أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سالم عمر - قراءة جديدة للنص القرآني ( ج 2 ) .















المزيد.....



قراءة جديدة للنص القرآني ( ج 2 ) .


سالم عمر

الحوار المتمدن-العدد: 4014 - 2013 / 2 / 25 - 20:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ومن الآية ( 40 ) فما فوق إلى الآية ( 102 ) ، يوجه الخطاب إلى بني إسرائيل ، في الوقت الذي كان من قبل قد وُجّهَ إلى الناس ، { يا أيها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلَّكم تتقون } ، وكأنّ بني إسرائيل ليسوا من الناس ؟؟ أو أنّ لهم ميزة خاصة يمتازون بها !! ، وإذا وقفنا أمام الخطاب في الآيات من ( 40 ) فما فوق والذي خُصص لبني إسرائيل ، نجد أنّ النقلة التي حدثت في الخطاب نقلة غير منطقية ، إذ أنّ الخطاب كان يخاطب الناس عامة ، وفجأة انتقل إلى بني إسرائيل ، دون تبيان السبب !!.
ويتّخذ الخطاب صيغ أخرى متعددة ، فمرّة يخاطب بني إسرائيل مباشرة ، ومرّة يأتي في صيغة سرد لموقف محدد ، أو عدة مواقف محددة من مواقف بني إسرائيل ، ويشير النص إلى أن هناك عهدٌ بين الذات المُخَاطِبَة وبين بني إسرائيل : {( يا بني إسرائيلَ اذكروا نعمتي التي أَنعمتُ عليكم وأَوْفوا بعهدي أُفِ بعهدكم وإيَّاىَ فارْهَبُون ) 2 / 40 .
ويتوجّه النص إلى بني إسرائيل ليطلب منهم أن يؤمنوا بما أَنزَلت هذه الذات المُخَاطِبَة ، والذي هو أساسًا مُصدّقًا لما معهم ، ويطلب منهم أن لا يكونوا أولَ كافرٍ به ..... 2 / 41 ، وكأنّه في هذه الآية يتوسّل إليهم بأن يستجيبوا لما طلب منهم ، وتأتي الآيات اللاحقة لتبيّن أن الذات المُخَاطِبَة تُصر على دعوة بني إسرائيل ، والدخول معهم في مساجلة طويلة رغم معرفتها بأنّهم لا يلتزمون لها ، وأنّهم يلبسون الحقّ بالباطلِ ، ويكتمون الحقّ وهم يعلمون ، وأنّهم يدعون الناس إلى البر وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب .... ثُمَّ يشير إلى أنّ الذات المُخَاطِبَة قد فضّلت بني إسرائيل على العالمين ( 2 / 42 ، 44 ، 47 ) ، ألا يثير الاستغراب ، أن تقوم هذه الذات التي تدّعي الإلوهية ، بتفضيل جماعة على العالمين ؟؟ وأيّ جماعة ؟ جماعة لا تلتزم بعهودها ، ولا تتبنّى الحقّ ، وتقتل الأنبياء ؟؟ ، ويستمر الخطاب في سرد فضائل هذه الذات على بني إسرائيل ، "" وإذ نجيّناكم من آل فرعون ... "" ، وإذ فرقنا بكم البحرَ فأ نجيناكم وأَغرقنا آل فرعون ... "" ، "" وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثُمَّ اتخذتم العجلَ ... "" ، "" ثُمَّ عفونا عنكم... "" ( 2 / 49 ، 50 ، 51 ، 52 ) .
أليس غريباً أن يُفضّل بني إسرائيل على العالمين ؟؟ ولماذا فضّلهم بالرغم من أنّه يقول عنهم أنّهم يلبسون الحقَّ بالباطل ويكتموا الحقّ وهم يعلمون ؟؟ ويوجه إليهم الخطاب بقوله : { أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم ، وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ؟؟؟ وهل الذات المخاطِبَة لا تعلم عنهم هذا ؟؟ ، فإن كانت تعلم عنهم ذلك فهي إذن شريكة في ما يفعلونه ، وإن كانت لا تعلم فكيف تدّعي الإلوهية ؟؟ مما يثير الدهشة والاستغراب ما تشير إليه الآية 2 / 54 ، إذ جاء فيها : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئِكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئِكم فتاب عليكم إنّهُ هو التوّاب الرحيم }.... ما هذا الإله الذي يطلب من الناس أن يقتلوا أنفسهم لكي يتوب عليهم ؟؟ وتستمر المساجلة مع بني إسرائيل وتعرض الذات المُخَاطِبَة الجزء الذي تريد الناس أن يطّلعوا عليه من هذه المساجلة ، والذي يجعل الحق معها فتقول : { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً فأخذتكمُ الصاعقةُ وأنتم تنظرون } 2 / 55 ، { ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون } 2 / 56 ، { وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المَنَّ والسلوى كُلوا من طيّبات ما رزقناكم وما ظَلَمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } 2 / 57 .
يكرر النص أنّ الذات المُخَاطِبَة قد أعادة أُناس إلى الحياة بعد أن ماتوا ، وهذا ما لم يؤكّده تاريخ الإنسانية . بل إنّ الوقائع المجرّبة تقطع بنفيه وعدم إمكانية حدوثه بالإطلاق ... ولعل ما تشير إليه الآية ( 2 / 61 ) ، يجعل التناقض في النص أكثر بروزًا ، إذ تأتي هذه الآية لتخبر عن عودة بني إسرائيل إلى مصر بعد أن خرجوا مع موسى فتقول : { وإذ قلتم يا موسى لن نصبرَ على طَعامٍ واحدٍ فادعُ لنا ربَّك يُخرج لنا ممّا تُنْبِتُ الأرضُ ، من بقلها وقثّائِها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ اهبطوا مِصرًا فإنّ لكم ما سألتم وضُرِبَتْ عليهم الذّلَّةُ والمسكنةُ وبآءُوا بغضبٍ من اللهِ ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } 2 / 61 ....
ألأنهم طالبوا بأن يحصلوا على ما تنبتُ الأرضُ ، وأنّهم لن يصبروا على طِعامٍ من نوع واحد مدى حياتهم ... أصبحوا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ويُؤمرون بالهبوط إلى مصر ، وتضرب عليهم الذّلّةُ والمسكنة ،ويُبآءُون بغضب من الذات المُخَاطِبَة ، ويُتّهمون بأنّهم كَفروا بالذات المُخَاطِبَة ، وأنّهم يقتلون النبيين بغير حقّ ؟؟؟ أين ما تدّعيه هذه الذات من العدل ؟؟؟
وتستمر المساجلة بين الذات المُخَاطِبَة وبين بني إسرائيل ، ولكن هذه المساجلة كما عودنا النص الصادر من الذات المُخَاطِبَة تَعرض فقط الشق المتعلّق بموقف الذات المُخَاطِبَة أمّا فيما يتعلّق بالشق الذي يخص بني إسرائيل ، أو أية مجموعة أخرى تدخل هذه الذات معها في مساجلة ، فلا يُعرض في النص ، ومن خصوصية النص وطريقة العرض ، يكون دائمًا جانب الذات المُخَاطِبَة هو الجانب المُحِقّ في حوار المساجلة ، والجانب الآخر هو المدان . فهاهي الآيات ( 2/ 63 ، 64 ، 65 ، 66 ) تقول : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطورَ خُذُوا مآ أتيناكم بقوَّةٍ واذكروا ما فيه لعلّكم تتَقون } ، { ثُمَّ تَوَلّيتم من بعد ذلك فَلَولا فَضْلُ اللهِ عليكم وَرَحْمَتُهُ لكنتم من الخاسرين } ، { ولقد علمتمُ الذين اعتدوا منكم في السبتِ فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين } ، { فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظةً للمتّقين }.
النص يقول أنّ الذات المُخَاطِبَة قد أخذت على بني إسرائيل ميثاقًا ، ولكن بني إسرائيل لم يلتزموا بهذا الميثاق ، ولكن الذات المُخَاطِبَة تفضّلت عليهم ، وإلاّ كانوا من الخاسرين ، وأنّ هناك من اعتدى في السبت ، فمسختهم الذات المُخَاطِبَة وجعلتهم قردةً خاسئين ، وقد هدفت الذات المُخَاطِبَة من المسخ أن يكون نكالاً وعبرة ، وموعظة للمتّقين .
وتستمر المساجلة بين الذات المُخَاطِبَة وبين بني إسرائيل ، ويشير النص إلى أنّ بني إسرائيل قد قتلوا نفساً وأخذوا يدارون بعضهم على بعض ، فطلبت الذات المُخَاطِبَة منهم ذبح بقرة ، فأخذوا يراوغون موسى في ما هي هذه البقرة ، وما لونها ، وعمرها ، وصفاتها ، وأخيراً ذبحوا البقرة ، فقيل لهم أضربوا القتيل ببعضها ، فقام الميت ، وأخبر عمّن قتله ... وتستمر المساجلة ، وفجأة يأتي الخطاب موجه إلى المجهول ، ويتّخذ صيغة القصص السردي فيقول : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيلَ لا تعبدون إلاّ اللهَ وبالوالدينِ إحسانًا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناسِ حُسنًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثُمَّ توليتم إلاّ قليلاً منكم وأنتم معرضون } 2 / 83 ، النص في بداية الآية ، نص إخباري عام " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ..." ضمير المتكلّّم يشير إلى أنّ المتكلّم هو الذات المُخَاطِبَة ولكنّه لم يستخدم ضمير الغائب للمجموعة المُخَاطَبَة فهو لم يقل : ( أن لا يعبدوا ) ، بل قال : ( لا تعبدون ، ... وقولوا للناس بدلاً من يقولوا .... وأقيموا الصلاة ، بدلاً من يقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة بدلاً من يُؤتوا الزكاة ثُمَّ توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون ) ، كان يستخدم ضمير المخاطب الجمعي ليوجه إليه الخطاب .. "ثُمَّ توليتم .. " { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تُخرجون أنفسكم من دياركم ثُمَّ أَقررتم وأَنتم تشهدون } 2 /84 ، { ثُمَّ أَنتم هؤلاء تَقتلون أَنفسكم و تُخرجون فريقاً منكم من ديارهم تَظاهرون عليهم بالإثمِ والعدوان وإن يأتوكم أُُسارى تُفادوهم وهو مُجرّمٌ عليكم إخراجهم أَفتؤمنون ببعض الكتابِ وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزىُُُ ُ في الحياة الدنيا ويومَ القيامة يُرَدون إلى أَشدِّ العذاب وما الله بغافلٍ عمَّا تَعملون } 2 / 85 ، الخطاب هنا موجّه إلى جمع المخاطب ، فلماذا هذا الارباك في السياق النصي ؟؟ ثُمَّ يعود ليستخدم اسم الإشارة للغائب ، وضمير الغائب الجمعي في ( اشتروا ، يُخَففُ ، عنهم ، هم يُنصرون ... فلماذا هذا الإرباك في الخطاب { أُولئكَ الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يُخَفَّفُ عنهم العذاب ولا هم يُنصرون } 2 / 86
وتستمر المساجلة على النحو الآتي : { ولقد آتينا موسى الكتاب وقفَّينا من بعده بالرسلِِ وآتينا عيسى بن مَريَمَ البيّنات وأَيّدناه بروح القدس أَفكُلّما جآءَكم رسولٌ بما لا تهوى أَنفسكم استكبرتم ففريقًا كذّبْتُمْ وفريقًا تقتلون } 2 / 87 ، ولأوّل مرّة يورد النص قولٌ للطرف الآخر في المساجلات التي جرت بين الذات المُخَاطِبَة وبين بني إسرائيل ، فها هي الآية ( 88 ) تقول : { وقالوا قُلُوبنا غُلْفٌ بل لعنهم اللهُ بِكُفْرِهِمْ فقليلاً ما يُؤمنون } 2 / 88 ، { ولمّا جآءَهُم كتابٌ من عند الله مُصدّقُُُ ُ لما معهم وكانوا من قبلُ يستفتحون على الذين كفروا فلَّمّا جآءَهُم ما عرفُوا كفروا به فلعنةُ اللهِ على الكافرين } 2 /89 .
