أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نذير الماجد - التنوير في مدينة العمى















المزيد.....

التنوير في مدينة العمى


نذير الماجد

الحوار المتمدن-العدد: 3988 - 2013 / 1 / 30 - 09:37
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ثمة وباء يتفشى في أنحاء المدينة التي تخيلها الكاتب البرتغالي "جوزيه ساراماغو"، هو وباء العمى الذي يفتك بمؤسساتها وقيمها وأخلاقها، عمى يتسم بخاصية فريدة هي النقاء، أو البياض في ذروته حيث تذوب الأشياء وتتناسخ في سيرورة موازية للعدوى التي تفتك بالمدينة. هناك عتمة في رواية "العمى" لساراماغو، لكنها عتمة من بياض، حتى الكلاب لم تسلم، فهي مصابة بداء البكاء المزمن، تبكي المدينة التي صارت نقية مثل صحراء، والحضارة التي ارتدت لأبشع همجية يمارس فيها القتل، ويصبح فيها الإنسان آكلا للحوم البشر، هذه الصورة المعتمة والقاتمة تعيدنا إلى قلب إشكالية الحضارة أو التنوير الذي يبدو هنا في موضع تساؤل، فلئن كان التنوير شعلة تنتقل وتشيع النور فإن المدينة هنا تصاب بالعمى، والبياض هنا تشكيك بالشعلة ذاتها. فهل صار التنوير في مدينة ساراماغو ومعها كل مدينة تبشيرا؟

للعثور على إجابة سأبدأ مع ابن رشد، ذلك العقلاني الأندلسي الذي قدم بشروحه على فلسفة أرسطو هدية لا تعوض للآخر الغربي، فليس لفلسفته أن تتحول إلى واقعة اجتماعية، لسبب بسيط هو نخبويته، فالرجل أراد للفلسفة أن تكون حكرا على الصفوة دون أن تتعداها للعوام، وهو يقصد بالعوام كل ما ليس بفيلسوف.

ابن رشد لم يكن تنويريا، فمع تشطير المعرفة ونخبويتها، يصبح العقل اصطفاء، والفيلسوف متوحدا، قابعا في برجه العاجي يتأمل ويشيد مملكة الفلاسفة المؤهلين وحدهم لحمل شعلة براميثيوس، أما التنوير فيؤسس ذاته على افتراض الوحدة والمساواة في المعرفة والعقل، فكل إنسان هو مؤهل لخلافة براميثيوس شريطة أن يتخلى عن الكسل، كما كان يردد كانط.

تترك نخبوية ابن رشد مهمة التبشير للوظيفة النبوية، فيما يستحوذ عليها كانط ويسميها تنويرا، مع الأول نلمس تراتبية وازدواجا في كل شيء، فالحقيقة التي هي مزدوجة ليس بوسعها الانتقال والتعميم إلا من خلال ازدواجية أخرى هي ثنائية العوام والخواص، والمثقف إما فيلسوف أو نبي. أما كانط فقد عزم على توحيد العقل والمعرفة وأورث المثقف وحده المشعل التنويري. لكن الإشكالية الرشدية لازالت تراوح مكانها، لصعوبة الارتفاع بالوعي العام والذي هو بطبيعته وعي مسطح إلى متطلبات المعرفة والتنوير، المثقف الرشدي يقر بهذه الصعوبة فينسحب، لكن التنويري الصامد يجابه الإشكالية بالانغماس في تودد "العامة"، على العامة أن تقرأ، وتحارب "عدوى العمى" بنور المعرفة! وبين واقعية المثقف الرشدي وسذاجة وطوباوية المثقف التنويري، لابد من مجابهة الإشكالية بإعادة صياغتها عبر تمييز مغاير بين التبشير والتنوير.

سأتكئ بداية على استعارة اقتصادية، إذ يقال لمحاربة الفقر: "بدل أن تعطيه سمكة علمه كيف يصطاد". هنا ثمة سؤال مركزي يقع في قلب فلسفة التنوير، حيث يلتبس بتلك الوظائف التبشيرية التي تحيله بعد كل محاولات التنزيه إلى أن يكون مجرد وصاية، وفيما يبدو التنوير بارعا في إخفاء وظائفه الأيديولوجية، تمارس هذه الاستعارة تنقيته عبر تمييزه بصورة أشد عما سأدعوه تبشيرا، أي تلك المهام التي تفرط في ممارسات التعمية، والفارق الأساسي يتأكد هنا، بين تعميم معرفي أو دعوة فكرية معبأة بمضمون أيديولوجي فاقع، وآخر يخفيه، وهكذا صار التنوير تبشيرا معلمنا، والمثقف نبي دنيوي، والانتلجنيسيا الناهضة صفوة آخذة في الانتشار وتذويب التراتبية الأنثربولوجية والطبقية الاجتماعية.

