أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - جواد بشارة - مقابلة مع القاص العراقي جبار ياسين















المزيد.....



مقابلة مع القاص العراقي جبار ياسين


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 279 - 2002 / 10 / 17 - 04:07
المحور: مقابلات و حوارات
    


أجراها في باريس د. جواد بشارة

س : أبدأ بسؤال كلاسيكي ولكن مع نوع من التحوير ، عادة ما يكون المبدعون الجدد أو بالأحرى المعاصرين ميالون إلى التجريب والتعقيد اللغوي بينما لاحظت عندك في أغلب ما تكتبه العكس تماماً  أي الميل نحو المباشرة والبساطة والعفوية التي لاتحتمل التأويلات ولا التعقيدات، والابتعاد عن استعراض العضلات اللغوية والشكلية ن  والتي هي برأيي أهم سمات الصدق في التعبير. فهل هذا خيار متعمد ومقصود أم هو أسلوبك الخاص الذي تستخدمه عادة ؟ أي طريقتك الخاصة التي تتحدث بها سواء في مجال القصة القصيرة أو المقالة أو البحث أو أي موضوع تتطرق إليه ؟ أي  أنت تبتعد عن التجريب اللغوي علماً بأنك غارق في موضوع الحداثة .
جبار ياسين : أود قبل الخوض في الإجابة أن أقول ان المعرفة بحد ذاتها هي عملية تجريبية ، ولكن هناك حقائق ثابتة . الحقيقة الثابتة هي أن الكاتب يتعامل مع العالم من خلال اللغة . وهناك مستويات عديدة من اللغة . إنما إذا افترض المستوى الواقعي فمن الأفضل دائماً للوصول إلى القارئ أو التعبير عن الأفكار بشكل واضح أن يلجأ  الكاتب  إلى طريقته الخاصة في التعبير . أي اللجوء إلى داخل نفسه ويخاطب المقابل كما لو كان يتحدث مع نفسه . وبالتالي لن يكون بحاجة إلى تجريب في اللغة أو لن يكون بحاجة إلى عملية استعراض عضلات لغوية أو شكلية كما قلت في سؤالك .
للأدب وظائف عديدة وليس وظيفة واحدة . وأهم وظيفة للأدب هي التوصيل وعملية المشاركة الجماعية . عملية القراءة هي عملية بين الكاتب والقارئ . وبالتالي فإن التوصيل هو أهم جانب من جوانب العملية الأدبية وأهم ميزة من مزايا عملية الخلق والإبداع الأدبي .
ما أبتغي الوصول إليه هو أن أصل إلى القارئ كي يشاركني فعل الكتابة .
س : أي تريد من القارئ أن يشاركك العملية الإبداعية ؟
ج : نعم بالضبط فهي عملية إبداعية مشتركة بين القارئ والكاتب . أعتقد أيضاً أن التجربة الحياتية نفسها تفرض أسلوب معين . في العادة يقول هوراس الروماني أن الرجل هو الأسلوب . والرجل بمعنى الإنسان . وهو التجربة أيضاً . ووفقاً لتجربتي أن الشكل ، رغم ضرورته ، فهو لا يمثل القيمة الأساسية في النص . وما يمثل القيمة الأساسية في النص هو اللغة . وما تستطيع اللغة أن تبتكره ، وإن كانت لغة بسيطة .
س : عملية التوصيل من خلال النص الإبداعي الذي تقدمه ليست مختلقة كلياً بل لها جذورها وابعادها التي تتعلق بالتجربة الشخصية كما ذكرت أنت ، ومتعلقة بالتاريخ الشخصي ، ومتعلقة بالتاريخ العام ، الذي هو تاريخ البلد ، وحضارته ، ولها ايضاً سياقها الزمني .فكيف تستطيع توظيف كل هذه الإحداثيات ، وهذه العناصر المشتركة التي هي : التاريخ ، الحاضر والماضي  أو الزمن ، والتجربة الشخصية التي لايعرفها سوى صاحبها المبدع ، ومع ذلك تمكنت في أغلب الأحيان من توصيلها من خلال النصوص النثرية أو الشعرية التي قدمتها للقارئ عبر عملية النشر والتواصل ؟ فكيف تتعامل أنت بالذات مع هذه المفردات التي ذكرناها وما هو تأثيرها عليك وهل تأخذ حريتك الكاملة باستخدامها أم تتقيد بما تحتويه من مضامين  وأحداث وتواريخ ؟
ج : أنا أعتقد  أن الحرية شرط أساسي في الكتابة . والحرية هي اختيار . بمعنى أنه ليست هنالك قوالب ثابتة تحدد حريتنا .الحرية بالنسبة لي هي أولاً اختيار كما قلت ، وعمل فردي .
في الكتابة ، الحرية شرط ضروري . أنا أعتقد أن الكتابة هي عملية " تذكريّة . أي أننا حينما نكتب نتذكر . وبدون الذاكرة لاتوجد هناك كتابة .
س : لدي سؤال  عن الذاكرة ودورها في نسيج العملية الإبداعية ، ولكن هناك  ذاكرة حقيقية ، أي معاشة ، وأخرى مختلقة  . فهل كل ما نتذكره نكون قد عشناه ؟ قد تكون تجربة عاشها آخرون  ، أو افلام شاهدناها  أو كتب قرأناها، وأصبحت جزءً من ذاكرتنا . فأي نوع من الذاكرة يكون له التأثير الحاسم والمباشر  في فعل الكتابة والإبداع ؟
ج : إن  الذاكرة الفردية  هي جزء من الذاكرة الجمعية . وبالتالي حينما يتجه المبدع إلى الذاكرة ، يذهب إلى ماهو جمعي فيها . ونعود إلى عملية المشاركة في القراءة ، حينما تريد أن تصيب القارئ إصابة حقيقية فعليك أن تتجه إلى ماهو مشترك . أي توقظ في نفس القارئ ماهو مستيقظ فيك . وبهذا المعنى فإن الذاكرة كما يقول بيرغسون " إنتقائية " بمعاني عديدة . فهي إنتقائية على صعيد الفرد ، وإنتقائية أيضاً على صعيد الكتابة . لأني لا أريد أن أكتب تاريخ ، إنما أريد أن أوقظ ماهو مخفي أو ماهو يمكن أن يكون مخفيا في الذاكرة . أي أنني أتجه إلى هذه النقطة التي يفكر حولها الجميع ومن بينهم ربما الفنان والكاتب ، الذي يستطيع أكثر من غيره الغور فيها .
