أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبدالوهاب حميد رشيد - اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الحادي عشر















المزيد.....



اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الحادي عشر


عبدالوهاب حميد رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 3971 - 2013 / 1 / 13 - 12:36
المحور: الادارة و الاقتصاد
    


الجزء الثالث
بين مبدأ عدم التدخل الحكومي والسياسة الصناعية

الفصل الحادي عشر
نحو تطوير نموذج اقتصادي للقرن الحادي والعشرين:
دروس من شومبيتر، وميردال، وهايك
جيمس انغريسانو، كلية البيرستون في إدابو
ترجمة:حسن عبدالله (و)عبدالوهاب حميد رشيد
James Angresano, Albertson College of Idabo

مقدمة
المنظور الاقتصادي المفيد هو الذي يقّدم فرضيات معيارية normative propositions ومفهوماً للواقع الاقتصادي- الاجتماعي a conception of the socioeconomic reality، يأخذ بها عدد متزايد من العلماء الاجتماعيين(1). وإذا جرى، أيضاً، تقديم وقبول طرق التحليل الرسمية والنظريات المتماسكة من قبل عدد من المهنيين practitioners، فإن المنظور perspective يمكن اعتباره كنموذج paradigm(2). ولكي يتمكن المنظور الجديد من إثبات نفسه كبديل، جدي وقابل للتطبيق، للمنظور الكلاسيكي الجديد، وبالتالي، يصبح جزءاً من النموذج لدى مهنييّ العلم الاجتماعي في المجتمع الأكاديمي، فينبغي على ذلك المنظور تقديم مفهوم للواقع conceptualized reality أكثر واقعية من ذلك الذي يقدّمه حالياً المنظور الكلاسيكي الجديد. إن القيام بذلك من شأنه تمكين أنصاره من التقدم لزملائهم، والطلبة، وعامة الناس، بفهمٍ بديل للمؤسسات الرئيسية والقواعد الجارية للاقتصاد غير تلك التي يقدمها حالياً علم الاقتصاد الكلاسيكي الجديد، إضافة إلى أساسٍ لتطوير السياسات العامة لتحقيق فرضياته المعيارية. وليس الهدف من هذا الفصل هو طرح نموذج جديد، بل تقديم نقطة انطلاق لتطويره.
ويمكن لميراثنا من الفكر الاقتصادي أن يفيدنا كدليل نحو تطوير منظور اقتصادي جديد. إن نقطة البداية الصالحة هي فلاسفة الاقتصاد البارزين: غونار ميردال، جوزيف شومبيتر، وفردريك هايك. ومع أن بعض فرضياتهم المعيارية كانت متعارضة تماماً، وكانت لديهم فرضيات مختلفة جوهرياً بالنسبة لفعالية التخطيط الاقتصادي، بيد أنه كانت هناك نقاط مشتركة كثيرة فيما بينهم. إن دراسة واستجلاء الجوانب الرئيسية من مفْهَمة conceptualization هؤلاء العلماء للواقع، وانتقاداتهم للاقتصاد الكلاسيكي الجديد، وطرق تحليلهم، واستنتاجاتهم يمكن أن تخدم كأساس متين نبدأ منه ببناء نموذج اقتصادي جديد.
ما هو المشترك بين ميردال، وشومبيتر، وهايك
رغم أن الجزء المبكر من عملهم كان مكرساً كلياً للجوانب التكنيكية من علم الاقتصاد، وبخاصة النظرية النقدية والتجارية، فإنهم، ثلاثتهم، كرسوا معظم حياتهم المهنية لتحليل العملية الديناميكية من التغير ضمن إطار اقتصاد معين، لتفسير الجوانب الاجتماعية، والفلسفية، والسياسية، إضافة إلى الجانب النفسي، من النمو والتطور الاقتصادي(3). ورغم أنهم قدّموا تحليلاً عميقاً للكثير من القضايا الاقتصادية الهامة، فإن مساهماتهم باتت عرضية بالنسبة للتيار الرئيسي من التحليل الاقتصادي وذلك أساساً لأنهم قللوا من شأن النظرية الاقتصادية البحتة أثناء عرضهم لفلسفتهم السياسية الخاصة بهم. ومع ذلك، فثلاثتهم كانوا في عداد أعظم محللِّي العلم الاجتماعي في القرن العشرين بفضل السعة والعمق المثيرْين لنظرياتهم وتحليلاتهم، وكذلك للطبيعة الابتكارية لمساهماتهم الهامة في حقول المنهج، والنظرية الاقتصادية، وتاريخ الفكر الاقتصادي، والتاريخ الاقتصادي.
وقد اعتمد ثلاثتهم بقوة على التاريخ في تحليلهم، وكانوا متأثرين بالظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للحقبة التي كتبوا فيها (محاولين تفسير تلك الظروف)(4). وقد نظرَ كل واحد منهم إلى الاقتصاديات المحددة ضمن فترات زمنية مختلفة، وإن استرجاع تحليلهم الآن يشير إلى أن كل واحد منهم كان "مصيباً" في تحليله، واستنتاجاته، ومقترحاته في حقل السياسة policy التي قدّمها للاقتصاديات المحددة التي درسها. كما يثبت التاريخ بأن المقترحات والتنبؤات المتعلقة بالسياسة التي قدمّها كل واحد منهم لم تكن كلها صحيحة لجميع الاقتصاديات عبر فترة زمنية طويلة. وهذا ليس غريباً لأن أياً منهم لا يمكن أن يكون مصيباً على الدوام في تنبؤاته بالنسبة للمسار الذي ستأخذه الاقتصاديات المختلفة. وعند النظر من زاوية تطورية- مؤسسية، فإن المؤسسات الاقتصادية عبر الزمن لها تأثير مختلف على أداء الاقتصاد، وإن التغير في أداء الاقتصاد يصب في مواقف جديدة، تقود، بدورها، إلى مؤسسات جديدة وأنواع جديدة في الاقتصاد(5). فالسويد مثلاً، حتى العام 1932، لم تزدهر في ظل سياسات عدم التدخل الحكومي. وبعد ذلك، فإن البلد نما وتطورَ في ظل اقتصاد اجتماعي مسيَطر عليه ديمقراطياً، مع مساهمات كبيرة في الضمان الاجتماعي وبرامج الرفاهية معاً، إضافة إلى المنظِّمين، حيث شجعت شركاتهم متعددة الجنسية على ازدهار التصدير. ومع ذلك، فإن السياسات الحكومية نفسها، المصمَّمة لتخفيف وطأة الفقر وخلق مجتمع مساواتي، قد ساهمت أيضاً في جمود الاقتصاد في نهاية الثمانينات وإلى نبذ تلك السياسات جزئياً. إن مراحل متماثلة من الازدهار الذي يتبعه الانكماش، في ظل نفس المجموعة من المؤسسات والسياسات، يمكن ملاحظتها بالنسبة لجميع الاقتصاديات تقريباً.
وثمة خصائص مشتركة أخرى يمكن تشخيصها بالنسبة لاثنين من هؤلاء الأساتذة. وكما فعلَ ميردال، فإن هايك حصل على درجة في القانون والدكتوراه في الاقتصاد. وكلاهما نشرا أعمالاً عامة عن منهجية العلوم الاجتماعية، وأنهما تقاسما العام 1974 جائزة نوبل في الاقتصاد. شومبيتر وهايك كانا نمساوييْن، وضعا شخصية ووظيفة المنظِّم في مركز تحليلهما. ونظراً لاهتمامهما بالتنبؤ بالمسار الذي ستأخذه الاقتصاديات في بداية القرن الحادي والعشرين، فمن الملائم أن نذكر أن توقعات شومبيتر وهايك كانت صائبة، كما يبدو، حول ازدهار الاقتصاد الذي ينطوي على تدخل حكومي محدود نسبياً ويكون فيه للمنظِّمين دوراً نشيطاً(6). وهذا واضح من النمو الاقتصادي الأخير السريع في اقتصاديات شرق آسيا، إضافة إلى النمو في بولندا وجمهورية الشيك بالمقارنة مع بقية أوروبا.
غونار ميردال
رغم أن صبغة البرنامج الكلاسيكي الجديد كانت تبدو عليه أثناء تعليمه الجامعي وعمله حول تطور السياسة الاقتصادية الكلية في أوائل الثلاثينات، فإن غونار ميردال (1987-1898) أدرك بأن هذا النموذج غير كافٍ لتحليل المشاكل الاجتماعية الواسعة. وشرع ميردال بتطوير فرضياته المعيارية، ومفهومه للواقع الاجتماعي- الاقتصادي، ونقده للاقتصاد الكلاسيكي الجديد، وطريقته في التحليل. وعند قيامه بذلك، توصلَ ميردال إلى منهج بديل لتحليل العمل الاجتماعي ينسجم مع مناهج جديدة للاقتصاد كالاقتصاد المؤسسي والاقتصاد الاجتماعي(7). وفي منهجه، كان ميردال موجَهاً ليس فقط لتعزيز سياسة الاستقرار الاقتصادية الكلية في السويد أثناء الكساد في بداية الثلاثينات، بل ولإرساء الأساس للضمان الاجتماعي وبرامج الرفاهية التي قام البلد بتحقيقها تدريجياً فيما بعد. وقد طبقَ طريقة التحليل المركبة interdisciplinary method of analysis (التي تدمج التاريخَ، والسياسة، وعلم النفس الاجتماعي، والسوسيولوجيا، مع مبادئ الاقتصاد) على فحصه المتميز للعلاقات العرقية في الولايات المتحدة، وتحقيق إجراءات الانتعاش الاقتصادي في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ودرس أسباب الفقر في البلدان النامية.
