أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - مريوان وريا قانع - الديمقراطية والفتوى …… العراق و السيستاني















المزيد.....



الديمقراطية والفتوى …… العراق و السيستاني


مريوان وريا قانع

الحوار المتمدن-العدد: 1149 - 2005 / 3 / 27 - 13:36
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


من الكردية : د. روشت رشيد
على كل نظام سياسي ان يجيب على ثلاثة اسئلة مهمة وهي : من يحكم؟ الى من تستمع السلطة؟ عن فوائد و مصالح اية قوى يدافع الحكام؟

اختار علماء المجال السياسي و الفلاسفة المهتمون بالفلسفة السياسية نموذجين رئيسيين للاجابة على تلك الاسئلة :-

الاول ,هو ذلك النموذج الذي يؤكد على حكم الأغلبية في تشخيص جوهر نظام الديمقراطية. في هذا النموذج يكون الجواب على السؤال الاول كالاتي : الذين يجب ان يحكموا في النظام الديمقراطي هم اولئك الذين يفوزون باكثرية الاصوات في الانتخابات, اي يجب ان تكون السلطة هي سلطة الاكثرية, والطرف الذي يحكم يجب ان يكون الطرف الحائز على اكثرية الاصوات.

وفي جواب السؤال الثاني, يؤكد هذا النموذج على ان السلطة يجب ان تستمع الى تلك الاكثرية وان تلبي قرارات تلك الاكثرية التي تكونت. وجوابا على السؤال الثالث يقول : السلطة الحاكمة تدافع عن مصالح اولئك الذين صوتوا لاجلها وجعلوا تلك القوة تحرز اغلبية الاصوات.

اذن الذين لايحصلون على اغلبية الاصوات, اي الذين هم الاقلية, يصبحون معارضة, والى حين قيام انتخابات اخرى يقومون بدور المعارضة, و يراقبون بشكل مستمر تصرفات و تحركات و قرارات تلك الاكثرية الحاكمة.

هذا الفهم هو ابسط انواع الفهم تجاه الديمقراطية واكثرها شيوعا وانتشارا, ويسمى هذا النموذج الديمقراطي في الادب السياسي ب(نموذج الأغلبية) (Majoritarian model).

اما النموذج الثاني فعبارة عن تلك الاجوبة التي تؤكد على مسألة الاتفاق :

في هذا النموذج الخاص تكون الاجوبة للاسئلة الانفة ذكرها مختلفة في بعض المستويات اختلافا كبيرا عن الاجوبة السابقة. يؤكد هذا النموذج في جوابه للسؤال الاول على ان الديمقراطية لاتستطيع ان تبقى فقط في مستوى الاقلية والاغلبية, صحيح ان الحصول على اكثرية الاصوات ضروري لتحديد الفائز في الانتخابات, ولكن تحديد الفائز لا يعني تهميش الاقلية في عملية الحكم, واعطائها دور المعارضة فقط. لذا وجوابا على السؤال الاول لا يرضى هذا النموذج بحكم الاغلبية فقط, بل يطالب بمشاركة الاقليات ايضا في الحكم والقرار. وهذا يجعله يتقدم في جواب السؤال الثاني خطوة الى الامام وان يجعل طلب الاستماع الى الاغلبية والاقلية في ان واحد استراتيجية العمل الديمقراطي. وهذا يعني ان النظام الديمقراطي لايجوز ان يقبل بان يستمع الى الاغلبية فقط. وعلى المستوى الثالث, يرى هذا النموذج ان القرارات التي تتخذ يجب ان تكون في مصلحة وفائدة اكثر عدد ممكن من الناس, وليس فقط الذين صوتوا للاغلبية. يسمى هذا النموذج من الديمقراطية ب(نموذج الاتفاق) (Consensus model).

