أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ممدوح رزق - يوميات: الشكل العادي للجنون














المزيد.....

يوميات: الشكل العادي للجنون


ممدوح رزق

الحوار المتمدن-العدد: 4001 - 2013 / 2 / 12 - 19:46
المحور: الادب والفن
    


لماذا أشعر بأن الشخص الذي كنته في بدايات شبابي أصبح الآن أكثر قربا من تحطيم الجدار الصخري الذي حُبس وراءه طوال هذه السنوات ؟ .. أعرف أنه لا يوجد ما يفرض بقاءه سجينا حتى نهايتي، لكن متعتي في نفس الوقت بقرب تحرره لم تحصل بعد على كامل راحتها؛ بل مازلت متآلفا مع تخيل نتائج خروجه إلى الحياة مرة أخرى أكثر من استعدادي ـ رغم كل شيء ـ لخروجه فعلا .. ربما لا أحتاج سوى لبذل قليل من الجهد لتخليص الحالة مما قد يكون تشويشا مربكا لإرجاع السبب إلى التعوّد خلال الفترة الطويلة الماضية على التفكير فيه كذكرى .. كماض لا سبيل لعودته .. لكن الذكرى أصبحت هذه الأيام في مواجهة رغبة شرسة لاسترداده من الأسر.
كان مطمئنا لقدرته على تكوين أمان خاص، محصن بتحالفات أشياء صغيرة داخل مغارة أشباح هائلة، محكومة بالتراكمات المذلة لزمن كابوسي .. كان يعتقد بأن العالم قابل بشكل وبآخر لأن يعطيه حيزا منكمشا وبعيدا إذا لم يدخر طاقة في كسر إرادته بانفعالاته الحادة وتهوره وقسوته غير المترددة تجاه خطايا البشر .. أتذكر اعتزازه بلذة التحدي الكامن في مجابهة الشرور بعواطف جارفة مخلصة للتمرد، ومنسجمة مع أشكال متنوعة للتشرد واللامبالاة لم تأخذ مداها المرعب، ولم تنقاد لمبالغات عنيفة كالتي في بعض حكايات الأدب والسينما .. غاب طويلا ذلك المدفوع بطيبة غاضبة وشفقة وتحسر بالغين حد التوهان الطفولي رغم القوانين الصامدة المرجأة في أحلامه، والتي لم تسمح له وقتها بأي فرصة للشك في أن الغيب سيخضع ذات يوم للجمال الأبدي الذي ستخلقه .. لم تكن الكتابة وقتها مجرد توثيق واكتشاف ومحاكمة لحروبه العشوائية التي أنهكه الهوس بتنظيمها بقدر ما كانت أيضا تدابير متزايدة وخطط متغيرة لتصفية الحسابات المؤلمة مع سذاجته ومع الآخرين ومع القدر .. كانت محاسبة تعذيبية لنفسه وبحثا عن إمكانيات التدارك لأخطاءها وانفلاتاتها اللامحسوبة، والتي أضاءت ثغرات ضعفه لأعداء كان يتأكد دائما من أنهم يعيشون فقط لانتهازها.. لم يُترك هذا الشخص للوصول إلى الانفجار الفوضوي الكامل بفعل الخسارات المتلاحقة بغموض، والقهر الفذ للحنين، واليأس من التخلص من أقنعة مستفزة كان يضطر كثيرا لأن يخبيء خوفه وهشاشته تحتها كي يحافظ على بقاءه وسط غرباء ينبغي أن يصدوا الفناء عنه لكن خلودهم ألزمهم بالاستمرار في فعل العكس .. يمكنك أن تعيش حياة عادية كما يجب أن يكون عليه موظف أو مالك محل أو صاحب حرفة محيلا توسلاتك إلى هوامش محتملة لا تجيد أكثر من تكرار وتعديل شحوبها بسعادة .. هذيان بائس عن مستقبل ما، مهدد ومتكسّر بدءا من لحظة التفكير فيه، غير مضمون كنكتة قديمة سمجة، ولكنها ستكون صاحبة الفضل في قوة انتقامك من الحياة