فرضياته المعيارية
تماثل أهدافُ ميردال أهدافَ المجتمع خلال الحقبة المتفائلة من حقبة التنوير. فقد آمن ميردال بأن الاقتصاد لا ينبغي أن يكون مجرد علم لتعزيز النمو الاقتصادي، والكفاءة، أو الاستقرار الاقتصادي الكلي. وبدلاً من ذلك، دفعه اهتمامه بإصلاح المجتمع للاعتقاد بأن علم الاقتصاد ينبغي أن يكون أداة للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي. إن مجتمع ميردال الأمثل هو المجتمع الذي يمارس التطور الذي كان يعني لديه تحرك كل "النظام الاجتماعي" إلى الأمام. ويتألف هذا النظام من المواقف والمؤسسات التي يتشكل شرطها أو أدائها من المؤشرات الاقتصادية (كالإنتاج، والدخل، وظروف العمل، ومستويات الاستهلاك) والمؤشرات غير الاقتصادية (المواقف من الحياة والعمل، ومستويات التعليم والصحة، توزيع السلطة في المجتمع). وقد دافعَ ميردال عن التدخل الحكومي لتصحيح النتائج غير المرغوب بها التي تنتج عن عمل آلية السوق غير الموجَهة. فكل عائلة سوف تضمن، على الأقل، مستوى حياة اعتيادي ومحترم- مع هدف نهائي هو تحقيق المساواة في الحياة وظروف العمل. لم يكتفِ ميردال بتحقيق السياسات التي من شأنها إقامة "دولة رفاهية" في السويد، بل أنه وسّعَ رؤيته باتجاه إقامة "عالم رفاهية" على أساس الضمان الاجتماعي وسياسات مخططات الرفاهية، الشبيهة بتلك التي اقترحها بالنسبة للسويد(8).
مفاهيمه
يتألف مفهوم ميردال الاجتماعي- الاقتصادي من مجموعة واسعة من العلاقات الاجتماعية. فهناك عدد من الشروط الاقتصادية وغير الاقتصادية، الهامة والمترابطة، التي تتفاعل على الدوام لخلق التغير الاجتماعي. وضمن الشروط الاقتصادية الهامة: مستوى وطرق الإنتاج، وإنتاجية العمل، وتوزيع الدخل، ومستوى الاستهلاك. أما الشروط الهامة غير الاقتصادية التي أدخلها ميردال في تحليله، فتشمل: طبيعة التسهيلات التعليمية والصحية، والمواقف من الحياة والعمل- وبخاصة عند تأثرها بالدين. والشروط الأخرى هي الأخلاق والمؤسسات الرئيسية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبخاصة تلك التي تؤثر على اصطفاف القوة power في المجتمع، والقواعد المعمول بها التي وضعتها السلطات المسئولة عن هذه المؤسسات(9). وكنتيجة لذلك، آمن ميردال بأن المشاكل "الاقتصادية" لا يمكن درسها بمعزل عن، بل فقط ضمن، إطارها السكاني والاجتماعي والسياسي.
اعتقد ميردال بأن القوى الأخرى إضافة إلى المصلحة الخاصة (بما في ذلك العواطف والعلاقات ما بين الأفراد، كالثقة) تؤثر على القرارات الاقتصادية لأعضاء المجتمع. ولكنه لم ينظر إلى عدم المساواة كشرط مسبق للكفاءة الاقتصادية والنمو. وبدلاً من ذلك، اعتقد ميردال بأن المساواة الأكبر يمكن أن تشجع الكفاءة والنمو، كما كان هو الحال في السويد منذ أوائل الثلاثينات وحتى أواخر الثمانينات. وقد وُجدَ بأن الالتزام بالقيم المشتركة، كالمساواة، من شأنه رعاية التعاون، وليس التنافس، بين المؤسسات غير- السوقية من خلال خلق الإجماع بين صانعي القرار. ومن شأن ميردال أن يوافق على إن مؤسساتٍ وعملياتٍ كوزارة التجارة الدولية والصناعة في اليابان والتخطيط التأشيري في فرنسا تبين بأن مخططات التخصيص والتوزيع غير السوقية كانت قادرة على تشجيع الكفاءة، والنمو، وتحقيق مساواة أكبر(10).
وبخلاف الخبراء في أوروبا الوسطى والشرقية، لم يعتقد ميردال بأن عدداً كبيراً من المنظِّمين، الباحثين عن الربح والذين يعرضون ابتكارات جانب العرض supply-side innovations، يُتوقع أن يظهر بسرعة في كل بلد- وبخاصة في البلدان التي تعمل بشكل بائس والتي شرعت فجأةً بتشجيع الاستثمار وتحويل مؤسساتها الرئيسية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وبإشارته إلى الفروق في الظروف كتوفر المواد الأولية، والمناخ، ونمو السكان، ونوعية الحكومة واستقرارها، والدوافع الاجتماعية، والآليات بين البلدان الغربية المصَّنعة وباقي العالم، فإن ميردال حاججَ ضد توقع ظهور شيء من طبقة المنظِّمين الموهوبين الذين يستجيبون بشكل تلقائي وعقلاني للفرص الاستثمارية في كل البلدان.
وتوجد، في مفاهيم ميردال، علاقات سببية مترابطة بين العوامل التكنولوجية، والموقفية attitudinal، والمؤسسية، أثناء عملية التغير الاجتماعي. وبخلاف معظم الاقتصاديين، حاججَ ميردال بأن الدافع الأصلي لإطلاق التغير التراكمي ضمن آلية اجتماعية معقدة سيأتي من التغيرات في المواقف والمؤسسات أكثر مما سيأتي من التكنولوجيا أو المتغيرات الاقتصادية كالأسعار أو معدلات الفائدة. ومَنْ يسعى لتوجيه التحول في اقتصاد ما، كما يقول ميردال، عليه أن يدرك بأن التغير في المواقف والمؤسسات ينبغي أن يسبق التغيرات في العوامل الاقتصادية. وكان مؤمناً بعدم وجود "مشاكل اقتصادية"، بل الأصح هو أن الأنظمة الاجتماعية تملك مشاكل مختلطة ومعقدة لها مكونات سياسية واجتماعية وثقافية- فكل الجوانب مترابطة وينبغي درسها في إطار تعقدها الثقافي. ومن الضروري بالنسبة للمحِّلل أن يشخص العلاقات السببية بين هذه المتغيرات واقتراح السياسات المنسجمة مع مواقف ومؤسسات المجتمع. وقد استشهدَ ميردال "بالثورة الخضراء" (إدخال بذور القمح والرز المهجَّنة التي، في ظل الظروف المثلى، يمكن أن تُزيد إنتاجية الأرض مرتين أو أربع مرات) كمثال على مفاهيمه التي تم تجاهلها. فقد جرى إدخال التغير التكنولوجي قبل التغير الموقفي والمؤسسي، مما قاد إلى نتائج غير مؤاتية لعقود من الزمن بالنسبة لغالبية الفلاحين الفقراء الذين لم يحققوا سوى منافع بسيطة من إدخال البذور الجديدة دون تجهيز التغيرات التكميلية أيضاً (كالتزود بالماء بصورة أفضل، والأسمدة، أو القروض).
كان ميردال يدرك الفروق الموقفية والمؤسسية الهامة بين المجتمعات وحاججَ، لذلك، بعدم وجود مجموعة فريدة من السياسات من شأنها أن تقدم الحل الشافي لأي بلد panacea. إن الخبراء الحاليين لأوروبا الوسطى والشرقية، الذين كلهم تقريباً لا يشاركون ميردال مفاهيمه، يلمحون إلى أن سياساتهم الاقتصادية الكلية الشاملة للاستقرار والخصخصة هي، في الواقع، الحل الشافي لجميع بلدان الإقليم. ومن شأن ميردال أن ينتقد بقوة هذه السياسات القائمة على نماذج ضيقة ومغلقة تشدّد بسهولة على المتغيرات الكمية القابلة للقياس مع إهمال العوامل غير الاقتصادية كالمواقف، والصحة، والتعليم، بوصفها سياسات غير ملائمة ومضِّللة، لأنها تهمل العقبات الأولية للتحول والتنمية المجتمعية. وفي حالة أوروبا الوسطى والشرقية، تتضمن هذه العقبات غياب التنافس الفردي القائم على الإنجازachievement-oriented individualistic competitiveness، ونقص الثقافة المدنية التي تجعل الناس يؤيدون برغبتهم قوانين التجارة، وغياب ثقافة الأعمال التي تجعل للأفراد توجهات استهلاكية، وتجعل السلطات السياسية فاسدةً.
نقد الاقتصاد الكلاسيكي الجديد
كان نقد ميردال للاقتصاد الكلاسيكي الجديد شاملاً(11). إذ أدرك عدم كفاية المنهج التوازني الستاتيكي لهذا الاقتصاد لتحليل المشاكل الاجتماعية، وبخاصة تأكيده بأن العملية، التي بموجبها تخلق التغيراتُ في عامل اقتصادي داخلي أساسي تعديلاتٍ تالية في العوامل الاقتصادية الأخرى، هي عملية نمطية بالنسبة للتغير الاجتماعي(12). وكان ينتقد، بشكل خاص، فكرة الكلاسيك الجدد عن الحتمية الاقتصادية economic determinism التي تقول بأن هناك "عاملاً أساسياً" واحداً يهيمن إلى حد أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية الهامة يُتوقع أن تنتج عن تغيرٍ عامل ما، كالتغير في الأسعار النسبية أو خصخصة منشأة ما كانت مملوكة سابقاً من قبل الدولة. وكنتيجة لذلك، يقرّع ميردال معظم الاقتصاديين (بما في ذلك الاقتصاديين الماركسيين أو المدافعين عن سياسة عدم التدخل الحكومي) لفشلهم في أن يراعوا بدرجة كافية العوامل غير الاقتصادية رغم تأكيدهم على عامل أساسي معين يُتوقع أن تتكيف له كل المتغيرات الأخرى الاقتصادية وغير الاقتصادية بمجرد حصول التغير في العامل الاقتصادي الأساسي. إن تجارب البلدان النامية ودول أوروبا الوسطى والشرقية بعد العام 1989، حيث كان يتوقع حصول تعديلات ملائمة لتعزيز النمو بعد تحقيق مستويات عالية من الاستثمار أو الخصخصة الواسعة، قد أثبتت مغالطة كل من الرأي القائل بالحتمية الاقتصادية والإيمان بوجود ميل قوي جداً في المجتمع للتكيف بطريقة يمكن التنبؤ بها للتغيرات في العوامل الاقتصادية من دون الإدخال المسبق للتغيرات الضرورية في الظروف غير الاقتصادية ذات الصلة.
