاوزها عندما يتعرض الوطن الخطر، وان الهم الوطني من المفترض أن ينسينا الهم الشخصي، "سألته زوجته : هل شطبت تلك السنوات من ذاكرته ؟ وأجابها نعم، شطبتها" ليس هذه أخلاق الافراد المنتمين للوطن والمواطن وحسب بل هي ايضا أخلاق ومفاهيم التنظيم السياسي الذي اوجد الكثير من أمثال سربيلين، ولكن قبل الانتقال إلى الجانب المشرق في الشخصيات والمواقف المبدئية والصلبة نكمل الحديث عمن يتحمل المسؤولية الوضع القائم ومن يقف وراءه، "كان قد كتب إلى ستالين أربع مرات" ج1 ص145 "يريدون أن يعتقلوني بتهمة الخيانة ، هل أقاوم أم اسلم نفسي ؟ وسمع بالتلفون سلم نفسك، سأخبر الرفيق ستالين واستوضح الأمر" ج1 ص146، سيمونوف بطريقة أو بأخرى يريد أن يقول لنا بان ستالين من يتحمل المسؤولية عما جرى في الفترة السابقة، وان عملية الاعتقالات التي شملت كافة القياديين في الجيش كانت عملية ممنهجة ومدروسة من ستالين نفسه، ولم تكن مجرد خطأ تم اقترافه من هذا أو ذاك، ونعتقد بان حديث سربيلين عن الكثير من المعتقلين لم تكن لهم جريرة "انه صادف في المعسكرات أناسا لا جريرة لهم" ج1 ص145 يمثل هذا الاتهام الواضح لأكبر رأس في سلم القيادة ـ ستالين ـ ولم يترك لنا سيمونوف هذا الاعتقاد بل انه أكد عليه في الفصل الثامن عشر عندما تحدث على لسان سربيلين "آنذاك انسحب الجميع، لم يكن هناك جنرال واحد لم ينسحب، ولا جندي واحد أيضا. ولكن أحدا لا ينوي إعدامنا جمعيا، إعدام جميع الذين انسحبوا آنذاك في عام 1941 لأنه لا يجوز تجريم جميع الذين قاموا بذلك، وانأ نفسي لست مذنبا، ... فلا يمكن أن يحدث بسبب عدده جنرالات، فهناك مذنب في كل ذلك كله قبل أولئك الجنرالات. بودي أن اعرف من هو ... يخيل إلي أحيانا انه هو نفسه مذنب في ذلك" ج1 ص149 و 150 الآن وضحت الأمور وستالين رأس الهرم في القيادة هو المسؤول عن كل تلك الإخفاقات والهزائم والتي ألمت بالجيش السوفيتي.
نحن نعلم بان كتابة هذه الرواية كانت بعد وفاة ستالين، لكن حتى توجيه مثل هذا الاتهام للرجل الثاني في الثورة الروسية والباني الأول الاتحاد السوفيتي يعتبر مخاطرة كبير من قبل المؤلف، ويستحق على هذا الموقف الاحترام والإكبار، ولكن سيمونوف لا يكتفي بهذا القدر، بل يمضي قدما في الحديث عن هذه الشخصية التي تمثل اشكالية للسوفيت، فهل يعتبرونه مخلص لهم وباني دولتهم أم الشخصية الأكثر دموية وبطشا في تاريخهم؟ لنقرأ ما كتب عن ستالين "سأقول له إن كل الذين قابلتهم في معسكرات الاعتقال من عسكريين وغير عسكريين ولست أنا فقط أو غرينكو وحده كلهم تقريبا محكومون ظلما وعدوانا، بلا جريرة، بالافتراءات والإخباريات، بقوائم سوداء لا احد يعرف من أين جاءت، ويجب القيام بشيء ما لهم جميعا" ج2 ص 390 هذا ما كان يجول في نفس سربيلين بعدما اخبر ستالين عن فترة اعتقاله، ولكن لنقرأ معا كيف يصف سيمونوف شخصية ستالين "وفكر سربيلين : شيطان، لا يزال شابا، وليس عنده كرش. وجه صقيل بلا تجاعيد، وكأنما حلق ذقنه الآن قبيل المنام، وربما حلقه بالفعل . يعاني معاناة شديدة، ولكنه لا ينساق للأحزان، فهو قوي الإرادة" ج2 ص410، لقد تناول سيمونوف ستالين في أكثر من فصل، فهو قائد ودكتاتور في ذات الوقت، باني الدولة القوية ومحقق الانتصارات، وأيضا صاحب اكبر عملية قمع تعرض لها السوفييت، هو المسؤول الأول عن الهزائم التي ألمت بالروس في بداية الحرب، فكل ما كان يهمه إثبات حكمه، مهما كلف الثمن، ومن هنا كانت عملية الكذبة الكبيرة التي سوقها على الشعب ليبرر عملية القمع والاضطهاد التي شملت كافة أفراد القيادة العسكرية وغير العسكرية، ومن هنا برر سربيلين في بداية عمليات الاعتقال، ولكن بعد أن وضحت له الأمور وانكشفت الغمامة اقتنع بأنه ليس هناك مؤامرة ولا تهديد الدولة، ولكن تصفية لكل من يمكن أن يشكل خطرا على حكم ستالين ليس أكثر.
وما يجعلنا نثمن هذا الموقف لسيمونوف، انه من القلائل الذي تجرؤوا وتناولوا هذه الفترة بمثل هذه الجراءة والوضوح، متجردا من قوميته التي من المفترض أن تدفع به إلى احترام وإجلال المحرر ستالين، إننا فعلا أمام عمل أدبي رائع يستحق منا التوقف عنده كثيرا، لما فيه من العبر والعظات التي تصلح لتسقط على الكثير من الدول و الوقائع المعاصرة.
وهذا ما ذكره سيمنونوف بكل وضوح "في الوقت ذاته تنطوي مكانته التي لا جدال فيها، بل وحتى مجرد ذكر اسمه على قوة هائلة، فبمرور السنين تشابك بهذا الاسم واندمج معه كعروق الحبل كل ما نؤمن به : بالحزب، بالجيش، بأنفسنا، وبهذا الحبل نجر كل أعباء الحرب، نجرها بالشعب الخائر القوى كله، والاسم للكل واحد لا غير : ستالين، طيب، فليكن، حبذا لو كان بالإمكان التفكير به مثلما يفكر الآخرون، الذين لا يعرفون عنه سوى عظمته، ولا يعرفون كل ما عداها مما يعتبر الجهل به أفضل" ج1 ص160، إذن ستالين هو المسؤول الأول عن كل ما مر ويمر به الشعب، و كافة أمور الدولة من سلبيات وايجابيات تقع على عاتقه، وان خلف عظمة ستالين هناك شيء مؤلم وفظيع للشعب الذي يعتبره بعيد عن كل الأعمال القذرة والإرهابية التي تعرض لها قبل الحرب وما بعدها، وهنا تكمن المعضلة التي وقع بها الشعب .