{ بئسما اشتروا بهِ أَنفسَهُم أن يكفروا بما أَنزلَ اللهُ بغيًا أَن يُنْزِلَ اللهُ من فضلِه على من يشاءُ من عبادهِ فبآءُوا بغضَبٍ على غضَبٍ وللكافرين عذابٌ مهين } 2 / 90 ، { وإذا قيلَ لهم آمنوا بمآ أَنزَلَ اللهُ قالوا نُؤمنُ بمآ أُنْزِلَ علينا ويكفرونَ بما وراءه وهو الحق مصدّقًا لما معهم قل فََلِمَ تقتلون أَنبياءَ اللهِ من قبلُ إن كُنتم مُؤمنين } 2 / 91 ، { ولقد جاءكم مُوسى بالبيّنَات ثُمَّ اتخذتمُ العجلَ من بعدهِ وأنتم ظالمون } 2 / 92 ، { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطورَ خذوا مآ آتيناكم بقوّة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأُشْرِبوا في قلوبهمُ العجلَ بكفرِهم قل بئسما يأمُرُكُم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين } 2 / 93 ، ويتوجّه الخطاب إلى ذاتٍ مُخَاطَبَةٍ فيقول: { قل إن كانت لكم الدار الآخرةُ عند اللهِ خالصةًً من دون الناس فتمنّوا الموتَ إن كنتم صادقين }2 /94 ، { ولن يتمنّوهُ بما قدّمت أيديهم واللهُ عليمٌ بالظالمين } 2 / 95 ، ولتجدَنَّهم أَحرص الناسِ على حياة ومن الذين أشركوا يودُّ أََحَدُهُ لو يُعمَّرُ أَلفَ سنَةٍ وما هو بمزحزحهِ من العذاب أن يُعَمّرَ واللهُ بصيرٌ بما تعملون } 2 / 96 ، ... ويستمر النص في وصف سلوكيات بني إسرائيل تجاه ما دعتهم إليه الذات المُخَاطِبَة ، فيتحدّث عن نقضهم العهود ، وعدم إتباع الأنبياء ، وإذا جاءهم رسولٌ مصدّقا لما معم نبذ فريق من الذين أُوتوا الكتاب كتاب الله ورآءَ ظهورهم كأنّهم لا يعلمون ... ثُمّ يتحدّث النص عن إتباع بني إسرائيل شياطين ملك سليمان ، ويتحدّث عن الملكين ببابل ، وكيف يتعلّمون منهم ما يضرّهم ولا ينفعهم ...
أي قارئ لا يمكنه إلاّ أن يلحظ أنّ الذات المخاطبة ،تعيش صراع ممزوج بالندم مع بني إسرائيل ، فهي قد علّقت آمال على بني إسرائيل ولكنّهم خذلوها ، وهي هنا تريد أن تستقطبهم ، ولكنّهم لم يستجيبوا ، وفي المساجلة نجد النّص يشهّر بهم ، ولكنّه يترجّى استجابتهم فلا يسع الباحث والقارئ إلاّ أن يبدي استغرابه من موقف الذات المُخَاطِبَة هذا تجاه بني إسرائيل ، والذي يلحظه الباحث والقارئ أنّ النصّ يُصاغ في مكانٍ ما خارج الجزيرة العربية وقد يكون بعض اليهود مشاركين في هذه الصياغة ، لهذا طالت المساجلة مع بني إسرائيل على أمل أن يستجيبوا ولكن دون جدوى .
يتوجّه الخطاب من جديد إلى أُناس غير بني إسرائيل ، ويسميهم الذين آمنوا وقد جاء النص ليدلّ على أنّه يقصد المسلمين : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذابٌ أَلِيم } 2 /104 ، { ما يودُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أَن ينزّلَ عليكم من خير من ربِّكم واللهُ يختصُّ برحمته من يشاء والله ذُو الفضلِ العظيم } 2 / 105 .
إنّ قراءة الآيتين أعلاه تؤكّد أنّ هذا الإله لا يختلف عن الإنسان في شيء ، سوى أنّه يدّعي الإلوهية ، وكُلّ وعوده غير محسوسة ... وإلاّ كيف يمكن أن يطلب من الذين آمنوا أن لا يقولوا ( راعِنا ، بل يقولوا أظرنا ، ويسمعوا ) ؟؟؟ نعم هو يريد من الناس أن يخضعوا له بالعبودية ، وبصورة تكشف عن التضرّع والاستجداء ، والخنوع ، ثُمَّ هو يقول إنّ الذين كفروا من أهل الكتاب ( = اليهود والنصارى ) ، والمشركين ما يوَدّون أن يُنَزّلَ على الذين آمنوا من خيرٍ من ربّهم ، وفي هذا الجزء من الآية لم يأت بجديد ، إذ أنّ الذين لم يتبنّوا ما جاءت به الدعوة الإسلامية ، هم أعداء ، ولا يوجد في التاريخ ، ولا في الوجود أن يكون العدو يتمنّى الخير لعدوه !! ، أمّا في الجزء الثاني من الآية ، فالنص يكشف أنّ هذا الإله يتصرّف بمزاجية ، وعندما تروق له جماعة ، أو جماعات يصطفيها ، ويخصّها بعطاياه ، وبرحمته ، وبغفرانه بالرغم من أنّ هذه العطايا ، وهذه الرحمة ، وهذا الغفران ، هو في المجهول ، ولا يتعدّى الوعد بعد الموت ، ومن يعلم مدى صحّة هذا الوعد ؟؟ ، ويحرم أية جماعة أو جماعات لا تروق له ... وهذا يتنافى مع صفة الإلوهية ، فالإله إنما هو إله الجميع ، ويجب أن يكون عادلاً تجاه الجميع لا يميّز أحد دون آخر ... وهذا ما يعيب النص في الآيتين . ولعلّ هذا ما برّرَ للحكام المسلمين ، ولا زال المسلمين جميعهم يعتبرون التمييز بين بعضهم البعض ، وتعالي بعضهم على بعض ، واستهجان بعضهم لبعض ، من تعاليم دينهم ... وقد يكونوا محقين ، ولكن لماذا يتكلّمون عن العدل ، وعن المساواة ، وكيف يفهمونها ؟؟ ، بل إنّ النص بمجمله منذ الآية الأولى وحتى الآية ( 105 ) من سورة البقرة قد تضمن الكثير من التناقضات المنطقية ، وغير المنطقية ، وقد تضمّن موقفًا خطيرًا ، وخطيرًا جدّا ، هذا الموقف هو : { النص مطلق في صحته ، وكُلُّ ما عداه باطل ، ومن لم يتقبّل هذا النص دون مناقشة ، ودون حتّى التجرّؤ على التفكير فيه ، فيجب أن يقتل ، وهذا موقف عنصري ، لا يظاهيه إلاّ موقف اليهودية في عنصريتها تجاه الآخرين ، فهل هناك رابط يا ترى بين النص ، والدين الذي جاء به وبين اليهودية ؟؟ .
وينتقل النص ليخاطب ذاتًا مُفْرَدَةً منوّهًا إلى أنّ هناك عملية نسخ ، وإنساء لبض الآيات ، وأنّ هذه العملية إذا حدثَ وتمّت فإنّ الآيات البديلة هي إمّا خير من تلك التي نُسِخت أو أُنسيت ، وإمّا مثلها ... وهنا يشير النص إلى أنّه قد تحدث عملية نقد تقتضي إلغاء بعض الآيات ، أو قد تُنسى بعض الآيات ، ولكن البديل هو خير ، أو مثل السابق .. ويؤكّد الخطاب إلى أنّ الإله على كُلِّ شيءٍ قدير ... 2 / 106 ، والحقيقة أنّ النسخ أو الإنساء قد يكون محاولة للتصحيح ، ولكن لم يقدّم لنا هذا النص ، أية آية وكيف نسخها ، أو أنساها ، وما البديل الذي جاء ليحل محلّها ؟؟
ويتوجّه الخطاب إلى ذات مفردة وإلى ذات جمعية دون أن يفصل بينهما فمرّة الخطاب إلى المفرد ( ألم تعلم ؟؟ ومرّة إلى الجمع : مالكم من دون الله ... ) ، في صيغة لوم استفساري فيقول : { أَلم تعلم أنّ اللهَ لهُ مُلْكُ السماوات والأرض وما لكم من دونِ اللهِ من وليٍّ ولا نصير } 2 / 107 ، { أَم تريدون أَن تسألوا رسولكم كما سُئلَ موسى من قبلُ ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضَلَّ سوآءَ السبيل } 2 / 108 . أَليس هذا إصراراً على أنّ لا تُسأل الذات المُخَاطِبَة ولا يُستفسر عمّا تهدف إليه في خطابها ؟؟؟
ويأتي الخطاب في الآيات من ( 109 ــ 121) في صيغة إخبارية وتوجيهية لرواية خبر عن من أسماهم أهل الكتاب ، فيقول : { وَدَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كُفَّارًا حَسَداً من عندِ أَنفسهم من بعد ما تبيّنَ لهم الحقُّ فاعفوا واصفحوا حتّى يأتيَ اللهُ بأَمرهِ إنّ الله على كُلِّ شيءٍ قديرُُُ ُ } 2 / 109 ، وبعد الإخبار عن ما كان يضمره الكثير من أهل الكتاب تجاه الذين يتوجه إليهم الخطاب بمنعهم من أن يسألوا رسولهم كما سُئلَ موسى من قبل ، يأتي التوجيه بأن أعفوا واصفحوا حتى يأتيَ الله بأمره إنّ الله على كُلِّ شيءٍ قدير ، وهنا يبرز الأسلوب السياسي في التربية التوعوية إذ يشي الخطاب بأن الأمر يتطلّب ضبط النّفْس ، وطول النّفََسْ في التعامل مع الآخر ، وأن أي تحرّك عملي في المواجهة يجب أن يكون قد وافقت عليه القيادة العليا . ويستمر التوجيه بالآتي :{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تُقدّموا لأنفسكم من خير تجدونه عند الله إنّ الله بما تعملون بصير } 2 / 110 ، ويأتي إخبار صريح عن مواقف اليهود والنصارى : { وقالوا لن يدخلُ الجنَّةَ إلاّ من كان هودًا أَو نصارى تلك أَمانيهم قُل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } 2 / 111 ، ويكمل النص بتكذيب إدّعاء هم فيقول : { بلى من أَسلَمَ وَجههُ للهِ وهو محسنٌ فله أجرُهُ عندَ ربِّهِ ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون } 2 /112 ، ثُمَّ يتواصل الإخبار عن اليهود والنصارى ، ومن اتبعهم فيقول : { وقالت اليهود ليست النصارى على شيءٍ وقالت النصارى ليس اليهودُ على شيءٍ وهم يتلون الكتابَ كذلك قال الذين لا يعلمون مِثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } 2 / 113 . ثُمَّ يشير الخطاب إلى أنّ هذه الجماعات ( = اليهود ، والنصارى ) هي من أكثر الجماعات ظُلماً ، وهم مثْلُ أولئك الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه :{ ومن أظلمَ ممن منع مساجدَ اللهِ أن يُذْكَرَ فيها اسمُهُ وسعى في خرابها أُولئك ما كان لهم أَن يَدْخُلُوها إلاّ خائفينَ لهم في الدنيا خِزْىُُُُ ُ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم } 2/ 114 . { ولله المشرقُ والمغرِبُ فأينما تُولُّوا فَثَمَّ وجهُ الله إنّ الله واسعٌ عليم } 2 / 115 . وواضح أنّ الآية ( 114) جاءت لتذكر اليهود والنصارى بما فعله ططلوس الرومي في بيت المقدس ، وما فعله بختنصر البابلي في بيت المقدس ، عندما خرّبوا بيت الله ، ومنعوا أن يذكر فيه اسمه ، وكأنها تذكّرهم بأنّ مواقفهم ( اليهود والنصارى ) من الإسلام ، لا يقل عن موقف أولئك الذين خرّبوا بيت المقدس من قبل ، وتشير إلى أنّ موقف قريش من الرسول ودعوته لا يقل عن موقف أولئك الذين دمّروا بيت المقدس ، وتستنكر على اليهود والنصارى أن يقفوا مؤيّدين لمواقف قريش ، ومعاديين لمواقف المسلمين .