نقطة الجرح ، الجرح الذي وقع ويقع في جسد الواقع . من هنا فإنني عندما أتجه في قصة كيشكانو مثلاً ، إلى شجرة آدم ، حيث تختم القصة ، بالحديث عن هذه الشجرة  التي توجد في منطقة القرنة في جزيرة السندباد  في جنوب العراق ، والتي غمرت صورتها ذاكرتنا جميعاً كعراقيين من جيلنا على الأقل ، أقول لإنني حينما أتجه إلى هذه الشجرة في نهاية القصة المذكورة ، والتي تسوقها الأساطير البابلية ، كأسطورة جلجامش وغيرها ، فذلك لأن هذه الشجرة مؤرخة في الذاكرة الجمعية العراقية  كشجرة خالدة . وحينما يقول بطل القصة أن كيشكانو شجرة الحياة قد قطعت ، فإنه يشير إلى مأساة العراقيين جميعاً . ان شجرة الحياة  قطعت اليوم . تلك الشجرة التي تربط العراق بماضيه ، بأساطيره ، بمخيلته ، بطقوسه ، قد قطعت . وهذا هو الجرح الحقيقي في هذه القصص . أي انني أتوجه إلى ماهو جمعي . وبالتأكيد انني جزء من هذه الذاكرة الجمعية .
س : ليس هذا هو الهم الوحيد بالطبع في المجموعة القصصية التي نشرتها تحت عنوان " قاريء بغدادي " إنما هو أيضاً بحث لا يتوقف عن الذات ، وعن الهوية . فكيف تعرف الهوية الإبداعية وكيف يمكنك من خلال العملية الإبداعية أن ترسم ملامح هذه الهوية ؟
ج : الهوية هي مانحن فيه وما كنّا فيها وما سنكونه  إذا صح التعبير . الهوية هي الواقع بصيغته الطبيعية . كما نتخيله .وحينما يأتي شيء من الخارج، أي من خارج هذا الواقع ليغيره ، فإننا نشعر بإشكالية الهوية .إن الشعوب تشعر في العادة بمشكلة الهوية حينما تتعرض لغزو خارجي يطمس هذه الهوية ، أو حينما يأتي  أمر عارض ليحطم هذه البنية التقليدية لثقافة ما ، لأمة ما . وعلى صعيد شخصي ، أشعر أن مشكلة الهوية بالنسبة لي بدأت في اللحظة التي تركت فيها العراق . في اللحظة التي كان علي مرغماً أن أترك فيها ثقافة ، وأن أمضي باتجاه ثقافة أخرى . في الوقت نفسه الذي اشعر أنه يتوجب عليّ أن أحافظ على ثقافتي القديمة ، وأن أعيش في صلب ثقافة أخرى . وهكذا فإن عملية التذكّر ، بالنسبة لي ، هي عملية إستعادة ماضي ، إستعادة الشحنات العاطفية للماضي ، وإستعادة مشاهد هذا الماضي ، ووضعها في هذا القالب الذي يتوجه إلى الذاكرة الجمعية على شكل نص إبداعي ، هو عملية بحث عن الهوية ، وعملية إعادة صياغة لهذه الهوية في نفس الوقت .
س : بعد أن حدث معك نوع يمكن أن نسميه " الصدام " او " الاختراق "، لهذه الثقافة الخارجية وانت مازلت في الداخل ، من خلال القراءات والمطالعات والمتابعات الثقافية العامة ،  ها أنت الآن أنت في الغربة وتعيش في وسط ثقافتها وتتعامل معها يومياً ، حتى لغوياً ، ألا تعتقد أن لها تأثير في تشكيل هذه الهوية ؟
ج : بالتأكيد ،ولكن جهد الإمكان ، أحاول أن أميز بين عنصرين ، وهذه هي اٌشكالية التي يقع فيها المنفي . أنه يجد نفسه بين بؤرتين ، بين لغتين ، بين زمنين مختلفين . وأكرر هذا دائماً ، أي يوجد بين روحي مكانين متباينين: مكان متخيل ، أو أصبح متخيل لأنه بعيد ـ بعد أن كان واقعياً ـ منتمي إلى الماضي ، ومكان آخر هو الحاضر ـ الذي أصبح واقعياً بعد أن كان متخيلاً ـ ، وحينما ننظر إلى الماضي من خلال الحاضر فإننا بالتأكيد نعيد صياغة الكثير من عناصر ومكونات هذه الماضي . وهو بالتالي ليس بالماضي الحقيقي ، إنه صورة أو أمثولة للماضي القديم ، وليس هو الماضي الحقيقي .على صعيد الحاضر ، وهذه إشكالية يعاني منها جميع المنفيين في العالم ، هناك حاضر يومي ، ولكن في كل لحظة علينا بذل جهد اضافي أكثر من أي مواطن عادي يعيش في بلده للمحافظة على توازن بين هذين القطبين :قطب الحاضر بإشكالياته وصعوباته وقسوته ، وقطب الماضي كمتخيل ، لأننا منذ لحظة النفي نعيش الهوية القديمة ، نعيش الماضي كمتخيل وليس كواقع حقيقي، خصوصاً في حالتنا نحن العراقيين حيث أن القطع يكاد يكون نهائي
س :  انه نوع من البتر ؟
 ج : نعم انه بتر حقيقي ، أي أننا لم نر صورة الوطن إلا عبر الصورة الفوتوغرافية ، والتلفزيونية ، أو عبر الحكاية وبالتالي ليس لنا من متخيل متساوق مع الحاضر . ان متخيلنا الحالي ليس له علاقة بما يدور واقعياً أو فعلياً إنما نملك صورة متخيلة عن ماضي ربما لم يعد قائماً . ومن هنا تأتي أهمية الكتابة ، وأهمية الفن . لأن الفن يستطيع أن يستحضر ، وهمياً على الأقل ، صورة هذا الماضي كما لو انه لم يمس .
س :  تقصد أن الفن  يستعيد اللحظات المفقودة .
