اثر المدرسة النحوية في البصرة على تكوين العقل البصري ... انتاج الفكر من خلال اللغة .:

ياسر جاسم قاسم
(Yaser Jasem Qasem)

الحوار المتمدن-العدد: 4004 - 2013 / 2 / 15 - 11:47
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

الموضوع هو جزء من كتاب بعنوان "مفهوم العقل في البصرة" سيصدر للمؤلف ياسر جاسم قاسم في المستقبل القريب
لمدرسة النحوية في البصرة اثرت تاثيرا كبيرا على تكوين العقل البصري فهنالك علاقة بين اللغة والعقل واللغة اسبق على العقل ومن دون اللغة لا يستطيع العقل ان يتحرك ضمن مساحاته الفكرية المتاحة ومن هذا الباب استطاعت البصرة ان تمهد للعقل السبيل في التفكير بتأسيس مدرسة نحوية لغوية ذاع صيتها الاقطار الاسلامية انذاك وكانت الابرز على الساحة من مدرستي الكوفة وبغداد مما يدلل على حاجة العقل البصري الى اللغة لقوته وللتعبير عما يجيش بداخله من رؤى وأفكار، حتى اصبحت مدرسة البصرة النحوية مثلا لمئات السنين فيما بعد وفيمن أتى حيث يذكر عبد الحميد علوجي عن ان السيد جمال الدين الافغاني زار البصرة وشوهد يصلي في مسجدها الجامع وقد ادهشه جهل الخطيب بقواعد اللغة العربية وجهله بالوعظ الثوري حيث يقول الأفغاني عما شاهده( خرجت من صلاة الجمعة في المسجد الجامع بالبصرة وفي نفسي حسرة ان اسمع الخطيب اعرب ولو كلمة واحدة في خطبة مكتوبة في يده فترحمت على سيبويه وعلمت ان كتابه البحر هو الذي اغرق البصريين والكوفيين فغاص الاعراب معهم الى القعر ،هذا من حيث الاعراب واما من حيث المعنى فالى الله المشتكى ان منبر الخطبة في المساجد الجامعة شيده المصطفى صلى الله عليه وسلم ليرتفع منه صوت التعليم للمسلمين ولايقاظ وتحريك الهمة والحث على جمع الكلمة،وما فيه من سعادة الدارين يصير الى ما صار اليه اليوم ، وعلى منابر البصرة والكوفة ارتقى مثل امير المؤمنين علي بن ابي طالب وغيره من اكابر الصحابة والتابعين بحور البلاغة وفحول الفصاحة وحسن البيان يرتقي ذلك المنبر اليوم اجهل الاعراب والعجم ويخطب الناس وقد ركبوا بعضهم احتشادا وغص بهم فناء الجامع على رحبه ولاتكون الخطبة الا ان ( الورد اللطيف فتح من عرقه الشريف ) وهكذا اكثر خطباء المنابر في الامصار فلا حول ولاقوة الا بالله) حيث يتضح صورة البصرة الناصعة في ذهن الافغاني وقدرتها على العطاء وما وصلت اليه في العصر الحديث من التخلف اللغوي والفكري الذي اشار اليه الافغاني والذي استمر بها حتى هذه اللحظة ، على كل . لقد برزت اسماء مهمة لتاسيس المد العقلي للغة البصرية .فهناك أبو الأسود الدؤلي احد الفصحاء الاربعة كما اورد ابن الاعرابي وابو عمرو ابن العلاء الذي قال فيه يونس بن حبيب عند تعزية اولاد ابي عمرو بوفاته :نعزيكم وانفسنا بمن لا نرى شبها له اخرى الزمان ، وقد قيل فيه ايضا بانه لو قسم علم ابي عمرو وزهده على مائة انسان لكانوا كلهم علماء وزهادا ومن الاسماء اللامعة في مجال اللغة ايضا الخليل بن احمد الفراهيدي الذي لم يكن كما يقول ابن لام في العرب اذكى منه بعد صحابة رسول الله ، وابو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك الاصمعي الذي وصفه اسحق الموصلي بقوله " ما رايتا حدا قط مثل الاصمعي في العلم بالشعر ولا مقارنا له وقال عنه الزبيدي بانه كان يحفظ اربعة عشر الف ارجوزة فهو شيطان الشعر وكما وصفه الخليفة العباسي الرشيد، وكان الاصمعي مهتما باللغة والتاريخ والانساب العربية ايضا.