المنتمي للوطن

بعد هذا الكشف الظواهر السلبية في الوطن يتطرق سيمونوف إلى الظواهر الايجابية فيه، والتي تتمثل في شخصية سربيلين وتأنيا وسينتسوف، وغيرهم كثير، الذين تم الحديث عن تفانيهم في العمل إن كان هذا في الخطوط الأمامية أم في الداخل، وها هو سربيلين يناجي نفسه قائلا "... يجب عليك أن تؤدي واجبك طالما أنت شيوعي وجندي، يجب أن تشق الطريق بلا كلل لحقيقتك في موقعك، وان تعرض بنزاهة حقيقة الآخرين وتشق الطريق لهم أيضا، بلا كلل إلى أقصى حد ممكن" ج1 ص160،هكذا يرى الإنسان المبدئي دوره في الحياة، رغم ما تعرض له من إجحاف وظلم، يجب عدم التسليم للواقع والعمل على تغيره، هذا هو واجب كل من هو صاحب مبدأ.
ما يجعلنا نهتم بمثل هذه الكلمات هو ليس التمسك بالمبادئ اتجاه أنفسنا وحسب بل العمل على تسهيل الطريق للآخرين ليمضوا إلى الأمام معنا، وهذا يمثل ذروة العطاء والمسؤولية اتجاه الوطن والإنسان، وها هو سينتسوف يقرر الذهاب إلى الحرب بصرف النظر عن المكانة أو الرتبة التي سيشغلها "... حيث قال لها بأنه سيذهب للقتال بأية صفة وأية رتبة رغم كل شيء، قال وفعل" ج1 ص266، وهذا القائد لم يكتفي بمجرد الذهاب إلى الخطوط الأمامية ليقاتل كما الآخرين، بل قاتل بكل قوة و إخلاص ومن هنا طالب بعدم ترحيله من المعركة بعد إصابته البليغة وأصر على مواصلة المعركة "... أنا في خدمة الاتحاد السوفييتي، رفع سينتسوف يده اليمنى بالتحية ونثر عرضا يده اليسرى ونكمش وجهه من شدة الألم ...
ـ أرجو أن لا تنحيني عن القيادة
ـ من الذي ينحيك؟ تدخل ليفاشوف ـ الحرب هي التي نحتك . ـ وأشار إلى يد سينتسوف
ـ ستعود بعد إن تتعالج، ...
ـ استطيع أن أحارب أيها الرفيق الميجر" ج1 ص404 ، إننا نقف أمام مشهد يمثل المبدئية الصوفية التي فقدها الكثير من الافراد والأحزاب في هذا العصر، مشهد يماثل الخيال، رغم ما عانى سينتسوف من بيروقراطية وروتين مذل ها هو يتفانى في خدمة الوطن وأيضا يعطي صورة ناصعة لؤلئك الانتهازيين بطريقة التصرف السليم.
المؤلف يعترف لنا في بداية الرواية بان أحداثها حقيقة وكل ما عمله تغير الأسماء ليس أكثر، وهذا الإنسان الشيوعي الذي أمسى من الماضي لنا، يعطينا درس في المبادئ موضحا إن أي مبدأ يؤمن به الإنسان قادر على جعله يفعل المستحيلات في سبيل الانسجام مع الأفكار التي اعتنقها، فهي ليست مقصورة على هذا الفكر أو ذاك وإنما ـ الأفكار ـ هي مشاع لكل البشر، وهي قادرة، تفعل فعلها في جعل الافراد والجماعات يبذلون جهودهم وأكثر في سبيلها، إن امنوا بها، وهذا ما فقداه في هذا العصر الرديء.

المرأة والحرب

ها هي تانيا الطبيبة تطالب أيضا التواجد في الخطوط الأمامية من الجبهة، ولم تقبل التواجد في المؤخرة "ماما ـ قالت تانيا ـ أريد الذهاب إلى الجبهة، ولا استطيع أن أفسر لك ذلك، لا أريد البقاء في المؤخرة ... إذا عينوني بمستشفى في المؤخرة سأطلب إرسالي إلى الجبهة" ج2 ص29، هذا لسان حال المرأة الروسية في حالة الحرب، فهي لا تقل فاعلية عن الرجل، وها هي أم تانيا تحدثنا عن ظروف عملها والطريقة التي تفكر بها "فالتموين تدهور لدرجة كبيرة، والمواد لا تكفي، والنوم لا يكفي أيضا، لا وقت للنوم، ... فالنوبة اثنتا عشرة ساعة بالإضافة إلى تسليمها ومغادرة المصنع والعودة إليه، فأي وقت بقية للنوم ... مرة غفوت وأنا أسير إلى الترام حتى كاد يدهسني









ـ اشتغل وأفكر فيك : اعمل لأنقذها من الموت، فلا يمكن أن تموتي وأنت ايضا مقابل عملي هذا" ج 2 ص 30و 31 في البداية تحدثت أم تانيا عن الظروف الصعبة التي تعمل فيها مع بقية العمال والعاملات في هذا المصنع، وهي على قناعة تامة بان إخلاصها في العمل ينعكس مباشر على ابنتها في الجبهة، فكلما أتقنت عملها كلما عملت على إبقاء ابنتها حية، وهي تتحمل كل الظروف الصعبة والشاقة في سبيل ابنتها، فهي تمزج بين عملها المضني والإخلاص فيه وبين حياة ابنتها.ونرى بان أم تانيا مجرد أم بسيطة ليس ذات ثقافة عالية ولكنها تعمل كألاخرين بكل إتقان وإخلاص.

الممرضات

هناك حديث مكثف حول دور الممرضات في هذه الحرب، لا يقل اهمبة عن دور الجنود الآخرين، بل هو يتفوق عليهم ، لأنه يمثل إنقاذ الإنسان من براثين الموت والأمراض والتخفيف من معاناته "يا فتيات فصيل الغسيل والاستحمام ... ولا وجود لايد أفضل من أيديكن في تطيبها وعدم اشمئزازها، ولا وجود لجهود أكثر قدسية وطهارة في مساعدة الإنسان على استعادة إنسانيته" ج2 ص136، لقد تناول سيمونوف ثلاثة نماذج المرأة في الرواية وكلهن قمن بأعمال استثنائية، فلم يقل فاعلية عن دور الرجل، وهن حريصات جدا على إتقان ما يقمن به من أعمال وبدون أي أخطاء، إذن سيمونوف عطا المرأة دور كامل رغم حدث الرواية الرئيس ـ الحرب ـ وقد ترك لها فسحة جيدة لتتحدث عن همومها ونظرتها إلى الأمور والأحداث بصورة واضحة، وهو بهذا خرج من مأزق النظرة الذكورية لأبطاله.