ج : نعم لكن العملية محفوفة بالمخاطر
س : معنى هذا يسكنك هاجس العودة كأي مبدع منفي وبالتالي فإن العودة تلح عليك وبشكل واضح من بين السطور والشخصيات والأبطال والمضامين والكلام  اليومي  والصحفي ، شأن جميع المنفيين ، لكن الخصوصية التي تميزك أن هاجس العودة حاضر في كل لحظة . كأنك تستعد في كل لحظة للعودة منذ ربع قرن أو أكثر. ج : يحمل المنفي وطنه بين جوانحه وفي قلبه .لكني أسمي هذه العودة ، كما كتبت مرة في مقالة تحت عنوان " حلم العودة المستحيلة " عودة حلمية ، فلن تكون لنا عودة بعد اليوم . أقصد عودة حقيقية إلى الأماكن التي تركناها. قد تكون هناك عودة جسدية . لأن العالم قد تغير ، ونحن أيضاً قد تغيرنا . وهذه المخاطرة التي تحدثت عنها قبل قليل ، هي لحظة تحمل  اكتشاف الواقع  بعد العودة وفعل العودة ، اكتشاف الجرح كما ينزف واقعياً . أعتقد أن المنفي يبقى منفياً حتى بعد عودته ، وهذا ما أحاول أن أقوله .الحقيقة أن هذه العودة المنتظرة منذ ربع قرن لن تتحقق . فما العمل ؟  في كتاب " نصوص " أتناول العودة حيث النصوص المشار اليها تتناول المستقبل كماض ، أحاول أن أحقق بعض من هذه العودة " الروحية " . لدي قصة ستنشر قريباً لم تحتويها هذه المجموعة " القاريء البغدادي " لأسباب تتعلق بطول القصة  وعنوانها " قرة العين " وتدور أحداث هذه القصة في كربلاء . ويبدأ الراوي بالحديث عن أحداث هذه القصة بالقول انه قد انتظر طويلاً بأن تدور هذه الوقائع في الواقع وبما انه انتظر زمناً طويلاً ولم تتحقق هذه الوقائع فإنه يريد تحقيقيها في هذه القصة كواقع متخيل . أي أن يحقق هذه الرغبة كواقع . ويبدأ في الحديث عن عودته إلى كربلاء وتقصي المكان أو  البيت الذي كانت تسكن فيه إمرأة في القرن التاسع عشر ،وتقصي وقائع وأخبار تلك المرأة ، التي تسمى قرة العين . فهناك رغبة عارمة في العودة لم تتحقق ولن تتحقق في الواقع . ولا نقوم بتحقيقها إلا عبر الفكر الخيالي .
س : ألم يحصل لك أن تتخيل وأنت في المنفى  لحظات تعود فيها إلى البلد وتلتقي بالشخصيات التي خلفتها هناك التي قد تكون قد قتلت أو ماتت أو نفيت أو سجنت أو هرمت ، لكنها تتخيلها كما في لحظة مغادرتك لها ، لكنك تصر على تخيلها كما هي وكأنها لم تتغير أو يمسها الزمن وتحولاته . ألم تشعر أنك بحاجة لأن توقف الزمن في لحظة معينة وهي لحظة المغادرة باتجاه المنفى ، وبعد أكثر من ربع قرن تعود لتجد نفس الأشخاص الذين كانوا يحيطون بك في نفس أعمارهم السابقة ونفس أماكنهم ؟
ج : هذا يتحقق فقط في الكتابة وفي الحلم فقط . فأحلامي وتخيلاتي مليئة بهذا النوع من البشر وهذه الشخصيات ، وبهؤلاء الأصدقاء الذين فقدتهم ، بالأماكن البعيدة التي فقدتها ، بأماسي الصيف الجميلة التي فقدتها ، بصوت انسياب ماء النهر في دجلة ، بالضوء الخافت لحدائق بيوتنا ، بصوت الأمهات وهن ينادين أطفالهن في المساء ، بصوت الضجيج الجميل في الحارة والشارع ، هذه الأشياء لم تعد موجودة إلا في الأحلام أو بالأحرى في الكوابيس ـ أو في  ما أحاول دائماً أن أكتبه على الورق .
أنا أعرف أنني لن أعود بالمعنى الواقعي ، ولن ألتقي هؤلاء الناس لأنني قد تغيرت وكبرت وهرمت ، والآخرين فقدوا وماتوا وسافروا وهجروا الخ ... وكما قلت في قصة " على آثار الذئاب " فإن الشيء الممكن أن يتحقق هو العودة والشعور بالخيبة وبالوحدة المطلقة . لاتوجد إمكانية لمسك الماضي لأن الماضي قد مرّ ، ونحن لم نشارك في الحاضر وندعي أننا نصنع المستقبل لكن المستقبل يصنع رغماً عنّا ، وخارج إرادتنا . وبالتالي فإننا لسنا سوى شهود  .
س : أي معنى ذلك انك تعيش ألم مستمر ودائم وشبه نزيف لما يمكن أن أسميه " الذاكرة المفقودة " ؟
ج : بالتأكيد . لايحك  جلدك مثل ظفرك ، كما يقول المثل . الألم يزداد في اللحظة التي لايمكننا أن نكتب فيها لمواطنينا . ونحن نحاول على الأقل أن نشهد العصر أو الزمن ، بالرغم من عسفه وهول المأساة التي يعيشها الناس الذين اجتثّوا من جذورهم في وقت مبكر . لا تنسى أنت أيضاً مضى عليك زمن طويل في المنفى وخرجت منذ وقت مبكر يزيد على ربع قرن ، وكان عليك أن تعيد في وقت مبكر بناء كامل حياتك في مكان آخر وموقع آخر وظرف آخر . أن تعيد ولادتك من جديد دون والدين . وهذه في الواقع عملية غير إنسانية . النفي ، كما في الأساطير ، هو شر البلايا التي تلحق بالبشر . قد يكون الموت أهون . لأن حزن الموت مؤقت فالحزن على الميت يدوم أربعون يوماً أو سنة على أكثر تقدير ، لكن الحزن على الأحياء والمنفيين ليس له من نهاية . وبالتالي فإن الحزن والحداد على الوطن المفقود ، وعلى الجيل المفقود ، وعلى الذاكرة المفقودة ، وعلى اللغة المفقودة ، وعلى المكان المفقود ، هو حزن يدوم مدى الحياة .
س : للعراق ثقل في وجودك . وكما يقال كلما التقى مثقفان عراقيان إلا والعراق ثالثهما . ثم تاتي بعده هموم الإبداع التي لا تنفصل عن أهمية البلد بالرغم من أن تجربة العيش داخل العراق تقل زمنياً عمّا عشنا نحن من هذا الجيل ، خارج العراق ، خاصة وأن حياة  المنفى كلها فترة نضوج بينما تجربة العيش في الوطن تخللتها فترة الطفولة البريئة التي لاتعي سوى العاطفة . فإن سنوات الوعي في داخل الوطن قليلة بالقياس  إلى ما شهدناه وعشناه من سنوات وعي طويلة في المنفى . ومع ذلك في عمليات الإبداع التي نمارسها ، كل على طريقته ، سينمائية أو تشكيلية أو روائية أو شعرية ، يوجد للعراق ثقل كبير جداً لا يوازيه ثقل البلدان التي عشنا فيها منفانا . وأنت سبق لك أن كتبت مقالة مهمة ورائعة عن " إبداع العراقيين في الخارج أي في المنفى " وما حققوه من انجازات ودراسات ومقالات  واصدار كتب واقامة معارض وعمل افلام واصدار مجلات وتأسيس مؤسسات ثقافية  الخ ...وعن دور العراقيين في دور النشر والمجلات العربية والأجنبية التي ساهم بها العراقيون بصورة مكثفة ، وبكافة المجالات الابداعية   . وهذا يعني ان المبدع العراقي لم يمت في المنفى بل تمكن من خلق عالمه الخاص ومع ذلك يبقى ثقل العراق يربض على انفاسه ودواخله وآماله ومشاعره أكثر من ثقل البلد الذي يحتضنه  والذي اصبح بمثابة بلده الثاني . خصوصاً في حالتك أنت .
