أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - عادل الامين - هكذا تكلم المفكر السوداني محمود محمد طه















المزيد.....



هكذا تكلم المفكر السوداني محمود محمد طه


عادل الامين


الحوار المتمدن-العدد: 3975 - 2013 / 1 / 17 - 13:23
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


مقدمة لابد منها:
اليوم تتجدد الذكرى27 لرحيل المفكر السوداني محمود محمد طه بعد اغتياله بواسطة قوى الظلام الايدولجيات الوافدة على السودان في 18 يناير 1985 ..نحتفي به هنا عصر العلم والمعلومات وببرنامجه السياسي الذى اعلنه قبل الاستقلال السودني 1955 بي عام كخارطة طريق حقيقية نحو الدولة المدنية الفدرالية الديموقراطية في زمن كان فيه نصف العالم غارق في شموليته..ولازال الطريق معتم

ومن كتاب المفكر السوداني د.منصور خالد -تكاثر الزعازع وتناقص الاوتاد-2012 نقتبس الاتي كذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهد
(((
بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات
الدين والسياسة .. زراعة الإحَن وحصاد المحن
احتل موضوع الدين والسياسة، أو الدين والدولة، حيزاً كبيراً في الجدل السياسي منذ الستينيات. وفي جانب منه، كان امتداداً لجدل أوسع على نطاق الأمة الإسلامية كلها حول الحفاظ على الهوية في سياق عالم تعددي. إلا أن دعاوى الحفاظ على الهوية تحولت عند البعض إلى ذريعة للالتفاف على قيم ومعايير تراضت عليها الإنسانية لضبط سلوك الأنظمة والمجموعات البشرية. ونفصل في السودان بين ثلاث حقب اختلفت فيها طبيعة الجدل ومحتواه ومناهجه التي تراوحت بين الخطاب التهييجي والقمع. الحقبة الأولى هي تلك التي شملت كل الفترة من الستينيات حتى السبعينيات، والثانية هي فترة الحكم المايوي، أما الثالثة فهي التي أعقبت ذلك الحكم وإلى نهاية القرن. هذا التحقيب لا يُسقِط دور المفاعل الخارجي في تغذية الجدل والصراع على امتداد تلك الحقب، إذ تداخلت الصراعات المحلية مع الصراع الإقليمي (فترة النهوض القومي)، والأممي (فترة الحرب الباردة) وتقاطعت المصالح للحد الذي لم يعد واضحاً فيه مَن يستغل مَن. وعلنا في هذا المقال نتناول سبل الإقبال على قضية الدين والدولة في السودان طوال هذا الحقب، وما قادت إليه من ضغائن وإحن انتهت إلى كروب ومحن. وهذا حصاد مر لا تستريح له نفس ولا يستطيبه ذوق.
ولكن قبل تفصيل الحقب نبسط بضع حقائق قد تعين القارئ على إدراك الأسباب التي أحالت الجدل بشأن الدين والسياسة من خلاف فكري إلى فتن. أولاً كانت صراعات الستينيات جزءاً من الصراعات النخبوية (طلاب الجامعات، النقابات المهنية) في إطار الإيديولوجيات السائدة: الأممية (الشيوعية)، القومية (بمدارسها العروبية المختلفة)، (الإسلامية). وكان الجدل حول الدين والسياسة وسط تلك الجماعات يدور بمعزل عن ذلك الذي يدور في مدارس الإسلام الشعبي، المُسَيس منه (الأحزاب ذات القاعدة الدينية) وغير المُسَيس (الطرق الصوفية). بل ربما اتخذت تلك النخب موقفاً غير ودي من تلك المدارس، وإن تصالحت معها لم تكُ تفعل ذلك إلا اغتناماً لفرصة دنت. لهذا يقال أن الإسلام السياسي في السودان لم يتسم بتسامح إسلام أهل السودان. هذه الأيديولوجيات المتصارعة ـ شأن كل الأفكار الجزمية ـ كانت تعاني من خصيصتين عاطبتين. الأولى هي قصورها الذاتي عن التشكك في صدقية دعاواها، بل ظنها الواثق أن دعاواها هي الحق المحض. والثانية هي جنوح أرباب العقائد، على المستوى العملياتي، إلى اختزال الحل لكل المشاكل الإنسانية في فكرة واحدة، وفي أغلب الأحيان في مصطلح واحد يسهل الارتكان إليه مثل الإسلام هو الحل أو وحدة الأمة هي الحل أو إنتصار الطبقة العاملة هو الحل. هذه النظرة أدت إلى ترخص كبير في الإقبال على معالجة أخطر القضايا. ثانياً، ولربما بسبب من اليقين الكامل بصدق أطروحاتها إن لم يكن تنزيه الاطروحات عن كل نقص، أصبحت هذه الجماعات النخبوية شمولية التوجه، وأخذت، على تباين توجهاتها، تستسلف من بعضها التجارب، خاصة فيما يتعلق بالتنظيم. وبسبب من نظرتها الشمولية أيضاً صار إيمانها بالديمقراطية ملتبساً، هي مع الديمقراطية متى ما وفرت لها مساحة للتنفس والحركة، وهي ضدها متى ما تمكنت من السلطان المطلق. وحينذاك لا صوت يعلو على صوت المعركة ، ولا حرية لأعداء الحرية ، و من تحزب خان ، ولا حزب إلا حزب الله ألا أن حزب الله هم المفلحون .
في كل هذه الصراعات غاب أمران: الغائب الأول هو السودان: مشاكله الوجودية، تركيبته التعددية، قضاياه المعقدة بتعقيد تركيبته. الغياب هنا معنوي، فلاشك في أن أهل العقائد هؤلاء كانوا من أكثر أبناء جيلهم اهتماماً بقضايا وطنهم، وانهماكاً فيها، وتضحية من أجلها، كما كانوا على ثقة تامة بقدرتهم التامة على المعالجة الناجعة لها. ولكن، من طبائع الأشياء أن الطبيب الذي يَدوي من نزل به الداء، ظاهراً أو باطناً، يبدأ بتشخيص الداء ليميزه مما سواه. بهذا وحده يمكن للطبيب أن يتعهد المريض بما يشفيه. أرباب العقائد السياسية بما فيها الدين المُسَيس كان لهم دواء واحد لا يعرفون غيره، وليس في اعتقادهم غيره في الوجود دواء. ولتعارض الأدوية وتضاربها ـ رغم أن الداء واحد ـ تحول المريض الذي هو السودان خنزيراً غينياً لاغُرم على ما لحق به من جراح. وكما يقول الفقهاء جُرح العجماء جُبار ، أي هَدَر.
الغائب الثاني هو التواضع المعرفي، والذي هو سمة المجتهد الذي يحترم مرجعيات المعرفة، لا سيما إن كان المجتهد ينتمي إلى دين يقول فقهاؤه: من قال لا أعلم فقد أفتى . المجتهد الصادق تَحَتكُ الأمور في صدره لهذا يظل وقافاً عند الشك، أما أرباب العقائد في السودان، وعلى اختلاف مدارسهم، فلم يكن عندهم موقع للآخر المخالف لهم إلا بين قطبين: الخيانة في حالة، والكفر في الحالة الثانية، تهم الانتهازية والعمالة في حالة، والأبلسة في الحالة الأخرى. الغائب الثالث هو انسداد الأفق الإنساني نتيجة التعامل غير المعافى مع الآخر المخالف، مرة بالعنف ومرة بالإكراه، وأخرى بالاغتيال المعنوي. هذه ممارسات تلغي الحرية، وإلغاء الحرية إلغاء للإنسانية. كما هي ممارسات تفقد الأديان والنظريات البشرية الطامحة للرقي بالإنسان من أي مضمون قيمي. هذه مقدمة إدراكها ضروري حتى لا تختلط الأمور، وحتى ننأى بالدين عن الخطايا التي اجترحت باسمه، كما ننأى بالأفكار الطامحة عن الجنايات التي لحقت بها.
أبنا في المقالات السابقة كيف أخذت الطبقة السياسية السودانية تستظل دوماً (يوم لا ظل إلا ظله) بدستور ستانلي بيكر الاستعماري ، وكيف أن ذلك الدستور كان محايداً في موضوع الدين، لكيما لا نقول علمانياً. المرة الأولى التي احتل فيه الدين (ونقصد الإسلام) موقعاً في الدستور كان في مشروع دستور .1968 ومن الواضح أن الذين ذهبوا إلى التنصيص على الإسلام والشريعة في ذلك المشروع كانوا ينطلقون من نظرية سيادة ثقافة أو دين الأغلبية. فما الذي جاء به مشروع الدستور؟ أورد في مادته الأولى: السودان جمهورية ديمقراطية اشتراكية تقوم على هدى الإسلام( الكتاب ص344))))
****



بسم الله الرحمن الرحيم

(اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الاسلام دينا)

صدق الله العظيم

مقدمة الطبعة الثانية

((أسس دستور السودان)) خرجت طبعته الأولي للناس في ديسمبر من عام 1955 ، وظهرت الحاجة اليوم الي إعادة طبعه فلم نجد شيئا نحذفه منه ، ولم نجد ضرورة لإضافة شيء عليه ، فأخرجناه من هذا الاعتبار ، علي ما عليه كان أول عهده بالخروج ومع ذلك ، فان الكتاب الجديد يختلف عن الكتاب القديم في معني أنه يقع في بابين: الباب الأول ، ويحوي ((أسس دستور السودان)) والباب الثاني ، ويحوي نبذة قصيرة عن أهداف الحزب الجمهوري وعن دستور الحزب الجمهوري ..

قلنا في كلمة الغلاف ان ((أسس دستور السودان)) هي ((أسس الدستور الاسلامي)) الذي يسعي دعاة الاسلام ، عندنا وفي الخارج ، الي وضعه من غير أن يبلغوا من ذلك طائلا ، ذلك لأنهم لا يعرفون أصول الاسلام ، ومن ثم ، فهم لا يفرقون بين الشريعة والدين ، ويقع عندهم خلط ذريع بأن الشريعة هي الدين ، والدين هو الشريعة .. والقول الفيصل في هذا الأمر أن الشريعة هي المدخل علي الدين ، وأنها هي الطرف القريب من أرض الناس ، ((وفي بعض صورها من أرض الناس في القرن السابع)) .. وفي القرن السابع الميلادي لم تكن الشريعة مستعدة للحكم الديمقراطي ، بالمعني الذي نعرفه اليوم ، ولقد قامت شريعتنا علي حكم الشوري ، لقد كان حكم الشوري ، في وقته ذاك ، أمثل أنواع الحكم ، وأقربها الي اشراك المحكومين في حكم أنفسهم ، ولكنه ، مع ذلك ، لم يكن حكما ديمقراطيا. ومن اجل ذلك فلم يكن يعرف فيه الدستور بالمعني الذي نعرفه اليوم ، فمن ابتغي الدستور في مستوي الاسلام العقيدي أعياه ابتغاؤه ، ولم يأت الا بتخليط لا يستقيم ، وتناقض لايطرد. وكذلك فعل دعاة الاسلام ، عندنا وفي الخارج. ومن ابتغي الدستور في مستوي الاسلام العلمي ظفر به ، واستقام له أمره علي ما يحب . وكذلك فعل الجمهوريون .. ونحن الآن نقدم للناس أسس الدستور ، وسنقدم ، في مقبل الأيام القريبة ، ان شاء الله ، دستور السودان ((اقرأ الدستور الاسلامي)) مقعدا ، وممددا ، ومبوبا ، وعند الله نلتمس السداد ..









الباب الأول

أسس دستور السودان

لقيام حكومة جمهورية فدرالية ديمقراطية اشتراكية






الأهداء

الي الشعب السوداني الكريم

هذا دستور ((الكتاب)) .. نقدمه اليك ، لتقيم عليه حكومة القانون ، فتخلق بذلك الأنموذج الذي علي هداه تقيم الانسانية ، علي هذا الكوكب ، حكومة القانون .. فانها الا تقم لا يحل في الأرض السلام ، وليس من السلام بد






بسم الله الرحمن الرحيم

(اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الاسلام دينا.)

صدق الله العظيم



ديباجة

((1)) المشاكل الراهنة لأي بلد من البلاد هي ، في حقيقتها ، صورة لمشاكل الجنس البشري برمته ، وهي ، في أسها ، مشكلة السلام علي هذا الكوكب الذي نعيش فيه ، ولذلك فقد وجب ان يتجه كل بلد الي حل مشاكله علي نحو يسير في نفس الاتجاه الذي بمواصلته تحقق الانسانية الحكومة العالمية ، التي توحد ادارة كوكبنا هذا وتقيم علائق الأمم فيه علي القانون ، بدل الدبلوماسية ، والمعاهدات ، فتحل فيه بذلك النظام والسلام ..

((2)) المسألة الاساسية التي يجب أن يعالجها دستور أي أمة من الأمم هي حل التعارض البادي بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة ، فان حاجة الفرد الحقيقية هي الحرية الفردية المطلقة ، وحاجة الجماعة هي العدالة الاجتماعية الشاملة: فالفرد – كل فرد- هو غاية في ذاته ولا يصح أن يتخذ وسيلة لأي غاية سواه ، والجماعة هي أبلغ وسيلة الي انجاب الفرد الحر حرية فردية مطلقة ، فوجب أذن أن ننظمها علي أسس من الحرية والاسماح تجعل ذلك ممكنا.

