أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال الدين أحمد عزام - تي















المزيد.....



تي


جمال الدين أحمد عزام

الحوار المتمدن-العدد: 4000 - 2013 / 2 / 11 - 15:32
المحور: الادب والفن
    


تي

ممددة على المصطبة خارج البيت الصغير ترتجف في ظل الكرمة الجافة. جاء بقصعة ماء بها قطعة الكتان، جلس لصق جنبها، عصر القطعة، بلل بطرفها شفتيها المتشققتين ثم وضعها على رأسها، ألصق راحة يمناه بقلبها..اصمدي يا تي! سأذهب غدا لأجلب الدواء. تهدج صوتها مع ارتجافها..لم أعد قادرة على التحمل، أشعر ببرد شديد. رفع الكتانة عن رأسها و قد سخنت و جبينها يتفصد عرقا..لا تستسلمي!..لقد آذيتك بما يكفي يا توت..ستؤذينني بحق إن استسلمت..لا أعلم ما أصابني، يبدو أني غدوت عجوزا. ابتسم..لست عجوزا، أنت في الخمسين..ألم أحذرك حين أصررت على الزواج بي، ألم أقل لك ستمرّضني بدلا من أن تحيا شبابك..كل ذلك من أجل حمى عابرة..لقد طالت هذه المرة..لذا سآتيك بالدواء حتى لا تعاودك، ما يعطلني هو انتظار أختك، فلا بد أن أتركك في يد أمينة ريثما أعود به من منف..يالها من مسافة!..لا شيء بأيدينا، الطبيب الذي سيصفه هناك، لا تقلقي سأنهي رحلتي بأسرع ما يكون فقد استأجرت ناقة سريعة..أليست تلك التي كلفتنا كل ما لدينا من شعير..حياتك أهم من كل شعير طيبة..لا أعلم ماذا حل بالناس! أصابهم جشع شديد..إنها المجاعة. ثم سهم..تأخر حابي كثيرا هذه المرة. أخذت تسعل..حسنا، كفاكِ كلاما. أمسكت بيده..أرجوك لا ترحل، أخشى أن أموت قبل أن تعود. دمعت عيناه..كلا، لن تموتي..أنا لا أخشى الموت فالعالم الآخر ينتظرني، إنما أخشى فراقك. ثم استدركت..أظن أن لي مكان هناك، أليس كذلك؟ ستكون كارثة إن لم أنتقل. مسح على رأسها..و إن لم تفعلي فمن إذن؟!..سامحني! قصرت في حقك، أنا أنانية، التهمت شبابك. و أخذت تسعل. رفع رأسها يساعدها لتشرب ثم جعلها تستلقي. هدأت عنها الحمى قليلا فنامت.
***
أطل فجر اليوم التالي. عاود إخراجها من البيت؛ حملها إلى المصطبة. كانت هذه رغبتها؛ كانت تخشى الرحيل في مكان مغلق. جاءت أختها و صاحب الناقة في إثرها، أعطاها بلطة..أعلم أنا أفقر من بالقرية و لكن احترسا من اللصوص؛ فقد يؤذونكما قبل أن يعرفا ذلك. أخذتها منه..لا تقلق..حسنا، انتبهي إليها..أتوصني بأختي!..سأرحل الآن..ألن تودعها!..كلا، لا توقظيها. امتطى الناقة و لم يكد يتحرك إلا و نادته بصوت مرتعش..توت! لا تعد بعد موتي! التفت إليها من فوق السنام..سأعود يا عمري و سنحيا بعدها عمرا مديدا، سأعود إلا أن يأكلني ذئب أو يقتلني قاطع طريق. ثم صاح في الناقة فانطلقت في غمرة بكائها.
تعبت الناقة و قد اشتد القيظ...ما هذه الحرارة! ليس هذا جو هذه الفترة من السنة، ألا توجد أية شجرة هنا، لقد نال الجفاف من كل شيء. رفع القربة ليشرب...ويلي! القربة جفت.
أجلس الناقة و نزل إلى النهر الذي أصبح جافا تقريبا إلا من خيط ماء يسير مترنحا بين الحصى و يوشك أن ينقطع. وضع رأس القربة في الماء فغطاها بالكاد، ملأها، صعد من المجرى فلم يجد الناقة!!
