السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن-العدد: 4015 - 2013 / 2 / 26 - 17:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تلعب الثقافة السائدة فى مجتمع ما دورا محوريا فى قابليته للتنمية وتقبله للتحديث وإستعداده للتغيير نحو الأفضل (Harrison & Huntington, 2000). فالثقافة، بمكوناتها الرئيسية من قيم ومسَلمات، تسهم فى تشكيل رؤى وتوجهات وسلوكيات وردود أفعال أفراد المجتمع الذى يتبناها. ويؤدى تأمل الثقافات السائدة فى المجتمعات المتقدمة التى حققت لمواطنيها مستوى عال من الرفاه، وتلك التى مضت فى طريق التقدم فنجحت وصارت نماذج واجبة الإقتداء، إلى التعرف على ما تشترك فيه من مكونات. وهى المكونات التى يمكن أن نطلق عليها مجتمعة إسم "الثقافة العلمانية". و"الثقافة العلمانية" هى الثقافة التى تشكلها المكونات التالية: "تمكين الإنسان"، "أولوية المعرفة البشرية"، "إنسانية الأخلاق" و"سنة التطور" (السيد, 2012b). و"تمكين الإنسان"، أولى مكونات "الثقافة العلمانية"، هو تحريره من سيطرة الفكر اللاعقلانى، بشتى صوره الأيدولوجية والدينية، الذى يحد من حريته فى إستخدامه عقله، ويعمل على تقليص دوره فى إدارة شئون دنياه. واليوم سنناقش تفصيلا هذا المكون على ضوء مبدأ "مرجعية الواقع". وطبقا لهذا المبدأ تتوقف صحة أى فكرة على قدرتها على تقديم تفسيرات صحيحة لما يدور فى الواقع من أحداث، وعلى تغيير هذا الواقع لصالح الإنسان. وإنطلاقا من هذا المبدأ فإن الحكم على صلاحية أى عقيدة، سياسية كانت أو غير سياسية، يقوم على قدر إسهامها فى تعزيز رفاه الإنسان (السيد, 2012a). ويقودنا تطبيق هذا المبدأ على مكون "تمكين الإنسان" إلى طرح السؤال التالى وهو: "ما مدى إسهام تبنى هذا المكون فى تعزيز رفاه الإنسان؟". وتأتينا إجابة هذا السؤال من أمارتيا كومار سن Amartya Kumar Sen أستاذ الإقتصاد والفلسفة بجامعة هارفارد الأمريكية والحائز على جائزة نوبل فى الإقتصاد سنة 1998 عن أعماله فى مجالات إقتصاديات الرفاه، الفقر والمجاعة، اللامساواة الإقتصادية، التنمية والثقافة، والتنمية البشرية. وجاءت إجابة سن فى عبارة موجزة هى "التنمية هى زيادة للقدرة" Development as Capability Expansion (Sen, 2003). وهى عبارة، على إقتضابها، تحتوى على الكثير من المفاهيم غير المسبوقة الذى يستحق كل منها نظرة عن قرب.
ونقطة البداية فى مقاربة سن لموضوع التنمية وتحقيق الرفاه، والتى تعرف بـ "مقاربة القدرة (أو "الإستطاعة") Capability Approach، هى نظرتها الفريدة للإنسان ولدوره فى عملية التنمية. فالإنسان، طبقا لهذه النظرة لا الحكومات أو الهيئات أو آليات السوق، هو العنصر الرئيسى والفاعل الذى به ومن أجله تتم عملية التنمية. فأفراد المجتمع، من منظور سن للتنمية، ليسوا مجرد أناس من ذوى الحاجات الذين ينتظرون فى سلبية من يقضى حاجاتهم بل هم "عناصر فاعلة فى عملية التغيير إذ بمقدورهم، إذا أتيحت لهم الفرصة، أن يفكروا ويقدروا ويقيموا ويبتدعوا الحلول ويثيروا الحماس وبهذا كله يمكنهم إعادة تشكيل العالم" (). وهكذا يلعب أفراد المجتمع عدة أدوار فى مسيرة تقدم مجتمعهم، فهم العنصر الفاعل والمستفيد الرئيسى من نتائجه وهم أيضا من يقيم مدى تحقيق هذه النتائج لآمالهم.
