أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حسن عبد الحافظ - محتوى الشكل في الرواية المصرية، علاء الديب نموذجًا















المزيد.....



محتوى الشكل في الرواية المصرية، علاء الديب نموذجًا


محمد حسن عبد الحافظ

الحوار المتمدن-العدد: 1152 - 2005 / 3 / 30 - 12:32
المحور: الادب والفن
    


"الزمن انفجار الرعب"
"فاركض فى متدارك موتك.
لملم وقع خطاك، وغادر سر الشجر النائم،
واسترجع بعض رمادك"
محمد عفيفى مطر
"اغمس كل ماجربت فى معمودية النسيان
داخل التذكر الأبدى"
سورين كيركجارد
"إنهم لايعرفون أن ذلك الذى يختلف مع نفسه هو فى
اتفاق، وأن ذلك الذى فى تعارض لهو الإنسان
المتماسك، وأن التناغم لايقوم إلا فى التوتر بين
الأضداد، والمواجهة بين العكوس"
هيرقليطس
ـ 1 ـ
مهاد: الإيقاع ومحتوى الشكل الروائى:
ينتمى مصطلح "الإيقاع Rhythm " إلى مجال علم الموسيقى، حيث يمثل الأول تنظيمًا للشق الزمنى من الثانى. وقد استعارت دراسة الشعر مفهوم الإيقاع ـ بوصفه ظاهرة أساسية فى الشعر ـ ليمثل ركيزة رئيسة فى تحليل محتوى الشكل الشعرى(1). ونتصور أن علم الموسيقى نفسه ـ على تعدد فروعه ـ قد استعار مفهوم الإيقاع، وغيره من المفاهيم والمصطلحات الموسيقية، من طبائع الظواهر الكونية، ومن وعى الإنسان المتنامى بفكرة الزمن، ونظامه. فضلاً عن اكتشاف الإنسان المتواتر لجلال الصوت البشرى الشفاهى، ولجماليات أصوات الكائنات الحية، وللإيقاعات الصادرة عن الكائنات الجامدة، وعن الأدوات التى استخدمها الإنسان فى معيشته وعمله.. إلخ. بل إن جهازنا الجسمى نفسه ذو طابع إيقاعى؛ فنحن مخلوقات تتصف أجهزتها، التى تقوم بعمليات الحياة الرئيسية فيها، بأنها إيقاعية (منظومة) فى عملها، كما أن حياتنا الوجدانية كلها ذات طوابع إيقاعية. حتى أفكارنـا؛ ترد على أذهاننا فى صورة مد وجزر إيقاعيين(2).
إن ظاهرة الإيقاع لا تقتصر، فحسب، على منظومة الرموز الصوتية واللغوية للأنواع الأدبية التى تمثل العلامات اللسانية (الشفاهية)، أو العلامات السيميوطيقية (الكتابية)، أساسًا فى معمارها وتشكلها ـ وإن بدت ظاهرة الإيقاع، فى معظمها ، بصورة نوعية وحاسمة _ وإنما تنسحب _كذلك ـ على مختلف الفنون غير اللغوية، بل أيضًا على الظواهر الحياتية التى لا ننتبه ـ عادةً _ إلى مضامينها الإيقاعية الخاصة؛ ربما لغموض فكرة الإيقاع بالنسبة إليها، أو _ بالأحرى _ بالنسبة إلينا، ونحن نمارس قراءتها، أو تحليلها بصريًّا، أو مقاربتها بأية وسيلة. لكن _جوهريًّا _ ثمة إيقاعات ذات شأن خاص للعمل، والألوان، والعمارة، وتخطيط المدن، والمنحوتات، والرقص، والإشارات الضوئية، والعادات، والتقاليد، والمعتقدات، والأحاسيس ... إلخ. يتسق هذا التصور مع الدلالة العامة لكلمة "إيقاع"، المشتقة أصلاً من اليونانية. فالإيقاع هو الجريان أو التدفق، والمقصود به التواتر المتتابع، أو المتراوح، بين مستويات حالتى الصمت والصوت، أو النور والظلام، أو الحركة والسكون، أو القوة والضعف، أو القسوة واللين، أو القصر والطول، أو الإسراع والإبطاء، أو التوتر والسكينة، أو الانغلاق والانفراج(3). ومن ثم، فالإيقاع خصيصة جوهرية فى الحياة، بمظاهرها المختلفة. فليس ثمة ظاهرة دون نظام زمنى لدورة حياتها، ونظام جمالى وقيمى لوجودها ومثولها، ذلك النظام الذى يمنح الظاهرة كينونتها؛ أى موسيقاها الخفية، وإيقاع روحها.
برغم أن الإيقاع ظاهرة أساسية فى مختلف الفنون، فإنه يبدو أكثر رسوخًا وتجذرًا فى الشعر؛ لأسباب خاصة بتميز نتاجه الجمالى؛ أى شعريته(4)، لاسيما خصوصية اشتغال تشكيلاته اللغوية والصوتية، وفق نظام ـ أو قانون ـ منضبط، يصل إلى مصاف الانضباط الرياضى، حيث يعتمد على تكرار النبرات على مسافات زمنية قصيرة متقاربة، وعلى التوالى الإيقاعى الذى يميز قصيدة عن أخرى. ومن ثم، تبدو طبيعية تلك العلاقة الوثيقة ـ التى تحدث عنها كثير من النقاد(5) ـ بين الشعر والموسيقى، سواء على مستوى الفضاء الشعرى نفسه، بدءًا من الشعر القديم، وانتهاءً بسلسلة تحولاته الاستراتيجية التى لاتزال تشق أفقها المستقبلى المجاوز لقانونية الإيقاع الشعرى، أو على مستوى إنتاج فنون مركبة، بدءًا من الفنون الغنائية الشعبية ـ التراثية أو المأثورة، سواء التى تؤدى بمرافقة الآلات الموسيقية، أو تلك التى تردد بإيقاعات صوتية، أو لحنية، بدون آلات ـ كالموشحات، والمواويل، وأغانى الميلاد، والسبوع، وألعاب الأطفال، والأفراح، والعمل، والعديد، والإنشاد، والسيرة الشعبية.. إلخ. وانتهاءً بالغناء الحديث، والأوبريت… إلخ. ولم يكن من قبيل المصادفة، أن يتخصص منشئ علم العروض؛ الخليل بن أحمد الفراهيدى (100-175هـ / 718 – 786م)، فى الموسيقى، وأن يؤلف فيها كتابًا لم يصلنا للأسف الشديد(6)، غير أنه استخدم عددًا كبيرًا من مصطلحات الموسيقى، فى إنشائه لعروض الشعر العربى.
فى المقابل، لم تحظ الرواية العربية، باستثناء إسهامات محدودة(7)، بالإفادة من الإمكانات التى يمكن أن يمنحها مفهوم الإيقاع ومشتقاته، لتحليل محتوى الشكل الروائى، برغم الملاحظات التى سبق أن ساقها عدد من النقاد واللغويين حول إيقاع الشعر وإيقاع النثر(8)، والتى نستخلص منها نتيجة إجمالية، مفادها: أننا لا نستطيع أن نميز بين إيقاعات الشعر والنثر، بسهولة. فليس بينهما حد فاصل تمامًا؛ ذلك لأن النثر قد صُمِّم بالطريقة نفسها، ومن المادة اللغوية الخام نفسها، وعلى الأساس السيكولوجى نفسه، الذى يقوم عليه إيقاع الشعر. كما أن النثر، أحيانًا ـ حسب "ووردزورث" ـ ينبت أزهار الإيقاع الشعرى، وغالبًا ما يحمل الشعر أزهار الإيقاع النثرى(9).
إذا كان إيقاع الشعر، يعتمد ـ إجمالاً ـ على انتظام التشكيلات الصوتية، وفق قانون زمنى خاص، يدخل فى نطاقه مستويات اللغة الشعرية الأخرى، فإننا نتصور أن ثمة طاقات إيقاعية تميز النص السردى الروائى، يمكن أن نبنى بها أسسًا خاصة بإيقاع الرواية، تتجاوز حدود النظرة الرومانسية لإيقاع النثر، والتى انحازت فيها لإيقاع الشعر، باعتبار الإيقاع أصلاً فى الشعر، وفرعًا ثانويًّا فى النثر. إننا نرى موضوع الإيقاع، الآن، بصورة مختلفة، بعدما حققته الأنواع الأدبية من تداخل خلاَّق بين خصائصها. وتعد الرواية أكثر هذه الأنواع مراوغةً، وتمردًا على التقنين والتثبيت(10)، حيث تتمتع بحيوية الامتزاج بغيرها من الفنون والأنواع الأدبية، وبإيقاعات الحياة اليومية.
إن الإيقاع، حسب "ميشونيك"، يحقق للأدب أدبيته، سواء كان شعرًا أم نثرًا، بل يرفض هذه الثنائية نفسها من الأساس، تاريخيًّا ودلاليًّا. فالإيقاع يتضمن الشفهية، وينفى الحيادية المزعومة للغة. فاللغة الأدبية لا يمكن أن تتقلص إلى هياكل ورسوم؛ لأنها مشحونة بالانفعالات، والأشواق، والقيم، والمواقف(11). ومن ثم، فهى مشحونة ـ بطبيعتها ـ بالإيقاعية Rhythmicality، وبالتنغيم Intonation الإيقاعى الدال. سواء كانت هذه اللغة كلامية (منطوقة)، أم مكتـوبة. بيد أن دراسات التنغيم العربية الحديثة تتعامد ـ حصرًا ـ على المنطوق(12)؛ ربما لسلطة المجال الفيزيقى والفسيولوجى الذى يعمل فيه(13)، ولعدم كفاية الأدوات والعلامات النحوية ـ فى نظام الكتابة العربى ـ التى يمكن أن تدل على ظاهرة التنغيم فى اللغة العربية(14). ومن ثم، تتحقق دقة قيس التنغيم فى المنطوق بدرجة أكبر مما فى المكتوب، لكننا نتذكر المفهوم السوسيرى للعلامة الموسيقية Musical Signe، وهو قرين مفهومه للعلامة اللغوية Lingustic Signe، حين نتحدث عن المقصود بالصورة السمعية Sound Image، ليس بوصفه الصوت المسموع؛ أى الجانب المادى منه؛ وإنما بوصفه الأثر النفسى الذى يتركه الصوت فينا(15). وبرغم الأهمية القصوى لمعالجة هذه القضية، فإن المقام ـ هنا ـ لا يفى بمناقشتها تفصيلاً، لكننا نكتفى ـ ابتداءً ـ باستثمار الدلالة العامة لمفهوم الإيقاع، حيث يمكن أن نشير ـ فى تحليلنا للعمل الروائى ـ إلى إيقاع المشاعر، وإيقاع الأفكار، وإيقاع الزمن، وإيقاع الحوار، وإيقاع الضمائر، وإيقاع العنوان، وإيقاع الشخصيات، وإيقاع الراوى… إلخ، باعتبار ذلك محاولة تطبيقية أولية، تتغيَّا الوصول إلى مستوى تطبيقى أعمق، لتحليل موضوع الإيقاع ـ ضمن تحليل محتوى الشكل ـ الروائى.
إجمالاً، فإن موضوع الإيقاع يدخل طرفًا فى صراع ينفى المقولات الثنائية الشائعة حول الشكل والمضمون، المسند والمسند إليه، اللغة العادية والشعرية(16)، ويربطنا بظاهرة تداخل الأنواع الأدبية، وتداخل الفنون اللغوية وغير اللغوية. كما يبرز دور الإيقاع، باعتباره أداة إجرائية حيوية ـ ضمن نسق من الأدوات والمقولات النظرية ـ فى اكتسابنا لمهارة إنجاز قراءات نقدية حساسة، تستهدف البحث فى المحتوى الجمالى والاجتماعى للشكل الأدبى(17)، وغايتها البعيدة: تحليل محتوى شكل السيرة الشعبية.
ينهض إيقاع الرواية- فى الأساس- على التشكلات الجديدة، المعقدة، المتقطعة- أى المتكررة- للزمن، فى علاقاتها العضوية والمركبة بمجمل عناصر الرواية وتقنياتها، التى تقوم بإنشاء معمارها، وتنظيم موضوعاتها، وإلقاء الضوء على قيمها الاجتماعية والجمالية، لتفضي- فى النهاية- إلى تحديد محتوى شكلها. فى هذا الإطار، نفيد من أفكار "باختين" الذى استعار مصطلح "البوليفونيةpolyphony" من موسيقى الاحتفاليات الشعبية (الكرنفالية)، ليتخذها أداة لمعالجة ظاهرة "تعدد الأصوات" فى الرواية. ويمكننا أن نستلهم من استعارته إمكانية الاعتماد على الصيغة "المونوفونية" (المونولوجية)، التى تتسم بها إيقاعات عالم الجنوب وشعوب العالم الثالث التى ننتمى إليها بامتياز. وكذلك مقولته النظرية حول مفهوم "الزمكانية" (الكرونتوب)، الذى استعاره باختين من مجال علم الرياضيات، ليمثل مقولة أدبية للشكل والمضمون(18)، وموضوعًا محوريًّا يمكن- من خلال تطبيقه تطبيقًا حرًّا ـ أن نعتمده فى اكتشاف الإيقاع الخاص بكل رواية، والتنويعات الهارمونية (التناغم)، أو الميلودية (النغمة الأحادية )، أو النشازية (التنافر )، التى ينتظمها هذا الإيقاع، وتظل هناك أهمية قصوى للبحث فى علاقة التلازم المجدولة بإحكام بين الزمن والإيقاع، حيث يمثل الزمن مقياسًا لتحليل الإيقاع من حيث الطول والقصر، ومن حيث تكرار انتظامهما، أو انتظام تكرارهما.كذلك الأمر فى تعميق بحث العلاقة العضوية بين الزمن- بمستوياته المختلفة- والرواية(19)؛ حيث يضطلع التشكيل الزمنى فى الرواية بتحقيق التنويعات الإيقاعية، بمشاركة العناصر الروائية التى يدخل الزمن، أيضًا، أساسًا فى تحققها؛ إذ لا نتصور قصًّا بدون تزمين؛ أى إننا لا نتصور مكانًا بلا زمان، أو حدثًا بلا زمن، أو شخصية دون أطر زمنية ، أو سردًا دون عالم ومحيط زمنيين.
بديهى أن نقول إن الزمن يمثل عنصرًا مميزًا للنصوص الحكائية والقصصية عمومًا، بدءًا من الحكايات والسير الشعبية، وانتهاءً بامتدادهما القصصى التقليدى الحديث. لكن العلاقة التاريخية بين الزمن والرواية، أخذت أطوارًا جديدة مع الأعمال الروائية المعاصرة، التى بشر بها جيل الستينيات، حيث صاغت رواياته أنظمة زمنية تتجاوز إيقاع التسلسل الزمنى، المنطقى، الخطى، المتتابع (الكرونولوجى)، فى الرواية التقليدية (سواءً فى أصلها البلزاكى، أم فى صورتها العربية المحفوظية)، ليس من أجل التجديد الشكلى حصرًا، حيث أفادت من تقنيات الرواية الفرنسية والأمريكية الحديثة؛ بل- أيضًا- لتجسيد وجهة نظر روائية للحياة(20)، تتسق مع معطيات الواقع الاقتصادى والاجتماعى والسياسى المصرى- والعربى- خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، حيث حاولت الراوية التماس مع إيقاع هذا المشهد التاريخي، ومجاوزته فى الوقت نفسه؛ بمعنى أنها حاولت اكتناه توترات الواقع، وتحول القيم، وتجسيد معضلة الإنسان فى البحث عن معانٍ نبيلة، وعن زمان ومكان أصيلين، بإيقاع يستلهم من مفردات الأسطورة إيقاع الزمن الأسطورى وطاقته فى تحطيم منطق الزمن التاريخى الخارجى، وفى ضرب غموض الواقع ، ومواجهة التحولات المفزعة، ومدافعة اليأس عن النفس، واستبدال عالم الرموز والأحلام، بعالم الواقع المتفسخ، وتعظيم قدرة الإنسان فى المجتمعات الشعبية على المواجهة والتماسك ، فى عالم يقع تحت ضغوط الهيمنة والاستئثار، داخليًّا وخارجيًّا، فضلاً عن محاولة ابتلاع المسافات الحضارية والجغرافية والتاريخية والثقافية للشعوب، ليترافق مع هذه المحاولات الروائية إمكانيات إبداع نماذج مختلفة لمحتوى وطنى للشكل الروائى(21).
كان هذا دافعًا إلى وصف العقود الأخيرة من القرن العشرين بأنها "زمن الرواية"، ودافعًا إلى إعادة اكتشاف قدرة الرواية على صوغ رؤى خاصة لعالم معقد، ذى إيقاعات متوترة، وعلى التقاط الأنغام المتباعدة، المتنافرة، المركبة، متغايرة الخواص، لإيقاع هذا العصر(22)، وذلك عبر إمكانات الرواية الخاصة، ومنها قدرتها على تشكيل أزمنة روائية أكثر تركيبًا وتعقيدًا، من مجرد وقوع الأحداث والشخصيات والأماكن فى الزمن، حيث تتسع وظائف الزمن، وتتعدد مساراته، ودلالاته، وحيث يشكل الزمن إيقاع القص المتعدد فى الترتيب والتواتر، فى الارتجاع والاستباق، فى الاستطراد والاقتضاب(23)، فى التفصيل والتكثيف، فى الاتساق والتنافر، فى التداخل والتقاطع.
