أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد جردات - قراءة في رواية - رام الله الشقراء - لعبّاد يحيى















المزيد.....


قراءة في رواية - رام الله الشقراء - لعبّاد يحيى


محمد جردات

الحوار المتمدن-العدد: 3983 - 2013 / 1 / 25 - 09:44
المحور: الادب والفن
    


صدرت مؤخراً عن " دار الفيل " في القدس رواية : " رام الله الشقراء " للكاتب عبّاد يحيى ، يذكر أن هذه الرواية هي الأولى له، وتقع في126 صفحة من القطع المتوسط، وقد قدم لها الشاعر والناقد الفلسطيني محمد الأسعد متحدثاً عن تجربة الكاتب .
و قد لفتت رام الله في الآونة الأخيرة العديد من الكتاب والشعراء والنقاد والباحثين الذين عايشوا المدينة وتأثروا بها وأثّرتْ بهم، وكان لها حضور بارز في كتاباتهم ، وقد أُنجزت في السنوات الماضية العديد من الأعمال الأدبية التي تناولت مدينة رام الله، كان أولها كتاب الشاعر مريد البرغوثي : " رأيت رام الله " الصادر عن دار الهلال في القاهرة ـ مصر عام 1997و الكتاب الثاني لنفس الكاتب " وُلِدْتُ هناك، وُلِدْتُ هنا " (الجزء الثاني من "رأيت رام الله( الصادرة عن دار رياض الريّس للكتب والنشر، بيروت ـ لبنان عام 2009 ، ورواية " لا ملائكة في رام الله " للروائية الشابة إيناس عبد الله الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع ، عمان ـ الأردن عام 2010 . وأخيراً كتاب " رام الله الحلم ... رحلة في السراب الفلسطيني " للصحفي بنجامين بارث الكاتب في صحيفة لوموند الفرنسية، وقد عمل مراسلاً للصحيفة في الأراضي الفلسطينية ما بين أعوام 2002 ـ 2011 ، وهو أيضا متخصص في شؤون الشرق الأوسط.وقد عُرِض هذا الكتاب مؤخراً في معرض الكتاب الدولي الثامن الذي أقامته وزارة الثقافة في البيرة .
ليست رواية " رام الله الشقراء " رواية شخصية أو رواية فكرة بقدر ما هي رواية تتحدث عن مواضيع وشخصيات عدة : مساعدات الدول المانحة ، التمويل الأجنبي ، الغزو الثقافي الغربي " الناعم " ، الاحتلال ، ترهل حركة التحرر الوطنية وانحرافها عن بوصلتها الصحيحة ، الطبقة الارستقراطية النيوليبرالية الفلسطينية ، جوليانو مير خميس ، افيتور اريغوني ، محمود درويش ، راشيل كوري .
وتصور الرواية التغيُرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي طرأت على مدينة رام الله بشكل خاص والضفة الغربية بشكل عام بعد انتهاء انتفاضة الأقصى عام 2005 ، وتسلط الضوء على التناقضات السيسيولوجية الصارخة التي حلت برام الله وأهلها ، والتي جعلت من رام الله "عاصمة معاهدة أوسلو "مكاناً للفحوصات المخبرية التي تجرى على الفلسطينيين ، مدينة الثنائيات المتناقضة التي هُيئت كي تكون رمزاً للفلسطينيين الجدد الذين سُخِّروا لحمل ثقافة امبريالية استهلاكية مغايرة لما عرفه الشعب الفلسطيني من ثقافة وطنية وقومية وتحررية أصيلة، وفي هذا الصدد أتذكر كم يراودني شعورغريب ملتبس ومتناقض ومزدوج