العمال

ولنتابع الصور المشرقة لأبطاله الخيرين ولنقرأ هذه الحكاية عن احد العاملين في احد المصانع وكيف يتصرف "أثناء الحريق في ورشة النجارة قفز إلى النار مثلما كان، في معطف الجنرال، لينقذ العاملين، وكان يجيد القيام بأمور أخرى، فقد هب للدفاع عن مدير المختبر الذي انفجرت فيه أجهزة ثمينة وحال دون اتهامه بالتخريب ... وهذا التصرف اخطر من النار" ج2 ص39، الصور القاتمة التي تحدثنا عنها في السابق يمحها لنا سيمونوف بمثل هذه المواقف التي تنم عن الروح الحية التي تتواجد في الإنسان أينما كان وحيثما تواجد، وهي التي ستمدنا نحن القراء لهذا العمل بضرورة العمل النقي المتقن، وعدم الكفر بالواقع رغم قساوته و صعوبة وقلة تواجد الخيرين فيه، ومن هنا نقول بان هناك أعمال أدبية تتجاوز زمانها ويمكن الرجوع إليها عند الحاجة، وهذا العمل يمثل أحد تلك الأعمال.

الإدارة الناجحة

ها هو مالينين يحدث تانيا عن الإبداع والإخلاص في العمل عندما فعل معجزة حالة دون تشرد ألاف من الناس "عندما وصل الألمان إلى الفولغا، تكدست في هذه الساحة في إحدى الليالي عدة ألاف من النازحين الذين رقدوا ليبيتوا هناك، وعند الفجر لم يبق ولا شخص واحد من هذه الآلاف في العراء. فقد تم إسكانهم جميعا على أية حال، وقال لها مالينين : أنا روسي وإذا تعرض احد الروس للاهانة بحضوري يمكن اضرب الذي يهينه" ج2 ص58و 59، هذه عدة مستويات وأشكال للتفاني في العمل وتقديم الواجب المنوط بهم اتجاه الآخرين، فلم يقتصر الأمر على المشاركة في الأعمال الحربية بل شمل ايضا الأعمال التي يمكن أن نقول عنها (عادية)، ولا تتطلب منا بذل الروح، بل فقط التصرف بمسئولة واهتمام ليس أكثر، لكنها تكون في الحقيقة توازي من يقدم دمه أو روحه في المعركة.

محاربة الأهواء

هناك من هم يقنعون أنفسهم بان عملهم ذو أهمية، وله مردود مفيد وجيد على الآخرين، وهو فعلا كذلك، لكن ما وراء القيام بهذا العمل هو شيء أخر، الهروب من عمل قد يسبب لهم الأذى أو الموت، ولكنهم عندما يشاهدون هؤلاء المعطاءين لا يسعهم إلا الاندفاع إلى الخطر الذي يهابونه وتقديم أنفسهم للاختبار ـ أينما نهاب يجب علنا التواجد ـ حتى لو كان هذا التواجد اقل فائدة أو فاعلية، إذن علينا أن ننجح في اختبار أنفسنا، ونبتعد عن الأهواء، وهنا يلتقي سيمونوف مع الحديث النبوي الشريف الذي يطالبنا بالابتعاد عن الأمر الذي هو اقرب إلى قلوبا وأهوائنا، واختيار الآخر الذي لا تهواه النفس، "أطن أن حياتي لا تثقل على احد، واتضح لي العكس . كنت أضن إني أعالج الأطفال من الصباح حتى الليل واركض من وباء إلى وباء لأفعل شيئا، ولكني كما اتضح، هارب من الحرب، ... يجب أن أقدم عريضة وارتدي المعطف العسكري وعند ذلك أصبح إنسانا، وبدون ذلك، كما اتضح، لست إنسانا" ج2 ص62، هذا كلام الدكتور زوج تانيا يعترف بحقيقة نفسه، ورغم انه يتقن عمله ويقوم به بكل إخلاص إلا انه لم يرضى عن نفسه، ولذلك يطلب الانتقال إلى الجبهة، ليثبت ذاته أولاً ويحقق لها الاحترام ثانياً، أن ربط النفس الإنسانية بالإقدام على الخطر ووضعها في الوضع الصعب والخطير، وعدم الابتعاد الوضع الخطر، يمثل أعلى درجات الخلاص والانتماء والصدق، ومن هنا نستذكر موقف الأمام علي عندما لحق بالرسول بعد إن استخلفه في المدينة قبيل معركة مؤتة، فمثل هذه المواقف تعبر عن صدق الانتماء للعقيدة والفكر الذي يعتنقه الإنسان.
إن مثل هذه المواقف التي تدفعنا إلى الاهتمام بهذا العمل والتذكير بأهمية الاحتفاظ بالمفاهيم الأخلاقية والأفكار الدينية التي يعتنقها البشر.

احترام الإتقان

وهناك صور أخرى لهؤلاء المعطاءين الذين لا يكتفون بالعطاء وحسب بل ويحترمون كل من يقدم على الإخلاص في عمله، "ما روع الدبابات، يجب أن نحني رؤوسنا للذين يصنعونها، ويجب أن نصفع من يتلفها بتهور في أول معركة" ج1 ص171، الفكرة التي يرمي إلها سيمونوف تكمن في ترابط وتشابك المفاهيم الأخلاقية فهي ليس فعل يخص الذات وحسب وإنما فعل شامل لكل ما يتعلق بالإنسان والمجتمع الذي ينتمي إليه، فلا يكفي القيام بالعمل الذي يوكل علينا، بل يجب احترام كل من يقوم بعمله، ويحافظ على انجاز الآخرين، ولا يفرط به، وكذلك العمل على منع العابثين من تخريبه وتحطيمه، ومن هنا تأتي المسؤولية الشخصية اتجاه الوطن والمواطن، وهذا الأمر يتطابق ايضا مع الحديث النبوي الذي يقول "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فأن لم يستطع فبلسانه، فأن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان" إذن المفاهيم الأخلاقية متماثلة، وهي تدعو لمواجهة المخربين والمستهترين، وتعمل وتدعو لتصويب الأخطاء التي تقع.

الحرب والبشر

هناك دعوة لعدم التغاضي اتجاه الأوضاع الخاطئة والمطالبة بالاندفاع إلى مواجهتها بكل عزيمة، فالأخلاق عند سيمونوف لا تقتصر على الأفعال التي تهم الأحياء فقط، بل هناك مشاعر اتجاه كل الناس الأموات والأحياء معا ".. ولكن الناس، الناس ... يا لت بالإمكان إحياءهم جميعا ليجلسوا ويسمعوا" ج1 ص14، هنا تكمن المشاعر الإنسانية اتجاه الآخرين وتبين لنا أهمية المحبة للحياة الإنسانية وعدم المرور عليها مر الكرام، هناك أفراد وجماعات ذهبت ولن ترجع واستذكارهم يحمل بين طياته الحنين والمشاعر الجياشة اتجاههم، إذن هناك اهتمام بحياة الإنسان ويجب الحفاظ عليها في كل الظروف والأحوال وعدم التفريط بها، فسيمونوف من خلال هذه الرواية يؤكد على أهمية الحياة الإنسانية، وعدم العبث بها أو زجها إلى الهلاك بدون مبرر، وإذا عدنا إلى فصول الرواية نجده تحدث أكثر مرة وفي كل فصل على أهمية الحفاظ على أرواح الناس، ومن هنا كانت نظرته إلى الحرب إنسانية وليست من اجل الحرب ذاتها، وكان دائما يذكرنا ببشاعة الحرب وما تسببه من كوارث والألم للبشر.