والموت بالكتابة .. كان الأمر يشبه حكمة إجبارية لم يتمكن من السيطرة على الانسحاب معها للداخل كاتما كل الطلقات التي تسببت في جروح له أكثر مما تسببت للآخرين .. مانعا كل الصرخات التي لم يستطع تمييزها أو الوثوق في انتماءها له حينما كانت صوتا مسموعا، ولكنها كانت جاهزة دائما للاندفاع في لحظة غير متوقعة .. كان كل ما يظهر منه خلال السنوات الماضية ليس أكثر من حفر بأظافره التي طالت كثيرا دون فائدة فوق النتوءات والتعاريج القاسية للجدار الصخري الذي لم يمتلك يقينا بأنه يرفض التعاطف معه .. أظافره التي لم تتوقف أبدا عن معاقبة جسدي من الداخل بينما يفرح في مصائب الآخرين ويتمناها أكثر بكثير من حرقهم بلغة صريحة .. بينما يعيش تعاسة مهينة كلما لمس تقاربا بينهم أكثر بكثير من تمزيق واضح ومعلن لكرامتهم .
عاش متفهما باستسلام للأمر، ومتيقظا بندم للدلائل والإشارات الخادعة التي كان عليها أن تثبت ضرورة الكبت الذي تمت ممارسته عليه تدريجيا دون اعتبار لما يعتقد أنه صحيح أوخاطيء .. أشعر أن اللحظات المتعاقبة صارت أكثر تماديا لجحيم لم يعد هناك رجاء في التصميم على التعايش معه .. أصبحت من المرض للدرجة التي تفشل معها حتى رغبتي في استدعاء مبرر للمقاومة، خاصة مع التقدم الجليدي الأعمى للعمر، وتقلص الوقت ـ أيا يكن مداه ـ المتبقي الذي يبدو أنه معد هو الآخر فحسب للانتظار وللانتحار البطيء برفقة ذكريات ملتبسة لكل ما حدث، ولكل ما كان ينبغي أن يكون .. لازالت الكتابة متعة اللعب بالأوهام المسيطرة على آلات الحرب المجهزة للفرجة الكونية، ولكنها تعرّفني الآن بأنها تمتلك هزائمها الخاصة التي لا يمكن معالجتها، والتي ربما ستزيد من إلحاح الشخص الذي كنته في بدايات شبابي للخروج من سجنه .. لكنه لن يخرج كما كان ـ أدرك ذلك جيدا ـ لأنه سيكون ـ وببساطة لا يمكن تصديقها ـ عاريا من القوانين والأحلام .. سيتفرغ فقط للاستمرار في تصويب كراهيته لكل ما له وجود في العالم وبقدرة غريبة على الانتهاك والأذى والتخلي .. سيخرج لتعويض الانفجار الذي حُرم منه، ولن يستثني حتى أقرب البشر إليه .. أتمنى ـ بصدق ـ ألا تعيشون حتى ذلك اليوم.

* * *
12 / 2 / 2013



#ممدوح_رزق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رائحة الفم الكريهة
- Hitomi Tanaka In The Bus
- كلما كان هناك ولم يجد شيئا يفعله
- ( وهج ) أماني خليل
- بورخيس
- بالإصبع الصغير لقدم أعمى
- حرب منتهية
- كيف يكتب ويقرأ أنسي الحاج ؟
- باب المشرحة
- اللعب بالفقاعات
- قراءة المذكرات
- قتل فرويد
- سلطة الجسد في ( مثلث العشق ) ل شريف صالح
- المتسول
- السينما المصرية القديمة : أحلام سكان المريخ بالأبيض والأسود
- إعادة التدوير
- القرية وأسئلة الحنين في رواية - وغابت الشمس - ل - السعيد نجم ...
- تفاصيل الموت
- غريزة الكتابة
- الثورة والخيال المابعد حداثي


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ممدوح رزق - يوميات: الشكل العادي للجنون