يقول الجاحظ عن هذه المدرسة : (ليس في الارض كلام هو امتع ولا الق ولا الذ في الاسماع ولا اشد اتصالا بالعقول السليمة ولا افتق اللسان ولا اجود تقويما للبيان من طول استماع حديث الاعراب العقلاء الفصحاء والعلماء البلغاء ) كما تميزت مدرسة البصرة النحوية في انها وثقت لشعر الاقدمين وهذا ما فعله محمد بن سلام الجمحي صاحب( طبقات فحول الشعراء الجاهليين والاسلاميين) وهو كتاب مهم يصور عمل المدرسة البصرية في توثيق الشعر القديم ووضع شعرائه في طببقات وفصائل حسب جودتهم الفنية.
كما يصف الدكتور شوقي ضيف مدرسة البصرة بانها فاقت مدرسة الكوفة الى وضع قواعد النحو ومصطلحاته وصبغها بالصبغة العلمية وبالتالي كان النحو في البصرة صنيعة العقل العلمي العربي الذي استوى سوقه في القرن الثاني ودفع دفعا الى وضع العلوم العربية الاخرى منها اللغوي ومنها الديني .ان اول نحاة البصرة الحقيقين كما يذكره شوقي ضيف هو عبد الله بن ابي اسحق الحضرمي المتوفى سنة 117هــ وعيسى بن عمر الثقفي المتوفى سنة 149هــ
ان مدرسة البصرة النحوية كان لها نشاط يفوق مدرسة الكوفة على حد تعبير الدكتور شوقي ضيف حيث اعتبر ان في الكوفة طائفة من النحاة غير انهم لم يبرعوا في النحو براعة البصريين ومن اجل ذلك كانوا يكثرون من الرحلة اليهم والتلمذة عليهم ، حتى اذا تقدم العصر اخذوا يستقلون عن نظرائهم في البصرة بمذهب نحوي خاص بهم بحيث اصبح في النحو مذهبان متقابلان :مذهب البصرة الذي يعنى بالقياس مستمدا له من استعمال العرب الشائع ومذهب الكوفة الذي يعنى بالسمع ويقدمه على القياس مهما كان شاذا نادرا.
وبالتالي انا اعتبر ان اللغة في الكوفة استمدت رؤاها الفكرية من مدرسة البصرة النحوية حيث ان اقدم نحاة الكوفة ابو جعفر الرواسي تلميذ عيسى بن عمر استاذ البصريين وخلفه معاذ بن مسلم الهراء المتوفى سنة 187 هـ ويقال انه هو الذي وضع علم الصرف غير اننا نشك في ذلك لان الصرف مندمج في كتاب سيبويه المتوفى قبله وارسخ منه قدما في الدراسات النحوية الكسائي المتوفى سنة 189 هــ وقد تتلمذ للخليل وتلقى عن الاخفش كتاب سيبويه ويقول بعض البصريين ((لولا انه دنا من الخلفاء فرفعوا من ذكره لم يكن شيئا وعلمه مختلط بلا حجج ولاعلل)) وكذلك الفراء المتوفى سنة 207ه وهو كوفي اكثر من قراءة كتاب سيبويه ولكن قراءته له كانت لتعقبه بالاكثر ومخالفته ، بالنتيجة ان الكوفة لم تسهم مساهمة حقيقية في وضع اصول النحو فقد سبقتها البصرة الى ذلك محتكمة احتكاما شديدا الى القياس والى نظرية العامل التي ينفرد بها نحونا العربي والتي تعد قوامه وهي تدل على ان هذا النحو لم يوضع على اساس نحو اجنبي ، فمحوره الذي تدور حوله بحوثه محور عربي خالص ،انما كل ما يمكن ان يقال انه افاد من العقلية العلمية الخصبة التي اكتسبها العرب في العصر العباسي الاول من خلال تمثلهم للثقافات الاجنبية والفلسفية والعلمية .

كما تميزت مدرسة البصرة العقلية بمنهج عام قاده علماؤها ومنهم الفراهيدي (100-175هــ) حيث اعتمدوا على القياس العقلي وفسروا الظواهر غالبا تفسيرا عقليا محضا بدون نظر الى طبيعة اللغة ويتكلفون الحدود والرسوم والقضايا المنطقية في تعبيرهم عكس مدرسة الكوفة التي عملت على ما سمعت من الاعراب في مجال اللغة وليس القياس العقلي ونتيجة لذلك تعددت المناظرات بين المدرستين ونرى مثالا عن ذلك ما دار بين سيبويه والكسائي في مجلس البرامكة في بغداد وقد اثبتها ابو البركات بن الانباري في اخر كتابه" الانصاف ،في مسائل الخلاف ،بين البصريين والكوفيين" كما نرى صورة اخرى للجدال بين الفر يقين فيما وقع بين المبرد البصري(210ه-286هــ) وابي العباس احمد بن يحيى ثعلب الكوفة( 200-291ه) .