((3)) اننا نعتبر الدستور في جملته عبارة عن المثل الأعلي للامة ، موضوعا في صياغة قانونية ، تحاول تلك الامة أن تحققه في واقعها بجهازها الحكومي ، بالتطوير الواعي من امكانياتها الراهنة ، علي خطوط عملية يقوم برسمها التشريع والتعليم ، وبتنفيذها الادارة والقضاء والرأي العام.

((4)) ليس هنالك رجل هو من الكمال بحيث يؤتمن علي حريات الآخرين ، فثمن الحرية الفردية المطلقة هو دوام سهر كل فرد علي حراستها واستعداده لتحمل نتائج تصرفه فيها

((5)) ليحقق دستورنا كل الأغراض آنفة الذكر ، فانا نتخذه من ((القرآن)) وحده: لا سيما وأن ((القرآن)) لكونه في آن معا ، دستورا للفرد ودستورا للجماعة قد تفرد بالمقدرة الفائقة علي تنسيق حاجة الفرد الي الحرية الفردية المطلقة ، وحاجة الجماعة الي العدالة الاجتماعية الشاملة ، تنسيقا يطوع الوسيلة لتؤدي الغاية منها أكمل أداء






الفصل الأول

أساس الجمهورية السودانية

ان اهتمامنا بالفرد يجعلنا نتجه ، من الوهلة الأولي ، الي اشراكه في حكم نفسه بكل وسيلة ، والي تمكينه من أن يخدم نفسه ومجموعته في جميع المرافق ، التشريعية والتنفيذية والقضائية وذلك بتشجيع الحكم الذاتي ، والنظام التعاوني ولما كان السودان قطرا شاسعا وبدائيا فان ادارته من مركزية واحدة غير ميسورة ، هذا بالاضافة الي ما تفوته المركزية علي الأفراد من فرص التحرر والترقي والتقدم ، بخدمة أنفسهم ومجموعتهم ، ولذلك فانا نقترح أن يقسم السودان الي خمس ولايات:-

1- الولاية الوسطي

2- الولاية الشمالية

3- الولاية الشرقية

4- الولاية الغربية

5- الولاية الجنوبية

ثم تقسم كل ولاية من هذه الولايات الخمس الي مقاطعتين وتمنح كل ولاية حكما ذاتيا يتوقف مقداره علي مستواها ومقدرتها علي ممارسته ، علي أن تعمل الحكومة المركزية ، من الوهلة الأولي ، علي اعانة كل ولاية لتتأهل لممارسة الحكم الذاتي الكامل ، في أقرب فرصة ، وأن تمنحها سلطات أكثر نحو كل ما بدا استعدادها ويقوم الحكم الذاتي في كل ولاية علي قاعدة اساسية من مجالس القري ومجالس المدن ومجالس المقاطعات ومجالس الولايات حتي ينتهي الشكل الهرمي بالحكومة المركزية التي تسيطر علي اتحاد الولايات الخمس ، وتقويه ، وتنسقه بسيادة القانون لمصلحة الأمن والرخاء في سائر القطر ، وفيما عدا حالات الضرورة لا تتدخل حكومة الولاية في شؤون المقاطعة ولا حكومة المقاطعة ، في شئوون المدينة ولا المدينة في شئون القرية ، كما لا تتدخل الحكومة المركزية في شؤون الولايات التي يجب أن تمارس كل السلطات التي يلقيها عليها ذلك المقدار من الحكم الذاتي الذي تمارسه ، الا أن يكون تدخلا لضرورة الارشاد والاعانة ، حتي اذا ما نشأت مسائل في نطاق غير حكومة واحدة أمكن وضع نظام مشترك فالتعليم ، مثلا ، يقع نظامه تحت تشريع كل ولاية علي حده ، ولكن الحكومة المركزية تساعد الولايات في التعليم بالتنسيق والارشاد وبالهبات المالية ، لأنه يهم الأمة جمعاء ، كما يهم كل ولاية علي حدة ، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالصحة والتنظيم وبترقية حياة الناس من جميع وجوهها. وسيكون نظام كل حكومة ابتداء من حكومة القرية فصاعدا علي غرار النظام الديمقراطي ، الذي يكون الحكومة المركزية في القمة ، من دستور مكتوب ، وهيئة تشريعية وهيئة تنفيذية وهيئة قضائية ، والغرض من هذا تربية أفراد الشعب تربية ديمقراطية ، سليمة وموحدة في جميع مستوياتهم العلمية وبيئاتهم الاجتماعية.
ونواصل مع رحاب الفكر والمفكرين ووالمشروع الوطنى الحقيقي فىشمال السودان(الثورة الثقافية واالفكرة الجمهورية
الفصل الثاني

السيادة

السيادة ، ونعني بها السلطة الآمرة التي تستطيع أن تفرض ارادتها علي الأفراد ، ملك للشعب السوداني المستوطن داخل حدود السودان القائمة الي عام 1934 ، وسيكون نظامنا الديمقراطي بجميع دعائمه وسيلة لتحقيق هذه السيادة للشعب ، وغني عن القول أن السيادة ليست غاية في ذاتها وانما هي وسيلة لتحقيق الحرية السياسية ، والمساواة الاقتصادية ، والاجتماعية التي بدونها لا يتهيأ الجو الذي فيه وحده تترعرع الحرية الفردية المطلقة ويجب أن نكون حذرين فان مسألة اعطاء السيادة للشعب مسألة دقيقة وحساسة ، وذلك بأن الشعب ، عمليا ، لا يباشر الحكم بنفسه ، وانما يعين بضعة أفراد يقومون بمباشرة السلطة نيابة عنه ، وكثيرا ما يحصل أن يستفيد هؤلاء من مبدأ السيادة الشعبية ، فيجورون علي الحريات ، ويتغولون علي حقوق الأفراد ، فاننا لا نزال نعيش علي مخلفات المجموعة البشرية من تراث الماضي ، وحتي فكرة السيادة الشعبية ما هي الا تطوير لهذا التراث لم يتخلص بعد من الأوضار ، فقد كان الأقوياء يفرضون ارادتهم علي الضعفاء بشتي الوسائل ، فمن ذلك وسيلة القوة المادية ، أو القوة الأدبية أو الدينية ، أو العقلية أو الاقتصادية أو العددية ، وهذه الأخيرة ، بتقدم المدنية ، قد أصبحت قوة الجماعات المنظمة ، ومن ثم جآتنا فكرة السيادة الشعبية فهي فكرة تقوم علي القوة ، وهي لذلك خليقة أن تستغل ، فيساء باسمها استعمال القوة ، بيد أن الأمل معقود باطراد تقوية الفكرة الحديثة ، حيث الحق هو القوة لا العكس ، وحيث تخضع الدولة للقانون ، فان ذلك أدني أن يحد من السير في الاتجاه المؤدي ، أما الي جعل السلطة السياسية عبارة عن حكم القوي للضعيف ، باعتبار شرعية كل ما يأتيه الحاكم ، أو الي منح تصرفات البرلمان شرعية كاملة ، بصرف النظر عن محتوياتها ، مما يساعد البرلمانت علي ادعاء السلطة المطلقة ، ويفتح الطريق الي العصمة البرلمانية المرعبة: وليس المخرج من هذا الحرج الا يعطي الشعب السيادة ، بل ، علي النقيض ، فانه يجب أن يعطاها ، وأن يعطاها كاملة حتي يتعلم بممارستها: علي أن يوضع القانون أمام ناظريه دائما وأن يكون موضع التجلة عنده والاحترام ، حتي يصبح شعاره ((الحق هو القوة)) ثم تبذل الحكومة والشعب ، كل وقت ومال وجهد ، ليربوا الأفراد علي فهم القانون ، والخضوع لحكم القانون فينشأ رأي عام ((أو ارادة عامة ان شئت)) مستنير شرعي يستمد شرعيته من انطباعه علي القانون وامتثاله له ، وتمثله اياه ، واستقامته معه فهذا الرأي العام ، بهذا الوصف ، هو صاحب السيادة وعليه يتوقف نجاح قيام الحكومة ، ونجاح تطبيق القانون ، ولا يحسبن أحد أن رأيا عاما كهذا ، يمكن أن يوجد عفوا بفعل التطور الزمني ، ذلك بأنه يشترط لوجوده ايقاظ ضمير كل فرد من أفراد المجموعة. ولذا لا بد من أسلوب تربوي يوجه التطور ويحفزه ، بأن يخاطب كل فرد خطابا فرديا مباشرا يجعل ضميره الرقيب الأول علي حركاته وسكناته ، والحسيب الأول علي أخطائه وهفواته ، فان اقامة حكومة القانون في حياة الجماعة العامة تتحقق علي خير صورها اذا كان كل فرد من أفراد الجماعة يقيم حكومة القانون في حياته الخاصة ، ونحن لم نجد هذا الاسلوب التربوي الا في القرآن ، لأن القرآن في آن معا ، دستور للسلوك الفردي ودستور للسلوك الجماعي ، وهو بذلك يكسب الفرد المقدرة علي المواءمة بين حاجته وحاجة الجماعة التي يعيش فيها ، فانه يعلمه أن أبعد حاجاته منالا ، ليس اليها من سبيل الا حب الجماعة والتفاني في ابغائهم الخير والاخلاص لهم في السر والعلن ، ومنهاج محمد النبي في العبادة والسلوك هو الصورة الحية الماثلة من هذا الاسلوب التربوي.

ان الشعب المربي هذه التربية هو الشعب الذي يستحق السيادة كاملة ونحن انما نعطيها في دستورنا هذا شعبنا منذ الوهلة الأولي لأن ممارستها تجعل تربيته التربية التي أسلفنا ذكرها أمرا ممكنا.





الفصل الثالث

الشعب السوداني

الشعب السوداني هو مجموع الرجال والنساء والأطفال الذين يقطنون السودان ، والسيادة ملك لهم ، ولقد قلنا أن نظامنا الديمقراطي سيكون وسيلة لتحقيق هذه السيادة للشعب ، ولذلك فانا ندعو من الوهلة الأولي الي الديمقراطية الشعبية ، ونعرفها انها حكم الشعب بواسطة الشعب ، لمصلحة الشعب ونقدر أن تحقيقها أمر عسير لأنه يقتضي شرطين: الأول أن تصدر القرارات الخاصة بادارة شؤون الدولة باجماع أفرادها والثاني أن يشترك جميع أفراد الشعب في مباشرة السيادة داخل الدولة ، حتي يكون الحكام هم المحكومين. ومع أن هذين الشرطين يستحيل تحقيقهما في الحيز العملي ، الا أننا نستطيع بالديمقراطية النيابية ، فالديمقراطية شبه المباشرة ، فالديمقراطية المباشرة أن نقترب منها دائما ، والحق ، أننا نحن السودانييين سنبدأ من أول السلم وليس بذلك من بأس اذا ما أطردت خطوات تطورنا الي أعلي السلم اطرادا واعيا ومرسوما ، ونعني بأول السلم الديمقراطية النيابية. هذا ، ويحسن بنا أن نعرف ، أن الديمقراطية النيابية ، باعتبارها الحكومة التي فيها أغلبية النواب داخل البرلمان تمثل أغلبية أفراد الشعب ، وأعضاء البرلمان في مجموعتهم يمثلون الشعب في مجموعته ، غير محققة أيضا في الحيز العملي ، وذلك لسببين: أحدهما أن جميع أفراد الشعب لا يشتركون في الانتخاب ، كالاطفال والشبان الذين لم يبلغوا الثامنة عشرة من أعمارهم ، وغيرهم ، وثانيهما أن البرلمان قد يحوي أغلبية برلمانية جاء بها ناخبون هم في الحقيقة أقلية بالنسبة لمجموع الناخبين. يضاف الي هذا أو ذاك ان اجتماعات أعضاء البرلمان تعتبر صحيحة ، في أغلب الأحوال ، اذا حضرت الجلسة الأغلبية المطلقة لمجموع أعضاء المجلس وتعتبر القرارات في أحوال كثيرة صحيحة ، قانونا ، اذا ما أقرها نصف الأعضاء الحاضرين بزيادة عضو واحد ، ولكن عزاءنا أننا حين نبدأ بهذه الديمقراطية النيابية ، حتي في مستواها الأدني حيث تكون انتخابات بعض النواب غير مباشرة ، ((اذا كان لا بد من ذلك)) هو أن هذه البداية انما هي خطوة أولي في سبيل تحقيق الديمقراطية المباشرة ، التي لن يتعلق همنا في المستوي الجماعي بشيء سواها. ذلك بأن فيها ، وحدها ، الضمان التام لاحترام الحرية الفردية ، وحسبك أن الفرد فيها حين يخضع للحكومة ، انما يخضع ، في الحقيقة ، للقوانين والقرارات التي سبق أن سنها وأقرها هو بنفسه. وسيتحقق الاجماع الذي لا تكون الديمقراطية مباشرة الا به ، كلما نشر التعليم الصحيح والثقافة السياسية الأصيلة ، حتي يقوي تفكير المواطنين ويستقيم ، ويصبح في كبريات القضايا قريبا من قريب. هذا، وأقل ما نبدأ به الآن ، هو الا يكون نظامنا الاجتماعي متعارضا الا مع ارادة الأقلية وستقل هذه الأقلية كلما اطرد تقدمنا حتي نفضي الي الاجماع ، علي أن الأقلية حيث وجدت ، وبأي حجم وجدت ، لها كامل الحق والحرية في المعارضة بالاساليب الديمقراطية.