ـ 2 ـ
يمثل الزمن فى رواية "زهر الليمون" لـ "علاء الديب" (مختارات فصول، الهيئة المصرية العامـة للكتاب، 1987)، إيقاعًا ممتدًّا على فضاء الرواية، وهاجسًا محوريًّا من بدئها لختامهـا (156 صفحة من المقطع المتوسط)، وإطارًا مرجعيًّا ينظم إيقاعات اللغة والأماكن والشخصيات والمشاعر والأفعال والرؤى والعلاقات، حيث يقوم إيقاع الزمن المتقطع بضبط الحالة المركبة التى تجسدها الشخصية المحورية فى الرواية، وهو إيقاع ينطوى على تنويعات نغمية صاعدة وهابطة، أو خافته ومحتدمة، حيث يعطى علامات قصيرة زمنيًّا على الإقدام والاستقبال، وعلامات أخرى ـ أطول نسبيًّا- على الإدبار والمطاردة، أو تقدم التنويعات مزجًا إيقاعيًّا مركبًا من القبول والنفور، من الفرح والحزن، من الأمل والإحباط، من السكينة والتوتر، من الحيوية والموات، من المحاولة والفشل، على نحو ماسيتبدى فى كشفنا ـ من بعد ـ للمدار الدائرى الذى تسير فيه رحلة البطل المعضل فى الرواية، وهى نفسها رحلة مركبة، تجعل من الرواية ـ بدءًا من عنوانها الرمزى البسيط ـ امتدادًا حكائيًّا للسير والحكايات الشعبية، التى تعد ـ إجمالاً ـ أشكالاً قصصية للرحلات.
والرحلة ـ أى رحلة روائية ـ هى رحلة بحث واكتشاف، مشاهدة واكتناه. رحلة نحو الآخرين، ورحلة نحو الذات. رحلة فى الزمان والمكان، فى الجغرافيا والتاريخ، فى الماضى والآتى، فى المشاعر والأفكار، فى الممكن والمستحيل، فى الواقعى والأسطورى، فى الحقيقى والخيالى. وتختلف "الروايات ـ الرحلات"، فى ما بينها، باختلاف بناها وطبائعها ودلالاتها ووسائل الاتصال التى تتخذها(24).
الرحلة المركبة التى تحويها رواية "زهر الليمون"، تسير ـ زمنيًّا وإيقاعيًّا ـ وفق خطين سرديين ـ أو قل: خطين لحنيين ـ متقاطعين، بكثافة لغوية تقارب أسلوبية القصة القصيرة، بإيقاعها المشحون بالتوتر والسرعة، وهى الأسلوبية الأساسية البادية فى أعمال "علاء الديب" على وجه العموم، ربما لصلته الوثيقة بالقصة القصيرة، منذ بداية حضوره الإبداعى.
الخط السردى الأول، موسوم فى هذه الدراسة بـ "القصة/ الإطار". مدار هذا الخط حول زيارة "عبد الخالق المسيرى" ـ بطل الرحلة المعضل ـ إلى القاهرة (وهى "عادة شهرية غير منتظمة، كعادة شهرية لامرأة قاربت سن اليأس"، ص6)، منطلقًا من مدينة السويس، التى استقر بها ـ موظفًا فى قصر الثقافة ـ قبل أربع سنوات، هربًا من غول السنوات المخيف، محاولاً ترتيب علاقته بالماضى، وتخفيف جثومه عليه، وتكييف نفسه مع الواقع الجديد.
فى هذه الزيارة ـ التى يستغرق زمنها يومًا ونصف اليوم، تقريبًا ـ يمر "عبد الخالق" بمجموعة محطات. يستهلها باستيقاظه فى التاسعة من صباح يوم خميس، ونزوله من حجرته فى العاشرة، متجهًا إلى محطة السفر بالسويس، ليسافر ـ بالصدفة ـ مع زميله المعار للخليج مصطفى الكردى، برفقة أسرته (زوجته وابنتيهما). ثم الوصول إلى القاهرة (وسط البلد)، التى استقبلها واستقبلته بحميمية شديدة. ويبدأ أولى محطاته بالقاهرة فى بار الأمراء، الساعة الثانية ظهر الخميس، حيث يجلس منفردًا، إلى أن يلتقى بالرفاق القدامى: أحمد صالح، وفتحى نور الدين، وكامل رستم المحامى، والصحفى ناشد مراد. وتنتهى هذه المحطة بمشاجرة عنيفة بين رستم والمسيرى، يخرج على إثرها المسيرى مع صديقه فتحى بهيئة جيش مهزوم، متجهين إلى منزل الثانى، ليقضى معه طرفًا من الليل، بحضور زوجته فريال. لكنه يغادرهما، تاركًا صديقه فى حالة انهيار؛ بسبب خلافه مع زوجته على فكرة سفره للعمل بالكويت. ثم يجلس على مقهى (صار كازينو)، يقع فى حضن الجبل ، بالقرب من شارع صلاح سالم. ثم يفضل الاتجاه نحو الحسين؛ ليشترى الجرائد، كعادته فى الماضى. وفى الحسين، يصادف صديقه الرسام حمدى عبد المجيد، ومعه ثلاثة من الأجانب (موريس وإيفا ومونيكا)، يجلسون جميعًا فى أحد المقاهى. ثم يصحبهم إلى شقة حمدى، حيث يمكث حتى مطلع فجر الجمعة، ليهئ نفسه لمحطته التالية بالدقى، حيث بيته وبيت أبيه وأخيه، وغرفة من حبلت به. يقطع الطريق من ميدان التحرير، عابرًا الكبارى، حتى يصل إلى ميدان الدقى. يجلس على مقهى يعرفه، ليحقق بعض الهدوء، بعد تصاعد حالة التوتر فى نفسه؛ جرَّاء ما مضى من رحلته. ثم يذهب إلى منزل العائلة، حيث يلتقى بأفرادها: أمه المريضة الراقدة، أخيه سعيد، وزوجته قدرية، وابنهما طارق المسيرى. لينتزع نفسه بصعوبة، فى نهاية مطاف هذه المحطة الطويلة، حيث يتجه ثانيةً إلى ميدان الدقى بصحبة ابن أخيه طارق، الذى يتهم جيل عمه بالانتهازية والادعاء، ليغلق دائرة الرحلة بإيقاع النهاية اليائسة. يعود عبد الخالق إلى ميدان التحرير، ويجلس على أول مقهى يعرفه، ثم يتجه إلى ورشة صديقه الحميم أحمد صالح بالأزهر، يودعه عبد الخالق بقلق على صحته المتراجعة، وقلبه المعتل، عائدًا إلى السويس. وتنتهى الرحلة (القصة/ الإطار) ـ نهايتها المفتوحة ـ لحظة استلقائه على السرير، وقد وضع يديه تحت رأسه، وعيناه مفتوحتان، تحدقان فى السقف.
لا تتضمن "القصة/ الإطار" ـ الخط السردى الأول ـ إشارات زمنية واضحة إلى الزمن التاريخى. هناك ـ فحسب ـ إشارات إلى بعض الأحداث التاريخية المعتادة؛ أى التى يمكن أن يتكرر وقوعها فى الزمن التاريخى، من مثل: أحداث الانتخابات، وأحداث الصعيد، وحركة الطلبة فى أسيوط، التى أشار إليها طارق المسيرى فى حواره الحاد مع عمه عبد الخالق فى نهاية الرواية، ومثل الإشارة إلى مباراة الأهلى والزمالك، ظهيرة الجمعة. عدا ذلك، كان الراوى حريصًا على قطع روايته السردية عن الزمن التاريخى، لكنه كان دقيقًا فى تحديد ساعات الزمن التى تستغرقها رحلة عبد الخالق إلى القاهرة؛ فقد استيقظ فى التاسعة، ونزل فى العاشرة، ووصل فى الثانية ظهرًا..إلخ. ولو تذكرنا أن رحلة عبد الخالق/ زيارته، تمضى فى يومين، الأول: من صباح الخميس إلى مسائه، والثانى: من صباح الجمعة إلى مسائه، فإننا نندهش عندما نقرأ فى منتصف الرواية بالضبط (ص76): "يوم آخر وليل آخر. الخميس ينتهى، ولم يحدث شىء. سافر ولم يسافر. لم يغادر نفسه، ولن يغادرها أبدًا".. ليست هذه الدقة مجرد مصادفة، فثمة وعى ببناء زمن القصة، أو ما يعرف بـ "زمن السرد"، حيث تتوزع ساعات رحلة عبد الخالق ومحطاتها ـ على نحو دقيق ـ على زمن السرد، أى على الزمن الذى نستغرقه فى قراءة الكلمات والجمل. ونلاحظ أن الراوى يحرص على تكرار موتيف "الخميس والجمعة" طوال الرواية (انظر: ص5، 6، 28، 37، 76، 97، 98، 112). وقد ساقه فى بداية الرواية بأسلوب التنكير: "اليوم خميس وغدًا جمعة"؛ ربما دلالة على اعتيادية السفر فى يومى الخميس والجمعة، وهو ما نلمحه فى أعمال أخرى لعلاء الديب(25)، أو دلالة على حرص الراوى/ السارد على تنكير الزمن التاريخى، وقطع الطريق على إحالة زمنية بعينها خارج الرواية؛ ليمنح الرواية ديمومتها وسيرورتها التاريخيتين.
فى هذا الموتيف المتكرر ـ الذى يسهم تكراره، وتوزعه، فى إحداث نغمه إيقاعية خاصة، تدخل ضمن المحصول الإيقاعى الكلى للرواية ـ لا نجد رؤية، أو دلالة خاصة، فى ذهن عبد الخالق، أو فى ذاكرته، ليوم الخميس، إلا فى اقترانه بيوم الجمعة، أو فى أسبقيته له. أما يوم الجمعة، فإنه يمثل مخزنًا لذكريات قديمة: "هذا يوم جمعة، معتق قديم. قال لنفسه: امسك باليوم، عانقه أو ذُبْ فيه إن استطعت، ولن تستطيع أبدًا، فهو قد فات" (ص112). وفى موضع آخر: "كان صباح يوم جمعة. هو يخالف دائمًا. فراغ فى اليوم، أو قلق من ذكريات الطفولة. يخاف امتداده، وساعة النحس تختبئ فيه قبل الظهر، أو بعد صلاة العصر، وتشيع قلقًا وترقبًا فى كل ساعات النهار"(ص98) على هذا النحو، يستدعى يوم الجمعة، فى الخط السردى الأول (القصة/ الإطار)، ومدار من ذكريات عبد الخالق فى أيام "الجُمَعْ" الماضية. وربما كان أكثر هذه الذكريات مرارةً، تلك النهاية الدرامية الفاجعة بينه والمرأة الوحيدة التى أحبها وتزوج منها (منى المصـرى)، حـيث قــررت الهجرة إلى كندا، واللحاق بـأخيها "وديع"، والانسحـاب مـن حياة عبد الخالق الذى يشعر أن منى ليست وحدها التى تهجره؛ بل الحياة كلها تنسحب، وتتركه جافًا ملقى على الشاطئ الحجرى إلى الأبد (ص 97 ـ 99) .
كل هذه الدلالات التى يحملها يوم الجمعة، يفسر لنا صعود الإيقاع نحو التوتر، أو نحو مزيد من الاحتدام والجهامة، كلما اقترب البطل من نهاية رحلته للقاهرة مساء يوم جمعة. ويبدو أن شخصيات علاء الديب، خاصة فى قصصه القصيرة ـ الطويلة نسبيًّا ـ لا تفتأ تلتزم بالتعبير عن مشاعرها فى ساعات الجمعة، أو عن ذلك المعتقد الشعبى المصرى المتصل بساعة من ساعاته. ففى قصة الشيخة، نقرأ: "اليوم يوم جمعة. لاشئ أفعله. أجلس فى الشرفة الصغيرة، أطل على الحقول…"(26). وفى حوار محتدم بين الزوجة وأمها، فى القصة نفسها، تقول الزوجة: "النهاردة الجمعة. فيه ساعة نحس. أنا بقولك أهوه يامجنونة، أنا معدتش طايقة حد. بقولك خليكى راقدة فى السرير. وخلى اليوم يعدى على خير"(27).وتذكرنا هذه الإشارات ـ أيضًا ـ بالمجموعة القصصية الثانية لعلاء الديب، المعنونة بـ "صباح الجمعة"، التى صدرت عام 1974. ولو عدنا إلى قصة "قارئ الكف" ضمن المجموعة نفسها، فإن اسم بطلها سيشد انتباهنا: "أنور أفندى المسيرى"، إذا عقدنا صلة ما بينه و"عبد الخالق حسنى المسيرى"، بطل رواية "زهر الليمون". وعلى كل حال، فإن هذا الربط، يجعلنا نعقد صلة بين كل هذه الإشارات والدلالات من ناحية، وبين الكاتب نفسه (علاء الديب)، باعتباره جزءًا لا يتجزأ من العملية الإبداعية، فى الاتجاه المعاكس لبعض المقولات النقدية النظرية التى تحاول إعدام المؤلف.
أما الخط السردى الثانى، فيتمثل فى ارتجاعات متناثرة، غير متسلسلة زمنيًّا، إلى الماضى، بذكرياته وأحداثه وشخوصه وأماكنه. تأخذ هذه الارتجاعات شكل التقاطعات المشهدية، كمشاهد السينما المتقاطعة مع مشاهد القصة الأساسية للفيلم نفسه، وتتوزع التقطاعات، بطريقة التتابع الكيفى، بين خطوات ومشاهد الخط السردى الأول (القصة / الإطار). يبلغ عدد هذه التقاطعات ثلاثين رجوعًا إلى الماضى، موزعة ـ بانتظام مطرد ـ على كل حلقات الرواية المكونة من ستٍّ وعشرين حلقة متصلة. ويمثل توزيع التقاطعات بانتظام؛ إيقاعًا يحكم الرواية حتى نهايتها.
فى هذا الخط السردى، الارتجاعى / المتقاطع، لا نضع أيدينا إلا على إشارة زمنية وحيدة تحيل إلى الزمن التاريخى الخارجى، قدمها الراوى بوضوح شديد (9 من يونيو عام 1967)، فى مفتتح التقاطع الذى يتذكر فيه عبد الخالق خروجه من الشقة نفسها، التى يزورها فى رحلته إلى القاهرة (شقة صديقه فتحى نور الدين)، بصحبة صديقه فتحى، للمشاركة فى المظاهرات العارمة التى أعقبت قرار عبد الناصر بالتنحى، إثر نكسة عام 1967، تاركًا الشعب فى العراء. برغم أن فتحى وعبد الخالق كانا قد اعتقلا فى عهد عبد الناصر، لكن فتحى نور الدين يمثل نموذج اليسارى الذى أحب عبد الناصر، حيث رأى فيه صورة البطل الصعيدى الشهم، لكنه يُعتقل ـ فى الوقت نفسه ـ طوال أربع سنوات لعلاقته بالشيوعيين، برغم هامشيتها.
باستثناء هذه الإشارة التاريخية المباشرة، لا نجد إلا إشارات إلى أحداث، دون تحديد لتاريخها بطريقة اليوم والشهر والسنة، منها أحداث اعتقال الشيوعيين، والخلافات الحادة، والانقسامات، التى نشأت بينهم داخل السجون. لكننا نستطيع أن نحدد هذه الفترة ـ المعروفة تاريخيًّا ـ من عام 1959، وحتى عام 1964. وهناك إشارة إلى قرى النوبة قبل غرقها، حيث زار عبد الخالق بعضها برفقة حبيبته ـ وقتذاك، وربما زوجته ـ منى المصرى. ولا نستطيع أن نقدر هذه الفترة، إلا خلال سنوات ما قبل إتمام عملية إنشاء السد العالى (1970). عدا ذلك، فإن الراوى يتحدث عن: زمن بعيد قديم كان، عن عصور سحيقة، عن أيام ذهبت ولن تعود، عن ذكريات بلا تاريخ واقعى مسجل… إلخ، عاكسًا الجانب الأسطورى، الداخلى، الرمزى، النفسى، للزمن، دون تقنينه وتثبيته بوقائع تاريخية محددة.
ـ 3 ـ
يثير الخط السردى الأول (القصة / الإطار) إشكالية الحاضر بأكثر من دلالة متصارعة، هى: الحاضر الصافى، الحاضر المتحول ـ الغامض، الشائه، العدائى ـ الحاضر المحشو بالماضى الثقيل. ويسير هذا الخط فى مسارات دائرية تزداد اتساعًا، كلما اقترب البطل من نهاية الرحلة. وهى أشبه بتلك الدوائر التى نراها على صفحة النهر كلما ألقينا فيه حجرًا. وتمثِّل لحظة الوصول إلى القاهرة (التى تحتل الفصل السادس بأكمله) مركز هذه الدوائر، وهى لحظة فريدة، ذات إيقاع شاعرى، فى لقاء حميم بين البطل والقاهرة. كما تمثل هذه اللحظة نغمة إيقاعية طويلة، تشعرنا بالفرح والحيوية واستقبال العالم بتفاؤل رحب.
باقى الدوائر، يسير وفق إيقاع يتسم بالبدايات المتفائلة، السريعة أو المحددة أو القصيرة زمنيًّا، يمكن أن نطلق عليه إيقاع المحاولات المبتورة لاستقبال العالم. فالبطل عندما يقصد إحدى محطاته، أو حتى يتهيأ ليخطو خطوة من خطواته، يبدأ من نقطة تحمل قدرًا من التفاؤل والحماس وتهيئة النفس، قد لا يتعدى هذا القدر أرنبة أنفه، أو ابتسامة يتغلب بها على محنة يومه ، قبل أن يبدأ (ص 6ـ8)، أو يقوم بأفعال تبدو بسيطة ، لكنها ذات تأثير عميق فى وجدانه، كأن ينوى النزول من السرير "بقدمه اليمنى، فعندما يفعل ذلك يكون لليوم طعم، مزدحم على الأقل. أما القدم اليسرى، فهى تفرض على اليوم كآبة"(ص6).