بالهواجس والتوتر كلما زرت رام الله ، وكم سألتُ نفسي مراراً : هل أُحبُ رام الله أم أكرهها ؟؟!! لا أخرج بنتيجة حاسمة بل كان التناقض دائماً سيد الموقف ، واستحضر ما كتبه مؤخراً أستاذي الدكتورالناقد عادل الاسطة في صحيفة الأيام تحت عنوان :" سلاماً رام الله التي عرفت .. سلاماً " حين تحدث عن المفارقات والتناقضات العجيبة بين رام الله الأمس ـ قبل معاهدة أوسلوـ ورام الله اليوم .وأتذكر ما أخبرتني به القاصة الزميلة إسراء كلش حين التقينا ذات مرة في شارع الإرسال قائلة : " رام الله مدينة اللامنتمي " .
وكل هذه الهواجس والتناقضات التي نحملها تجاه رام الله عبر عنها الكاتب عبذاد يحيى في كثير من العبارات التي ظهرت في ثنايا الرواية على لسان البطلين ، وأذكر هنا بعضاُ منها :
1ـ " لا وجود للمسلمات في رام الله ، كل شيء قابل للمساومة ، والمدينة عازمة على سحق قناعاتنا الرملية ، وكأن احتفاظنا بأية مسلّمة مهما صغرت يحمل تهديداً ما " الرواية : ص 31
2ـ " سيتحول أقدم ستوديو تصوير فوتغرافي في رام الله إلى محمص لبيع المكسرات ، عفواً ، لبيع " التسالي " كما يسمونها ، الجميع هنا يتسلى ، يتسلى بكل شيء، حتى بالذاكرة " ص : 36
3ـ " الفرق بين لعوب تنتقل بين العشاق والعاهرة ، أن الأولى تتذكرهم ، والثانية تنسى ، لم يبقَ لرام الله إلا الذاكرة وها هي تتسرب " ص 36
4ـ " رام الله تتنكر لتذاكر السينما وتحتفي بالفيزا كارد "
5ـ " رام الله معشوقة الرياح ، اشعر أن هنالك فقاعة كبيرة تحيط بهذه المدينة ، تحيلها مختلفة عن كل ما سواها " ص : 38
6ـ " أحياناً أمشي في رام الله وأعلو ببصري صوب العمارات، فأكتشف تفاصيل قديمة أظن أكثر المارين في " رُكَب " لم ينتبهوا لها ، كأن الناس هنا منكسرون فلا يفكرون في رفع أعناقهم قليلاً. " ص 38
" أشعر أن الرياح التي تأتي إلى رام الله قد مرت على حقول شاسعة من الأفيون ، وكل مشاعرنا الهجينة هي كل ما علق بالرياح في تلك الحقول ." ص 39
8ـ " بات الكثيرون مقتنعين بأن لغة جديدة تنتشر في رام الله تخاطب أموال المانحين ومخيالهم حول الفلسطينيين " ص 54
9ـ " عجيبة رام الله هذه ، هل يفكر رواد البار بالخروج لخمسين متراً فقط والسير في مخيم قدورة ؟ أظنهم لا يرون المخيم أصلاً " ص : 63
10 ـ " رام الله تخال نفسها باريس ، هذا باختصار ما يجري " ص: 83
11ـ " كيف يمكن كسر نخبوية الفن مثلاً في رام الله ؟ " ص : 84
12ـ " يا لهذه البلد ، كل ما فيها يحاك في المقاهي والبارات والمطاعم الجديدة ودائما مع " أجانب " ص :87
13ـ " خاصرة المدينة تُدمى كل يوم بقوافل سيارات GMC السوداء بزجاجها المعتم وبالمارينز ضخام الجثث حليقي الرؤوس " ص : 89
14ـ " لوحة بيكاسو تستلزم ما يشبه منع التجول في رام الله ، كم تقاضت شركات التأمين الإسرائيلية لضمان دخول وخروج آمن للوحة ؟ وكيف يشعر فلسطيني مُعدم حين يعرف أن دخول اللوحة لرام الله كلف قرابة الثلاثة ملايين دولار ؟ " ص : 89

