أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير المصادفة - غرفتى الأولى














المزيد.....

غرفتى الأولى


سهير المصادفة

الحوار المتمدن-العدد: 4005 - 2013 / 2 / 16 - 23:43
المحور: الادب والفن
    


الغرفة الأولى


كان طلاء غرفتى الأولى متهالكًا وضائعًا فى عدة ألوان تميل جميعها إلى الاصفرار، كنت أرى ــ على صفحته ــ كلابًا شرسة، وملوكًا تُكلل رءوسها تيجانًا غريبة الشكل لم تستطع البشرية تصميمها فيما بعد، وأتابع ــ بشغفٍ ــ هروب طفلة مُعفرة الجديلة تشبهنى تمامًا يعدو خلفها رجل عملاق ذو لحية بيضاء، كان إخوتى الصغار يضيفون كل يوم ما يصلح لأن يكون عينَ نسر أو قمرًا مستديرًا، أو يُحدّد رشحُ الماء من عند الجيران دوائر جديدة فيزداد ثراء المَشاهد.. ظلَّ وربما من غرفتى الأولى هذه ــ والتى كانت لا أدرى لماذا مزدحمة طوال الوقت دون غيرها ــ أوّل ما يلفت انتباهى فى أية غرفة جدرانها.
كانت لى على كل حال عينان متمرستان على إزاحة الأثاث أيًّا كانت ضخامته وإلقائه بعيدًا وتحرير جدار واحد على الأقل مما يعيق رؤيته.. أزحت كنبة اسطانبولى عملاقة وسرير أمى القديم بأعمدته النحاسية وديفانًا روسيًّا لا يستطيع حمله أربعة رجال أقوياء، وصالونًا مذَّهبًّا ماركة روميو وجولييت، وغرفَ نومٍ من موضات متعاقبة وصورًا لقطط قطيفية الملمس وراقصة الكانفاه الشهيرة التى يقعى بالقرب من ركبتيها الطبال بطاقيته الصغيرة وطفلاً جميلاً باكيًا وآياتٍ قرآنية مرّصعة بلمعة زاعقة تدعو إلى الجنون.
ظلّت الغرفة ماثلة دائمًا أمامى وخلفها الحقول التى رغم اخضرارها نهارًا بقيت موحشة شديدة السواد ليلاً مسكونة بكل حكايات الجن والعفاريت والقتلى والمقتولين والأطفال الرضع المرميين فى لحظاتِ تخلٍ مؤلمة والخارجين من السواقى والترع بلونهم الأزرق الباهت.. قليلة هى الذكريات التى أتذكرها قبل السادسة.. ربما جملة مبتورة لا أتذكر قائلها أو نصف حكاية أو مشهد غارق فى عشرات المَشاهد التى تُشبهه، سمعت ــ فى هذه الأيام للمرة الأولى جُملةَ ــ: أننى لست طبيعية. صرخت بها أمى فى وجهى ويبدو أنها كانت تسألنى لساعات عن شىء ما أو تدعونى إلى طعام ما، بينما كنت أتابع ــ على الجدارــ كيف ستتمكن إحدى الأميرات المحبوسات فى برجٍ عالٍ من الهرب من الجنى الشرير الذى يحبسها هناك.
تبدل الجدار المُتحرر من أثاثه والمواجه لعينيَّ مرارًا، ظلّ لفترةٍ تقترب من السبعة أعوام مجرد جدار زجاجى هو محصلة نوافذ عملاقة ملتصقة ببعضها البعض تصفعها ثلوج موسكو وتتراكم على إفريزها لمدة ثلاثة أشهر كاملة، ثم تذوب بعد ذلك على مهلٍ مشكلة أضخم معرض نحت لتماثيل تعرف جيدًا أن مصيرها الوحيد هو الأفول، ثم صار جدارًا ممتلئًا بمئات الكتب التى يخرج منها كل ليلة مؤلفوها يتحاورون معى أحيانًا ويوجهون لى اللوم أحيانًا أخرى وهم يلهون بكلماتى ولكنهم دائمًا ما يربتون بحنان بالغ عند الفجر على كتفى .
