أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فؤاد قنديل - العرق النبيل














المزيد.....

العرق النبيل


فؤاد قنديل

الحوار المتمدن-العدد: 4013 - 2013 / 2 / 24 - 20:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



قصة قصيرة
أشرقت الشمس ونحن ندنو من المقبرة . زوجتي في أعقابي تسير بثيابها السوداء معصوبة الرأس . تحمل سلة كبيرة بها ثمرات البلح والرحمة .. تتقدم موكب النساء الذي يزحف كقطع من الليل التعس في أيديهن المناديل البيضاء جاهزة لتجفيف الدمع القريب.
كانت العيون بحيرات صغيرة من دم حزين . حولها جفون متهرئة وكانت بينهن ابنتي في فستانها الأبيض كلؤلؤة ترفل في أعوامها الستة .أصرت أن ترافقنا .. جلس الجميع حول القبر المهيب يحدقون في الباب المغلق . خلفه يتمدد جسد أمي . ارتحلت عنا وأقيم بيننا وبينها سد منيع.
بدأت الدموع تتفجر في العيون مخضبة بالصمت . الكل يحدق في الباب ويتذكرها . كانت تمتد خلالنا عرقا نبيلا من الحنان والكبرياء . . منذ أسبوع حملت أعناق الرجال جثمانها الكريم ووسدوها الرمال ، ملفوفة في الأكفان البيضاء ، مسبلة الأهداب هادئة كعهدها ، واثقة من رحمة الله .. تقبلت الموت ببسمة مشجعة .. حام الأطفال المساكين حولنا . من بعيد رأوا السلال الكبيرة فتقدموا . مدّوا أيديهم . فتحوا لزوجتي أكياسهم . أسقطت فيها البلح و "الرحمة " *.
تأملتهم ابنتي في دهشة ، ثم تابعت عدوها هنا وهناك .، كفراشة منتشية بالصباح الطازج والبراح والسكون والشجر . . جاء المقرئ وتابعه . جلسا أمام القبر في خشوع . شرعا يرتلان القرآن في عجلة ، و يطلقان الكلمات بألسنة عرجاء عبر أسنان محطمة وشفاه تتصور الآيات طعاما . لم يبلغ أرواحنا جلال النص المقدس ، ولم تومض في صدورنا المعاني العميقة المحلقة .
- صدق الله العظيم
قالها أبي ونفحهما بعض النقود ، فلم يقاوما دفاعا عن كتاب الله . اختفيا عن العيون في لحظة . جلس أبي مكانهما . بدأ هادئا و متئدا يقرأ سورة " يس " . أدركنا الفارق بين القراءتين .. كان أبي حلو الصوت واضح النبرات تتدفق الآيات على لسانه في سلاسة و جمال . درس في الجامع الأحمدي وكان صديقا للشيخ مصطفي إسماعيل الذي زارنا في بيتنا ببنها عدة مرات، وكلما زارنا سأل عني . رحمة الله عليه . تجلت المعاني القرآنية عمارة فنية أصيلة تصل ما بين السماء والأرض .. تفتح في الملكوت الرباني العظيم أبوابا وأبوابا، حتى الذي لا يفهم المعنى تأثر وشرب وارتوي ، وما زال يصيخ السمع .
تدريجيا شرع صوته يتوتر ويختلج . وبدأ يتعثر إلى أن سيطر النشيج المرتعد ، وانهمرت الدموع بينما كان جسده يهتز بعنف ، حتى بدا كأن أرواحا غريبة تكفلت به ... دعاه عمي وزوج خالتي والآخرون إلى التماسك والثبات ، على الأقل من أجل المرحومة التي تطوف روحها الآن بنا وترقبنا . ألسنا نقرأ القرآن من أجلها ؟!
أكمل أبي السورة ثم دعا لها وغلبه النحيب مرة أخرى . فاضت دموعه وتبعناه ، وقد فقدنا الإحساس بما حولنا .
جاءت وفود أخرى تضع الزهور على قبر أمي ، وتكثف الحلقات المحيطة بها . تبادلت العيون النظر . البعض لا يعرف البعض . كانت أما لأبنائها ولغير أبنائها .. ها هنا ترقد في سلام.
تساءلت بيني وبين نفسي ..هل يا تري حين ماتت أمي ماتت كل الأمهات ؟! .. جفت الدموع وهدأت القلوب المفزعة . كانت الأجساد قليلا ترتعد . ناديت ابنتي التي كانت تتقافز حول المقابر .. لا تعبأ بالموتى ولا تحفل الدموع . وردة بيضاء مشرقة وقطعة من الصباح الأخضر . قالت لها أمها :
- هيا اقرئي لجدتك سورة مما حفظت
تضاءلت البنت بعد أن تراجعت من ملامحها علامات البهجة. شملها خوف وحياء من الكبار . . أخذت طريقها إلى القبر . تكورت وجلست . واجهت أمي التي كانت تحبها . بدت الطفلة بردائها الأبيض وحذائها الأبيض وسط الكتلة المعتمة من النساء كوجه أمي في هذه الدنيا المتجهمة .. كانت الطفلة المضيئة تعلم أن جدتها خلف هذا الجدار نائمة .. حدّقت في الجدار كأنها تود لو تنفذ منه إلى جدتها . ثم أحنت رأسها ، وأنشأت تقرأ سورة " المُلك ".
رائعة .. كانت التلاوة رائعة .
استمع الكل في انبهار إلى طفلة مدللة تحفظ القرآن وتنطقه نطقا صحيحا . شاركوها التلاوة بأعماقهم . رددت قلوبهم ما تقول في سعادة تألقت فوق الوجوه، وكنت أنا مخلوقا آخر .. خفيفا جدا وطائرا كنت. تمنيت أن تظل ماضية في تلاوتها إلى آخر العمر .
اختنقت فجأة ، وانخرطت في البكاء . اندفع الجميع وراءها في نشيج محموم . صرخت الدموع مذعورة .. كل واحد كان يفقد الآن أعز من لديه ، وكانت الطفلة البريئة تغترف من قلوبهم وترتل . تقتلع من آبارهم الصدئة جذور الملح.
اهتزت بعنف جدران الضلوع .. لم يعد هناك من يسمع أو يرى . أفقت على أبي وهو يحتضن ابنتي كالمتألم ، ويدفن فيها وجهه بحنان مسعور . بدت لي ابنتي عظيمة ، لكنها يتيمة ومسكينة ، إذ فقدت بأمي كل أهلها ..آه .. نهضنا ..آه
توقفت مؤقتا هذه السيمفونية من الحزن الأبدي على الإنسانة الراحلة .. هذا هو المستقر الأخير ، وها هنا تموت الثرثرة .