ج : أنا أعيش في وضع منعزل فرنسي مئة بالمئة تقريباً مع الفلاحين والطبيعة وأمارس الحياة كالفرنسسين في الأرياف . ولكن صحيح ما تقوله فأنت حينما تدخل إلى دار أي عراقي منفي فانك سوف تجد حتماً صورة من صور العراق أو شيء يذكر بالعراق  ، تربة الصلاة مثلاً ، أو مسبحة ، أو صورة لإمام أو ولي من الصور الشعبية ، أو سجادة صلاة موضوعة في مكان كأنها شيء مقدس ، العراق حاضر ، وحضوره عجيب ، والمسألة كما أعتقد لها علاقة بالتاريخ والجغرافيا . في هذه البلد ذو النهرين ، وهو من البلدان القليلة التي حكمها النهران ، فالنهران العظيمان دجلة والفرات حكما العراق آلاف من السنين  وستة آلاف سنة من التاريخ المعروف ، ومأساة العراق اليوم الحقيقية ، والكوارث الحقيقية للعراق بدأت حينما بدأ العراقيون يمسون هذين النهرين حينما بدأت محاولات المس بمجرى هذين النهرين صار العراق وكأنه بدأ يتحطم ويتفتت . عاش العراقي بين هذين النهرين وحولهما ، كما لو أنه لا يستطيع العيش خارج هذين القطبين أو بعيداً عنهما . وشخصية العراقي في جانبها النفسي ، محكومة بازدواجية النهرين .
س : هذه مقاربة سوسيولوجية وانثروبولجية جديدة  تربط بين الكائن والمكان وتضاريسه لتحليل شخصية الانسان العراقي ؟
ج : لا أدعي ذلك ولكن يبدو أن العراقي غير مفهوم عربياً . فينظر له وكأنه خارج السرب العربي . وغير مفهوم آسيوياً مع العلم ان العراق جزء من قارة آسيا . وغير مفهوم متوسطياً رغم أنه يكاد أن يحاذي المتوسط ومكون أساسي للمعادلة الشرق أوسطية . في هذه الاستثنائية القائمة في الشخصية العراقية يبرز العنف العراقي والحزن العراقي والمواقف القصوى للعراقي ، التي هي جزء من تشكيلته ، وأنا أعتقد أن هذه الشخصية المتميزة مسكونة بهاجس النهرين . بقوة اندفاع الماء فيهما في الماضي وفي فصول ما . وفترة الصيهود ، العراقي بين مد وصيهود . دائماً . والعراقي مزدوج بين عشق للموت وعشق للحياة . بين تدين وصوفية مطلقة وبين اباحية مطلقة أحياناً .
لذلك فإن العراقي عندما يخرج يحمل معه هذه البذرة التي تظل تنمو معه كأن من ذاق ماء هذين النهرين فإنه أما أن يموت قربهما وإما أن يبقى معذباً طوال حياته وهو بعيداً عنهما ومحروماً من تذوق مياههما . وهذه حالة يمكن تلمسها عند غالبية العراقيين . أي الازدواجية العراقية التي لايفهمها أحد .
س : للعراقي ، إن كان مؤمن أو غير مؤمن ، مطبق للدين أو غير مطبق ، ماركسي أو ملحد ، علماني أو متدين ، شيعي أو سني ، عربي أو كردي ، صفة يمكن تشخيصها بأنه إنسان متعلق بالدين ، بمعنى آخر أن للدين دور وتأثير يمس جميع تفاصيل حياة الانسان العراقي خاصة المبدع ، وهذا مالاحظته عنك شخصياً . فهل يمكن أن تحدثنا بطريقتك الخاصة عن رحلتك مع الدين ، الدين بمعناه الروحي السامي وليس الطقوسي والشعائري فقط ، بمعناه الشمولي ، فلا يهم أن يقال ان جبار ياسين صار متديناً ويعيش تناقضا مع نفسه ، القضية هي أن جبار ياسين المثقف والمبدع الذي يعش في المنفى سنوات طويلة لم يتخلص أو لم يحاول التخلص من تأثير الدين عليه وعلى انتاجه وابداعه . وبالتالي يوجد للدين اهمية في حياتك الخاصة فكيف يمكنك الاجابة عن هذه الاشكالية والتحدث عن الدين ودوره في حياتك وكيف تفهمه وتمارسه او تتعامل معه ؟
ج : أنا أعيش الدين كحالة ثقافية اولاً . الدين بالنسبة لي يحكم  جميع العلاقات الثقافية ، لأن الدين هو القطب ، أو الفكرة التي تناضل ضد الموت . أو تسهل حياة الانسان لكي يستقبل الموت بلا خوف أو جزع . في بلد كالعراق حيث النص الأول في تاريخ الانسانية مكتوب من أجل البحث عن الخلود والخلاص من الموت . بينما استطاعت الحياة الفرعونية ان تقدس الموت وتجعل منه موضوعاً ، وأصبح موضوع الحضارة المصرية الأثير هو " الموت " والتلاؤم مع الموت  والكتاب الوحيد الذي تركته  الحضارة المصرية  هو " كتاب الأموات " . بينماا لحضارة العراقية تركت آلاف النصوص والكتب لأنها تبحث عن الخلود . فالدين هو الفكرة التي تحاول أن تسهل حياة الانسان لكي يستطيع الموافقة على الموت .
س : أو مواجهة الموت
 ج : نعم ، أو مجابهة الموت . لأن الموت في ذهن العراقي هو عملية تدمير تام لكيان الانسان . لذلك أعتقد أن لطقوس الموت استثنائية  وتميز في العراق ، تختلف عمّا يوجد في الدول المجاورة له . سواء أكانوا عرباً أم أتراك أم فرس . بهذه المعنى أنا أعيش الدين كحالة ثقافية  وأنا أقصد بذلك ان الحالة الروحية  أيضاً تدخل ضمن هذه الحالة الثقافية . فأنا " متدين " بهذا المعنى المحدد .