***
كان القيظ شديدا و قعر النهر جاف بالكلية. لم يعد معه سوى قربة الماء الموشكة على الإنتهاء. ما زال يمشي في المجرى و الشمس المستعرة تلفحه. بدأت خطاه تتباطء و مشيته تترنح. لا يتوقف عن المشي رغم أن التعب يوشك أن يهلكه...لا بد أن أستمر، أخشى ألا أدرك أول بدر في شمو، لم يبقى سوى أسبوعين، أصر طبيب القرية أن آتي بالدواء قبل ذلك الموعد، فهذا آخر ما تستطيعه من صمود، كنت سأصل في أسبوع، و الآن بعدما سرقت الناقة ستتضاعف المدة، بئسا لك يا من سرقتها! ستهلكني حتى قبل أن أصل إلى نصف المسافة. شرب آخر ما في القربة.
أوشكت الشمس على الغروب و بدأت البرودة تشتد. سقط من شدة التعب و الجوع و العطش، زحف إلى شجرة جافة، استند إلى جذعها، أخذ يرتعش من البرد...ردائي الصوفي ضاع مع رحالي! لعنك الإله أيها اللص القاتل. أخذ يهرف..تي! لا تموتي! لا تـ...!
فتح عينيه فطالعه وجه امرأة..أفق! ما بك! أغمضهما ثانية ثم سمع نداء.. يا أبي! تعال! إلى هنا. رفعت رأسه مرة أخرى، قرب أباها القربة من فمه، فتح عينيه و أخذ يشرب بجنون..تريث يا بني، لا تقلق، الماء كثير. ثم وجه حديثه لابنته الشابة..اجلبي رداءي. نهضت و ذهبت صوب الفرسين المربوطين في شجرة قريبة، عادت برداء من جلد الجاموس، ألبسه الشيخ الرداء و هي تشعل النار.
كانوا يأكلون الخبز الجاف و النار تلمع في الأعين..قل لي، ما حكايتك يا بني، من أنت؟ و من أين؟ و إلى أين تذهب؟..أنا توت من طيبة و كنت مسافرا إلى منف لجلب الدواء لزوجتي. ثم دمعت عينه و تهدج صوته..و لكن يبدو أني لن أدركها، ستموت بعد أسبوعين. ربت الشيخ على كتفه..لا تقلق يا بني، سنصحبك معنا، فنحن ذاهبان إلى هناك أيضا، تفاءل فشمو يوشك على المجيء..شكرا لك، لم أكن لأتعبكما لولا ذلك اللص الأحمق الذي سرق دابتي و مؤونتي. تبادل الأب و ابنته نظرة متوترة ثم صمتا و لم يعقبا.
كان الشيخ قد دخل القرية و تركهما على مشارفها على ضفة النهر الجاف. كانت جالسة في ظل شجرة لم ينل الجفاف من أوراقها تماما و كان واقفا أمامها يمد بصر إلى منتهى المجرى. كانت تطالع جسده الأسمر الممشوق المفتول العضل و ساقيه القويتين. لم يكن يرتدي سوى إزاره الكتاني و الشب شب. كان يحدثها دون إلتفات و هي هائمة في جسده..هل سيتأخر أباك كثيرا؟ لم ترد و فوجئ بيديها تمسح كتفيه فالتفت إليها منتفضا..أفزعتني! ثم أبعد يديها..هل سيتأخر؟ زفرت في ضجر..كلا، سيقايض ما سر...! أقصد ما اشتريناه و يعود، التاجر في انتظاره. ثم مدت يدها نحو إزاره فابتعد كالملسوع..ماذا تفعلين؟!..أجردك من إزارك، هيا فليس أمامنا الكثير. كادت تنزع رداءها لولا أن التفت عنها و ابتعد. طاردته..ماذا؟! ألا أعجبك! نظر إليها، انتبه إلى جمالها الباهر و شبابها المتفجر و أنوثتها الطاغية، أسرع الخطو نحو الفرس، انطلقت وراءه في غضب..هل تريد أن تقنعني أنك لست جائعا بعد ما حرمتك تلك العجوز لسنوات! التفت إليها محتدا..إياك أن تذكريها بسوء!.. لماذا تفعل ذلك؟..لأني أخشى غضب الإله، ماذا سأفعل حينها! لا بد أن أشهد أني لم أقتل و لم أسرق و لم أزني. ضحكت ساخرة..هل ما زلت تصدق هذا الهراء؟!..العالم الآخر أصبح هراء!..أي عالم آخر! لا يوجد سوى هذا العالم..ماذا! و لم نحيا إذن؟!..نحيا لنستمتع. و أمسكت بعضديه فخلصهما..