كما ينتقد ميردال الاقتصاد الكلاسيكي الجديد لكونه غير تاريخي، حيث يقدّم أنصاره نظرياتهم كفرضيات شاملة تصلح لكل مكان، وزمان، وثقافة. فقد عارضَ بشكل صريح الميل التكنيكي القوي للاقتصاديين الكلاسيك الجدد (لاعتبار العوامل غير الاقتصادية، التي كان يدافع عنها، كعوامل غير هامة)، وبخاصة التشديد المبالغ فيه على الرياضيات في تحليل وتفسير السلوك الاجتماعي، ووصفات السياسة التي تعود جذورها للنظرية الكلاسيكية الجديدة التقليدية- فكلاهما كانا غير ملائمين لكل البلدان غير الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وبشكل خاص، يقرّع ميردال صانعي السياسة من الكلاسيك الجدد لاختزال كل المشاكل إلى مسألة التخصيص الأمثل للموارد، ولافتراضهم بأن الكفاءة والنمو الاقتصادي الملائم سيتحققان كنتيجة لإقامة الأسواق التنافسية.
طريقة التحليل
تتضمن طريقة ميردال في التحليل ثلاثة جوانب متميزة، تقف كل واحدة منها في خلاف حاد مع طرق الكلاسيك الجدد: مواقفه عن الموضوعية في العلوم الاجتماعية؛ وطريقته المركبة في التحليل؛ ونظرية التغير الاجتماعي. وعند أخذها معاً، تشكل هذه الجوانب طريقة تحليلية تتضمن نظرية مفيدة يمكن أن تخدم كأساس لفهم طبيعة اقتصاد مجتمع ما.
حاججَ ميردال بأن العالِم الاجتماعي لم يكن قادراً على إخفاء مذهبه الإيديولوجي. على العكس، فقد كان يعتقد بأن المعايير المحددة التي يختارها محلِّل ما كأساس للتقييم، وطريقة قياس هذه المعايير، والأهمية النسبية المعطاة لكل معيار، يمكن أن تتأثر بوجهة نظر المحلِّل. كان ميردال مولعاً بالقول: "كل رأي [مفهوم اجتماعي- اقتصادي للواقع واستنتاج] يمتلك وجهة نظر معينة [فرضية معيارية]". وكان يقصد بذلك أن نتائج التحليل تتأثر بالفرضيات المعيارية للكاتب المحلِّل. فالكُتاب يمكن أن يدّعوا بأن ما يكتبونه لا يتأثر بميولهم الشخصية value-free، وبالتحليل الوضعي، ولكن لديهم كلهم "قيم خفية" hidden values تؤثر على استنتاجاتهم ووصفاتهم للسياسة policy. وهذا، كما يقول ميردال، يصح بشكل خاص على الاقتصاديين الكلاسيك الجدد الذين يفضلون، كما يبدو، التجارة الحرة وسياسة عدم التدخل الحكومي. إن عدم ذكر الفرضيات المعيارية لكاتب ما بشكل صريح تقود إلى تحليلٍ واستنتاجاتٍ "متحيزة"، في نظر ميردال- وهي تتذبذب بصورة نظامية في اتجاه مصلحي opportunistic. فميردال من شأنه أن يحاجج بأن أهداف ووصفات السياسة للخبراء الغربيين المقدَّمة لدول أوروبا الوسطى والشرقية، مثلاً، كانت تزخر بالإيديولوجيا المتأصلة في النظرية الكلاسيكية الجديدة.
ولاختزال هذا التحيز في ما يُقدَّم عموماً كتحليل "موضوعي"، اقترحَ ميردال على الكُتاب المحللِّين أن يقبلوا بأن الاقتصاد هو علم أخلاقي، وبذلك يعرّفون بشكل صريح وجهة نظرهم، أو الفرضيات المعيارية، لتطهير التحليل (إلى المدى الممكن) مما يشوّهه من تحيز. وقد رفضَ ميردال الزعم الوضعي للاقتصاديين الكلاسيك الجدد بأن النظرية الاقتصادية يمكنها إثبات بأن المعايير المؤكدة موجودة. وبدلاً من ذلك، حاججَ ميردال بأنه على العلماء الاجتماعيين القبول بأن هذه الفرضيات المعيارية هي فوق- علمية extra-scientific ولا تنتج عن التحليل نفسه، وبأن القوانين الاجتماعية لا وجود لها، كما هو شأن القوانين الطبيعية للكون. تبدأ طريقته في التحليل بتحديد فرضياته المعيارية الصريحة التي آمن هو بأنها هامة بالنسبة للمشاكل التي حللها (13). وقال ميردال بأن عمل ذلك مكّنه من 1) تطهير البحث العلمي، قدر المستطاع، من التحيزات المشِّوهة التي هي نتيجة عادية للتحيزات الخفية؛ 2) أن يحدد بصورة عقلانية وضع المشكلة وتعريفات المصطلحات للتحليل النظري؛3 ) أن يضع أساساً منطقياً للاستنتاجات العملية والسياسية(14).
لقد دمجت طريقة ميردال المركبة في تحليل القضايا التاريخَ، والسياسة، وعلم النفس الاجتماعي، والسوسيولوجيا، مع علم الاقتصاد(15). فهي تتخلى عن الحدود الجامدة تقليدياً بين أقسام العلم الاجتماعي المستقل، كما تطورتْ هذه الأقسام بصورة عملية بما يخدم الأغراض التعليمية والرغبة بالبحوث المتخصصة. وقد ساعدَ هذا المنهج على قيام مجموعة واسعة من الملاحظات التجريبية والمعنى العام الضروري بدلاً من مناصرة إطار نظري ضيق، ساعدَ على اختيار أو تطوير إطار نظري ملائم لتحليل القضية المعنية. ومع أن ميردال اعتمد على نظريته للتغير الاجتماعي لصياغة تفكيره، فإن منهجه تضّمنَ تأكيداً أقل على الدقة والتحليل الشكلي بالمقارنة مع منهجه في تناول النظرية الاقتصادية لدى الكلاسيك الجدد.
استخدمَ ميردال طريقته المركبة في تحليل واقتراح السياسات للسويد، والولايات المتحدة، وأوروبا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والبلدان النامية(16). وكان يبدأ تحليل كل موضوع بعرض عميق لتاريخه، ومواقفه، ومؤسسات البلد أو الإقليم المعني، محاولاً تعريف العلاقات السببية بين الوقائع الاجتماعية- وبخاصة تأثير المتغيرات غير الاقتصادية على التطور. وعند تحليل مشاكل النمو السكاني المتدني، والفقر، في السويد أثناء أوائل الثلاثينات، حاول ميردال تحديد العوامل المسبِّبة للاتجاه المزمن في الهجرة، والتقلبات الدورية في الهجرة، وكيف أن الدورات الاقتصادية كانت تنعكس في الهجرة(17). وكان هدفه لا يقتصر على تحديد العلاقات المتبادلة بين حركات العوامل المؤثرة على الهجرة، بل يشمل أيضاً العلاقات بين تلك العوامل وكل التغيرات الأخرى ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي التي تؤثر على مستوى المعيشة المتدني للكثير من العائلات السويدية. وعند عمل ذلك، أدرك ميردال بأنه لم يكن من الممكن تحليل الهجرة كظاهرة منعزلة، بل كان ينبغي درسها سويةً مع كل العوامل الأخرى التي تحدد حجم السكان وتركيبه. نظرَ ميردال إلى السكان كآلية من الاعتماد المتبادل تؤثر عليها العوامل الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وكان من بين استنتاجاته، الاستنتاج القائل بأن جذور مشكلة الفقر تكمن في المواقف والمؤسسات السويدية، وبخاصة الميل لإلقاء اللوم على الفقراء في بلاء الفقر، والإيمان بأن سياسات الحرية الاقتصادية "لا تعمل شيئاً ما". وقد خدمتْ هذه المكتشفات كأساس لدفاعه عن الإصلاحات في حقل التخطيط والمساواة التي باتت الأساس للاقتصاد الاجتماعي المسيطَر عليه ديمقراطياً في السويد. وقد نجحتْ هذه الإصلاحات ليس فقط في تصفية الفقر، بل أن السويد، أيضاً، أصبحت إحدى أغنى الدول في العالم في أواخر الثمانينات. (ولو أنها تواجه مشاكل اقتصادية هامة منذ ذلك التاريخ).
وقد طوّرَ ميردال نظريته بعد أن أدرك بأن نظرية التغير الاجتماعي ضرورية للباحث قبل أن يشرع بملاحظة الوقائع، وبعد أن أبصرَ النواقص في النظريات الكلاسيكية الجديدة كوسيلة لتحليل المشاكل التي قرّرَ درسها. والنظرية، بالنسبة له، هي رؤيا واسعة لماهية الوقائع الجوهرية (المفاهيم) والعلاقات السببية بين الوقائع (نظرية التغير الاجتماعي). وقد عرفّتْ نظريته للتغير الاجتماعي مبدأ التعليل الدائري والتراكمي principle of circular and cumulative causation. وهذه عملية تعليل ديناميكية، أدرك فيها ميردال العلاقات المتبادلة بين كل العوامل الهامة الاقتصادية وغير الاقتصادية المنخرطة في عملية التغير الاجتماعي، إضافة إلى الطبيعة المقفلة للجوانب الدائرية والتراكمية للتغير. ووفقاً لتعابير ميردال، فإن عملية التغير الاجتماعي تنبع من التغيرات في كل العوامل ذات الصلة، الضرورية، لتحفيز التعليل الدائري بحيث أن العملية الاجتماعية تميل لأن تصبح تراكمية، وتستجمع السرعة بمعدل متسارع في الغالب. أولاً، إن التغير في ظرف داخلي معين endogenous condition سوف يحفز رد فعل في الظروف الداخلية الثانوية. وهذه التغيرات، بدورها، يُرجَح أن تولد، على المدى الطويل، تغيرات أخرى حينما تخلق العلاقات المتبادلة بين الظروف والتغيرات عملية تعليل تراكمية، في حين أن النظام الاجتماعي يتحرك باستمرار بعيداً عن أي وضع توازني. وقد حاججَ ميردال بأن التغيرات الحاصلة تحفّز التغير الاجتماعي في اتجاه واحد (آثار إيجابية أو "انتشارية" spread effects ؛ آثار سلبية أو "تراجعية" backwash effects)، وأن المكان النهائي لاستقرار النظام لا يَسهُل التنبؤ به. وذلك لأن "معامِّلات الارتباط المتبادل coefficients of interrelation بين كل الظروف في النظام الاجتماعي.. وفترات الإبطاء time lags.. غير معروفة عادةً.. [ولذلك]، فإن معرفتنا بها غير دقيقة تماماً(18)." يمكن تشخيص الاتجاهات لغرض وضع السياسة، ولكن الدقة في التنبؤات غير متوقعة.