ويجب أن نعلم أنه مهما كان شعبنا السوداني متأخرا في بعض جهات البلاد ، فانه ليس لدينا سبيل لتربيته الا باعطائه فرصة التجربة كاملة ، حتي يتعلم بالممارسة المباشرة لادارة شؤونه ، فيجب أن نعترف له بكامل حقه في الرقابة علي أعمال الحكام والنواب ، حتي ليحق له أن يستدعي نوابه ليحاسبهم علي نيابتهم عنه ، أو ينهي عضويتهم في المجلس النيابي ، ويرسل غيرهم ليقوموا بشرف النيابة عنه وله أن يحل البرلمان قبل نهاية الفصل التشريعي ، وليس لأي جهة عداه هذا الحق ، وهو يمارس حقه هذا ، في أول الأمر ، بواسطة مجالس الولايات التشريعية ، فاذا ما صوتت ثلاثة مجالس مطالبة بحل البرلمان أصدر الرئيس أمره بحل البرلمان ، علي ان ينتخب البرلمان الجديد في ظرف ثلاثة شهور علي الأكثر ، وعندما يتقدم الشعب يمارس حقه في حل البرلمان بالاستفتاء العام ، وينص الدستور علي الاجرآءات التي تتبع في ذلك.

ويحق للشعب أن يراقب أعمال الموظفين ، وأن يعدل الدستور ، بالاستفتاء العام او بواسطة نوابه في البرلمان ، ويحق له أن يقترح القوانين ويتضمن الدستور اجراءات ذلك ، كما يحق له أن يناقش القوانين التي يصدرها البرلمان من حيث دستوريتها ، او من حيث تأتيها للحكمة المرجوة وراء التشريع ، وتكون رقابة الشعب: أما علي اعمال الحكام الخاضعة لتقديرهم الخاص ، والتي لاتخضع لقواعد قانون محددة ، لأن الحكام يتمتعون بحرية واسعة في اختيار وسائل تنفيذ أعمالهم ، أو اوقات مباشرة تنفيذها ، أو تكون رقابته علي أعمال الحكام التي يخضعون في تنفيذها لقيود قوانين معينة ، وضعت قبل القيام بتلك الأعمال.

وهناك أمر حساس ودقيق في اعمال الحكام ، وهو القضاء ، ومع أنا نحب أن نعطي الشعب حق مراقبة القضاء غير أنا يجب أن نحتاط في باديء الأمر حتي لا يكون استعمال هذا الحق بطريقة تتدخل مع استقلال هذا الجهاز الهام ، ولذلك فانا نري أن مناقشة الشعب للمسائل المعروضة علي القضاء يجب الا تكون الا بعد أن يقول القضاء كلمته فيها. ثم ان أعتراض الشعب علي كلمة القضاء يجب الا يتعدي رفع وجهة نظر المعترضين لرئيس القضاء ، الذي سيعلن رأيه في اعتراضهم ، ويكون رأيه في ذلك الرأي الفيصل ، ومراقبة الشعب لأعمال القضاء لا تتعدي في البداية بحث ما اذا كان الحكم الصادر موافقا لقواعد قانونية محددة ، وموضوعة ، أم لا وعندما يترقي الشعب ، ويستنير الرأي العام ، يمكنه أن يراقب القضاء من حيث حكمة الاجراء ، وهل يؤدي الي غاية هي في آن معا لمصلحة الفرد ، ومصلحة الجماعة أم لا؟ وليكون للرقابة القضائية ما يرجي منها من تثقيف الرأي العام ، يعهد للقضاء بالبحث في دستورية القوانين ، ويكون هذا مقررا للقاضي العادي ، كما يكون بواسطة محكمة خاصة تسمي محكمة العدل الدستورية ، علي أن هذه الرقابة لها ما يبررها من ناحية أخري هامة ، هي احترام حقوق الأفراد ، وحمايتها من تعسف المشرع ، ثم أن رقابة الرأي العام علي أعمال الحكام لا يكون لها أثرها الفعال في حماية الأفراد وتوفير الحرية الفردية الا اذا ما نظم القضاء الاداري بحيث يمكن أن يختصم الأفراد اليه ، ضد تصرفات الحكام وما يقع من أعمال الادارة الضارة بحقوقهم وحرياتهم ، مما يكون مخالفا للقانون.

ولتكون للرأي العام الرقابة لا بد من العلانية في جميع اعمال الحكام في أجهزة الحكم ، وبغير هذه العلانية تتعطل الرقابة ، ويبطل القول بقيام النظام الديمقراطي في البلاد ، ذلك بأن العلانية ، فوق أنها ضرورية لتنوير الرأي العام ، هي أيضا ضرورية لمجرد تحقيق الحكم الديمقراطي ، الذي لا يقوم البتة لا حيث يراقب الرأي العام المستنير الحكام ، ويرغمهم علي أن يسيروا وفقا للقانون ، وفي الحق أن الحكام بهذه العلانية يرغمون الأفراد أيضا علي أن يطلعوا ويهتموا بشؤونهم ، فيتثقفوا ثقافة عامة جيدة هي وحدها التي تعدهم لحسن استعمال ورقة الانتخاب ، التي هي القوة الاساسية في دعائم الحكم الديمقراطي ، ثم أنه لا يكفي تقرير مبدأ العلانية هذا الا اذا نظمت وسائلها ، كالصحافة ، والاجتماعات ، والاندية الثقافية ، والراديو ، والسينما ، والمسرح والتلفزيون الخ الخ حتي يتم علم الأفراد بأعمال الحكام وهي لا تزال في طور التكوين ، فيشتركوا في تحضيرها بما يبدونه من ملاحظات ، وما يعلنونه من تأييد ، أو معارضة قد ترشد الحكام الي ما ينبغي أن يفعلوا ، وتبصرهم فيما اذا كانوا يعملون وفق ارادة الرأي العام أم ضدها.

ان هذه الحقوق قد تبدو كثيرة علي شعب بدائي كالشعب السوداني ، وخاصة في اقاليمه ، ولكن ليس هناك علي الإطلاق سبيل صحيح لترقية أي شعب الا بوضعه أمام مشاكله واعطائه الفرصة ليتعلم من أخطائه ، علي أن تنظم جميع أجهزة الحكومة بشكل يعينه في هذا الاتجاه ، فالمشرع ، والقاضي ، والاداري والبوليس ، جميعهم يجب أن يعملوا في العلن ، وأن يكونوا واضحين ، وأن يستهدفوا تنوير الشعب وترقيته ، وأن يبتعدوا عن كبته واذلاله. والتشريع ، بشكل خاص ، يجب أن يكون واعيا وحكيما ، وأن يقوم علي التوفيق بين حاجة الفرد الي الحرية الفردية المطلقة ، وحاجة الجماعة الي العدالة الاجتماعية الشاملة ، والا يضحي بأيتهما في سبيل الأخري ، هذا ، وهناك حق ، كثيرا ما أريد به باطل ، وهو أن الشعب البدائي يحتاج الي تربية قبل أن يستحق ممارسة السيادة ، وهذا تسويغ للحكم المطلق ، ووجه الحق أن الشعوب تحتاج الي تربية ، بيد أن الحكم المطلق لا يربيها تربية الأحرار ، وانما يربيها تربية العبيد ، وهو بذلك لا يعدها للديمقراطية ، وانما يعدها للاذعان والانقياد ، ونحب أن ننبه الي الخطر الماحق المترتب علي هذا الاتجاه ، ونحب أيضا أن نؤكد أنه ليس هناك طريق لتربية أي شعب تربية حرة الا بوضعه أمام مشاكله ، ومحاولة أعانته علي تفهمها ، والتفطن الي طرائق حلها بنفسه ، حتي يطرد تقدمه الي تحقيق الديمقراطية المباشرة


الفصل الرابع

المواطن ومسئولية المواطن

المواطن هو المولود داخل السودان من أب سوداني ، وفي بعض الاعتبارات ، هو أيضا المولود خارج السودان من أب سوداني بالميلاد ، أو بالتجنس أو هو المتجنس بالجنسية السودانية وسينص الدستور علي شروط واجرآءات التجنس وغير المواطن يحرم من تولي مناصب بأعيانها ينص عليها الدستور نصا مفصلا ، كما يحرم من حق التصويت ، ومن مزايا المساواة الاقتصادية ، وسيحدد الدستور ما له وما عليه ، وأول واجبات المواطن استعمال حق الانتخاب بحكمة ، سواء كان ذلك لانتخاب مجلس القرية ، أو المدينة ، أو المقاطعة ، أو الولاية ، أو الحكومة المركزية. زيادة علي المشاركة بكل مواهبه في تحسين حياة المجموعة الصغيرة والكبيرة التي يتواجد فيها ، وفي تنوير المواطنين ، والنصح لهم والاخلاص ، ونشر الثقافة العامة بينهم ، من اجتماعية ، وسياسية ، واقتصادية ، وفنية ، وعلمية ، والاهتمام التام في الحياة اليومية بكل كبيرة أو صغيرة في البلاد ، لأن هذا الاهتمام يبصر المواطنين بالصالحين من الرجال ومن النساء ، ويعرفهم بالمشاكل المحلية والعالمية ، التي تراد معالجتها ، وبدون كل ذلك لا يتيسر استعمال حق الانتخاب بحكمة وسداد.





الفصل الخامس

الحكومة المركزية

أول واجبات الحكومة المركزية نحو الولايات ، أن تكون بمثابة الرأس الذي يدير الأعضاء ، فعليها يقع واجب اعانة الولايات لتتأهل لممارسة الحكم الذاتي الكامل بكل الوسائل السريعة الممكنة ، وعلبها أن تكون مستعدة لتتخلي لكل ولاية عن سلطات الحكم الذاتي بالقدر الذي تأهلت له ، علي أن يكون ديدنها دائما أن تضع الناس أمام مشاكلهم ، وتعطيهم فرصة التجربة ، وتعينهم عند الحاجة ، حتي يقوي ساعدهم علي مباشرة سلطاتهم كلها. ثم أن عليها ان تربط بين الولايات في اتحاد مركزي يقوي كل حين ، بالعوامل الاختيارية من جانب كل ولاية وعليها الا تتدخل في شئون الولايات الداخلية الا لدي الضرورة ، وبأقل قدر ممكن حتي تتيح للمواطنين أن ينجزوا كل ما يحتاجونه بأنفسهم لأنفسهم ، وستكون اعانة الحكومة المركزية لهم عند الاقتضاء في مجالي الخبرة الفنية والادارية ، والاعانة المالية ، ثم أنه علي الحكومة المركزية واجب اعانة الولايات ، بشكل خاص علي استقرار الأمن ، واستتباب النظام ، واقامة العدل ، حتي يتحقق للافراد الجو الحر الذي يرمي اليه الدستور المركزي ، كما عليها واجب حماية الولايات فيما بينها ، وواجب الدفاع الوطني بالجيش السوداني ، الذي يخضع لها وحدها وتنبث معسكراته في النقط الاستراتيجية في جميع البلاد ، كما يستمد جنوده من سائر المواطنين ، ويقع واجب الدفاع الوطني علي السلطتين المركزيتين: التشريعية ، والتنفيذية ، اذ أن البرلمان وحده هو الذي يعلن حالة الحرب ، وينفق علي الجيش ، ورئيس الجمهورية هو القائد الاعلي للجيش.

وعلي البرلمان المركزي العمل علي الرخاء العام للبلاد جميعها ، حتي تتم ترقية الولايات ترقية متناسقة ، ومتناسبة ، ومطردة ، كما علي الحكومة المركزية واجب ضرب العملة وحراستها ، واقامة العلاقات الخارجية ، التجارية والسياسية والمالية ، ومصدر سلطات الحكومة المركزية الدستور المركزي ، الذي سينص علي تخويلها كل السلطات غير المنصوص عليها في دستور كل ولاية علي حدة ، علي سبيل الحصر ، علي أن تنقص هذه السلطات كلما تطورت الولايات ، وأستلمت حكوماتها مزيدا من سلطات حكمها الذاتي المستودعة مؤقتا عند الحكومة المركزية ، وهكذا دواليك ، حتي يجيء اليوم الذي ينص فيه الدستور المركزي علي مدي سلطات الحكومة المركزية علي سبيل الحصر ، ويترك كل ما عدا ذلك للولايات. وهذه السلطات التي يعطيها الدستور المركزي للحكومة المركزية يضعها الشعب بحكم عملية الانتخاب في الموظفين الذين يباشرون ، نيابة عنه ، واجبات مراكزهم ، وهو يستطيع أن يفصل أي موظف ، بقطع النظر عن مركزه ، بالاستدعاء أو الادانة ، اذا ما ثبت عدم أهليته ، أو سوء استعمال مركزه ، أو اقترافه ذنبا يعوق صلاحيته لمنصبه ، وسينظم الدستور وسائل استعمال هذا الحق.