كالبهائم! نحيا كالبهائم و لا ننتقل! نفنى هنا و يموت ذكرنا و كأننا لم نأتي، نضحي بيارو!..ليس هناك يارو، ليس هناك نعيم، ليس هناك إله، ليس هناك سوى هذا العالم القذر، تأكل أو تؤكل، هكذا نحيا..أنا لا أحيا هكذا، تي علمتني...! ..سيقول تي مرة أخرى! تي ليست هنا، أون الفاتنة فقط هنا..ليست هذه حياة..قل لي كيف نحيا إذن؟! هل تعلم كيف نجوت! كيف أكلت و تدفئت! لولا أنا سرقنا ما أكلنا..ماذا! طعامكم مسروق!..ماذا تظن إذن في هذه المجاعة! أدخل إصبعه في فمه ثم انحنى يقيء. صاحت..ماذا تفعل أيها الأخرق! حسنا تريد أن تكون مثاليا فليكن، أنا أنقذتك من الموت فأقل واجب أن ترد و لو قدرا يسيرا من الجميل، أليس هذا هو الحق؟! رفع رأسه..بل أنقذني الإله..ما زلت غبيا، أي إله هذا الذي تصر عليه! أي إله هذا ليتركنا نموت جوعا! أنا من أنقذك و ليس إلهك، أنا إلهك. نظر خلفها ثم صاح..احترسي! كان ذئبا متسللا، هاجمها، حاول تخليصها منه إلا أنه عقرها في رجلها.
***
غسل الجرح و ضمده و جاء أبوها..ماذا حدث؟!..عقرها الذئب. جلس الأب إليها و تحسس جبهتها..إنها محمومة! أخذ توت يبرد جبهتها بكتانة مبللة. بعد فترة هدأت الحمى فأردفها الأب خلفه على فرسه و امتطى توت الأخرى ليواصلا الرحلة.
كانا يبطئان كيلا تتألم و بينما حل الغسق كانت تحدثه في وهن..أخبرني عن تي قليلا..ألا تكرهينها! استغرب الأب و هي تجيبه..ربما! لأني لا أعرفها، صفها لي. تهلل وجهه..في نظري هي أجمل من رأيت، تفتحت عيني على جمالها، كنت في العاشرة و كانت في الثلاثين، وقتها كانت تتردد على أمي المريضة و كنت أتحدث معها، كان هناك الكثير الذي لا أعرفه، فأمي كانت مريضة منذ ولدتني، لذا علمتني كل شيء، كل ما أعرفه تقريبا؛ القراءة الكتابة، الصلاة، كل التعاليم التي ورثتها عن جدها و التي ورثها عن جده، كانت بمثابة أمي طوال تلك الفترة، ثم لما بلغت العشرين طلبتها للزواج، حذرتني من كبر سنها و عقمها لكني أصررت فقبلت بصعوبة بالغة، و بذا أذاقتني الحياة حسا بعدما أذاقتني إياها روحا؛ احتوتني و كأنها من دمي؛ و كأنها أختي، ثم لما مرضت و ضعفت أشعرتني بذلك الشعور الذي ظننت أني سأحرم منه؛ شعرت كأنها ابنتي التي أسهر على رعايتها. سعلت ثم قالت بتقطع..صدق ظني، قصتك غير عادية..صدقيني، عادية جدا و بسيطة جدا؛ إنها قصة رجل يحب..يال حظك، لم أشعر بعد بهذا الحب. سأل أبوها..و لكني لا أفهمك، إذا كنتما حريصان على الانتقال للأبدية، فلم تمزق نفسك لتأتيها بالدواء؟! ضحك توت..إنها الأسئلة، أتذكر! لا بد أن ننفي أي إيذاء لإنسان أو حيوان أو نبات، لذا لابد ألا نؤذي أنفسنا و نعرضها للهلاك، صحيح أننا هنا منذ ألف سنة نعتقد أن الموت ليس عقبة في طريق الحياة لأنه بوابة الانتقال إلى الحياة هناك؛ الحياة الحقة، و لكنا نعتقد أيضا أن ذلك لن يتحقق إلا إذا إستمتنا من أجل أن نحيا حياة سعيدة هنا. قال الرجل واثقا..هذا الكلام ليس من هنا..بالطبع، هي تعاليم النبي، تي تعلم الكثير عنه..أعتقد أني سمعت عن آثاره، و لكن ذلك من قديم. ثم اضطربت فرس الأب لما أخذت أون تتشنج فتوقفا. أنزل الرجل ابنته، حملها توت إلى صخرة قريبة، بسط الأب رداءه، أرقدها توت واضعا القربة تحت رأسها..انتبه إليها يا بني ريثما آتي بالماء من هذه القرية.