إن مسألة ما إذا كان تأثير السياسة يستهل حركة إيجابية أم سلبية يعتمد على ما إذا كان هذا التأثير الأولي له أثر مفضل أو غير مفضل على أي من متغيرات ميردال الأساسية الستة المتعلقة بالتنمية: الإنتاج والدخل، شروط الإنتاج، مستوى الاستهلاك، المواقف من الحياة والعمل، المؤسسات، والسياسة العامة. وقد خصصَ ميردال لكل متغير قيمةً متساوية بحيث أن أي تغير صعوداً أو هبوطاً في متغير ما يسحب بالضرورة المتغير الآخر بنفس الاتجاه.
إن التغيرات الإيجابية في أحد الشروط (كزيادة مستوى الاستهلاك، مثلاً) ستؤدي إلى تغيرات ثانوية، تحّسن بدورها شرطاً آخر (إنتاجية العامل) الذي يساعد، بدوره، على تحقيق إنتاج ودخل أكبر، مما يُكمل الحلقة من خلال المساعدة على تحقيق زيادة أكبر في الاستهلاك، الذي كان هو الشرط الأولي.
كان ميردال مؤمناً بأن نظريته للتعليل الدائري تبرر التدخل الحكومي النشيط لتشجيع التنمية: وقد حاججَ بأن الميل لعدم المساواة هو نتيجة لفعل قوى السوق غير المقيَّدة- وبخاصة حينما كان مستوى التطور الاقتصادي ضئيلاً بحيث أن قسماً من السكان يمكن أن يُوصف على أنه في حالة فقر(19). وكان ميردال يؤيد، بشكل خاص، الإصلاحات التعليمية والمؤسسية، مشيراً إلى أن هذه الإصلاحات ليس فقط تعوق تزايد الفقر، بل من شأنها أيضاً تعزيز إنتاجية المعوزين بحيث أن التنمية في اتجاه إيجابي سوف تعقب ذلك. وبدلاً من اقتراح إصلاحات على غرار وصفات كتب الطبخ، فإن طريقة ميردال كانت تعتمد على تطوير السياسات بصورة متواصلة ومنهجية (كما يلعب المرء الشطرنج) تقوم على مكتشفات تحليل المجتمع أو الإقليم المعني على نحو معمَّق ومركب.
جوزيف شومبيتر
جوزيف شومبيتر (1883- 1950) أنفق الجزء التكويني والوسطي من مسيرته المهنية في الأكاديمية النمساوية ودرسْ الدورات الاقتصادية. وفي عام 1932، تعّينَ كأستاذ في جامعة هارفارد التي أمضى فيها بقية حياته المهنية. وبين مساهماته الكبرى الكثيرة، فهو معروف جيداً بتحليله الشامل والعميق للنمو الاقتصادي والصفات الديناميكية للتطور الرأسمالي والتحولات الاجتماعية المتزامنة، وبخاصة خلال الفترة بين العامين 1870 و 1930 في الولايات المتحدة.
فرضياته المعيارية
رغم أن فرضياته المعيارية لم تكن شاملة ومحددة بوضوح explicit كتلك التي اقترحها ميردال أو هايك، بيد أن شومبيتر لم يكن اقتصادياً من النوع الذي يخفي ما يؤمن به value-free. فقد أعلنَ بأن مصالح المجتمع تُخدم أفضل خدمة من خلال حكم نخبة من طبقة المنظِّمين. وهذا الموقف كان يقوم على "اعتقاده الصريح بالنوعية فوق العادية للبرجوازية"، وبخاصة المنظِّمين والرأسماليين الجسورين الذين كانوا يهيئون التمويل المطلوب(20). وتنطوي مفاهيمه على إسناد أكثر لهذا الرأي.
مفاهيمه
يرد مفهوم شومبيتر للواقع الاجتماعي- الاقتصادي للرأسمالية ضمن تصوره طويل- الأمد لتطور الرأسمالية. ينظر شومبيتر للرأسمالية والمنافسة "كعملية ديناميكية، وليس كمجموعة من الشروط البنيوية، أو كحالة نهائية من توازن ستاتيكي(21)." وقد حاججَ شومبيتر بأنه "…لا وجود للمجتمع الرأسمالي من دون تنمية، … ولا وجود للمنظِّمين من دون ابتكار،… ولا وجود للأرباح الرأسمالية ولا وجود للزخم الرأسمالي (أو القوة الدافعة) من دون طاقة المنظِّمين التنظيمية،… فمناخ الثورة الصناعية- مناخ التقدم- هو الوحيد الذي يمكن للرأسمالية أن تحيى فيه(22)."
أدرك شومبيتر الطبيعة التطورية للاقتصاديات التي فيها صناعات في مراحل مختلفة من الصعود والهبوط. لقد اعتقد بأن التنمية الاقتصادية تنبثق من "داخل النظام الاقتصادي… وهي تحدث في صورة توقفات discontinuously… تجلب تغيرات نوعية أو ‘ثورات’، تقوم أساساً بإزاحة التوازن القديم وتخلق شروطاً جديدة جذرياً. التنمية الاقتصادية يصحبها النمو… ولكن النمو الكمي وحده ليس تنمية".(23) ولتوضيح ذلك، يبين شومبيتر بأن الاقتصاد يمكن أن ينمو بإضافة العربات التي تجرها الخيول، ولكن هذا النمو لا يقود إلى تطوير صناعة السيارات.
على العكس، فالقوى التي تحفز التطور هي التقنيات الجديدة في صورة ابتكارات من الاختراعات الجديدة أو الموجودة سابقاً، التي تعتبرها أطراف السوق كابتكارات ناجحة حينما ينقلها أحد المنظِّمين إلى السوق. فالعامل الأساسي هو الابتكار- "التطبيق التجاري أو الصناعي لشيء ما جديد- سلعة، عملية، طريقة إنتاج جديدة؛ سوق أو مصدر جديد للعرض؛ شكل جديد لمنشأة تجارية، منشأة أعمال، أو منشأة مالية(24)." إن عملية الابتكار، التي يباشرها المنظِّمون، تثوِّر الاقتصاد من داخله، وبذلك تدّمر أجزاء من البنية القديمة وتخلق بنى جديدة. وحينما تحدث هذه العملية على نطاق واسع، فإنها تخلق موجة دائمة من الهدم البناّء". إن مفهوم شومبيتر للهدم البناّء يُظهر إنجازات الرأسمالية لأن السلع والخدمات الجديدة هي عادةً ليست فقط ذات نوعية أرفع، بل أنها متوفرة بتكلفة أقل أيضاً. والمستفيد الرئيسي هم أعضاء الطبقات العاملة الذين يصبحون قادرين على شراء مواد، كالجوارب الحريرية أو السيارات، كانت، قبل الابتكارات التي قادت أخيراً إلى إنتاجها على نطاق واسع، متاحة للطبقة الثرية فقط.
حاججَ شومبيتر بأن الرأسمالية من شأنها أن تتميز بتداخل الدورات الاقتصادية، غير المنتظمة في مداها والمختلفة في اتجاهها. كل دورة ستتأثر ببعض الابتكارات التنظيمية الأولية، ثم تتبعها " أسراب" من الابتكارات اللاحقة بعد أن يكون الاقتصاد قد تبنى الابتكارات الأصلية. إن السبب الذي ربما يدفع المنظِّمين الآخرين لاستنساخ أو تبني الابتكار الأولي هو "الأرواح الحيوانية" animal spirits التي تحفزهم. إن شومبيتر، الذي صاغ هذا المصطلح الذي جعل منه جون مينارد كينز مصطلحاً مشهوراً، حاججَ بأن هذه الأرواح تتألف من دوافع يتعذر تفسيرها والتي تلهم المنظِّمين لإطلاق قواهم والتي، بهذه الطريقة، تمكّن الاقتصاد برمته من التطور والتغير(25). وكنتيجة لذلك، تهبط الأسعار، وأن عملية المنافسة تقود عملياً إلى وضع توازني جديد تحصل فيه المنشآت النمطية على ربح أقل. وفي هذه اللحظة، فما كان اتجاهاً تصاعدياً يمكن أن ينقلب إلى انكماش (ارتداد) أو كساد بسبب التقديرات المتفائلة جداً أو المتشائمة جداً التي تميل، وعلى فرض وجود "الأرواح الحيوانية" لدى لمنظِّمين، لكي تحدث في صورة أسراب تتصادف مع مرحلة الصعود ومرحلة الهبوط من الدورة. أما كون الانكماش يأتي بالضرورة بعد تواصل النمو والتنمية الاقتصادية، فهذا لا يعني، بالنسبة لشومبيتر، بأن "الرأسمالية" ضعيفة. على العكس، فقد نظرَ شومبيتر إلى الدورة من الصعود والارتداد الاقتصادي كجزء من عملية التطور الرأسمالية- كجائزة تُدفَع للحريات الاقتصادية ولتسلم خيارات أكبر من السلع والخدمات الأرفع نوعيةً(26).
إن مفهوم شومبيتر للتنمية يضفي على المنظِّم دور البطل في خلق الآلية، الابتكار، أي خالق العملية التطويرية للتنمية. وقد شارك شومبيتر في وجهة نظر فردريك نيتشه Friedrich Nietzsche حول القوى فوق العادية التي يملكها أفراد معينون في بناء المجتمع. نيتشه كان يميز بين "نخبة الناس" overmen و "الجمهور" mass أو "الدهماء" herd، حيث ترمز النخبة إلى رفض أي شبه بالآخرين conformism: فهم فئة نادرة يتطلعون إلى "الغايات العليا" ويمثلون النقيض للكفاءات الوسطية والركود(27). وقد حمل شومبيتر وجهة نظر مماثلة، واصفاً المنظِّمين "بالقادة الذين يخرجون بشكل ظافر من وسط الجماهير(28)." إن المنظِّم الشومبتري ينبغي أن يمتلك ليس فقط الرؤيا والجرأة، بل عليه أيضاً أن يكون مدفوعاً لكي يكون قائد الصناعة. فهذا الفرد الخصوصي مقدَّر له أن يتحرك إلى الأمام وأن يبتكر اعتماداً على غريزته. وليس بوسع غير قلة من الأفراد أن يكونوا منظِّمين ناجحين. فإضافة إلى الصفات التي ذُكرت قبل قليل، ينبغي على المنظِّمين التغلب على الصعاب التي تواجههم كالمعلومات غير الكاملة عن الطلب في المستقبل، ومدى توفر الموارد وتكلفتها، والمقاومة المؤسْسية لأي نوع من التغير، و "التناقض بين غير المبتكرين والرواد- في صورة عقبات قانونية وسياسية، أخلاق اجتماعية، عادات، وما شابه(29)."