15ـ " أحياناً أتخيل شارع ركب سيخ شاورما كبير يدور ويدور وحوله النيران الملتهبة، وحين يحاول الناس التقاط نصيبهم تحرقهم النار، على الأقل يمسهم منها طائف فتلازمهم اللوثة سنين طويلة " ص: 94
16 ـ " نحن موقع متقدم في منظومة الارتزاق الليبرالية الجديدة ولدينا خبرة تؤهل لنقل تجربتنا " ص : 99
17ـ " رام الله مبتورة وكل ما فيها مبتور ، لا تكتمل فيها إلا أوهامنا . توهمك بأنك تكاد تكون ، ولن تجتاز " تكاد " هذه طوال عمرك " ص : 126
18 ـ " في رام الله نكتفي من الأشياء بأسمائها ، هذا قدر محتوم يفتك بكل من يدخلها " ص : 126

*سيميائية العنوان :
يختار عباد يحيى " رام الله الشقراء " عنواناً لروايته ، وهو عنوان ذو مكون مكاني ، رام الله تلك المدينة الواقعة في وسط الضفة الغربية والتي تحتل حاليا مركزا سياديا يجعلها من أهم مدن الضفة الغربية، إذ أنها تُعتبر العاصمة الإدارية المؤقتة للسلطة الفلسطينية. و تعني كلمة رام المنطقة المرتفعة، وهي كلمة كنعانية منتشرة في أماكن مختلفة في فلسطين، كالرام في ضواحي القدس وغيره ، وأضافت إليها العرب كلمة الله فأصبحت رام الله، وقد عرفها الصليبيون بهذا الاسم.
في عنوان الرواية تقترن رام الله بوصف الشقراء ، والمعروف من خلال سيميائية اللون ودلالته بأن اللون الأشقر له علاقة بالغرب الأوروبي والأمريكي ، فهل قصد الكاتب من نعته لرام الله بالشقراء بأن هذه المدينة أوروبية أو أمريكية ؟ أم شبهها بفتاة شقراء ؟ ونحن جميعاً نعلم أن رام الله مدينة عربية فلسطينية ومن صفات العرق العربي ولون بشرته السمرة ، فلماذا لم ينعت الشاعر رام الله بالسمراء ؟!
للعنوان علاقة بنص الرواية ، ودلالة مختزلة لما يحدث في رام الله من غزو غربي أشقر لكل ما فيها من مؤسسات ، ووزارات وجامعات ومدارس ومعارض ومؤتمرات وورشات العمل المتنوعة والمطاعم و المقاهي والبارات.
حتى حين يسير أحدنا في شوارع رام الله، سيلاحظ المئات من الشُقر والشقراوات يجوبون شوارع المدينة ومرافقها ، ونص هذه الرواية محوره الرئيسي الحديث عن هؤلاء الشقر وتغلغلهم في نسيج الحياة العامة في رام الله، إذ تحاول الرواية رصد الوجه الآخر لهؤلاء الأجانب، وتربط هواجس الإنسان الفلسطيني حول سبب تواجدهم بهذه الكثافة في رام الله ، وتحكي لنا بعض قصصهم وخفاياهم ، فهم ـ كما يظهرون في الرواية ـ مرتبطون بالجنس والإسقاط السياسي و الأخلاقي للشباب الفلسطيني ، والمخدرات ، والتعاون مع الموساد وغيرها من الهواجس التي يطرحها بطل الرواية .

* النص الموازي / عتبات الرواية ( المقدمة )
يعد النص الموازي أو العتبة كما أسماه الناقد الفرنسي ( جيرار جنيت ) من أهم العناصر التي تسبق النص الروائي وهو أيضاً ما يطلق عليه النص المحيط ، أو المقدمة كالإهداء ولوحة الغلاف وغيره من العبارات التي تسبق النص الروائي المركزي ، فهو عتبة مهمة نلج من خلالها إلى النص .
وقد استهل الكاتب روايته هذه بالنص الموازي الآتي :
"أحياناً يكفي أن تضغط Print out على أرشيف مراسلاتك في فيسبوك لتكون لديك رواية ما "
فهل هنالك علاقة بين هذا النص الموازي ونص الرواية الداخلي ؟
هنالك علاقة وثيقة ومرتبطة ؛ فهذه الرواية عبارة عن رسائل " فيسبوكية " يومية بين شاب وصديقته من النخبة المثقفة ، يرصدان في هذه المراسلات ما يلاحظانه من مشاهد في رام الله يومياً ، ويبعث كل منهما للآخر أخبار يومه وما حواه من قضايا متنوعة .
وهذا ما دعا الكاتب ليخبرنا أنه بإمكاننا أحياناً أن نكَوِّنَ رواية من مراسلاتنا عبر فيس بوك كما فعل هو في روايته هذه .

