أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - خرائب الوعي .. 4 - مقبرة الضباع














المزيد.....

خرائب الوعي .. 4 - مقبرة الضباع


سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 4008 - 2013 / 2 / 19 - 22:49
المحور: الادب والفن
    


الرجل المتكئ على جذع الشجرة وسط قطعة أرض محروقة مثبتة باربعة مساميرعلى جدار ابيض، ينهض من مكانه بتثاقل، يلتقط فأسه ويبدأ يحفر، ويحفر ويحفر حتى يكاد يختفي جسده وسط الحفرة العميقة مع هبوط الظلام. صورة أخرى، يتبعها حتما ليلة طويلة. حيث قتلت أول رجل بوليس في ركن الشارع المعتم حين طلب مني أوراق هويتي، ثم القاضي الذي يحاكمني، قتلته وفرتكت جثته بقنبلة يدوية، والمحامي شنقته بربطة عنقه في زنزانتي، قتلت كل من يقف أمامي بجثته الثقيلة، يحجب عني ضوء الشمس. قتلت عشرات ومئات الصراصير البشرية التي احتلت دماغي ومسامات جلدي وجسدي من الداخل. قتلت الشرطي والجندي والمعلم والجنرال والملك والرئيس والوزير ووكيله وقتلت رجل السياسة وشيخ الجامع والمثقف والنبي والفقيه والمرشد والفنان والرسول وشارح القرآن وقارئه . قتلتهم جميعا، أصحاب المعامل والمصانع والبنوك وصناع الأجهزة الكهربائية والالكترونية وكذلك صاحب رأس المال ومدير الشركة والمؤسسة، وتراكمت جثثهم في حجرتي الضيقة، حتى تعفنت، تحولت دودا وذبابا، وتساقطت الكتب والاشرطة والاسطوانات هباء في وسط الغرفة الباردة. مزقت اوراقي، وأحرقت قرآنهم، وغرقت في ألواني، ووجهي في المرآة المكسورة مقبرة مهجورة أكلتها الأعشاب البرية والأشواك وأشجار الموتى. بأصابعي المقطوعة كتبت فوق جدار المقبرة: هذا أنا أماكم مثل قبر مهجور، هذا أنا أمامكم مثل قبر مفتوح على العالم الآخر. هذا أنا أمامكم، وجهي مقبرة، وقلبي ليلة باردة هجرها الضوء. مزقت أوراقي، أحرقت قرآنهم، وقطعت لساني، وغرقت في ألواني. قطعت جذوري، فأنا لست شجرة. حطمت كل الجسور والممرات والخيوط والحبال والسلاسل والأنفاق التي تربطني بالارض والسماء. قطرة مطر متحررة تطفو في الفضاء الواسع، قطرة مطر مهاجرة وحيدة تتسكع في السماء بلا اتجاه ولا هدف، بلا تاريخ ولا مستقبل، سوى اللحظة ذاتها المحملة بالوجود. قطرة مطر وحيدة على حافة الطريق، بين ورقتين قديمتين لجريدة محلية. في الصفحة الأولى كتبت نعيا لوطني وكل أوطان الأرض، وطني ليس حقيبة، وربما حقيبة، وليس قلبا محطما ومسودا بدخان المدن البعيدة، وطني، بالأحرى وطنكم، احترق مثل ورقة جافة ولساني تمزق آلاف القطع. لاوطن لي ولا جذور، فأنا لست شجرة، كما أنني لست فطرا، ولانبتة برية، وانما قطرة مطر تتسكع في الفضاء الواسع. لم أكن أعي ما أكتبه. وفي الصفحة الثانية كتبت نعيا لكل الأديان، وكل اللغات، وكل الثقافات والبلدان والأعلام والتواريخ الماضية والقادمة، ونحرت الله بسكين مطبخ صدئ، سلخته، ونشرت جلده في الشمس، وكتبت عليه قصيدة ميلاد الحياة، وقصة انتحار الثلج وحيدا فوق قمة جبل. يذوب و تحلله الشمس إلى سائل شفاف بلا لون ولا رائحة. سائل يتحرك منسابا يتبع جغرافية الأحجار والفتحات والنتوءات، حسب الارتفاع والانحفاض. ينتحر الثلج في صومعته في قمة الجبل، ويذوب في نفسه عند استقبال خيوط الشمس الأولى، ويتحول الجبل إلى نهر يجري في الحقول والوديان