كانت تتشنج ثم تهدأ، أخذت تبكي..إنه الإله ينتقم مني لأني كافرة. مسح توت على رأسها..لست كافرة، لو كنت كذلك لما اعتقدت أنه يعاقبك، أنت فقط تصبين غضبك عليه و تلومينه على ما أصابك من أسى، إنها المجاعة الملعونة. اشتد بكاؤها..لن أنتقل!..بل يمكنك الانتقال..كيف و قد قتلت و زنيت و سرقت ! أترى أبي؛ هذا الشيخ الوقور، هو من أفسدني. تقطع صوتها من بكائها..هو الذي جعلني أشغل المسافرين حتى يسرقهم، و في مرة اكتشف أمره أحدهم فقتلته. ثم أخذت تشنجاتها تزداد و أسنانها تصطك فأمسك بها ليهدئ التشنج..سامحيه! سامحي نفسك! سامحي الجميع! هذا الندم يعني أنك تطهرت. سكن جسدها..أعلم أنه أرسل إلي هذا الذئب المريض ليميتني و ينتهي ذكري..بل أرسله إليك ليحييك..هل سيسامحني؟!..بالطبع فهو يحبك، اطلبي منه! مدت بصرها إلى السماء..يا أيها الإله الواحد، سامحني! سامحني! ثم انتفض جسدها نفضة أخيرة.
***
كان الأب يبكي و توت يلقي التراب على الجثة. انتهى من الدفن، ربت على كتف الأب ثم خاطبها..انتقلي في سلام.
دخلا القرية و استظلا بحائط أحد البيوت..لا أعلم ماذا أفعل يا بني! أريد أن أكفر عن خطيئتي، لقد آذيتها كثيرا..هذه البضاعة المسروقة هي كفارتك..كيف؟!..بالطبع أنت لا تذكر ممن سرقتها..و إن تذكرت، لا أعرف كيف أصل إليهم..حسنا، سنوزعها بالكامل على أهل القرية..و ماذا سنأكل؟! كيف سنكمل الرحلة؟!..لن يخذلنا الإله أبدا.
أخذوا يجوبون القرية يوزعون شعيرا و عسلا و سمكا مملحا و بقلا و أصوافا و كتانا. وصل ما فعلا إلى عمدة القرية فطلبهما..شكرا لكما، لا أحد يفعل ذلك هذه الأيام. ثم نادى أحدهم فجاء و معه شاة..تفضلا، أهل القرية علموا أنكم ستمضون بلا مؤونة فقدموا هذه الهدية. نظر الأب إلى توت و قال له..صدقت يا بني، لن يخذلنا الإله.
استغرب الأب..ماذا تفعل؟..أستعد لذبحها..إنك تطعمها! أخذ توت يداعب الشاة و هي تأكل ثم أخرج السلاح من جرابه و سحبه سحبة سريعة تحت إبط قائمتها اليسرى الأمامية. لم تشعر الشاة بشيء و ظلت تأكل ثم توقفت بعد لحظات و استلقت على جانبها. سلخ توت الشاة و قطع اللحم و قدده. اقترب الفجر فجمع اللحم و ملأ القراب و انطلقا و بعض أهل القرية يودعونهما.