إنها دلالة تتصل بمعتقد "الفأل" باليمين وبالوجهات اليمنى فى المعتقدات الشعبية المصرية، حيث التفاؤل بدخول الأماكن للمرة الأولى، أو فى بداية اليوم، بالقدم اليمنى، واستحسان تناول الأكل باليد اليمنى، ومرور الأم على مولودها يوم "السبوع" بالقدم اليمنى… إلخ(28). أما نزوله بالقدم اليسرى، فربما يحيله إلى ماضيه اليسارى، باعتباره شيوعيًّا قديمًا، مما يعنى أن نزوله هذا سيكون علامة مثيرة لذكريات الاعتقال المرّة ، وأدران بعض الرفاق الذين ليس لهم فعل سوى الخلط المخل بين الكفاح والنكاح، بين المبادئ والفضائح. فى هذه الحالة، لا يملك عبد الخالق إلا أن ينزل بقدمه اليمنى، حتى يكون لليوم طعم. والغاية السيكولوجية من كل هذه المحاولات والأفعال، هى أن يستمد طاقة كافية للانخراط فى الرحلة، أو الشروع فى استقبال محطة تالية، أو لكى يمتلك قدرة متواضعة على مقاومة علامات التحول المنفِّّّرة، والمشاهد القاسية، التى سيلقاها فى رحلته، مثلما كان يلقاها ـ بالتأكيد ـ فى زياراته السابقة للقاهرة: "فعندما ترتفع عن روح عبد الخالق أستار الكآبة، فإنه يشعر بنوع من النشاط يمر فى جسده كله، كأن شيئًا لم يحدث بعد، أو كأن الأشياء فى بدايتها مدهشة وجديدة"(ص38). ومن ثم، فهو مدفوع باستمرار إلى رفع أستار الكآبة، والبحث عن نغمة حب، أو حنين، أو أمل، يقاوم بها عالمًا مُحْبِطًا.
أحيانًا، تسهم التقاطعات (الخط السردى الثانى) فى تغذية هذا الإيقاع الذى يستهل به عبد الخالق رحلته، أو ـ بالأحرى ـ خطوات رحلته، ليمنحه طاقة لاستقبال العالم، حيث يسرد الراوى أول التقاطعات على لسان منى المصرى (حبيبته وزوجته السابقة، والتى لن نتعرف إلى اسمها إلا فى تقاطع تالٍ): "قالت له: افتح نوافذك العسلية، إنها تستطيع أن تحتضن الناس والأشياء. وأغرقت عيونه بالقبل"(ص9). تمثل هذه الكلمات/ الذكرى زادًا معنويًّا كافيًّا لإشباع حاجته للانطلاق. لكن سرعان ما يفقد الطاقة سريعًا، وتتوقف عن السيرورة؛ بسبب عجزه عن إدراك العالم، أو عن قبول تحولاته، والاتساق مع فساده. وفى الوقت نفسه، بسبب تراجع قدرته على ممارسة محاولة جديدة؛ بحكم التراكم السيكولوجى الناجم عن حساسية التقاطه للتحولات والأحداث فى الحاضر، ومطاردة ذكرياته الصعبة فى الماضى.
لذلك، يفارق عبد الخالق هذه البداية سريعًا، ليستكمل محطاته/ رحلته بمزيج من مشاعر الإحباط، والعدمية، والغموض. لكنه ـ كالبطل المعضل الإشكالى ـ يتمسك بتكرار المحاولة مرارًا، ليصل ـ دائمًا ـ إلى نقطة انغلاق الدوائر بنهايات يائسة، وباتجاه صاعد لإيقاع التوتر والشحوب، كلما اقتربنا من نهاية الرحلة، حيث يشعر ـ فى النهاية ـ أنه يعود غريبًا، مثلما جاء غريبًا، وأنه سار دون سير، وارتحل دون ارتحال، وقرر دون يقين؛ وأن السويس، التى ألقى بمحبته عليها فى صباح يوم الخميس، وأوضح لنا الراوى كيف أنها صارت ملاذه، منذ أربع سنوات، تبدو، فى النهاية الليلية للرواية، "كأنها مركب ضخم يبتعد" (ص 155)، ويتحول جبل عتاقة من جبل صامد، داكن اللون، لا يزال الليل ـ فى الصباح! ـ ساكنًا فيه (ص7)، إلى "حارس صامت، يزداد فى الليل جهامة"(ص155)، وكأنه يشخص الرحلة التى ازداد شعور عبد الخالق فى نهايتها بجهامة الحياة.
ويتحول "الزرع" ذو العيدان الجافة، النابتة فى الصفائح والفخار (ص7)، إلى شخوص جالسة القرفصاء (ص155). وحتى المقهى (وهو أول حيز مكانى يجلس فيه عبد الخالق قبل مغادرته للسويس، وآخر حيز مكانى يحط عليه قبل مغادرته للقاهرة) يصفه الراوى فى بداية الرحلة بأنه "مقهى ندى تغطيه تكعيبة عنب" (ص20). بينما يصفه فى نهاية الرحلة، وكأنه يصف التحول الإيقاعى بين بداية الرحلة ونهايتها: "كان واسعًا، فصار مثل الخندق. كان مفروشًا بالضوء والشمس نظيفًا، فصار معتمًا مصطنعًا يضاء بلمبات صغيرة فى النهار(…) الجرسون شاخ هو الآخر، واتسخت ملابسه البيضاء. صارت تهتز يده، وهو يصب القهوة. تعرف عليه، وتذكر وجهه، ولكن الاثنين كانا أكسل من أن يفتحا حديثًا" (ص144 ، 145). وبرغم اختلاف كل من المقهيين، واختلاف موقعهما، فإن اختلاف وصف علاماتهما تحديدًا ، يحمل دلالة واضحة على مستوى تغاير الإيقاع اللغوى بين البداية والنهاية.
أما أحمد صالح (صديقه الذى يتذكره فى بداية رحلته، وهو نفسه آخر شخص يودعه فى نهاية الرواية)، فقد تحولت أوصافه فى النهاية عما كانت عليه فى البداية: من القلب الذى يحمل سماحًا فى البداية، إلى القلب المريض المتأزم فى النهاية ، من النفس المليئة بـ "صفاء غريب" فى البداية، إلى النفس التى تسلل إليها هاجس الموت فى النهاية، من الوجه الباسم دائمًا، إلى الوجه المأخوذ، الملئ بالخوف والأشياء الداكنة، من تغلبه على تناقضات كثيرة، جعله بعيدًا عن دائرة القلق، إلى انتفاء أية قدرة على إخفاء القلق الحقيقى الذى يسكنه (انظر ص9، وص149 ـ 153).
هو نفسه التحول الإيقاعى من زهر الليمون / العنوان الشاعرى الذى يبث إحساسًا بالصفاء وبالجمال وبالحواديت الشعبية الممتعة (صفحة الغلاف)، إلى شجرة الليمون / الكائن المختنق بين الكائنات الأسمنتية، فما عادت الشجرة الوارفة تحمل زهرًا ، أو ليمونًا، أو ألقًا مثلما كانت فى ماضيها الجميل (ص138).
هذه المفارقات الإيقاعية الحادة بين عالم البداية وعالم النهاية، تدل ـ فى مجملها ـ على أن إيقاع الرحلة كان يتجه صاعدًا نحو نغمة الإحباط واليأس والقتامة، وخلال هذا الإيقاع الأساسى الصاعد، تتناثر مجموعة ومضات إيقاعية قصيرة تحمل قدرًا ضئيلاً من الحيوية، وقدرًا من التفاؤل المقتضب.
أما الخط الثانى، فإنه يثير إشكالية الماضى بدلالات متصارعة أيضًا: الماضى الذهبى الجميل الذى توقف ولن يعود؛ الماضى الثقيل الذى يطارد البطل، ويجثم على مشاعره؛ الماضى الذى تتشكل صور ذكرياته من علامات الحاضر ومشاهده.
يمثل هذا الخط إيقاعًا ينتظم الرواية، من خلال تكرار استخدام تقنية التقطيع الزمنى، حيث تتحقق الإيقاعية بالتكرارية المنتظمة لتقاطع ـ أو تجاور، أو توازى ـ لحظتين سرديتين. لكن هذا الإيقاع الذى ينتظم الرواية، ينطوى على دلالات إيقاعية أخرى غير التكرارية التقنية، أو الشكلية، لتقطيع الزمن؛ فهى ـ فى الأساس ـ تقنية حاملة لمحتوى، ولا انفصال بين التقنية ومحتواها، أو بين الشكل ـ الذى ينظم هذه التقنية ـ ومحتواه. فليس ثمة شكل ومضمون؛ لأن المضمون ليس إلا مضمون الشكل، وليس ثمة نص وسياق؛ لأن النص سياقى واجتماعى، وليس ثمة داخل وخارج؛ لأن الخارج كامن فى الداخل، ولأننا حين نحلل الشكل/ النص، فإننـا نحلل ـ فى الوقت ذاته ـ المضمون الاجتماعى(29).
من هنا، فإن محتوى شكل المفردات والجمل فى التقاطعات الارتجاعية، يدخل فى صراعات متعددة مع محتوى شكل المفردات والجمل فى القصة/ الإطار، وهى تجسيد لصراعات الماضى والحاضر. وفى جدل الصراعات هذا، ينبرى الدور الإيقاعى للغة، والأماكن، والشخصيات، والمشاعر، والأحاسيس… إلخ ، بالإضافة إلى الدور الإيقاعى الرئيس الذى يقوم به تقاطع الأزمنة وتداخلها فى الرواية. تأسيسًا على ذلك، فإن الخطين السرديين مجدولان بإحكام شديد؛ ليحققا سويًّا عملية الصراع الإيقاعى، ولا يأتى فصلهما، هنا، إلا نظريًّا، فثمة ضرورة إجرائية للتقسيم النظرى.
إننا لا نلمس لحظة التقاطع بين زمنين سرديين من خلال الكشف الطباعى الواضح بينهما (أُعيد طبع رواية "زهر الليمون" طبعة أخرى أُلغى فيها الكشف الطباعى الذى اعتمدت عليه طبعة هيئة الكتاب، وهو إلغاء دال على تداخل الخطين السرديين من جانب، ووضوح التقاطع بقرائن إيقاعية: لغوية، وإشارية….. إلخ، من جانب آخر) بقدر ما نلمسها من إحساسنا، خلال عملية القراءة، بكسر الإيقاع، أو بتداخل إيقاعات مختلفة، سواء على مستوى اللغة، أو الحدث، أو المكان، أو الشخصيات، مثل حدوث نقلة فجائية إلى شخصية تنتمى إلى الماضى، وتختفى فى الماضى، كالأب الذى مات، ولا يرد ذكره إلا فى الارتجاعات الماضوية الأخيرة فى الرواية، وكذلك أخواته البنات اللائى لم يرد ذكرهن فى سياق "القصة/ الإطار"، بينما ورد ذكرهن فى بعض الارتجاعات. لكن أبرز الشخصيات، فى هذا الإطار، هو شخصية "منى المصرى": "منى فقط، كم ردد اسمها فى الليل ؛ لكى يغسل بها أحزان وجهه، منى وكفى، راحت تدخل إلى حياته، كما تلبس يد رقيقة قفازًا ناعمًا "(ص33)، حيث عثر عليها عبد الخالق فىشوارع القاهرة، وعثرت عليه، بعد خروجه من المعتقل بعام، أو يزيد. " محت بجسدها صفرة الصحراء ،وعذاب الاعتقال" (ص73)، ومنحتة قدرًا من التوازن ، والإحساس بأن إمكانات الحياة لاتزال هائلة. كان يشعر بأنها الهواء الذى يتنفسه. تحديا بحبهما اختلاف الدين (فهى مسيحية)، والوضع الطبقى (تبدو من عائلة أرستقراطية)، وكل الاختلافات التى قرَبت بينهما (انظر: ص72). لكنها تفلت من يده كشعاع الشمس، ولم تدم سنوات السعادة بينهما، حيث هاجرت هى إلى كندا، وهاجر هو إلى السويس.
تعد ذكريات علاقته بمنى المصرى، أكثر الذكريات تكرارًا وتوزيعًا فى الرواية (أول تقاطع ص9 ـ وآخر تقاطع ص145). لكن كيفية توزيعها فى الرواية أسهمت فى ضبط الإيقاع الصاعد نحو الاحتدام الذى ينتظم الرواية. فالجانب الخاص بعلاقتهما الخاصة الجميلة، تتوزع ومضاته الإيقاعية فى منتصف الرواية الأول، وهى تلك الومضات التى غذَّت هذا الجزء من الرواية بالشاعرية، وخفَّفت من حدة الإيقاعات الأخرى الناتجة عن ذكريات الاعتقال على سبيل المثال. أما الجانب الخاص بالأزمة التى تعرضت لها علاقتهما، والتى تُوِّجت بسفرها إلى كندا، فقد قام الراوى بتوزيعه فى النصف الأخير من الرواية، ليقترن بصعود إيقاع الأزمة التى أخذت تتراكم، كلما مضى البطل نحو نهاية رحلته فى القاهرة، وعودته إلى السويس.
كذلك تحتوى التقاطعات على زمكانيات خارج حدود زمكانية القصة/ الإطار (مثل: المعتقل، قرى النوبة الغارقة الآن، مرسى مطروح، الإسكندرية)، وهى زمكانيات تحمل لغة وصفها ـ إجمالاً ـ إيقاعات مختلفة عن إيقاع الرحلة (القصة/الإطار)؛ حيث نشعر بأننا مغمورون ـ فجأةً ـ فى أضابير حلمٍ أو كابوس، بحسب طبيعة المجال الزمكانى الذى يعبر عنه الإيقاع، بنغم موغل فى الماضى، و/ أو الشجن، و/ أو النحيب، و/ أو الفرح المفقود.... إلخ. كما أننا نلمس الكسر ـ أو التنوع ـ الإيقاعى، من خلال "الحوارية" التى تتجلى فى هذا التقاطع أو ذاك، فى اللحظة نفسها التى يكون فيها البطل غارقًا فى مناجاة نفسه، فى سياق سرد "القصة/ الإطار". ومن ثم ، فإن السارد/ الراوى يوظف تقنية التقاطعات ـ أحيانًا ـ فى إضاءة العالم النفسى لشخصيات أخرى غير البطل، أو شخصيات مجاورة له. بينما يركز فى سرد "القصة/ الإطار" على رؤى البطل ومقولاته وأعماقه ومشاهداته ومشاعره…إلخ. ففى نص التقاطع، يمكن لفتحى نور الدين أن يستبطن ذاته، وأن يكشف لنا عن أبعاد أزمته فى المعتقل، ورؤيته للوضع السياسى، وأن يلقى على عبد الخالق بأسئلته الحارقة: "هل أنا خطر على الأمن؟ هل أنا خطر على مصر؟ لم أحلم بالإضرار بأحد. أراجع نفسى بالليل، فلا أرى سوى أننى أردت الخير للجميع. أنا فى حقيقة الأمر معجب بعبد الناصر، أراه شهمًا، وبطلاً من الصعيد، هل هو الذى وضعنا هنا؟ هل هو الذى يأمر بالضرب والتعذيب؟ هل تفهم أنت؟ اشرح لى أرجوك. اشرح بكلام غير الكلام المرصوص الذى يردده الزملاء الكبار، فهو كلام يزيد الأمر غموضًا بالنسبة لى"(ص52، 53).
يشير هذا النص إلى إشكالية خاصة عاشتها شريحة عريضة من الشيوعيين المعتقلين فى سجون الثورة الناصرية. مشاعر هذه الشريحة كانت مع عبد الناصر، وشخصيته الكاريزمية المعبرة عن أحلام القاعدة الجماهيرية العريضة، مصريًّا وعربيًّا، لكن علاقة أفرادها الهامشية بالتنظيمات اليسارية زجَّت بهم إلى المعتقل، ليدفعوا ضريبة قاسية، ربما أدت إلى انسحاقهم معنويًّا. ففتحى ـ الذى يمثل نموذجًا لهذه الشريحة من اليسار المصرى ـ لم يستطع الربط، وما كان له أن يستطيع، بين تعلقه بعبد الناصر، وبين اعتقاله وتعذيبه فى سجون نظامه الأمنى، ويعجز عن ربط الاثنين بمقولات الزملاء الكبار، وبنظريات القيادات اليسارية، حيث عمقتا إحساسه بالغموض. تلك المقولات والنظريات التى نضعها ضمن أزمة النخبة اليسارية فى تبعيتها الذهنية للأيديولوجيا الـماركسية، عـلى تعدد طـروحاتهـا وشروحها وتجديداتها ـ فالتبعـية الـذهنية لا تنسحب ، فحسب، على الانبهار بنموذج التقدم الغربى الرأسمالى، بقيمه الليبرالية والفردانية... إلخ؛ وإنما كذلك على نقيضه الماركسى ـ الشرقى والغربي ـ فكلاهما ينتمى إلى فقه التبعية، برغم الفروق الجوهرية فى ما بينهما(30).
إن بنية التبعية، هى بنية ينفصل فيها الإنتاج عن الاستهلاك. وبمعنى آخر، فإن الذهن التابع، سواءً كان فرديًّا أو جماعيًّا، هو ذهن يتصور إمكانية سد الاحتياجات بنقل الحلول من زمن أو مكان آخرين، دون بذل مجهود فى إبداع هذه الحلول من الداخل، وعلى نحوٍ يناسب هذه الاحتياجات. بل لعلنا نوغل فنقول إن هذه البنية الذهنية التابعة، هى بنية لا تدرك ـ أصلاً ـ احتياجاتها بعمق، بقدر ما تستسلم لآخر يقدر لها هذه الاحتياجات، ويفرضها عليها(31)، دون محاولة مقاربة الواقع ميدانيًّا، أو محاكاة ما يكتنز به هذا الواقع وبشره من طاقات.