الوقت والحرب

"ما كاد السائق يفتح فمه حتى تنهد جوكوف وقال : يا الهي، متى ستنتهي هذه الحرب" ج1 ص23، نجد هنا رؤية واضحة وصريحة حول الموقف من الحرب، فهو يعلم بان كل من يحاول أن يجمل صورتها هو كاذب، فهي حالة استثنائه في حياة البشر ويجب النظر إليها من هذه الزاوية. وإذا تمعنا في العبارة السابقة نجد بطئ الزمن أو توقف الزمن أثناء الحرب، فنجد التعب والإرهاق فيها ولهذا جاء الدعاء "يا الهي متى ستنتهي هذه الحرب" فهي مجمدة الزمن وقاتلة للبشر ولهذا نتمنى دائما الخلاص منها وبأسرع وقت، "الحرب بشعة وأبشع ما فيها أنها لا تنتهي قبل نهايتها، وكل سهم يرسم على الخريطة وكل أمر يصدر يحملان الموت لأحد ما" ج1 ص51، هذا تلخيص واف عن الحرب، هي لا تستجيب لأمنياتنا، ولا تهتم بمشاعرنا، ومن هنا تضرب بعرض الحائط كل دعواتنا ورجائنا لانتهائها والخلاص من شرورها، فرغم ما تسببه من تحطيم للبشر، وعذابات واللام لهم، إلا أنها لا تكتفي بذلك بل تزيد الطين بله من خلال تجميدها للزمن، ولهذا فهي اشر الأشرار على الناس.

مشاعر الجنود

سيمونوف يبغض الحرب ويشمئز منها لأنها محطمة للبشر ولا تسمح لهم حتى بتفريغ ما بأنفسهم من مشاعر و أحاسيس "اجل، عندما تصل الرسائل أحيانا يرتعب المقاتل وهو يحدق فيها ويفكر بكسرة الحديد التي تخترق الصدر أو الرأس وتنتزعه من أولئك الذين يكتبون إليه وينتظرونه، لكنه يرتعب ايضا عندما لا يكتب إليه احد ولا تنتزعه كسرة الحديد تلك من احد، الوحدة قاتلة، وبسببها تشتد رغبة الإنسان في العودة إلى المكان الذي تعود عليه في الحرب، إلى كتيبته، إلى المقاتلين الذين لا يشعرون بالوحدة القاتلة مثله،" ج1 ص279، المقطع السابق ذو فكرتين، الأولى تتمثل في حقد الجندي على الآلة التي تنتزعه من الحياة فلا يفرح أحبائه بالرد على رسائلهم، والاطمئنان عليه ،والشطرة الثانية تؤكد على أهمية مشاعر الإنسان في الحرب، حيث انه ينفعل ويصاب بالاكتتاب إذا لم يجد من يسأل عنه أو يفكر فيه، وهذه سمة إنسانية، حيث أنها تشير إلى اجتماعية الكائن البشري، فنجده يضطرب إذا إفتقد الآخرين، ولهذا يتمنى الموت إذا لم يجد هذا الاهتمام منهم، وأي موت يريد؟ بذات الطريقة التي حقد عليها في بداية الأمر، (كسرة حديد) فسيمونوف هنا يضعنا في أعمق صورة للفرد المقاتل الذي يفكر بأبسط الحاجات الإنسانية ـ رسالة ـ، مجرد رسالة اطمئنان ليس أكثر، فهي أما تجعله يتمنى الحياة وينظر إليها بلهفة، والعكس يجعله يطلب الموت، وأي موت يريد وأي رغبات تبدأ تنتشر في كيانه؟ انه هنا أصبح يفقد شيئا من إنسانية لأنه بدأ يفضل الحرب على الحياة السوية، ونعتقد بان هذه الفكرة كانت من أروع الأفكار التي استطاع سيمونوف أن يربط بها بين رغبة الحياة ورغبة الموت، ويستمر الكاتب في الحديث عن الرغبات الإنسانة الأخرى، فالمقاتل ليس بحاجة إلى الطعام والشرب وحسب بال انه بحاجة إلى الشعر، إلى شيء أنساني يذكره بالأفعال إنسانية "أقول له بان الناس أثناء الحرب بحاجة إلى الشعر" ج1 ص408، يصدمنا المؤلف بهذه الرغبة التي يطاب بها المقاتل على الجبهة، فمن المفترض أن تكون رغبته منصبة على شيء آخر مثل الطعام الشراب المعدات الحربية، لكن الشعر!، أمر فيه صفعة مدوية للحرب ولم يقدم عليها، هذه طبيعة البشر أنها ترفض الحروب وتبغض من يقدمون عليها، وتدعوا إلى وقفها إذا اندلعت، هكذا يرى سيمنونوف الحرب ولهذا يطالب أبطاله بالحاجات الروحية أثناءها .