وأدرك شومبيتر بأن التوزيع غير العادل للدخل يأتي كنتيجة لعملية التنمية الرأسمالية، ولكنه سلّمَ بهذا الشرط كمكافأة على الابتكار والتنمية الاقتصادية. إن ثمن عدم السماح بهذا الشرط هو وجود اقتصاد ستاتيكي من دون نمو أو تنمية. الأرباح العالية والمنزلة هي دوافع لابد منها لاجتذاب المواهب التنظيمية التي من دونها لا يمكن للرأسمالية أن تبقى وتزدهر. ورغم أن التنمية التي تتبع الابتكارات التنظيمية تخلق دخولاً غير عادية للقلة extra-ordinary incomes، إلاّ أن شومبيتر حاججَ بأن الرأسمالية، على المدى الطويل، تميل لخفض التفاوت في الدخل. فهي تفعل ذلك:
أولاً، بواسطة زيادة التكافؤ في الفرص بالمقارنة مع المجتمعات السابقة الأكثر طبقية ؛ ثانياً، بواسطة المنتجات ذات الإنتاج الواسع التي تفيد الطبقات العاملة أكثر من غيرها في الاقتصاد؛ ثالثاً، بواسطة عمل البر والإحسان والتشريع الاجتماعي الذي تضمنه عملية النمو الاقتصادي الرأسمالي؛ وثمة سبب رابع: فمع أن التفاوت ضروري لتغذية وتقوية الرأسمالية، بيد أن ‘الفقر المطلق’ يهبط مع تقدم التنمية الرأسمالية(30).
وفي مفهوم شومبيتر للتنمية، فإن دور الرأسماليين حيوي، أيضاً، لأن هؤلاء هم الممولون لابتكارات المنظِّمين مقابل حصة من الربح المتوقع. ولذلك، فإن النظام المالي المطَّور جيداً هو شرط مسبق للتنمية الرأسمالية. شومبيتر كان من بين أوائل من أدرك هذه القاعدة وحاججَ بأن الرأسماليين الذين يتصرفون "كوسطاء ماليين لهم دور أساسي للابتكار التكنولوجي والتنمية الاقتصادية(31)." والتحليل المعاصر يدعم هذا الرأي(32).
نقده للاقتصاد الكلاسيكي الجديد
كان شومبيتر يعتقد بأن الاقتصاد الكلاسيكي الجديد ستاتيكي جداً، وشديد الاهتمام بـ "اشتقاق موضوعاته من الفرضيات التكنولوجية، والمؤسسية، والتحفيزية، المعطاة(33)." ولذلك، كان تحدي شومبيتر للأرثودكسية الاقتصادية أساسياً تماماً. "لأن الرأسمالية هي نظام ديناميكي…[يحاجج شومبيتر] فلا يمكن فهمها بنفس الجهاز النظري الذي يُستعمل لدرس الاقتصاد الركودي. وباختصار، هناك نطاقان- الركودي والتطويري- يتطلبان مبدأين تنظيميْن مختلفيْن."… إن ضعف الاقتصاد الأرثودكسي الكلاسيكي الجديد يتكشف، أمام تحليل شومبيتر، ليس من زاوية عدم كماله، بل في محاولته إخضاع العناصر الديناميكية لقالب ستاتيكي(34)." وبعكس الرأي الكلاسيكي الجديد الذي يكون فيه التغير داخل اقتصاد ما تغيراً تدريجياً، على الحد on the margin، ليس تمزيقياً جداً، ويتحرك باتجاه توازن ما عبر عملية غير مؤلمة، فإن شومبيتر نظرَ إلى التحول الاجتماعي "كتغير سريع، وكبير الحجم، وتمزيقي، وغير توازني، وبطولي أحيانا ولكنه تغير اجتماعي- اقتصادي مؤلم(35)." واستجابة لذلك، فقد صاغ شومبيتر طريقةً للتحليل تركز على التغير المؤسسي وذلك باستعمال نظريته للتنمية الرأسمالية.
طريقته في التحليل
وككاتب تحليلي، كان شومبيتر "خليطاً خاصاً من الانتقائي والمبتكر" أثبتَ "استقلاليته المنهجية وبصيرته الخلاقة معاً(36)." فقد كان من أوائل الاقتصاديين الذين أدركوا بأن "الواقع دائماً، وفي كل مكان، هو ظاهرة ملوَّنة إيديولوجياً ومعيارياً في أدب الاقتصاد الابتكاري(37)." أي، أنه حاججَ بأن مفهومه للواقع، أو ما أسماه هو بـ "الرؤيا" vision، كان الأساس لتحليله(38). وبذلك، فإن الإيديولوجيا تدخل في التحليل، بحسب شومبيتر، من "الطابق الأرضي نفسه، إلى الإدراك ما قبل التحليلي(39)."
وقد تضمنَ مفهوم شومبيتر لنظرية ما "المسار الفعلي للعملية الاقتصادية حينما تمضي وفقاً لقواها الذاتية، في زمن تاريخي، منتجِّة في كل لحظة تلك الحالة التي ستقرر من تلقاء ذاتها الحالة التالية(40)." ومن أعماله المبكرة، بات واضحاً أن " رؤيته للنظام الاقتصادي كانت هكذا بحيث أن القوى التوازنية الستاتيكية (التي تفسرها نظرية التوازن العامة) تواجهها القوى الديناميكية لحالة عدم التوازن. وقد حاول شومبيتر تفسير هذه القوى الأخيرة ببناء نظرية أصلية [ديناميكية] للتنمية(41)." وقد اعتقد شومبيتر بأن "عمليات التقلب في الحياة الاقتصادية الفعلية يمكن تفسيرها بصورة أفضل من منظور ديناميكي وتطوري بشكل صريح(42)."
وتماثل طريقة شومبيتر في وصف العملية الديناميكية للتنمية الرأسمالية طريقةَ ميردال للتعليل الدائري والتراكمي. ونقطة الالتقاء الثانية مع ميردال، في مجال المنهج (أو الطريقة)، هي تأكيد شومبيتر على السوسيولوجيا الاقتصادية التي اعتبرها "الوصف التفسيري للمؤسسات الهامة اقتصادياً، بما في ذلك العادات وكل أشكال السلوك عموماً كالحكومة، والملكية، والمشروع الخاص، والسلوك المألوف أو ‘العقلاني’(43)." ويحاجج شومبيتر،"في عمله الفذ عن السوسيولوجيا الاقتصادية" : Capitalism, Socialism and Democracy بأن "كون الرأسمالية ستنهار لأن نجاحها الاقتصادي سيهيأ المتطلبات الاجتماعية غير الملائمة لها لا ينبغي تفسيره كحتمية تاريخية. فهذا لا شأن له بفرضية أو نبوءة تاريخية. فهو فرضية نظرية تم اشتقاقها من فرضيات مؤكدة عن التفاعل بين العوامل الاقتصادية والاجتماعية، وأن صحته تقوم على المنهجية الذرائعية instrumentalist methodology(44)."
فردريك هايك
إن التأثير المعاصر لفردريك هايك (1899-1992) أكثر من تأثير ميردال أو شومبيتر وذلك لأن مدرستين مميزتين من مدارس الفكر ما تزالان تعتنقان نظرياته وفرضياته المعيارية وتعملان على تنقيتها: المدرسة النمساوية (التي كان هايك مساهماً أصلياً فيها حينما كان في فينا، حيث طوّرَ وأبرزَ قسماً من معتقداتها الأساسية) والمدرسة النقدية في جامعة شيكاغو، حيث كان هايك يعمل كأستاذ حتى أواخر حياته المهنية. وقد اعتقدَ هايك بأن تأثيره سيكون أكبر بعد وفاته حينما أبلغ ذات يوم أحد تلاميذه بأنه "يكتب للقرن القادم(45)." وقد يعود هذا الاعتقاد إلى أن هايك كرّسَ المرحلة الناضجة من مسيرته المهنية لتصميم نظام من القواعد لحماية الحرية الفردية. في هذه العملية، "رسمَ هايك نظرية شاملة للتطور الاجتماعي كانت تطورية بشكل عام في بنيتها(46)."
فرضياته المعيارية
هايك كان في جانب الحرية الفردية بشكل معلن، وتعلمَ ضمن إطار اقتصاد السوق القائم على مبدأ الحرية الاقتصادية، ووقفَ بصلابة ضد أي شكل للتدخل الحكومي في القضايا الاقتصادية- وبخاصة التخطيط الاقتصادي.
كان هايك مقتنعاً بأن "المبدأ المرشد القائل بأن سياسة الحرية الفردية هي السياسة التقدمية الحقيقية الوحيدة هو مبدأ صحيح اليوم كما كان في القرن التاسع عشر(47)." من حق الأفراد، في الاقتصاد المثالي لهايك، أن يسعوا لتحقيق أهدافهم، وبخاصة إنتاج وبيع ما يشاءون ما لم يخرقوا حقوق الآخرين في مجال الملكية. وعليه، فالقاعدة الهامة في مجتمع هايك هي حماية حقوق الملكية وإدراك الحاجة لإزالة العقبات من أمام عمل المنظِّمين بغية تمكين العقل الإنساني التلقائي وسعي الفرد للكسب من الازدهار.
إن التفضيل القوي لاقتصاد السوق القائم على مبدأ الحرية الاقتصادية كان منطقياً وضرورياً للتطور الاجتماعي، في نظر هايك. ودفاعاً عن هذا الاعتقاد، كتبَ عمله The Road to serfdom، وهو كتاب سياسي، أشار فيه:" كل ما ينبغي عليَّ قوله مستمد من قيم نهائية مؤكدة [وإن] ما ينطوي عليه من معتقدات لم تحددها مصلحتي الشخصية(48)." وإذ عبّرَ عن قلقه الشديد على "القضايا الأساسية والقيم النهائية(49)،" حذّرَ هايك المجتمعات الحرة من أن هناك انحداراً زَلقِاً، بدءاً من إدخال سياسات التدخل الحكومي إلى قيام دولة شمولية. وإذ أدركَ بأن الاحتكارات المؤقتة تظهر بفضل ابتكارات المنظِّمين الخلاقة، فإنه يحاجج بأنه بغياب المنافسة الحرة، فإن التدخل الحكومي وحده يمكن أن يدعم الاحتكار الحقيقي (بكبح الدخول). ولذلك، آمن بأن مناخ السوق القائم على مبدأ الحرية الاقتصادية هو المناخ الوحيد الذي يساعد على ظهور المنظِّمين وأنه يمثل الاقتصاد الوحيد القادر على صون الحرية الفردية.