وصلا الليل بالنهار فلم يتبقى على بدر شمو الأول الكثير. بدا على الأب المكلوم أنه فقد الهدف تماما بعد موت ابنته. كانت الرحلة هي سلواه الوحيدة؛ إنقاذ تي أصبح هدفه هو أيضا. أقبلا على أولى قرى الشمال فإذا برجلين يقتتلان على مشارفها أمام المعبد. دخل توت بفرسه بينهما يفرقهما بينما نزل الأب من فوق فرسه، صاح بهما..توقفا! ساعده توت عندما نزل هو الآخر من على فرسه و حال بينهما..ماذا تفعلان؟! أشار أحدهما إلى الآخر..إنه من بدأ..أنا! بل أنت. قاطعهما توت..حسنا، إهدأا، من أنتما؟..أنا حت خادم هذا المعبد. و قال الآخر..و أنا خاف، خادم معبد منف. سخر حت..خادم بتاح المكفن..نعم، صحيح يا عابد البقرة. كادا يشتبكان مرة أخرى فمنعهما توت.. كفاكما! ثم أحاطهما بذراعيه..تعاليا، يبدو أنكما جائعان، أعرفكما بنفسي أنا توت و هذا الرجل الطيب جر، نحن مسافران إلى منف. أخرج لهما صرة..تفضلا، كلا معنا لحما مقددا.
كان الأربعة متحلقون حول النار لصق حائط المعبد يأكلون و كان توت يحكي لهما عن تي كعادته..أتعلمان، كانت تقول لي دائما لا تمت يا توت إلا إذا أدركت أن موتك ستبكي له الأرض و السماء. قال حت..ما هذا الكلام؟! أنت من طيبة، أليس كذلك؟...بلى..أنت من أتباع آمون إذن..كلا.عقب جر..إنه من أتباع ذلك النبي القديم. انطلق خاف..أتقصد ذلك الذي حاك الكتان و كتب على البردي؟! أجاب توت..نعم هو و لكني لست عبدا له؛ إنما أعبد الإله..و أنا أعبد الإله أيضا، أراه في بتاح؛ في قوة الخلق و الإبداع. زاحمه حت..و أنا أراه في حتحور؛ العطاء و الأمومة، أشعر بموسيقاها تعم السماء؛ أم حور؛ عين الصقر التي تعلم خائنة الأعين. ثم سأل توت..و أنت، فيما تراه. نظر بعيدا..أراه في كل الأشياء؛ في كل ما خلق؛ في الصقر يرى ما يخفى علينا، في الجعران لا زوجة له و لا ولد، في البقرة حنان و عطاء، في آتون الدفء، في حابي التدفق و الأمل، في الزهرة، في البسمة، في تي. عقب جر..كلامك جميل. قال حت..هذا كلام الإله. و ثنى عليه خاف..نعم هو ذاك. سكت توت هنيهة ليردف..قولا لي، أتعلمان سر خلافكما! أجاب خاف..نعم، دينه غير ديني. ضحك توت..حسنا، قل لي، لمن تسجد؟ لبتاح؟!..كلا بالطبع، للإله الواحد..و أنت يا حت، لمن تسجد؟ لحتحور؟!..كلا، ما سجدت إلا للإله الواحد..إذن، فكرا، إن كان أحدكما يراه في الإبداع فهل ليس للإله عطاء الأمومة؟! و إن كان الآخر يراه في الأمومة، فهل ليس للإله قوة الإبداع. سكت الاثنان مستغربان فبادر..أفيقا أيها الأحمقان! إنها لعبة الكهان، كلنا يعبد نفس الإله الواحد و نقدس صفاته هم اللذين جعلوها آلهة بل و زوجوهم و جعلوا لهم بنين و بنات؛ حتحور أم حور و حور ابن أوزير ثم دلسوا و جعلوا إلها محليا كآمون مثلا إله كيميت كلها بأن جعلوه ابن رع الأكثر شهرة و هكذا، لا يتوقفون عن الخداع أبدا، فكرا! مئات الآلهة في كيميت و لكننا نعبد إلها واحدا! كيف يتأتى ذلك؟! إنهم هم في كل عصر يستغلوننا باسم الدين ليخضعونا و ليجمعوا القرابين، قولا لي، كيف و نحن في تلك المجاعة يجمعونها! قال خاف..