كل هذا سيعيد الإشكالية إلى المربع الأول، فالتمييز بينهما يحجب الطبيعة الموحدة رغم تفاوت الأسماء، إنه تمييز زائف، لا يرتفع إلا عند الاستعانة بالمدينة المتخيلة. يقول سارامغو على لسان أحد شخوص روايته: " فأن يكون البشر كلهم عميانا فهذه حقيقة فاجعة لا تقع مسؤوليتها علينا" ربما لأنها تقع على عاتق الفرد ذاته، حيث هو وحده القادر على استعادة نعمة البصر، والبصر أداة، لكن النظر رؤية، فهو إذن في فلسفة التنوير فكر، فعلى التنوير إعطاء المنهج وعلى الفرد تعبئته بمضمون فكري، أما التبشير بوصفه وصاية، فهو عند سارامغو تعمية مضاعفة، إنه إمعان في التعمية، مثل عصابة على عين مكفوفة: "وكأن عمى واحدا لم يكن كافيا.. غريب أن عصابة كالتي فوق عيني تترك انطباعا رومانسيا عند الناس".

مع سارماغو ستتقلص الفروق بين التبشير والتنوير إلى مجرد تفاوتات وظيفية، وستقود تلقائيا إلى تفاوت منهجي رغم الاشتراك في الهدف "إعادة البصر للإنسان الأعمى" وهو تفاوت يعيدنا إلى الاستعارة الاقتصادية، فبدل الترويج لهذا الفكر أو ذاك يتوجب إشاعة مناخ مشجع للقدرة على التفكير، لن يفتح المثقف التنويري الأبواب، بل سيوزع المفاتيح، فالنور لديه ليس مستعارا كما عند خصمه التبشيري، ولكنه أصيل متفجر من داخل الذات، إنه يساعد على بناء وتكوين المنهج دون التدخل في ملئه بمحتوى فكري. التنوير في جوهره إجراء تعميمي وسيرورة تنتهي باتصال وكسر للثنائية الممتدة بين نخبة وجمهور، بين خاصة وعامة، بين مبصرين وعميان.

هناك إذاً تنوير بالمنهج وتفكير أصيل، في مقابل منهج مستعار وتفكير زائف، هناك عمى بسيط وعمى مضاعف، فمدينة سراماغو، مدينة العميان، مدينة متشائمة يبدو العمى فيها قدرا محتوما، إنها مدينة الضباب، مدينة البياض النقي والعمى المراوغ، العمى الذي يندس إلى الحياة فيحيلها إلى كوابيس، أو يقظة مضللة. العمى الخادع والذي يبدو أحيانا مضاعفا، هو حال المستهلك الذي ديدنه استعارة الأفكار والقناعات والمناهج والرؤى، هذا الشخص الكسول هو عراب الإخصاء الذهني والإعاقات الفكرية، إنه ذاك التمثال الذي ليست له عينين وعلى رأسه عصابة، أو هو الذي يرى ولا يرى: " لا أعرف لماذا عمينا، فربما نكتشف الجواب ذات يوم. أتريد أن أخبرك برأيي.. لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان، عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لا يرون"..

أهو ذاك العمى المتأصل والفطري؟ هل ثمة جدوى إذاً من تعميم المعرفة؟ أيا تكن التسمية ثمة نموذجين، أحدهما تكريس للعمى والآخر إبصار، الأول تبشير لأنه يأتي من فوق، أما الآخر فتنوير يستمد وجوده ومبرره من المدينة ذاتها، المدينة التي "لا تزال في مكانها".



#نذير_الماجد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الملائكة التي تشتهي ولا تجد
- دون كيخوته السلفي
- بومة منيرفا
- سبر العالم عبر الأسطورة
- الطير هو الطير
- فايدروس
- هكذا رقص زوربا
- رحيل أركون وبقاء الأركونية
- عبثية أن تكون حيا
- لا تبن لك بيتا
- البغدادي يلقي الضوء ويرحل
- سعودة الحداثة !
- المشروع التغييري والمسكوت عنه: الشيخ الصفار أنموذجا
- حين يكون -جان كالاس- سعوديا !
- التصوف كخطاب تنويري
- التشيع والشيرازي وفلسفة التاريخ *
- عندما يتحول التاريخ إلى دين -3-3-
- عندما يتحول التاريخ إلى دين (2-3)
- عندما يتحول التاريخ إلى دين (1-3)
- ماراثون القطيف وصديقي المتشائم


المزيد.....




- روسيا توقع مع نيكاراغوا على إعلان حول التصدي للعقوبات غير ال ...
- وزير الزراعة اللبناني: أضرار الزراعة في الجنوب كبيرة ولكن أض ...
- الفيضانات تتسبب بدمار كبير في منطقة كورغان الروسية
- -ذعر- أممي بعد تقارير عن مقابر جماعية في مستشفيين بغزة
- -عندما تخسر كرامتك كيف يمكنك العيش؟-... سوريون في لبنان تضيق ...
- قمة الهلال-العين.. هل ينجح النادي السعودي في تعويض هزيمة الذ ...
- تحركات في مصر بعد زيادة السكان بشكل غير مسبوق خلال 70 يوما
- أردوغان: نتنياهو -هتلر العصر- وشركاؤه في الجريمة وحلفاء إسرا ...
- شويغو: قواتنا تمسك زمام المبادرة على كل المحاور وخسائر العدو ...
- وزير الخارجية الأوكراني يؤكد توقف الخدمات القنصلية بالخارج ل ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نذير الماجد - التنوير في مدينة العمى