وحين يحدد الدستور المركزي مدي سلطات الحكومة المركزية ، فانه ايضا يشتمل علي ضمانات الحقوق الشخصية الاساسية ، والامتيازات الانسانية التي لا يمكن ان تسقط بحال من الأحوال ، وعلي رأس هذه الحقوق حق الفرد في السعي لتحصيل الحرية الفردية المطلقة ، وما يقوم عليه هذا الحق الاساسي من حقوق فرعية تعتبر في ذاتها وسيلة لازمة اليه: كحرية العبادة ، وحرية الفكر ، وحرية الكلام ، وحرية العمل الذي لا يخضع الا لحدود القانون الدستوري ، وهو القانون الذي يوفق توفيقا تاما بين حاجة الفرد ، وحاجة الجماعة ، ولا يضحي بأيهما في سبيل الأخري ، وكحرية الاجتماع ، والصحافة ، والتعبير برفع العرائض بالاحتجاج ، والنقد ، لجميع أعمال الحكومة ، التي اشترط فيها من قبل توفر العلنية التامة ، كما أن للفرد علي الحكومة حق تحريره من الخوف ، ومن الفقر ، ومن الجهل ، ومن المرض ، ولكل فرد حق أن يكون يكون غاية في ذاته ، لا وسيلة الي غاية سواه ، وكل هذه الحقوق لا تخضع لقوة ، غير قوة القانون. وللحكومة المركزية ثلاثة فروع أساسية يختط الدستور علاقاتها ببعضها البعض ، ويبين واجباتها الخاصة وتبعاتها ، وهذه الفروع الأصلية هي: السلطة التشريعية التي تضع القوانين وتجيزها ، والسلطة التنفيذية التي تدير أعمال الحكومة حسب القوانين ، والسلطة القضائية التي تطبق القوانين وتفض الخلافات ، وهي سلطات منفصلة كل واحدة منها عن الأخري ، وكل منها ممثل للشعب في ناحية وهي في استقلالها عن طغيان احداها علي الأخري تتعاون وتتساند لتؤدي واجبا واحدا هو تحقيق سيادة الشعب بسيادة القانون.







الفصل السادس

الهيئة التشريعية

عندنا ان الهيئة التشريعية هي العمود الفقري للهيكل الحكومي ، وهي أهم من السلطتين الأخريين بكثير ، ذلك بأننا نعتبر القانون فوق كل السلطات ، وفوق الشعب نفسه ، وما السلطتان الأخريان الا سلطتين تنفيذيتين ، مهمتهما تطبيق القانون الذي تسنه الهيئة التشريعية ، علي أننا يجب ان نكون مفهومين فانا لا نعتبر كل تشريع تسنه الهيئة التشريعية قانونا ، وانما القانون عندنا شيء قائم بذاته ، ومستقل بوجوده عن وجود العقل البشري ، وما القوانين الوضعية الا محاولة لمضاهاة هذا القانون المستقل ، والهيئة التشريعية التي نعنيها نحن هي الهيئة التي يجيء تشريعها الوضعي مضاهيا ومستقيما مع القانون الاساسي ، وسنتخذ دستورنا بحيث يوجه تشريع هيئتنا هذه الوجهة ، وسنقيم من السلطات القضائية التي تنظر في دستورية القوانين ما يضمن لنا استقامة تشريع هيئتنا مع القانون الاساسي ، ولقد قلنا عند حديثنا عن السيادة: أن الشعب هو صاحب السيادة ، ولكنه لا يستمد حقه هذا من مجرد وجوده ، وانما يستمده من انطباعه علي القانون ، وفهمه اياه وامتثاله له ، فالشعب لا يستحق السيادة الا اذا كان قائما بتنفيذ ما يرضي الله ، وهو لا يكون كذلك الا بالتربية ، ولا يتربي الشعب الا بالاساليب الديمقراطية التي تضعه امام مشاكله وتتيح له فرصة تحمل مسئوليات حكم نفسه ، ثم تعينه بكل وسائل الاعانة: الجماعية ، والفردية ، فيتربي أبناؤه علي القانون ، فينشأ عنهم رأي عام ، أو ارادة عامة ، تكون لفرط انطباعها علي القانون ، هي في ذاتها القانون: فان ممثل هذا الرأي العام هو صاحب السيادة الكاملة ولأهمية هذه المسألة نحب ان نتوسع قليلا فيما نعني بالدستور الذي نقيد به تشريعنا ، وما نعني بالقانون المستقل بوجوده عن وجود العقل البشري ، حتي نبرز أهمية الهيئة التشريعية عندنا بالنسبة للهيئتين الأخريين: الادارة والقضاء.



مجتمعنا الكبير ومجتمعنا الصغير

هناك ثلاث مسائل هامة قدمناها في ديباجة دستورنا هذا: واحدة منها غاية واثنتان وسيلتان ، فأما الغاية فهي انجاب الفرد الحر حرية مطلقة ، وأما الوسيلتان فاحداهما المجتمع السوداني ، وثانيتهما المجتمع العالمي ، ولقد قلنا ان المشاكل الراهنة لأي بلد هي في حقيقتها صورة مصغرة لمشاكل الجنس البشري جميعه ، وهي في اسها ، مشكلة السلام علي هذا الكوكب ، وعندنا انه من قصر النظر أن نحاول حل مشاكل مجتمعنا السوداني داخل حدودنا الجغرافية ، من غير أن نعبأ بالمسألة الانسانية العالمية ، ذلك بأن هذا الكوكب الصغير الذي تعيش فيه قد أصبح وحدة ربط تقدم المواصلات الحديثة السريعة بين أطرافه ربطا يكاد يلغي الزمان والمكان الغاء تاما ، فالحادث البسيط الذي يجري في أي جزء من اجزائه تتجاوب له في مدي ساعات معدودات جميع الأجزاء الأخري ، يضاف الي هذا أن هذا الكوكب الصغير الموحد جغرافيا ، ان صح هذا التعبير ، تعمره انسانية واحدة ، متساوية في أصل الفطرة ، وان تفاوتت في الحظوظ المكتسبة من التحصيل والتمدين. فلا يصح عقلا أن تنجب قمتها الانسان الحر ، اذا كانت قاعدتها لا تزال تتمرغ في أوحال الذل والاستعباد ، او قل ، علي أيسر تقدير ، انه لا يمكن أن يفوز جزء منه بمغنم السلام والرخاء اذا كانت بعض اجزائه تتضرم بالحروب ، وتتضور بالمجاعات ، ولذلك فقد نظرنا الي المجتمع العالمي كانه وسيلة في المكان الثاني ، حين نظرنا الي مجتمعنا السوداني كانه وسيلة في المكان الأول ولقد اخترنا لتنظيم مجتمعنا الصغير النظام الاتحادي المركزي لأمرين أولهما وأهمهما أن هذا النظام يناسبنا من جميع الوجوه ، وثانيهما أن تنظيمه لمجتمعنا الصغير يتجه في نفس الاتجاه الذي بمواصلة السير فيه نصل الي تنظيم مجتمعنا الكبير – المجتمع العالمي – فانه مما لا ريب فيه أنه ، وقد توحد هذا الكوكب جغرافيا بفضل تقدم العلم المادي ، لن يحل فيه السلام الا اذا ما توحد اداريا ، وذلك بأن تقوم فيه حكومة عالمية علي نظام الاتحاد المركزي ، تقيم علائق الأمم فيه علي أساس القانون كما تقيم كل حكومة في الوقت الحاضر علائق الأفراد في داخليتها علي القانون ، وسيكون لهذه الحكومة العالمية المركزية دستور عالمي مركزي ، تقوم بمقتضاه هيئة تشريعية عالمية مركزية ، تسن من القوانين ما ينظم علائق الدول ببعضها البعض ، ويضعف من سلطان الحدود الجغرافية ، والحواجز الجمركية ، والسلطات المركزية لدي كل دولة ، كما تشرف علي دستورية قوانين الهيئات التشريعية المحلية ، حتي لا تجيء معارضة للدستور العالمي المركزي ، الذي ستقوم بمقتضاه أيضا هيئة تنفيذية عالمية مركزية وهيئة قضائية ، بكل ما يلزم من جيش وقوات أمن ومال ، وسنحاول الا تغيب عن ابصارنا ، أثناء تنظيمنا مجتمعنا الصغير صورة تنظيم مجتمعنا الكبير. وسنعمل للأثنين معا من الوهلة الأولي ، وقد يكون أكبر همنا موجها ، باديء ذي بدء ، الي تجويد الأنموذج الصغير ، بيد انا لن نتواني عن نصرة المظلومين والمستعبدين في أرجاء هذا الكوكب أثناء ذلك ، جهد طاقتنا ، ولا نعتبر أنفسنا بذلك منصرفين عن أصل قضيتنا.

وبديهي أنه لن يكون هناك دستور عالمي مركزي موحد ، الا اذا استمد من الأصول الثوابت ، التي تشترك فيها جميع الأمم ، وجميع الأجيال ، وتلك هي الأصول المركوزة في الجبلة البشرية ، من حيث أنها بشرية ، ذلك بأن تلك الأصول هي نقطةالالتقاء التي يتوافي عندها سائر البشر ، بصرف النظر عن حظوظهم من التعليم والتمدين ، فهم عندما يختلفون فيها انما يختلفون اختلاف مقدار لا اختلاف نوع: وقوام تلك الأصول العقل والقلب ، أو ان شئت ، فقل ، الفكر والشعور ، وسنحاول أن نبرز هذا الدستور أثناء معالجتنا لقضية الفرد.



الانسان الحر

قلنا اننا قدمنا في ديباجة دستورنا هذا ثلاث مسائل: وسيليتن وغاية ، فأما الوسيلة الأهم ، وهي المجتمع السوداني فان الدستور يخصها ، واما الوسيلة المهمة ، وهي المجتمع العالمي ، فقد أسلفنا فيها القول بايجاز ، وأما الغاية ، وهي انجاب الفرد الحر ، حرية مطلقة ، فسنخصص لها من القول ما يبرزها ، ويبرز معها الدستور الذي نبتغيه.


هل هو ممكن؟

وأول ما نبدأ به هو تصحيح الخطا القائم في أذهان بعض الناس حين يظنون ان الحرية الفردية المطلقة غير ممكنة التحقيق ، وان أقروا ، بفضل ما يجدونه في أنفسهم ، بأن هذه الحرية الفردية المطلقة هي ، في الحقيقة ، حاجة كل فرد بشري. فانه ان صح ، وهو لا محالة صحيح ، أن الحرية الفردية المطلقة حاجة كل فرد وغايته ، فانها تكون بذلك حاجة الانسانية وغايتها ، فكأن من يظنها غير ممكنة التحقيق يقضي علي الانسانية سلفا بالهزيمة والخزي ، وذلك أمر منكر اشد النكر ، ولا عبرة عندنا برأي من يزعمون أن الكمال ليس من حظ هذه الحياة ، وانما هو من حظ الحياة الأخري ، وان الحرية الفردية المطلقة ، من ثم ، لا تحقق هنا ، وانما تحقق هناك ، ذلك بأن كل شيء يكون هناك انما يتم نموذجه هنا.



وكيف؟؟

والانسان الحر حرية فردية مطلقة هو الذي استطاع ان يحل التعارض القائم بين عقله الباطن وعقله الواعي ، حتي يكون وحدة: ظاهره كباطنه وسيرته كسريرته ، فيفكر كا يقول ويقول كما يفكر ويعمل كما يقول ، فتتحقق له حياة الفكر وحياة الشعور ويبلغ الانسان هذه الغاية بوسيلتين: اولاهما وسيلة المجتمع الصالح ، حيث تهيء الحكومة للفرد الحرية ، والعلم ، والفراغ وتوفر له حاجات معدته ، وجسده ، وحيث يكون الرأي العام من الاسماح ، بحيث لا يضيق بانماط الشخصيات المتباينة ، ولا يحارب مناهج الفكر المتحرر. وهذا المجتمع هو ما خططنا تنظيمه في دستورنا وثانيتهما وسيلة العقل الجاد في تحرير نفسه بمجهوده الفردي ، الذي يبدأ من حيث ينتهي مجهود المجتمع في تحرير كل فرد ، ويكون مجهود الفرد ، في هذا المستوي امتدادا وتتويجا للمجهود الذي أسهم به ، ويسهم دائما ، في كيان الجماعة .. وسبب التعارض القائم بين العقل الباطن والعقل الواعي الخوف ، ومنشأ الخوف الجهل ، ذلك بأن الانسان ، بكل مافي جسده من التركيب الآلي الضعيف ، وبكل ما في نفسه من الرغبات ، والمطامح ، والشكوك ، رأي نفسه امام عالم طبيعي ، امتزجت رحمته وقسوته ، وخطره وامنه ، وموته وحياته ، علي اسلوب كأنه في ظاهره ، يعمل علي أسس تناقض بناء التفكير البشري فشوهت هذه القسوة المستهترة التي تلقاه بها القوي الصماء في البيئة الطبيعية التي عاش فيها الصورة التي قامت بخلده عن أصل الحياة ، وعن غايتها ، وعن حقيقة العالم المادي الذي يحيط بها ، ويؤثر فيها ، فاذا ما أردنا ان نحرر الفرد حرية فردية مطلقة وجب أن يستهدف تعليمنا أياه وتعليمه نفسه تصحيح تلك الصورة الخاطئة الشائهة التي قامت بعقله ، حتي تقوم مكانها صورة صحيحة كاملة ، عن أصل الحياة ، وعن قانونها ، وعن غايتها ، وعن العالم المادي الذي يحيط بها ويؤثر فيها ، فتتركز هذه الصورة الصحيحة في خلده ، فتؤثر في اخلاقه وعاداته وتفكيره ، وتفضي به الي الحرية من الخوف ، فيستعيد بذلك وحدة الفكر والقول والعمل في وجوده ووعيه كليهما ويحل حينئذ التوافق والاسماح بين العقل الباطن والعقل الواعي محل التعارض والكبت الذي هو سبب الجريمة بين الأفراد وسبب الحروب بين الأمم.