س : أي انك تستبعد الجانب الطقسي
ج : نعم أنا لا ازاول الطقوس والشعائر بالمعنى الديني التقليدي بل أمارس تديني من خلال محاولة الوصول إلى علاقة جوهرية بيني وبين الأشياء من خلال تلمس فكرة البحث عن مهدئات  تساعدني على استقبال الموت بلا جزع أو خوف . وكأن الدين هو عملية ترويض نفسي المتمردة على الموت . بهذه المعنى أعيش الدين . لذلك تجد كلمة الموت تتكرر كثيراً في هذا الكتاب " قاريء بغدادي " وفي غالبية كتبي الأخرى .
س : لاحظت ايضاً في بداية معظم النصوص اللجوء إلى التراث وإلى التاريخ ،وأخذ نصوص أو الاستشهاد بفلاسفة ومفكرين وشخصيات تاريخية معروفة  ، أو شخصيات ذات عمق  متجذرة في الروح العراقية ، مما يدل أن لديك باع طويل بالتعامل مع التراث ثقافياً ، فهل الاطلاع على التراث واستلهامه أثر عليك وعلى أعمالك الابداعية ؟ وما جدوى اللجوء إلى النصوص والاستشهادات  التاريخية والتراثية التي هي بمثابة مقدمات لكل نص ابداعي ؟
ج : في الحقيقة ان الكاتب يكتب ما يعرفه . وفي اثناء عملية الكتابة يكتشف انه يعرف بعض الأشياء التي لم يتخيلها قبل البدء بالكتابة . هذه حالة عامة . إن عملية اللجوء إلى التراث ليست مفتعلة بقدر ما هي جزء من ثقافتي . لقد لاحظت أن معظم هذه القصص قد انطلقت من أفكار بسيطة ، أشبه" بحزورات" ، من الطفولة أو قصص الجدات وقصص التراث الطفولي ، وكما تجد في كتاب القاريء البغدادي أنني وضعت هذه القصص الطفولية  كمداخل ،كما لو انها هي التي تقف وراء النص الذي سيأتي  وهذا هو واقع الحال . النص الذي كتبه الرجل البالغ فيما بعد  من مخزونات الانسان الطفل الذي كان عليه . وهي تساهم في شرح النص أو التهيئة للنص او بمثابة تقديم إذا شئت . وفي نفس الوقت هي طريقة كي أري هذا الحبل الذي يربط بيني وبين طفولتي . وأنا شخصياً متعلق كثيراً بالطفولة .
س: العنوان الرئيسي للكتاب هو " القارئ البغدادي " وهو عنوان جميل وذكي وبعده عنوان فرعي هو " حكايات وقصص " مالذي تريده بمثل هذا التفريق بين " الحكايات " و " القصص القصيرة " ؟
ج : في الحقيقة أنني أفضل كتابة الحكايات
س : مثل الحكواتي أو الراوي الشعبي ؟
ج : نعم أحب أن   أعمل كالراوي والحكواتي ، أن أروي وأتذكر وأروي ما أتذكره ، دون الدخول في التقنية الحديثة المؤسطرة  للقصة القصيرة . وضعت حكايات لأني أحكي . وكما ترى في كل نص من نصوص الكتاب أبدأ كما لو أني أحكي جزء من سيرتي وفي الأدب هناك عملية الإيهام . الكاتب يكون شديد المراس حينما يوهم القارئ بأن القصة حقيقية وأن مايرويه حدث بالفعل . وأن القصة تهم القارئ أكثر لأنها وقعت لغيره . فبهذا المعنى أكتب حكايات ،رغم أن للحكاية مردود أو وقع  سلبي في الدب العربي الحديث لأن الحكاية هي باللهجة العراقية " السالفة " ، بينما الحكاية هي أعقد من هذا بكثير . فالحكاية هي العالم الفنتازي ، هي العالم المتخيل ، المبالغ في التخيّل . والتي لاتستند كلياً إلى الواقع مع أنها تبدو وكأنها حصلت فعلاً في الواقع . أي هي الواقع المنتقى ، أو هي أمثولة الواقع . بهذا المعنى استخدمت تعبير حكايات وقصص لأن الكثير من النصوص تقع ضمن سياق الحكاية كما عرفته قبل قليل . والبعض منها يمكن الا تحدث في الواقع .
س : النص مكتوب باللغة العربية أساساً وترجم إلى اللغة الفرنسية  وسبق نشره في مجلات مختلفة لكنه لم يصدر بنصه العربي في كتاب وربما سيصدر في ربيع السنة القادمة في مصر كما أخبرتني . هل انت موافق على النص المترجم مقارنة بالنص الأصلي ؟ وهل حصل تغيير من لغة إلى أخرى ، هل أعدت صياغة النص باللغة الفرنسية؟
ج : إمتلاك لغتين  أمر مهم بالنسبة للأديب . نعم لقد أعدت صياغة النصوص الفرنسية وهي لاتشبه كلياً او تتطابق كلياً مع النصوص العربية الأصلية . لقد تعمدت تقديمها بهذا الشكل باللغة الفرنسية لكي تقرأ ايضاً من قبل القارئ الفرنسي .
س : أي ما تقدمه للقارئ الفرنسي ليس ترجمة حرفية للنصوص العربية بالمعنى التقليدي المتعارف عليه ؟
ج : كلا  ليست ترجمة  أمينة  ولكني وضعت لمساتي فيها، بل أن بعض القصص المنشورة باللغة العربية الأصل قطعت منها تفاصيل ونصوص كثيرة عند ترجمتها للفرنسية واستبعدت بعض الأجزاء التي لايستطيع القارئ الفرنسي استيعابها لأنها مليئة بتأويلات وتفاصيل بعيدة عن حياة القارئ الفرنسي . وحاولت أن اقدم نصاً فرنسياً قابلاً للفهم . ويتفاعل مع النص .
س : ألم تراودك فكرة كتابة رواية طويلة ؟
ج : نعم ، لدي ثلاث روايات لم تنشر بعد . وستنشر الرواية الأولى قريباً .لدي رواية جاهزة باللغة الفرنسية ستنشر في بداية عام 2001 في إحدى دور النشر الباريسية . لكني أحاول جاهداً أن تظهر باللغة العربية قبل ظهورها باللغة الفرنسية . وسوف تصدر في القاهرة ايضا . الأولى بعنوان " سارق الذاكرات "و هي الرواية التي انجزتها قبل أشهر بشكل نهائي . ورواية أخرى عن  الذاكرة والحنين  والمنفى واللعبة القاتلة التي تعبث بالذاكرة لتجعل منّا جلادين لأنفسنا . وعندي رواية قديمة انجزتها ولم أنشرها تعود لأعوام الحرب العراقية الإيرانية وهي بعنوان " الترجمان " أعدت كتابتها في الأشهر الأخيرة  مع تعديلات عميقة وجوهرية أجريتها عليها .