لقد خرج عبد الخالق وفتحى من المعتقل، ولم يكونا من الأموات، لكن إيقاع الحيرة ظل يلازمهما. وكان لمنى المصرى مع عبد الخالق، ولفريال مع فتحى، دور كبير فى اتزان حياتهما، لكن انسحاب منى من حياة عبد الخالق، عمق أزمته، وأجهز حتى على طاقته الإبداعية. فهو شاعر، على نحو ما يشير الراوى فى أكثر من موضع، وكان من الممكن أن يجد، دومًا، فى إخلاصه لمشروعه الشعرى قدرةً فائقةً على المقاومة، لكن "الشعر مهاجر مسافر فى الاتجاه المعاكس" (ص144). وكان من البديهى أن يتحول فتحى ـ بعد تجربة المعتقل ـ إلى مستسلم تحت وطأة الظروف، لتسرقه رغبة/ ضرورة السفر إلى الكويت، حيث الأموال التى لا يدرى أنها يمكن أن تمحق ما تبقى من روحه. وكانت زوجته فريال، مع بساطتها، أشد صلابة منه، برغم معاناتها، فى رفض فكرة السفر هذه.
تؤدى التقاطعات الوظيفة نفسها فى حالة سعيد؛ الشقيق الأكبر لعبد الخالق، حيث يسرد الراوى قصة انضمامه للفدائيين فى "القنال"، حيث كان للإخوان حُصَّة فى نضال الحركة الوطنية المصرية ضد الاحتلال الإنجليزى حتى قيام ثورة يوليو (مع ملاحظة أن الراوى لم يشر إلى هذا التاريخ)؛ ربما ليقيم الراوى تعارضًا بين ماضى سعيد الإخوانى الوطنى من جانب، وانضوائه ـ فى السبعينيات ـ تحت راية الحداثة النفطية، ونمطها التدينى من جانب آخر، حيث سافر إلى الإمارات لمدة خمس سنوات، معتقدًا أنه سافر حفاظًا على دينه (تُرى، ما العلاقة بين الحفاظ على الدين، وبلاد الخليج؟) فعاد محشوًّا بدولارات البلاد النفطية، وبشيخوخة بدت عليه بفعل الغربة، ووزن ثقيل، وروح ميتة.
الأمر نفسه بالنسبة إلى الشيخ حسين؛ الشخصية النوبية الصافية، التى يجئ وصف ملامحه وطباعه الفريدة، أشبه بمقاربة أنثروبولوجية، بجانب وصف ديموجرافيا القرى النوبية القديمة قبل أن تغرق، فى سياق سرد الراوى لذكرى رحلة عبد الخالق وحبيبته منى إلى إحدى هذه القرى: "… مع الشاى الساخن والخبز الجاف، تحدث الشيخ حسين عن حياته، رحلة طويلة مع النهر والصحراء، مع فراغ الليل والقمر الدوار. فى وباء الكوليرا، ماتت له الزوجات والنخيل والأبناء جميعًا، وبقى وحيدًا فى البيت لا زرع ولا عيال. بقى وحيدًا بين الجدران والأحجار. طلعت عليه شموس وأقمار وهو يجوب النوبة مترددًا بين الحدود والحدود…" (ص123).
من الوظائف الأخرى التى تقوم بها تقنية التقاطعات: تحقيق الجدل والصراع مع الحاضر، حيث إن تقدير حجم التحولات فى الحاضر، وإدراك علاماته، وعنفه الرمزى، لا يتأتيان إلا بتقدير وإدراك ما فى الماضى من صور ورموز تتناقض ـ كليًّا أو جزئيًّا ـ مع الحاضر، فى مفارقة تكشف لعبد الخالق ـ فى لحظة آنية ـ أن الماضى "كان زمانًا غير الزمان، لو سئل فيه، لما تصور أن تصير الأمور إلى ما صارت إليه" (ص72). فحيوية الأم فى الماضى (ص23)، تتناقض مع صورة الأم المريضة الراقدة منذ عامين (ص87 ـ 89، ص112 ـ 114). وأريج شجرة الليمون، وبهاء زهرها الأبيض، وعبق ثمراتها، وصورتها اليافعة فى الماضى، تتصادم مع صورتها الميتة، حيث تختنق ـ الآن ـ بين العمارات الجديدة (ص138 ـ 142).
لا ينفصل المكان عن الزمان فى لحظة التقاطع السردى بين زمنين؛ فهو ـ على نحو أدق ـ تقاطع زمكانى (بتصور خاص لهذا المفهوم الباختينى). والزمان ـ كما هو ملاحظ ـ سابق على حدود المكان. فالزمان هو روح المكان، مثلما هو محرك الشخصيات والأحداث. كما أن المكان يحمل وشم الزمن، ويجسده علائميًّا. إن الانتقال من لحظة حاضرة إلى لحظة ماضية، لا يمثل إحالة زمنية مجردة فحسب؛ وإنما هو ـ أيضًا ـ إحالة من مكان إلى مكان آخر، حتى لو كان المكان المضمن فى التقاطع، هو نفسه المكان الذى لايزال ماثلاً فى الحاضر. فمساحة التحول بين صورتيه، الآنية والقديمة، تضعه فى حالة صراع بين زمنين، وهى حالة تعتمل ـ باستمرار ـ فى ذهنية عبد الخالق فى فضاء حاضره.
إن قاهرة الحاضر، ليست هى القاهرة فى ذاكرة البطل. كما أن السويس بصورتها القديمة، المفروشة بالنضال، ليست هى السويس فى الحاضر الذى استشرت فيه القيم الاستهلاكية فى زمن الانفتاح، وهى نفسها القيم التى نزعت من المقاهى روحها وعبقها، لتتحول إلى كازينوهات ترتادها نماذج بشرية جديدة، تحمل قيم الواقع الاستهلاكى. كذلك التحول الذى انسحب على أنماط العمارة، وسلوك الناس فى البيوت، والشوارع، والأسواق، وكذلك هجوم التليفزيون على المنازل، واستباحته لوعى الناس، وغيرها من علامات التحول التى أزاحت علامات المكان القديمة، واستبدلت بها قيم الحداثة الشائهة التى لا تقوم صلة بينها، والنظام الاجتماعى الذى ينتمى إليه الناس. وعندما يحمل الناس ـ لجملة عوامل داخلية وخارجية ـ منظومات من الأفكار، والقيم، لم تخرج من رحم التطور الاجتماعى الطبيعى، لا يبقى ثمة ما يدعو إلى استصغار الأمر؛ فمن رحم هذا الانفكاك والتجافى بين الاجتماعى، والثقافى ـ بالمعنى العريض لمفهوم الثقافة ـ ستتناسل أنواع أخرى من الخلل فى البنى الاجتماعية، والثقافية، بل أيضًا فى البنى الاقتصادية الطبيعية، مما سوف يعرضها إلى تشويه مضاعف، ينضاف إلى تشوه الخلقة الأصلى، الذى نشأ من حداثة رثة، متخلفة، تابعة، شهدتها هذه البنى، دون تقديم مقدمات، وتمهيد أصول(32).
إزاء ذلك، لا يستطيع "عبد الخالق" أن يفعل شيئًا لعتق نفسه من براثن زمن الانفتاح وقيمه الاستهلاكية، سوى ممارسة لعبة "النوستالجيا"، لعبة الحنين إلى ماضٍ ذهبى، والعودة إلى "أيام حسن فيها الحظ، واستوت الريح من الشراع" (ص72)، لنكتشف ـ عبرها ـ ذلك الجانب المضئ من الماضى فى ذاكرة عبد الخالق، المتقاطعة مع الواقع الحاضر، وهو الجانب الذى يمثل كسرًا إيقاعيًّا لقاعدة/ إيقاع الماضى الجهم، المتوحش، القمعى، المطارد.
مثلما تحميه هذه اللعبة الأسطورية من التلاشى، فإنها تدفعه إلى التمسك بالوطن، وبقاء المعانى التى ينطوى عليها طازجة فى وجدانه. ومن ثم، فهو يرفض فكرة السفر خارج الوطن، ليس بالنسبة إلى نفسه حصرًا، أو بالنسبة إلى صديقه فتحى خصوصًا، أو بالنسبة إلى أخيه سعيد سابقًا، بل يرفضها ـ من داخله ـ مطلقًا؛ فقد مثَّلت فى ذهنه أزمة وطنية، بوصفها ظاهرة شاعت فى المجتمع المصرى، منذ مطلع السبعينيات فى القرن الماضى، لجملة عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية وعسكرية، وأضحى ضبطها أو إيقافها مستحيلاً. ولذلك، لم يستطع عبد الخالق إثناء فتحى عن رغبته للسفر إلى الكويت، فحاجة صديقه إلى السفر تزداد، والعرض لايزال قائمًا، والظروف الاقتصادية تتوحش، والعيال تكبر، وتكبر معهم احتياجاتهم ولوازمهم.
يشخص الراوى إحساس عبد الخالق وأسئلته، قائلاً: "تلك الرغبة الفاسدة المفسدة فى السفر بحثًا عن المال، من زرعها؟ وكيف تنمو هكذا فى كل مكان؟ من الذى سيبقى إذن؟ الكل يرغب فى السفر، ويتحايل عليه. ومع ذلك، لازالت الشوارع مزدحمة، ومازالت المدارس تقذف بالأولاد فى الفسح، وكأنهم قطعان غير مهذبة وغير مرعية. أين البيت؟ أين الوطن؟"(ص65).
إن ظاهرة السفر إلى البلاد الخليجية، حيث أموال النفط، وفرص العمل، والكسل، والاستهلاك بلا إنتاج، تمثل واحدًا من أبرز ظواهر المجتمع المصرى ومتغيراته، خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، وأكثرها تأثيرًا فى استشراء نمط الاستهلاك، وقيم السوق، وتغذية مجتمع الانفتاح بعناصره البشرية الأساسية. فلم تكن أموال النفط مجرد أموال، إنما تضمنت ـ أيضًا ـ منظومة القيم الاستهلاكية التى تبنتها مجتمعات الخليج النفطية، والتى قُصِدَ غرسها فى العاملين المصريين بوسائل وطرائق متعددة. وقد حاولت السعودية ـ بعد هزيمة عام 1967 ـ أن تقدم حلاًّ إسلامويًّا سلفيًّا، لمعضلات الوطن العربى، واهتمت بتصديره إلى مصر، على وجه الخصوص، عبر قنوات عدة، مستغلة لحظات الانكسار، وأُفول المشروع القومى، ورحيل جمال عبد الناصر، وهجمة ملايين المصريين للعمل بالسعودية، وكثير من بلاد الخليج. وقد نجحت فى استقطاب عدد كبير من الكتاب والصحافيين والمفكريين المصريين، لتسويق هذا الحل (تطول القائمة بما لا يتيح حصر أسمائها، أو معرفتها جميعًا). ولعل كتاب محمد جلال كشك الموسوم بـ "السعودية والحل الإسلامى" ـ الذى صدر فى مطلع السبعينيات ـ أبرز مثال على نجاح هذا الاستقطاب، حيث حاولت السعودية تصدير نمط التدين السعودى، الذى لم يعرف المجتمع المصرى ـ شعبيًّا ورسميًّا ـ مثيلاً له فى التاريخ. وللأسف، فإن المناخ الاقتصادى والسياسى المصرى ـ بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول/ عام 1973ـ كان متهيئًا تمامًا لمعانقة هذا النمط، وتلك التحولات.
ثمة أمثلة نموذجية فى الرواية على هذا التوق الحميم إلى المكان/ الوطن، بقيمه، وعاداته الراسخة، وتاريخه، وجمالياته، وطقوسه، وأسطوريته. لكن هذه الأمثلة تنطوى ـ أيضًا ـ على وعى واضح بتحولات المكان التى انتشرت كالجراد، لتلتهـم معانيه ودلالالـته القديمة. وبرغم ذلك، فإن عبد الخالق يتمسك به، ليس لأنه قادر على العيش فيه، والتكيـف معه، فحسب؛ بل ـ أيضًا ـ لأنه قادر على الحفاظ على هذه المعانى والدلالات القديمة حاضرةً فى وعيه، ولأنه قادر على خلق صور أسطورية للمكان فى ذهنه، تكبح جماح تحولاته المفزعة، وتقاوم علاماته الجديدة الزائفة.
يكفينا أن ننتخب ثلاثة أمثلة فقط، تتحرك ـ بشاعرية ـ بين تاريخ المكان وحاضره، عالمه الأسطورى وواقعه، لنستخلص منها ـ فى النهاية ـ عددًا من الدلالات المتصلة بمنظور عبد الخالق للمكان، وبحالة التناقض الطبيعية التى تحكمه فى الواقع الحاضر:
1ـ "لم تعد الجلسات ممتعة كما كانت. فى وقت من الأوقات، كانت هذه المقاهى الصغيرة عالمًا مستقرًّا راسخًا، تصب فيه المدن ما تحتويه من قصص وأساطير، لكل مقهى طعم وطابع يرتبط بجزء من الواقع الحقيقى الذى عاش يتكلم عنه ولم يدخله. مقاهى القاهرة: الأزهر، والحسين، والجمالية، ومعروف، هى ـ فى الأصل ـ مؤسسات راسخة ترتبط بالتاريخ والتقاليد القديمة… لم يعد لهذه الأماكن سحرها القديم. لقد هاجمها الزبون الجديد، قبل أن يهاجمها، أو يهددها، البوليس. الزبون الجديد قلب الغرز إلى بوتيكات. يحب مقهى قديمًا فى حى الأربعين، وعندما زاره أخيرًا، وجد على المدخل فترينة تقدم سندوتيشات الكبدة، فتختلط رائحة زيت القلى، برائحة الدخان العبقة . كانت بعض هذه الأماكن تحمل له معنى خاصًّا من السلام (…) خاصة عندما يجلس وحيدًا، ويشرب الشاى على مهل، خمسة كراسى، أو عشرة، ثم يتلوها بكوب من الشاى، ليخرج بعدها فيجد أن المدينة وقعت معه صلحًا منفردًا، وصارت كل حروبها لا تعنيه…"(ص10 ، 11)(33).
2ـ "يحب السويس، فقط لو أبعدوه عن الميدان ومبنى المحافظة والقصر، لو أبعدوا عنه البوتيكات الجديدة والميكرفونات والمجمعات السكنية التى خرجت قبل أن يسكنها الناس. يحب السويس، لو أعادوا لها معناها؛ اتساق "الكبانون" مع البيوت القديمة، والكازينو الخشبى البعيد. يحب السويس، لو عادت الفراندة الكبيرة التى تطل على الخليج، والشاعر أمل دنقل فى الليل يروى شعره فى ظلام الفراندة، وجهه مثل جبل عتاقة، وقامته مثل حبال السفن، لو أعادوا الناس كما كانوا بدون القمصان الملونة، والأكمام المشمورة، والشعر الملصوق ، والبنطلون المحزق، والمشية المخلعة، (…) يحب الرجال، والبحر قبل أن يلوثه التهجير والأكاذيب والآمال المحيطة. يحب الشوارع كلها، قبل أن تنهشها فئران القذارة واللصوص الجدد. يحب المد والجزر فى القمر تحت جبل عتاقة فى ليالٍ ذهبت ولن تعود. يحب الأربعين، والحلقة، وسيدى الغريب، وكراسى المقهى المدهونة باللون الأخضر" (ص13 ، 14).
3ـ "مازال للبيت معنى وصورة فى ذهنه، صورة خضراء بها فلاحون يعملون فى حقل، وعمال يخرجون من مصنع، وأسطوات يعملون فى ورش تقع فى حارات رطبة ونظيفة، وتلاميذ ينتظمون فى صفوف دراسية، لم يعد يرى هذه الصورة. تحيط به تراكيب جديدة مشوهة، يتوسطها التليفزيون الذى لا يكف عن الإرسال، يخطف الأبصار والعقل بتداعيات الصور ووميض الألوان، يتكلمون فيه عن مصر غريبة، مصنوعة من ديكورات ملونة، وأنوار كاشفة، وصبية وفتيات يتمايلون فى خـلاعة، ويرددون اسم مصر فى أناشيد وطنية تتميز بالرقاعة"(ص66).
إن إدراك قوة التحول الحديدية فى المكان، واستحالة عودته إلى صورته القديمة، تمثلان الثنائية التى يحتشد بها وعى عبد الخالق. ولا سبيل لاختراق هذه الثنائية، إلا بأسطرة المكان القابع فى الذاكرة، ليظل الحنين الطفولى إليه فعلاً مسلحًا بدروع واقية من هجمات المكان الجديد/ الشائه، وحائلاً دون اختراق علاماته/ رصاصاته لصدر البطل المحبط الذى لا يجد مناصًا من الاحتماء بذاكرة المكان الصافى من الزيف.
إن الذاكرة، من حيث هى بقاء صور الماضى متقاطعة مع مدركات الحاضر (بدرجات مختلفة من الاستبدال والتحرك) فى تناسج واختراق متبادل بين التذكر والإدراك، تقلص ـ فى حدس واحد ـ لحظات متعددة من الزمن(34). وليس بوسع البطل لعتق نفسه من أسر عدم امتلاكه للرغبة والقدرة على الحلم، سوى الانتصار لفضاء الذاكرة، فليس ثمة ما يُعوَّل عليه فى فضاء الحاضر، أو ما يمكن الرهان على عودته مستقبلاً. ولذلك، فإن الماضى، وحده، هو مدار التقاطعات؛ إذ لا نلقى تقاطعًا واحدًا يتماس ـ زمنيًّا ـ مع الحاضر، أو يعبر إلى المستقبل، أو يستشرف الآتى، أو يسبح فى فضاء التخيل، أو ينتقل إلى مستوى مكانى أو حدثى مغاير، فى إطار اللحظة الزمنية الحاضرة نفسها، مثلما نرى فى روايات أخرى(35).الماضى ـ فحسب ـ هو محتوى التقاطعات فى رواية "زهر الليمون". كما أن الراوى يعتمد الماضى فى استهلال الجمل، خصوصًا الفعل "كان" الأسطورى، وهو موتيف حكائى، يقارب به محتوى شكل القصص الشعبى، ويلائم وصف رحلة البطل المركبة فى الحاضر والماضى، ويساير الخط السردى الغائم، واللغة المثقلة بهم البحث عن التحقق المستحيل.