الجبر والاختيار ... والقانون

وللتعارض بين العقل الباطن والعقل الواعي مظهر آخر ، هو مسألة الجبر والاختيار ، وهي مسألة أساسية طالما ظهرت وأختفت في تاريخ الفكر البشري من غير ان تظفر بحل ، وعلي حلها يتوقف أمر تربوي هام ، في المستوي الفردي ، وفي المستوي الجماعي ، ونكاد نجزم انه لا بد لنا من حلها ، اذا كان لا بد لنا أن نجد أسلوب التعليم الجديد ، الذي به يعيد كل فرد تعليمه ، ليكون لنفسه صورة صحيحة عن الوجود ، وذلك أمر قد سبقت الاشارة الي أهميته.



القانون والقرآن

ان القرآن يبشر بعودة الانسانية ، علي هذا الكوكب ، الي الاهتمام بمسألة الجبر والاختيار من جديد ، وهو لا يبشر بتلك العودة فحسب ، وانما يقدم لتلك المسألة التاريخية الحل الأخير حينما يقول في جملة ما يقول ((أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها واليه يرجعون)) ويطيح في جملة واحدة بالوهم الذي يسيطر علي عقولنا ويخيل لنا أننا نستقل بارادة ، ثم هو يطوع جميع تشاريعه لتعين عقولنا حتي تقوي علي مواجهة النور ، وذلك ان الوجود وحدة ، يخضع لارادة واحدة من ذراته الي شموسه ، فتلك الارادة هي القانون الطبيعي ، الذي اختط للعوالم المختلفة وللحيوات التي تعج بها تلك العوالم ، بداياتها ونهاياتها ، ثم رسم لها خط سيرها فيما بين ذلك رسما محكما لا مكان فيه للمصادفة ، وانما كل ما فيه بحساب دقيق وقدر مقدور: وهذا القانون الطبيعي المحكم الدقيق هو أثر العقل الكلي القديم ، الذي ما عقولنا الجزئية المحدثة الا أقباس منه. والقرآن يهدف الي تحرير عقولنا بأن يوجد بينها وبين العقل الكلي القديم صلة موصولة ، وذلك بأن يقيدها بقانون يحكي في دقته وفي وحدته القانون الطبيعي ، ليخلق بقانون الوحدة من عقولنا المنقسمة بين عقل باطن وعقل واع كلا واحدا متسقا قادرا علي التوفيق والتوحيد بين المظاهر المختلفة في الحياة ، وبذلك تقوم في اخلادنا الصورة الصحيحة عن الحياة وعن حقيقة البيئة التي نعيش فيها.



القانون والتقنين

وبفضل قانون الوحدة ((التوحيد)) في القرآن يقوي العقل البشري علي أن يميز الفروق الدقيقة بين الوسائل والغاية ، حتي حينما تكون الوسيلة طرفا من الغاية ، وكذلك نستطيع أن نعرف ان الفرد هو الغاية ، وأن الجماعة هم وسيلة اليه .. ونتج عن هذا أمران: اولهما أن القرآن قد اشتمل علي دستور للفرد في المكان الأول ، ودستور للجماعة في المكان الثاني ، وثانيهما أن القرآن نسق تنسيقا متسقا بين حاجة الفرد الذي هو غايته ، وحاجة الجماعة التي هي وسيلته ، فلم يقم هناك تعارض يوجب التضحية بأيهما ، ويمكن ان يلتمس هذا التنسيق الدقيق في تشريع الحدود ، حيث قد بلغ أقصي أوجه ، والله تعالي يقول ((وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه)) وان توهم المعتدي جهلا انه قد ظلم غيره ، ولذلك فان اقامة الحد عليه انصاف لنفسه من نفسه في المكان الأول ، وانصاف لغيره من نفسه في المكان الثاني ، كذلك يلتمس هذا التنسيق الفريد في قوانين القصاص ، والله تعالي يقول ((ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب لعلكم تتقون)) فهي حياة للفرد المقتص منه بنفي أوهامه ، وتنشيط ذهنه ، وتوسيع خياله ، وهي حياة للجماعة المقتص لها ، بحفظ نظامها واستتباب أمنها ، ونحن نري لذلك أن قوانين الحدود: الزنا – الخمر- السرقة – القذف – قطع الطريق - ، يجب ان تقام ، ونري أن تشريعنا يجب أن ينهض علي مبدأ القصاص ، لأن بذلك يتحقق لنا أمران: أولهما التنسيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة ، وثانيهما اننا نضع الفرد من الوهلة الأولي في طريق تحقيق الحرية الفردية المطلقة ، لأننا بتشريع القصاص كأننا نقول له: انت حر مطلق الحرية في أن تفكر كما تريد وان تقول كما تفكر ، وان تعمل كما تقول ، بشرط واحد ، هو ان تدفع ثمن هذه الحرية ، وهو ان تتحمل المسئولية المترتبة علي تصرفك فيها ، فان اعتديت علي أحد اعتدينا عليك بمثل ما أعتديت عليه. ثم علينا الا نفارق تشريع القصاص ، الا حيث لا يكون التطبيق ممكنا ، وفي تلك الحالة نجعل عقوبتنا أقرب ما تكون للقصاص.



الدستور والقانون

يتضح من هذا اننا نتمسك بالتوحيد ، ونستقي منه تشريعنا الفرعي بالقياس علي تشريعي الحدود والقصاص ، حتي يجيء منسقا في اتجاه موحد لحاجة الفرد وحاجة الجماعة ، ونستقي منه تشريعنا الاساسي ((الدستور)) بتمثل روح القرآن – لا اله الا الله - ، حتي يجيء منسقا في اتجاه موحد لحاجة الحكومة المركزية ، وحاجة أعضاء الاتحاد المركزي في مجتمعنا: المجتمع الصغير – السودان – والمجتمع الكبير – الكوكب الأرضي

فنحن اذن نتخذ دستورنا من روح القرآن ولا نقيد تشريع هيئتنا التشريعية الا بالتوحيد المنسق للحقوق ، التي تبدو لدي النظرة الأولي متعارضة ، لأنه ان لم يكن كذلك لا يكن قانونا – وننظر الي نصوص تشاريع القرآن ، ونصوص تشاريع السنة في المعاملات ، كوسائل لتحقيق روح القرآن ، ونصر علي التمسك بها ، الا اذا كانت المصلحة في تطويرها بحيث تتقدم خطوة أخري بمجتمعنا الحديث نحو تحقيق ذلك الروح ، في مضمار الحياة اليومية ، وأما نصوص تشاريع القرآن ونصوص تشاريع السنة في العبادات ، فهي باقية علي ما هي عليه وليس لمشرع عليها من سبيل ، فمن شاء اتاها علي صورتها المأثورة عن النبي ومن شاء تركها و((لا اكراه في الدين ، قد تبين الرشد من الغي)) ذلك بأن الله تعالي حين شرع العبادات انما اراد بها اعانة الفرد علي أن يحسن التصرف في الحرية الواسعة التي أعطاه اياها ، من غير أن يتورط في العقوبات التي اشتملت عليها القواعد القانونية او القواعد الاخلاقية ، حتي يفضي به السعي ، وهو موفور ، الي الاستمتاع بحقه الكامل في الحرية الفردية المطلقة ، وبمعني آخر ، ان الله تعالي يضع الانسان ، من الوهلة الأولي ، في طريق الحرية الفردية المطلقة ، علي شرط واحد ، هو أن يتحمل مسئولية نصرفه فيها ، ثم أستن له الاسلوب التعبدي الذي بلغ نهاية كماله في النحو المأثور عن النبي ، ليستعين بممارسته علي حسن التصرف في تلك المسئولية الباهظة التي قد تنقض ظهره ان لم يأخذ نفسه بتلك الرياضة الروحية الحكيمة.



الانسانية ومستقبل الدين

اننا نحن نعتقد ان الانسانية اليوم تعاني القلق والاضطراب الذي يصحب فترة المراهقة وأنها لن تلبث أن تخلف عهد الطفولة والنقص وتستقبل عهد الرجولة والنضج ، ولن تحتاج في غدها القريب الدين ، علي نحو ما احتاجته في ماضيها ، يقوم علي الغموض ويفرض الاذعان وانما تحتاجه يقوم علي الوضوح ، ويقدم اسلوبا للحياة وفق قانون الطبيعة ، ولذلك فانا نري ان تشريع العبادة في الاسلام ، بما يحقق هذا الغرض ، ستهوي اليه أفئدة الانسانية. والآن ، وبعد هذه المقدمة الطويلة ، التي بينا فيها رأينا في القانون ، وفي الدستور ، مما تتقيد به هيئتنا التشريعية ، نحب ان نتحدث حديثا مباشرا عنها.



هيئتنا التشريعية

السلطة التشريعية يخولها الدستور لبرلمان مركزي ، مكون من مجلس واحد نيابي ، يكون ممثلا للولايات الخمس ، كلا بحسب أهميتها ودرجة تمتعها بحكمها الذاتي ، فيمكن ان يكون به ممثل واحد لكل 200 ألف مواطن في الولايتين الغربية والجنوبية ، وممثل واحد لكل 150 الف مواطن في الولايتين الشرقية والشمالية ، وممثل واحد لكل 50 ألف مواطن في الولاية الوسطي: هذا علي سبيل المثال ، وسيكون هذا الاجراء أجراء مؤقتا ، فيتعدل الدستور ليحقق التمثيل المتكافيء بين المواطنين في جميع الولايات كلما تقدمت نحو مباشرة السلطات التامة للحكم الذاتي ، ويمكن أن يخول للمجلس التشريعي لكل ولاية تحديد أهلية نواب ولايته ، وطريقة ترشيحهم ، علي أن يكونوا مستوطنين بالولاية التي يمثلونها ما لا يقل عن سبع سنوات ، وألا تقل أعمارهم عن الخامسة والعشرين وأن يحسنوا الكتابة والقراءة ، ويشترك في إنتخاب البرلمان الرجال والنساء البالغين من العمر الثامنة عشرة ، ويشرف علي إجراء الإنتخابات لجنة مخصوصة ، يعهد إليها أيضا بوضع حدود للولايات مستديمة ، علي أن يقر هذه الحدود البرلمان الأول في أول أعماله ، فإن أجري فيها تعديلا لا يصير التعديل نافذا إلا بعد نهاية مدة نيابته ، لدي إجراء الإنتخاب للبرلمان المقبل ، وتستمر دورة البرلمان أربع سنوات ، وله أن يشرع في أي أمر يراه لمصلحة الجماعة ، علي أن يتقيد بالقيود التي تجعل تشريعه قانونا حكيما علي نحو ما سلف به القول ، فإنه ، إن لم يفعل ذلك ، فإن هناك رقابة مشددة علي دستورية القوانين من الشعب ومن الرئيس ومن القضاء ومن محكمة العدل الدستورية بشكل خاص ، وسيرد اليه تشريعه إن لم يكن دستوريا ، وقد يعتقد بعض الناس أن في ذلك تدخلا في عمل الهيئة التشريعية قد يؤخر التشريع ، وقد يكون ذلك حقا في باديء الأمر ، حين لا يكون للنواب ثقافة قانونية صالحة ، وليس بالتأخير من ضير ، إذا ما كانت نتيجته وضع تشلريع واعية وحكيمة ، وهناك أمر ما ينبغي أن يغرب عن بالنا ، وقد وردت الإشارة اليه عند حديثنا عن السيادة ، وهو إننا نقيم نظامنا علي محاربة الفكرة الخاطئة ، حيث القوة تصنع الحقوق ، وتقتضي الحقوق ، وحيث الدولة هي القانون ، ونيمم وجهنا شطر الفكرة الصائبة ، حيث الحق هو القوة ، وإن بدا أعزل ، قليل الناصر ، وحيث الدولة تخضع للقانون ، والشعب هو صاحب السيادة ، يخضع للقانون أيضا ، لأنه لا يستمد سيادته من مجرد وجوده ، وإنما يستمدها من حبه للقانون ، وفهمه إياه ، وإمتثاله له ، وهذا ما جعلنا نشدد في دستورية القوانين ، وما جعلنا نعتبر الهيئة التشريعية العمود الفقري في الهيكل الحكومي.



دستورية القوانين

والحق أن التشديد في الرقابة علي دستورية القوانين أمر طبيعي بالنسبة لكل مجموعة بوجه عام ، وبالنسبة لمجموعتنا المتخلفة بوجه خاص ، وذلك لأنه قد إتضح من حديثنا عن القانون ، وعن الدستور ، أنه لا يحسن التقنين إلا من أوتي حظا وافرا من العلم بخصائص النفس البشرية ، وبطبيعة الجريمة ، حتي يجيء التقنين عدلا شافيا لمرض الصدور ، ونحن إذ نجعل التشريع في البرلمان حقا من حقوقه الطبيعية ، بصرف النظر عن مستوي النواب ، إنما نسير في إتجاهنا الأساسي: وهو أنك لا يمكن أن تربي الناس إلا إذا أعطيتهم الفرصة الواسعة في التجربة ، وحتي يتعلموا بأخطائهم ، وما الرقابة علي دستورية القوانين إلا وسيلة لتنبيه الهيئة التشريعية الي الخطأ وإعانتها علي تصحيحه ، وسيكفل الدستور الإجراء الذي يتبع في ذلك.