مما لا شك فيه هو ان كلا النموذجين يعملان عن طريق الانتخابات, ووجود الاغلبية في كلا النموذجين شرط رئيسي للعمل الديمقراطي. في الانتخابات, يجب ان يكون واضحا كم هو عدد الاصوات التي حصلت عليها كل قوة, والى اي قوة اعطى الناس الجزء الاكبر من ثقتهم. الفرق بين النموذجين هو ان الاول ينهي العملية الديمقراطية عند (صنع) الاغلبية, لكن في النموذج الثاني لاتنتهي الديمقراطية بخلق تلك الاغلبية. ففي نموذج الاتفاق, ولكي يكون لدينا نظاما ديمقراطيا, لا يكفي فقط ان تحصل احدى القوى على اكثرية الاصوات وان تشكل الحكومة و يعطى للاقلية دور المعارضة وان لا يكون في مقدورهم المشاركة في القرار السياسي, فالحصول على اكثرية الاصوات (في نموذج الاتفاق) هو الحد الادنى من الشروط التي يجب ان تتوفر للحكم, ولكن ليست هي جميع الشروط.

اذا كان النموذج الاول يضع زمام جميع السلطات بيد الاكثرية, فان الثاني يعطي مدى و ابعاد المشاركة في السلطة الى قوى واطراف اخرى ايضا. اذا كان النموذج الاول يقذف بالاقلية الى خارج القرار, اي اذا كانت (ديمقراطية اندماجية), إذا كان الأول نموذجا لقرار الاغلبية من طرف واحد وبانفراد, فالثاني هو نموذج المشاورة المستمرة بين الاكثرية والاقلية. في النموذج الاول اذا كانت الاقلية في الاسفل, فانها في النموذج الثاني تمارس جزء من السلطة. لنترك هذه المقدمة النظرية العامة ولنأتي بأمثلة لكل واحد من النموذجين.



2-1 ديمقراطية الاغلبية

كما قلنا, فان القوة التي تحرز اكثرية الاصوات في هذا النموذج هي التي تستلم السلطة وهي التي تحكم. و في اكثر الاحيان يتجسد هذا الحكم في شكل وجود دولة مركزية ,و القوة التي نالت الاغلبية هي التي تدير مؤسسات تلك الدولة, والدولة المركزية لاتضبط فقط مؤسسسات الدولة في المركز وحسب, بل تضبط المؤسسات التي هي خارج المركز ايضا, وكذلك المؤسسات التي هي داخل الاجزاء والاقسام المختلفة للبلد.

من هنا, فان نموذج ديمقراطية الاغلبية نموذج لسلطة موحدة وغير متجزئة, ونموذج لسلطة مركزية ايضا اي انها سلطة تصدر القرار من الداخل لكل الاجزاء, كما تضبط كل شيء من الداخل

اوضح مثال لهذا النموذج في التاريخ الديمقراطي هو نظام البرلمان الانكليزي. في انكلترا تكون معظم السلطة التنفيذية بيد الحزب الذي يحرز اكثرية الاصوات, والحزب الذي يخسر الانتخابات يدخل المعارضة. الحزب الفائز يشكل الحكومة ويحكم جميع انحاء البلد, والبرلمان الذي وظيفته مراقبة و توجيه و محاسبة الحكومة, هو الاخر يتالف اكثريته من الحزب الذي قد نال اغلبية الاصوات. هنا لاتحدث مشاكل كبيرة بين الحكومة والبرلمان. في انكلترا هناك حزبان رئيسيان, في كل مرة يفوز احدهما بالانتخابات ويستلم السلطة, لذا فالبعض يسمي هذا النظام بنظام الحزبين. النظام الانكليزي الذي هو نظام الثنائية الحزبية, نظام بسيط وسهل, يستطيع فيه الناس ان يختاروا بين احد الحزبين الرئيسيين بسهولة, والحكومة التي تتشكل بما انها تتالف من حزب واحد فانها تكون اكثر ثباتا و اقل مشاكلا و أهدأ من الحكومة التي تشكلها مجموعة احزاب مع بعضها البعض.

التطبيق الحقيقي لنظام (ديمقراطية الأغلبية) تتطلب مجموعة شروط خاصة يمكن اختصارها على النحو التالي :

1- يكون هذا النظام موجودا في اكثر الاحيان في الاماكن المتشابهة من الناحية الثقافية, والتي لا يوجد فيها جماعات و عصابات دينية و عرقية وقومية مختلفة ومتضادة.