فى المقابل، تختفى أفعال الحضور (المضارع)، برغم وجود بعضها، لكنها تؤول إلى الماضى من خلال بعض الصيغ النحوية والعلامات اللغوية الدالة على الماضى. وعلى الجانب الآخر، تختفى أفعال المستقبل من الصياغات الفعلية للسرد اختفاءً قاطعًا، موازاةً لغياب الاستشراف والتطلع، الأمل والحلم بالآتى، فالبداية جهمة والنهاية أكثر جهامة، وأقصى ما يستطيع عبد الخالق فعله، ويتجاسر على تحقيقه، هو أن يقرر ـ بصعوبة ـ بعد لحظة، أو لحظات، القيام من الفراش، والنزول بقدمه اليمنى لا اليسرى، ربما ليقطع أى مبرر لذاكرته فى اندفاع ذكريات يساريته التى تحيله إلى هوة عميقة من الكآبة والأحزان، حيث ذكريات السجن، والاعتقال، والرفاق الأدعياء، وسقوط الحلم فى العدل والخلاص. كذلك لا يستطيع عبد الخالق أن يحسم سيناريو المستقبل، لمسافة تتعدى أرنبة أنفه، أو تتخطى حدود ظله. إنه ـ فحسب ـ يقرر السفر، أو الذهاب إلى ميدان، أو مقهى، أو زيارة صديق، وهو مع كل هذه القرارات، مستلب مغترب، يسافر دون سفر، ويتمنى دون وعد، ويصل دون وصول.
ـ4ـ
يبدو الراوى/ السارد ـ ابتداءً من السطور الأولى ـ واعيًّا بأهمية بناء علاقات محكمة بين خطىّ السرد اللذين يشكلان معًا معمار الرواية؛ ليهيئ القارئ ـ منذ البداية ـ لاستقبال إيقاع الحالة المركبة التى سيمضى بها عبد الخالق جوَّالاً فى زمكانية القاهرة والسويس، حاضرًا وماضيًّا، وليؤكد حتمية الارتجاع إلى الماضى فى أية لحظة. فعبر ثلاث فقرات متتالية فى مفتتح الرواية، يعقد الراوى آصرة متينة بين الرحلة الدائرية التى سيقوم بها عبد الخالق من السويس إلى القاهرة إلى السويس من جهة، وبين المطاردة اللاهثة التى سيقوم بها الماضى فى ذاكرة البطل أثناء رحلته من جهة موازية:
1ـ "صارت الوحدة شرنقة كاملة الغزل، غطاء سلحفاة عجوز، الرأس يخرج ويدخل، يرى الضوء، يسمع الأصوات، يلامس الناس والأشياء، ثم تعود الرقبة البيضاء الرخوة إلى داخل غطاء السلحفاة القديم" (ص6،7).
2ـ "اليوم خميس وغدًا جمعة. اليوم يسافر إلى القاهرة…"(ص7).
3ـ "أنا لا أنكش الماضى. هو الذي ينكش نفسه. هو الوحيد الذى يسكن معى هنا. هو الوحيد الذى يدخل معى تحت غطاء السلحفاة بلا استئذان، تحت الجلد وفى العروق. لم يبتكر أحد بعد طريقة للخلاص من الماضى. فى وجهك وفى أطراف أصابعك، هو الذى ينكش نفسه، ويفرض صحبته بلا استئذان"(ص7).
تطرح الفقرة الأولى أسطرة كثيفة الرموز لإيقاع الحياة اليومية التى يعيشها عبد الخالق، ذلك الذى يشبه الإيقاع البيولوجى لحياة السلحفاة اليومية، والذى يتخذ شكل الخروج والدخول اليومى، من وضع التشرنق والوحدة ـ بكهفها المظلم الحجرى كغطاء السلحفاة ـ إلى الخروج الضرورى لملامسة الحياة، بضوئها وأصواتها وهوائها. ثم العودة إلى وضع التشرنق مرة أخرى، مثلما تعود السلحفاة إلى غطائها الذى يحميها من الأخطار والموت، ويحقق لها البيات والسكينة، والراحة من عناء اليوم، بأضوائه وأصواته وضرورة ملامسته. هذا المعنى نفسه الذى ينسحب على عبد الخالق. فبرغم ظلمة الوحدة ووحشتها، فإنها تحميه من أعباء التناحر اليومى، وتحمى وعيه من الانفجار، وتصد عنه أى خطر، أو أية مطاردة.
لكن الفقرة الثانية تحيل هذه الصورة الرمزية إلى مجال واقعى أكثر تحديدًا. يظل واقعيًّا فى علاقة مشابهة بالطبيعة البيولوجية للسلحفاة. يتمثل هذا المجال، فى الرحلة/ الزيارة التى سيشرع عبد الخالق فى القيام بها اليوم وغدًا (خميس وجمعة)، والتى تأخذ شكل الدوران، أو الخروج والدخول، من نقطة تبدأ من حجرته فى السويس، وترتد إليها، قاصدًا مداره حول القاهرة، للاحتكاك بجدران أماكنها، وبثرثرة ناسها، وبمرافئ ذكرياته فيها، وحتى بمشاحناتها: "من أجل هذه المشاحنات الحمقاء ترك القاهرة، وحاول أن يستكين فى السويس. ومن أجلها ـ أيضًا ـ يعود فى زيارات خاطفة، فى حلقة مفرغة من العذاب وتعذيب النفس"(ص51). بل تدفعه عاداته القديمة، برغم بساطتها الشديدة، إلى هذه الزيارة: "من أجل هذا جاء إلى القاهرة؛ من أجل أن يقرأ الجرائد مبكرًا فى سيدنا الحسين؛ عادة قديمة تمتد إلى أيامٍ كان يشعر فيها بأنه يضع يده على نبض قلبٍ حبيب".
تلك هى الحالة التى ظل عبد الخالق يمارسها طوال السنوات الأربع التى قضاها بالسويس، حيث لم يخفت حضور القاهرة فى حياته؛ فهى "غول يأكل الأيام، ليس شوقًا إليها يشتاق، وليس حبًا فى نهارها، أو ليلها، أو ناسها الذين كانوا"(ص13). إنها فكرة مراوغة، تستلهم من مفردات الأسطورة قوة إيحائية (غول يأكل الأيام)، ينفى بها الراوى إرادية البطل، واختياراته الطوعية، ليؤكد منطق القسر والإجبار الذى يحكم علاقته الشهرية بالقاهرة، وهى نفسها اللعبة التى يمارسها الراوى فى تأطير علاقة عبد الخالق بماضيه.
ففى الفقرة الثالثة، يستكمل الراوى تشييد العلاقة المتضافرة بين خَطَّىِّ السرد الروائى، مشيرًا إلى أن عبد الخالق لا يعيش وحده داخل غطاء السلحفاة، إنما يسكن الماضى معه، يدخل ويخرج معه، يلازمه ملازمة الدم فى العروق، أو الروح فى الجسد. الماضى الذى يعبر المسافات، بلا قيس، وبلا منطق، كأنه كائن خرافى.
لكن الراوى الذى يروى بضمير الغائب (هو)، ينزع نفسه، فجأة، محدثًا تواريه نغمة إيقاعية جديدة، واضحة، إذا استقبلنا تحول الضمير نبريًّا، أو ارتأينا فى تحوله التفاتًا دالاًّ. فى الحالين، يترك الراوى البطل، ليروى ـ بنفسه ـ مونولوجه الخاص بضمير المتكلم (أنا)، ليفلسف علاقته بالماضى، ويكشف عن صحبته القسرية، حيث يلازمه تحت غطاء السلحفاة العجوز، ليفسد عليه صفاء وحدته. إنه الزمن البادى فى الوجه، والمشاعر، ويسكن تحت الجلد، ويسرى فى العروق؛ فلا ملاذ منه إلا إليه.
إن عبد الخالق يدفع عن نفسه تهمة التواطؤ مع الماضى، قبل أن يبدأ رحلته. فالراوى يريدنا أن نُقدِّر حالته المأزقية التى سيعيشها باحتدام صاعد، كلما خطا خطوة من خطوات رحلته. فالذاكرة لا تنبعث بمحض إرادته؛ نقصد إرادة الاسترجاع الحر فى الذهن، بالصورة التى تقوم عليها رواية "تيار الوعى" ـ على سبيل المثال ـ فى التداعى غير المنطقى للصور كما هى فى الذهن، أو فى الذاكرة؛ وإنما بسلطة العلاقة المفروضة قسرًا، والتى تؤسس لعلية ملاحقة الماضى للبطل، وتسوِّغ كيفية تموقع عدد كبير من التقاطعات نصيًّا، فى سياق رحلته إلى القاهرة، وتسهم فى تأسيس إيقاع الرواية، بتنوعاته المختلفة، وتشى ـ كذلك ـ طوال الرحلة، بمحنة عبد الخالق فى شرنقة وحدته، داخل غطاء السلحفاة العجوز: "وحدة المنفى والسجن، وحدة أمام حاضر غامض، وعالم بعيد قديم كان"(ص6).
يعيد الراوى استثمار طاقات المفردات الأسطورية فى تكريس هاجس القسرية، وإيقاع المطاردة، والغموض، ولاإرادية البطل، فى علاقته بالماضى والحاضر، مثلما يستثمرها باعتبارها مصدَّات لحماية الذات من التلاشى والضياع؛ فهى تلبى حاجة الإنسان الدائمة لفهم العالم، أو دفع غموضه، حيث لا يؤدى المنطقى، والعلمى، إلا دورًا ضئيلاً فى حياتنا اليومية الحميمة، وحيث إن ما نعرفه عن طريق العقل وحده، إنما هو قليل جدًّا، بالقياس إلى ما نؤمن به، أو نفترضه. إن كل شئ فى دواخلنا لم تصهره المعرفة العقلية، إنما ينتمى إلى الأسطورة، التى تمثل الدفاع التلقائى عن النفس فى مواجهة عالم عدائى، وغير مفهوم. إنها محاولة للهروب من انعدام القدرة، الذى هو قَدَرُ الإنسان المعضل ـ منذ الأزل ـ فى عالم غامض، متحول، متناقض. وبذلك، تستمر مفردات الأسطورة فى أداء دورها ـ القديم ـ فى تحرير الروح من عبء القلق الساحق، وتحرير الذهن من الانفجار والتشظى(36).
لقد خُلِقَ الإنسان صانعًا للأسطورة، ولعالم الرموز. فلم يكن من الممكن أن يقف مستسلمًا لعجزه عن فهم الظواهر الكونية المثيرة والغريبة. فلا مفر له، لكى يشعر بالطمأنينة، من أن يجمع الأشتات فى وحدات فكرية مؤتلفة. كان لابد له، لكى يقتنع بسر وجوده فى الحياة، من أن يخلق، بفكره وشعوره، عالمًا تقترب فيه الأشياء المعلومة من الأشياء المجهولة، القريبة من البعيدة، الحقيقية من المصنوعة، الراسخة من الطارئة؛ لتتعانق فى وحدة من العلاقات. فإذا تعارضت الأشياء إلى حد وصولها إلى التناقض الذى لا يسمح باجتماعها، فإن الإنسان خُلِقَ قادرًا على أن يجمعها فى نسيج من العلاقات الذهنية، والروحية(37).
سيظل الإنسان الحديث طرَّاحًا للرموز ولمفردات الأساطير، ليفك شفرات الغموض الذى يحكم عالمه، كلما استجدت فيه تحولات مفزعة، وظواهر غامضة ليست معدة للفهم الجاهز. إن ذاكرة الإنسان ـ بمعناها الجمعى ـ تحتشد بآلاف الرموز والأساطير، هى غرسه من قرون خلت، وهى رصيده المتحرك معه فى الحياة، وهى أثمن ما سيورثه للأجيال التى تأتى. إننا لا نحتاج إلى أن نخترع، على نحو مصطنع، فكرة الحياة البدائية التى أنشأت الأساطير؛ بل يكفينا ـ فحسب ـ أن نستعيد انطباعات طفولتنا، ونظرتنا ـ أطفالاً ـ إلى العالم(38).
إن وجود عبد الخالق فى وضع مأزقى، فى برزخ التحولات بين الماضى والحاضر (البعض يرى ـ فلسفيًّا ـ أنه ليس ثمة حاضر، إنما هناك ماضٍ ومستقبل فحسب) يدفع الراوى إلى تنظيم المفردات الأسطورية فى السرد الروائى، وهى المفردات التى لا تنتمى إلى أسطورة بعينها؛ وإنما تمثل شذرات من أساطير عدة، متموقعة فى التاريخ الثقافى العربى(39). تشكل هذه المفردات نفسها إيقاعًا يضفى على اللغة سحرية الرموز الأسطورية، ويعكس تصورات البطل إزاء حاضر غامض، وعالم بعيد قديم كان. فهو يرى زيارته الشهرية للقاهرة "غولاً"(40) يأكل الأيام، و"وحشًا" يسد الحلق. ويدرك أن "سر النسيج السحرى الذى يدمج اللحظات والساعات مبذول متاح" (ص34)، لينقذه من فخاخ العدمية والانفصال. ويرى الإرسال التليفزيونى الذى لا ينقطع "وحشًا أسطوريًّا يزور المدينة كل يوم"(ص66)، ليزخها زخًّا بآلاف الصور يوميًّا، تحقن ملايين الناس بآلة الحقن المرئى، ليخضعوا تحت وطأة استسلام لذيذ، وإغراء لا يُقاوَم، لا وقت فيه للتفكير، والتمحيص، والفهم، والتردد النقدى(41)، وإدراك حقيقة زيف محتوى شكل الصورة المرسلة، الذى يتناقض مع محتوى الشكل الجمالى والفكرى والروحى للجماعة(42). ليس هناك ما يمكن أن يحمى وعى هذه الجماعة من السقوط فى شرك الخداع المغرى، حيث تنهار ملكة التحوط، ويتحول وعى الناس إلى مجال مستباح لكل أنواع الاختراق التى تتكفل التقنية بهندستها وصناعة أسباب الجاذبية إليها. وأخطر نتائج ذلك، أن تتحول الآلة الإعلامية المرئية (التليفزيون) إلى مؤسسة تربوية، وتعليمية، تقوم ـ وظيفيًّا ـ مقام الأسرة، والمدرسة(43).
تحتشد رواية "زهر الليمون"، إذن، بالمفردات الأسطورية، التى تعمل اللغة السردية على توظيفها رموزًا دالة، ذات صياغات محولة سرديًّا. وليس فى وسعنا إحصاؤها؛ فالرواية زاخرة بالجبال، والأشباح، والغيلان، والتنين، وأشجار الكافور والسنط والتين الشوكى، وبقع الظلام، والأضواء، والألوان، وطقوس الطفولة، والأحلام، والعوالم السحرية … إلى آخر هذه المفردات التى تتخلل النسيج السردى، لتخترق الواقع بطاقاتها الخيالية، وتربط بين الدلالات الاجتماعية والسياسية والقيمية من جانب، ومخزون القيم والذكريات والشخصيات والأحداث والصور فى ذاكرة البطل، من جانب آخر ، ليتحول الواقع ـ فى النهاية ـ إلى أسطورة، والأسطورة إلى واقع، والرواية إلى أسطورة واقعية(44).
مع أولى خطوات عبد الخالق، متجهًا إلى محطة السفر بالسويس، حيث يسلك طريقًا ترابيًّا مختصرًا يؤدى إلى المحطة، تترامى على جانبيه نبات التين الشوكى العجوز، بزهوره "الحمراء" الكبيرة. يصرخ عبد الخالق من أعماقه، لعله يتم رحلته دون أن تطارده أشباح الماضى:
"اذهبى عنى يا أشباح، يا سنوات من هباء. اصعدى واستقرى هناك، وسط أدغال التين
الشوكى. اخلطى دماء الشيوعى القديم بستائر العنكبوت، أو ادفعى فى حلقى بزهرة
التين الحمراء، أو بثمرة التين ذات الشوك نفسها. فقط لا تتركينى أسيرًا، أنهش نفسى
بالنكش والتقليب"(ص20).
برغم شبحية هذا المونولوج، وامتلائه بنغمة ميلودية صارخة، تفضى إلى حالة إنسانية متمزقة ومأزومة، وبرغم احتشاده بمفردات أسطورية ترمز إلى عنف الماضى، ووجوده القار فى أعماق عبد الخالق، فإننا لا نذعن تمامًا لهذه الدلالات التى تدفع البطل إلى الهروب من جلده؛ حيث إننا نكتشف أن عبد الخالق يبحث فى هذا الماضى عن حقيقته، وعن وجوده، وعن جماله ونبله، مثلما حاول أن يتعرف إلى نفسه، فى بداية الرواية، عبر المرآة، وفى النهاية، عبر أثاث الغرفة القليل. إنه إزاء حاضر غامض يزداد جهامة. ومن ثم، فهو يدافع عن ذاكرته، دون أن يتورط فى قصدية التواطؤ معها. إنه نوع من الحنين الذى يغذى نفسه تلقائيًّا. لكن المفارقة ـ حقًّا ـ هى أن هذا الحنين لا يولده سوى تحول الحاضر الذى يرفضه هذا الحنين. وحتى الجانب القمعى من الماضى، فإن نسيانه لا يتأتى، إلا بحيوية تذكره، ودفعه عن النفس لا يتحقق، إلا بملامسة أطرافه، أو الغوص فيه.