وإلتزام البرلمان في تشريعه تحقيق التنسيق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة يلزمه أن يكون تشريعه إشتراكيا ، يملك موارد الثروة جميعها للشعب ، لا للأفراد ولا للدولة ، ويحدد الملكية الفردية بإمتلاك مالا يستخدم في إستغلاله أي مواطن. وعندما تقدم للبرلمان مشروعات قوانين يحسن سماع آراء المواطنين الذين سيتأثرون بها ، وآراء الفرع التنفيذي الذي يمكن أن تمسه أثناء إنجاز عمله قبل أن تصبح تلك المشروعات قوانين ، ويمكن أن تقدم مشروعات القوانين من أي فرد ، أو جماعة ، أو من مجالس الولايات التشريعية ، الي البرلمان ، أو أن يطلب البرلمان رأي هذه المجالس في أي تشريع يري أنه سيؤثر علي الرعايا الذين تخدمهم بعملها التشريعي ، وستتكون لجان إختصاص داخل البرلمان من الفنيين في كل فرع من فروع المرافق العامة.

و للبرلمان الحق في الإعتراض علي أي تشريع ، أو إجراء تتخذه الولايات ، لا يكون دستوريا ، أو متمشيا مع مصلحة الحكومة المركزية عامة. والقانون الذي يجيزه البرلمان يقدم للرئيس للتوقيع عليه ، ، فإذا ما وقع عليه صار قانونا ، وإذا أعاده للبرلمان مصحوبا بأسباب رفضه التوقيع عليه لم يصر قانونا إلا إذا أجازه البرلمان بأغلبية الثلثين ، وإذا لم يوقع عليه ، ولم يعده في ظرف شهر من الزمان ، صار قانونا ، من تلقاء ذلك.

و البرلمان المركزي يقوم علي وحدة تشريعية لسائر البلاد ، ولكن المجالس التشريعية للولايات يمكنها أن تشرع لمجموعتها حسب الأوضاع ، والإمكانيات ، والحاجة ، علي أن تحرص علي أمرين: أولهما موافقة تشريعها للدستور دائما ، وثانيهما أن يستهدف تشريعها تطوير الولاية ، حتي تتحقق الوحدة التشريعية لسائر البلاد ، حتي في الأحوال الشخصية.

و الي جانب سلطاته التشريعية هذه ، فإن البرلمان يختص بالمسائل التي تهم الإتحاد بأكمله: في الداخل ، كتنسيق نشاط الولايات في جميع وجوهه ، حتي يطرد تطورها الي تقارب ، وتماسك ، وإتحاد ، يقوي كل حين بمحض إختيار الولايات ، وفي الخارج ، إعلان الحرب ، إذا إقتضي ذلك ضرورة الدفاع ، والتصديق علي المعاهدات ، والإشراف علي تجارة البلاد الخارجية ، وأستيراد رؤوس الأموال الأجنبية لأي من الولايات لدي الضرورة وبالصورة التي يراها لمصلحة البلاد ، والتصديق علي الميزانية العامة للحكومة المركزية ، والخاصة بكل ولاية من الولايات ، وله أن يشرف علي تنمية الإقتصاد الوطني بإجراء التحقيقات ، وابتداع وسائل للتنمية يقترحها علي الرئيس ، كما للبرلمان الحق في أن يعترض علي تعيين أي من كبار الموظفين ، وله الحق في أن يتهم أي موظف مدني بإساءة التصرف ، بحيث يمكن أن تحال التهمة لتحري مجلس الدولة. وللبرلمان الحق في إختيار رئيسه ، وسائر موظفيه ، ولجان إختصاصه ، ومقرري تلك اللجان ، وله سلطة التحقيق ليتسني له دراسة الأحوال الخاصة التي تدعو لسن القوانين الجديدة ، وليعرف كيف يشتغل كل من أعضاء السلطتين التنفيذية والقضائية ، مما قد يؤدي الي إبتداع منافع جديدة للشعب ، وله حق إقتراح إقامة الإصلاحات التي يراها ، كما له حق التحقيق في سيرة أعضائه بأن يطلب مثلا من أشخاص ممتازين من الشعب معلومات عنهم أو بأي وسيلة أخري.

و للبرلمان حق الأشراف علي تشريع جميع الهيئات التشريعية في الولايات والمقاطعات والمدن والقري ، ليري ملاءمتها للدستور ولأغراض الحكومة المركزية ، من حيث حماية حقوق الناس جميعا ، حتي يكون لهم حق التنقل ، بدون قيد ، بين جميع الولايات ، وحق الإستيطان في أيها شاءوا ، متمتعين بحقوق الحياة ، والحرية ، والإمتلاك ، في حدود القانون ، وأن يلجئوا الي المحكمة في طلب العدالة ، والحماية ، كلما شعروا بظلم أو هضم.

الهيئة التنفيذية

السلطة التنفيذية يخولها الدستور لرئيس الجمهورية الذي ينتخبه الشعب إنتخابا مباشرا ، كما ينتخب نائبه مرة في كل أربع سنوات ، وفي حالة تخلي الرئيس عن منصبه يخلفه نائبه ، وفي حالة تخليهما معا ينتخب البرلمان من يقوم مقام الرئيس لمدة الدورة الرئاسية ، ومهمة الرئيس الأساسية تنفيذ الدستور ، والقوانين التي يسنها البرلمان ، وتسيير الإدارة جميعها لمصلحة الأمة ، وهو يستعين في ذلك بهيئة تنفيذية كبيرة مشتملة علي عدة دوائر تنفيذية ، كل منها تحت رئاسة عضو من أعضاء حكومته ، والرئيس في عمله هذا مسئول أمام الشعب ، وأعضاء حكومته مسئولون أمامه هو ، عن تنفيذ منهاجه الذي يرمي الي تحسين أحوال الأمة عامة ، وللرئيس حق الإعتراض علي أي تشريع يسن في البلاد ، ولا يصير تشريعا بدون موافقته ، إلا بإجازته بأغلبية الثلثين ، وعليه إصدار اللوائح ، والأوامر التنفيذية وهو يتوخي فيها أن تكون دستورية كدستورية القوانين ، كما عليه مسئولية العلائق مع الدول الخارجية ، وتنفيذ المعاهدات ، وتعيين السفراء ، والوزراء المفوضين ، وله أن يقبل السفراء الأجانب ، وضباط الإتصال ، وأن يتصل بالحكومات الأجنبية بنفسه أو بواسطة وزير خارجيته ، ويجب ألا يقل عمر الرئيس عن ثلاثين سنة ، وأن يكون سودانيا ، وأقام بالسودان مدة خمس عشرة سنة متصلة ، علي الأقل ، وهي المدة التي تكون سابقة لترشيحه مباشرة ، وأن يكون ذا أهلية علمية وإدارية ، وعقلية ، وخلقية ، ويرشح كل مواطن يري في نفسه هذه الأهلية نفسه للرئاسة ، وينتخب الشعب الرئيس ، ثم يعين الرئيس مجلس وزرائه الذي يتكون من وزراء للمعارف ، وللصحة ، وللمالية ، والإقتصاد ، وللخارجية وللداخلية وللزراعة ، وللتجارة والصناعة ، وللدفاع ، وللعمل. وللوزراء حق الإشراف علي المرافق فى جميع البلاد كوحدة ، ويعاون كلا منهم عدة مساعدين ومستشارين ، ووزارته تقسم الى عدة مصالح ، واقسام ، ومكاتب وتكون هناك عدة هيئات مستقلة عن الوزارات ، تشرف عليها لجان ، وتعين هذه الهيئات المستقلات الرئيس على انجاز مهام منصبه الخطير: كلجنة الجزيرة ، ولجنة لتشرف على أعمال السكة الحديدية ، وأخرى للبوسته ، وهناك مصلحة المراجعة ، ومصلحة العدل ، وهما مستقلتان تحت أشراف الرئيس ، الذى يعين أيضا القضاة للمحاكم المركزية المختلفة ، وللمحكمة العليا ، ولمحكمة العدل الدستوريه ولمحكمة الاستئناف العليا ، ورئيس القضاء ، ويكون كل ذلك بموفقة البرلمان ، ويعتبر حكام الولايات نوابا للرئيس ، يعينونه على ادارة ولاياتهم ، وهم ينتخبون بواسطة سكان الولايات ، ويعينون مساعديهم علي نحو ما يفعل الرئيس وللرئيس حق إستفتاء الشعب في أي أمر يريده ، أو إذا إختلف مع البرلمان في أمر هام ، وينص الدستور على الإجراءات التى تتبع حينئذ . وللرئيس ان يلغى اعمال حكام الولايات اذا رأى انها لا تستقيم مع القانون وعلى الرئيس يقع واجب استثمار الموارد فى سائر البلاد ، وانتاج ادوات الاستهلاك ووضع الحدود على توريد ما يستورد منها ، وتحقيق العدالة الاجتماعية بين سائر المواطنين ، وتحضير الميزانية المركزية ، "وميزانيات الولايات" بشكل يحقق التناسق فى تطويرها .. ويعاون الرئيس فى عمله ، الى جانب الموظفين المذكورين ، جهاز منظم من الخدمة المدنية يكون الانتساب اليه ، والترقيه فيه ، على اساس الجدارة ، والمقدرة ، التى يمكن ان يقام الامتحان للتعرف عليها ، ومع ان هذا الجهاز محمى ، وتشرف على تنظيمه وحمايته لجنة ، الا انه خاضع للمراقبة المستمرة من البرلمان ، ومن الشعب ، ومن الحكومة ، حتى لا يتورط فى الرتابة ، وتنقطع صلته بالابتكار والتجديد ، ومرتب الرئيس لا يزيد ، فى بادئ الأمر ، عن الالف جنيه فى العام ، ويقيم بالسراى حيث يتخذ مكاتبه ايضا.





الفصل الثامن

الهيئة القضائية

القضاء هو السلطة الثالثه فى الحكومة المركزية ، وهو قضاء موحد ، فلا قضاة شرعيين ، وقضاة مدنيين ، وانما هم قضاة محاكم صغرى ، او محاكم كبرى ، او قضاة المحكمة العليا ، ويشرف على القضاء رئيس القضاء ، وهو ، وقضاته يعينهم رئيس الجمهورية ، بموافقة البرلمان ، وهم يبقون فى مناصبهم ، مادام عملهم مرضيا ، ويباشرونه فى حرية واستقلال عن اى نفوذ اجنبى ، واعمالهم كلها علنية ، ويعين مرتباتهم البرلمان ، وينص الدستور على الا تنقص مرتباتهم مدة وجودهم فى مناصبهم ، وهم لا يعزلون الا لعدم الصلاحية الواضح ، ولا ينقلون الا بواسطة رئيس القضاء وحده ، وللقضاة مجتمعين ومنفردين ، الحق فى الاعتراض على دستورية القوانين ، ولهم الا يطبقوا أى قانون يعتقدون عدم دستوريته ، وتكون هناك محكمة استئناف عليا ينص الدستور على قيامها لتشرف على قضاء جميع المحاكم ، وقضايا الخلاف بين الولايات ، ولها صلاحية تفسير الدستور وهى تتكون من خمسة من القضاة ، يجلسون فى هيئة ، تحت رئاسة رئيس القضاء ، ويصدرون احكامهم بالاغلبية ، وتسجل الاقليه معارضتها للقرار الرسمى ، وللرئيس صوت مرجح عند الاقتضاء ، وهناك محكمة ادارية للنظر فىالخلاف الذى ينشب بين الحكومة والافراد او الهيئات ، كما ان هناك محكمة عدل دستورية يرفع اليها الخلاف حول دستورية القوانين ، ويستانف حكمها فيه لمحكمة الاستئناف العليا آنفة الذكر ..