إنها أوامر ابن الإله..و ماذا يعرف الملك عنا! كيف صوروا له أنه ابن الإله؛ خليفته الخالد في ملكوت الأبدية حتى و إن مات الناس في زمنه و لم يطعمهم و لم يكسهم! كيف يكون ابن الإله عاقا لأبناء مملكته! هم عزلوه عنا و زينوا له تفرقنا بين المعابد حتى لا يتجرد من بنوته للإله إذا شهد غضبنا منه لتقصيره في حقنا؛ ليكون غضبنا فقط فيما بيننا؛ نتقاتل على لا خلاف. قال حت..هذا هو فعلا! ثم استدرك..و لكن كيف قلت لي أن هذا العلم وصلك؟!..من تي، نقلته عن جدها و جدها عن جده، و لكنهم بالطبع يعزلون عنا كل علم بالماضي كما حرمونا كل علم آخر. ثم بدا عليه الغضب..و حق الإله، إن ضاعت كيميت فسيكون ذلك بسببهم إذ يموتون بالأسرار كلها و يتركون لنا الزيف كله. قال خاف..حدثنا عن تي مجددا. تنهد ثم أردف..ماذا أقول عنها، هي كل حياتي، الفرحة و الأمل و الحكمة، كانت تخبرني عن كيميت لما كان الناس متحابون متعاضدون، لم يكن أحدا يبالي بمعبد الآخر، كان ذلك لما كان ابن الإله يخشاه و لا يخضع للكهان، كان حابي يفيض و يجف لكنهم كانوا كما هم؛ لا شيء يهزمهم و...! نهض جر فجأة مرتعدا مقاطعا توت الذي استغرب..ماذا هناك يا جر؟! رد ضاغطا على أسنانه..اصمت! لم يكد توت يلتفت ناظرا إلى ما أرعب الرجل حتى وجد الحراب مرفوعة في وجوههم.
***
صاح الرجل فيهم..هيا، أعطونا ما معكم. رد توت و سن الحربة يكاد يمس رقبته..حنانيك يا هذا، ليس معنا شيء إلا قربة ماء. أشار الرجل إلى أحد مرافقيه فقلب في الأمتعة..صدق الشاب يا أخن. فعقب بدوره..إذن سنأخذ الفرسين. صاح توت..كلا، أرجوكم، لابد أن أنقذ تي. أنزل أخن حربته..ماذا قلت؟! تنقذ من؟!..تي، زوجتي. ثم خرق صمت الليل بكاء رضيع. بادر توت.. ما هذا؟ جاء أحد رجال أخن بخرقة ملفوفة من الصوف قائلا..لا أعلم ما العمل؟! أخذها أخن منه موجها حديثه لتوت..إنها تي؛ ابنتي، ماتت أمها من الجوع منذ يومين و لا أجد من يرضعها، فقد جفت أثداء النساء من المجاعة. قال توت و بكاء الرضيعة يمزق القلب..و ماذا كنت تطعمها خلال اليومين؟! ..كانت شاة سرقناها، كنت أسقيها لبنها لكن هؤلاء الأغبياء... و أشار إلى مرافقيه الثلاثة و قد أطرقوا..لم يتحملوا الجوع فذبحوها. انطلق حت قائلا..أنا أعرف خادما للمعبد، أعتقد أن لديه بقرة. أشار أخن لرجاله فأنزلوا حرابهم و هو يقول..أرجوك، خذني إليه.
حل الصبح و كان أخن يسأل توت و هو يسقي الرضيعة..هل سيفيدها هذا الحليب؟..سيسد جوعها إلى حين و لكن لابد من مرضعة، ربما ستجد في منف واحدة..قلت لي إنك ذاهب إلى منف لإنقاذ زوجتك!..نعم، فهناك طبيب لديه دواء مرضها. ثم انطلق كالعادة يحكي عنها.
أصر أخن و رفاقه كما أصر كلا من حت و خاف على مشاركة توت و جر رحلتهم إلى منف. كان لكل حجته إلا أن قصة تي التي يرويها توت كانت تنتظم كل الحجج فقد بات أمر السفر إلى منف لإنقاذها بديهيا.
كانوا منطلقين تحت شمس الوادي المجدب و قد أردف توت حت خلفه كما أردف جر خاف خلفه و البقية كل يمتطي فرسه. كان الوقت يداهم توت فبدر شمو الأول بقي عليه تسعة أيام.