مع تبدل الغرف وتبدل جدرانها ومرورالسنوات اكتشفت ــ ببساطة ــ أننا نكاد نُولد هكذا.. على نحو ما سنكون.. جزءٌ كبيرٌ منا ربما هو الجزء الأهم يظلّ محتفظًا بشفرة خاصة تُحدد هويتنا، فأنا ما زلت أرتعد كلّما رأيت حتى على شاشة التليفزيون حشرات صغيرة زاحفة، بينما أتأمل بهدوء الوحوش الكاسرة، وما زلت أحب رجلاً واحدًا رأيت ملامحه وهو يحتضننى آنذاك على ذاك الجدار ــ على الرغم من أن تجليات هذا الرجل خدعتنى أحيانًا وهى تنعكس خلال رحلتى على بعض الرجال ــ وما زلت أسامح السكيرالمأزوم عن الكسول البطىء المتسول.. لا أدرى ما الذى يجعلنى أتذكر ــ بوضوحٍ ــ مقطعًا من ليلة أوى فيها أبى ــ الذى لم يكن يترك فرضًا من صلواته ولم يذق طعم الخمر طوال حياته ــ سكيرًا مُتشردًا أخذ يُمازحه شطرًا من الليل وينهر أمى بسبب إصرارها على طرده من بيتنا، ما زلت أحب سعاد حسنى الضاحكة الباكية الناعسة الصاخبة الحالمة الشبقة البريئة العاهرة المظلومة الظالمة عن فاتن حمامة المسكينة الراضخة، وما زلت أرى النخلات العاليات فى باحة الدار وهى تزحف إليَّ، وما زلت أرى الكراكيب على ضوء الشارع الذى يتسرب من الشيش وهى تتحول إلى جِمالٍ صغيرة وراع يحمل عصا أو فتاة وفتى يتبادلان الحب خلف خباء، تبقى الكراكيب مغطاة على حالها بشراشف قديمة، وتتبدل الحكايات والشخوص كل ليلة، وما زلت أصدق أن أرواحًا ما تسكن الأركان وتضيق أحيانًا برتابة وضع الأثاث فتحركه بضعة سنتيمترات من آن إلى آخر، وقد تمر بلحظات ضيق أو لمجرد اللهو فتصفع غطاء الأباجورة ليعمّ الظلام فى الغرفة فأسمع تنهيدةَ ارتياح واضحة.
أو ليس مدهشًا أن ما تغير فى استقبالى للعالم هو سقوط بعض القشور.. ربما كانت هى القشور التى سقطت من طلاء غرفتى القديم ونمو قدرتى على إزاحة الحقول والنخلات السائرات والغرف والبيوت والجدران بجميع أشكالها لأتابعَ ــ فى فضاء افتراضى شاسعٍ ــ شخوصًا تخرج منى كلّ ليلةٍ، وأطاردَ فيه نهاياتِ رواياتٍ من تأليفى أنا.



#سهير_المصادفة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -بيت الديب- وفِتنة السرد فى رواية الأجيال
- كأنه يعيش
- يكاد الأدب أن يكون متمردًا
- -عبد المنعم رمضان- وحنينه العاري
- إلى الكاتب المصرى
- طيب يا حلمى
- اليونانُ.. هنا تعيشُ الآلهة
- تاء التأنيث
- إلى محمد عفيفى مطر
- مانهاتن .. مدينة المرايا
- ميس إيجيبت الفصل الثاني عشر والأخير
- ميس إيجيبت الفصل الحادي عشر
- ميس إيجيبت الفصل العاشر
- ميس إيجيبت الفصل التاسع
- ميس إيجيبت الفصل الثامن
- ميس إيجيبت الفصل السابع
- ميس إيجيبت الفصل السادس
- ميس إيجيبت الفصل الخامس
- ميس إيجيبت الفصل الرابع
- ميس إيجيبت الفصل الثالث


المزيد.....




- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سهير المصادفة - غرفتى الأولى