• أقراص من كعك قليل الزبد



#فؤاد_قنديل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الصاعد إلى السماء
- من الثورة إلى السيرك
- نعم .. نكره العلم
- الجماعة تكره الثقافة
- أسباب العنف في مصر
- لماذا أنا مسلم عَلماني؟
- هل جاء كما تمنينا ؟
- في عين العدو


المزيد.....




- مبنى قديم تجمّد بالزمن خلال ترميمه يكشف عن تقنية البناء الرو ...
- خبير يشرح كيف حدثت كارثة جسر بالتيمور بجهاز محاكاة من داخل س ...
- بيان من الخارجية السعودية ردا على تدابير محكمة العدل الدولية ...
- شاهد: الاحتفال بخميس العهد بموكب -الفيلق الإسباني- في ملقة ...
- فيديو: مقتل شخص على الأقل في أول قصف روسي لخاركيف منذ 2022
- شريحة بلاكويل الإلكترونية -ثورة- في الذكاء الاصطناعي
- بايدن يرد على سخرية ترامب بفيديو
- بعد أكثر من 10 سنوات من الغياب.. -سباق المقاهي- يعود إلى بار ...
- بافل دوروف يعلن حظر -تلغرام- آلاف الحسابات الداعية للإرهاب و ...
- مصر.. أنباء عن تعيين نائب أو أكثر للسيسي بعد أداء اليمين الد ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فؤاد قنديل - العرق النبيل