س : لكن  الرواية لاتشيخ او تقدم  في أي وقت كتبت
ج : صحيح لكني أكتب كثيراً وأنشر قليلاً  فأنا مقل في النشر نسبياً . كما اني أترك النصوص تتخمر لفترة قبل أن أنشرها وأعيد كتابتها مرات ومرات ولا أتسرع . عندي اتفاق مع ناشر لبناني منذ عامين لنشر رواية سارق الذاكرات ولم أنشرها بعد . لأني كنت أرى فيها بعض النواقص واليوم اشعر بقناعة نسبية أنها جاهزة للنشر في العام القادم .
س : أنت متابع وقارئ جيد لابداعات مبدعين عراقيين آخرين في مجال القصة والرواية فما هو تقييمك لهذه الانتاجات كناقد وكمبدع في نفس الوقت ؟خاصة وان كل مبدع عراقي يعيش ظروفاً خاصة قد تكون غاية في الصعوبة تمنعه من النشر وتوصيل انتاجه إلى الآخرين يسهولة
ج :  بين العشرات من الروايات التي صدرت في الآونة الأخيرة يمكننا تمييز عدد لا بأس به . هناك توجه جدي وصرامة لدى البعض في كتابة الرواية خاصة بعد الحقبة الصعبة التي مر بها العراق من تشتت وكوارث من حروب ومنافي واهتزاز للواقع . هناك رغبة لدى هذا الجيل في تسجيل الحدث الكبير . والرواية عموماً  تسجل أحداثاً كبرى . وطويلة في امتدادها الزمني .  لدينا كتاب يكتبون الرواية جيداً .واذا كان لا بد من ذكر بعض الأسماء فأذكر رواية شاكر الأنباري التي أعجبتني كثيراً وهي رواية " الواح " ،وأعجبتني كثيراً رواية نجم والي بعنوان " مكان اسمه كميت " والتي اشرفت على ترجمتها إلى الفرنسية . هناك أسماء تحاول أن تمضي لكنها لم تصل بعد لكي تتميز بكتابة رواية ناضجة لكنها تشكل بدايات واعدة جداً . وما تحقق في مجال الرواية يستحق وقفة تأمل . لا يمكنني أن أضع غائب طعمة فرمان أو فؤاد  التكرلي في نفس الخانة لانهم ينتمون لجيل آخر .وهناك كتاب آخرون من الجيل الجديد يكتبون كتابات جيدة مثل سليم مطر في روايته " إمرأة القارورة " وأتمنى أن يستمر هذا الكاتب بكتابة الرواية فقد تحول مؤخراً إلى البحث الاجتماعي والسياسي في كتابه الذات الجريحة وهو موهوب كروائي أكثر منه كباحث .
س : هل لديك متابعة أو اطلاع على أدب الداخل أو ابداع الداخل بعد أن تحدثنا عن ابداع الخارج أو ابداع المنفى وهذا لا يعني ان الداخل خلا من الابداع رغم المحن والحروب والقهر السياسي والنفسي والصعوبات الاقتصادية القاتلة ورغم ذلك استمر المبدعون في الداخل يقدمون عطاءات ممتازة اطلعت على القليل منها وكانت رائعة أذكر منها كتابات وارد بدر السالم على سبيل المثال لا الحصر وهناك محمد خضير أيضاً وهو أهم كتاب القصة في العراق ومازال يعيش في الداخل . فهل اطلعت على بعض الكتابات التي تنشر في داخل العراق وماهو تقييمك لها ؟
ج : اطلاعي محدود بحكم قلة ما يصلني من انتاج من داخل العراق ن وهو انتاج غير منتظم فمثلاً أقرأ قصة قصيرة لكاتب ثم يختفي اسمه ولا أقرأ له شيئاً آخر بعد ذلك . من الصعب الحكم الموضوعي لأني لا أتوفر على معرفة حقيقية . وأحب أن أعلق على مفهوم ابداع الداخل والخارج والذي طرح منذ سنوات على يد النقاد ياسين النصير
لا أرى موجباً للتقسيمات في الأدب . وفي مرحلة مابعد الحداثة لم تعد هناك أشكال ادبية محددة اختلطت الرواية بالقصة ، الشعر بالنثر ، وبالمقالة والخاطرة والمذكرات الأدبية الخ .. كما ان الأدب العراقي ليس عربياً فقط فلا ننسى الثقافة الكردية والثقافة التركمانية وهما جزء أساسي مكون للثقافة العراقية . الثقافة العراقية المكتوبة بالعربية هي ثقافة واحدة سواء تعلق الأمر بالخارج أو بالداخل . اللغة التي يكتب بها الكتاب هي واحدة ، كما ان المشاعر والهواجس التي تحكمهم اعتقد انها واحدة ايضاً . اما اذا كنا نميز بين من هو في الداخل والخارج على النسق الذي ذكرته فيمكن الحديث عن ادب بغداد وادب المحافظات . فهذه التقسيمات تعسفية قد تخدم احياناً بعض النقاد لتسهيل مهمة دراسة كاتب او كاتبين . ولكنها في سياق النقد الادبي وعلى حد معرفتي فهي تشخيصات تعسفية . لقد كتب اكثر الادباء الايرلنديين كتاباتهم وهم في خارج ايرلندا  كما كتب كثير من الاميركيين ، خصوصاً الجيل الضائع ، وهم في باريس . أين نضع كتاب كيشار كمال الذي عاش فترة في خارج تركيا باعتباره اديب داخل أم اديب خارج ، أم الكاتب التركي نديم غورسل ، أم غارسيا ماركيز الذي عاش نصف حياته متجولاً بين بلدان امريكا اللاتينية واوروبا بين روما وباريس ، هل نعتبره كاتباً كولومبياً من الداخل ام من الخارج ؟ ثم نحن الذين نكتب في الخارج اليوم بعد ان نعود إلى العراق ، ماذا سيطلق علينا ؟ كتاب الخارج العائدون إلى الداخل ؟ وكتاب الداخل الذين سيخرجون ويلتحقون بجموع المنفيين من المبدعين ؟