ويتّجه الخطاب إلى المسلمين فيقول : { ولله المشرقُ والمغرِبُ فأينما تُولُّوا فَثَمَّ وجهُ الله إنّ الله واسعٌ عليم } 2 / 115 . ويستمر الخطاب مبيناً مدى طغيان اليهود والنصارى ، وتماديهم في غيّهم ، مبيناً أنّ هذا الموقف ليس من اليوم ، وإنّما هو موقفهم منذ بداية تاريخهم فيقول :{ وقالوا اتخذَ اللهُ ولدًا سُبحانه بل له ما في السماوات والأرض كُلٌّ له قانتون } 2 /116 . { بديع السموات والأرض وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون } 2/ 117 . { وقال الذين لا يعلمون لولا يُكَلّمنا اللهُ أو تأتينا آيةٌ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بيّنا الآيات لقومٍ يُوقنون } 2 / 118 . ويتّجه الخطاب مباشرة إلى ذات مفردة ويخاطبها كأنّها حاضرة أمام الذات المُخَاطِبَة ، والمقصود هنا الرسول محمد ، ويأتي نص الآية على النحو الآتي : -
{ إنّا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تُسئلُ عن أصحاب الجحيم } 2 / 119 . { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم قل إنّ هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من وليٍ ولا نصير } 2 / 120 . { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقَّ تلاوته أُولئكَ يُؤمنون به ، ومن يكفر به فأُولئك هم الخاسرون } 2 / 121.
واضح إنّ هذه الآيات جاءت لتطمئن الرسول والمسلمين ، وتبيّن لهم مواقف اليهود والنصارى التي هي ليست مواقف جديدة ، وإنّما هي مواقف منذ بداية تاريخ اليهود والنصارى ، وهذه المواقف قد سبق وأن أُتخذ ت مواقف قبلها من قوم قبلهم أو مثلها من قوم لا يعلمون ، ويحمل خطاب هذه الآيات توجيهاً إلى المسلمين بأن عليهم أن يتحلّوا بطول النفس ، وأنّ مسألة التوجه إلى ربّهم هي مسألة تخصّهم وحدهم ، وهم أينما يولوا فثمَّ وجه ربّهم ، والرسول قد أُرسل مبشّراً ونذيراً ، ولا يُسأل عن أصحاب الجحيم . وواضح أنّ المسلمين والرسول ، ويمكن القول إنّ الذات المُخَاطِبَة هي في الواقع ذات توجد خارج الجزيرة العربية ، وقد تكون ذاتاً جمعية ، أو مفردة ، المهم أنّها هي التي تقود الحوار مع اليهود والنصارى ، وهي التي تُملي على الذين استجابوا للدعوة نوعية المواقف التي يجب أن يتّخذونها تجاه اليهود والنصارى . وقد كانت هذه الذات الخارجية تراهن على مواقف مؤيدة من اليهود والنصارى ، وكانت تأمر الذين استجابوا للدعوة أن يساسوا اليهود المتواجدين في الجزيرة العربية وعندما اصطدموا بهذه المواقف الغير متوقعة من اليهود والنصارى ، والتي كانت مواقف معادية للإسلام ، فجاءت هذه الآيات لتخبر بأنّ اليهود والنصارى لن يقفوا إلى جانبهم إلاّ إذا اتبعوا ملتهم ، وتهدد بالعقاب إن هم اتبعوا ملة اليهود أو النصارى .والحقيقة إنَّ ما نصّت عليه الآية ( 120 ) ، وخاصة آخرها يشي بأنّ الذات المُخَاطِبَة قد قررت القطيعة مع اليهود والنصارى وذلك في قولها : { ... ولئن اتبعت أَهواءَهم بعد الذي جآءك من العلم مالك من اللهِ من وليِّ ولا نصير } . وتؤكّد الآية ( 121 ) على إنّ الذين أُتوا الكتاب من قبل الذات المُخَاطِبَة واستوعبوه هم الذين يؤمنون بهذا الكتاب ، ومن يكفر به فأُولئك هم الخاسرون : { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته أُلئك يؤمنون به ومن يكفر به فأُلئك هم الخاسرون }. هذا يشير إلى أنّ الدعوة الإسلامية وما أتت به من كتاب ، أي القرآن ، هو موقف فكري شامل ، وهو عبارة عن جهد جماعي يمثّل تقييم لكلِّ ما قبله ، وتصحيح لما حصل قبله من انحرافات في جميع الديانات التي يُطلق عليها ( سماوية ) .
يعود الخطاب ليوجّه إلى بني إسرائيل ليطلب منهم أن { يذكروا نعمتها عليهم ، وكيف أنّها فضّلتهم على العالمين ، وتحذّرهم من يوم لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً ، ولا يقبل منها عدل ولا شفاعة ولا هم يُنصرون }، وهذا يكشف مدى عمق الحب والغرام بين الذات المُخَاطِبَة وبين بني إسرائيل . فهي دائما توجه لهم النصح وتطلب منهم أن يبتعدوا عن العذاب الذي يُنتظر في يوم الحساب .
وتأتي الآيات من ( 124 ــ 134 ) لتتحدّث عن إبراهيم ودينه ، وكيف اختارته الذات الإلهية ( أي الذات المُخَاطِبَة ) ليكون إماماً للناس ، وقد طَلَبَ إبراهيم من ربّهِ أن تكون إمامة الناس بعده لذريّته ، ولكن الذات الإلهية ، أي الذات المخاطبة ، رفضت التوريث ... وتؤكد الذات المُخَاطِبَة أنّها قد اختارت البيت مثابة للناس وأمناً ... وعهدت إلى إبراهيم وإسماعيل لتطهير البيت ... يشير النص إلى أنّ إبراهيمَ وإسماعيل قد توسلا إلى الذات المخاطبة وطلبا أن تجعلهما ، وذريتهما مسلمين ، وطلبا أن تُبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آيات الذات المُخَاطِبَة ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم ويؤكّد النص أنّ ملّةَ إبراهيم هي الملّة الصحيحة ، وقد وصّى إبراهيم بنيه ويعقوب بأن لا يموتنً إلاّ وهم مسلمون والنص يشي بالطعن في مصداقية النصوص التي بين يدي اليهود والنصارى ، كما يشكك في يهودية إبراهيم ، ويؤكّد إسلام إبراهيم .
وتلخص الذات المُخَاطِبَة الموقف الذي يجب على الرسول محمد وأتباعه أن يتّخذوه من اليهود في الآتي : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قُلْ بَلْ مِلّةَ إبراهيمَ حنيفاً وما كان من المشركين } 2/ 135 . { { قولوا آمَنَّا باللهِ وما أُنْزِلَ إلينا وما أُنْزِلَ إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأِسباطِ وما أُتِيَ موسى وعيسى وما أُتِيَ النّبيون من ربّهم لا نفرّقُ بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون } 2 / 136 .
هاتان الآيتان تشيان بأنّ الأمر قد صدر إلى الرسول محمد ومن اتبعه ، بأن يقفوا من اليهودية والنصرانية موقف الرفض النهائي لهتين الديانتين ، وأن يشككا في انتساب هاتين الديانتين إلى موسى ، وعيسى ، وينكروا أن تكون للديانتين ( اليهودية ، والنصرانية ) أيةَ صلة بدين إبراهيم وأبناءه ومن اتبعهم ، ويشيروا إلى أنّ اليهود والنصارى بدياناتهم التي هم علها عند ظهور الإسلام ، هي ديانات محرّفة ، وأنّ الإسلام قد أتى ليصحح ما حدث من تحريف ، وتشير الآيات إلى انّ الإسلام هو الدين الذي يستند إلى دين إبراهيم بصورة صحيحة . ولهذا بعد إيراد الآية ( 136 ) من سورة البقرة ، تأتي الآيات التي تؤكّد أن على الرسول محمد ون اتبعه أن يتمسكوا بدينهم ، فإن آمن اليهود والنصارى بمثل ما آمن الرسول محمد وأتباعه وهو النص الذي جاء في الآية ( 36 ) ، فيكون اليهود والنصارى قد اهتدوا ، وإن تولوا فهم في شقاق ، والله سيكفي الرسول وأتباعه أي شقاق يثيرونه .
وتأتي الآيات ( 139 ـ 140 ) لتزوّد الرسول وأتباعه بالرد الذي قررته الذات المُخَاطِبَة : { قُلْ أتُحاجوننا في الله وهو ربُّنا وربُّكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن لهُ مخلصون } ، { أم تقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قُلْ أأنتم أعلمُ أَمِ اللهُ ومن أَظلمُ ممَّن كَتَمَ شهادةً عنده من اللهِ زما اللهُ بغافلٍ عمَّا تعملون } .
ويتّضح إنّ هذا الجدل مع بني إسرائيلَ ومع النصارى إنّما كان بصدد القبلة التي يجب أن يتّجه إليها المسلمون ، ويولّون وجوههم في أوقات الصلاة والدعاء إليها ومن أسلوب النص وطريقة ورود الآيات ، والتغير الذي يحدث في الذات المُخَاطَبَة ( مرّة ذات مفردة ، ومرّة ذات جمعية ، ومرّة تقوم الذات المُخَاطِبَة نفسها بالجدل مباشرة يُستَنْتَجْ أنّ الذات المُخَاطِبَة ، هي ذات خارج الجزيرة العربية ، وما الرسول محمد إلاّ متلقي ومنفّذ لما يُملى عليه ، وقد كانت الذات المُخَاطِبَة تشترط على اليهود والنصارى أن يتقبّلوا الدعوة التي جاء بها الرسول محمد ، وإلاّ ستغيّر اتجاه القبلة عن بيت المقدس ، الذي يتّخذه اليهود والنصارى قبلة يتّجهون إليها ، وفي النهاية حسمت الذات المُخَاطِبَة الأمر ووجهت الرسول محمد وأتباعه ليتّخذوا من كعبة مكة قبلة لهم ....
ويتّضح هذا من الآيات التالية أن الأمر كان يدور حول القبلة التي يجب على المسلمين أن يتّجهوا إليها .... { قد نرى تقلّب وجهك في السماءِ فَلَنُوَلّيَنَّك قبلةً ترضاها فَوَل وجْهكَ شطْرَ المسجد الحرام وحيثُ ما كنتم فوَلّوا وجوهَكم شَطْرَهُ وإنّ الذين أُتوا الكتاب لَيَعلَمون أَنّهُ الحقُّ من ربّهم وما اللهُ بِغَافِلٍ عمّا يعملون }2 / 144 . { ولئن أَتيت الذين أُتوا الكتاب بكلِّ آية ماتَبِعوا قبلتكَ ومآ أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعضٍ ولئن اتبعت أهوآءَهم من بعد ما جاءكَ من العلم إنّك إذاً لمن الظالمين } 2 / 145 . ولعلّ ما يؤكد استنتاجنا بأنّ الجدل الطويل الذي دار بين بني إسرائيل وبين الذات المُخَاطِبَة , واستغرق أكثر من ( 100 ) آية من هذه السورة , إنّما كان بهدف استمالة اليهود والنصارى إلى قبلول الدعوة الإسلامية ، وكانت مسألة تحويل الكعبة من بيت المقدس إلى مكة ما هي إلاّ وسيلة ضغط من قبل ممثلي الدعوة الإسلامية على من أطلقوا عليهم أهل الكتاب . وها هي الآية ( 142 ــ 143 ) تنص على الآتي : { سيقول السفهاءُ من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قُلْ لله المشرقُ والمغربُ يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيم } , { وكذلك جعلناكم أمّةً وسطًا لِتكونوا شُهِدآءَ على الناس ويكون الرسولُ عليكم شَهِيدًا وما جعلنا القبلة التي كُنتَ عليها إلاّ لِنعلَمَ من يتّبعُ الرسولَ ممَّن ينقلِبُ على عقبيه وإن كانت لكبيرةً إلاّ على الذين هدى اللهُ وما كان اللهُ ليضيعَ إيمانكم إنّ اللهَ بالناس لرءُوفٌ رحيم } .
