أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - خرائب الوعي .. 7 - قوارب الهجرة إلى الجحيم















المزيد.....

خرائب الوعي .. 7 - قوارب الهجرة إلى الجحيم


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 4013 - 2013 / 2 / 24 - 13:15
المحور: الادب والفن
    


كف عن الحفر،عندما لمست الفأس جسما صلبا في القاع، وقفز خارجا من الحفرة العميقة مع بروز أول خيوط الفجر، قذف بفأسه على كومة التراب التي تحيط بحواف الحفرة وعاد وأتكأ على جذع الشجرة ، ووضع الصندوق الحديدي الملطخ بالطين والتراب على ركبتيه، وبقي هكذا زمنا يسترجع أنفاسه. ثم أخرج من جيبه مفتاحا وأراد أن يفتح الصندوق دون جدوى، وبعد عدة محاولات فاشلة، نهض من تحت الشجرة ووضع الصندوق على كتفه وأجتاز قطعة الأرض المحترقة المثبتة باربعة مساميرعلى جدار ابيض، وخرج من الصورة. صورة جديدة. يتبعها الإختفاء.
مثل حجر ضائع يسقط في الفراغ اللانهائي، يظل يعوم بلا هدف في الفضاء الكوني، تفصلنه عن العالم مسافات خرافية. ويتيه في الطريق ثم يسقط كنيزك في بقعة ما على سطح البسيطة، ويجد نفسه وسط أكوام وجبال من الأشياء. أشياء من كل نوع ومن كل مادة ومن كل حجم ووزن ولون، أشياء تمتص وجوده، وتتركه في النهاية مجرد مخلوق رمادي اللون يمارس حرية التحرك في زنزانته ويدور حول نفسه ليل نهار دون أن يتوقف. وهمية تلك المسافات الأسطورية الفاصلة بيننا وبين الأشياء. وهمية تلك الأزمنة الفاصلة بين الموت والحياة. ولكن للإنسان قدرة غريبة على إحتضان الوهم وعشقه، وتقديم حياته قربانا له. يغرق في الأشياء، يتيه فيها ويغيب، حتى لا يعود يراها، وتختفي من تحت بصره تضيع، وتتبخر. فالأشياء تزاحمنا، وتصطدم بنا ولا تترك فراغا بيننا وبينها، تشوش علينا وجودنا وتلتصق بجلودنا. بعض الأشياء تختفي لحظات الصفاء وراء أشياء أخرى، آلاف المسطحات من الحديد والخشب والاسمنت والفولاذ والنحاس والصخب. لماذا هذا الكم الهائل من الأشياء التي تسرق حياتنا، تمتص رحيقها من عظامنا. لماذا تسرق حياتنا، تحرقها، وتحيلها عرقا كريها يبلل ملابسنا منذ شروق الشمس حتى مغيبها. والفعل كف أن يكون جوهر الإنسان ومنبع الارتواء، أصبح يفوح برائحة النتانة، رائحة البقايا، رائحة القسوة في أعماقنا، رائحة الرواسب الإنسانية، رائحة الأوراق المالية. وتصيرالأشياء وهما، نعبده، نحرق له البخور ونعيش من أجله، ونفتت حياتنا إلى ذرات صغيرة نذبحها كل يوم عندما يرن جرس المنبه قربانا له، نصدقه، نحبه، نموت من اجله، والوهم يكبر كما كل الأشياء، وحين تصير الأشياء وهما، تتبخر وتتلاشى من تحت بصرنا. ونفقد القدرة على تخيل الأشياء في ذاتها، فتزداد المسافة كبرا، تتمدد وتصير صحارى ثلجية قاحلة، ومغاور مليئة بالشوك والعطش وصرخات الغيلان الجائعة، يصير الواقع حلما وسرابا، وتصبح الأشياء في ذاتها وهما مستحيل التحقق. ورغم الليل والظلمة الحالكة وغياب الأحبة، فما زلنا نسافر في أعماق هذه الأسطورة ونواصل الرحلة المضنية الخالية من