2- الاحزاب السياسية الموجودة هي احزاب شاملة و تكون موجودة داخل القوى المختلفة وفي جميع انحاء ذلك البلد, اي ليست احزابا تعبر عن ارادة وامال جزء معين من البلد فقط او تتحدث باسم جماعة عرقية وثقافية معينة داخل البلد.

3- لا توجد اختلافات جذرية كبيرة وأساسية بين الأحزاب, فهي متفقة مع بعضها البعض حول الأشياء العامة والاستراتيجية

4- لا توجد اختلافات كبيرة و متعددة بين الاجزاء المختلفة للبلد, وان وجدت فهي صغيرة جدا, أي ليس الحال ان يكون جزء من البلد متخلفا أو فقيرا جدا ويكون الجزء الاخرأوالاجزاء الاخرى متقدمة وغنية جدا.

كل هذه الشروط تجعل الحزب الذي يخسر الانتخابات والذي يخرج لفترة معينة الى خارج دائرة الحكم, تجعله لا يخاف من ان يقوم الحزب الاخر بتنظيم البلد بشكل يكون مضادا مع جميع توجهات وامال و متطلبات الحزب الخاسر ومعطياته الفكرية والايديولوجية.

لو اخذنا انكلترا مرة اخرى كمثال, نرى انه ليس مهما جدا ان كان الفائز بالانتخابات هو حزب العمال ام حزب المحافظين, لان هذين الحزبين قريبين من بعضهما البعض في نواحي كثيرة, ولا يوجد اختلاف جذري وكبير واساسي في برامجهما. أي ليس الحال ان يكون احدهما مؤمنا بالعلمانية ويكون الاخر من دعاة خلط الدين بالسياسة, او ان يؤمن احدهما بان يتحول النظام السياسي الانكليزي الى نظام فدرالي ويكون الاخر ضد هذا الرأي. باختصار, في هذا النظام يكون الحزبان متفقين على المسائل والمباديء الاولية, ولايكون هناك اختلاف بينهما.

ولكن ماذا لو لم تكن هذه الشروط موجودة؟ جوابا على هذا السؤال نستطيع القول ان في غياب الشروط المذكورة لا يمكن ان نفكر في تطبيق نموذج سلطة الاغلبية. اي اذا كان نظام الحزبين غير موجودا في مجتمع ما, أو اذا كان معقدا, او مختلفا من حيث العرق واللغة والثقافة والديانة, واذا كانت هذه الاختلافات متجسدة في هيئة الحزب والمؤسسة والارادة السياسية الخاصة, باختصار اذا لم يكن لدينا ظروف انكلترا بل كان لدينا ظروف بلجيكا, فماذا نفعل, واي نماذج الديمقراطية نحتاج؟

واذا لم نكن اصلا نعيش في اوربا بل كنا في الشرق الاوسط, وفي الشرق الاوسط كنا في احدى اعقد دوله, اي في العراق, كيف نتصرف و ماذا نفعل؟

بغض النظر و بالسكوت عن مجموعة اختلافات كبيرة جدا, نستطيع القول ان العراق من حيث التكوين العرقي والثقافي واللغوي والديني هو بلجيكا الشرق الاوسط, بلد مليء بالمشاكل العرقية والدينية والثقافية واللغوية المختلفة, وهذه المشاكل ليست وليدة اليوم بل تعود الى بدايات نشوء هذه الدولة, ومنذ زمن بعيد هي متجسدة في تكوين الحركة السياسية, كما أن لديها مطالب سياسية ايضا.