الأب والأم

والآن ننتقل مع سيمونوف إلى من يشكلان العائلة ـ الأب وإلام ـ وكيف يتصرفان وينظران إلى أبنائهم في الظروف الاستثنائية، وكيف يكون مسلكهما أثناء الحرب، "عندما كان أبوك على قيد الحياة جاءنا عدة مرات، بل وجلب شيئا، بذل جهده، مع انه غير لازم، عندما كنت موجودة كنا موجودين نحن أيضا، وعندما غبت لم تبق به حاجة إلينا" ج2 ص26، من خلال هذا الكلام ـ للأم ـ نجد الترابط والتلاحم ومعنى وجود الأبناء والأب وإلام في الأسرة، وعندما يذهب الأبناء تفقد الأسرة احد أركانها وتبدأ بالانحلال وهذا ما قالته أم تانيا في لقائهم، فأوضحت الأم لابنتها بان ذهابها أو افتراقها يعني فقدان العائلة احد أركانها ومن ثم انهيارها في زحمت الأحداث، وتذكرها بالأب الذي كان يقوم بمهامه بكل جد ولكن بعد ذهابها لم يعد يهتم لشأن البيت .
ولان لنقرأ مفهوم الأم لسعادة ابنتها ورؤيتها لمعاني السعادة حسب رواية سيمونوف "الأم تريد السعادة لابنتها، .... تضن أنها ستكون سعيدة طالما ليست وحيدة" ج2 ص26، من خلال التجربة التي مرة بها الأم، أوصلتها إلى هذه القناعة ـ الملازمة ـ،ومن هنا تريد الحفاظ على سعادة ابنتها من خلال عدم تركها تعيش في هذا العالم وحيدة، وتجربة الأم جاءت بعد أن فقدت زوجها وشعرت بالغربة والوحدة وبدأت الحياة تفقد رونقها بعد الزوج، ومن هنا تطالب لابنتها بالعودة إلى زوجها، وها هو القائم على إدارة احد المصانع يتحدث لتانيا عن الحياة العائلية وما يعني الأبناء للآباء "من هنا ودعنا ابنا الأول ومن هنا استلما إشعار بمقتله ... ومن هنا تطوع ابننا الثاني وهنا ايضا وصلنا إشعارا بمقتله ... لكن ابناي الاثنين لم يعودا على قيد الحياة التهمتهما الحرب ... جلسنا هناك، والشمس مشرقة والثلج يذوب ... وقلت لها : سيما، إذا انتهت الحرب هذا العام ستلدين لي ابنا وابنه ... فنحن لا نزال قادرين، وقالت كلا لن الد أكثر، وقلت لها مازحا : إذا رفضت سأتزوج من واحدة اصغر سنا، وستلد لي أطفالا ... وأجابت بلهجة جادة طيب، سأكون أنا جدة لهم، فانا عجوز الآن، ألا ترى؟ بكت هي وبكيت أنا لهذه الكلمات" ج2 ص67، هنا مشهد تراجيدي يمثلانه الأب والأم، والمأساة تكمن بفقدان الأبناء، يحاول الأب إضفاء جو من المرح رغم المأساة إلا انه يفشل، وتنقلب الأمور إلى فاجعة جعلتهما يبكيان الأحبة الغائبين، فحديث الأب فيه شيء من الحقيقة ـ يريد أولاد ـ وهما يعرفان أهمية ذلك لهما، لكن الفاجعة جعلت الأم ترفض فكرة الإنجاب لما سببته من مأساة لها، ومن احتقان ومواجع وآلام، ومن الموقف السابق يتبين لنا التلاحم والتوحد بين الأب والأم من جهة والأبناء من جهة أخرى،
هذا ما قاله مالينين لتانيا عن أمها "ربما كانت حياتها كلها متوقفة على بقائك" ج2 ص89، فهل يعي الأبناء ماذا يعني ابتعادهم عن الأم أو الأب؟ فكلمات مالينين واضحة ( حياتها كلها ) وهنا يكمن التماهي مع الابناء، فبدونهم كل شيء ينتهي، ولا معنى للحياة بدونهم، لذا ستفقد الأم حياتها إذا فقدت أبنائها .
ضمن هذا الطرح يوضح لنا سيمونوف مفهوم الأب وألام عن الأبناء وكيف ينظران إلى الأمور، ونعتقد بان ربط هذه المشاعر الإنسانية بهول الحرب وجحيمها وما تسببه من فواجع للعائلات يجعلنا نقف ضدها بكل ما أوتينا من قوة وعزيمة، فهي المرض الذي يفتك بالبشرية، ولذا يجب معالجتها والقضاء عليها والى الأبد.

الجبهة الداخلية

بعد الحديث عن الخطوط الأمامية وجبهات القتال، ينقلنا سيمونوف إلى موضوع آخر، وهو الجبهة الداخلية أثناء الحرب وطبيعة الحياة فيها وكيف يتصرف الناس فيها، ماذا يأكلون؟ وماذا يلبسون؟ وأين ينامون؟ كيف يغسلون ملابسهم؟ وكيف يحبون؟ وما هي مشاعرهم اتجاه الآخرين في الخطوط الأمامية؟ ماذا يريدون وكيف يمضون أوقاتهم؟ كل ذلك يحدثنا عنه سيمونوف "... أليست الجزمة كبيرة عليك؟
تطلعت تانيا إلى قدمي أمها في الجزمة رجالية عتيقة هي جزمة زوجها
ـ ألف قدمي بالجرائد ثم إنهما بدأتا تتورمان"2 ص16، مشهد للجبهة الداخلية التي من المفترض أن تكون أكثر رفاهية واقل شدة على البشر، نجدها العكس، امرأة ترتدي جزمة رجالة واكبر من مقاس قدميها، ولذلك تلف قدميها بالجرائد، من أي عصر أتانا المؤلف بهذه الصورة التي يقشعر منها البدن؟ لماذا جعل الأم بهذه الوضعية وأمام ابنتها؟ لكن هذه الحرب ويمكن أن تفعل أكثر من ذلك في البشر، ومن هنا أجابت الأم ابنتها مبرره الوضع القائم بأن قدميها متورمتان ولا بد من جزمة اكبر من المقاس لتناسب التورم، وهنا يقول لنا سيمونوف بطريقة التورية بان العمل شاق والمضني وراء تورم القدمين، ورغم ذلك يبقى واجب العمل ملزم للأم أيضا، فلا يعني تورم قدميها إعفائها من العمل، كلا عليها العمل رغم قسوة الظروف وسوء الحال، هذا عن الأحذية ما كتبه سيمونوف عن الأحذية.
"حبذا لو تغتسلين من غبار الطريق،
ـ ولكن ليس عندنا صابون ... نغسل أيدينا بعد العمل ونحكها بالطين
ـ معي صابون
ـ ستغتسلين في الصباح إذن، بعد أن يذهب الزوجان سوفوروف إلى المصنع، سنسخن الغرفة ونأخذ من خالدة، صاحبة البيت طستا وتغتسلين، اعد سوفوروف المدفأة الحديدية منذ الخريف، لكن لم يكن لدينا فحم . نتدفأ على الأكثر بعيدان تاغوزابايا، ولكن ناره قصيرة كنار القش.ما هو الغوزابايا ؟ .. عيدان نبتة القطن" ج2 ص17، نجد هنا أدوات النظافة مفقودة ـ الصابون ـ ولذلك يغسلون أيديهم في الطين وأي طين هذا؟ في منطقة تحضر فيها المدفأة منذ الخريف، فكيف ستكون درجة حرارة الطين، وسيلة الغسيل هذه، وما سيتركه من وجع وألم على اليدين؟، وإشارة إلى الفاقة التي هم فيها تريد استعارت الطست من الآخرين، فما هذه الحياة التي يحيوها؟، ثم ما هذا المكان المعد للنوم؟ ثلاثة اسر تتناوب في المبيت، إذن هو فندق أكثر منه بيت، ونعتقد بان أطلاق لفظ بيت مجازا هنا ليس أكثر، أم تانيا وصاحبة البيت خالدة والزوجين سوفوروف، يتناوبون النوم في ( المنزل )، وقود المدفأة من عيدان القطن، لعدم وجود الفحم أو لقلته، وماذا ستفعل هذه العيدان في ذلك البرد القارص؟ إذن الوضع في الجبهة الداخلية لا يقل سوء عن الخطوط الأمامية، هذا هو حال الحرب تقتل الناس وتحرم آخرين من أشياء كثيرة
" كان الوقت متأخرا، وكانتا راقدتين معا على سرير ضيق وقد التحفتا بكل ما تيسر، البطانية والمعطف المدني والمعطف العسكري ومعطف الفرو القصير،... فقد تعود من زمان الزوجين سوفوروف يغطان في نوم متعب ثقيل وراء الستار على بعد خطوتين عنهما" ج2 ص18، السرير ضيق لا يتسع إلا لشخص واحد فقط، والغطاء المكون جله من المعاطف لا يكفي أيضا، وهناك رفقة في الغرفة الواحدة وهما رجل وزوجته، المشهد السابق يؤكد عدم وجود تدفئة داخل الغرفة، إذن هذا ليس مكان يصلح للبشر ويمكن أن يكون أيضا لا يصلح كذلك للبهائم، فهو معدوم الدفء ضيق لا يتسع لأكثر من نفر واحد أو اثنين على اكبر تقدير، لا يوجد مكان للاستحمام إلا بعد إخلاء احد الشركاء المكان، شيء لا يصدق البتة، إذن يجب البحث عن مكان اقل قسوة من هذا الذي يقال عنه منزل.
" التموين تدهور لدرجة كبيرة ... والمواد لا تكفي. والنوم لا يكفي أيضا. لا وقت للنوم، فلماذا اقضي الليل أحيانا في المصنع؟ اغرز وجهي في الأرض الورشة وأنام كالبهيمة، المكان ادفأ والوقت أكثر للنوم، .. . مرة غفوت وأنا أسير إلى الترام حتى كاد يدهسني" ج2 ص30، المكان الأخر الذي يمكن أن يكون اقل سوءا من المنزل هو المصنع، مكان العمل، هل هذه حقيقة؟، يمكن النوم فيه أكثر من المنزل، والتدفئة أفضل، وهنا نجد بين طيات الكلمات السابقة المفهوم التالي، مكان العمل لا يصلح لنوم لكن من شدة الإرهاق والتعب الذي يقع على العمال فهم ينامون دون أن يشعروا أو يسمعوا الضجيج، أوقات الدوام وطويلة ومرهقة كثيرا، ولهذا غفت الأم وهي تمشي من قلة النوم، ولطول فترة العمل أيضاً، وضع المنزل الذي يتشارك في أكثر من طرف يدفع العمال إلى تفضيل المصنع كمكان للنوم، المواد الغذائية الأساسية لا تكفي، والمواد التنظيف والحاجات الأخرى ايضا قليلة، ظروف العمل والمعيشة في هذه الأوضاع لا تصلح للبشر ايضا .