كان هايك يعارض بصلابة إعادة التنظيم الواسعة والمخططة للمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية لأي مجتمع من قبل الدولة. وبطبيعة الحال، فقد انتقد بشدة الاقتصاديات الاجتماعية المسيطَّر عليها ديمقراطياً كالسويد. وقبل خمسين سنة هجا هايك "ذلك الخليط، من القيم المجمَّعة على نحو سيء وغير المنسجمة على الأكثر، الذي حّلَ محل الاشتراكية إلى حد بعيد تحت اسم دولة الرفاهية، ذلك لأن هدف الإصلاحات يتطلب الفحص الدقيق للتأكد مما إذا كانت نتائج ذلك الخليط تماثلُ نتائج الاشتراكية الكاملة(50)."
مفاهيمه
ترد مفاهيم هايك في "فرضياته" presuppositions التي افترضَ أنها صحيحة مسبقاً(51). وأهم فرضيتين هما مفهومه للمنافسة والمنظِّم ومفهومه للتدخل الحكومي والتخطيط. وقد شكلت هاتان الفرضيتان معاً ركائز نظرياته الديناميكية ووصفاته للسياسة.
يرى هايك بأن المنافسة كانت "وسيلة اكتشاف، أولاً وقبل كل شيء discovery procedure. فالاقتصاد لا يكون في حالة منافسة كاملة قط: فهناك على الدوام ثغرات لابد أن يملأها الأفراد اليقظون، المنظِّمون الباحثون عن الربح. لا يمكن أبداً للتقدم الاقتصادي أن يكون تلقائياً بشكل تام: فالاختراع لا يمكن أن يكون كروتين أبداً(52)." "فالمنظِّمون، الذين يتصدرون الجماهير بقوتهم وطاقتهم الفكرية(53)،" هم العوامل الأساسية التي انخرطت في عملية اكتشاف الطرق الجديدة والأفضل لتنظيم الموارد، وهي عملية كانت تتحسن باستمرار، رغم أنها تزخر بالأخطاء. المنظِّمون يرصدون الفرص المربحة، ويبصرون الفرق بين التكاليف الحالية للإنتاج وأسعار البيع في المستقبل، فيسعون للاستفادة من هذا الفرق. وإذ يستعمل المنظِّمون معرفتهم وبصيرتهم، ويُبدون الاستعداد للمجازفة في سعيهم وراء مصلحتهم الخاصة، فإنهم يلعبون دور الحَكَم arbitrageurs على الفرص المربحة التي اكتشفوها. وفي هذه العملية، كان المنظِّم الهايكي "المخطط العقلاني بعيد النظر" الذي أظهرَ نجاح العقل الإنساني أثناء السلوك الإنساني(54)."
إن القيم السياسية لشعب ما وموقفه من السلطة تتأثر بمؤسساته السياسية، بحسب هايك. وعليه، فإن توسيع سلطة الحكومة من شأنه تدريجياً تدمير أي روح للحرية. آمن هايك بأن السلطة [الحكومة] التي تتمتع بحرية التصرف discretionary power هي سلطة خطيرة وتميل للإساءة عاجلاً أم آجلاً"، قائلاً أن ما تخلقه السيطرة هو تغيير نفسي، تبديل في طابع الشعب(55)." ولتأكيد هذه النقطة أكثر، ذهبَ هايك إلى أن التدخل الحكومي الواسع، الذي يحّد باستمرار من حركة الشعب باسم المحافظة على السيطرة الحكومية،"يضغط، ويوهن، ويخمد، ويخدر، شعباً ما إلى أن يتحول البلد إلى شيء ليس أفضل من قطيع جبناء وحيوانات صناعية تقف الحكومة أمامهم كراعي(56)."
كان هايك يعتقد بأن الأفراد لا يمكن أن يملكوا سوى معرفة محدودة، وبخاصة حينما تتعلق هذه المعرفة بأسعار السلع والخدمات وتكاليف الموارد إضافة إلى الأذواق، وبأن هناك تكلفة- معلومات عالية لامتلاك تلك المعرفة. وفي حين أن بوسع المنظِّمين الحصول على المعلومات عن الندرة النسبية والفرص المربحة من خلال أسعار السوق فقط، فإن أي هيئة تخطيط ستنقصها هذه المعلومات لأن الأسعار لم تحددها السوق وبالتالي فهي "ليست ما ينبغي ما تكون(57)." وقد هجا هايك ميل "الغرور الرهيب" ليسود في المجتمع- فكرة أن القدرة على اكتساب المهارات تنبع من العقل فقط… وبأن الإنسان يمكن أن يشكل العالم وفقاً لرغبته… أو أن ثمرات التطور يمكن على الدوام تحسينها بفضل البراعة الإنسانية(58)." وقد سارع للرد، مفترضاً محدودية معرفة الإنسان بالمستقبل واستحالة اتخاذ قرارات كثيرة عن الأسعار التي من شأنها مساواة أنماط سلوك المنتجين والمستهلكين المرغوب بها،" بأن محاولات استبدال النظام العفوي بخطة واعية وشاملة للمجتمع لا يمكن أن تعمل وفقاً لتوقعات المخططين فقط(59)."
نقد الاقتصاد الكلاسيكي الجديد
دون أن يعتمد على النماذج الرياضية للاقتصاد أو اقتراح طرق يمكّن بها للسياسات الحكومية أن تحسّن من عمل الاقتصاد، تظاهرَ هايك بأن يكون واقعياً أكثر وعالِما أكثر اجتماعية من مهنييّ الاقتصاد الكلاسيكي الجديد. لم يحاول هايك خلق نماذج مجردة لاقتصاد كلي يتضمن فكرة بأن رأس المال متجانس، والمنافسة هي حالة- نهائية ستاتيكية، وفي المدى البعيد يتم كسب الأرباح العادية وتحقيق التوازن، وأن الاقتصادي قادر على تعريف دالة للرفاهية الأساسية لقياس رفاهية المجتمع، وأن هذه الفرضيات والنماذج يمكن استعمالها للسياسية العامة. وقد آمن هايك، سوية مع أعضاء آخرين من المدرسة النمساوية، بأن هذه النماذج غير الواقعية كانت السمة المميِّزة للطرق الاقتصادية التقليدية.
طريقته في التحليل
أصبح تحليل هايك مركباً بصورة متزايدة حينما حاول أن يدمج معاً آرائه في النظرية الاقتصادية، والتاريخ، والنظرية، والفلسفة. وعند عمل ذلك، اختار هايك ألا يعتمد على النماذج الرياضية، قائلاً بأن الاقتصادي لا يمكنه تخريب تعقد الترتيبات السوقية بتحويله إلى مؤشرات كلية كثيرة. وبدلاً من ذلك، اعتمد هايك على المنطق البحت كأداة منهجية أساسية له. وإضافة إلى ذلك، إذ تنبأ بالمسار الذي يمكن للمجتمعات أن تأخذه عند السماح بتدخل حكومي غير ضعيف، وجدَ هايك بأن المستقبل غير مؤكد إلى حد أن التنبؤ الدقيق لم يكن من عمل الاقتصادي، بل عمل المنظِّمين. فالمنظِّمين ليسو بحاجة للتنبؤ بغير التغيرات في السعر والتكلفة المحدديْن التي تنتج عن عدم التوازن والتي (التغيرات) تمكّنهم من الاستفادة من الفرص المربحة.
دروس
العلماء الاجتماعيون، الذين يختارون نموذجاً جديداً لتحليل المشاكل الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين، ينبغي تشجيعهم بمساهمات ميردال، شومبيتر، وهايك(60). إن دراسة أعمالهم الكبرى، وبخاصة An American Dilemma and Asian Drama (ميردال)، و Capitalism, Socialism and Democracy (شومبيتر) و The Road to Serfdom (هايك)، سوف تثبت إن هناك بديلاً للمنظور التبسيطي للاقتصادي الكلاسيكي الجديد- بديلاً يقدم تنبؤات أكثر دقة لمسار التنمية الاجتماعية ومداها. فهؤلاء العلماء الثلاثة يقدمون فهماً أكثر واقعية للاقتصاديات، وأن طرقهم التحليلية المعتبرة قادرة على تهيئة أساس متين لبناء السياسة(61).
فما هي الدروس التي يمكن للطلاب والمهنيين، الباحثين عن منظور اقتصادي جديد للقرن الحادي والعشرين، أن يتعلموها من ميردال، وشومبيتر، وهايك؟ أولاً، إن مفاهيمهم للواقع، ونقدهم للاقتصاد الكلاسيكي الجديد، وطرقهم التحليلية، تبين أن هناك مجالاً مهماً للتحليل الديناميكي طويل الأمد الذي يفسر بصورة مركبة الجوانب التاريخية، والسياسية، والاجتماعية من المجتمع محل الدرس. ثانياً، إن فرضيات شومبيتر وهايك المعيارية تنسجم مع الأدلة الأخيرة التي تشير إلى أن الأداء الاقتصادي غير الكفء يتوافق مع التدخل الحكومي الواسع. ولذلك، ورغم ميردال، فهناك القاعدة التي تملي ضرورة المحافظة على بيئة اقتصادية تساعد على الابتكارات التنظيمية، وبخاصة من خلال وضع معدلات متدنية للضرائب على الدخل (62). ومن المؤكد أن شومبيتر وهايك سوف يوافقان على:
إن المقدرة التنظيمية قد تكون، إلى حد بعيد، دالة للبنية المؤسسية الاجتماعية- السياسية التي تتيح الحماية… للمبتكر وخلق الأرباح الاقتصادية البحتة عبر التحكم بالسعر ، والكمية، ومتغيرات النوعية، بواسطة أساليب تبدو مقيِّدة واحتكارية في المدى القصير. وهكذا، فإن إمكانية الإبقاء، مؤقتاً على الأقل، على الأرباح فوق العادية الناجمة عن الابتكارات يمكن أن تشجع تحقيق معدل أرفع للابتكارات والتحسن التكنولوجي(63).