باختصار, العراق الذي ليس بريطانيا ولا امريكا, الذي يوجد فيه عشرات الاحزاب وليس فقط حزبين, الذي نشئت احزابه على اساس العرقية والديانة والثقافة واللغة وليس على اساس المواطنة, الذي لديه تاريخ مديد من اللامساواة والاضطهاد والتمييز وليس معاملة الكل بالتساوي, والتاريخ هذا قد خلق لدى قوى وجماعات عديدة ذاكرة مجروحة وليس ذاكرة متجانسة ومتشابهة, اقول اذا كنا امام هذا التعقيد التاريخي الكبير, كيف نتصرف وماذا نفعل؟

ان اول شيء يجب الاستغناء عنه هو نموذج ديمقراطية الاغلبية, اي ترك ذلك النموذج الذي يسلم جميع السلطات بيد الاغلبية. ففي العراق يجب ان لا نفكر بان من نال اكثرية الاصوات في الانتخابات هو الذي يجب ان ياتي الى الحكم, والذي لم ينل الاكثرية يبقى في المعارضة.

كلنا نعلم ان معادلة الاغلبية والاقلية في العراق هي معادلة مليئة بالتعقيدات والتناقضات السياسية, فمسالة الاكثرية والاقلية في العراق ليست مسالة حسابية, بل هي مسالة سياسية مهمة وتحتاج الى حل حقيقي. التكوين العرقي والديني والثقافي العراقي يضع بعض القوى دائما أمام احتمالية حصولها على اغلبية الاصوات, واخرى امام احتمالية بقائها اقلية الى الابد, اي ان يكون البعض دائما في السلطة والبعض الاخر دائما في المعارضة. من هنا فان ترك نموذج ديمقراطية الاغلبية هي الخطوة الاولى التي يجب ان تتخذ في هذا البلد. والخطوة الثاتية هي اكتشاف شكل ملائم لتطبيق ذلك النموذج الديمقراطي الذي هو (نموذج الاتفاق). أي أن العراق خارج الديمقراطية ليس له اي مستقبل, وكل (أنصاف) السياسيين أولئك, وأنصاف الكتاب وأنصاف الفلاسفة الذين يدعون الى حكم ديني والى معاداة الديمقراطية ويطالبون بان يبدلوا المعرفة السياسية الحديثة ونماذج الديمقراطية بمعرفة الحوزات الدينية وحكم العارفين, يريدون ان ينقلوا هذا البلد من ماساة وظلام الى ماساة وظلام اخر



2-2 نموذج الاتفاق

اذا كانت احدى مميزات نموذج ديمقراطية الاغلبية ارغام الاقليات على دور المعارضة واللامشاركة في القرار السياسي, فان الميزة الرئيسية لنموذج الاتفاق هي اعطاء فرصة المشاركة السياسية لكل تلك القوى والجماعات والاطراف التي يؤثر القرار السياسي في البلد على حياتها الفردية والاجتماعية. بمعنى اخر, فان كل من يؤثر عليه القرار السياسي في البلد يجب ان يكون له صوت في اتخاذ تلك القرارات, حتى ولو كان في موقف الاقلية.

عندما نستعمل مصطلح الاقلية, يجب ان ندرك حقيقة ان انواع الاقلييات مختلفة, فهناك بعض الاقليات التي تكون وقتية, اي هي اليوم اقلية ولكن قد تصبح غدا اكثرية, مثل حزب العمل البريطاني و حزب المحافظين, ففي كل مرة يصبح احدهما الاقلية والاخر اغلبية. لكن هناك اقليات لن تستطيع ان تصبح اغلبية ابدا, مثل الفرنسييون في بلجيكا, او الكرد في العراق, او المسلمون في الهند, هذا التمييز مهم للتفكير في نموذج تلك الديمقراطية التي يجب ان تنتخب في بلد ما.

في اوروبا يوجد بين ايدينا نموذج مهم لاقلية خسرت الانتخابات باستمرار وذلك بسبب كونها اقلية, وهم كاثوليك ايرلندا. في ايرلندا بما ان البروتستانت هم الاغلبية لذا نراهم دائما يفوزون في الانتخابات, وهذا قد خلق شعورا لدى الكاثوليك بانهم خارج السلطة ولا يمكن لهم ان يقولوا اي شيء عن البلد الذي يعيشون فيه, هذه الحالة والتي كانت مصدر اعتراض دائم وجماعي للكاثوليك, اتخذت في الستينات شكل مقاومة مسلحة, والاقتتال المسلح الموجود بين الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا هو نتيجة لتلك الحالة. واضح ان في حالة كهذه تكون (سلطة الأغلبية) قد فقدت كل سمة ديمقراطية و تحولت الى (دكتاتورية الأغلبية), لذا فان الاتفاق السياسي الذي حصل سنة 1998 بين الكاثوليك والبروتستانت قد كان على اساس مبدأ توزيع السلطة بينهم.