*بناء الرواية / السرد وطريقة عرضه :
بنى الكاتب روايته وفق فصول متراتبة، إذ أن كل فصل عبارة عن رسالتين أو أكثر ، ووضع لكل فصل عنواناً فرعياً مرتبطاً بمضمونه، فشكلت هذه الفصول جسد الرواية المكتمل، وعدد هذه الفصول ثلاثة عشر فصلاَ مرتبة على النحو الآتي :
الفصل الأول : تأبين جوليانو
الفصل الثاني : غزوات ناعمة
الفصل الثالث : انكشاف
الفصل الرابع :سَلَتْ فتسلّت
الفصل الخامس : في استغلال الغياب
الفصل السادس :عمر وأوليفيا
الفصل السابع :الولادة من جديد
الفصل الثامن :على يسار المارينز
الفصل التاسع :سيرك ثقافي
الفصل العاشر : شاورما
الفصل الحادي عشر : ملاحظات أولية
الفصل الثاني عشر : سذاجة متوارثة
الفصل الثالث عشر : حيث نكتفي من الأشياء باسمها


أما فيما يخص طريقة العرض ، فقد سرد الكاتب أحداث روايته وفق طريقة الرسائل المتبادلة ، وهذه طريقة سردية شائعة ، واستخدمها العديد من الكتاب في العالم كرواية " آلام فيرتر " للألماني جوته .
فالرواية عبارة عن رسائل عبر موقع التواصل الاجتماعي " فيس بوك " بين شاب وصديقته يتحدثان فيها بسخرية مؤلمة عن كل ما يجري في رام الله من غزو أشقر للمدينة وأحداث دراماتيكية وتغيرات يومية في منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية ، ويطرحان وجهات نظرهما عبر هذه الرسائل ويختلفان في أمور ويتفقان في أخرى .

* المكان / الزمان :
أمكنة الرواية كثيرة ومتعددة ، كبيرة وصغيرة ، فأحداث الرواية في المكان الأكبر رام الله ، وهنالك أمكنتها الصغيرة ، شارع ركب ، الإرسال ، المنارة ، بير زيت ، جفنا ، مسرح الحرية ، مسرح القصبة ...الخ .
ويمتاز الزمان الروائي بالاتساق والتراتب ، ولا يخلو من استباقات زمنية واسترجاعات ، بيد أن الزمن العام في الرواية يرصد أعوام ما بعد انتفاضة الأقصى وما تلا هذه الأعوام / الزمن من تغيرات كبيرة في مسرح أحداث الرواية / مدينة رام الله .


* ثنائيات الأنا / الآخر ... الشرق / الغرب
لم تظهر رواية الأنا والآخر في أدبنا العربي الحديث والمعاصر إلا في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي ، وذلك مع التغلغل الاستعماري في العالم العربي والإسلامي قصد التحكم فيه سياسيا، واستغلاله اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وإضعافه عسكريا وإعلاميا، وتغريبه دينيا وحضاريا، وتشكيكه عقديا وفكريا. ومن هنا، طرحت إشكالية الشرق والغرب فكرا وإبداعا وتخييلا، فعرضت على مائدة النقاش والبحث والجدال الواسع ، ولاسيما ثنائية التقدم والتخلف. ثم، برزت أيضا عبر ذلك عقدة النقص العربي أمام تفوق الإنسان الأوروبي واضحة للعيان في الكتابات السردية العربية الأولى بالخصوص.
تمتاز الرواية العربية منذ ظهورها في أواسط القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا بتجسيد ثنائية الأنا والآخر عبر مجموعة من الرؤى والأنماط والصور المتقابلة سواء أكانت سلبية أم إيجابية تترجم لنا ثنائية الشرق والغرب ، وثنائية الذكورة والأنوثة، وثنائية التقدم والتخلف، وثنائية العلم والجهل، وثنائية المادة والروح…ومن بين هذه الرؤى النمطية : الرؤية الانبهارية، والرؤية الحضارية، والرؤية السياسية الحقوقية، والرؤية العدوانية )
وهذا وقد عبرتْ عن ثنائيات الأنا / الآخر والشرق / الغرب الكثير من الروايات العربية بشكل واضح وجلي كرواية ” الحي اللاتيني” لسهيل إدريس ، و” موسم الهجرة إلى الشمال” للطيب صالح ، و”عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم ، و”الأيام” لطه حسين ، و” قنديل أم هاشم” ليحيى حقي .