والأراضي الواطئة، يغرق البيوت، ويهدم الجدران والحدود. والطوفان يبدأ كما يقول الثلج، من قطرة مطر مسافرة، كنجمة ضائعة في الفراغ اللانهائي. يهيم وحيدا على ارصفة المدن الموبوءة، جثة رمادية مكوما على الرصيف، تجتازه اقدام العابرين، يقذفونه بنظراتهم الميتة، مختلطا جسده المسجى على الأرض المسودة باصوات البشر. لايظهر منه سوى قدمين متورمتين تبدوان كجبل خرافي يعانق السحاب، وفي قمته يقوم ذلك المعبد المبني من عظام البشر وجماجمهم المثقوبة، يعمد فيه المؤمنون الأغنياء بدماء البائسين والمتسكعين على هامش الحياة. المؤمنون الأغنياء بصكوك غفرانهم يواصلون لعق دماء الفقراء والعرق المسفوح على الأرض والموانئ وأرضية المصانع المسودة بالزيت والحديد، وفي أعماق الأرض الموبوءة. وقفزت إلى أنفي رائحة اللحم البشري المشوي، واتأمل الشموع المحترقة ترسل اشعتها الكابية تضيء الطريق للقادمين إلى أعلى الجبل، وعند السفح تراءى لي ذلك البحر الشاسع. مياه رصاصية تحتل مساحة واسعة لايحدها البصر تنعكس عليها من آن لآخر صور مخلوقات بشرية منحية كئيبة، وأحلام جنون وأصوات خرافية. والفرس الأبيض يندفع من الموجة الهاربة و يطير في السماء، يحط بحوافره الفضية على رمال الشاطئ، ويركض في اتجاه الريح حاملا طفلا مذعورا على ظهره. يركض ويركض على طول الشاطئ، حتى يستحيل امرأة ذات عيون بحجم البحر تلف طفلها في ردائها وتجري، تسابق الموت. والرجل الميت يطفو على السطح الرصاصي ، ويتحرك نحو العمق الأسود الداكن، وتختلط رائحة اللحم البشري المحترق، برائحة السمك المشوي على ضزء القمر، وتنبح الكلاب من بعيد. أصوات اعرفها، واخرى لا اعرفها. وأتعرف على صوت رخيم، صوت عجوز ينقش بلسانه اسطورة جثة مكومة على الرصيف، ولا يظهر منها سوى قدمين متورمتين تبدوان كجبل خرافي يعانق السحاب. الجثة تطفو فوق سطح النور الرصاصي، والأقراش تفتح أفواهها الشرسة وتلتهم الأرض الرملية قطعة قطعة حتى يختفي الشاطئ ويغطي ماء البحر هامش الحلم. وتظهر الضباع الخضراء المرقطة تتحرك ببطء وكأنها ترقص على إسفلت الشارع، وتضوع في الهواء رائحة النتانة، مختلطة برائحة بول الحمير والبترول المحترق واصوات السيارات والبياعين وتطغى على صوت القطار العتيق المرتعش الذي يمر ناسيا أن يتوقف.



#سعود_سالم (هاشتاغ)       Saoud_Salem#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خرائب الوعي .. 3 - العمياء وقصر الغول
- خرائب العقل .. 2- وطني حقيبة وأنا مسافر
- خرائب الوعي 1- البداية
- ليبيا .. الثورة القادمة
- محطة الكلمات المتصلة
- الفضيحة
- حوار مع الله .. الحلقة السابعة
- لقاء مع الله .. الحلقة السادسة
- لقاء مع الله .. الحلقة الخامسة
- لقاء مع الله .. الحلقة الثالثة
- لقاء مع الله .. الحلقة الرابعة
- لقاء مع الله .. الحلقة الأولى
- لقاء مع الله .. الحلقة الثانية
- ليبيا: الثورة المسروقة .. مرة ثانية
- ليبيا: الثورة المسروقة
- بوادر هزيمة الثورة اللبية
- العدمية وأسطورة الكينونة ... الحلقة الثالثة
- العدمية وأسطورة الكينونة ... الحلقة الثانية
- العدمية وأسطورة الكينونة
- كوكا كولا... إشكالية المثقف


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعود سالم - خرائب الوعي .. 4 - مقبرة الضباع