الغريب في هذا أنّ هذه المساجلة الطويلة التي استغرقت أكثر من ( 100 ) آية يدور حول إقناع بني إسرائيل ، وأتباع المسيح بقبول الدعوة الإسلامية ، مما يثير سؤال مهم جدّا : أين الذات المُخَاطِبَة التي تدّعي أنّها هي التي خلقت الناس ، وخلقت السماوات والأرضَ وما بينهما ، وأنزلت الماء من السماء لتنبت به من الثمرات ، وهي التي تميت الناس وتحييهم وهي عالمة بكل شيء ....إلخ . أين هذه الذات لماذا لم تجعل اليهود والنصارى يقبلون بالدعوة الإسلامية ، وتجنّب البشرية كُلِّ هذه الأرواح التي ذهبت في الحروب ؟؟؟ ، وأيضاً تُجنّبْ البشرية كُلِّ هذه المعاناة التي عانتها وتعانيها من جراء الاختلاف الديني العقائدي ؟؟؟ ، والأغرب أنّ الآية ( 143 ) تنص على أنّ إشكالية القبلة التي كان قد اتبعها المسلمون ، ومن ثُمَّ عدلوا عنها ، كانت بهدف أن تعلم هذه الذات المُخَاطِبَة من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه ؟؟؟ ، أليست هذه الذات هي الذات التي تقول عن نفسها أنّها بكل شيء عليمة ؟؟؟ ، أليست هي التي قالت للملائكة أنّها تعلم غيب السماوات والأرضِ وتعلم ما كانوا يكتمون ؟؟؟ فكيف لم تعلم من يتّبع الرسولَ ومن ينقلب على عقبيه إلاّ بمسألة القبلة ، وجعل الناس يتصارعون وتذهب في ذلك أرواح ، ويتعرّض الناس لمعاناة ؟؟؟ فما الذي يبرر ذلك ؟؟؟.
ويأتي الخطاب موجهًا من قبل الذات المُخَاطِبَة للذين آمنوا وفي هذا الخطاب تقدّم لهم معرفة ، وتوجيه فيما يتعلّق بالقبلة الجديدة ، ( المسجد الحرام ) ، فتقول : { الذين أَتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم وإنّ فريقاً منهم ليكتمون الحقَّ وهم يعلمون } 2 / 146 ، { الحقُّ من ربِّكَ فلا تكن من الممترين } 2 / 147 , { ولكلِّ وجهةٌ هو مولِّيها فاستبقوا الخيرات أَين ما تكونوا يأتي بكم اللهُ جميعاً إنّ الله على كلِّ شيءٍ قدير } 2 / 148 ،{ ومن حيثُ خرَجتَ فَوَلِّ وجهكَ شطْرَ المسجدِ الحرامِ وإنّه للحقُّ من ربّكَ وما اللهُ بغافلٍ عمّا تعملون } 2 / 149 ، { ومن حيثُ خرجتَ فوَلِّ وجهك شطْرَ المسجدِ الحرامِِ وحيث ما كنتم فَوَ لّوا وجوهكم شَطْرَهُ لِئَلاّ يكون للناس عليكم حُجّةٌ إلاّ الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم وَاخشوني ولأتمَّ نعمتي عليكم ولعلّكم تهتدون }2 / 150 ، { كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلُوا عليكم آياتنا ويُزكّيكم ويُعلّمكم المتابَ والحكمةَ ويُعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون } 2 / 151 ،{ فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } 2 / 152 ،{ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إنّ الله مع الصابرين } 2 / 153 .
ومن التوجيهات التي تضمنها النص : الأمر الذي أصدرته الذات المُخَاطِبَة للمؤمنين ، بأن لا يقولوا لمن يُقتلُ في سبيل الله ، ( أي في سبيل الذات المُخَاطِبَة ) ، أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن ـ أنتم ، الذات المُخَاطَبَة ـ لا تشعرون . ومن التوجيهات أيضاً حثّ المؤمنين على الخنوع والاستكانة ، وتبين لهم نمط الإخلاص للذات المُخَاطِبَة ، فيقول النص : { ولَنَبْلُوَنّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقص في الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ وبشّر الصابرين } 2 / 155 ، { الذين إذآ أَصابتهم مُصِيبَةٌ قالوا إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون }2 / 156 ، { أُولئك عليهم صلواتٌ من ربِّكَ وَرَحمةٌ وَأُولئكَ هم المهتدون } 23 / 157 .
إنّ النصّ في الآيات السالفة يشي بأنّ الذات المُخَاطِبَة تطلب من الناس أن يتخلّوا عن إرادتهم ، وأن يُستلبوا في جميع تصرّفاتهم ، ويتركوا لها الحرية في أن تسلبهم إرادتهم ، وكُلّما استجابوا للاستلاب والتغريب كُلّما رضيت عنهم وهذا ما تدلٌ عليه الآيات ( 155 ، 156 ، 157 ) .
الغريب أنّ ميزة الاضطراب في النص ، هي ميزة ملازمة للنص القرآني على الدوام ، وها نحن نلتقي في الآية ( 158 ) ، إشارة إلى أنّ الصفا والمروة من شعائر الله ، أي أنّها من الشعائر التي يجب أن تؤدى عند قيام الإنسان بالحج ، أو العمرة ... ، وفجأة تأتي الآيات اللاحقة لتنبئنا بأنّ الذين يكتمون مآ أنزلت الذات المُخَاطِبَة من البينات والهُدى من بعد ما بينته للناس في الكتاب أُلئكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون . وتستثني الذات المُخَاطِبَة الذين تابوا وبينوا ما كانوا قد كتموه ، وتؤكّد إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ أُلئكَ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وتصفهم بأنّهم خالدين فيها ( ماهي ؟ هل هي اللعنة ؟ ، أم شيء آخر ؟ ) ولا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون . وتنهي الفِقرة بالآية ( 163 ) ، : { وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إلهَ إلاَّ هو الرحمن الرحيم } .
ما العلاقة بين أن يكون الصفا والمروة من شعائر الله وبين الذين يكتمون ما أنزلت الذات المُخَاطِبَة ؟ ، وما هي العلاقة بين الصفا والمروة وبين الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ ؟
وبعد التأكيد على أنّ الإله واحد تأتي الآية ( 164 ) لتخبر أنّ في المحيط المادي الذي يعيش فيه الإنسان آيات للقوم الذين يعقلون : { إنّ في خلق السماواتِ والأرضِ واختلاف الليل والنهارِ والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ومآ أَنزَلَ اللهُ من السماءِ من ماءٍ فأَ حيا بهِ الأرضَ بعد موتها وبَثَّ فيها من كُلِّ دابةٍ وتصريف الرياح والسحاب المسخّرِ بين السماءِ الأرضِ لآياتٍ لقوم يعقلون } 2 / 164 .
هذه الآية تشير إلى أنّ الذين لديهم عقل عليهم أن يُفكّروا في كُلِّ تلك الأمور التي وردت في الآية ، ولكن صياغة الآية أتت لتعمّق الاستلاب الذي يُعاني منه الناس في حياتهم ، فهي تؤكّد أن كُلَّ ما أشارت إليه هو من صُنع ما تُطلق عليه الذات المُخَاطِبَة ( الله ) ، وأنّ كُلَّ ذلك لا يحكمه قانون وليس للإنسان فيه أي تأثير ، وهذا ( الله ) يفعل كُلَّ ذلك دون أن يعيقه شيء ، فإن أراد هذا فعله ، وإن أراد ذاك فعله ، لا بل هو فقط يُصدر أمراً { إنّما أمره إذا أَراد شيئاً أن يقولَ له كن فيكون } 36 / 83 .
و ناني الآية ( 165 ) لتتحدّث عن وجود بعض من الناس الذين يتّخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله وتتوعدهم ، يوم يرون العذاب لتؤكّد أنّ القوة للهِ جميعاً وأن الله شديد العذاب . ويستمر النص في سرد أمثلة للوعد والوعيد : { إذ تَبَرّأَ الذين اتُّبِعُوا من الذين اتَّبَعوا ورأوا العذاب وتَقَطَّعَتْ بهمُ الأسباب } 2 / 166 ، { وقال الذين اتَّبَعوا لو أَنّ لنا كرّةً فَنَتَبَرَّأَ منهم كما تَبَرَّءوا مِنَّا كذلك يريهم اللهُ أعمالهم حسراتٍ عليهم وما هم بخارجين من النار ِ } 2 / 167 .
وتتوجه الآيات ( 168 ، 169 ) بالنصح للناس أن يأكلوا مِمَّا في الأرضِ حلالاً طَيّبًا ، وأن لا يتّبعوا الشيطانِ إنّه لهم عدوٌ مُّبين ، وتضيف الآية ( 169 ) إنّ الشيطان يأمر بالسءِ والفحشاءِ وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون .
هاتان الآيتان تؤكّدان تعميق الاستلاب ، فهي تطلب من النأس ن يأكلوا مما في الأرض !!! فهل أتت بجديد ؟؟ نعم أتت بجديد .. لقد أوهمت الناس بأنّ هناك من يملك أن يقول للأرضِ أن تقدّم أو لا تقدّم ما فيها ، وأنّ الناس لا يملكون أي تأثير في تهيئة ، وإنتاج ما تقدّمه الأرض ، وهذا هو الاستلاب ، التغريب عن الطبيعة الإنسانية وإنقاص من القيمة الإنسانية ... كما تقول لهم أن لا يتّبعوا الشيطان فهو عدوّهم !!! إذن الناس في كُلِّ الحالات لا يملكون من أمرهم شيئاً فهم إمّا أن يكونوا تُبّعاً للشيطان ، وهو عدوهم ، وإمّا أن يكونوا عبيداً لله ، الذي يُسيّرهم كيف شاء ، وإنّهم لن يفلحوا إلاّ في حالة واحدة فقط ، هي حالة الخضوع التام لله ، على أن يكون هذا الخضوع يتمثّل في تخليهم عن طبيعتهم الإنسانية والاغتراب إلى طبيعة مستلبة لليس لها حولٌ ولا قوّةٌ في أي أمرٍ من أمور حياتهم !!!
وتخبر الآية نفسها أنَّ الشيطان يأمر بالسوء والفحشاء !!! فلماذا أُعطِيت له كُلّ هذه الحرية في أن يُمارس عمله المعادي لله ؟؟؟ إنّه لمن المستغرب أن تكون هناك معركة بين ذات تدّعي أنّها هي الخالقة والمكونة وبين الشيطان الذي هو أحد مخلوقات هذه الذات ، وتكون ساحة المعركة وأدواتها هم البشر؟؟
كيف يمكن أن يتقبّل عاقل الطرح الذي يقول : " يقوم الشيطان باستخدام الناس وتجييشهم في الأعمال التي لا ترضي ( الخالق ) " ولا يرى أي موقف لـ ( هذا الخالق ) يمنع هذا الشيطان ( الذي هو في الأساس مخلوق من مخلوقات هذا الخالق ) ، من أن يقوم بتضليل الناس ؟؟..
وإذا وقفنا أمام الآيات ( 168 ـ 171 ) نجدها تثير موضوع الشيطان ليس فقط الذي تشير إليه هذه الآيات حسب ، وإنّما تثير موضوع الشيطان عموماً ... فإذا نحن ناقشنا مسألة الشيطان نجدها تطرح الآتي : -
أولاً ــ الشيطان ، هو أحد مخلوقات ( هذا الخالق ) ، فكيف يمكن له أن يعصيهُ ؟؟
ثانياً ــ هذا الشيطان بعد أن عصى خالقه ، حُكِمَ عليه بالطرد من الجنّةِ ، فكيفَ استطاع أن يعود إليها إلاَّ إذا كان ( هذا الخالق ) ليس خالقاً حقيقياً ، في الأقل للشيطان ؟؟ ...
ثالثاً ــ كيف استطاع الشيطان أن يدخل الجنّة من بعد طَرْدِهِ ، وأين قُدَرات ( هذا الخالق ) ؟؟ .
رابعاً ــ أين ( هذا الخالق ) عندما قام الشيطان بإغواء آدمَ وزَوجَهُ ، ولما ترك الأمر حتى يحقق الشيطان ما يريد ؟؟
خامساً ــ بعد قيام الشيطان بمعاصيه طلب من ( الخالق ) أن ينظرهُ إلى يوم يبعثون . ووافق الخالق على ذلك !!!.
سادساً ــ إنّ هذه الموافقة على تخليد حياة الشيطان طالما الحياة مستمرّة تعني أن ( الخالق ) قد وافق أن يكون الشيطان ندًا له ؟؟
ومن الآية ( 40 ) فما فوق إلى الآية ( 102 ) ، يوجه الخطاب إلى بني إسرائيل ، في الوقت الذي كان من قبل قد وُجّهَ إلى الناس ، { يا أيها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلَّكم تتقون } ، وكأنّ بني إسرائيل ليسوا من الناس ؟؟ أو أنّ لهم ميزة خاصة يمتازون بها !! ، وإذا وقفنا أمام الخطاب في الآيات من ( 40 ) فما فوق والذي خُصص لبني إسرائيل ، نجد أنّ النقلة التي حدثت في الخطاب نقلة غير منطقية ، إذ أنّ الخطاب كان يخاطب الناس عامة ، وفجأة انتقل إلى بني إسرائيل ، دون تبيان السبب !!.