إذا كان الراوى فى "زهر الليمون" يقوم بأسطرة واقع البطل، الذى يتضمن ذاكرته فى الوقت نفسه، بهذه الصورة المراوغة، متداخلة الخيوط، التى تأخذ شكل المطاردة والهروب، أو الهجوم والدفاع، بين البطل والماضى الملتحم ـ قسريًّا ـ مع الحاضر، ليجترحا ـ سويًّا ـ وحشية الذكريات ووحشية التحولات فى آن، دون أن تستهدف هذه الصورة ـ فى تحليل محتواها العميق ـ الهروب، أو التنصل، منهما، فإن أوراق الروائى نفسه (علاء الديب)، وهى سيرة ذاتية قصيرة تجمع بين المضمون السيرى والنوع الروائى، معنونة بـ "وقفة قبل المنحدر، من أوراق مثقف مصرى 1952 ـ 1982"(45)، تطرح ـ بوضوح ـ فكرة أن فقدان الذاكرة يمثل المشكلة الأساسية لمثقف العالم الثالث ـ الذى يشخصه عبد الخالق، بامتياز، فى "زهر الليمون" ـ حيث يشير الراوى إلى "لحظات حياتنا المفككة" (ص12)، بينما الإنسان المتحضر هو من يبقى تاريخه حيًّا" (ص12). ويشير إلى كلمات كاتب كوبى: "نحن لانعرف المدنيَّة، لأن التمدن هو القدرة على ربط الأشياء بعضها ببعض. إننا ننسى الماضى بسهولة، وننغمس كثيرًا فى الحاضر"(ص12). وعلى هذا النحو، يبدأ النص، وينتهى، بالتركيز على مفهوم الذاكرة: "ذاكرتى حياتى، أدافع عنها وكأنها حريتى. ذاكرتى للوجوه من حولى، لنفسى، للمواقف، للأحداث، ذاكرتى للأيام ولليالى، للشمس والقمر.. لتبدل الفصول والأحوال. ذاكرتى للمرض والمحنة، ذاكرتى للضوء، وظلام الهاوية. ذاكرتى: حريتى، عذابى، أتمسك بها، وتتمسك بى. مع ذاكرتى، أحارب.. آخر معاركى، وفيها لا أقبل الهزيمة"(ص11): "أريد أن أتماسك، أن أحتفظ بالحس والبصر والبصيرة، لا أريد أن أقترب كثيرًا من حافة المنحدر. الذاكرة الحية، قضيتى من البداية إلى النهاية. الذاكرة المشتركة لى ولك، لنا معًا. الذاكرة الحية هى العاصم، الملاذ الوحيد للفرد، وللشعوب…. ذاكرتى حياتى، بها أحاول الخروج من الدائرة الجهنمية"(ص105 ، 106). والكتاب/ السيرة الذاتية، يمثل ـ منذ عنوانه ـ بحثًا عن زمن مفقود، مسرود في صورة ذكريات مبعثرة ، بلا وحدة تعاقبية ؛ حيث يحاول الراوى أن يرصد التحولات التى أصابت المثقف المصرى منذ بداية العصر الناصرى: 1952؛ شذرات من الحياة الخاصة (التى تتماس بأدب الاعتراف)؛ أحداث تاريخية أثَّرت على الوجدان القومى، وأخرى شرخت الشعور بالمواطنة والانتماء؛ الإفصاح عن نمو الاكتئاب فى نفسية مأزومة(46).
نستطيع أن نزعم ـ باطمئنان ـ بأن "زهر الليمون"/ الرواية، تمثل موازاة سردية روائية لـ "وقفة قبل المنحدر"/ السيرة الذاتية. بل إن عبد الخالق فى "زهر الليمون" هو نفسه الشخصية الروائية/ البطل المعضل، الموازى لعلاء الديب فى "وقفة قبل المنحدر". لا ينهض هذا الزعم ـ فحسب ـ على تقاطع العملين؛ الرواية والسيرة الذاتية، فى نقاط أساسية، وقضايا مشتركة، تكاد تكون واحدة (أزمة البطل المعضل، الاعتقال، أخطبوط التحولات، موضوع الذاكرة، الهجرة إلى بلاد النفط، التخلف، أزمة اليسار، أزمة الديمقراطية والمواطنة، هزيمة عام 1967)، بل ـ أيضًا ـ على كون الشخصيتين المحوريتين ينتمان إلى المدينة نفسها (القاهرة)، حيث قضيا طفولتهما فى حى الدقى القديم، قبل زحف حداثة العمران الشائه، كما أنهما عاشا بين السويس والقاهرة، يرصدان هزيمتهما، وتحولاتهما، ويبثان حنينهما إلى علاماتهما القديمة:
"أبحث فى القاهرة عن حى قديم، عن زقاق رطب، عن وجه صديق، ولكن مدينتى أصبحت غريبة" (وقفة قبل المنحدر، ص86). "هل تحمل له الأيام شربة ماء؟ أم أن أمامه صحراء ورمالاً؟ القاهرة صامتة لا تجيب. نوافذها موصودة غامضة، ترد الأيدى الممتدة نحوها فى سؤال ورجاء، وهو يدب فى طرقاتها فى وهن لا يسمع لخطواته وقع، وليس فى روحه نشيد" (زهر الليمون، ص102). "كنت أحب مدينة السويس جدًّا، خليجها، وشاطئها، وشوارعها القديمة. فى هذه المدينة شئ وكأنه خليط من أرض بحرى والصعيد، كانت السويس ـ بالنسبة لى ـ مدينة فريدة، كأنها قلعة، قوية آمنة، تحضنى شوارعها، كما تحتضن المدينة جبالها العتيقة. بدأت فيها كتابة أول سطور من رواية لم أنته منها أبدًا، وظلت سطورها الناقصة تذكرنى بالسويس، وتشد أحلامى الغامضة إلى هناك.. ولكننى لم أذهب إلا بعد أن حدث ما حدث، دخلتها ذاهلاً. بعد الهزيمة، لم أجد المدينة، ولا الناس. النوافذ المخلوعة والشاطئ ملئ بالبقايا. النخل محروق والشوارع خالية مقلوبة العربات ـ التى كان يسهر حولها شباب السويس يأكل سندوتشات الصـورنباق والسريديا وحيـوانات بحرية مليئة بالشطة والطحينة ـ مضروبة فى مكانها ومحروقة (…) تداخلت شوارع المدينة، وتحولت حواريها إلى أكوام من الطوب والتراب والأثاث المحطم … وجبل عتاقة يطل على المدينة كلها من بعيد، تضرب فيه أشعة شمس حارقة، يتسلقه دخان وغبار لم يهدأ بعد" (وقفة قبل المنحدر، ص82 ـ 83).
لا تخلو هذه الموازاة بين العملين (الرواية والسيرة الذاتية) من فروق جوهرية؛ حيث يطرح العمل السيرى قضية التبعية الذهنية للغرب بصورة جلية وواضحة، بينما لم تكن ضمن نطاق العمل الروائى. ولعل أبرز هذه الفروق، يتمثل فى سفر "علاء الديب" ـ بالفعل ـ إلى الخليج (لم يذكر اسم البلد بالتحديد، ولم يصرح بأسماء الشخصيات الحقيقية التى التقاها هناك)، وقد أوضح مشاعر القلق والتوتر التى انتابته فى هذه السفرة القصيرة، التى قصد بها العمل فى إحدى المؤسسات الصحفية، كما أبرز الضرورة الطاغية التى دفعته إلى السفر. بينما ـ من جانب آخر ـ يحافظ "علاء الديب" على مبدأ بطله "عبد الخالق" ـ الذى يسكن فى حناياه ـ الخاص برفضه لفكرة السفر رفضًا مطلقًا؛ حيث يستمسك عبد الخالق برائحة الوطن، وببقائه فى خندق المواجهة ـ وإن كانت تبدو مواجهة منـزوية وفردية ـ ضد التحولات التى تعرضت لها مصر فى السبعينيات، برغم الظروف الصعبة التى لاحقته؛ فهو بلا بيت، وبلا زوجة، وبلا دخل كريم، وبرغم اندفاع الشخصيات الأخرى نحو خيار السفر، كشقيقه سعيد، وزميله مصطفى الكردى، ورفيقه فتحى نور الدين، الذين سافروا إلى الخليج، بل حتى زوجته السابقة منى المصرى التى هاجرت إلى بلاد الشمال (كندا).
نستطيع أن نخمن أن الاختلاف بين زمنى كتابة العملين يُعدُّ علة هذه الفروق. فزمن كتابة "زهر الليمون"، وربما زمن التفكير فى كتابتها، يبدو سابقًا على زمن كتابة أوراق السيرة الذاتية. ولعلنا نلاحظ إشارة علاء الديب، فى السيرة الذاتية، إلى أنه "كان" قد بدأ كتابة أول سطور من رواية، إبَّان وجوده فى السويس، وأنه لم ينته منها، ولنا أن نتصور أن هذه الرواية هى "زهر الليمون"، التى تدور أحداثها فى زمن ينتهى إلى وجود البطل فى السويس. بينما يتحدد زمن أحداث السيرة بين عامى 1952 و1982. ونعتقد أن زمن أحداث الرواية ينتهى قبل عام 1982 بسنوات. بينما يمتد إلى ما قبل عام 1952 ، على نحو ما تشي التقاطعات.
ـ 5 ـ
الخطان السرديان المتقاطعان يتعانقان ـ إذن ـ فى شبكة من العلاقات الجدلية، ينجم عن تفاعل عناصرها الدائم، المنتظم، مجموعة من الومضات الإيقاعية المتناثرة فى الرواية، على نحو ما ذكرنا سلفًا.
ثمة إشارات نصية، نعدها نصوصًا مركزية، دالة على بعض الأفكار النظرية والتطبيقية حول الإيقاع والزمن، وهى النصوص التى حكمت منطق هذه القراءة النقدية، وأفرزت أفكارها وفرضياتها النقدية، منها فكرة الإيقاع الذى ينتظم خطوات البطل، والذى يتراوح بين حالتى التفاؤل واليأس، الإقدام والإدبار، الحيوية والشيخوخة: "الحصار الخفى الذى يحيط به، لم يعد يزعجه كثيرًا، يلتفت إليه، فيشعر به، فيدفعه عن نفسه بدمدمة لحن أو كلمات" (ص76).
الحصار هنا بمعناه المجازى، يعنى حصار التحولات المفزعة له، وهو حصار متكرر؛ لأنه يومى؛ أى أضحى إيقاعًا ينتظم حياته اليومية، وهو إيقاع خفى لم يعد يزعجه؛ لأنه اعتيادى؛ ولأنه يعرف مساره؛ بدايته ونهايته؛ ولأنه اعتاد على دفعه، والتخلص منه، والهروب من إهابه. فهو فى البداية "يلتفت إليه، ثم يشعر به ويعرفه"، وأخيرًا يقوم بدفعه عن نفسه بأنغام لحنية أو شعرية تحفظ تماسكه. هذه الأنغام نفسها تتحول إلى إيقاع منتظم؛ لأنها متكررة بتكرار شعوره بالحصار، وهو الإيقاع الذى نشعر بتجليه سرديًّا، بكل ما تمتلك لغة السرد من قدرة على الحفاظ على إيقاعية الإيقاع ،عبر التشكيلات السردية. فنحن عندما نقرأ الكلمات، يترسب داخلنا الإيقاع الذى يحتويها، تمامًا كما يحدث لعبد الخالق: "تترسب الكلمات فى صدره، فتجمع شتات نفسه فى نغم باحث عن قرار"(ص142)، فضلاً عن فكرة البدايات ذات الإيقاع المتفائل، التى سرعان ما تذوب فى إيقاع التحولات والتحقق المستحيل، حيث إن "هناك مسافة لا تعبر بين الحلم والتحقق، هناك أحلامًا ملونة تبهت، أو نغمات تذوب بلا نهاية" (ص98).
من هذه الأفكار أيضًا، فكرة الوعى ـ وعى الراوى ـ بتشظى الزمن وتوزعه: "مرت السنوات الأربع، كأنها ساعات مكسورة، زمن متناثر موزع"(ص12). وهى الفكرة التى قام الراوى بتطبيقها ،روائيًّا، فى مسرودات زمنية ارتجاعية متناثرة، لا يحكمها وحدة زمنية تعاقبية، فهي مبعثرة وموزعة بانتظام مطرد، على الساعات التى يستغرقها الخط السردى للقصة/ الإطار، وهو خط ـ بعكس الخط الآخر ـ ذو وحدة تعاقبية زمنيًّا، مدارها يوم ونصف اليوم تقريبًا.
الشأن نفسه ينطبق على فكرة التقاطع الإيقاعى، أو التنويعات الإيقاعية، المتنافرة أو المتناغمة، بين معطيات الماضى ومعطيات الحاضر. لعل أبرز إشارة لهذه الفكرة المحورية، قول الراوى: "للوقت، هنا، إيقاع آخر، اللحظات محشوة بالماضى، ثقيلة، تحدثه بلا كلمات عن ذلك العمر الذى توقف"(ص115).
إن تشخيص هذا "الإيقاع الآخر"، يجعلنا نفترض ـ بداهةً ـ وجود إيقاع سابق عليه، يتقاطع معه أو يجاوره. ويجعلنا نفترض ـ كذلك ـ اغتناء الرواية بعدد كبير من الأنغام الإيقاعية الناجمة عن ـ أو المتوقفة على ـ طبيعة حالة البطل (متفائلة، يائسة، عدمية، غامضة…… إلخ)، أو مجال الذكريات ووسائط تشخيصها (عاطفية، قمعية، طفولية، أيديولوجية، شبحية، حلمية، كابوسية، مشهدية…..... إلخ).
ابتداءً، نتصور أن إيقاع اللحظات الثقيلة المحشوة بالماضى، يمكن أن يرتكز على طبيعة هذا الماضى، من حيث هو ماضٍ ضبابى، مثير للذكريات المرة، كذكرياته فى المعتقل، وهى أكثرها مرارة ووحشية (انظر: ص19، 29، 52، 136)، أو الذكريات التى تشخص الجانب المظلم من علاقته بمنى المصرى، بعد هجرتها إلى كندا. ويمكن أن يرتكز هذا الإيقاع على طبيعة التنافر بين ذاكرة عبد الخالق ولحظته الراهنة، فكثيرًا ما تتحطم الذكرى النبيلة فوق صخرة واقع يرفض التوق إلى الماضى، حيث ترقد رغباته، دون أن يكون لها إمكانية الحضور، ودون أن يكون بوسعه المراهنة على حضورها.
لكن، فى مقابل اللحظات الثقيلة المحشوة بالماضى، ثمة إيقاع آخر بنغم الماضى الجميل، يتبدى فى لحظات نادرة، كان البطل يشعر فيها بوجوده، وبسحر المكان، كلحظات استقباله للقاهرة (ص36)، وذكرياته الطفولية مع شجرة الليمون الفارهة، ذات الزهر الأبيض المتساقط، وأريجها الذى هو أريج الماضى والأرض والوطن ورائحة الناس، وأم رضا، والعشة الرطبة، والأرض الخضراء، وهى الرموز التى اصطفاها لنا الراوى/ السارد فى نهاية الرواية، ليردنا إلى العنوان، عبر مسافة نصية طويلة، لنكتشف الفعالية الإيقاعية بين العنوان والرواية، عبر إحدى آليات ثلاث لتحليل الإيقاع، وهى: "التكرار، التعاقب، الترابط"(47). وتلك الأخيرة (الترابط)، هى الآلية الملائمة لاكتشاف العلاقة بينهما، بعد أن نقدم رصدًا للعلامات، والاحتمالات الإيقاعية، والدلالات الافتراضية، التى يمنحها العنوان نفسه، بوصفه مرسلة سيميوطيقية مستقلة ومتفردة، تتمتع بإحالات أغنى كثيرًا من إحالتها إلى العمل الأدبى الذى تُعنونه.
ـ 6 ـ
زهر الليمون، من إيقاع العنوان إلى الرمز المركزى:
العنوان للكتاب كالاسم للشىء، به يُعرف، وبفضله يُتداول، يُشار به إليه، ويدل به عليه، يحمل وَسْمَ كتابه، ويحمل الكتاب وَسْمَه. والعنوان ضرورة كتابية، لغويًّا واصطلاحيًّا. فسياق الموقف فى الاتصال الشفاهى يغنى ـ كثيرًا ـ عنه، بينما غياب هذا السياق فى اللغة الكتابية، يفرض وجود مجموعة علامات يتعوض بها المكتوب عن غياب سياق الاتصال الشفاهى، فتعمل عمله، وتقوم بوظائفه.
لا يقف شأن العنوان عند هذا الحد، فتعقد المكتوب، وتعدد أجناسه، فضلاً عن استيلاء الكتابة على مساحة الفعل الثقافى، عقَّد وظائف العنوان، وعقَّد أنواعه، ونوَّع فى ما بين شكوله، حتى صار إلى الاستقلال عما يُعنونه، استقلالاً لا ينفى علاقته به، بقدر ما هو نافٍ لاختزال هذه العلاقة فى وظيفة أحادية الاتجاه: من العنوان إلى العمل، فى ما يشبه الإحالة الآلية من الأول إلى الثانى، دونما أدنى تدخل من القارئ فى إنتاج هذه الإحالة. والأمر ليس كذلك، فاستقبال المتلقى للعنوان، يتمتع بفعالية شديدة التعقيد، خاصة فى الكتابة الأدبية، بوصفها فضاءً للرموز وللتشكيلات اللغوية الإيحائية، حيث تبلغ هذه الفعالية من التعقيد حد أن الحديث عن "نصية" عمل ما، يجب أن يضع فى حسبانه كون العنوان نصًّا نوعيًّا له ـ كالعمل تمامًا ـ من حيث بنيته وإنتاجيته الدلالية(48).
ومن منظور المنهجية التى نعتمدها(49)، فإن محتوى شكل العنوان، بوصفه مفردة أو مرسلة نوعية، هو محتوى شكل نوعى، يحيل إلى ذاته، وإلى العمل الذى يُعنونه، وإلى غيره من العناوين، وإلى أعمال أدبية وفنية أخرى، وإلى الفضاء السوسيوثقافى الذى ينتمى إليه. ويحيل كذلك إلى المبدع ، الذى اصطفاه عنوانًا وراية لعمله الإبداعى، بل إلى خبرة المتلقى نفسه، وإلى تكوينه الخاص. فالعنوان يثير ـ أو يؤسس ـ لدى المتلقى فواعل سيكولوجية وذهنية، وتأويلات مكتنزة بالدلالات الاحتمالية، التى قد نجد لها دلائل فى العمل الأدبى، وقد لا نجد، قد يؤكدها، وقد ينفيها، أو قد يتصارع معها.