الإنتاج في المصانع

في ظل الوضع القائم يطلب من المصنع إنتاج قذائف جيدة ومتقنه لكن هناك مشاكل تواجه المنتج (القذائف) ولنقرأ ما هي الصعوبات التي تحول دون إيجاد إنتاج جيد، "...لان الإجهاد ازداد أسبوعا وشهرا فلم تتحمل العروق في يناير ... ثم أن الشتاء فظيع الأصابع تتجمد في الورشة، وعندما يذهبون إلى البيت يتجمدون هناك، ويترك أيضاً أثره السلبي" ج2 ص44، العمال يتعرضوا لضغط العمل يوما حتى أنهم لم يقدروا على التركيز في عملهم، كما أن البرد القارص له دور سلبي على أداء العمال، عدم وجود التدفئة الأزمة في المصنع والبيوت جعل العمال يتعرضون لتأثيرات البرد، ويستنتج من الوصف السابق عدم وجود استراحة كافية للعمال حتى يتمكنوا العودة إلى العمل بهمة ومقدرة على الاستمرار، كل ذلك وراء سوء المنتج من القذائف .
ضمن الظروف الصعبة للعمال وبسبب النقص في عددهم كان لابد من توفير العمال بأي طريقة كانت ولنقرأ كيف تم توفير الأيدي العاملة في هذا المصنع "...في ورشتي عشرون صبيا... جلبوهم من المدرسة المهنية... أرسلوا من بقية منهم على قيد الحياة إلى دار الاستراحة لمدة شهر، أطعموهم، بما استطاعوا الحصول عليه من شتى الأرصدة الممكنة، أما الآن فهم يعملون، وأنا لا أتألم عليهم لأنهم يعملون، لكنني أتألم لان هؤلاء الصبية يكبرون ويمكن أن يأخذوهم إلى الجبهة، وأنا قلق عليهم لأنهم يمكن أن يقتلوا، وأريد للحرب أن تنتهي قبل حدوث ذلك" ج2 ص66 و67، الحرب تدفع بنا إلى انتهاك حقوق الأطفال من خلال دفعهم إلى العمل وأي عمل؟، العمل ضمن الظروف السابقة التي لم يستطع حتى الكبار القيام بها، ومدير الورشة لا يتألم عليهم، فهم موجودون الآن أمام ناظريه، لكن تألمه عندما يزج بهم إلى المعارك التي يمكن أن يلاقوا حتفهم فيها، ونعتقد بأن مدير الورشة هو إنسان يحمل الكثير من المشاعر والتعاطف مع العاملين، لكن ليس باليد حيلة، ومن هنا توصل إلى قناعة بان وجود الأطفال في المصنع ارحم لهم من إرسالهم إلى المعركة .

التناقض مع الحرب

مرة أخرى يقول لنا سيمونوف الحرب جحيم تأكل الصغير والكبير، أن عاجلاً أم آجلاً، ومن هنا يطالب كل البشر بعدم الإقدام عليها لما تسببه من فضائع لهم، فالصور التي رسمها لنا في الرواية من المؤكد أن تدفع بلنا إلى الطريق سلام في تعاملاتنا، وان لا نقدم عليها أبداً، فهي الكارثة ذاتها، وهنا نستشهد بمقدمة المؤلف التي يقول فيها "من الأهداف الرئيسية التي أتوخاها في كتابي هذا تذكير الناس مرة أخرى بأن الحرب شيء مهول يتعارض مع طبيعية العالم الروحي لكل إنسان سوي، وإنها يجب أن لا تتكرر مطلقا" ج1 ص4 هذا ما يراد من كتابة هذا العمل الروائي الضخم في حجمه والعظيم في فكرته، فكل الأحداث والشخصيات تدفع القارئ لعدم تأيد الحرب وبصرف النظر عماً سينتصر فيها، فالحرب تساوي المعاناة أو الموت ليس اقل من ذلك.