مر يومان، وصلا مشارف منف، أراحوا الأفراس و استظلوا بسقف جريدي لبيت من اللبن. أخذ توت يتأمل السقف و أحد رجال أخن يستنكر رائحة المكان. سأل أخن..ماذا يا توت! أراك تتأمل السقف..نعم فهو يذكرني بالجريد الذي سددت به بين أغصان كرمتنا التي جففتها المجاعة..هل لديكم كرمة؟..نعم، زرعتها من أجل تي و بنيت تحتها مصطبة لصق حائط بيتنا لتجلس و تستظل، فهي تعشق الخضرة؛ تحب النبات الأخضر، كانت تخبرني أن شجرة الخير قد تجف حينا إلا أن جذورها تجد الماء دوما، كانت تقول لي ذلك عندما تجدب الأرض و تجف الكرمة، كانت تعلمني الأمل..قل لي و ماذا تحب تي أيضا..تحب الخير، النماء، الحصاد، مازلت أذكر يوم حصاد الشعير الذي كنت أزرعه لأربي الجاموس، كان ذلك قبل أن يحل الجفاف و نرتحل إلى طيبة؛ يومها كان حابي يترقرق جاريا بعذوبته و شمس الغسق تضفي حمرة على السنابل الذهبية بينما تي تتمشى في غمارها لا يفصلها سوى القليل عن الضفة، تهب الأنسام فتتوقف، تغمض عينيها و تروي صدرها من الهواء المنعش و هي تتمايل مع السنابل و يتراقص شعرها المجدول، ثم تفتح عينيها لتعاود التمشي و هي تتأمل القرص الأحمر يغوص في النخيل.
صاح أحدهم فجأة..الطاعون! انطلق أخن و معه توت نحو الصوت. وجدا حت يشير إلى داخل البيت. نظروا فوجدوه مفترش بالجثث.
***
قال أخن..لا تخافوا، ليس طاعونا، لقد ماتوا جوعا. قال توت..كيف عرفت؟! نظروا حيث ينظر فوجدوا هرا يتمسح بباب البيت. قال أخن..إنه هنا، بس؛ قوة الحماية من الطاعون. تنفسوا الصعداء ثم سأل خاف في خبث..قل لي يا أخن، هل تسجد لبس؟! فقال قاطعا..كلا، ما سجدت إلا للواحد الأحد فضحك حت و توت و أخن لا يفهم شيئا.
كان توت مطرقا و هو يسير عائدا نحوهم و هم في استقباله. لم يكن الأمر يحتاج لسؤال إلا أن الجميع تركوا أخن يسأل..ماذا حصل؟! أجاب توت متحسرا..مات الطبيب من الجوع!
***
كان توت في طريق العودة و قد أعطاه أحد أقرباء خاف ناقة مجهزة. لم يكد يخرج من المدينة حتى سمع ضجيجا يأتي من خلفه. التفت فوجد أخن و جماعته و خاف و جر و معهم آخرين لا يعرفهم يأتون إليه، فلما وصلوا بادر أخن..سنعود معك..ماذا! قال آخر..نعم، علمنا أنك ستدعو الإله. أكمل آخر..سندعوا معك. قال أخن..نعم، لن تدعو في معبد طيبة لوحدك. بدت عليه الموافقة لولا أن استدرك..و لكن هل ستتحمل الرضيعة؟! ابتسم أخن.. نعم، فقد وجدت مرضعة. و أشار إليها..ها هي، ستأتي معنا. قالت..هيا! لننقذ تي! قال..و لكن هل سندركها قبل البدر؟ قال أحدهم..نعم، سندركها. قال آخر..سنصل الليل بالنهار. و آخر..سنتساعد. و أردف آخر..أنا سأجمع الحطب. و تداخلت الأصوات..و أنا سأوقد المشاعل ليلا..و أنا و من معي سنحرس و نقاوم اللصوص و الضواري..و أنا سـ... ترقرق الدمع في عيني توت و الكل يعرض خدماته ثم سكت الجميع لما صاح..حسنا، هيا بنا!