بشكل عام, فان نموذج الاتفاق موجود في البلدان المعقدة من الناحية العرقية, والتي توجد بين أجزاءها وجماعاتها المتعددة اختلافات دينية وثقافية ولغوية كبيرة, وتلك التي بدلا من ان تكون مجتمعاتها متناغمة ومتشابهة, هي مجتمعات متعددة اللغات والثقافات والاعراق, والتي بدلا من ان يكون فيها الحزب السياسي الشمولي اسلوبا رئيسيا للتنظيم السياسي, تقوم احزاب محلية ودينية وعرقية بهذا الدور. لذا يكون ولاء الافراد للقوى الدينية والعرقية والعنصرية والايديولوجية والثقافية اكثر من ولاءها لفرضية سياسية عامة بحيث تكون حاضرة بين الاجزاء المختلفة للبلد وبين الجماعات المختلفة بنفس القدر, وان يعطي للكل نفس المعنى. في تلك البلدان تكون للجماعات المختلفة احزابها السياسية الخاصة بها وتتجمع في اطار منظمة خاصة وتملك اعلاما ونشرا وطباعة خاصة, كما تمارس الاشياء التي تراها بانها عرفها وثقافتها وعالمها الرمزي الخاص بها.

في اوروبا, بلجيكا و السويد هما نموذجان لتلك البلدان, في هذين البلدين يعمل النظام الديمقراطي على أسس (نموذج الاتفاق) وليس على اساس نموذج الاغلبية. ففي بلجيكا الفلامبيون هم الاغلبية والفرنسيون هم الاقلية, لو كان النظام السياسي لهذا البلد يعمل وفق نموذج حكم الاغلبية, فهذا يعني ان الفرنسيين سوف يخسرون جميع الانتخابات في البلد ويجب ان يقوموا بدور المعارضة على الدوام. من ناحية, هذه مسالة لا يقبل بها فرنسييو ذلك البلد , ومن ناحية اخرى, ومن منظور (نموذج الاتفاق), فهذا ليس استنتاجا ديمقراطيا, بل ينتج ظروفا للانفجار الاجتماعي والسياسي والعرقي. لذا فان الديمقراطية البلجيكية وبعكس الديمقراطية الانكليزية ليست ديمقراطية الاكثرية ولا تتبع (نموذج الأغلبية), بل تسير على نموذج الاتفاق.

في بلجيكا, بدلا من ان يحكم حزب واحد باسم الاغلبية , تتجمع في اكثرية الاحيان مجموعة من الاحزاب في حكومة واحدة و تحكم مجتمعة, والكابينات الحكومية التي تتشكل في ذلك البلد يكون فيها عدد الوزراء الفلامبيين الذين يتحدثون بالهولندية بقدر عدد الوزراء الفالون الذين يتحدثون بالفرنسية, اي ان يكون هناك اتفاق مسبق على عدد الوزراء الذين يمثلون كلا من الجماعتين العرقيتين في الحكومة المركزية, بغض النظر عن من سيفوز باكثرية الاصوات ومن سيصبح اقلية.

كما نرى فان نموذج الاتفاق لا يجبر اقلية معينة على ان تبقى اقلية الى الابد, بل يجعلها جزءا من السلطة, وبهذا يوسع من حجم الاغلبية الحاكمة لا ان يبقيها في حدود تلك الاغلبية التي تخلقها الاكثرية في عدد السكان.



2-3 العراق والديمقراطية

بعد هذه المقدمة النظرية وتلك الامثلة الانفة شرحها يتضح لنا ان بلدا كالعراق لو اراد ان يصبح بلدا ديمقراطيا, فلن يفيده نموذج ديمقراطية الاغلبية بالشكل الموجود في انكلترا او امريكا, لان معظم الشروط التي يتطلبها ذلك الضرب من الديمقراطية غير متوفرة في هذا البلد.