وتأسيسًا على ذلك، فإن العنوان ـ مقارنًا بما يُعنونه ـ شديد الفقر على مستوى الدلائل، وأكثر غنى منه على مستوى الدلالة، برغم ضآلة عدد علاماته، من حيث إنتاجيته الدلالية(50)، حيث يتسم بأعلى درجة اقتصاد لغوى ممكن، لا يتجاوز حدود الجملة إلا نادرًا، فغالبًا ما يكون كلمة، أو شبه جملة، لكنه ينطوى ـ فى الوقت نفسه ـ على أعلى سلطة تلقٍّ ممكنة ؛ لفرادة موقعه الطباعى على فضاء الغلاف. كما أنه يحتشد ـ كما ذكرنا ـ بعلاقات إحالة مقصدية حرة إلى العالم، وإلى النص، وعلى غيره من النصوص إلخ.
"زهر الليمون"؛ عنوان لافت، شاعرى، بسيط، يتكون ـ نحويًّا ـ من مركب إضافى/ شبه جملة؛ مضاف (زهر)، ومضاف إليه (الليمون). ابتداءً، ثمة تعقيد ـ على المستوى النحوى ـ فى اختيار التركيب الإضافى، فهو تركيب تتحكم فيه قاعدة توليدية، وأخرى نحوية. أما بالنسبة إلى قاعدة التوليد، فإن علاقة الإضافة ـ إجمالاً ـ علاقة بين اسمين. أولهما: نكرة، وثانيهما: نكرة، أو معرفة. وما بين الاسمين حرف جر مقدر، هو واحد من أربعة حروف للجر: "ل. من. فى. ك"(51). فضلاً عن احتمالية قبول المركب الإضافى لعلامات نحوية أخرى سابقة عليه، قد تكون علامات إشارية أو توكيدية. أما القاعدة التحويلية، فإنها تعنى التحول من نطاق القدرة الكامنة، إلى نطاق القدرة المستخدمة. ذلك بأن انتقال قاعدة الإضافة إلى ميدان التحقق الواقعى/ الاجتماعى للغة، يسقط حرف الجر المقدر بين طرفيها، ويفضى التحول بالقاعدة إلى أحد احتمالين: فإما أن يأتى الطرف الأول للإضافة اسمًا نكرة معرفًا بإضافته إلى اسم المعرفة ، كحالة "زهر الليمون"، وإما أن يأتى اسم نكرة مخصصًا بإضافته إلى نكرة(52).
إن طرفى التركيب الإضافى، لا يقومان بذاتهما، وإنما يتعالق كل منهما بالآخر، ويحصر الاحتمالات المعجمية لكل منهما. فأحدهما يحدد ماهية الآخر. المضاف "زهر" يحيل إلى مركب إضافى جديد، هو "شجرة الليمون"، حيث إن الشجرة هى الحاملة للزهر، وليس "الليمون" الذى هو ثمر الشجرة. ويعود المركب الإضافى ـ المقدر طرفه الأول ـ (شجرة الليمون) ليحدد صورة الـ "زهر"، بوصفه زهرًا أبيض صغيرًا ذا رائحة نفاذة ومميزة. لكن الممارسة الاجتماعية للغة درجت على استخدام اسم الثمرة للدلالة على نوع الشجرة، فيقال: ليمونة (= لمونة، فى العامية)، رمانة، عنبة (أو عنباية)، نبقة (أو نبقاية)، توتة، للدلالة على شجرة كل من: الليمون، والرمان، والعنب، والنبق، والتوت. ذلك لأن التقاليد الشفاهية للغة ـ كونها تقاليد زمكانية، وسمع/ بصرية ـ تسمح بإسقاط المقدر من "الكلام"، وتعويضه بسياق الموقف الكلامى.
على هذا النحو، تستقيم ـ وظيفيًّا ـ دلالة المركب الإضافى: "زهر الليمون"، بل يسمح ربطها بالتقاليد الشفاهية للغة بامتلاك قوة إنتاجية لأكثر من دلالة. فثمة علاقة عكسية ـ فى الواقع ـ بين حياة الـ "زهر"، وحياة "الليمون"، فكلما نضج الثمر (الليمون)، ضعف الـ "زهر" الأبيض الصغير، وتساقط على الأرض، لتدوسه أقدام العابرين، أو لتشتمه أنوف الباحثين عن أريج ضائع. بينما تحتلُّ ثمارُ الليمون الشجرةَ بكاملها. ومن جانب ثانٍ، يحيلنا "زهر الليمون" إلى زمكانية الربيع/ الريف. ومن جانب ثالث، يتواصل العنوان (زهر الليمون) مع عناوين الحواديت الشعبية المستلهمة من رموز الطبيعة الزراعية وصورها، مثال: حكاية زهر الروض(53)، حكاية زهر البان، حكاية حبة الرمان، حدوته التلات لمونات، حكاية التلات تفاحات… إلخ. ويتصل كذلك بموتيفات الأدب الشعبى الشفاهى، فى الحكايات والمواويل والأغانى، مثال قول الراوى الشعبى فى الجزء الأخير من أحد المواويل(54):
صُبَحْتَ أقُوْلْ آهْ مِنْ دُوْرِ الزَّمَانْ وِالزَّهْرْ (زهر اللعب)
دَخَلْتْ جُوَّه الجْنِيْنَه مَا لْقِيْتْ فِ السَّجَرْ وَلاَ زَهْرْ (ولا زهرة)
أَمْ تَارِيْه قَامِ الرِّيْحْ لَمَا وَقَّعْ جَمِيْعِ الزَّهْرْ (جميع الأزهار)
زِعِلْتْ عَ الزَّهْرْ قُوْمْ خَسَّرْنِى مِنَ اوَّلْ دُوْرْ
ومثال الأغنية الشعبية التى مطلعها: آه يا لمونى يا لمونى يا لمونى .
أو أحد أدوار "فن المربع" ذائع الصيت فى صعيد مصر:
تَلاَتْ بَنَاتْ كَلَّمُوْنِى (تحدثوا إلىّ)
عَازُوْلِى رَاحْ قَلَّبُوْهُم (قال لأبيهم)
لِيْهُمْ نُهُودْ كَلَّمُوْنِى (كالليمون)
يَا بَخْتِ مِنْ قَلَّبُوْهُمْ (أمسك بهم، وقلَّبهم)
وأخيرًا، فإن "زهر الليمون"/ العنوان، يحيل إلى أغنية حديثة ذائعة، قدمها المغنى محمد منير عام 1977، وكان قد كتبها الشاعر عبد الرحيم منصور عام 1974، ولحنها الراحل أحمد منيب، تقول:
كَامْ عَامْ ومَوَاسِمْ عَدُّو
وِشَجَرِ اللَّمُوْنْ
دَبْلاَنْ عَلَى أَرْضُه
فِيْنَكْ/ بِيْنِى وْبِيْنَكْ
أَيَّامْ وِيْعَدُّو
بِيْنِى وْبِيْنَكْ
أَحْزَانْ وِينْقَضُّو
فِيْنَكْ/ أَنَا مِنْ غِيْرَكْ
أنا مش عاشق ولا مجنون
دَا أَنَا مَطْحُوْنْ
وِالدُّنْيَا دِىْ رَحَّايَة
قَلْبِى حَبِّ الْحُبْ
وِحَبَابِ عْيُونْ
وكُلِّ شِئ بِينْسِرِقْ مِنِّى
الْعُمْرِ مِ الأَيَّامْ
والضَىّ مِ النِّنْى
وكُلِّ شِئ حَوَالَىَّ يِنْدَهْلِى
جُوَّاىَ بَانْدَهْلَكْ
يَا تَرَى بِتِسْمَعْنِى
شَجَرِ اللَّمُوْنْ دَبْلاَنْ عَلَى أَرْضُه.
ولعلنا نلمح ما بين نص الأغنية ونص الرواية من تناص، بدءًا من عنوانهما، وانتهاءً بمضمونهما الإيقاعى، وكلاهما يتنصان مع منظومة الرموز التى تحملها شجرة الليمون وزهرها فى الثقافة، والثقافة الشعبية على وجه الخصوص . وقبل أن نفارق هذه النقطة ، هناك فنون حديثة أخرى ، كالسينما ، قامت باستلهام مفردة " الزهر "، مثال فيلم " معلهش يا زهر "، الذي أنتج عام 1952 ، وقام بتمثيله : شادية ، وكارم محمود ، وزكي رستم ، وسراج منير .
معجميًّا، فإن "الليمون" ثمرة مركزية فى الثقافة، تتعدد سياقات توظيفها الاجتماعى إلى عشرات السياقات فى مجال: المأكل، والمشرب، والطب الشعبى، والأدب الشفاهى، والألوان، والملابس، والعطور… إلخ. وكذلك الـ "زهر"، وهى مفردة غنية بالدلالات، إذا خرجت عن مدار علائقية التركيب الإضافى، فهى تدل ـ فى الثقافة الشعبية ـ على الحظ، والنصيب، وأحوال الدنيا، وانقلاب الحال، واللعب ـ إذا اقترنت بلعبة الزهر، أو الطاولة ـ وتدل على فصل الربيع، والغيطان، والجنائن، والإثمار، وأنواع الزهور ـ إذا اقترنت بالأزهار والورد ـ وتدل كذلك، فى توظيفها الرمزى، على التفتح، والطفولة، والشباب، واليفوع، وحسن المظهر، وأسماء العلم (نساءً ورجالاً)، وأسماء الأماكن.
على كل حال، فإن "زهر الليمون" عنوان لافت، سهل الحفظ والاستيعاب فى ذاكرة المتلقى التى تحوى عددًا كبيرًا من الإحالات إليه. ومن ثم، يمثل هذا العنوان إعلامًا جذابًا للرواية المعنونة به، بما يثيره من طاقات إيحائية هائلة، من قبل القارئ العادى والقارئ المنهجى، على السواء.
بعد اكتمال العملية القرائية، وفى أثنائها أيضًا، نلاحظ أنه فى الثلثين الأول والثانى من الرواية، لا نجد ربطًا ـ مباشرًا ـ بالعنوان الذى يُعنون الرواية، أو إشارات تحيل إليه، وتدل عليه، ولا نمسك بقرينة قريبة أو بعيدة تتصل به؛ أى إن القطاعين الأول والثانى من زهر الليمون/ الرواية، لا ينطويان على أية علامة موصلة بزهر الليمون/ العنوان، إنما يتحقق هذا الوصل فى الثلث، أو القطاع، الأخير من الرواية، والذى يسرد وقائع محطته الأخيرة فى رحلته إلى القاهرة، "حيث بيته وبيت أخيه، وغرفة من حبلت به"(ص101).
بل نضع أيدينا على نص مركزى مضمن فى أحد التقاطعات الإحالية إلى الماضى، يضيئ مقصدية العنونة بهذا العنوان بالذات. يقول الراوى: "تبدأ الرحلة، وتنتهى، عند شجرة الليمون. كانت هى العلامة والراية. بيتهم كان هو البيت المجاور لشجرة الليمون. كانت هى العنوان" (ص140)، حيث كان عبد الخالق طفلاً صغيرًا، تعلق خياله الباكر بشجرة الليمون وبزهرها. كانت هى العلامة الراسخة فى مخيلته، عندما كان أبوه يصحبه قبل الغروب فى نزهة مسائية. أيامها كان أبوه مشغولاً بإكمال بناء البيت (بيتهم). وبعد أن ينصرف العمال الذين يعملون فى البياض، يغتسل جيدًا فى الحمام الذى لم يكتمل بعد، ويرتدى جلبابًا أبيض نظيفًا، ويصحب ولده عبد الخالق فى جولة بعيدة إلى حقول ممتدة حولهم، حتى يصلوا إلى ساقية قديمة قرب السكة الحديد. ولا يحدد الراوى موقع هذه الحقول بالضبط من منزلهم. لكننا إذا تذكرنا وقوع هذا المنزل فى الدقى، بالقرب من الميدان، فإننا نستطيع أن نتخيل مجاورته لمنطقة كوبرى الخشب وفيصل وبولاق الدكرور ـ حاليًّا ـ يفصل بينهما خط السكة الحديد، حيث تقع الدقى شرقًا، والمنطقة ما بين فيصل وبولاق غربًا. حتى الخمسينيات، كان لايزال هناك جزء زراعى من الدقى، وهو الجزء القريب من السكة الحديد، بينما كانت الناحية الغربية مساحة زراعية شاسعة، حتى مطلع السبعينيات، حيث هجم عليها ـ بعد ذلك ـ نمط العمران الأسمنتى العشوائى، والذى ازداد توحشًا فى عقدى الثمانينيات والتسعينيات، ولايزال هذا النمط يواصل زحفه غربى الجيزة، بامتداد بولاق وكرداسة. وشماليها، بامتداد منطقة الوراق ومركز أوسيم. وجنوبيها، بامتداد منطقة المنيب وأبو النمرس.
تبدأ محطة زيارة بيت الأسرة، مع مفتتح الفصل السابع عشر، وتنتهى عند نهاية الفصل الرابع والعشرين؛ أى قبل نهاية الرواية بفصلين صغيرين.
بينما يهيئ عبد الخالق نفسه؛ لكى يقصد محطته، يسرد الراوى مشهدًا ارتجاعيًّا طويلاً (ص102 ـ 105)، يمهد به ـ إيقاعيًّا ـ لمشاهد وأحداث هذه المحطة من رحلة البطل. تظهر فى هذا المشهد صورة منزلهم الذى تحيطه أرض فراغ، وحقول صغيرة من كل جانب، بينما لم يكن السور الذى يحيطه قد اكتمل بعد. وفى الناحية الشرقية من هذا البيت، "سكنت عائلة (أم رضا) فى عشة مصنوعة من الصفيح والطين، مقامة تحت شجرة ليمون كبيرة؛ شجرة فارهة ضخمة كثيفة الأوراق، صحيحـة، كـثيرة الأزهار والثمر، كانت أم رضا تعيش على بيع ثمرها (…) تعيش فى قطعة الأرض هذه كأنها ملكة، مالكة، تحت شجرة الليمون الفارشة على مدار السنة، تتداخل خضرة الأوراق اللامعة مع الزهر الأبيض الناصع مع صفرة الليمون المفرحة عندما ينضج على الشجرة. كانت (أم رضا) تصنع، فى قطعة الأرض الفراغ هذه تحت شجرة الليمون، بهجة ونظافة لا تشوبهما شائبة".
فى هذا الجزء من التقاطع الماضوى، يعكس الراوى صورة أولية لشجرة الليمون وزهرها وثمرها، وموقعها من منزل أسرة عبد الخالق، وعلاقة أم رضا بها. وسوف تتصادم هذه الصورة الحيوية مع صورة شجرة الليمون فى الحاضر، عندما يصل (ص 111) إلى منزله القديم، وهى الصورة التى يمهد لها الراوى فى التقاطع نفسه، فى سياق سرده لصفات رضا، وعلاقة عبد الخالق الحميمة به، والحدث الذى أفقد رضا حياته تحت شجرة الليمون، "عندما عاد فى العصر من المدرسة، كان كل شئ قد انتهى… عثر رضا على قطعة حديد كبيرة أحضرها، وأخذ يعالج فكها تحت الشجرة. لم تكن قطعة الحديد سوى قنبلة قديمة منسية فى إحدى الخرابات، انفجرت لكى تمزق جسـده إلى قـطع"(ص104 ، 105). وفى نهـاية التقاطـع، يسـرد الــراوى هاجـس عبد الخالق وأسئلته: "لم يدر كيف انسحبت أم رضا من قطعة الأرض ، ولا أين اختفت. ولم يعد يذكر متى ذبلــت شجــرة الليمـــون، وفقـدت ما كان فــوقها وتــحتها من بهجة وحياة"(ص 105).
وفى منتصف الفصل الثامن عشر، عندما وصل عبد الخالق ـ بالفعل ـ إلى منزله القديم، ومنزل عائلة أخيه سعيد الآن، يطل عبد الخالق من النافذة. "ومن هناك، رأى ما تبقى من شجرة الليمون. كانت ذابلة محصورة بين العمارات، لم يكن يظهر منها سوى ساق غليظة قديمة خشنة، وأوراق مصفرة ذابلة… سأل وهو لا ينتظر إجابة: هل مازالت شجرة الليمون تطرح؟" (ص111). المفارقة أنه كان يسأل أمه الراقدة، المريضة، التى كانت ـ فى البدء (انظر ص23 ـ 26) ـ سمينة، بيضاء، تسرى فى أوصالها الحياة، يافعة كيفوع شجرة الليمون فى الماضى، لكن أمه الآن تحتضر. وعندما حاولت إجابته، "مدت رقبتها، وهمهمت بكلام كثير"، فلم يسمع إجابة، ولم يفهم شيئًا، فقد صارت أمه فى منطقة البرزخ بين الحياة والموت، مثلما صارت شجرة الليمون الماثلة أمامه الآن عبر النافذة، متحجرة، ذابلة، لا هى حية، ولا هى ميتة.
وفى الفصل الثالث والعشرين، تتصاعد المركزية الرمزية لشجرة الليمون، لنعيد توزيعها على دلالات الرحلة المركبة لعبد الخالق فى المكان والزمان، فى الماضى والحاضر، وتمثيلها لأسطورة الواقع التاريخى:
"انتزع نفسه من البيت بصعوبة، هاربًا إلى لامكان. وعند الباب الخارجى وجد طارقا ينتظره لكى يسير معه حتى ميدان الدقى.
جاء غريب، وغريب يعود؟.
بحث عن شجرة الليمون، فلم ير سوى أطراف منها بعيدة، تظهر خلف البيت بين العمارات. هل يريد أن يسمع حديثه عن شجرة الليمون، عن زهرها الأبيض المتساقط على الأرض؟ هل يستطيع أن يتحدث معه فى ضوضاء الشارع المتزايدة عن سر تلك العلاقة بينه وبين الزهرة البيضاء؟ سيحسب هذا رومانتيكية عرجاء… هو يرى أن يتحدث عن الانتخابات، وعن أحداث الصعيد، وعن حركة الطلبة فى أسيوط. هذا حقه، وهذا مصيره. أما عبد الخالق، فقد كان يرد عليه وعقله غارق مع زهرة الليمون، أريجها الذى لم يشمه اليوم ؛ أريج الماضى، والأرض، والوطن، رائحة رضا، وأم رضا، والعشة الرطبة، والأرض الخضراء. ألن يستطيع أن يدفع عن نفسه أبدًا هذه الخيالات؟" (ص138 ـ 139).