ويتّخذ الخطاب صيغ أخرى متعددة ، فمرّة يخاطب بني إسرائيل مباشرة ، ومرّة يأتي في صيغة سرد لموقف محدد ، أو عدة مواقف محددة من مواقف بني إسرائيل ، ويشير النص إلى أن هناك عهدٌ بين الذات المُخَاطِبَة وبين بني إسرائيل : {( يا بني إسرائيلَ اذكروا نعمتي التي أَنعمتُ عليكم وأَوْفوا بعهدي أُفِ بعهدكم وإيَّاىَ فارْهَبُون ) 2 / 40 .
ويتوجّه النص إلى بني إسرائيل ليطلب منهم أن يؤمنوا بما أَنزَلت هذه الذات المُخَاطِبَة ، والذي هو أساسًا مُصدّقًا لما معهم ، ويطلب منهم أن لا يكونوا أولَ كافرٍ به ..... 2 / 41 ، وكأنّه في هذه الآية يتوسّل إليهم بأن يستجيبوا لما طلب منهم ، وتأتي الآيات اللاحقة لتبيّن أن الذات المُخَاطِبَة تُصر على دعوة بني إسرائيل ، والدخول معهم في مساجلة طويلة رغم معرفتها بأنّهم لا يلتزمون لها ، وأنّهم يلبسون الحقّ بالباطلِ ، ويكتمون الحقّ وهم يعلمون ، وأنّهم يدعون الناس إلى البر وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب .... ثُمَّ يشير إلى أنّ الذات المُخَاطِبَة قد فضّلت بني إسرائيل على العالمين ( 2 / 42 ، 44 ، 47 ) ، ألا يثير الاستغراب ، أن تقوم هذه الذات التي تدّعي الإلوهية ، بتفضيل جماعة على العالمين ؟؟ وأيّ جماعة ؟ جماعة لا تلتزم بعهودها ، ولا تتبنّى الحقّ ، وتقتل الأنبياء ؟؟ ، ويستمر الخطاب في سرد فضائل هذه الذات على بني إسرائيل ، "" وإذ نجيّناكم من آل فرعون ... "" ، وإذ فرقنا بكم البحرَ فأ نجيناكم وأَغرقنا آل فرعون ... "" ، "" وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثُمَّ اتخذتم العجلَ ... "" ، "" ثُمَّ عفونا عنكم... "" ( 2 / 49 ، 50 ، 51 ، 52 ) .
أليس غريباً أن يُفضّل بني إسرائيل على العالمين ؟؟ ولماذا فضّلهم بالرغم من أنّه يقول عنهم أنّهم يلبسون الحقَّ بالباطل ويكتموا الحقّ وهم يعلمون ؟؟ ويوجه إليهم الخطاب بقوله : { أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم ، وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ؟؟؟ وهل الذات المخاطِبَة لا تعلم عنهم هذا ؟؟ ، فإن كانت تعلم عنهم ذلك فهي إذن شريكة في ما يفعلونه ، وإن كانت لا تعلم فكيف تدّعي الإلوهية ؟؟ مما يثير الدهشة والاستغراب ما تشير إليه الآية 2 / 54 ، إذ جاء فيها : { وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنّكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئِكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئِكم فتاب عليكم إنّهُ هو التوّاب الرحيم }.... ما هذا الإله الذي يطلب من الناس أن يقتلوا أنفسهم لكي يتوب عليهم ؟؟ وتستمر المساجلة مع بني إسرائيل وتعرض الذات المُخَاطِبَة الجزء الذي تريد الناس أن يطّلعوا عليه من هذه المساجلة ، والذي يجعل الحق معها فتقول : { وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً فأخذتكمُ الصاعقةُ وأنتم تنظرون } 2 / 55 ، { ثمّ بعثناكم من بعد موتكم لعلّكم تشكرون } 2 / 56 ، { وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المَنَّ والسلوى كُلوا من طيّبات ما رزقناكم وما ظَلَمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } 2 / 57 .
يكرر النص أنّ الذات المُخَاطِبَة قد أعادة أُناس إلى الحياة بعد أن ماتوا ، وهذا ما لم يؤكّده تاريخ الإنسانية . بل إنّ الوقائع المجرّبة تقطع بنفيه وعدم إمكانية حدوثه بالإطلاق ... ولعل ما تشير إليه الآية ( 2 / 61 ) ، يجعل التناقض في النص أكثر بروزًا ، إذ تأتي هذه الآية لتخبر عن عودة بني إسرائيل إلى مصر بعد أن خرجوا مع موسى فتقول : { وإذ قلتم يا موسى لن نصبرَ على طَعامٍ واحدٍ فادعُ لنا ربَّك يُخرج لنا ممّا تُنْبِتُ الأرضُ ، من بقلها وقثّائِها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ اهبطوا مِصرًا فإنّ لكم ما سألتم وضُرِبَتْ عليهم الذّلَّةُ والمسكنةُ وبآءُوا بغضبٍ من اللهِ ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون النبيين بغير الحقّ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } 2 / 61 ....
ألأنهم طالبوا بأن يحصلوا على ما تنبتُ الأرضُ ، وأنّهم لن يصبروا على طِعامٍ من نوع واحد مدى حياتهم ... أصبحوا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ويُؤمرون بالهبوط إلى مصر ، وتضرب عليهم الذّلّةُ والمسكنة ،ويُبآءُون بغضب من الذات المُخَاطِبَة ، ويُتّهمون بأنّهم كَفروا بالذات المُخَاطِبَة ، وأنّهم يقتلون النبيين بغير حقّ ؟؟؟ أين ما تدّعيه هذه الذات من العدل ؟؟؟
وتستمر المساجلة بين الذات المُخَاطِبَة وبين بني إسرائيل ، ولكن هذه المساجلة كما عودنا النص الصادر من الذات المُخَاطِبَة تَعرض فقط الشق المتعلّق بموقف الذات المُخَاطِبَة أمّا فيما يتعلّق بالشق الذي يخص بني إسرائيل ، أو أية مجموعة أخرى تدخل هذه الذات معها في مساجلة ، فلا يُعرض في النص ، ومن خصوصية النص وطريقة العرض ، يكون دائمًا جانب الذات المُخَاطِبَة هو الجانب المُحِقّ في حوار المساجلة ، والجانب الآخر هو المدان . فهاهي الآيات ( 2/ 63 ، 64 ، 65 ، 66 ) تقول : { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطورَ خُذُوا مآ أتيناكم بقوَّةٍ واذكروا ما فيه لعلّكم تتَقون } ، { ثُمَّ تَوَلّيتم من بعد ذلك فَلَولا فَضْلُ اللهِ عليكم وَرَحْمَتُهُ لكنتم من الخاسرين } ، { ولقد علمتمُ الذين اعتدوا منكم في السبتِ فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين } ، { فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظةً للمتّقين }.
النص يقول أنّ الذات المُخَاطِبَة قد أخذت على بني إسرائيل ميثاقًا ، ولكن بني إسرائيل لم يلتزموا بهذا الميثاق ، ولكن الذات المُخَاطِبَة تفضّلت عليهم ، وإلاّ كانوا من الخاسرين ، وأنّ هناك من اعتدى في السبت ، فمسختهم الذات المُخَاطِبَة وجعلتهم قردةً خاسئين ، وقد هدفت الذات المُخَاطِبَة من المسخ أن يكون نكالاً وعبرة ، وموعظة للمتّقين .
وتستمر المساجلة بين الذات المُخَاطِبَة وبين بني إسرائيل ، ويشير النص إلى أنّ بني إسرائيل قد قتلوا نفساً وأخذوا يدارون بعضهم على بعض ، فطلبت الذات المُخَاطِبَة منهم ذبح بقرة ، فأخذوا يراوغون موسى في ما هي هذه البقرة ، وما لونها ، وعمرها ، وصفاتها ، وأخيراً ذبحوا البقرة ، فقيل لهم أضربوا القتيل ببعضها ، فقام الميت ، وأخبر عمّن قتله ... وتستمر المساجلة ، وفجأة يأتي الخطاب موجه إلى المجهول ، ويتّخذ صيغة القصص السردي فيقول : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيلَ لا تعبدون إلاّ اللهَ وبالوالدينِ إحسانًا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناسِ حُسنًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثُمَّ توليتم إلاّ قليلاً منكم وأنتم معرضون } 2 / 83 ، النص في بداية الآية ، نص إخباري عام " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ..." ضمير المتكلّّم يشير إلى أنّ المتكلّم هو الذات المُخَاطِبَة ولكنّه لم يستخدم ضمير الغائب للمجموعة المُخَاطَبَة فهو لم يقل : ( أن لا يعبدوا ) ، بل قال : ( لا تعبدون ، ... وقولوا للناس بدلاً من يقولوا .... وأقيموا الصلاة ، بدلاً من يقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة بدلاً من يُؤتوا الزكاة ثُمَّ توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون ) ، كان يستخدم ضمير المخاطب الجمعي ليوجه إليه الخطاب .. "ثُمَّ توليتم .. " { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دمآءكم ولا تُخرجون أنفسكم من دياركم ثُمَّ أَقررتم وأَنتم تشهدون } 2 /84 ، { ثُمَّ أَنتم هؤلاء تَقتلون أَنفسكم و تُخرجون فريقاً منكم من ديارهم تَظاهرون عليهم بالإثمِ والعدوان وإن يأتوكم أُُسارى تُفادوهم وهو مُجرّمٌ عليكم إخراجهم أَفتؤمنون ببعض الكتابِ وتكفرون ببعضٍ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزىُُُ ُ في الحياة الدنيا ويومَ القيامة يُرَدون إلى أَشدِّ العذاب وما الله بغافلٍ عمَّا تَعملون } 2 / 85 ، الخطاب هنا موجّه إلى جمع المخاطب ، فلماذا هذا الارباك في السياق النصي ؟؟ ثُمَّ يعود ليستخدم اسم الإشارة للغائب ، وضمير الغائب الجمعي في ( اشتروا ، يُخَففُ ، عنهم ، هم يُنصرون ... فلماذا هذا الإرباك في الخطاب { أُولئكَ الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يُخَفَّفُ عنهم العذاب ولا هم يُنصرون } 2 / 86
وتستمر المساجلة على النحو الآتي : { ولقد آتينا موسى الكتاب وقفَّينا من بعده بالرسلِِ وآتينا عيسى بن مَريَمَ البيّنات وأَيّدناه بروح القدس أَفكُلّما جآءَكم رسولٌ بما لا تهوى أَنفسكم استكبرتم ففريقًا كذّبْتُمْ وفريقًا تقتلون } 2 / 87 ، ولأوّل مرّة يورد النص قولٌ للطرف الآخر في المساجلات التي جرت بين الذات المُخَاطِبَة وبين بني إسرائيل ، فها هي الآية ( 88 ) تقول : { وقالوا قُلُوبنا غُلْفٌ بل لعنهم اللهُ بِكُفْرِهِمْ فقليلاً ما يُؤمنون } 2 / 88 ، { ولمّا جآءَهُم كتابٌ من عند الله مُصدّقُُُ ُ لما معهم وكانوا من قبلُ يستفتحون على الذين كفروا فلَّمّا جآءَهُم ما عرفُوا كفروا به فلعنةُ اللهِ على الكافرين } 2 /89 .