الفصل التاسع

حكومة الولاية

لكل ولاية دستور مكتوب ، يحوى ، بالاضافة الى المسائل الاساسية الواردة فى الدستور المركزى ، القضايا الخاصة المحلية ، بشكل لا يتعارض مع الدستور المركزى ، وان تاثر بمستوى الولاية المادى ، والاجتماعى ، والثقافى ، ويكون خطوة اولى فى تطوير الولاية نحو وحدة الدستور ، بين الولايات والحكومات المركزية ، ووحدة التشريع ايضا وينص دستور الولاية على الطريقة التى بها تؤلف حكومة الولاية وحكومة كل من المقاطعتين ، والمدن والقرى ، ويضمن هذا الدستور كل الوسائل التى تكفل ترقى الولاية ، وهو عرضة للتعديل المستمر ، اما بواسطة الاستفتاء الشعبى العام ، او بواسطة المجلس التشريعى للولاية ويكون غرض تعديله مواصلة تطوير حتى يبلغ مرتبة الاتحاد ، والانطباق مع الدستور المركزى ودستور الولاية هو مصدر سلطات حكومتها ، وبموجبه يقوم مجلس تشريعى ينتخب من رعايا الولاية بواسطة المواطنين البالغين من العمر الثامنة عشرة من رجال ونساء ، وتكون لهذا المجلس التشريعى بالنسبة للولاية جميع صلاحيات البرلمان المركزى بالنسبة للحكومة المركزية لأنه ، فى الحقيقة ، امتداد له كما ان حكومة الولاية امتداد للحكومة المركزية . وبموجب دستور الولاية ينتخب المواطنون حاكم الولاية ايضا ، ويمكن ان يكون الحاكم مستجلبا من خارج الولاية اذا راى السكان ذلك من المصلحة . ويعين الحاكم المنتخب هذا مساعديه الذين يكونون مسئولين امامه عن العمل لترقية الولاية ولتنسيق مجهود المقاطعتين داخلها ، كما يكون هو مسؤلا امام سكان الولاية ، ويعتبر مساعدوه ضباطا تنفيذين للفروع الاساسية للحكومة المركزية ، وهم ، في حقيقتهم يكونون إمتدادا لسلطات وزراء الحكومة المركزية: للمعارف ، والصحة ، وللمالية والإقتصاد ، وللخارجية ، وللداخلية ، وللزراعة ، وللتجارة والصناعة وللدفاع وللعمل ، كما أن للولاية لجانا تعتبر إمتدادا للجان المستقلة في الحكومة المركزية ، وللولاية نظام خدمة مدنية يسير علي نفس خطوطه في الحكومة المركزية ، ولكل ولاية نظامها القضائي ، حيث يرشح حاكمها قضاتها بمعاونة المجلس التشريعي ، ثم يعينهم رئيس الجمهورية بموافقة رئيس القضاء ويعمل القضاة في إستقلال تام وبعلنية كاملة ، ولا يخضعون إلا لرئيس القضاء المركزي الذي سيكون له نائب يشرف علي قضاء كل ولاية ، ويضمن الدستور لقضاة الولايات كل ما يضمنه من إستقلال لقضاة الحكومة المركزية ، ولكل ولاية محكمة عليا تشرف علي قضائها ، ويستأنف قضاؤها هي للمحكمة العليا المركزية ، وللولاية قوات بوليسها الكافية لحفظ الأمن الداخلي ، وتخضع هذه القوات لحاكم الولاية مباشرة ، ولكل ولاية ، كما للحكومة المركزية ، محكمة إدارية تختص بفض النزاع بين الأفراد والهيئات وبين حكومة الولاية ، كما أن لكل ولاية محكمة عدل دستورية يرفع إليها النزاع حول دستورية القوانين ولها صلاحية تفسير الدستور. ويستأنف حكمها لمحكمة العدل الدستورية المركزية.





الفصل العاشر

حكومة المقاطعة

كذلك لكل مقاطعة دستور مكتوب ، يحوي المسائل الأساسية في الدستور المركزي: كتلك التي تخص حقوق المواطن الأساسية بالإضافة الي القضايا المحلية الخاصة بالمقاطعة. ويراعي في هذا الدستور أن يستقيم أولا مع دستور الولاية ، وألا يخرج عن دستور الحكومة المركزية. ويستهدف هذا الدستور تطوير المقاطعة لتلحق بمسنوي الحكومة المركزية ويكون خطوة أولي في هذا التطوير ، وهو يخضع للتعديل المستمر بواسطة الإستفتاء العام لسكان المقاطعة ، أو بواسطة مجلس المقاطعة التشريعي ، ويكون ذلك الدستور مصدر سلطات حكومة المقاطعة ، وبمقتضاه ينتخب مجلس تشريعي يباشر سن القوانين التي تكفل تسيير المقاطعة في طريق الترقي بإطراد ، وتكون لهذا المجلس بالنسبة للمقاطعة ، نفس سلطات المجلس التشريعي بالنسبة للولاية ، ويعتبر هو في ذاته إمتدادا لذلك المجلس ويشترك في إنتخابه سكان المقاطعة البالغون من العمر الثامنة عشرة من الرجال والنساء ، علي السواء . وبموجب الدستور ينتخب السكان حاكم المقاطعة ، ويمكن أن يكون من سكان المقاطعة كما يمكن أن يكون من خارجها ، إذا رأي السكان الفائدة في ذلك ، وحاكم المقاطعة يعتبر مساعدا لحاكم الولاية. وهو مسئول أمامه كما هو مسئول أمام الشعب ، وله أن يعين أعوانه الذين يعينونه علي تنفيذ منهاجه ويكونون مسئولين أمامه هو عن حسن تأدية أعمالهم ، وهم أيضا عبارة عن ضباط تنفيذيين للمرافق الأساسية في الحكومة المركزية من تعليم وصحة وزراعة وداخلية ومالية إلخ إلخ ، هذا بالإضافة الي ما هناك من مرافق قد تكون من حاجة المقاطعة المحلية ، ذلك بأن أكبر جهد حاكم المقاطعة يجب أن ينصرف الي العناية المباشرة برعاياه ، بأن يجعل إستيطان البدو منهم ممكنا ، وذلك بتوفير المياه لهم ولماشيتهم ، وبصيانة المراعي ، وبحفظ الكلأ بطريقة علمية ليستعمل في فصل الصيف ، وبإستعمال الري الصناعي في زراعة العلف ، وبتشجيع تربية المواشي علي الطرق العلمية الحديثة ، وتحسين نوعها ، فإنه قبل أن يتحقق الإستيطان لا يمكن التعليم ولا التمدين ، مما لا يتفق عادة إلا لسكان المدن ، أو القري. وغني عن القول أن التعليم هو الإسلوب الوحيد الذي يمحو الفوارق ويقارب بين العادات ويعمل علي وحدة الشعب بوحدة اللغة ، لأن التعليم يحي اللغة العربية بين المواطنين ، ويقتل اللهجات المحلية أو يضعفها. ثم أن علي حاكم المقاطعة واجبات أخري ، غير هذه ، كثيرة: كتنمية الموارد الطبيعية من جميع وجوهها ، وتحسين صحة السكان ، وتنويرهم سياسيا وإجتماعيا وفنيا وعلميا .. ولكل مقاطعة نظامها القضائي علي غرار ما للولاية ، وأحكامها تستأنف لمحكمة الولاية العليا ، ولها كل فرص الإستقلال وهي لا تخضع إلا لممثل رئيس القضاء ، وقضاتها يرشحهم الحاكم بموافقة المجلس التشريعي ، ويعينهم رئيس الجمهورية بمشاورة رئيس القضاء ، وللمقاطعة محكمة عدل إدارية ولها محكمة عدل دستورية ، وأحكام كل منهما تستأنف للمحكمتين المماثلتين بالولاية ، اللتين تستأنف أحكامهما بدورها للمحكمتين المماثلتين بالحكومة المركزية.

و لكل مقاطعة سلك خدمة مدنية يسير علي غرار نظيره في حكومة الولاية وفي الحكومة المركزية ، ويخضع لنفس الإعتبارات التي يخضع لها في الحكومة المركزية وكذلك لكل مقاطعة قوات بوليسها التي تخضع لحاكمها وتكون كافية لحفظ الأمن والنظام.





الفصل الحادي عشر

حكومة المدينة

و لكل مدينة أيضا دستور مكتوب ، وتكون به الحقوق الأساسية ، ولا يشذ عن دستور الحكومة المركزية ، وإنما يعني بالمسائل المحلية الخاصة بكل مدينة والحق أن تسميته بالدستور فيها شيء من التجوز ، سببها حرصنا علي تنسيق الأجهزة بين قاعدة الهرم والقمة والمحافظة علي وحدة التسمية ووحدة التربية السياسية ، وإلا فهو أقرب الي برنامج تطوير منه الي دستور ، وسيكون دستور المدينة مصدر سلطات حكومتها ، وبمقتضاه ينتخب مجلس المدينة التشريعي ، الذي سيضع من القوانين ما يكفل تطوير المدينة من جميع الوجوه حتي يجد فيها المواطن كل ما يحتاجه من وسائل التقدم والحياة السعيدة الكاملة. وبموجب هذا الدستور ينتخب المواطنون البالغون الثامنة عشرة من رجال ونساء محافظ المدينة ، كما إنتخبوا مجلسها التشريعي ، وللحاكم أن يعين مساعديه الرئيسيين الذين يكونون مسئولين أمامه عن تنفيذ منهاجه لترقية المدينة ، كما يكون هو مسئولا أمام سكان المدينة الذين إنتخبوه ، ويعتبر محافظ المدينة مساعدا لحاكم المقاطعة ، ويتوخي فيه ، وفي معاونيه أن يكونوا ، بقدر المستطاع ، إمتدادا لمهام الرجال المركزيين في التعليم ، وفي الصحة ، وفي التجارة ، والصناعة إلخ إلخ ، ويكون هم حكومة المدينة تنوير الشعب وتعليمه ورفع مستواه وإشراكه في أعمال الحكومة ، بنشر القرارات ، وعلنية القضاء ، والتشريع وبإستعمال جميع وسائل التثقيف ، وخاصة السينما ، وبنشر أندية الصبيان ، ودور المرشدات ومنظمات الكشافة وبإقامة إتحادات الشبان والشابات ، وبتطويع جميع هذه المنظمات لنشر الثقافة ، وبث روح الخدمة ، حتي تحظي جميع مرافق المدينة بالترقية والتجديد المطرد. وعلي حكومة كل مدينة تنظيم وسائل ربط القري التي حولها بها وإيجاد علائق ثقافية وفنية وتجارية معها ، ومع المدن الأخري البعيدة أو القريبة. وللمدينة محاكم يرشح المحافظ قضاتها ، ويعينهم رئيس الجمهورية ، بالتشاور مع رئيس القضاء ، وللمدن الكبري محاكم عليا تشرف علي قضائها وتستأنف أحكامها لمحكمة المقاطعة العليا.





الفصل الثاني عشر

حكومة القرية

علي نفس نظام المدينة ، يكون للقرية دستور مكتوب ، ويكون مصدر سلطات حكومة القرية ، التي تتكون من مجلس تشريعي منتخب ومجلس تنفيذي منتخب ، ومن محكمة قرية ، وتحاول القرية تطبيق الديمقراطية المباشرة لسهولة ذلك في مجتمعها الصغير ، حيث يمكنها أن تشرك المواطنين جميعهم في جميع الإجرآءات التي تتخذ في التشريع ، وفي التنفيذ ، بطريق مباشر تقريبا. كما تحاول المساواة التامة بين الرجال والنساء ، في حق الترشيح ، وحق الإنتخاب ، ويكون هم حكومة القرية النهوض بمجموعتها بكل الوسائل وبأقل التكاليف فتستعمل مسجد القرية كمصلي ، وكمحكمة للقرية ، وقاعة محاضرات ، وكقاعة إجتماعات للمجلس التشريعي ، الذي ربما لا ينعقد إلا مرة في العام وفي القرية يطبق التعليم المختلط ، وفي جميع المراحل ، وتستعمل بناية المدرسة ليلا لتعليم الكبار ، وتعمل القرية كما تعمل المدينة ، في تنظيم هيئات الشبان والشابات ، والكشافة ، والمرشدات ، وتطوعها لخدمة القرية ، في جميع الوجوه كما تعمل في تشجيع المنافسة في الرياضة ، والعلم ، والفن ، بينها وبين القري المجاورة. وتعني حكومة القرية- شيخ القرية- بحفظ سجل المواليد ، والأموات والزيجات إلخ إلخ ، ويكون شيخها منتخبا بواسطة السكان البالغين من العمر الثامنة عشرة من رجال ونساء ، ويعين الشيخ معاونيه ويتوخي فيهم ، حيث كان ذلك ممكنا ونافعا ، أن يكونوا إمتدادا لمهام الرجال المركزيين في التعليم والصحة والزراعة إلخ إلخ . وحكومة القرية ، أو قل الشيخ مسئول عن تنظيم قريته في التخطيط والبناء ، حتي تصبح قرية نموذجية حيث جميع مرافقها موضوع وضعا هندسيا ، والحكومة المركزية مسئولة دائما أن تمد يد المعونة الفنية الضرورية لذلك. ولكل قرية محكمة تفض النزاع ، وتستأنف أحكامها الي محكمة المدينة العليا ، وقد يكون لبعض القري كما للمدن ، نظام بوليس بسيط يعين علي حفظ الأمن ويكون خاضعا للشيخ ، والقري تكون تابعة للمدن المجاورة لها ، ويكون هناك مجلس مختلط من سكان المدينة وسكان القري التي تتبعها ينسق الأعمال المشتركة بين المدينة وريفها. وينص دستور المدينة علي تكوين هذا المجلس ، وعلي إختصاصاته التي من أهمها رفع مستوي الريف ، حتي يجد فيه سكانه ما يغريهم بالإقامة فيه ويصرفهم عن النزوح الي المدن بالشكل الذي نراه اليوم ، فإننا نهدف إلي إقامة ديمقراطية المدن الصغيرة والأرياف العامرة ، لا إلي ديمقراطية المدن الكبيرة ، والأرياف الخالية من السكان.