ولم يكن إهتمام هذه المقاربة الفائق بالإنسان، وقناعتها بدوره المحورى فى تنمية المجتمع الذى يعيش فيه، بالملمح الوحيد الذى تميزت به هذه المقاربة. فلقد قدمت هذه المقاربة رؤية غير مسبوقة لكيفية الإرتقاء بحياة الإنسان. وحياة الإنسان، طبقا لهذه المقاربة، هى مجموعة من "الأحوال" Beingsو"الأفعال" Doings التى يثمنها أفراد المجتمع ويتمنوا الوصول إليها أو القيام بها. و"الأحوال" قد تكون بسيطة من قبيل التغذية الجيدة، السكن فى منزل صحى ومريح، التمتع بتعليم جيد، تلقى رعاية طبية جيدة وقد تكون مركبة مثل تحقيق الذات. وبالمثل قد تكون "الأفعال" بسيطة من قبيل إعداد وجبة، التسوق، أو الإنتقال من مكان لآخر. وقد تكون مركبة مثل المشاركة فى العمل السياسى أو الإسهام فى أنشطة المجتمع المدنى. وبالطبع يتعزز رفاه الإنسان بقدر نجاحه فى تحقيق ما يتمناه من أحوال وأفعال. ويقودنا هذا إلى مفهوم جديد هو مفهوم "القدرة (أو الإستطاعة)" التى يمكن تعريفها بأنها ما يمكن للفرد أن يقوم به من "أفعال" أو يبلغه من "أحوال". ويستمد هذا المفهوم قوته من أمران. الأمر الأول هو إرتباط مفهوم "القدرة" بمفهوم "الحرية" إذ يمكن النظر لـ "قدرة الفرد" بوصفها حريته فى تحقيق ما يصبو إليه من أحوال وتنفيذ ما يرغبه من أفعال. وبعبارة أخرى تعكس "القدرة" حرية الفرد فى الإختيار بين ما هو متوفر أو متاح من طرق مختلفة لإدارة شئون حياته. فبقدر تنوع وتعدد الخيارات المطروحة أمام الفرد والمتعلقة بحياته بقدر ما تكون حريته. ولعل عبارة ماركس "إحلال هيمنة الإنسان على الصدفة والظروف محل هيمنة الصدفة والظروف على الإنسان" تعبر أصدق تعبير عما يعنيه مفهوم الحرية فى هذا السياق. أما الأمر الثانى فهو كونها، "القدرة"، حلقة الوصل بين ما هو متوفر من موارد وما هو متحقق فعلا من أحوال وأفعال (إنجازات). فإمتلاكك سيارة (مورد) لايعنى بالضرورة إستطاعتك الذهاب إلى مكان بعينه (إنجاز) مالم تكون قادرا على قيادتها (قدرة). وتتنوع القدرات ما بين "قدرات معرفية" Cognitive Capabilities و"قدرات إجرائية" Procedural Capabilities (David & Lopez, 2001). وتتضمن الـ "قدرات معرفية" كافة أنواع المعارف النظرية والتطبيقية التى يحوذها الفرد. أما الـ "قدرات إجرائية" فتشمل قدرة الفرد على التجديد والإبتكار وحل المشاكل والتكيف بالإضافة إلى قدرته على التواصل والتعاون مع الآخرين. وهكذا تصبح تنمية المجتمع ورفع مستوى الرفاه فيه قائما على زيادة قدرات أفراد المجتمع، بكافة أشكالها، بما يمكنهم من الإستخدام الأمثل لما هو متوفر لهم من موارد.
وبالطبع لايمكن زيادة قدرات الإنسان، ومن ثم تمكينه، إلا بتحريره من ثقافة تعلى من شأن "النقل" على حساب "العقل"، ومن شأن "السلف" على حساب "الخلف"، ومن شأن " الصم (الحفظ)" على حساب "الفهم"، ومن شأن "الإتباع والتقليد" على حساب "الإبداع والتجديد". وبهذا نكون قد عرضنا لأول مكونات الثقافة العلمانية، تمكين الإنسان، على ضوء مدى إسهامه فى تعزيز رفاه الإنسان لتكون مقالتنا القادمة، "المعرفة هى الحل" عن ثانى مكونات هذه الثقافة "أولوية المعرفة البشرية".
() Sen A. K. 2000. The Ends and Means of Sustainability, Key note address at the International Conference on “Transition to sustainability”, Tokyo
المراجع
David, P., & Lopez, J. G. G. 2001. Knowledge, Capabilities and Human Capital Formation in Economic Growth: New Zealand Treasury.
Harrison, L., & Huntington, S. (Eds.). 2000. Culture Matters: How Values Shape Human Progress. New York: Basic Books.
Sen, A. 2003. Development as Capability Expansion. In S. Fukuda-Parr, & A. K. S. Kumar (Eds.), Readings in Human Development: 3-16. New York: Oxford University Press.
السيد, ا. ن. ا. 2012a. الرفاه المُنتظَر والمرجعية المنشودة. الحوار المتمدن, العدد 3952
(25 ديسمبر): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=338134.
السيد, ا. ن. ا. 2012b. العَلمانية كثقافة. الحوار المتمدن, العدد 3673(20 مارس): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=299898.
#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