الحرب وخلق القادة

بعد هول الحرب الذي قرأنا عنه كان لا بد من وجود أشخاص ذو مواهب ومقدرة استثنائية للتكيف مع ظروف الحرب والتعاطي، وهؤلاء الأفراد نطلق عليهم قادة لمقدرتهم على التعامل بكل اتزان ومرونة مع الأحداث، ولنقرأ كيف رسم لنا سيمونوف سمات القادة في رحى الحرب "إن الحرص على الجنود في الحرب يعني عدم تعرضهم لخطر لا ضرورة له، وعدم التردد في زجهم لموجهة الخطر الضروري" ج1 ص 13، فالقائد الميداني في المعركة لا بد أن يحافظ على جنوده كحفاظه على نفسه، فعليه عدم الدفع بهم إلى الموت دون مبرر في ارض المعركة، وهذا لا يعني ايضا إبقائهم بعيدين عن الخطر بشكل دائم ومستمر، ففي ظروف معينة لا بد من مواجهة الأخطار ويمكن أن يكون الثمن هو الحياة، المعادلة واضحة التقدير الجيد الظرف يحدد حجم الخطورة التي يجب الإقدام عليها، وهذا ما أوضحه لنا سيمونوف حينما تحدث عن حدود السلطة الممنوحة للقائد الميداني في المعركة "إذا تجاوز المرء سلطته تراق دماء، وإذا لم يستخدم تلك السلطة عند الضرورة تراق دماء ايضا .... بل يحددها المرء نفسه في اللحظة التي يصدر فيها أوامره" ج1 ص14، هنا توضيح آخر للعملية التوازن بين الحرص والإفراط في تقديم الجنود لمواجهة خطر الموت، ومن هنا تقع على كاهل القائد كل المسؤولية في تقدير الظرف المناسب لاستخدام قيادته لإصدار الأمر المناسب في المكان والزمان المناسبين،وغير ذلك يمكن أن تقع خسائر فادحة بين جنوده.
وها هو بيكين يتحدث عن سمة أخرى للقائد الميداني "الأعصاب الحديدية في الحرب لها قيمتها، فهي نصف الإستراتيجية" ج1 ص21، في ظل مشاهد الجنود يقتلون أو يصابون، وأثناء سماع دوي القذائف وأزيز الرصاص وصراخ الجرحى، ووصول القلوب الحناجر، لا بد للقائد أن يمتلك القدرة للتعامل مع الأحداث بسرعة، وان لا تدفعه شدة الوطيس في المعركة إلى التصرف بانفعالية يمكن أن تؤدي إلى هلاك عدد كبير من الجنود، وعندما قال عن "الأعصاب الحديدية نصف الإستراتيجية" ، كان محقا وهو خلص إلى هذه النتيجة بعد دراسة وخبرة أثناء تواجده في قلب المعركة .
وهناك تباين بين امتلاك الأعصاب الحديدية والعناد الذي يمكن أن يؤدي إلى فقدان الكثير من الأرواح البشرية "ولن يفهم المرء في الحال دوما أين تنتهي حدود الإرادة الحديدة وأين تبدأ حدود العناد الفضيع الذي يكلف عشرات الآلاف من القتلى ومقابر كاملة من الآليات المدمرة" ج1 ص159، الحديث السابق جاء على لسان سربيلين، الذي تطرق فيه إلى الحديث عن ستالين، فهو كقائد ميداني يعرف الكثير من الأخطاء التي يصدرها قادة المكاتب دون مراعاة للخسائر التي يمكن أن تقع بين الجنود، فهو أدرى بحقيقة الأوضاع الميدانية، فليس المعيار عند سربيلين كم تقدم أو كم تتأخر بقدر كم فقد من الجنود والمعدات وماذا أنجز، فالمعيار عند سربيلين هو الجنود الذين يقتلون في المعارك، وما هو الهدف الذي أنجز؟، وهل الانجاز الذي تم يستحق كل تلك الأرواح من الجنود؟، وهل يمكن أن ينجز بعدد اقل من الأرواح؟، كل هذه الحسابات يطالب سيمونوف أن تأخذ بعين الاعتبار عندما نريد التصرف أثناء المعركة.
"في بعض الأحيان يتعين على الإنسان أن يقوم بما لا يجوز له القيام به ولا يعبأ بشيء من اجل أن يستمر في أداء ما يجوز له أن يؤديه أثناء الحرب، في مثل هذه اللحظات عندما يقوم القائد بما لا يجوز القيام به ويقتل في المعركة يظل إلى الأبد قائدا في أذهان مرؤوسيه، وإذا لم يقم به وظل على قيد الحياة فانه يناقض نفسه" ج1 ص372، هذا الحديث عن العمل الاستثنائي للقائد في ظرف استثنائي ومكان استثنائي أيضاً، أي أن هناك أوقات يجب أن يقدم فيها القائد التصرف الخطر دون أي خوف ما دام هذا التصرف يخدم المهام التي أوكلت له، وهذا العمل يطلق علية العمل البطولي، إذن ليس هناك تصرف معين يمكن أن يقوم به القائد، ولكن يجب القيام بكل ما يلزم في الوقت والظرف والمكان، حسب ما تمليه ظروف المعركة، وتقدير القوة الذاتية وقوة الخصم، وضمن هذه المعطيات يكون التصرف الأمثل والبطولي للقائد،

هيئة القائد

ولم يغفل سيمونوف أن يذكر لنا الشكل الذي يجب أن يكون عليه القائد، "لا يزال شابا، وليس له كرش، وجه صقيل بلا تجاعيد وكأنما حلق ذقنه الآن قبيل المنام، يعاني معاناة شديدة، لكنه لا ينساق للأحزان، فهو قوي الإرادة" ج2 ص410، الهندام وكيف يظهر القائد بهندامه، والعناية بتصفيف شعره، وتهذيب سمات الوجه، وعدم ظهور معالم تشوه هيئة البدن والجسم، كل ذلك له أهمية في تكوين شخصية القائد، وما فيما يتعلق بالصفات والقدرات النفسية فيجب أن لا يظهر آلامه أو أحزانه للآخرين، ويظهر دائما قوة شخصيته وعظمتها، فالقائد يظهر بشكل المخلص للأمة، ولذا حينما يقدم أمام الجمهور يكون بمثابة البلسم والترياق الذي يزيل كافة الشرور والآلام عن الشعب.