الهدف، نبتعد عن المصدر، ونبتعد عن المركز. وتندس فكرة غامضة في شرايينه، يحس بها تقترب منه أكثر فأكثروتعتصره من الداخل، سأموت، سأموت قريبا مثل أحد الكلاب الضالة في ركن معتم من الكرة الأرضية، في شارع مقفر، في مدينة موبوئة. سأموت قريبا مذبوحا مثل نعجة، أو مسحوقا بعجلة سيارة مثل حيوان أعمى، سأموت قريبا موتا عبثيا بلا لون ولا طعم مثل نملة، وينتهي كل شيء، كل شيء يعود إلى صمته الأولي. تتيبس الأشجار، وتشتعل الحرائق في منابع الأنهار، وتتساقط النجوم، وتتوقف الرياح القادمة من أعماق الصحراء، ويرتفع صوت العدم باغنية جديدة للأرض المحروقة. ستنفتح السماء، تتمزق، ويتساقط السحاب حمما رصاصية تنفجر في الفضاء، وتدمر الأشجار والأحجار والبحار والأنهار. الموت والحياة، كلمات، كلمات وشئ آخر، إحصائيات. أرقام جثث تتراكم وسط مقابر الدنيا. والحياة .. قالوا لنا عندما كنا صغارا، حزمة ضوء تنتشر في الكون، هدية الرب لعباده، فيا لها من هدية. البداية، النهاية، كلمات، والإنسان خالق الفكرة المميتة، الزمان، غدا، يجيء ولا يجيء. وينظر إلى الجثث المكومة فوق الرصيف لايظهر منها سوى قدمين متورمتين، تمتدان كجبل خرافي يعانق السحاب.." والفجر يأتي مبللا بالدموع ومياه البحر وبول الطغاة". والشمس نهر جاف يتخلل الجسد، والصمت أغنية حزينة تتردد منسابة في أعماق الأرض. الأرض لها سقف واطئ، وأربعة جدران صلدة تتشكل في أعماق الظلمة وحوشا برية لاهثة وسط وديان وغابات وأنهار تعبث بها العواصف، وبحار تلتصق على سطحها سفن ومراكب محملة بآلاف الجياع يبحرون ليلا نحو الجحيم. وترقص الأشرعة الممزقة وسعف النخيل وبقايا الرجال والنساء والأطفال في أعراس واحتفالات ومواكب جنائزية. وتغزوه الأصوات ثانية، حادة، ملتاعة، همجية، ضحك وبكاء وصراخ ونواح. تختلط بصوت العمياء تغني في الفجر على حافة بئر مهجور. تختلط، تختلط حتى تصير لحنا واحدا يخترق خلايا الدماغ، ويفتح نوافذ قديمة تتسلل عبرها رائحة عرق بشري وصورة عيون بريئة تتأمل زهرة على وشك الذبول. وتخفت الأصوات، أو تزداد صفاء، وتتحول في النهاية إلى أغنية حزينة خريفية الإيقاع، لعامل جائع ينتظر على الرصيف قبل بزوغ الفجر سلاسله اليومية، وينظر باتجاه الجثة المكومة أمامه على بعد خطوات. وتلتصق الأرض بالشمس في حلق السماء، وتبتلع دموعها. داخل الحجرة الضيقة في الطابق الثاني، تبتدئ المذبحة على إيقاع الموسيقى الكونية، تتحرك الأشياء في العتمة، تتحرك من مكان لآخر، ويصطدم بعضها بالبعض، الكرسي بالسرير، والسرير بالدولاب، والدولاب بالمنضدة، وبالفراش والمكتبة، وتتطاير الأشياء عائمة بين الأرضية والسقف، الشراشف والسجادة والكتب وفنجان القهوة والملابس والمفاتيح والأوراق المختلفة تتطاير وترقص في حركة بطيئة حتى تكاد تبدو متوقفة في الفضاء في صمت ثلجي. ثم تنفتح أزقة وشوارع سوداء، وأخرى مضاءة بذلك النور المتوهج، تنفجر شرايين الجدران مللا وكآبة، تتشقق المرايا، تتصاعد أبخرة وغازات، تتقيح جروح الأرض، تتقشر السماء، وتتساقط قطعا قطعا، ينمو