أخيراً، فإن الفرضيات المعيارية وطرق التحليل لدى هؤلاء الاقتصاديين الثلاثة تثبت بأن الكُتاب التحليلين بوسعهم تجنب التحيزات الخفية والأحكام القيمية الشخصية subjective value judgments (وبالتالي التحليل الزاخر بالإيديولوجيا) من خلال البيان المكشوف للقواعد التي يستعملوها في التقييم value premises. فكل كاتب منهم قد تعاملَ بشكل صريح مع "العنصر السياسي" الكامن في بحثه، مما مكّنَ القراء من تقييم مدى الانسجام الداخلي لاستنتاجاته دون أن يواجهوا التحيزات الخفية. ودون زعم "الموضوعية" والتجرد value free، يقدم ميردال وشومبيتر وهايك تحليلاً واستنتاجات مناسبة ومفيدة فكرياً أكثر من تلك التي يقدّمها مهنيو الاقتصاد الكلاسيكي الجديد. وإن الناس، الساعين للتغلب على هذه وغيرها من نواقص المنظور الكلاسيكي الجديد بتطوير نموذج بديل لتحليل المشاكل الاقتصادية في القرن الحادي والعشرين، يحسنون صنعاً بالرجوع إلى ميردال وشومبيتر وهايك، بين المساهمين المبدعين في علم الاقتصاد، كأساس لهم.
هوامش
(1) يُستعمل مصطلح مفهوم الواقع (أو الواقع المتصوَر أو المفهوم) conceptualized reality لتمثيل الصورة المثالية للنظام الاجتماعي- الاقتصادي كما يفهمه الكاتب التحليلي، تصورْ مشروط بالأنماط الثقافية للمجتمع الذي يعيش ذلك الكاتب ضمنه. ويتألف هذا المفهوم من قسمين مترابطين: يضم الأول العلاقة المتصوَرة بين القوى الاجتماعية والاقتصادية ضمن مجتمع ما؛ بينما يتعلق الثاني بتفسير السلوك الإنساني. يقدم مفهوم الواقع الاتجاه لعمل الكاتب التحليلي من خلال التأثير على كل من المشاكل التي يتم اختيارها للدراسة، وكذلك العلاقات المتصوَرة بين العوامل الاقتصادية وغير الاقتصادية.
(2) النموذج a Paradigm إنجاز علمي معترف به على العموم، يقدم مشاكل وطرق تحليل لجمهور الممارسين العمليين practitioners.
(3) نشدَ ميردال وشومبيتر صياغة الأساس المنهجي للاقتصاد الكلاسيكي الجديد بوضوح وذلك بتقديم تحليل غير عادي للنظرية النقدية. أنظر: Yuichi Shionoya, Schumpeter on Schmoller and Weber: A Methodology of Economic Sociology, History of Political Economy 23, no. 2 (1991(: 193-219.
(4) مثلاً، يحاجج إنريكو سانتاريلي Enrico Santarelli وإنزو بيسياريلي Enzo Pesciarelli بأن شومبيتر كان متأثراً ب "الجو الثقافي الخاص لأوائل القرن العشرين، وبخاصة أهمية المنظِّمين الكبار حينذاك". أنظر: “The Emergence of A Vision: The Development of Schumpeter s Theory of Enterpreneurship, History of o Political Economy 22, no. 4 (199o): 677-696.
(5) James Angresano, Comparative Economics (Englewood Cliffs, N. J. : PrenticeHall, 1996).
(6) يفترض هذا وضع التأكيد، عند تقييم ومقارنة أداء الاقتصاديات المختلفة، على معاييرٍ كالنمو الاقتصادي، وضآلة البطالة، وضآلة التضخم، والحريات الاقتصادية.
(7)See James Angresano, Gunnar Myrdal as a Social Economist, Review of Social Economy 44, no. 2 (1986): and Gunnar Myrdal, Institutional Economics, Journal of Economic Issues 12, no. 4 (1978): 771-783.
(8)Gunnar Myrdal , Against the Stream: Critical Essays on Economics (New York: Vintage, 1975), 50.
(9) للإطلاع على نموذج يضم هذه العوامل المترابطة التي تشكل اقتصاد ما، أنظر: Angresano, Comparative Economics
(10) للإطلاع على تقديم مفصل لهذه المؤسسات وتأثيرها على أداء الاقتصاد، أنظر المصدر الأخير، الفصول 9-13.
(11) للإطلاع على انتقادات للاقتصاد الكلاسيكي الجديد، أنظر أعمال ميردال التالية: Rich Lands and Poor (New York: Harper, 1957); Value in Social Theory: A Selection of Essays on Methodology, ed., Paul Streeten (London: Routledge &Kegan Paul, 1958); Asian Drama: An Inquiry into the Poverty of Economic Theory (Cambridge, Mass., Harvard University Press, 1969); An American Dilemma: The Negro Problem and Modern Democracy (New York: Pantheon, 1975); Against the Stream; and "Institutional Economics .
(12) أعتبرَ ميردال المنظور الكلاسيكي الجديد تبسيطياً في صياغته للسياسات، وممثلاً للرؤية الجامدة الرتيبة، الحتمية لسلوك الاقتصاد. وهذه الرؤية كانت تعتبر التنمية كشيء يحدث بصورة خطية، ورياضية، ومبسطة، أفترضَ فيها الاقتصاديون الكلاسيك الجدد أنه ما أن تتوفر شروط اقتصادية معينة (أي خصخصة المشروعات التي كانت تملكها الحكومة سابقاً أو سريان القواعد اللبرالية بالنسبة للتجارة الحرة) فإن آلية سوق سوف تبرز ويحل الازدهار بالتالي.
(13) فمثلاً، بالنسبة لدراسة العلاقات بين الأعراق والفقر في الولايات المتحدة، اختار هو "العقيدة الأمريكية" American Creed. أنظر: Myrdal, An American Dilemma, 3-25.. وبالنسبة للفقر في البلدان المتخلفة، فقد حددَ هو "أنماط التحديث" الخاصة به his Modernization ideals. أنظر عمله Asian Drama, 49-69.
(14) Myrdal, An American Dilemma,1xxviii.
(15) عبّرَ أحد العلماء الاجتماعيين السويديين عن احترامه لميردال، قائلاً "إن [غونار ميردال]، من وقت لآخر، كان يعمل بجد في حقول التاريخ، وعلم السياسة، والاجتماع … ومن الصعب التفكير بأي اقتصادي آخر من جيلنا ممن كان يمتلك الشجاعة، والكفاءة، والطاقة، لتناول هذه الدراسات بهذا النطاق الشامل، الذي أبقى فيه ميردال المكوِّن الاقتصادي البحت في مكانه الصحيح على الدوام."
Erik Lundberg, Gunnar Myrdal s Contribution to Economic Theory: A Short Survey, Swedish Journal of Economics 74, no. 4 (1974): 472-478; quoted on 480.
(16) للإطلاع على تقديم كلاسيكي لهذه الطريقة، أنظر عمل ميردال Myrdal, Asian Drama وعمله An American Delimma ، وبخاصة الملاحق.
(17) وهذه الدراسة أُنجزت سويةً مع زوجته، ألفا Alva. أنظر: Myrdal with Myrdal, Kris I befolkningsfragan (Stockholm: Bonnier, 1934) (أزمة في موضوع السكان).
(18)Gunnar Myrdal, What Is Economic Development? Journal of Economic Issues vol. 8 (1974): 729-736.
(19) Gunnar Myrdal, Rich Lands and Poor (New York: Harper &Brothers), 1957.
(20)Robert Heilbroner, Was Schumpeter Right After All? Journal of Economic Perspectives 7, no. 3 (1993): 87-96; quoted on 94.
(21)John E. Elliott, Joseph A. Schumpeter at 100 and the Theory of Economic Development at 72, Paper presented at the Meeting of the Southwestern Economic Association, Houston, TX, 1983, 27.
(22) E. Ray Canterbery, The Literate Economist (New York: HarperCollins, 1995), 269.
(23)Elliott, Schumpeter at 100, , 10.
(24) Ibid.
(25)Santarelli and Pesciarelli, Emergence of a Vision, 688.
(26) يذهب بعض المحللين إلى إن "شومبيتر يفترض آلية تكييف فالراسية [حيث]… تظهر الابتكارات في قطاع معين أولاً، من ثم تمتد للنظام كله … وهكذا، ما أن تنتشر هذه الابتكارات لكل قطاعات الإنتاج، يعود النظام الاقتصادي لحالة التوازن. الطابع الدوري للتنمية يعود للنمط غير المنتظم لحدوث الابتكارات في أسواق معينة، حيث يعود التوازن بواسطة آلية تكييف داخلية". Ibid., 688-689 .
(27) Ibid., 689
(28) Ibid.
(29) Elliott, Schumpeter at 100, , 12.
(30) Ibid., 26
(31)Robert G. King and Ross Levine, Finance and Growth: Schumpeter Might Be Right, Quarterly Journal of Economics 108, no. 3 (1993): 717-738; quoted on 716.
(32) نفس المصدر السابق. تحليل كنغ وليفن يقدم أدلة من مختلف البلدان تدعم وجهة نظر شومبيتر القائلة بأن " النظام المالي يمكن أن يشجع النمو الاقتصادي ". يستنتج الكاتبان إن هناك صلة تجريبية قوية بين مجموعة من مؤشرات التطور المالي والنمو الاقتصادي- وإن "البيانات تنسجم مع الرأي القائل بأن الخدمات المالية تشجع النمو الاقتصادي من خلال زيادة معدل تراكم رأس المال وتحسين فعالية استعمال رأس المال في تلك الاقتصاديات". وعلاوة على ذلك، يورد الكاتبان مكتشفات تجريبية للاستنتاج بأن " شومبيتر ربما كان على حق بشأن أهمية التمويل بالنسبة للتنمية الاقتصادية". ويذهب الكاتبان إلى إنه كان على حق ليس فقط بخصوص دور المنظِّم كمبتكر للتقنية الجديدة، بل أيضاً بشأن تأكيده على الدور الأساسي للخدمات المالية "كتشكيلة تنظيمية وتمويل الاستثمارات المادية وغير المادية التي تقود للابتكار.
(33) Elliott, Schumpeter at 100, , 20.
(34) Ibid., 40-41.
(35) Ibid., 42.
(36) Ibid., 5.
(37)Hans A. Jensen, J. A. Schumpeter as a Forerunner of T. S. Kuhn, Paper presented at the meeting of the Eastern Economic Association, April 1978, Washington, D. C. , 16.