وتُعد " رام الله الشقراء" واحدة من أجرأ الروايات الفلسطينية الحديثة التي تناولت علاقة الأنا بالآخر ، وأثر هذا الآخر / الغربي الأشقر على مناحي الحياة العامة وبخاصة الثقافية منها في رام الله .
فهؤلاء ( الآخرون ) لم يتركونا( النحن ) بسلام ، يتدخلون بكل تفاصيل حياتنا ـ كما وصفتهم الرواية ـ : " هؤلاء الفرنجة لن يتركونا بخير ، يملأون رام الله عن آخرها ، ما العمل برأيك ؟ " ثم تتابع الرواية الحديث عن هؤلاء الفرنجة الغرباء ويُدَّعم الكاتب رأيه بأحد المقولات الشعبية السائدة عند العجائز : " ما بيجي من الغرب ، شي يسر القلب " تماماً كما فعل الروائي الجزائري الطاهر وطار في روايته " الزلزال " حين عَّبر بطل الرواية " الشيخ عبد المجيد بو الأرواح عن هاجسه من الآخر الغربي ، فيقول : " في الحق ، الغرب ، ظل ولا يزال ، مبعث الخطر المهدد للعرب وللمسلمين ولمدنهم وحياتهم ودينهم " .
وتتابع رام الله الشقراء وصف الآخر / الغربي : " دمروا الدنيا وقتلوا الملايين في حربهم، وفي النهاية تحالفوا علينا في رام الله . " ثم تعلوا النبرة وتحتدم تجاه هذا الآخر وتتكثف الهواجس التي ترى هؤلاء الأجانب خطراً محدقاً على الوطن،كما يظهر من نصوص الرواية : " أنا في التفكير حيال هؤلاء الفرنجة كغالبية الناس حولي ، فهم مقترنون بمخيلتي بأمرين : الجنس والاحتلال ، ... لا يملك أي كان التأكد إن كانوا إسرائيليين يحملون جنسية ثانية " " إنهم يستطيعون تصوير أي شيء من مرافق حكومية ورجال أمن " .
بعد هذه الاستعراضات البسيطة من الرواية ، يحق لنا أن نتساءل : هل أُصيب بطل الرواية " بالفرنجة فوبيا " ؟ هل أراد الكاتب أن يسلط الضوء على الصورة النمطية السائدة في المجتمع الشرقي تجاه الغرب منذ مئات الأعوام ؟ أيدعو لإلغاء الآخر لمجرد أنه آخر أم لأن هذا الآخر قد انغرز في حياتنا منذ سنوات طويلة ؟ هل حقاً الغرب شرٌ محض ؟
أذكر أن الكاتب قد أجاب عن هذه التساؤلات بنفسه حين طرحتُ عليه الأسئلة نفسَها في ندوة أقامها قسم اللغة العربية والإعلام في الجامعة العربية الأمريكية في شهر كانون الأول الماضي، حين رد على هذه التساؤلات بقوله : " إنني لا أدعو في هذه الرواية إلى إلغاء الآخر بقدر ما أُعارض تدخل هذا الآخر في مؤسساتنا ومجتمعنا ، سأتقبل هذا الآخر عندما لا تكون النظرة فوقية نخبوية، وحين نتخلص من عقدة الغربي المتفوق والشرقي المتخلف،كل هذا سينتهي عندما يحترم الغربي تاريخنا وحضارتنا وعاداتنا وتقاليدنا " .
إذن فالكاتب لم يروِ روايته هذه ليقول لنا بأن الغرب شر محض بقدر ما عرض الحقيقة التي يجهلها الكثير من الناس ، فهو لم يَظهر بتلك الصورة النمطية التي تلغي الآخر، وقد ميَّز بين الأخياركراشيل كوري و افيتور اريغوني والأشرار، يظهر ذلك في بداية الرواية على لسان بطلها : " أُفكر في وضع استراتيجية وطنية للتمييز بين الأخيار والأشرار منهم " . لقد قدمت هذه الرواية تجربة ناضجة ومنطقية وموضوعية تجاه علاقة الأنا بالآخر والشرق بالغرب، فهذا الصراع المتشظي والهواجس والعلاقات المتناقضة لن تنتهي ما دام أحد طرفي المعادلة ينظر للآخر نظرة دونية متغطرسة .