ثمة تناقض صارخ بين طارق وعبد الخالق، برغم أن الأول يمثل امتدادًا جيليًّا للثانى، حيث تبدو مقولات طارق محسوبة على جيل اليسار الجديد. ويبدو التناقض أكثر وضوحًا فى سلسلة الاتهامات التى أطلقها طارق على جيل عمه من اليسار القديم، فهو ـ فى تصوره ـ جيل دعائى، زائف، فاشل، لم يحقق شيئًا للوطن وللناس، أكثر عناصره من تجار السياسة. وبرغم وعى عبد الخالق الذى لاحظناه سابقًا فى الرواية بمصداقية هذه الاتهامات، فإنه يشعر بانكسار شديد، وبانغلاق الدائرة على إيقاع حزين، إنْ بسبب منطق التعميم الذى يتحدث به طارق (هل لاسم طارق دلالة على الطرق، والضرب، والعنف الرمزى، أم له دلالة ـ إذا انتبها إلى منطوقه الشفاهى فى العامية القاهرية ـ على التشكل "الطارىء"، العابر، غير الأصيل؟) أو بسبب إحساس عبد الخالق بانتهاء الحياة إلى لا شىء، برغم تضحياته، ورغم ضريبة السجن والاعتقال التى دفعها؛ بسبب إيمانه بالمبادئ التى كان يحلم بتحققها فى الوطن، وبين الناس.
يبدو جيل طارق عمليًّا، وأكثر واقعية، حيث يعتمد أسسًا علمية ومنطقية مباشرة فى حركته، ونظرته إلى العالم، وتحليله للواقع. ومن ثم، فهو يتنصل من الحس الرومانسى الذى كان يحكم نظرة جيل عمه إلى العالم. ويرى عبد الخالق أن هذا حقه ومصيره، لكن عبد الخالق لم يزل متمسكًا بالقبض على جمرة أسطورته التى ترمز إليها شجرة الليمون، والتى تكثف منظومة علاقاته بالماضى الذى تساقطت فيه الأحلام، كتساقط زهر الليمون على الأرض، وهو نفسه الماضى اليافع الجميل، كيفوع شجرة الليمون وبهاء منظرها فى الماضى، علاقاته بالحاضر المتحول إلى زمن الانفتاح وقيمه الاستهلاكية، المتشاكل مع حاضر الشجرة المخنوقة بين العمارات الجديدة. اكتمال ذبولها وانقطاعها عن الإثمار، كاكتمال شيخوخته، وانقطاعه عن الحلم من جديد، كذلك علاقة المشابهة بين حاضر الشجرة وماضيها من جانب، وحاضر الأم المريضة وماضيها الحيوى من جانب آخر، وعلاقة الشجرة بمشروع المنزل الذى بدأه أبوه الذى رحل ولم يكمله لدور ثانٍ، وهو مشروع يوازى وعود الثورة فى العدل والحرية، والتى لم تكتمل بالتحقق والإنجاز، بعد موت عبد الناصر. علاقتها برحلة عبد الخالق التى بدأت بـ "زهر الليمون"/ العنوان، لتنتهى عند شجرة الليمون/ الرمز المركب. ولعل السارد كان واعيًّا باصطفاء صورة شاعرية كثيفة لشجرة الليمون وزهرها، فى نهاية رحلة عبد الخالق، وقبل ختام الرواية بصفحات قليلة، ليردها إلى شاعرية العنوان، وإلى كثافته الرمزية، كرد العجز على الصدر فى الشعر العربى القديم:
"أريجها صافٍ يسافر فوق الحقول. قال له أبوه: بعد أن ينتهى عمَّال البياض، سنشرع فى زراعة الحديقة. هل يجب أن تعمل معى فى إصلاح الأرض والزرع؟ كان غارقًا فى حلم نبيل، لوحت الشمس وجهه، وحطت على جبينه سعادة التحقيق والبناء.
سأله: هل ستزرع لنا شجرة الليمون؟
داعب رأسه قائلاً: تكفينا ليمونة أم رضا.
أمضيا النزهة يتحدثان عن أنواع الأشجار والزهور، وعن المقاعد الخشبية التى سيقيمونها فى الحديقة. اشترى أبوه كرنبة كبيرة من فلاح فى الحقل. وقبل أن تغرب الشمس الحمراء فى الأفق، استدارا عائدين يخترقان الحقول، وجهتهما البيت وشجرة الليمون. عندما اقتربا من عشة أم رضا، قامت المرأة من أمام النار التى أوقدتها، وحملت لهما حبات ليمون خضراء نضرة زكية الرائحة. كانت الأرض أمامها مفروشة بزهر الليمون المتساقط، أبيض، أصفر القلب، مهدر، وهى تدوس عليها بأقدامها الحافية الكبيرة. أما على الأغصان، فكانت الأزهار قوية بيضاء، كأنها تاج فوق الحقول"(ص140 ـ 142).
إنها موطن طفولته وألقه، ومخزن أحلامه وأشواقه، وكعبة طوافه وارتحاله. وهو ـ برغم كل شيء ـ لا يزال قادرًا على التمني، والتعلق بأسطورته في الوطن. وقد نطق عبد الخالق بأحلامه كثيرًا في هذه الرواية، غير أن ضجيج التحولات كان يخنق صوته، ويخنق أحلامه، مثلما تخنق البنايات الأسمنتية شجرة الليمون. لكن حسبه أنه لا يزال يهجس بأحلامه ( أحلامنا ) في العدل فوق هذه الأرض. تلك هي الرسالة القارة في "زهر الليمون"، وإن لم تكن باديةً بوضوح.



الهوامش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث فى الأدب الشعبى، مصر.
* علاء الديب، زهر الليمون، مختارات فصول، هيئة الكتاب، القاهرة، 1987. وقد فضل الباحث الإحالة إلى صفحات الرواية، داخل المتن، لكثرة الإحالات، ولتيسيرها.
1ـ راجع :
أ ـ سيد البحراوى، العروض وإيقاع الشعر العربى، سلسلة دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993.
ب ـ البحراوى، الإيقاع فى شعر السياب، دار نوارة للترجمة والنشر، ط1، القاهرة، 1996.
ج ـ البحراوى، موسيقى الشعر عند شعراء أبولو، دار المعارف، القاهرة 1991.
2ـ أورين أدمان، الفنون والإنسان، ترجمة: مصطفى حبيب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2001، ص119.
3ـ محمد صابر عبيد، القصيدة العربية الحديثة بين البنية الدلالية والبنية الإيقاعية، جامعة تكريت (العراق)، بدون تاريخ، ص2، 3.
4ـ محمد فكرى الجزار، العنوان وسيميوطيقيا الاتصال الأدبى، سلسلة دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص69.
5ـ راجع:
أ ـ بول شاؤول، علاقة القصيدة العربية الحديثة بالفنون السمعية والبصرية، إيقاعات (القاهرة)، الكتاب الأول، إبريل 1993، ص ص 256 ـ 267.
ب ـ مــحمد السرغيــنى، إيقاعية الشــعر العربى، مجلة العلوم الإنسانية (المنامة)، العدد1، شتـاء 1998، ص 277.
ج ـ محمد عياشى، نظرية إيقاع الشعر العربى، المطبعة العصرية، تونس، 1976.
د ـ مجدى وهبه، معجم المصطلحات العربية فى اللغة والأدب، مكتبة لبنان ، بيروت، 1973، ص 71.
6 ـ ستانسلاس جويار، نظرية جديدة فى العروض، ترجمة: منجى الكعبى، تقديم: عبد الحميد الدواخلى، سلسلة دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1996، ص9.
7ـ راجع:
أ ـ أمينة رشيد، تشظى الزمن فى الرواية الحديثة، سلسلة دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.
ب ـ رشيد، المفارقة الروائية والزمن التاريخى، فصول (القاهرة)، المجلد الحادى عشر، العدد الرابع، شتاء 1993.
ج ـ أحمد الزغبى ، فى الإيقاع الروائى، نحو منهج جديد فى دراسة البنية الروائية، دار الأمل، عمان، 1996.
8ـ راجع :
أ ـ البحراوى، الإيقاع فى شعر السياب، مرجع سبق ذكره، ص9.
ب ـ محمد غنيمى هلال، النقد الأدبى الحديث، نهضة مصر، القاهرة، 1997، ص435.
ج ـ شكرى الطوانسى، مستويات البناء الشعرى عند محمد إبراهيم أبو سنة، سلسلة دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998،ص 19.
د ـ كامل محمود الصياد، موسيقى الشعر عند شعراء المهجر، رسالة ماجستير مخطوطة، جامعة القاهرة، كلية الآداب،فرع بنى سويف، 1997،ص229.
9ـ نقلاً عن: البحراوى، الإيقاع فى شعر السياب، مرجع سبق ذكره، ص12ـ13 .
10 ـ مجموعة نقاد، القصة ، الرواية، المؤلف: دراسات فى نظرية الأنواع الأدبية المعاصرة، ترجمة وتقديم: خيرى دومه، مراجعة: سيد البحراوى، دار شرقيات، القاهرة، 1997، ص12 ـ 13.
11ـ رشيد ، المفارقة الروائية ….، مرجع سبق ذكره، ص171.
12ـ راجع: نازك إبراهيم عبد الفتاح، النغمة والتنغيم فى مجال الفونولوجيا فوق الجزئية (السوبراسيجمنتية) فى العربية والعبرية، مجلة كلية الآداب (جامعة القاهرة)، العدد 58، مارس 1993.
13ـ الجزار، مرجع سبق ذكره، ص18.
14ـ محمد صالح الضالع، قضايا أساسية فى ظاهرة التنغيم فى اللغة العربية، المجلة العربية للعلوم الإنسانية (جامعة الكويت)، العدد السابع والستون، السنة السابعة عشرة، صيف 1999، ص ص 9 ـ 30.
15ـ الجزار، الخطاب الشعرى عند محمود درويش، دار الكتب الجامعية، شبين الكوم، 1998، ص17.
16ـ رشيد، المفارقة اللغوية …، مرجع سبق ذكره، ص171.
17ـ نعتمد ـ إجمالاً ـ على منهجية "محتوى الشكل" التى طرحها الدكتور سيد البحراوى. وقد سبق للباحث أن شارك ـ مع زملائه ـ فى تطبيقها على الرواية إبَّان مرحلة الليسانس (قسم اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1994). انظر المراجع الأساسية لهذا المنظور المنهجى، فى:
أ ـ البحراوى: محتوى الشكل فى الرواية العربية، 1ـ النصوص المصرية الأولى، سلسلة دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1996.
ب ـ البحراوى، الحداثة التابعة فى الثقافة المصرية، ميريت للنشر والمعلومات، القاهرة، 1999.
جـ ـ البحراوى ، المدخل الاجتماعى للأدب: من علم اجتماع الأدب إلى النقد الاجتماعى الشامل، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2001.
18ـ رشيد، تشظى الزمن….، مرجع سبق ذكره، ص11.
19ـ راجع:
أ ـ رشيد، المرجع نفسه.
ب ـ عبد الملك مرتاض، فى نظرية الرواية: بحث فى تقنيات السرد، عالم المعرفة (الكويت)، العدد 240، ديسمبر/ كانون الأول، 1998، ص ص 199 ـ 235.
20ـ رشيد، تشظى الزمن…، مرجع سبق ذكره، ص36.
21ـ البحراوى، الحداثة التابعة...، مرجع سبق ذكره، ص ص 173 ـ 181.
22ـ جابر عصفور، مفتتح، فصول (القاهرة)، شتاء 1993، ص ص 5 ـ 9.
23ـ عبد الله بوطيب، إشكاليات الزمن فى النص السردى، فصول (القاهرة)، صيف 1993، ص129.
24ـ محمود أمين العالم، ثلاثية الرفض والهزيمة، قراءة فى ثلاث روايات لصنع الله إبراهيم، دار المستقبل العربى، القاهرة، 1983.
25ـ راجع قصة "الحصان الأجوف"، في : علاء الديب ، زهر الليمون وقصص أخرى ، ط1 ، دار سعاد الصباح ، القاهرة ، 1993 ، ص 103 .
26ـ المرجع نفسه ، ص 122 .
27ـ نفسه، ص122.
28ـ لمزيد من التفاصيل حول هذا المعتقد الشعبى، راجع: نبيلة إبراهيم، اليمين والشمال فى التراث العربى، التراث الشعبى (بغداد)، العدد الثالث، السنة الثامنة، 1977، ص ص 7ـ12.
29ـ البحراوى، محتوى الشكل….، مرجع سبق ذكره، ص25.
30ـ راجع: البحراوى، التبعية الذهنية فى النقد العربى الحديث، أدب ونقد (القاهرة)، أبريل 1994.
31ـ البحراوى، محتوى الشكل … ، مرجع سبق ذكره، ص53. وراجع أيضًا: البحراوى، البحث عن المنهج فى النقد العربى الحديث، دار شرقيات، القاهرة، 1993، ص114 ـ 115.
32ـ عبد الإله بلقزيز، العولمة والممانعة، دراسات فى المسألة الثقافية، منشورات رمسيس، الرباط، 1999، ص51.
33ـ انظر الوصف نفسه للمقهى، فى: علاء الديب، وقفة قبل المنحدر، المركز المصرى العربى، القاهرة، 1995، ص38.
34ـ غادة نبيل، الذاكرة ـ الصوت الحزين فى "مدن غير مرئية"، فصول (القاهرة)، المجلد الحادى عشر، العدد الرابع، شتاء 1993، ص110.
35ـ راجع للروائى جمال الغيطانى: "شطح المدينة". وللروائى صنع الله إبراهيم، روايتيه: "تلك الرائحة"، و"نجمة أغسطس".
36ـ بى . غريمال، الإنسان والأسطورة، ت: فاضل السعدونى، الثقافة الأجنبية (بغداد)، السنة 11، العدد2، 1991، ص39.
37ـ نبيلة إبراهيم، الرمز والأمثولة فى التعبير الشعبى، ألف (القاهرة)، العدد الثانى عشر، 1992، 123.
38ـ غريمال ، مرجع سبق ذكره، ص40.
39ـ راجع طرائق توظيف المفردات الأسطورية سرديًّا فى : فرج ياسين، توظيف الأسطورة فى القصة العراقية الحديثة، دائرة الشؤون الثقافية، بغداد، 2000.
40 ـ يُمثل "الغول" مفردة راسخة فى المعتقدات الشعبية، يدور حولها عدد كبير من الحكايات الشعبية، وغيرها من فنون الأدب الشعبى. و"الغول" نوع من الجن، مضمَّن فى معظم الأساطير العربية القديمة ، وهو الجن الذى يتلون فى ضروب من الصور والثياب، ويأتى ذكرًا أو أنثى، والأكثر يأتى فى صورة أنثى، كما نلاحظ فى المعتقد الشعبى المصرى. وتتغول أى تتلون وتتشكل بصور شتى، أو لأنها تغتال. راجع: أحمد الحوفى، الحياة العربية من الشعر الجاهلى، نهضة مصر، القاهرة، د. ت، ص463.
41ـ بلقزيز، مرجع سبق ذكره، ص66.
42ـ البحراوى، الحداثة التابعة…، مرجع سبق ذكره، ص64 ـ 66.
43ـ بلقزيز، مرجع سبق ذكره، ص66.
44ـ البحراوى، زهر الليمون أسطورة واقعية، إبداع (القاهرة)، فبراير 1987.
45ـ علاء الديب، وقفة قبل المنحدر، مرجع سبق ذكره.
46ـ رشيد، ارتباك الذات الباحثة عن الحداثة، ما بعدها وما قبلها، قضايا فكرية (القاهرة)، الكتاب رقم 19/20، أكتوبر 1999، ص231 ـ 232.
47 ـ عبيد، مرجع سبق ذكره، ص3.
48 ـ الجزار، العنوان ... ، مرجع سبق ذكره، ص 15.
49 ـ راجع الفصول التطبيقية فى البحراوى، محتوى الشكل…، مرجع سبق ذكره.
50 ـ الجزار، العنوان ... ، مرجع سبق ذكره، ص 21.
51 ـ نقلاً عن : السابق، ص54.
52 ـ نقلاً عن: السابق، ص54.
53 ـ زهر الروض: إحدى شخصيات السيرة الهلالية، وهى جنية، أو ساحرة، تزوج منها "مخيمر" ؛ أحد أبناء أبى زيد. وكان مخيمر يحرمها، ولا يقبل مضاجعتها. وتأتى حكايتها فى سياق البحث عن أبو زيد وأولاده (رزق وشبل وشبلان)، و"حسن ابن سرحان"، إثر اختفائهم، عقب خوضهم لإحدى الحروب، حيث كشفت "زهر الروض" ـ لكونها ساحرة ـ عن مكانهم فى سجن شخص يُدعى "حمَّاد الأندلسى"، بعد أن تعهد لها كبار الهلايل بوصل مخيمر لها.
رواية : حسنى جاد على هيكل، 75 سنة، يقيم بقرية النخيلة، مركز أبو تيج، محافظة أسيوط.
جمعها الباحث فى إبريل 2001.
54 ـ المصدر نفسه.



#محمد_حسن_عبد_الحافظ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعر مدينة خربانة؛ السيرة الشعبية وقضايا النوع الأدبي
- طــريـق الــهـلالـيـة
- الثقافة الشعبية والمجتمع المدني؛ نحو مدخل فولكلوري للتنمية
- حرية الشفاهي ؛ حرية المكتوب


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حسن عبد الحافظ - محتوى الشكل في الرواية المصرية، علاء الديب نموذجًا