وهنا اسوق رايا مهما نبين من خلاله ، تغلب مدرسة البصرة النحوية على مدرسة الكوفة ، حيث ان المذهب البصري تغلب اخيرا على المذهب الكوفي لا لانه اقوى المذهبين بل لانه كان اكثر انصارا وايسر طريقا لطلاب اللغة ودارسي النحو لكثرة المؤلفات فيه ،ولان الاساس الاول الذي قام عليه المذهب هو (الكتاب ) الذي الفه سيبويه من محاضرات استاذه الخليل وامثاله من كبار النحويين البصريين السابقين كعيسى بن عمر ويونس بن حبيب وغيرهما فكان الكتاب ثروة ضخمة للدارسين في اللغة والاصوات والنحو والتصريف ولم يكن للكوفيين مثل هذه الثروة التي انبثقت منها الدراسات اللغوية جمعاء بل كان الكوفيون يتمرسون بكتاب سيبويه ويدرسونه اولا ثم يخالفونه ويفرغون عليه قواعدهم واراءهم .
كما تنوعت في مدرسة البصرة النحوية التي كانت في اغلبها تتخذ من مسجد البصرة الجامع مقرا للانطلاق الحلقات فكان ثمة صراع بين شيوخ الحلقات .
لماذا وجد النحو في البصرة ولم يكن في غيرها من الامصار :
هذا سؤال وجدنا من المهم الاجابة عنه ،فالنحو في البصرة اشتهر وعظم حتى فاق مدارس النحو الاخرى ،فلماذا اهتمت البصرة كل هذا الاهتمام بالنحو ،هذا السؤال اجاب عنه العلامة المخزومي اجابة لاهميتها نثبتها هنا حيث كان لاختلاط العرب بغيرهم اثره في ضعف السلائق وانحراف الالسنة وظهور اللكنة وفشو اللحن ووجد ذلك طريقه الى القران الكريم فقد اخذ الاجانب منذ الفتح-كما يسميه المخزومي ونسميه الغزوات وناقشنا هذه المواضيع اكثر في كتابنا (اليات تحرير الفكر وتوجيهه نحو التنوير)- يدخلون في دين الله افواجا وكانت قراءة القران واقراؤه مما دعا اليه الاسلام ودعت اليه الاحاديث ،ولان القران كتاب المسلمين ودستورهم ومصدر شريعتهم فكان الناس جميعا يقرؤون وكان الاجانب من فرس وغيرهم يقرؤون وليس لهم سلائق العرب ولا ملكاتهم وكان القران مكتوبا بالخط العربي وقد انزل بلسان عربي وكان الرسم العربي مهمل الحروف لا يتميز بعضها من بعض فاذا كان العرب يميزونها ويفرقون بين المرفوع والمنصوب والمجرور عن سليقة فلم يكن الفرس ولاغيرهم ليسهل عليهم ذلك.
واذ اتخذ اختلاط العرب بغيرهم في البصرة طابع الاندماج كان رد الفعل عند العلماء البصريين قويا قوة الخطر المحدق بلغة القران ولغة العرب ولذلك كانت المبادرة الى العمل اللغوي في البصرة قبل غيرها وكان ظهور الدرس اللغوي والنحو في البصرة قبل غيرها ، والتاريخ يحدثنا ان ابا الاسود الدؤلي البصري كان اول من بادر الى الخطوة الاولى في العمل القراني كما سنشير في معرض حديثنا عنه في القادم من الفصل فهو الذي نقط المصحف نقط اعراب وهو الذي رمز لمضموم الاخر بنقطة توضع بين يدي الحرف ولمفتوحه بنقطة توضع فوق الحرف ولمكسوره بنقطة توضع تحت الحرف ولكننا غير مقتنعين ان النحو في البصرة ابتدأ كما يقول المخزومي نتيجة اهتمام البصرة ودفاعها عن القران ،نعم قد يكون هذا وجه من اوجه اهتمامهم بالنحو ولكن الوجه الذي لم يشر اليه المخزومي والذي نراه نتيجة تحليلنا مهم جدا هو تعرف البصرة وعلماؤها على المنطق اليوناني وترجمتهم لاعمال اليونانيين واذا عرفنا ان المنطق احد اهم نتاجاته هو اللغة فالمنطق دون اللغة لا يقوم كعلم اساسي بالنتيجة احتاج نحويوا البصرة الى اللغة واحكامها لكي يستطيعوا ان يقرؤوا الفلسفة العقلية بشكل مهم واساسي لان اللغة والمنطق والفكر تتلازم فيما بينها ،اما انهم أي البصريين اهتموا باللغة لتقويم القران هذا شيء غير صحيح تماما فهنالك امصار اخرى كانت قادرة على الدفاع عن القران كالكوفة وغيرها ولكن التفاعل العالمي الذي حصل في البصرة دفعهم لكي يقرؤوا اللغة وايضعوا لها احكامها .وقد يكون هنالك سبب اخر وهو الاختلاط الذي حصل في البصرة بوجود اعراق مختلفة فيها من قبيل الفرس والهنود وغيرها وخوف العرب في البصرة من ان تسوؤ اللغة لديهم بسبب الاعاجم مما حدا بهم الى وضع احكام لغوية صارمة تمثلت في الحفاظ على لغتهم.