الفصل الثالث عشر

الإقتصاد

لا بد لفروع الحكومة جميعا من تمويل ، ولذلك لا يكون الحديث عن الدستور مستوفى الا اذا تحدثنا عن تمويل الجهاز الحكومى والحق اننا لا نعتقد ان الديمقرطية عبارة عن مدلول سياسى فحسب ، ذلك بانها لا تحقق الا اذا قامت على ثلاث دعامات هى: المساواة السياسية ، والمساواة الاقتصادية ، والمساواة الاجتماعية . ولقد بينا خطوط المساواة السياسية فى محاولتنا وضع اسس الدستور ، وعندنا ان المساواة الاقتصادية تعنى وضع حد أعلى للدخول وحد أدنى ، لا يبلغ التفاوت بينهما أن يخلق طبقة عليا تنظر بتافف الى طبقة دنيا ، على أن يكون الحد الأدنى كافيا ليكفل للمواطن عيشا يليق بالكرامة الانسانية وأن يكون مكفولا حتى للعجزة الذين لا ينتجون وحتى للاطفال على ان نعمل عملا متواصلا لتنمية الموارد حتى يرتفع الحد الادنى والحد الاعلى الى مستوى الحياة الرغيدة ونحن لذلك نجعل ملكية المرافق الاقتصادية جميعا للشعب لا للافراد ولا للدولة ، ونعنى بذلك مصادر الانتاج ، ووسائل الانتاج ، على ان تديرها الأجهزة التنفيذية فى جميع مستوياتها بالتعاون مع المواطنين ، وعلى ان تعمل هذه الاجهزة على تدعيم النظم التعاونية بين الشعب فى الزراعة والصناعة والتجارة ، مبتدئة من القرية ، فالمدينة ، فالمقاطعة ، فالولاية ، فالحكومة المركزية التى يكون عملها الأساسى رسم السياسة العامة ، لتوسيع المرافق الاقتصادية وتدعيمها ، وتمويلها ، وامدادها بالارشاد الفنى والادارى ، ثم الاشراف على التوزيع حتى تقوم العدالة على اسس تحقق المساواة الاقتصادية بين سكان القطر جميعه ، وسنفرد للمسالة الاقتصادية سفرا مستقلا ، يكون متمما لاسس دستورنا هذه التى قدمناها ، وترجو ان يصدر هذا السفر قريبا .



الفصل الرابع عشر

التعليم

كما سنفرد للتعليم سفرا منفصلا ، يكون متمما ايضا لأسس الدستور هذه التى قدمناها آنفا ، لأن الديمقراطية لا تقوم فى شعب جاهل ويكفى هنا ان نقول اننا نهيئ جميع أجهزة الحكومة لتعين الشعب فى تثقيف نفسه ، وسبق تفصيل هذا فى مكانه من الدستور ، وستكون المدارس مجال التعليم الرسمى ، الذى يعد كلا من الرجل والمراة ليخدم المجموعة فيما تؤهله له مواهبه وطبيعته وسيكون التعليم بالمجان فى جميع مراحله ، وسنعمل على ان نجعل التعليم الاولى اجباريا فى جميع الولايات ياخذ الطفل والطفلة من سن الخامسة ويتعهدهم الى سن الخامسة عشرة ، على ان يعطيهم تعليما مهنيا فى جميع المراحل يعدهم ليكونوا نافعين فى الوسط الذى يعيشون ويعملون فيه وسيستعمل البناء الواحد فى القرية او المدينة لمدة ستة عشر ساعة كل يوم لتعليم افواج البنين والبنات من غير انفاق كبير فى اقامة البنايات المتعددة لكل على حده ، وستستخدم المساجد الى جانب الصلاة ، لاغراض التعليم التى تتناسب معها كالمحاضرات والمناقشات العامة حتى تنتشر الثقافة العلمية والفنية بكل وسيلة وبأقل تكاليف مادية ممكنة وحتى يكون التعليم والتثقيف الشغل الشاغل للدولة وللهيئات وللافراد.





الفصل الخامس عشر

الاجتماع

وهذا ايضا نعد فيه سفرا يتمم اسس الدستور ، ونستطيع هنا ان تقول اننا لا نقيم فروقا اجتماعية على اى اسس من الدين او اللون ، او الجنس ، او اللغة ، او النوع – رجل وامراة – فالناس عندنا سواسية لا يتفاضلون الا بالعقل والخلق ، ومحك ذلك العدل فى السيرة بين الناس والنصح والاخلاص للمواطنين فى السر والعلن ، والخدمة العامة فى كل وقت وبكل سبيل .. اننا ننمى جميع موارد الثروة ، النباتية ، والحيوانية ، والمعدنية ، والصناعية ، لنستعين بها على تنمية المورد البشرى وتحسين نوعه ومحو فوارقه بالتثقيف والتمدين ، حتى يمكن التزاوج بين جميع طبقاته ، وبذلك تمحى الطبقات . والحق ان بلادنا شاسعة قليلة السكان ولذلك فانه سيقوم قسم خاص فى وزارة العمل يعهد اليه بتنظيم الزواج ، ويتعاون مع وزارة الصحة ، وقسم التغذية فى وزارة الزراعة ، ومع وزارة المعارف ، للاشراف التام والتغذية الصحيحة للاطفال منذ الحمل والى ان يتركوا مرحلة التعليم الاجبارى فى سن الخامسة عشرة كما سيعمل قسم المنازل الشعبية بوزارة العمل ، مع المصالح والوزارات المختصة ، لتحسين العناية بالمستوى الصحى ، بتحسين المنازل وتنظيم المدن والقرى .

وهناك نقطة هامة ركزنا عليها كثيرا فى حديثنا الماضى ، ونريد ان نختم بها هذه النبذة وهى اننا نعتبر كل فرد ، مهما كانت حالته العقلية او الجسدية ، غاية فى ذاته ، لا وسيلة الى غاية وراءه.





خاتمة

يتضح من كل هذا ، أننا بدستورنا الذي أوجزنا اسسه آنفا نختار لجمهوريتنا النظام الرئاسي ولدولتنا الاتحاد المركزى وذلك لاننا بهذا الوضع نيسر نهوض بلادنا بسرعة وتركيز ، فان النظام الرئيسى ، فى مثل طورنا الحاضر ، انسب ما يكون لنا لما يهيئ من ادارة حازمة ، سريعة البت فى الامور الى جانب ما يكفل من ضمانات لتلك الادارة ، لتكون ممحصة ورشيدة وديمقراطية ، ثم اننا نعتبر النظام الرئاسي نظاما مرحليا يعد الشعب لممارسة النظام الاكثر ديمقراطية وهو النظام البرلمانى الذى يكون توزيع السلطات فيه اكثر شمولا مما هو فى النظام الرئاسي فكأن النظام الرئاسي عندنا نظام وصاية ، ولكنه اقرب نظم الوصاية الى الديمقراطية ، بل هو فى الحقيقة ديمقراطي تماما ..

واما الاتحاد المركزى فانه ، زيادة على انه تنظيم لمجتمعنا الصغير – السودان – على نفس الاسس التى يمكن ان يقوم عليها تنظيم مجتمعنا الكبير – العالم – وهو مادعونا اليه فى ديباجة دستورنا ، يناسبنا من حيث حاجاتنا الحاضرة كل المناسبة ، وذلك لانه يوفق بين مزايا الوحدة الوطنية المنشودة ، ومزايا الاستقلال الذاتى المحلى ، فيضمن وحدة التشريع فى المسائل الهامة ، التى يحسن ان يكون التشريع فيها موحدا لجميع الدولة ، ويسمح فى الوقت نفسه بايجاد تشريعات خاصة محلية ، فى المسائل التى تقضى المصلحة المحلية بان يكون لكل بقعة تشريعها الخاص ، طبقا لمصالحها المتميزة عن مصالح البقاع الأخرى ، فان هذا ادعى ان يرقى اقاليمنا المتخلفة – وكلها متخلفة – بسرعة وتركيز ، ثم ان الاتحاد المركزى بما يستدعى من توزيع السلطات بين الهيئة المركزية وحكومات الولايات والمقاطعات والمدن والقرى يصبح ادنى ان يحول دون استبداد السلطة الواحدة الممركزة المتمتعة بالسلطان الكامل على جميع اجزاء الدولة ، وفى هذا وضع للسيادة فى الشعب ، هو فى ذاته خليق ان ينهض بالمواطنين ويصحح رايهم فى مقدرتهم وفى قيمتهم الذاتية وبغير هذا التصحيح لن تبرز شخصية الشعب ، ولن يتكون الراى العام القوى المستنير ، زيادة على ان هذا النظام ، بما يضع امور المواطنين فى الولايات والمقاطاعات والمدن والقرى فى ايديهم يحفز الافراد على الاستزادة من الثقافة العامة ويبعث فيهم روح الاهتمام بالمسائل العامة ، كما انة يؤدى الى تحسين الادارة ودقة سير دولابها ، وهو ايضا ، بما يوفق بين عاطفتى الاتحاد والاستقلال لدى الولايات يحل الثقة بين المواطنين محل الشك ويسير باجزاء القطر بسرعة نحو التقدم ونحو توثيق العلاقات ، ونحو تقوية الاتحاد .

وقد يظن اناس ان هذا الدستور لايناسب حالة البلاد المتاخرة الحاضرة وان تقسيمها الى ولايات تتمتع بالحكم الذاتى سيضعفها ، ولكن يجب الا يغيب عن الذهن: اننا فى بادئ امرنا ندعو الى مركزية قوية تعطي الولايات من الحكم الذاتي القدر اليسير الذي تطيقه ، من غير أن تضعف المركزية أو يتعرض الأمن الداخلي في البلاد الي ما يهدده ، ثم تسير بالولايات الي حيث تصبح أهلا لتولي الحكم الذاتي الكامل ، واضعة في ذهنها دائما ، أن أسرع وسيلة لتعليم الشعب ، هي أتاحة الفرصة له ليتعلم من من أخطائه في معالجة مشاكله ، وفي ممارسته الحرية ، لأن الحرية لا تعلم إلا بممارستها ، ومباشرتها ، ثم أنه يجب ألا يغيب عنا أن بلادنا عرفت اللامركزية دائما غير أن اللامركزية فيها كانت قائمة علي أسس قبلية لا علي أسس ديمقراطية ، كالتي ندعو إليها نحن الآن. ويجب ألا يصحب طور الإنشاء إلا أقل قدر من الإنحلال ، مما قد يكون طبيعيا في مثل هذه الحالات ، ولكن لا يمكن التساهل بأي حال من الأحوال ، ولأي إعتبار من الإعتبارات ، في مسألة الأمن العام في سائر أنحاء البلاد ، ولذلك فستكون قوات البوليس مركزية الي زمن قد يطول في حق بعض الولايات حتي تتأهل لمباشرة إدارتها من غير أن يتعرض الأمن فيها الي أي هزة من جراء تلك الممارسة.

أما بعد فإن هذه هي الأسس التي ستقوم عليها الصياغة القانونية الفنية للدستور الذي نريد ، وقد يبدو لدي النظرة العجلي أنه دستور طموح فضفاض ، والحق غير ذلك ، فإنه دستور عملي ، يبدأ بالبداية التي هي وضعنا الراهن ، ويختط النهاية التي هي غاية السودانيين وغاية الإنسانية في وقت معا ، ثم يرسم خط السير بين البداية والنهاية رسما واعيا ، لأنه لا يريد أن يترك التطور يسير علي هينته ، من غير تدبير وتقدير يوجهانه ويحفزانه ، فإن الحياة أقصر من أن تنفق في محاولة لا تتسم بالحذق والذكاء في التقدير والتدبير ، ونحن نتقدم بهذا الدستور لأمتنا ، ونرجو أن يوفقنا الله الي تطبيقه وتحقيقه ، وعلي الله قصد السبيل.



******
خاتمة: الله يرحم مصابيح الطريق السودانية عبر العصور واتمنى ان يكون هذا الاحتفال مناسبة للقوى الديموقراطية الحالية في اعادة اكتشاف وقراءة هذا الرجل وانصافه..موقع الفكرة الجمهوريةwww.alfikra.org



#عادل_الامين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ام احمد
- الاصر..!!
- السودان في متاهته
- رواية ظلمة يائيل...اتكاءة على الماضي واستشراف للمستقبل
- السودان اضحى رجل افريقيا المعاق
- الربيع المصري الى اين ؟!!
- سيرة مدينة:ملالا الباكستانية وسكينة السودانية
- انتخابات امريكا والطريق الطويل الى الامم الحرة
- التصالح مع الهوية السودانية هو مفتاح العبور للقرن21
- الاخوان المسلمين ومازق الشريعة في السودان
- احتضار الراسمالية الاحتكارية
- الازمة الفكرية للربيع العربي
- اذا كانت فضائية الجزيرة تحترم السودانيين حقا !!
- صدام ثيران البايسون
- السودان والطريق الطويل الى الديموقراطية
- هل ابتدا سباق المسافات الطويلة في مصر؟؟
- الحرب الباردة الجديدة
- الدكتور شاكر خصباك من رواد الليبرالية العربية
- هكذا تكلم محمد ابراهيم نقد
- مجموعة قصصية :خيال مآتة برتبة جنرال


المزيد.....




- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...
- اعتقال عشرات المتظاهرين المؤيدين لفلسطين في عدة جامعات أمريك ...
- كلمة الأمين العام الرفيق جمال براجع في المهرجان التضامني مع ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - عادل الامين - هكذا تكلم المفكر السوداني محمود محمد طه