كان الركب يتزايد كلما مر على قرية من القرى في طريق العودة بعدما ذاعت قصة تي في ربوع كيميت. لم يبقى على الوصول إلى طيبة سوى مسافة يوم. كان الليل قد جن و أول بدور شمو يلمع في السماء. كان الموكب يحمل المشاعل متجها نحو المعبد يتقدمهم توت. فوجئ خدام المعبد بالعدد الهائل، حاول الكهنة منعهم فلم يستطيعوا، ملأوا البهو، أطفأوا مشاعلهم و اكتفوا بسنا القمر. سكت الجميع، رفع توت رأسه للسماء و أخذ يبتهل و صوته يصدي في الوادي..يا إلهنا، جئناك من كل أرجاء كيميت، جئناك من كل المعابد، لم يحقر أحد أحدا و لم يتعالى أحد على أحد، جئناك لم نسجد إلا إليك، فأنت الواحد الأحد الذي كان قبل الزمان و المكان و لم يكن معه أحد، لم تلد و لم تولد و ليس مثلك أحد. ثم تهدج صوته.. يا إلهنا! جئتك معهم لتنقذ تي فانقذها، إليك أستشفع بماء الوضوء حملته للإمام و تبعته في الصلاة، أستشفع بإخلاصي لك، بحبي لك، أستشفع بكل هؤلاء؛ اجتمعوا على حبها، توحدوا من أجلها و يرجون نجاتها، يا إلهنا جئناك لا قربان لدينا إلا هذه القلوب الصافية فهل تقبل قرباننا! ثم خر لذقنه ساجدا فسجدوا جميعا خلفه.
كان الصبح يطلق أنفاسه الأولى الوادعة و خيوط الشمس البكر تضيء حواف البيوت الساكنة و أغصان الشجر الجاف. اقتربوا من بيت لدى الربوة. قال أخن..بيتك جميل يا توت. لم يسمعه توت الذي اتسعت حدقتاه ثم صاح..ما هذا؟! و انطلق يسبقهم و أخن يناديه..يا توت! ما بك؟!
أخذ الموكب يسرع للحاق به ثم توقف لما رأوا ما رأوا..تي! ما هذا؟! أنت واقفة في استقبالي! أمسك بكتفيها ثم ضمها..كيف هذا؟! هل شفيت؟! فارقت حضنه و نظرت في عينيه و وجهها يضج بالفرحة..لقد شفيت يا توت! لا أعلم كيف حدث ذلك! كنت مساء البارحة ممدة على المصطبة كالعادة و كانت أختي تجلب ماء من البئر، أحسست فجأة بزوال الحمى و بانتعاشة غريبة، بدأت أرى بوضوح حتى أني رأيت ذلك البرعم الأخضر الصغير خارجا من أحد أغصان الكرمة، ثم بدأت العافية تدب في جسدي، اكتمل البدر البارحة و لكنك لم تجئ، فانتظرتك في الخارج من وقتها. ثم نظرت وراءه..من هؤلاء؟!..هؤلاء أحبابك، ابتهلوا للإله لتنجي. ثم اقترب أخن حاملا تي الصغيرة و قد بدت عليه نفس البهجة التي غطت على الجميع..بارك فيك الإله، الشكر له أن شفاك، تفضلي. ناولها الرضيعة و نادى المرضعة فخرجت من بين الوجوه السعيدة المتحلقة حولهم..هذه ابنتي، لن أجد أفضل منك لتربيها، و هذه مرضعتها. حملت تي الرضيعة و رفعتها إلى أعلى فضحكت ضحكة صغيرة ضحك لها الجميع. توقفوا عن الضحك لما سمعوا صوتا يتعالى قادم من أعماق القرية فالتفتوا فإذا بغلام يصيح فرحا و هو يعدو نحوهم..جاء حابي! جاء حابي!
تمت



#جمال_الدين_أحمد_عزام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الجلاد
- فستان الزفاف
- العصفور الأحمر
- ثورة يناير و نظرية الفوضى 1
- ثورة يناير و نظرية الفوضى 2
- وفاء
- رؤية
- زاد الرحلة
- الفنار
- الثورة و الثورية و الثوار


المزيد.....




- السجن 18 شهراً لمسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-
- رقص ميريام فارس بفستان جريء في حفل فني يثير جدلا كبيرا (فيدي ...
- -عالماشي- فيلم للاستهلاك مرة واحدة
- أوركسترا قطر الفلهارمونية تحتفي بالذكرى الـ15 عاما على انطلا ...
- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جمال الدين أحمد عزام - تي