ويحدثنا ان نصر بن عاصم الليثي البصري احد تلاميذ ابي الاسود قام بتحقيق الخطوة الثانية ،في العمل القراني ،فهو الذي ميز الحروف المتشابهة في الرسم بعضها من بعض وهو الذي نقط المصحف نقط اعجام.
ويحدثنا ايضا ان الخليل بن احمد الفراهيدي البصري هو الذي اتم العمل القراني بوضعه رموز الضمة والفتحة والكسرة والشدة والمدة والوصل والاشمام والروم وغيرها،فالعمل القراني الذي تطور الى عمل لغوي انما كان بصريا قام به علماء بصريون بدئوا بابي الاسود وختموا بالخليل.
.اراء بصرية في اللغة تثبت تاثر لغة البصريين بعلوم الاخرين وانفتاحهم عليها :
فهم أي البصريين قد ذهبوا الى ان الاسم اصل الفعل وان المصدر اصل المشتقات ، وهذا ما يعتبره العلامة مهدي المخزومي غير صحيح فالفعل في اللغات السامية ومنها العربية هو كل شيء وهو اساس التعبير واعتبار المصدر اصلا للمشتقات او للاشتقاق مخالفا لاصله في سائر اللغات السامية وما اعتبار المصدر اصلا للمشتقات عند البصريين الا مظهر من مظاهر التاثير الاري في العربية لان المصدر في الارية او في اللغات الهندو اوربية هو اصل المشتقات جميعها
اسماء لغوية نبغت في علوم أخرى غير اللغة/...
ابو الاسود الدؤلي: وهو من الطبقة الاولى .
هو ابو الاسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حليس بن نفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وكان علوي الراي وكان رجل اهل البصرة يقول عنه ابن خلدون في المقدمة " اول من كتب في النحو من بني كنانة ويقال باشارة علي رضي الله عنه لانه راى تغير الملكة فاشار عليه بحفظها ففزع الى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقراة ثم كتب فيها الناس من بعده الى ان انتهت الى الخليل بن احمد الفراهيدي ايام الرشيد احوج ما كان الناس اليها لذهاب تلك الملكة من العرب ، فهذب الصناعة وكما ابوابها واخذها عنه سيبويه فكمل تفاريعها واستكثر من ادلتها وشواهدها ووضع فيها كتابه المشهور الذي كان اماما لكل ما كتب فيها من بعده " حيث يتبين كيف ان علي بن ابي طالب هو مؤسس مدرسة النحو البصرية ومن بعده ابو الاسود الدؤلي الذي استكملها بناء على ما اخذه من علي وهكذا جاءت الاسماء تباعا حسب ابن خلدون وكما سنرى واما تشكيك المشككين كجواد علي كما سنرى الذي اشار ان عليا وابو الاسود اخذا اصول النحو من اليونانيين اعتقد انه كلام عار عن الصحة لتشابه اصول اللغة في اغلب لغات العالم وسياتي تبيان هذا الكلام في حينه.