{ بئسما اشتروا بهِ أَنفسَهُم أن يكفروا بما أَنزلَ اللهُ بغيًا أَن يُنْزِلَ اللهُ من فضلِه على من يشاءُ من عبادهِ فبآءُوا بغضَبٍ على غضَبٍ وللكافرين عذابٌ مهين } 2 / 90 ، { وإذا قيلَ لهم آمنوا بمآ أَنزَلَ اللهُ قالوا نُؤمنُ بمآ أُنْزِلَ علينا ويكفرونَ بما وراءه وهو الحق مصدّقًا لما معهم قل فََلِمَ تقتلون أَنبياءَ اللهِ من قبلُ إن كُنتم مُؤمنين } 2 / 91 ، { ولقد جاءكم مُوسى بالبيّنَات ثُمَّ اتخذتمُ العجلَ من بعدهِ وأنتم ظالمون } 2 / 92 ، { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطورَ خذوا مآ آتيناكم بقوّة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأُشْرِبوا في قلوبهمُ العجلَ بكفرِهم قل بئسما يأمُرُكُم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين } 2 / 93 ، ويتوجّه الخطاب إلى ذاتٍ مُخَاطَبَةٍ فيقول: { قل إن كانت لكم الدار الآخرةُ عند اللهِ خالصةًً من دون الناس فتمنّوا الموتَ إن كنتم صادقين }2 /94 ، { ولن يتمنّوهُ بما قدّمت أيديهم واللهُ عليمٌ بالظالمين } 2 / 95 ، ولتجدَنَّهم أَحرص الناسِ على حياة ومن الذين أشركوا يودُّ أََحَدُهُ لو يُعمَّرُ أَلفَ سنَةٍ وما هو بمزحزحهِ من العذاب أن يُعَمّرَ واللهُ بصيرٌ بما تعملون } 2 / 96 ، ... ويستمر النص في وصف سلوكيات بني إسرائيل تجاه ما دعتهم إليه الذات المُخَاطِبَة ، فيتحدّث عن نقضهم العهود ، وعدم إتباع الأنبياء ، وإذا جاءهم رسولٌ مصدّقا لما معم نبذ فريق من الذين أُوتوا الكتاب كتاب الله ورآءَ ظهورهم كأنّهم لا يعلمون ... ثُمّ يتحدّث النص عن إتباع بني إسرائيل شياطين ملك سليمان ، ويتحدّث عن الملكين ببابل ، وكيف يتعلّمون منهم ما يضرّهم ولا ينفعهم ...
أي قارئ لا يمكنه إلاّ أن يلحظ أنّ الذات المخاطبة ،تعيش صراع ممزوج بالندم مع بني إسرائيل ، فهي قد علّقت آمال على بني إسرائيل ولكنّهم خذلوها ، وهي هنا تريد أن تستقطبهم ، ولكنّهم لم يستجيبوا ، وفي المساجلة نجد النّص يشهّر بهم ، ولكنّه يترجّى استجابتهم فلا يسع الباحث والقارئ إلاّ أن يبدي استغرابه من موقف الذات المُخَاطِبَة هذا تجاه بني إسرائيل ، والذي يلحظه الباحث والقارئ أنّ النصّ يُصاغ في مكانٍ ما خارج الجزيرة العربية وقد يكون بعض اليهود مشاركين في هذه الصياغة ، لهذا طالت المساجلة مع بني إسرائيل على أمل أن يستجيبوا ولكن دون جدوى .
يتوجّه الخطاب من جديد إلى أُناس غير بني إسرائيل ، ويسميهم الذين آمنوا وقد جاء النص ليدلّ على أنّه يقصد المسلمين : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعِنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذابٌ أَلِيم } 2 /104 ، { ما يودُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أَن ينزّلَ عليكم من خير من ربِّكم واللهُ يختصُّ برحمته من يشاء والله ذُو الفضلِ العظيم } 2 / 105 .
إنّ قراءة الآيتين أعلاه تؤكّد أنّ هذا الإله لا يختلف عن الإنسان في شيء ، سوى أنّه يدّعي الإلوهية ، وكُلّ وعوده غير محسوسة ... وإلاّ كيف يمكن أن يطلب من الذين آمنوا أن لا يقولوا ( راعِنا ، بل يقولوا أظرنا ، ويسمعوا ) ؟؟؟ نعم هو يريد من الناس أن يخضعوا له بالعبودية ، وبصورة تكشف عن التضرّع والاستجداء ، والخنوع ، ثُمَّ هو يقول إنّ الذين كفروا من أهل الكتاب ( = اليهود والنصارى ) ، والمشركين ما يوَدّون أن يُنَزّلَ على الذين آمنوا من خيرٍ من ربّهم ، وفي هذا الجزء من الآية لم يأت بجديد ، إذ أنّ الذين لم يتبنّوا ما جاءت به الدعوة الإسلامية ، هم أعداء ، ولا يوجد في التاريخ ، ولا في الوجود أن يكون العدو يتمنّى الخير لعدوه !! ، أمّا في الجزء الثاني من الآية ، فالنص يكشف أنّ هذا الإله يتصرّف بمزاجية ، وعندما تروق له جماعة ، أو جماعات يصطفيها ، ويخصّها بعطاياه ، وبرحمته ، وبغفرانه بالرغم من أنّ هذه العطايا ، وهذه الرحمة ، وهذا الغفران ، هو في المجهول ، ولا يتعدّى الوعد بعد الموت ، ومن يعلم مدى صحّة هذا الوعد ؟؟ ، ويحرم أية جماعة أو جماعات لا تروق له ... وهذا يتنافى مع صفة الإلوهية ، فالإله إنما هو إله الجميع ، ويجب أن يكون عادلاً تجاه الجميع لا يميّز أحد دون آخر ... وهذا ما يعيب النص في الآيتين . ولعلّ هذا ما برّرَ للحكام المسلمين ، ولا زال المسلمين جميعهم يعتبرون التمييز بين بعضهم البعض ، وتعالي بعضهم على بعض ، واستهجان بعضهم لبعض ، من تعاليم دينهم ... وقد يكونوا محقين ، ولكن لماذا يتكلّمون عن العدل ، وعن المساواة ، وكيف يفهمونها ؟؟ ، بل إنّ النص بمجمله منذ الآية الأولى وحتى الآية ( 105 ) من سورة البقرة قد تضمن الكثير من التناقضات المنطقية ، وغير المنطقية ، وقد تضمّن موقفًا خطيرًا ، وخطيرًا جدّا ، هذا الموقف هو : { النص مطلق في صحته ، وكُلُّ ما عداه باطل ، ومن لم يتقبّل هذا النص دون مناقشة ، ودون حتّى التجرّؤ على التفكير فيه ، فيجب أن يقتل ، وهذا موقف عنصري ، لا يظاهيه إلاّ موقف اليهودية في عنصريتها تجاه الآخرين ، فهل هناك رابط يا ترى بين النص ، والدين الذي جاء به وبين اليهودية ؟؟ .
وينتقل النص ليخاطب ذاتًا مُفْرَدَةً منوّهًا إلى أنّ هناك عملية نسخ ، وإنساء لبض الآيات ، وأنّ هذه العملية إذا حدثَ وتمّت فإنّ الآيات البديلة هي إمّا خير من تلك التي نُسِخت أو أُنسيت ، وإمّا مثلها ... وهنا يشير النص إلى أنّه قد تحدث عملية نقد تقتضي إلغاء بعض الآيات ، أو قد تُنسى بعض الآيات ، ولكن البديل هو خير ، أو مثل السابق .. ويؤكّد الخطاب إلى أنّ الإله على كُلِّ شيءٍ قدير ... 2 / 106 ، والحقيقة أنّ النسخ أو الإنساء قد يكون محاولة للتصحيح ، ولكن لم يقدّم لنا هذا النص ، أية آية وكيف نسخها ، أو أنساها ، وما البديل الذي جاء ليحل محلّها ؟؟
ويتوجّه الخطاب إلى ذات مفردة وإلى ذات جمعية دون أن يفصل بينهما فمرّة الخطاب إلى المفرد ( ألم تعلم ؟؟ ومرّة إلى الجمع : مالكم من دون الله ... ) ، في صيغة لوم استفساري فيقول : { أَلم تعلم أنّ اللهَ لهُ مُلْكُ السماوات والأرض وما لكم من دونِ اللهِ من وليٍّ ولا نصير } 2 / 107 ، { أَم تريدون أَن تسألوا رسولكم كما سُئلَ موسى من قبلُ ومن يتبدّل الكفر بالإيمان فقد ضَلَّ سوآءَ السبيل } 2 / 108 . أَليس هذا إصراراً على أنّ لا تُسأل الذات المُخَاطِبَة ولا يُستفسر عمّا تهدف إليه في خطابها ؟؟؟
ويأتي الخطاب في الآيات من ( 109 ــ 121) في صيغة إخبارية وتوجيهية لرواية خبر عن من أسماهم أهل الكتاب ، فيقول : { وَدَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كُفَّارًا حَسَداً من عندِ أَنفسهم من بعد ما تبيّنَ لهم الحقُّ فاعفوا واصفحوا حتّى يأتيَ اللهُ بأَمرهِ إنّ الله على كُلِّ شيءٍ قديرُُُ ُ } 2 / 109 ، وبعد الإخبار عن ما كان يضمره الكثير من أهل الكتاب تجاه الذين يتوجه إليهم الخطاب بمنعهم من أن يسألوا رسولهم كما سُئلَ موسى من قبل ، يأتي التوجيه بأن أعفوا واصفحوا حتى يأتيَ الله بأمره إنّ الله على كُلِّ شيءٍ قدير ، وهنا يبرز الأسلوب السياسي في التربية التوعوية إذ يشي الخطاب بأن الأمر يتطلّب ضبط النّفْس ، وطول النّفََسْ في التعامل مع الآخر ، وأن أي تحرّك عملي في المواجهة يجب أن يكون قد وافقت عليه القيادة العليا . ويستمر التوجيه بالآتي :{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تُقدّموا لأنفسكم من خير تجدونه عند الله إنّ الله بما تعملون بصير } 2 / 110 ، ويأتي إخبار صريح عن مواقف اليهود والنصارى : { وقالوا لن يدخلُ الجنَّةَ إلاّ من كان هودًا أَو نصارى تلك أَمانيهم قُل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } 2 / 111 ، ويكمل النص بتكذيب إدّعاء هم فيقول : { بلى من أَسلَمَ وَجههُ للهِ وهو محسنٌ فله أجرُهُ عندَ ربِّهِ ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون } 2 /112 ، ثُمَّ يتواصل الإخبار عن اليهود والنصارى ، ومن اتبعهم فيقول : { وقالت اليهود ليست النصارى على شيءٍ وقالت النصارى ليس اليهودُ على شيءٍ وهم يتلون الكتابَ كذلك قال الذين لا يعلمون مِثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } 2 / 113 . ثُمَّ يشير الخطاب إلى أنّ هذه الجماعات ( = اليهود ، والنصارى ) هي من أكثر الجماعات ظُلماً ، وهم مثْلُ أولئك الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه :{ ومن أظلمَ ممن منع مساجدَ اللهِ أن يُذْكَرَ فيها اسمُهُ وسعى في خرابها أُولئك ما كان لهم أَن يَدْخُلُوها إلاّ خائفينَ لهم في الدنيا خِزْىُُُُ ُ ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم } 2/ 114 . { ولله المشرقُ والمغرِبُ فأينما تُولُّوا فَثَمَّ وجهُ الله إنّ الله واسعٌ عليم } 2 / 115 . وواضح أنّ الآية ( 114) جاءت لتذكر اليهود والنصارى بما فعله ططلوس الرومي في بيت المقدس ، وما فعله بختنصر البابلي في بيت المقدس ، عندما خرّبوا بيت الله ، ومنعوا أن يذكر فيه اسمه ، وكأنها تذكّرهم بأنّ مواقفهم ( اليهود والنصارى ) من الإسلام ، لا يقل عن موقف أولئك الذين خرّبوا بيت المقدس من قبل ، وتشير إلى أنّ موقف قريش من الرسول ودعوته لا يقل عن موقف أولئك الذين دمّروا بيت المقدس ، وتستنكر على اليهود والنصارى أن يقفوا مؤيّدين لمواقف قريش ، ومعاديين لمواقف المسلمين .
ويتّجه الخطاب إلى المسلمين فيقول : { ولله المشرقُ والمغرِبُ فأينما تُولُّوا فَثَمَّ وجهُ الله إنّ الله واسعٌ عليم } 2 / 115 . ويستمر الخطاب مبيناً مدى طغيان اليهود والنصارى ، وتماديهم في غيّهم ، مبيناً أنّ هذا الموقف ليس من اليوم ، وإنّما هو موقفهم منذ بداية تاريخهم فيقول :{ وقالوا اتخذَ اللهُ ولدًا سُبحانه بل له ما في السماوات والأرض كُلٌّ له قانتون } 2 /116 . { بديع السموات والأرض وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون } 2/ 117 . { وقال الذين لا يعلمون لولا يُكَلّمنا اللهُ أو تأتينا آيةٌ كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بيّنا الآيات لقومٍ يُوقنون } 2 / 118 . ويتّجه الخطاب مباشرة إلى ذات مفردة ويخاطبها كأنّها حاضرة أمام الذات المُخَاطِبَة ، والمقصود هنا الرسول محمد ، ويأتي نص الآية على النحو الآتي : -
{ إنّا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تُسئلُ عن أصحاب الجحيم } 2 / 119 . { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم قل إنّ هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من وليٍ ولا نصير } 2 / 120 . { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقَّ تلاوته أُولئكَ يُؤمنون به ، ومن يكفر به فأُولئك هم الخاسرون } 2 / 121.