س : لدي توضيح بسيط بهذا الصدد ، أنا اتفق معك كثيراً في ردك  وبصرف النظر عن كون التقسيم تعسفي أم لا ولكن هناك أمر لابد من أخذه بعين الاعتبار هو  ان المناخ ، النفسي والطبيعي والمحفزات الابداعية التي تؤثر على عمليات الكتابة ليست متماثلة لدى الشخص الذي يعيش خارج بلده كالشخص الذي يعيش داخل بلده . خاصة في بلد مثل العراق وماله من خصوصية متميزة ذكرتها قبل قليل . الذين خرجوا علقت في ذاكرتهم تلك المؤثرات لكن الذي بقي في الداخل مازال يعيشها بصورة يومية ومتواصلة بكل تناقضاتها وسلبياتها وايجابياتها وبكل التغيرات التي طرأت عليه ونحن لا نشعر بها أو نحسها مثله . خاصة بعد حربين داميتين ، والحرب كما تعلم ليست أمراً عادياً أو عارضاً فهي تترك ندوباً كثيرة .الحرب دمار كامل للنفسيات والاخلاق والمفاهيم والتقاليد .لقد ظهرت اخلاقيات عراقية جديدة لانعرفها نحن الذين نعيش في المنفى . كما ظهرت شخصية عراقية جديدة في الشارع العراقي والذي يجسدها ويصورها ويتعامل معها يومياً هو المبدع الذي يعيش بالقرب منها وبتماس كامل معها في داخل البلد ، وبالتالي لابد أن يكون المبدع المقيم في الداخل متميزاً ليس بالضرورة افضل أو اسوأ بل لديه نفس آخر ، رغم كونه عراقياً مثل باقي العراقيين حتى لو كانوا يعيشون مرغمين خارج بلدهم . القضية قضية مكان  وهناك تجارب في سنوات العشرينات بل وحتى أواخر القرن التاسع عشر هاجر كثير من الأدباء اللبنانيين ولم يكونوا منفيين رغماً عنهم وابدعوا ما سمي بأدب المهجر ثم عاد الكثير منهم إلى لبنان وبقي أدب المهجر متميزاً في كتاباتهم . فكتاباتهم في المهجر ظهر الكثير منها بلغات البلدان التي اقاموا فيها وهاجروا اليها خاصة الانجليزية . والقضية لم تكن قضية لغة  بل احساس ونفس خاص تميزت بها تلك الابداعات . وأهم ما اتسمت به تلك الابداعات هو استغلالها لمناخ الحرية الثمين .
ج : أنت على حق فالمسألة الجوهرية التي تميز مابين أدب الخارج والداخل هو مسألة الحرية . فالكاتب الذي استطاع أن يفلت من شبكات القمع ، استطاع ان ينظر إلى بلاده من مكان قصي ، من مكان أعلى وأن يرى حجم الكارثة من ناحية ، وأن يتمتع نسبيا بهامش من الحرية تمكنه من تناول موضوعات من الصعب عليه تناولها  في الداخل بحكم ظروف القمع والرقابة . هذا هو الفارق الأساسي الذي لايمكن تناسيه او تجاهله في عملية التمييز بين ابداع الداخل والخارج . لا اضع الأدب الرسمي في نفس المستوى، واقصد به كل ماكتب من أعمال روائية أو شعرية عن الحرب من وجهة نظر النظام وكتبها كتاب كانوا في الداخل وهم الآن في الخارج منفيين . يوجد من هؤلاء الكثير في الردن وفي السويد ممن كتبوا عن الحرب ومجدوا الحرب وبرروها خدمة للنظام ولآلته الدعائية . ومجدوا النظام والطاغية تحت ظروف صعبة منهم من كان مرغماً ومنهم من كان متطوعاً الخ .. وأغلبهم اليوم لاجئين سياسيين في الخارج . وهؤلاء قد لايستفيدون من مناخ الحرية المتوفر لهم حالياً لأنهم لم يفهموها عندما كانوا في الداخل ولم يفهموها  وهم أحرار . خاصة وان مفهوم الحرية مفهوم نسبي . لأن الكاتب الحر قد يكتب نصوصاً لا ينشرها وقد يستطيع أن يسرب الكثير من ألأفكار الهدامة  بالنسبة للنظام واجهزته القمعية ، دون أن يطلقها بشكل مباشر لأنه متمكن من الفن . المشكلة تتعلق بالتكوين النفسي والفكري والموهبة التي يتحلى بها الكاتب .
س : هذا  تشخيص سليم لكن لايعني أن من يعيش في الداخل تحت ظروف صعبة لايمكنه أن ينتج ابداعاً أصيلاً وناضجاً . توفرت لي فرصة بالصدفة للاطلاع على كتيب صغير تحت عنوان " انفجار دمعة " لوارد بدر السالم وكان نصاً مذهلاً وهو متمكن من الكتابة ومن التعبير الأدبي الشفاف واللغة الأدبية الرفيعة .تكلم عن حالة انسان مبدع اديب ، مثقف عراقي يعيش لحظات الدمار والقصف  والحرب الدامية وكتب انطباعاته واحاسيسه واللحظات اليومية الصعبة التي يعيشها وهو يواجه الموت في كل لحظة .
ج : نعم سمعت به وهناك مبدع آخر هو جنان جاسم حلاوي الذي نشر مجموعته القصصية الأولى وهو في العراق استطاع أن يقول اشياء كثيرة وجريئة واكتشفته من خلال قراءتي لهذه المجموعة القصصية . وكان حينها يعيش في العراق ووقعت بيدي وانا في بودابست وقرأتها بشغف .   ثم استطاع أن يستمر في الكتابة الجيدة وهو في الخارج متمكناً من حريته الشخصية . ولديه تناول للواقع يختلف عن كثيرين غيره . الموضوع هو الحرية الداخلية المرتبطة بالدين وبالتصور الوجودي للكون والشروط الأخلاقية للكاتب التي هي مسألة جوهرية .