من اساطين النحو في البصرة كان قاضيا بالبصرة وهو الذي قام بمهام التنقيط فقد جاء في طبقات النحويين والمنتظم: ابو الاسود اول من اسس العربية ، ونهج سبلها ووضع قياسها فوضع الفاعل والمفعول به والمضاف وحروف النصب والرفع والجر والجزم وقيل هو اول من نقط المصاحف ووضع للناس النحو وكانت طريقته العقلية في التنقيط كما قال لكاتبه وهو من عبد القيس وقد اختاره من بين عشرات الكتاب الذين عرضوا عليه:" خذ المصحف وصبغا يخالف لون المدد ، فاذا فتحت شفتي فانقط واحدة فوق الحرف واذا ضممتها فاجعل النقطة الى جانب الحرف واذا كسرتها فاجعل النقطة في اسفله فاذا اتبعت ذلك شيئا من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين فابتدأ بالمصحف حتى اتى على اخره" ويؤكد النحوي مهدي المخزومي (ت1993) فضل ابي الاسود الذي توفي سنة 69 هـ في التنقيط بقوله: ورأينا كيف تشعبت الدراسات القرانية وكيف انتهى العلماء الى ان يتناولوا الجانب اللغوي من القران، وكيف تطورت دراسة الجانب اللغوي من النقط الذي اصطنعه ابو الاسود الى بحث في التأليف بحثا يتناول الكلمة ، من حيث اصولها ومن حيث بناؤها ومن حيث اعرابها بالتالي يؤكد المخزومي تحول الصنعة اللغوية لدى ابي الاسود الدؤلي الى فكر وممارسة وتاليف وبحث أي الى جانب عقلي.
واشارت روايات محدودة الانتشار الى اخرين في المبادرة للتعجيم والتنقيط ، منهم: يحيى بن يعمر (ابو عدي العدواني البصري ت 90هـ) وسياتي حديثنا عنه ونصر بن عاصم الليثي الذي قرا على يد الدؤلي حتى عرف ب(الدؤلي البصري النحوي ) روى عنه ابو عمرو بن العلاء وقيل في مذهبه السياسي انه من الخوارج توفي سنة 100 هــ والداني تكلم عن موضوع التنقيط قائلا/
النقط لاهل البصرة اخذه الناس كلهم عنهم حتى اهل المدينة وكانوا ينقطون على غير هذا النقط فتركوه ونقطوا نقط اهل البصرة ومعلوم ان ابا الاسود كان في مقدمة اهل البصرة في هذا المضمار.

وقد كان لصحبته بعلي بن ابي طالب دور كبير وتاثير من لدن الخليفة علي على ابي الاسود في النحو وفي مدرسة البصرة عموما مما نستطيع ان نجزم ان لعلي تاثير كبير ومباشر على مدرسة البصرة النحوية من خلال تاثيره على دور ابو الاسود الدؤلي في النحو قال ابو العباس محمد بن يزيد: سؤل ابو الاسود عمن فتح له الطريق الى الوضع في النحو وارشده اليه فقال: تلقيته من علي بن ابي طالب رحمه الله، وفي حديث اخر: قال: القى الي علي اصولا احتذيت عليها ويذكر السيرافي ان ابا الاسود كان ممن صحب عليا وكان من المتحققين بمحبته ومحبة ولده وفي ذلك يقول :
يقول الارذلون بنو قشير طوال الدهر لا تنسى عليا
احب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة والوصيا
فان يك حبهم رشدا اصبه ولست بمخطئ ان كان غيا
حيث كان نازلا في بني قشير بالبصرة وكانوا يرجمونه بالليل لمحبته لعلي وولده ويضيف السيرافي ان الناس اختلفوا في السبب الذي دعا ابا الاسود الى ما رسمه من النحو:
فقال ابو عبيدة معمر بن المثنى ( ت209هــ) عالم لغوي : اخذ ابو الاسود عن علي بن ابي طالب عليه السلام العربية ،فكان لا يخرج شيئا مما اخذه عن علي بن ابي طالب عليه السلام الى احد حتى بعث اليه زياد (ت53هــ) :اعمل شيئا تكون فيه اماما ينتفع الناس به وتعرب به كتاب الله فاستعفاه من ذلك ،حتى سمع ابو الاسود قارئا يقرأ ) ان الله برئ من المشركين ورسوله) فقال: ما ظننت ان امر الناس صار الى هذا فرجع الى زياد فقال: انا افعل ما امر به الامير فليبغني كاتبا لقنا يفعل ما اقول ،فأتي بكاتب من عبد القيس ،فلم يرضه ،فأتي باخر (قال ابو العباس المبرد(ت285هـ) احسبه منهم) فقال له ابو الاسود: اذا رايتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط نقطة فوقه على اعلاه، فان ضممت فمي فانقط نقطة بين يدي الحرف ،وان كسرف فاجعل النقطة تحت الحرف (فان اتبعت شيئا من ذلك غنة فاجعل مكان النقطة نقطتين) فهكذا نقط ابي الاسود والسبب الفكري العقلي الذي دعا ابي الاسود الى استخدام النحو في اللغة هو التفاعل الثقافي الذي حدث بين العرب والاعاجم في البصرة انذاك حيث تغيرت الالسن فاراد ان يضع للعرب قواعد تليق بلغتهم ويقيم من خلالها كلامهم .