واضح إنّ هذه الآيات جاءت لتطمئن الرسول والمسلمين ، وتبيّن لهم مواقف اليهود والنصارى التي هي ليست مواقف جديدة ، وإنّما هي مواقف منذ بداية تاريخ اليهود والنصارى ، وهذه المواقف قد سبق وأن أُتخذ ت مواقف قبلها من قوم قبلهم أو مثلها من قوم لا يعلمون ، ويحمل خطاب هذه الآيات توجيهاً إلى المسلمين بأن عليهم أن يتحلّوا بطول النفس ، وأنّ مسألة التوجه إلى ربّهم هي مسألة تخصّهم وحدهم ، وهم أينما يولوا فثمَّ وجه ربّهم ، والرسول قد أُرسل مبشّراً ونذيراً ، ولا يُسأل عن أصحاب الجحيم . وواضح أنّ المسلمين والرسول ، ويمكن القول إنّ الذات المُخَاطِبَة هي في الواقع ذات توجد خارج الجزيرة العربية ، وقد تكون ذاتاً جمعية ، أو مفردة ، المهم أنّها هي التي تقود الحوار مع اليهود والنصارى ، وهي التي تُملي على الذين استجابوا للدعوة نوعية المواقف التي يجب أن يتّخذونها تجاه اليهود والنصارى . وقد كانت هذه الذات الخارجية تراهن على مواقف مؤيدة من اليهود والنصارى ، وكانت تأمر الذين استجابوا للدعوة أن يساسوا اليهود المتواجدين في الجزيرة العربية وعندما اصطدموا بهذه المواقف الغير متوقعة من اليهود والنصارى ، والتي كانت مواقف معادية للإسلام ، فجاءت هذه الآيات لتخبر بأنّ اليهود والنصارى لن يقفوا إلى جانبهم إلاّ إذا اتبعوا ملتهم ، وتهدد بالعقاب إن هم اتبعوا ملة اليهود أو النصارى .والحقيقة إنَّ ما نصّت عليه الآية ( 120 ) ، وخاصة آخرها يشي بأنّ الذات المُخَاطِبَة قد قررت القطيعة مع اليهود والنصارى وذلك في قولها : { ... ولئن اتبعت أَهواءَهم بعد الذي جآءك من العلم مالك من اللهِ من وليِّ ولا نصير } . وتؤكّد الآية ( 121 ) على إنّ الذين أُتوا الكتاب من قبل الذات المُخَاطِبَة واستوعبوه هم الذين يؤمنون بهذا الكتاب ، ومن يكفر به فأُولئك هم الخاسرون : { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته أُلئك يؤمنون به ومن يكفر به فأُلئك هم الخاسرون }. هذا يشير إلى أنّ الدعوة الإسلامية وما أتت به من كتاب ، أي القرآن ، هو موقف فكري شامل ، وهو عبارة عن جهد جماعي يمثّل تقييم لكلِّ ما قبله ، وتصحيح لما حصل قبله من انحرافات في جميع الديانات التي يُطلق عليها ( سماوية ) .
يعود الخطاب ليوجّه إلى بني إسرائيل ليطلب منهم أن { يذكروا نعمتها عليهم ، وكيف أنّها فضّلتهم على العالمين ، وتحذّرهم من يوم لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً ، ولا يقبل منها عدل ولا شفاعة ولا هم يُنصرون }، وهذا يكشف مدى عمق الحب والغرام بين الذات المُخَاطِبَة وبين بني إسرائيل . فهي دائما توجه لهم النصح وتطلب منهم أن يبتعدوا عن العذاب الذي يُنتظر في يوم الحساب .
وتأتي الآيات من ( 124 ــ 134 ) لتتحدّث عن إبراهيم ودينه ، وكيف اختارته الذات الإلهية ( أي الذات المُخَاطِبَة ) ليكون إماماً للناس ، وقد طَلَبَ إبراهيم من ربّهِ أن تكون إمامة الناس بعده لذريّته ، ولكن الذات الإلهية ، أي الذات المخاطبة ، رفضت التوريث ... وتؤكد الذات المُخَاطِبَة أنّها قد اختارت البيت مثابة للناس وأمناً ... وعهدت إلى إبراهيم وإسماعيل لتطهير البيت ... يشير النص إلى أنّ إبراهيمَ وإسماعيل قد توسلا إلى الذات المخاطبة وطلبا أن تجعلهما ، وذريتهما مسلمين ، وطلبا أن تُبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آيات الذات المُخَاطِبَة ويعلّمهم الكتاب والحكمة ويزكّيهم ويؤكّد النص أنّ ملّةَ إبراهيم هي الملّة الصحيحة ، وقد وصّى إبراهيم بنيه ويعقوب بأن لا يموتنً إلاّ وهم مسلمون والنص يشي بالطعن في مصداقية النصوص التي بين يدي اليهود والنصارى ، كما يشكك في يهودية إبراهيم ، ويؤكّد إسلام إبراهيم .
وتلخص الذات المُخَاطِبَة الموقف الذي يجب على الرسول محمد وأتباعه أن يتّخذوه من اليهود في الآتي : { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قُلْ بَلْ مِلّةَ إبراهيمَ حنيفاً وما كان من المشركين } 2/ 135 . { { قولوا آمَنَّا باللهِ وما أُنْزِلَ إلينا وما أُنْزِلَ إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأِسباطِ وما أُتِيَ موسى وعيسى وما أُتِيَ النّبيون من ربّهم لا نفرّقُ بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون } 2 / 136 .
هاتان الآيتان تشيان بأنّ الأمر قد صدر إلى الرسول محمد ومن اتبعه ، بأن يقفوا من اليهودية والنصرانية موقف الرفض النهائي لهتين الديانتين ، وأن يشككا في انتساب هاتين الديانتين إلى موسى ، وعيسى ، وينكروا أن تكون للديانتين ( اليهودية ، والنصرانية ) أيةَ صلة بدين إبراهيم وأبناءه ومن اتبعهم ، ويشيروا إلى أنّ اليهود والنصارى بدياناتهم التي هم علها عند ظهور الإسلام ، هي ديانات محرّفة ، وأنّ الإسلام قد أتى ليصحح ما حدث من تحريف ، وتشير الآيات إلى انّ الإسلام هو الدين الذي يستند إلى دين إبراهيم بصورة صحيحة . ولهذا بعد إيراد الآية ( 136 ) من سورة البقرة ، تأتي الآيات التي تؤكّد أن على الرسول محمد ون اتبعه أن يتمسكوا بدينهم ، فإن آمن اليهود والنصارى بمثل ما آمن الرسول محمد وأتباعه وهو النص الذي جاء في الآية ( 36 ) ، فيكون اليهود والنصارى قد اهتدوا ، وإن تولوا فهم في شقاق ، والله سيكفي الرسول وأتباعه أي شقاق يثيرونه .
وتأتي الآيات ( 139 ـ 140 ) لتزوّد الرسول وأتباعه بالرد الذي قررته الذات المُخَاطِبَة : { قُلْ أتُحاجوننا في الله وهو ربُّنا وربُّكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن لهُ مخلصون } ، { أم تقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قُلْ أأنتم أعلمُ أَمِ اللهُ ومن أَظلمُ ممَّن كَتَمَ شهادةً عنده من اللهِ زما اللهُ بغافلٍ عمَّا تعملون } .
ويتّضح إنّ هذا الجدل مع بني إسرائيلَ ومع النصارى إنّما كان بصدد القبلة التي يجب أن يتّجه إليها المسلمون ، ويولّون وجوههم في أوقات الصلاة والدعاء إليها ومن أسلوب النص وطريقة ورود الآيات ، والتغير الذي يحدث في الذات المُخَاطَبَة ( مرّة ذات مفردة ، ومرّة ذات جمعية ، ومرّة تقوم الذات المُخَاطِبَة نفسها بالجدل مباشرة يُستَنْتَجْ أنّ الذات المُخَاطِبَة ، هي ذات خارج الجزيرة العربية ، وما الرسول محمد إلاّ متلقي ومنفّذ لما يُملى عليه ، وقد كانت الذات المُخَاطِبَة تشترط على اليهود والنصارى أن يتقبّلوا الدعوة التي جاء بها الرسول محمد ، وإلاّ ستغيّر اتجاه القبلة عن بيت المقدس ، الذي يتّخذه اليهود والنصارى قبلة يتّجهون إليها ، وفي النهاية حسمت الذات المُخَاطِبَة الأمر ووجهت الرسول محمد وأتباعه ليتّخذوا من كعبة مكة قبلة لهم ....
ويتّضح هذا من الآيات التالية أن الأمر كان يدور حول القبلة التي يجب على المسلمين أن يتّجهوا إليها .... { قد نرى تقلّب وجهك في السماءِ فَلَنُوَلّيَنَّك قبلةً ترضاها فَوَل وجْهكَ شطْرَ المسجد الحرام وحيثُ ما كنتم فوَلّوا وجوهَكم شَطْرَهُ وإنّ الذين أُتوا الكتاب لَيَعلَمون أَنّهُ الحقُّ من ربّهم وما اللهُ بِغَافِلٍ عمّا يعملون }2 / 144 . { ولئن أَتيت الذين أُتوا الكتاب بكلِّ آية ماتَبِعوا قبلتكَ ومآ أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعضٍ ولئن اتبعت أهوآءَهم من بعد ما جاءكَ من العلم إنّك إذاً لمن الظالمين } 2 / 145 . ولعلّ ما يؤكد استنتاجنا بأنّ الجدل الطويل الذي دار بين بني إسرائيل وبين الذات المُخَاطِبَة , واستغرق أكثر من ( 100 ) آية من هذه السورة , إنّما كان بهدف استمالة اليهود والنصارى إلى قبلول الدعوة الإسلامية ، وكانت مسألة تحويل الكعبة من بيت المقدس إلى مكة ما هي إلاّ وسيلة ضغط من قبل ممثلي الدعوة الإسلامية على من أطلقوا عليهم أهل الكتاب . وها هي الآية ( 142 ــ 143 ) تنص على الآتي : { سيقول السفهاءُ من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قُلْ لله المشرقُ والمغربُ يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيم } , { وكذلك جعلناكم أمّةً وسطًا لِتكونوا شُهِدآءَ على الناس ويكون الرسولُ عليكم شَهِيدًا وما جعلنا القبلة التي كُنتَ عليها إلاّ لِنعلَمَ من يتّبعُ الرسولَ ممَّن ينقلِبُ على عقبيه وإن كانت لكبيرةً إلاّ على الذين هدى اللهُ وما كان اللهُ ليضيعَ إيمانكم إنّ اللهَ بالناس لرءُوفٌ رحيم } .
الغريب في هذا أنّ هذه المساجلة الطويلة التي استغرقت أكثر من ( 100 ) آية يدور حول إقناع بني إسرائيل ، وأتباع المسيح بقبول الدعوة الإسلامية ، مما يثير سؤال مهم جدّا : أين الذات المُخَاطِبَة التي تدّعي أنّها هي التي خلقت الناس ، وخلقت السماوات والأرضَ وما بينهما ، وأنزلت الماء من السماء لتنبت به من الثمرات ، وهي التي تميت الناس وتحييهم وهي عالمة بكل شيء ....إلخ . أين هذه الذات لماذا لم تجعل اليهود والنصارى يقبلون بالدعوة الإسلامية ، وتجنّب البشرية كُلِّ هذه الأرواح التي ذهبت في الحروب ؟؟؟ ، وأيضاً تُجنّبْ البشرية كُلِّ هذه المعاناة التي عانتها وتعانيها من جراء الاختلاف الديني العقائدي ؟؟؟ ، والأغرب أنّ الآية ( 143 ) تنص على أنّ إشكالية القبلة التي كان قد اتبعها المسلمون ، ومن ثُمَّ عدلوا عنها ، كانت بهدف أن تعلم هذه الذات المُخَاطِبَة من يتّبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه ؟؟؟ ، أليست هذه الذات هي الذات التي تقول عن نفسها أنّها بكل شيء عليمة ؟؟؟ ، أليست هي التي قالت للملائكة أنّها تعلم غيب السماوات والأرضِ وتعلم ما كانوا يكتمون ؟؟؟ فكيف لم تعلم من يتّبع الرسولَ ومن ينقلب على عقبيه إلاّ بمسألة القبلة ، وجعل الناس يتصارعون وتذهب في ذلك أرواح ، ويتعرّض الناس لمعاناة ؟؟؟ فما الذي يبرر ذلك ؟؟؟.