الحكم والمأثورات

ولم يترك سيمونوف روايته بدون أن يطفي عليها لمسات جمالية، من أفكار وحكم وأقوال خالدة، تصلح في أزمنة وأمكنة متباينة، لما فيها من معاني تدخل إلى القلب بكل يسر، "وإذا كنت مستعدا للموت في سبيل غاية ما، فتلك الغاية هي أن تفعل كل شيء كما ينبغي وكما تريد" ج1 ص346، الكثير من الافراد والجماعات يدعي انه صاحب أفكار وعقيدة، ونحن لا نشك بذلك، لكنه يعدم الوسيلة والطريق السليم للوصول إلى هدفه، من هنا يبدو كمن يصارع الطواحين أو كمن يحرث البحر، من المهم أن نعتنق أفكار ونؤمن بها، والاهم وهو إيجاد الطريق والوسيلة السليمة لتحقيق الأهداف التي ننادي وندعو إليها، فليس من البطولة الموت لتحقيق غاية ما، ولكن البطولية هي أن تقوم بذاك الفعل والعمل دون أن تموت، من هنا جاء سيمونوف بكلمة "كما ينبغي" ليحدد لنا الأسلوب والطريق الذي نسلك "العمل أهم شيء. في العمل ينسى المرء على نحو ما كل ما تبقى" ح2 ص45، هذا الحديث عن العمل في حالة الاضطراب والانزعاج ففي العمل ينسى الإنسان الكثير من همومه ومشاكله، والعمل يخفف الكآبة، ويشغل الإنسان عن الكثير من الأمور التي تسبب له الضيق والامتعاض، وفي العمل يجد الإنسان ذاته ويشعر بأنه ذو فاعلية من خلال المنتج الذي يقوم به .
"لكن الأسوأ هو أن يبقى الإنسان وحيدا" ج2 ص75، ليس هناك أصعب من الوحدة، فهي قاتلة للكائن البشري وتنزعه من بيئته التي لا يمكن أن يستمر في الحياة الاجتماعية بدون أناس يتفاعل معهم، فرغم الضيق التي يسببه مجموع الناس لا أنها تبق ارحم بكثير من بقاء الإنسان وحيداً منعزلاً، ولن ندخل في مسألة الاغتراب عن المجتمع ما يسبب ذلك للأفراد من معاناة واضطراب، ومن هنا نجد الدعوة من سيمونوف لكل الناس على البقاء ضمن مجتمعهم فاعلين ومؤثرين ومتأثرين .
"فكيف لا نفرح؟ لا نذق الفرحة إلا بعد أن تنتهي الحرب؟، سخافة، إذا لم نفرح في الطريق لكل صغيرة وكبيرة لن يطول بنا العمر" ج2 ص238، دعوة من سيمونوف للفرح في كل مسألة يمكن أن تسبب الفرح وتضع البسمة على الشفاه، وان لا نترك هذه البسمة أو الفرحة تذهب دون أثراً فينا، ومفهوم الضحك في علم النفس له الأهمية الكبيرة في تخفيف الآلام وإزالة الكآبة من الناس، كما نجد الدعوة إلى عدم الانتظار حتى انجاز الأمور الكبيرة والعظيمة، لكي يمارس المسلك الإنساني ـ الفرح ـ بل يجب الاكتفاء بأي انجاز حتى لو كان متواضعاً ليقوم بفعل الفرح، وليعطيه هذا الفعل ـ الفرح ـ بارقة أمل ودفعة إلى الأمام.
"مهمها طالبوا الإنسان بالكثير هنا، فهناك، في المعارك، يطالبونه بأكثر" ج2 ص44، في حديث سابق لسيمونوف عن المصنع، كانت هناك انتهاكات للحقوق الأطفال فيها، وقرأنا ظروف العمل القاسية التي عانى منها الكبار قبل الصغار، ومع ذلك في الجبهة تكون الأوضاع أكثر فظاعة وأشد هول على البشر، من هنا يذكرنا بجحيم الحرب والدمار الذي تخلفه على الناس وحضارتهم معا، ونهاية ما كتبه عن الحرب "لا توجد حرب بدون خسائر" ج1 ص328، "اتقوا الله يا ناس، الحرب لا تبخل بالمصائب" ج2 ص346، هي الوصية الأخير لمن عرف الحرب وما تأتي به من خراب ومصائب على الناس، ونأمل أن يتم العمل بهذه الوصية في كل زمان ومكان، فهي خير الوصايا واحكم الحكم.

الإيمان أثناء الحرب

كما أن سيمونوف لم يترك الإيمان بدون التأكيد علية، فالكثير من شخصيات الرواية كانت مؤمنة بالله، فكان دائما يذكرنا بوجود الله وانه المستعان به لإبعاد الشر واستعجال الخير، "والحمد لله" ج1 ص10 "لا يعلمه إلا الله" ج1 ص21 "اتقوا الله يا ناس" ج2 ص346، وغيرها الكثير من العبارات التي تؤكد الإيمان بالله، وهذا كان من المفارقات التي عمل سيمونوف على العمل بها في رواية، ليؤكد على مسألتين، الأولى إن الإيمان بالله لا يمكن لأي حزب أو نظام أن ينزع مفاهيم ومعتقدات وأفكار رسخت في الأفراد المجتمعات منذ فجر الخليقة، كما إن هذا الإيمان يعمل على راحة النفوس والتخلص من الكثير من أعباء لناس، وثانيا الإيمان يرسخ أكثر ويظهر بشكل بارز عند المصائب والأهوال التي يمر بها الناس، وباعتقادنا يمثل هذا العمل الروائي حالة نادرة لأدب الحرب،حيث أخذ موقف الحياد من الآخرين وبين معنى الحرب، وهي بمثابة صفعة مدوية لكل من يطالب أو يقوم بها، وهذه الرواية من الأعمال التي تقرأ بسلاسة ودون ملل، فرغم الحجم الكبيرـ أكثر من 840 صفحة إلا أن القارئ لا يشعر بالعجز أو التذمر أثناء القراءة، وكما أنها مترعة بالأفكار الإنسانية والحكم التي تضفي لمسة من الجمال، كما إن الوصف الدقيق لأهوال الحرب من قبل شخصيات الرواية، التي تمثل أكثر من طرف ومستوى اجتماعي، جعل من الكاتب يقف في الحياد وكأنه ليس له تأثير وسلطة على شخوص روايته، فقد نحج تماما في الإفلات من كونه المؤلف وترك حرية الحديث للشخوص، وبهذا لم يترك لنا مجال أن نشك بقذارة الحرب وبقذارة من يقدمون عليها، فلا مبرر لها بتاتا، وهي تثقلنا بعبثيتها .

رائد الحواري



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاحياء والاموات
- قصة الرعب والجرأة
- الانسان اللآلي
- الخندق الغميق سهيل إدريس
- قلادة فينسي
- ام سعد
- صورة (صورة الروائي) مرآة الضحية والجلاد
- لغة الماء عفاف خلف
- لعبة المتناقضات في رواية - إنهم يأتون من الخلف
- وادي الصفصافة
- لغة الماء غفاف ىخلف
- من اجل غدا افضل
- رواية الاشباح
- جدارية درويش والنص الاسطوري
- رسائل لم تصل بعد
- أتذكر السياب
- رواية الخواص
- أدب القذارة
- لينين القائد
- حكايات العم اوهان


المزيد.....




- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - رحى الحرب قسطنطين سيونوف