فمعظم الاحزاب السياسية العراقية وخاصة تلك التي لها ثقل سياسي واضح, هي احزاب عرقية ودينية و قائمة على هذين الاساسين. جميع الاحزاب الكردية (بما فيها الحزبين الكبيرين), المجلس الاعلى, حزب الدعوة, واحزاب اخرى كثيرة, كلها احزاب وتجمعات اقليمية وعرقية ودينية.

ومن حيث اللغة, فالعراق مقسم الى عدة لغات مختلفة, فيه اكثر من حركة قومية بأكثر من مخيلة وتوقع سياسي واحد, ولا يوجد فيه الحد الادنى من الاجماع السياسي والاجتماعي والثقافي, كما ان لديه تاريخ مديد من التمييز والاقتتال الدموي والعنف, وهناك ذاكرة مجروحة تربط بين الاجزاء المختلفة لهذا البلد, والهوية العراقية في مستوى ضعيف جدا, كما لم ولا توجد فيه فكرة المواطن المتساوي. باختصار فان العراق عبارة عن (جغرافية سياسية) من دون (قومية سياسية). هذه الأشياء كلها قد خلقت ظروفا لا يمكن القفز عليها, كما لايمكن الاعتقاد بان فكرة المواطنة في هذا البلد سوف تجمع كل الاطراف حولها وتنهي المشاكل الثقافية والسياسية واللغوية والدينية والعرقية.

لذا فان التفكير في تطبيق نموذج ديمقراطية الاغلبية في هذا البلد, والتفكير في صدور القرار مرة اخرى من الداخل الى الاجزاء, و وصول قوة او مجموعة قوى شمولية الى الحكم, وابقاء الاقليات اقليات على الدوام, لن يثمر شيئا سوى تعميق المشاكل القديمة وخلق مجموعة مشاكل جديدة, وتهييئة ارضية لتجدد الحروب الدموية.

قد يكون الشيء المفرح هنا هو ان اكثرية اللاعبين السياسيين العراقيين يعرفون هذه الحقيقة ويدركون مدى خطورتها, لذا فان قرار فدرالية العراق, كما يقال, قرار يتفق عليه الجميع (مع أن أصواتا كثيرة تقول بان كل ما قيل عن الفدرالية لحد الان هي وعود شفوية ولم يوضع شيء منها على الورق).

إذن فالنموذج الذي يمكن ان يكون ملائما للعراق هو نموذج ديمقراطية الاتفاق, ولكن السؤال الذي يجب ان نساله لانفسنا هو : ما هي جذور هذا النموذج في الحاضر السياسي العراقي؟

لنبدا من نقطة ان يكون نموذج ديمقراطية الاغلبية في العراق نموذجا فدراليا, ليس فقط لان نموذج هذا الضرب الخاص من الديمقراطية في معظم البلدان هو نموذج فيدرالي فحسب, بل لان الفدرالية هي مطلب شعب كردستان, و قرار اعطاه برلمان كردستان الشرعية, ولحد لهذه اللحظة لا توجد اية اشارة توحي بان الحزبين الكبيرين في كوردستان قد تراجعا عن هذا المطلب.