س :   انت كمثقف عراقي مرتبط وجدانياً بالوطن رغم ابتعادك عنها جسدياً كيف تجسد مشاعرك إزاء ما تعرض له من حروب كيف عبرت عنهما في أعمالك الابداعية ؟ ليس بالضرورة التحدث عن الحرب والكتابة عن الحرب  بل لابد أن يكون هناك أثر ما للحربين في كتاباتك هل يمكن أن تحدثنا عن ذلك ؟
ج : أعتقد أن أول قصة كتبتها بشكل جدي ونشرت في مجلة الكرمل وحازت على جائزة القصة القصيرة في فرنسا عام 1984 هي قصة " طقس يومي " وهي قصة عن الحرب . ولم  أذكر فيها أي شيء عن الحرب ، وتتحدث عن إمرأة تعيش معاناتها الجنسية في قرية بعيداً عن زوجها الغائب . وكتبت مجموعة من القصص في ذلك الوقت تتناول الحرب من خلال نساء ومن خلال أطفال دون أن يكون فيها أي صوت للمدافع  والدبابات وميادين المعارك . أي حوادث الجبهة الخلفية للحرب . كما لاحظت ان جميع القصص المنشورة في هذه المجموعة " القارئ البغدادي " هناك عبارة " الأحداث المأساوية " . وأن العودة تتحق دائماً بعد انتهاء الأحداث الدامية والمأساوية . والمقصود بالأحداث المأساوية هي الحقبة الزمنية الطويلة التي تربو على ثلاث عقود من الزمن التي من الصعب اختصارها لأن السلام لم يتحقق فيها ولا ليوم واحد . ونحن نتحدث عن حربين من العام 1980 إلى 2001 وحتى ماقبلها لأن البلد يعيش حروب كثيرة أكثر من حربين حروب الداخل وحرب الأكراد وحرب الجنوب وحرب الانتفاضة وحرب  القمع اليومي  ومطاردة المعارضين الشرفاء ، حروب المواطنين اليومية من أجل البقاء على قيد الحياة . بهذا المعنى أتحدث بصورة إيحائية وبشيء من الحياء عن هذه الحقية وكنت اشير اليها في جميع كتاباتي بعبارة " الأحداث المأساوية " و " الأحداث الدامية " . وهي الحقبة التي سحق فيها  العراقي ، وسحق فيها الوعي العراقي ، والحقبة التي دمر فيها العراقي . وحينما اتوجه إلى المستقبل الذي لم يتحقق بعد فاني اتعامل مع الأحداث السابقة بحياء ، مع ماضي لا  أقوى على تذكره .
س : السؤال الأخير كلاسيكي جداً ، ماهي مشاريعك القادمة ؟
ج : سأرجع بعد ايام لصومعتي في الريف لأترجم  " سر الهدهد " الحكاية الفلسفية الفنتازية التي نشرت قبل اسبوعين بالفرنسية ساترجمها إلى العربية أو بالأحرى سوف أعيد كتابتها بالعربية لأني بعد قراءتها بالفرنسية وجدتها حكاية جميلة لي رغبة في أن يشاركني في قراءتها القارئ العربي لأن أحداثها تدور في مكان عربي قد يكون اليمن وقد يكون جنة عدن وقد يكون جنوب العراق . وسأحاول نشرها خلال العام القادم . كما توجد لدي مجموعة قصص أخرة لم تضمها هذه المجموعة تتناول أيضاً موضوع العودة . وخصوصاً لدي قصتين هما " تيه في بابل " التي تروي قصة الاسكندر المقدوني وبحثه عن الخلود كما في حكايات الجدات ، وقصة " قرة العين " وهما نموذجان من الذاكرة الشعبية الجمعية العراقية . الأولى تتناول موضوعة البحث عن الخلود لدى الاسكندر الذي ترك اسمه في كل مكان فهناك اسكندرية في كل رقعة مر فيها . وقرة العين ، ه المرأة العجيبة من القرن التاسع عشر التي استطاعت ، بغض النظر عن موقفنا الديني او الفلسفي منها ، لكنها إمرأة من القرن التاسع عشر كانت تحاول أن تعد تصوراً عن العالم الحديث في نفس الحقبة وفي نفس السنة التي كانت تدور فيها في أوروبا ثورة كبيرة سنة 1848 لتغيير أوروبا ، كانت هناك ثورة في مدينة اسمها كربلاء وصراع بين الكشفية والشيخية من أجل اعادة نفسير العالم وتفسير التعاليم  . هذه الفكرة جوهرية بالنسبة لي في هذا البلد وفي تلك الرقعة النائية وهناك دائماً عملية تجديد سواء اتفقنا معها أو اختلفنا لكن فكرة التجديد أو فكرة الاجتهاد تظل قائمة رغم انها تبدو سجينة مكان واحد تحيطه النهران .
س : يمكنني أن أطلق عليك صفة الحكواتي المعاصر
ج : وأنا أقبلها بكل سرور لأني أحب أن أروي الحكايات  لأنها تذكرني بأمي .

 



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة سطوع وأفول نجم في سماء باريس السياسية فضيحة ابن الرئيس ...
- محرك الحرب الأمريكية ضد النظام العراقي
- هل هناك حقاً إتصالات بين بن لادن والنظام العراقي؟
- وقفة مع شاعر السينما الراحل اندريه تاركوفسكي
- مقابلة مع مؤلفي كتاب : - 11 أيلول/سبتمبر: لماذا تركوهم ينفذو ...
- الإتحاد الأوروبي وإشكالية التضامن مع الولايات المتحدة الأمير ...
- فرنسا ومعضلة التواد الإسلامي على أراضيها بعد أحداث 11 أيلول ...
- تقرير عن النفوذ الفرنسي في أفريقيا
- الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001 لماذا سمحوا لقراصنة الجو ...
- " إختيار كبش الفداء " أضواء جديدة على كتاب "بروتوكولات حكم ...
- مشاريع التسلح العراقية: واقعها ومخاطرها
- د. نصر حامد أبو زيد ومسألة التأويل وفلسفته
- أبعاد الحملة الإعلامية ضد المملكة العربية السعودية
- العراق: لعبة القط والفار في تهريب النفط العراقي
- حقيقة الحوار بين الأديان
- حرب المخابرات لن تقع؟
- الإسلام في مرآة الإعلام الغربي الإسلام الأصولي والإسلام العص ...
- اليورانيوم المنضب ّ: الحرب غير المرئية
- النظام السياسي الإسرائيلي
- هل بدأ العد التنازلي لمصير نظام صدام حسين في العراق فعلاً ؟


المزيد.....




- سعودي يوثق مشهد التهام -عصابة- من الأسماك لقنديل بحر -غير مح ...
- الجيش الإسرائيلي يواصل ضرباته ضد أهداف تابعة لحماس في غزة
- نشطاء: -الكنوز- التي تملأ منازلنا في تزايد
- برلين تدعو إسرائيل للتخلي عن السيطرة على غزة بعد الحرب
- مصر تعلن عن هزة أرضية قوية في البلاد
- روسيا تحضر لإطلاق أحدث أقمارها لاستشعار الأرض عن بعد (صور)
- -حزب الله- يعلن استهداف ثكنة إسرائيلية في مزارع شبعا
- كييف: مستعدون لبحث مقترح ترامب تقديم المساعدات لأوكرانيا على ...
- وسائل إعلام: صواريخ -تسيركون- قد تظهر على منظومات -باستيون- ...
- رئيس الوزراء البولندي: أوروبا تمر بمرحلة ما قبل الحرب وجميع ...


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - جواد بشارة - مقابلة مع القاص العراقي جبار ياسين