ويأتي الخطاب موجهًا من قبل الذات المُخَاطِبَة للذين آمنوا وفي هذا الخطاب تقدّم لهم معرفة ، وتوجيه فيما يتعلّق بالقبلة الجديدة ، ( المسجد الحرام ) ، فتقول : { الذين أَتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءَهم وإنّ فريقاً منهم ليكتمون الحقَّ وهم يعلمون } 2 / 146 ، { الحقُّ من ربِّكَ فلا تكن من الممترين } 2 / 147 , { ولكلِّ وجهةٌ هو مولِّيها فاستبقوا الخيرات أَين ما تكونوا يأتي بكم اللهُ جميعاً إنّ الله على كلِّ شيءٍ قدير } 2 / 148 ،{ ومن حيثُ خرَجتَ فَوَلِّ وجهكَ شطْرَ المسجدِ الحرامِ وإنّه للحقُّ من ربّكَ وما اللهُ بغافلٍ عمّا تعملون } 2 / 149 ، { ومن حيثُ خرجتَ فوَلِّ وجهك شطْرَ المسجدِ الحرامِِ وحيث ما كنتم فَوَ لّوا وجوهكم شَطْرَهُ لِئَلاّ يكون للناس عليكم حُجّةٌ إلاّ الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم وَاخشوني ولأتمَّ نعمتي عليكم ولعلّكم تهتدون }2 / 150 ، { كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلُوا عليكم آياتنا ويُزكّيكم ويُعلّمكم المتابَ والحكمةَ ويُعلّمكم ما لم تكونوا تعلمون } 2 / 151 ،{ فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } 2 / 152 ،{ يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إنّ الله مع الصابرين } 2 / 153 .
ومن التوجيهات التي تضمنها النص : الأمر الذي أصدرته الذات المُخَاطِبَة للمؤمنين ، بأن لا يقولوا لمن يُقتلُ في سبيل الله ، ( أي في سبيل الذات المُخَاطِبَة ) ، أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن ـ أنتم ، الذات المُخَاطَبَة ـ لا تشعرون . ومن التوجيهات أيضاً حثّ المؤمنين على الخنوع والاستكانة ، وتبين لهم نمط الإخلاص للذات المُخَاطِبَة ، فيقول النص : { ولَنَبْلُوَنّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقص في الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ وبشّر الصابرين } 2 / 155 ، { الذين إذآ أَصابتهم مُصِيبَةٌ قالوا إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعون }2 / 156 ، { أُولئك عليهم صلواتٌ من ربِّكَ وَرَحمةٌ وَأُولئكَ هم المهتدون } 23 / 157 .
إنّ النصّ في الآيات السالفة يشي بأنّ الذات المُخَاطِبَة تطلب من الناس أن يتخلّوا عن إرادتهم ، وأن يُستلبوا في جميع تصرّفاتهم ، ويتركوا لها الحرية في أن تسلبهم إرادتهم ، وكُلّما استجابوا للاستلاب والتغريب كُلّما رضيت عنهم وهذا ما تدلٌ عليه الآيات ( 155 ، 156 ، 157 ) .
الغريب أنّ ميزة الاضطراب في النص ، هي ميزة ملازمة للنص القرآني على الدوام ، وها نحن نلتقي في الآية ( 158 ) ، إشارة إلى أنّ الصفا والمروة من شعائر الله ، أي أنّها من الشعائر التي يجب أن تؤدى عند قيام الإنسان بالحج ، أو العمرة ... ، وفجأة تأتي الآيات اللاحقة لتنبئنا بأنّ الذين يكتمون مآ أنزلت الذات المُخَاطِبَة من البينات والهُدى من بعد ما بينته للناس في الكتاب أُلئكَ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون . وتستثني الذات المُخَاطِبَة الذين تابوا وبينوا ما كانوا قد كتموه ، وتؤكّد إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ أُلئكَ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وتصفهم بأنّهم خالدين فيها ( ماهي ؟ هل هي اللعنة ؟ ، أم شيء آخر ؟ ) ولا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون . وتنهي الفِقرة بالآية ( 163 ) ، : { وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إلهَ إلاَّ هو الرحمن الرحيم } .
ما العلاقة بين أن يكون الصفا والمروة من شعائر الله وبين الذين يكتمون ما أنزلت الذات المُخَاطِبَة ؟ ، وما هي العلاقة بين الصفا والمروة وبين الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ ؟
وبعد التأكيد على أنّ الإله واحد تأتي الآية ( 164 ) لتخبر أنّ في المحيط المادي الذي يعيش فيه الإنسان آيات للقوم الذين يعقلون : { إنّ في خلق السماواتِ والأرضِ واختلاف الليل والنهارِ والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ومآ أَنزَلَ اللهُ من السماءِ من ماءٍ فأَ حيا بهِ الأرضَ بعد موتها وبَثَّ فيها من كُلِّ دابةٍ وتصريف الرياح والسحاب المسخّرِ بين السماءِ الأرضِ لآياتٍ لقوم يعقلون } 2 / 164 .
هذه الآية تشير إلى أنّ الذين لديهم عقل عليهم أن يُفكّروا في كُلِّ تلك الأمور التي وردت في الآية ، ولكن صياغة الآية أتت لتعمّق الاستلاب الذي يُعاني منه الناس في حياتهم ، فهي تؤكّد أن كُلَّ ما أشارت إليه هو من صُنع ما تُطلق عليه الذات المُخَاطِبَة ( الله ) ، وأنّ كُلَّ ذلك لا يحكمه قانون وليس للإنسان فيه أي تأثير ، وهذا ( الله ) يفعل كُلَّ ذلك دون أن يعيقه شيء ، فإن أراد هذا فعله ، وإن أراد ذاك فعله ، لا بل هو فقط يُصدر أمراً { إنّما أمره إذا أَراد شيئاً أن يقولَ له كن فيكون } 36 / 83 .
و ناني الآية ( 165 ) لتتحدّث عن وجود بعض من الناس الذين يتّخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله وتتوعدهم ، يوم يرون العذاب لتؤكّد أنّ القوة للهِ جميعاً وأن الله شديد العذاب . ويستمر النص في سرد أمثلة للوعد والوعيد : { إذ تَبَرّأَ الذين اتُّبِعُوا من الذين اتَّبَعوا ورأوا العذاب وتَقَطَّعَتْ بهمُ الأسباب } 2 / 166 ، { وقال الذين اتَّبَعوا لو أَنّ لنا كرّةً فَنَتَبَرَّأَ منهم كما تَبَرَّءوا مِنَّا كذلك يريهم اللهُ أعمالهم حسراتٍ عليهم وما هم بخارجين من النار ِ } 2 / 167 .
وتتوجه الآيات ( 168 ، 169 ) بالنصح للناس أن يأكلوا مِمَّا في الأرضِ حلالاً طَيّبًا ، وأن لا يتّبعوا الشيطانِ إنّه لهم عدوٌ مُّبين ، وتضيف الآية ( 169 ) إنّ الشيطان يأمر بالسءِ والفحشاءِ وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون .
هاتان الآيتان تؤكّدان تعميق الاستلاب ، فهي تطلب من النأس ن يأكلوا مما في الأرض !!! فهل أتت بجديد ؟؟ نعم أتت بجديد .. لقد أوهمت الناس بأنّ هناك من يملك أن يقول للأرضِ أن تقدّم أو لا تقدّم ما فيها ، وأنّ الناس لا يملكون أي تأثير في تهيئة ، وإنتاج ما تقدّمه الأرض ، وهذا هو الاستلاب ، التغريب عن الطبيعة الإنسانية وإنقاص من القيمة الإنسانية ... كما تقول لهم أن لا يتّبعوا الشيطان فهو عدوّهم !!! إذن الناس في كُلِّ الحالات لا يملكون من أمرهم شيئاً فهم إمّا أن يكونوا تُبّعاً للشيطان ، وهو عدوهم ، وإمّا أن يكونوا عبيداً لله ، الذي يُسيّرهم كيف شاء ، وإنّهم لن يفلحوا إلاّ في حالة واحدة فقط ، هي حالة الخضوع التام لله ، على أن يكون هذا الخضوع يتمثّل في تخليهم عن طبيعتهم الإنسانية والاغتراب إلى طبيعة مستلبة لليس لها حولٌ ولا قوّةٌ في أي أمرٍ من أمور حياتهم !!!
وتخبر الآية نفسها أنَّ الشيطان يأمر بالسوء والفحشاء !!! فلماذا أُعطِيت له كُلّ هذه الحرية في أن يُمارس عمله المعادي لله ؟؟؟ إنّه لمن المستغرب أن تكون هناك معركة بين ذات تدّعي أنّها هي الخالقة والمكونة وبين الشيطان الذي هو أحد مخلوقات هذه الذات ، وتكون ساحة المعركة وأدواتها هم البشر؟؟
كيف يمكن أن يتقبّل عاقل الطرح الذي يقول : " يقوم الشيطان باستخدام الناس وتجييشهم في الأعمال التي لا ترضي ( الخالق ) " ولا يرى أي موقف لـ ( هذا الخالق ) يمنع هذا الشيطان ( الذي هو في الأساس مخلوق من مخلوقات هذا الخالق ) ، من أن يقوم بتضليل الناس ؟؟..
وإذا وقفنا أمام الآيات ( 168 ـ 171 ) نجدها تثير موضوع الشيطان ليس فقط الذي تشير إليه هذه الآيات حسب ، وإنّما تثير موضوع الشيطان عموماً ... فإذا نحن ناقشنا مسألة الشيطان نجدها تطرح الآتي : -
أولاً ــ الشيطان ، هو أحد مخلوقات ( هذا الخالق ) ، فكيف يمكن له أن يعصيهُ ؟؟
ثانياً ــ هذا الشيطان بعد أن عصى خالقه ، حُكِمَ عليه بالطرد من الجنّةِ ، فكيفَ استطاع أن يعود إليها إلاَّ إذا كان ( هذا الخالق ) ليس خالقاً حقيقياً ، في الأقل للشيطان ؟؟ ...
ثالثاً ــ كيف استطاع الشيطان أن يدخل الجنّة من بعد طَرْدِهِ ، وأين قُدَرات ( هذا الخالق ) ؟؟ .
رابعاً ــ أين ( هذا الخالق ) عندما قام الشيطان بإغواء آدمَ وزَوجَهُ ، ولما ترك الأمر حتى يحقق الشيطان ما يريد ؟؟
خامساً ــ بعد قيام الشيطان بمعاصيه طلب من ( الخالق ) أن ينظرهُ إلى يوم يبعثون . ووافق الخالق على ذلك !!!.
سادساً ــ إنّ هذه الموافقة على تخليد حياة الشيطان طالما الحياة مستمرّة تعني أن ( الخالق ) قد وافق أن يكون الشيطان ندًا له ؟؟



#سالم_عمر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراء جديدة للنص القرآني
- رساله مفتوحه الى معالي السيد فيصل الفايز رئيس الوزراء الاردن ...


المزيد.....




- أوروبا ومخاطر المواجهة المباشرة مع روسيا
- ماذا نعرف عن المحور الذي يسعى -لتدمير إسرائيل-؟
- من الساحل الشرقي وحتى الغربي موجة الاحتجاجات في الجامعات الأ ...
- إصلاح البنية التحتية في ألمانيا .. من يتحمل التكلفة؟
- -السنوار في شوارع غزة-.. عائلات الرهائن الإسرائيليين تهاجم ح ...
- شولتس يوضح الخط الأحمر الذي لا يريد -الناتو- تجاوزه في الصرا ...
- إسرائيليون يعثرون على حطام صاروخ إيراني في النقب (صورة)
- جوارب إلكترونية -تنهي- عذاب تقرحات القدم لدى مرضى السكري
- جنرال بولندي يقدر نقص العسكريين في القوات الأوكرانية بـ 200 ...
- رئيسة المفوضية الأوروبية: انتصار روسيا سيكتب تاريخا جديدا لل ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سالم عمر - قراءة جديدة للنص القرآني ( ج 2 ) .