من الواضح ان فلسفة الفدرالية عبارة عن تقسيم السلطة والسيادة, اي ان الفدرالية تاتي لتقسم السلطة على الاجزاء المختلفة لبلد معين ويمنح كل جزء قدرا من السيادة. كما ان تقسيم السلطة وتقسيم السيادة عمليتان سياسيتان, وهذا يعني ان السبب الذي يجعل المجتمعات تفكر في نظام الفدرالية هو وجود معضلة سياسية لديها تاتي الفدرالية لمعالجتها. ليست مهمة الفدرالية ان تدير بلدا من الناحية الادارية والعملية بصورة اسهل وبشكل احسن, فالفدرالية ليست فلسفة ادارية بحيث يديرها مبدأ التنشيط, اي ليس بالضرورة ان تقوم الفدرالية بتسهيل الامور من حيث نوعية الانجاز الاداري, او ان تبنى الفدرالية لتطبيق هذا التسهيل الاداري. هذه الحقيقة تجعل بعض البلدان تقبل بالبنية المعقدة للنظام الفدرالي, في حين ان هذه البنية تخلق مشاكل ادارية كثيرة. بلجيكا نفسها نموذج لهذا التعقيد الاداري. وفي كندا عندما تصبح مقاطعة مثل كيوبيك مقاطعة فدرالية, فليس هذا لان الفدرالية جيدة لادارة العمل الاداري وانجازه وتنشيطه بشكل احسن في ذلك البلد, بل لوجود قوة محلية فيها, ترى نفسها حاملة لهوية ثقافية وسياسية ولغوية مختلفة, وعلى هذا الاساس تطالب بالبقاء والاستقلالية والسيادة.

وفي اسبانيا تنطبق نفس المسالة على الكتلون والباسك, فتقسيم السلطة في نموذج الفدرالية هو على اساس المطالب السياسية والثقافية لهذه المقاطعات وليس على اساس المطالب الادارية نحو انجاز افضل للاعمال.

تاخذنا هذه النقطة الى القول بان تحويل العراق الى بلد فدرالي هو قرار سياسي ومتعلق بالارادة والمطالب السياسية للقوى الكردستانية, وهذا مختلف تماما عن جميع الاشكال الخاصة للحكم الذاتي واللامركزية التي كان قد اعطيت للكرد في الثمانين سنة الماضية, وهذا الاختلاف يتطلب ان يطرأ على العراق تغيير عظيم من حيث تكوين المؤسسات و التكوين الثقافي والسياسي والدستوري. فالعراق يحتاج الى خلق تكوين منفتح ومعقد للمؤسسات, بحيث ينظم العلاقة بين اجزاء الفدرالية مع بعضها البعض, ويحتاج الى ثقافة سياسية يكون قوامها الاتفاق ويديرها الاستفتاء والحوار ,كما انه يحتاج الى تقسيم واضح للسلطة والسيادة ينظمه الدستور ,لايكون لاحد فيه حرية التصرف حسب مشيئته. وهذه الاختلافات كلها هي الاختلافات التي تميز الفدرالية عن الحكم الذاتي

في حالة الحكم الذاتي, تعطي الدولة قدرا من الحرية الخاصة للمناطق الخاضعة للحكم الذاتي, ولكن تبقى هي كأهم فاعل سياسي في تلك المناطق. اما في حالة الفدرالية, فان المنطقة الفدرالية من الناحية الذاتية تكون اكثر ذاتية, وفي نفس الوقت تكون لديها حكومة اقليمية تستطيع في نواح عديدة ان تأخذ قرارها المستقل, هذا بالاضافة الى ان الحكومة الاقليمية تلك تستطيع من خلال بعض المؤسسات الخاصة ان يكون لها تاثيرا مباشرا على قرارات الحكومة المركزية ايضا. وكل هذه الاشياء تطالب بتغيير ومراجعة جميع تلك الرؤى والصور والمؤسسات والعلاقات التي اقترحت العراق كدولة ومجتمع

اذا كانت الخطوة الاولى للديمقراطية في العراق, بالمعنى الذي شرحناه انفا, تتطلب انهاء (العروبة - الشمولية), ففي نفس الوقت تتطلب انهاء كل تلك الاشكال الخاصة للعمل السياسي التي لا تقبل ان تدخل في التعقيدات التي ذكرناها. من هنا الشيء الذي يجب على السياسة تركه في العراق هو العودة الى الفتوى والعقلية الفتوائية.