(38) Heilbroner, Was Schumpeter Right?" 88.. ذهب شومبيتر إلى أنه "في أي محاولة علمية، فإن أول شيء يرد هو الرؤيا Vision. أي، قبل مباشرة العمل التحليلي من أي نوع، علينا أولا اختيار مجموعة من الظواهر التي نرغب بدرسها، وأن نكتسب غريزياً فكرة أولية عن كيفية ارتباط هذه الظواهر ببعضها، أو، بعبارة أخرى، ما هي الخواص الأساسية لهذه الظواهر من وجهة نظرنا".
(39) Jensen, J. A. Schumpeter as a Forerunner, 10.
(40)Everett Johnson Burtt, Jr., Social Perspectives in the History of Economic Theory (New York: St. Martin s Press, 1972), 162.
(41) Santarelli and Pesciarelli, Emergence of a Vision, 678.
(42) Elliott, Schumpeter at 100, , 10.
(43) Ibid., 21.
(44) Shionoya, Schumpeter on Schmoller and Weber, 217.. لم يعتقد شومبيتر بأن الاقتصاديات الرأسمالية لأواسط القرن العشرين ستمضي لتكرر نمط التنمية لأواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فقد ذهبَ، بدلاً من ذلك، إلى أن الرأسمالية سوف تضعف بسبب انتشار البيروقراطية في الحياة الاقتصادية، وبخاصة السلوك الهادف للحصول على الريع من جانب الاحتكارات الناضجة، العملاقة، ونشوء نخبة المثقفين- إذ يخلق كلا هذا العاملان مواقف سياسية واجتماعية تسعى لتدمير الرأسمالية. وتنبأ شومبيتر بأن التنمية الاقتصادية للاقتصاد الرأسمالي، في ظل غياب الابتكارات، ستدخل في "روتين التدفق الدائري في توازن عام راكد". Elliott, Schumpeter at 100, , 6. . ومما هو جدير بالذكر أنه عند متابعة نمو وتطور ما سيصبح شركة حديد الولايات المتحدة، تحت قيادة المنظِّم النموذجي للقرن التاسع عشر، أندريه كارنج، فإن الإدارة البيروقراطية اللاحقة ونقابات العمال أوصلوها للحضيض من ناحية قوتها الاقتصادية النسبية والمطلقة، لأن المنشأة فشلت باستمرار في الأخذ بالإجراءات التي تقلص من التكاليف- وهي الممارسة التي كان كارنج بطلاً فيها. وفي أثناء ذلك، نجحَ المنتجون الأجانب، الذين يضاهون ممارسات كارنج التنظيمية، في الاستحواذ على حصة كبيرة من سوق الحديد العالمي من منافسيهم الأمريكان.
(45)Norman Barry et al., Hayek s Serfdom Revisited (West Sussex, UK: Institute of Economic Affairs, 1984), Ix.
(46) Ibid., 123.
(47) Friedrich A. Hayek, The Road to Serfdom (Chicago: University of Chicago Press, 1944), 240.
(48) Ibid., xvii.
(49)Barry et al., Hayek s Serfdom Revisited, xi.
(50)Hayek, The Road to Serfdom, viii.
(51)Chiaki Nishiyama and Kurt R. Leube, eds., The Essence of Hayek (Stanford Calif.: Hoover Institution Press, 1984), xIviii.
(52)Barry et al., Hayek s Serfdom Revisited, 11.
(53) Canterbery, Literate Economist, 262.
(54)Ibid., 263.
(55) Hayek, The Road to Serfdom, vii.
(56) Ibid., xiii.
(57) كان هايك ينتقد بشدة اعتقاد أوسكار لانجه "باشتراكية السوق" التي يمكن فيها للمخططين وضع الأسعار بشكل كفء، ذاهباً إلى أن "لانجه يخلط، كما يبدو، بين المعرفة التي تُكتسب يومياً من قبل الأفراد الذين يحاول علم الاقتصاد تفسير تصرفاتهم، وبين المعرفة التي لابد أن يحوزها الاقتصادي لكي يكون قادراً على القيام بذلك، بحيث أنه يمثل هذا الأخير كما لو إن هذا الأمر مفهوم بصورة واضحة لأي مراقب للاقتصاد." Nishiyama and Leube, Essence of Hayek, 57.
(58)rederic L. Pryor, Review of the Collected Works of F. A. Hayek, Journal of Economic History 49, no. 4 (December 1989): 1072-1073; quoted on 1072.

(59) Barry et al., Hayek s Serfdom Revisited, 122.. كان هايك يعتقد بأن أفكار المخططين لا يمكن أن تعوض عن المعرفة والإشارات التي تتيحها السوق. جزئياً، لأن ملايين القرارات المتعلقة بالأسعار ستكون أمراً ضرورياً ويتخطى مقدرة أي جهاز وظيفي مع سلطة تنحدر من الأعلى للأسفل. ولذلك، استنتج هايك بأن "المجتمعات، بصورة عامة، التي تعتمد على المنافسة، لهذا الغرض، حققتْ أهدافها بنجاح أكثر من باقي المجتمعات. وهذا استنتاج يدعمه بقوة تاريخ الحضارة". Nishiyama and Leube, Essence of Hayek, 255. . ومن شأن شومبيتر أن يوافق على ذلك.
(60) تبين دراسة تطور ميردال الفكري مقدرة الاقتصادي، المتعلم ضمن التقليد الكلاسيكي الجديد، على أن يتحول بنجاح صوب المنهج الاجتماعي/الاقتصادي. الباحثون والمهنيون في علم الاقتصاد، ممن يبحثون عن نموذج يتضمن المنهج العلمي المركب لتناول المشاكل الاجتماعية الواسعة، أقرب من تجنب تقديم سياسات غير كافية وغير ملائمة- ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في البلدان الأجنبية أيضاً. ويصلح ميردال أيضاً كمثال لأولئك الذين يعلّمون الاقتصاد، وبخاصة إذا كانوا مهتمين بإعادة وضع برامجهم بغية تقديم بديل للنموذج الكلاسيكي الجديد، السائد.
(61) يذهب أحد العلماء إلى أن "مفهَمة conceptualization شومبيتر للقيادة الاقتصادية والعمليات المتكونة داخلياً للتغير الثوري، النوعي، تحمل مضامين تتجاوز إطاره التاريخي الخاص ومنظوره الاجتماعي". Elliott, Schumpeter at 100, , 42. . ومن شأن الآخرين تقديم الاستنتاج نفسه لميردال وهايك معاً.
(62) المشاكل الاقتصادية الأخيرة التي يواجهها البلَدان الأكثر تطورً في أوروبا في حقل "الرفاهية"، فرنسا والسويد، تثبت أن هايك ربما كان مصيباً حينما ذهبَ إلى أن " فكرة الطريق الوسط المستقر" لابد من اعتبارها كوهم. فهي لا يمكن أن تحدث إلاّ بالصدفة (وترتد على الدوام). فمن المعقول جداً إن يصبح هذا النظام، مفترضين العمليات الأساسية المعنية، أما طريقاً للعبودية أو شكلاً لرأسمالية مطاطة دون ضمان لتوفير أساس مؤكد للمشروع الرأسمالي كبير الحجم. مصدر هذه النظرات هو الفرضية المسبقة بأن الحكومة المنتخبة في ديمقراطية الأكثرية لها حق غير محدود في التدخل في الترتيبات الخاصة للمواطنين. وبطبيعة الحال، فإن كل هذه التدخلات ترد، دائماً ، تحت عنوان تحقيق "العدالة الاجتماعية "،"المصلحة العامة"، "والرحمة والشفقة"، وهكذا. ومع ذلك، ومن الناحية العملية، فإن التدخل الحكومي يخلق خاسرين ورابحين، وإن الإجراءات تُتخذ لاجتذاب دعم الأخيرين. Barry et al., Hayek s Serfdom Revisited, 115.
(63) Elliott, Schumpeter at 100, , 28.



#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مأسسة عدم المساواة في أمريكا
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السادس عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الخامس عشر
- حصيلة الصراع في سوريا 60 ألف قتيل قبل نهاية العام 2012
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الرابع عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثالث عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثاني عشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل العاشر
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل التاسع
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الثامن
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السابع
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل السادس
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الخامس
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين ج1-ف4
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- ق1/ف3
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- ق1/ف2
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين/ ق1-ف1
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين- المقدمة
- اقتصاد القرن الحادي والعشرين
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد.. الخاتمة والمل ...


المزيد.....




- خد راحة واستمتع.. موعد إجازة عيد الفطر 2024 للقطاع العام وال ...
- دولة عربية تتصدر التصنيف.. كبار موردي الألماس إلى الهند
- مكتب مراقبة الميزانية الأمريكي يحذر من صدمة للسوق في البلاد ...
- أنقرة تنفي التقارير حول مرحلة صعبة سيعيشها اقتصاد البلاد
- ارتفاع أسعار النفط بعد انخفاضها لجلستين متتاليتين
- تنزيل واتس اب بلس “الذهبي + الاخضر” التحديث الاخير .. ميزة ج ...
- لينـك تنزيل يوتيوب الذهبي (بدون اعلانات) التحديث الاخير .. م ...
- هبوط في أسعار الذهب.. تعرف على أسعار الذهب اليوم الخميس 28 م ...
- تحديث بدون حظر.. خطوات تحميل واتساب الذهبي 2024 وأهم مميزات ...
- السوداني: إصلاح الأجهزة الأمنية العراقية جزء من إصلاح القطاع ...


المزيد.....

- تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر ... / محمد امين حسن عثمان
- إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية ... / مجدى عبد الهادى
- التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي / مجدى عبد الهادى
- نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م ... / مجدى عبد الهادى
- دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في ... / سمية سعيد صديق جبارة
- الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا / مجدى عبد الهادى
- جذور التبعية الاقتصادية وعلاقتها بشروط صندوق النقد والبنك ال ... / الهادي هبَّاني
- الاقتصاد السياسي للجيوش الإقليمية والصناعات العسكرية / دلير زنكنة
- تجربة مملكة النرويج في الاصلاح النقدي وتغيير سعر الصرف ومدى ... / سناء عبد القادر مصطفى
- اقتصادات الدول العربية والعمل الاقتصادي العربي المشترك / الأستاذ الدكتور مصطفى العبد الله الكفري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادارة و الاقتصاد - عبدالوهاب حميد رشيد - اقتصاد القرن الحادي والعشرين- الفصل الحادي عشر