والذي كان يحفز ابو الاسود لوضع قواعد في اللغة هو الرؤية العقلية التي كان يفكر فيها ومن خلالها بكلام العرب فهو يريد ان يفرق بين الاستفهام والتعجب مثلا وذلك لان الاستفهام هو رؤية عقلية تختلف عن التعجب فكلاهما الاستفهام والتعجب رؤيتان عقليتان ولكن كان العرب لا يفرقون بينهما من خلال الكلام فوضع ابو الاسود ما يفرق بينهما عقليا وهذا هو ما اسميه العلاقة الوطيدة بين اللغة والفكر وقدرة ابو الاسود على ان يوظف قدرة اللغة على وضع اسس عقلية : روي ان الذي اوجب عليه وضع النحو ان ابنته قعدت معه في يوم قائظ شديد الحر، فارادت التعجب من شدة الحر فقالت: ما أشدُ الحر"فقال ابوها: القيظ، وهو ما نحن فيه يا بنية جوابا عن كلامها لانه استفهام ، فتحيرت وظهر لها خطؤها ، فعلم ابو الاسود انها ارادت التعجب فقال لها: قولي يا بنية : ما اشدَ الحر" فعمل باب التعجب وباب الفاعل والمفعول به وغيرها من الابواب وغيرها من القصص التي تروى عن رؤيته المهمة في قضايا اللغة وجعل اللغة وترويضها لتكون لغة عقلية على اساس نحوي مهم.
يحيى بن يعمر :/
من الذين انتجوا فكرا لغويا وجعلوا من اللغة مدارا عقليا :
كما كان للغة البصريين تاثير في السياسة وان كانت هذه النقطة يمكن ان تذكر في العقلي السياسي للبصريين ولكن هنا نود التركيز كيف طوع البصريون اللغة في السياسة وفي تقويم السياسيين والحكام انذاك ومنها ما ورد عن يحيى بن يعمر وهو من طبقات النحويين الثانية في البصرة وكانت له صلة بالحجاج الثقفي ومنها :
ذكر يونس بن حبيب قال: الحجاج لابن يعمر : اتسمعني الحن على المنبر ؟قال: الامير افصح من ذلك .فالح عليه فقال : حرفا ، قال : ايا؟ قال في القران. قال الحجاج: ذلك اشنع له ، فما هو ؟ قال : تقول: "قل ان كان اباؤكم وابناؤكم"الى قوله عز وجل (احبَ) فتقرؤها(احب) بالرفع والوجه ان تقرأ بالنصب على خبر كان قال : لا جرم! لا تسمع لي لحنا ابدا، فالحقه بخراسان وعليها يزيد بن المهلب قال : فكتب يزيد الى الحجاج :" انا لقينا العدو فمنحنا الله اكتافهم فاسرنا طائفة وقتلنا طائفة واضطررناهم الى عرعرة الجبل ونحن بحضيضه واثناء النهار "فلما قرا الحجاج الكتاب قال:ما لابن المهلب ولهذا الكلام! حسدا له ، قيل له: ان ابن يعمر هناك قال : فذاك اذن فابن يعمر وكما تدل الرواية هو لغوي بصري كان له تاثير في حكام زمانه من صياغة لغة السياسة لديهم وبالتالي طوع النحويون البصريون اللغة في المجال الفكري العقلي السياسي ولم يقتصر فقط على قواعد النحو بل كان له تاثير كبير ومباشر في الناحية العقلية.كما كان ابن يعمر عالما بالغريب .وكان قاضي في مرو وقرأ القران على يد ابي الاسود وقيل عنه انه اول من نقط المصحف توفي سنة 90هــ
عبد الله بن ابي اسحق الحضرمي:
ذكره العلامة السيرافي قال محمد بن سلام: سمعت رجلا يسأل يونس عن الحضرمي وعلمه ؟ قال: هو والنحو سواء ،أي هو الغاية وكان يكثر الرد على الفرزدق(ت110هــ) والتعنت له فلما قال الفرزدق في قصيدة يمدح فيها يزيد بن عبد الملك:
مستقبلين شمال الشأم تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
على عمائمنا تلقي وارحلنا على زواحف تزجي مخها رير
فألح عليه ابن ابي اسحق وعابه بخفض البيت الاول ورفع الثاني فغيره الفرزدق فقال: على زواحف نزجيها محاسيرِ

ابو عمرو بن العلاء : ( 55هـ- 154هــ)
واسمه زبان بن العلاء بن عمار بن مريان بن عبد الله بن الحصين التيمي المازني وهو بصري اخذ عن ابن ابي اسحق الحضرمي يقول عنه السيرافي : من الاعلام في القران وكان من القراء البصريين ومن مظاهر استخدامه اللغة في حل المعضلات العقلية وهو من الطبقة الرابعة ، ما يلي :
1- قال الاصمعي قال ابو عمرو بن العلاء في قول النبي (ص) "في الجنين غرة عبد او امة " : لولا ان رسول الله (ص) اراد بالغرة معنى لقال : في الجنين عبد او امة ، ولكنه عنى البياض ، لا يقبل في الدية الا غلام ابيض او جارية بيضاء حيث يتضح من خلال الحديث الوارد عنه ابي عمرو استخدامه الكبير للغة في فك الشفرات الفقهية في حديث الرسول مما يعني استخدام اللغة في التحليلات الفكرية العقلية .