الفتوى, والتي هي تعبير عن حكم ديني صادرعن عالم ديني, تتجاهل الثقافة السياسة المنفتحة والحوار وتقسيم السلطة والسيادة وتاسس العلاقات. الفتوى هي مدخل لعودة النخبة الدينية الىداخل الالعاب السياسية, ولحد الان لم تكن اعادة تلك النخبة الى داخل السياسة في مصلحة اية تجربة ديمقراطية. في الحقيقة هذه العودة كانت دائما بمعنى غلق باب الحوار في وجه كل تلك الرؤى والاراء ووجهات النظر التي لا تقبل بهذا المنظور الديني, بما فيها الجماعات الدينية التي لا تتوافق مع هذه الفتوى, وكذلك جميع تلك الجماعات الاخرى التي تريد ان تمارس السياسة خارج الدين

مما لاشك فيه هو ان النخبة الدينية يمكن لها ان تمارس السياسة, كما يمكن لها ان تؤسس حزبا وان يكون لها برنامجها السياسي, ولكن مالايجب فعله هو خلط الابعاد الميتافيزيقية للدين بالسياسة, مع ترك التحدث باسم الرب والرسول والمقدسات, باختصار ترك سياسة الفتوى, والنزول الى ارضية الواقع ومعادلاتها الدنيوية والخبيثة والمعقدة.

هناك نقطة اخرى مهمة جدا يجب ان نتركها قبل كل شيء وهي مطالبة (ديمقراطية الأغلبية) بالمعنى الذي ذكرناه سابقا, اذ تكون فيها الاقليات داخل العراق محكومة بالبقاء اقلية الى الابد. وهذا الترك هو بالضبط عكس تلك الفتوى التي اصدرها اية الله السيستاني, اذ يطلب فيها تشكيل لجنة عن طريق الانتخابات وذلك لكتابة الدستور العراقي. اي شخص يكون لديه اقل معلومة عن العراق يدرك حقيقة ان اقامة الانتخابات في ظروف كهذه يعني حسم تلك الانتخابات من قبل الاكثرية الشيعية, وهذا في علاقته مع وجهة نظر الاقليات الموجودة داخل العراق ليست فقط عملية غير ديمقراطية, بل نموذج واضح لتحويل (ديمقراطية الأغلبية) إلى (دكتاتورية الأغلبية).

في الحقيقة, لا يمكن ان نجمع بين حالة مثل حالة السيستاني ونظام الديمقراطية في شكله الديمقراطي والاتفاقي, اي لايمكن ان نضع السيستاني كمصدر رئيسي لاصدار الفتوى مكان مجموعة من المؤسسات والمراكز واليات القرار الديمقراطي المعقدة التي يحتاجها العراق اليوم اكثر من اي وقت اخر.

افضل شيء نذكره في نهاية هذه المقالة هو عودة سريعة الى فيلسوف التنويرية العظيم عمانوئيل كانت, يقول هذا الفيلسوف في حديثه عن مسألة السلام العالمي ان الانسان يتعلم من التاريخ, فعندما يرى الانسان بعينيه ان الحرب تخلف النكبات والدمار والقتل, وقتها يفكر كيف يوقف هذه الحرب ويمنع من وقوعها. وفي نفس الوقت يقول كانت: ان انهاء الحرب وحلول السلام لن تتحقق دون وجود تاريخ مديد من الحروب والاقتتال, فتجربة الدمار والكوابيس والمخاوف الهائلة للحروب هي فقط التي تعقل الانسان وتذكره بحقيقة ان استعمال العنف ونشوب الحروب شيء خاطيء. وهذا ما ييسر ولادة سلام مستقر.

لقد اتى الوقت الذي يتوجب فيه على العراق والعراقيين ان يتعلموا من تاريخهم وتاريخ دولتهم. فتاريخ هذه الدولة هو من احد ابشع التواريخ في الشرق الاوسط, وفي الثلاثين سنة الماضية اصبح احد ابشع التواريخ العالمية. مسح هذه البشاعة متعلق بحضور الاستعداد للتعلم, والخطوة الاولى لهذا التعلم هي تاسيس ديمقراطية حقيقية بحيث لا تكون محتاجة الى الفتوى والعقلية الفتوائية



· كتبت هذه المقالة قبل الانتخابات العراقية.



#مريوان_وريا_قانع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - مريوان وريا قانع - الديمقراطية والفتوى …… العراق و السيستاني