العدم في أحشاء اللاشيء، وينزرع الصمت كائنا خرافيا، ينمو، وينمو، حتى يحتل الكون. ويتمنى لو يستطيع أن يستلقي في قبر مهجور، أن يرى مرة أخرى تلك السماء الغبارية المتسخة المشوبة بقليل من الحمرة، والتي تنتهي بخط طويل من النخيل يلقي بظلاله على مياه النهرالرصاصية، وحيث يقف تمثال نحاسي يعطى ظهره للمياه العكرة، مواجها بأنفه الضخم المدينة المحتفلة على الدوام بالغبار الخانق وضجيج العربات، ورائحة "المجاري" التي تصب مباشرة في الشارع، وتخلق أنهارا صغيرة من العفن تلتصق بأحذية المارة وجواربهم من حين لآخر. إنه فصل الشتاء، شهر كانون كما يقولون، ومع ذلك تشعر بتلك الأيام الصيفية الخانقة، حيث الشمس والعرق والغبار هي كل إهتمامات الإنسان. الأرض المحروقة بفعل الشمس والزمان تتنفس هواء ثقيلا كالمسامير، والرماد يغطي جلود البشر ووجوههم وملابسهم وأشيائهم، ويغطي العربات والمباني والشوارع والنخيل والنهر والسماء. كل الألوان هاجرت إلى جزر بعيدة تاركة الرمادي وحده يرقص فوق سطح الأشياء. تحس به يملأ رئتيك، ويزيد من تعب المرهقين، تشعر به مثل موجات رصاصية تنوء بها المدينة، يتنفسها الحمالون والشحاذون والنساء وعمال البناء وأصحاب الزوارق البدائية والصيادون والطلبة والبياعون، وبقية الشرائح البشرية المتناثرة وسط هذه البقعة، هذه الحفرة من الرمال المتحركة. وتواجهك القسوة والتفاهة والملل والعبث، ممزوجة بتلك الخيوط الدقيقة من البساطة والصفاء والبراءة، مشكلة في النهاية لحنا واحدا يتردد في هذا الفضاء الموحش، معلنا ان ملحمة الجوع والبرد والعطش لم تنته بعد، وأن أغاني السياب ماتزال مخزونة في القلب، وأن حنينه للمطر يزداد حدة. كوب الشاي الردئ يحدق فيه بعين واحدة ويتململ في صحنه، والمنفضة تحتك بجسده، ورائحة التبغ تقفز إلى أنفه عنوة، وصوت المياه في النهر يتناهى إلى أذنه موجة إثر موجة، والسيجارة الكريهة تدس نفسها بثقة بين أصابعه، تتسلق سلما وهميا في الفضاء لتلتصق بشفتيه، ويحلم بالقوارب المبحرة نحو المطر والضباب والثلج، ومدن الشمال.



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خرائب الوعي .. 6 - الصندوق
- خرائب العقل .. 5- الحاشية
- خرائب الوعي .. 4 - مقبرة الضباع
- خرائب الوعي .. 3 - العمياء وقصر الغول
- خرائب العقل .. 2- وطني حقيبة وأنا مسافر
- خرائب الوعي 1- البداية
- ليبيا .. الثورة القادمة
- محطة الكلمات المتصلة
- الفضيحة
- حوار مع الله .. الحلقة السابعة
- لقاء مع الله .. الحلقة السادسة
- لقاء مع الله .. الحلقة الخامسة
- لقاء مع الله .. الحلقة الثالثة
- لقاء مع الله .. الحلقة الرابعة
- لقاء مع الله .. الحلقة الأولى
- لقاء مع الله .. الحلقة الثانية
- ليبيا: الثورة المسروقة .. مرة ثانية
- ليبيا: الثورة المسروقة
- بوادر هزيمة الثورة اللبية
- العدمية وأسطورة الكينونة ... الحلقة الثالثة


المزيد.....




- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - خرائب الوعي .. 7 - قوارب الهجرة إلى الجحيم