* ثنائية الذكورة / الأنوثة
تزخر الرواية بعقدة الذكورة والأنوثة / ثنائية الذكر / الأنثى ؛ فهي قائمة على مراسلات بين " هو " بطل الرواية / الذكر و " هي " صديقته / الأنثى ، فالرواية كما الحياة تتقاسمها الأنثى مع الذكر هل تدعم الرواية مقولة أن المرأة نصف المجتمع ؟ هنالك علاقة أزلية بين الذكر والأنثى، فهما يرسمان الحياة ويعيشان تفاصيلها معاً كما عاشها الرواي مع صديقته ورصدا معاً يوميات رام الله وتبادلا في كل فصل آراءهما تجاه ما يحصل في هذه المدينة . كذلك تمتد جدلية الذكورة / الأنوثة في الرواية مع عمر / الذكر / العربي وأوليفيا / الأنثى / الغربية، بعلاقة مهشمة متناقضة هدفها المصلحة والمادية والإشباع والنزوات أولا وقبل كل شيء، كان عمر يُشبع رغباته وينتقم على طريقته من المستعمر كما فعل مصطفى سعيد بطل رواية " موسم الهجرة إلى الشمال " للروائي السوداني الطيب صالح، حين كان مهاجرا إلى إنجلترا من أجل تحصيل العلم. بيد أن هذه الشخصية المحورية ستتخذ من الفحولة الجنسية والشبقية وسيلة للانتقام والثأر من مجموعة من الإنجليزيات، وذلك تعبيرا عن رغبته في تصفية حساباته الشعورية واللاشعورية مع المستعمر ، والذي كان قد فرض هيمنته لأمد طويل على بلده السودان باستغلال خيراته، واستعباد شعبه، وإذلال أهله .
حتى أوليفيا أرادت من كل هذه العلاقة تحقيق مطامع شخصية، فلا غرابة بأن يكون عمر مجرد عينة مخبرية عن الشاب الشرقي ، كما يتكلم في الرواية حين تركته أوليفيا فجأة دون أن يعرف أين اختفت : " ربما أكون جزءا من دراستها ، ربما كل حكايتي معها محض وسيلة للتعرف على عالمي أنا الشاب الشرقي كما كانت تمازحني وتقول دائما، هل كانت تحلل كل حركاتي وأقوالي وانفعالاتي ؟ هل كانت ليالينا محض تجارب عملية ؟ ربما كانت تدرس الحياة الجنسية في الشرق وكنت أنا مادتها الأهم ؟ " .
وأتساءل هنا هل نستطيع أن نطلق جدلية الذكورة على ( الشرق) والأنوثة على( الغرب) ؟ حيث تصبح المرأة هنا المحك الأساسي لهذه العلاقة الثنائية، وتتحول إلى رمز إنساني دال.

* رام الله / المدينة / الأنثى
يقول محمود درويش مخاطباً القدس في قصيدته " سرحان يشربُ القهوة في الكافتيريا " :
هنا القدس
يا امرأة من حليب البلابل،
كيف أعانق ظلي ؟ وأبقى ؟
تُرى هل حقاً المدينة أنثى ؟ وما هي العلاقة بين المدينة والأنثى ؟
المدينة أنثى ؛ فكلاهما مصدر للخصب والإنجاب والتلاقح ، الأنثى تنجب الإنسان بأفكاره المتعددة وأشكاله المختلفة والمدينة تنجب الفكر والآراء والفن والأدب والحضارة منذ أقدم العصور، المدينة عالم من المتناقضات تتزاحم فيها دور العبادة والمدارس والجامعات والمسارح والملاعب والمتنزهات وبيوت الدعارة والبارات والمقاهي، و تتشابه المدينة مع الأنثى أيضاً بأن كلاهما معرض للاغتصاب والسلب والنهب .
في رواية " رام الله الشقراء " تشبيه لرام الله بالمرأة الغربية الشقراء، حتى أنها تحولت لأنثى بغي، كما يظهر على لسان الشخصية المحورية : " الفرق بين لعوب تتنقل بين العشاق والعاهرة، أن الأولى تتذكرهم، والثانية تنسى، لم يبقَ لرام الله إلا الذاكرة وها هي تتسرب ". وحين تردُ عليه صديقته قائلةً : " أكره ـ كامرأة وأنثى ـ تشبيه المدن بالإناث لأنك لن تجد واحدة صالحة أو فاضلة ولا حتى عذراء، دعنا من هذه التشبيهات، لولا التاء المربوطة في مفردة " مدينة " لما كان هذا الخيال حول أنوثتها " . ويتابع فلسفته حول المدينة الأنثى قائلاً : " هذا التأنيث مرتبط بالأرض أكثر من المدينة، كما أظن، ماذا ستكون المدينة إن لم تكن أنثى قبل كل شيء ؟! " . إذن المدينة / رام الله هي أنثى تتعرض لاغتصاب واستلاب وغزو غربي أشقر ناعم .



#محمد_جردات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد جردات - قراءة في رواية - رام الله الشقراء - لعبّاد يحيى