2- ومما يدلل على فطنته العقلية وسرعة بديهته: ان الاصمعي سال الخليل الفراهيدي عن قول الراجز:
حتى تحاجزن عن الذواد تحاجز الري ولم تكادي
لم قال "تكادي" ولم يقل : "ولم تكد"؟ قال فطحن يوما اجمع.وسالت ابا عمرو بن العلاء وكانما كان على طرف لسانه فقال: ولم تكادي ايتها الابل
وواضح سرعة البديهة لديه والتي تتاتى من كثرة قراءاته وسرعة ربطه ومعالجاته لهذه القراءات لكي يحسن الجواب عقليا .
3- ومن رؤاه العقلية التي وظف فيها اللغة للرد على المعتزلة انه مر بعمرو بن عبيد شيخ المعتزلة انذاك وهو يتكلم في الوعد والوعيد( والذي تكلم عنه في مبحثنا حول المعتزلة ومعنى ايمانهم به) ويثبته فقال له ابو عمرو: ويلك يا عمرو انك الكن الفهم الم تسمع الى قول القائل:
واني وان اوعدته او وعدته لمخلف ايعادي ومنجز موعدي
والبيت لعامر بن الطفيل
انما اراد ان الله تبارك وتعالى قد وعد واوعد وهو قادر على ان يعفو عمن اوعده وقادر ان ينجز لمن وعده. وواضح من هذه الرؤية تسخير ابي عمرو بن العلاء اللغة للرد على المعتزلة من خلال اللغة فالوعد والوعيد صدر ابو العلاء فهمه الى عمرو بن عبيد لغويا عقليا .وهذا من مصاديق استخدام البصريين للغة في مجال الفكر .
ومن اهم ما انتجه في ثنايا اللغة والعقل في موضوع حول ضرورة استخدام الالوان ، قال ابو عمرو بن العلاء (ت :154هــ 159هــ 770 م-775م " يقول" فاما نقط المصاحف بالسواد من الحبر وغيره فلا استجيزه ، انهي عنه، وانكره اقتداء بمن ابتدأ النقط من السلف، واتباعا له في استعماله لذلك صبغا يخالف لون المداد، اذ كان لا يحدث في المرسوم تغييرا وتخليطا والسواد يحدث ذلك فيه" وبالتالي هذه نقطة لا عقلية وقع فيها ابو العلاء بسبب رؤيته الى تلوين المصحف وقد تباينت الاراء حول تلوينه وحذر والي البصرة زياد بن ابيه(ت53هــ 672م) من تلوين المصحف وانه قال لابي الاسود الدؤلي (ت:69هــ 688م) (ان هذه الحمراء (الموالي) قد كثرت وافسدت من السن العرب) اما فقيها البصرة ،الحسن البصري وابن سيرين (كانا يكرهان نقط المصاحف) وهما من الموالي وكانت حجة ابن سيرين العقلية ( اني اخاف ان يزيدوا ف الحروف او ينقصوا)

مدحه الفرزدق "ما زلت اغلق ابوابا وافتحها ، حتى اتيت ابا عمرو بن عمار" وكان احد القراء السبعة وكان عالما بالشعر واللغة والقران والنحو .كان له اثر كبير في مدرسة الكوفة النحوية فكان ممن اخذ عليه ابو جعفر الرؤاسي شيخ الكسائي والفراء والكسائي جلس اليه في الكوفة على اغلب الظن وقد عرفته مجالس الكوفة ولاسيما مجلس شيخها الاعمش ولم يصل من علومه الا النزر اليسير حيث تم احراق دفاتره التي كانت تملأ بيتا حتى السقف من قبله بعد ان تنسك .
طريقته في الدراسة:/
قام في البحث والتمحيص في اللغة العربية بطريقة غريبة وكبيرة ومتنوعة للغاية فكان ياخذ اللغة من جميع العرب من مكة حيث عاش فيها صبيا قال معاذ بن العلاء اخوه :كان ابو عمرو اذا لم يحج استبضعني الحروف اسأل عنها الحارث بن خالد العاصي الشاعر واتيه بجوابها قال: فقدمت عليه سنة من السنين وقد ولاه عبد الملك بن مروان مكة فلما راني قال: يا معاذ هات ما معك من بضائع ابي عمرو فجعلت اعجب من اهتمامه بذاك وهو امير
اخلاقه وتواضعه:
اما أخلاقه فكان بعيدا عن الملوك والسلاطين وكانت له حكمة مشهورة يقول فيها:
وان امرأ دنياه اكبر همه لمستمسك منها بحبل غرور
وكان ناسكا متواضعا زاهدا وكان مع نسكه يعنى بهندامه وبنفسه فهو يطيب ثيابه ويخضب بياض شعره حكي عنه وقد اشتكى في بعض الايام فعاد بعض اصحابه فقال :تقوم ان شاء الله تعالى من علتك فقال: ما امل بعد ست وثمانين ، وعاد اليه وقد تماثل فقال :لا تحدث بما قلت لك . وهذا من ظريف ما روي عنه رغب في تمويه بالخضاب وكتم سنه عن كل الاصحاب وكان صادقا متواضعا على الرغم من سعة علمه.
حتى انه يقول في الصدق:
انفت من الذل عند الملوك وان اكرموني وان قربوا
اذا ما صدقتهم خفتهم ويرضون مني بان يكذبوا
ويقول فيه مكي بن سوادة البرجمي:
الجامع العلم ننساه ويحفظه والصادق القول ان انداده كذبوا
كانت لديه حلقة عامرة في مسجد البصرة الجامع لقراءة القرأن وتناول اللغة والشعر ونقده ايضا وابرز تلامذته الخليل ويونس بن حبيب وسيبويه كان ناقدا شعريا رائعا حيث له اراء في العروض منها رايه الايطاء وهو اعادة القافية قال فيه انه لم يعده العرب عيبا والاقواء وكيف ان العرب كانت تقول شعرا فيه اقواء منهم النابغة وبشر بن ابي خازم حسب روايته وكانت له اراء في عدد من الشعراء المنتشرين انذاك في البلاد من المتقدمين والمعاصرين، وكان له حضور ليس فقط في مسجد البصرة الجامع بل في عدد من مساجدها المنتشرة الاخرى .
كما كان له مجلسا في بيته وكان يلازمه فيه الاصمعي كثيرا وكذلك عيسى بن عمر كما كان له مجلس في قصر بلال بن ابي بردة والي البصرة وقاضيها من سنة 109 ه حتى 120 ه وكانت صلته صلة احترام وليست طمع وتزلف وكان ابو عمرو يخالف العقل احيانا خوفا من الاستبداد وهذا اول موقف يفعله بصري في نظري أي يخالف العقل خوفا من الاستبداد حيث انشد بلال والي البصرة وذو الرمة حاضرا شعرا لحاتم الطائي فيه:
يرى الخمس تعذيبا وان يلق شعبه يبت قلبه من قلة الهم مبهما
فقال له ذو الرمة "الخمص" و"الخمس" للابل وانما هو خمص البطون واصر كل منهما على رايه ودخل ابو عمرو فقال له بلال: كيف تنشدهما :وعرف ابو عمرو الذي به فقال :كلا الوجهين .فقال له: اتاخذون عن ذي الرمة ؟ قال: انه لفصيح وانا لناخذ عنه بتمريض فلما خرجا من عند بلال قال ذو الرمة لابي عمرو :والله لولا اني اعلمك حطبت في حبله وقلت في هواه لهجوتك هجوا لا يقعد اليك بعده اثنان
نعم صحيح انه كان يرهب الولاة ولكنه ما كان يداهنهم الى درجة امتداحهم والتزلف اليهم

#ياسر_جاسم_قاسم (هاشتاغ)       Yaser_Jasem_Qasem#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات