أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - حسان خالد شاتيلا - ثورة الخامس عشر من آذار في سورية: الانتقال من عفوية الثورة إلى الاستراتيجية الثورية















المزيد.....



ثورة الخامس عشر من آذار في سورية: الانتقال من عفوية الثورة إلى الاستراتيجية الثورية


حسان خالد شاتيلا

الحوار المتمدن-العدد: 3969 - 2013 / 1 / 11 - 10:17
المحور: العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
    




ثورة الخامس عشر من آذار في سورية
الانتقال من عفوية الثورة إلى الاستراتيجية الثورية



أولاً: مـــقـاربــة لا بــد مـــنهـا مــع الأســـف
حلَّ الإيمان بالشيوعية، تحت تأثير المثالية الستالينية، كعقيدة تُحَمِّل التاريخ هدفا ساميا، وحتمية قدريه، محل الإستراتيجية الثورية التي تَشُغَل حيِّزا مركزيا وواسعا في المادية التاريخية. التيمية، أو التاريخ المسكون بالغائية والحتمية ارتفعت إلى مقام المقدَّسات الدينية، فأصبحت المادية التاريخية مساوية لعقلانية متعالية ما فوق وما وراء التاريخ. غير أن العلِّية التاريخية، السببية أو ألحتمية، احتمالٌ موضوعي في عالم الممكن. إن المادية التاريخية العقلانية وثيقة الصلة بالسياسة، إن لم تكن هي نفسها السياسة المادية، حيث تغدو المعرفة العملياتية، معرفة أو عملية استراتيجية. أي إن العلية أو الحتمية كالصيرورة معرفة سياسية استراتيجية، يمتزج فيها الوعي والعمل في لبنة واحدة هي المادة التاريخية. المعرفة هي العمل وقد تطور وتغير وتحول عبر الصراعات الاجتماعية إلى وعي.

1)- السياسة البروليتارية:
وليست العلاقات الطبقية حسب المادية التاريخية مفهوما من مفاهيم علم الاجتماع، مفهوم تصنيفي، وإنما هي حالة أو مفهوم استراتيجي. فالطبقات، على سبيل المثال، تتكوَّن من خلال صراع الواحدة ضد الأخرى. فهي، من حيث هي موضوع التاريخ، ليست طبقات في ذاتها، ومعطيات اجتماعية جاهزة أو موجودة بصورة قبلية. إنها تتكوَّن عبر علاقات الاستغلال التي تقود إلى حالات من التناقض والنزاع. هذه التناقضات والصراعات ينشأ عنها جماعات اجتماعية لا تغدو طبقات إلا من خلال الصراع وعبره. "إن الدور المركزي للطبقة العاملة حسب ماركس، لا يتكون بفعل من حتمية اجتماعية تقود بصورة آلية البروليتاريا إلى العمل والممارسة وفقا لمفهوم البروليتاريا. إن دور الطبقة العاملة مرتبط بالاستراتيجية، وإليها يعود تكوينها كطبقة، على حد ما يذهب إليه الشيوعي الفرنسي دانييل بنسعيد. إذ إنها تمارس دورها عندما تَستخدم التناقضات ضد خصمها الطبقي، وتتخطى، في الوقت نفسه، ما بينها من اختلافات وذلك في معركة مشتركة، وفي مسار من التعميم".
وحَسَبْ هذه المقاربة، فإن الاستراتيجية في المادية التاريخية تتكوَّن، وهي على قطيعة بكل ما هو متعالٍ، ومُسْبَق، لتأخذ بعقلانية تاريخية تنشأ عبر الصراع الاجتماعي السياسي، وحيال الخيارات السياسية الاستراتيجية. إن الاستراتيجية بهذا المعنى، القاعدة الأساس لليسار الثوري، وحولها تُعبأ الجماهير وتُنَظَّم، وهي مصدر التربية المادية الثورية، ومشروع للثورة على السلطة السياسية البورجوازية، والانقلاب عليها. إن الاستراتيجية هي نقطة انطلاق الممارسة السياسية والتفكير المادي التاريخي. فإذا كانت المادية التاريخية مُكّوَّنة من الصراع الطبقي، والدولة، والثورة، ونمط الإنتاج الاقتصادي، ونقد الإيديولوجية السائدة، والبروليتاريا، والحزب، والممارسة والوعي، والنقابات، إلخ، فإن المادية التاريخية والإستراتيجية الثورية لا يتباينان إلا من حيث التسمية.
ثورة الخامس عشر من آذار/مارس في سورية تفتقد للإستراتيجية الثورية. الأمر الذي يستدعي على وجه السرعة التأسيس لجبهة يسارية ثورية محمَّلَة ببرنامج سياسي. إذ إن محصِّلة الثورة وهي على عتبة نهاية السنة الثانية من تاريخها، أقل ما يقال فيها، أنها مُظْلِمَةٌ. لقد آن لليسار الثوري أن يحصد نتائج ما آلت إليه الثورة من جراء تفكُّك العلاقات ما بين أحزابه، وافتقادها للبرنامج السياسي الثوري، وذلك بالرغم من أن الثورة تمخَّضَت عن براعم يسارية ثورية من شأنها أن تعيد لثورة الخامس عشر من آذار ما افتقدت إليه حتى غاية اليوم، ألا وهو البرنامج الاقتصادي الاجتماعي، والتخلي عن الحب الجنوني للسلطة. إغراء الدولة والغواية بأجهزتها، والذي امتطى اليسار الشيوعي في العالم وفي سورية على حد سواء، مما حَجَب عنه المجتمع الذي تخلَّى بدوره عن اليسار الثوري. نعم، إن استلام سلطة الدولة مسألة مركزية في كل استراتيجية ثورية. بيد أن محاربة الهيمنة الإيديولوجية على المجتمع وتسلُّط الدولة عليه، وتنظيم المجتمع عبر المعارك اليومية من شأنه أن يعيد التوازن في الاستراتيجية ما بين الدولة والمجتمع.
كان الصراع الطبقي وصلته الوثيقة بمعركة التحرر القومي هو المقولة السائدة في أوساط المثقفين اليساريين والقوميين ما بين الستينات والثمانينات من القرن الماضي. تقليعة سياسية تُخْلَع وتُستبدل بغيرها حسب الفصول والأمواج الإيديولوجية. التقليعة السائدة ما بعد الصراع الطبقي ملونة بألوان المجتمع المدني، والمواطنة و(المواطنية)، والبرلمان، وحقوق الإنسان، والعقد الاجتماعي. غير أن الواقع التاريخي الملموس للسياسة والمجتمع لم يرتدِ أيا من هذه الأزياء. فلقد سار التاريخ في مسارات مغايرة. أجهزة السلطة الرأسمالية البيروقراطية ذوَّبت الدولة، وتخلَّت عن الصراع الطبقي والمعركة القومية، لتفرض حكمها بالاعتماد على إيديولوجية القمع والبطش والإرهاب. تَبِعَ ذلك "الربيع العربي" بأزيائه المزركشة بالديمقراطية البرلمانية والمجتمع المدني والمواطنة، بعدما انهال جيش الجنرال أسد على المقاومة الفلسطينية والحركة الديمقراطية الوطنية في لبنان وغير سورية، فإذا بالتاريخ يسير في منحاه التونسي والمصري واليمني في اتجاه آخر. تسييس الدين، باختصار شديد، تغلَّب على تسييس المجتمع. هكذا تستمر التقاليد السائدة منذ بداية عصر ما يُسمى ب"النهضة العربية" التي نادت بتحديث الدين عوضا عن تحديث المجتمع، حتى غاية يومنا هذا. ما أدى، من جراء استراتيجيات سياسية لا صلة لها بالواقع الحي، إلى القعود عن التحديث والمعاصرة، وسقوط مشاريع الوحدة العربية، وتحرير فلسطين، والمدينة الفاضلة.
إن الدرس الأول المستقى من تعثرات ثورة الخامس عشر تؤكِّد أن الغائب الأعظم هو الاستراتيجية الثورية والأداة الثورية. فإذا كانت كفة الثورة المضادة هي الراجحة، وكانت كفة الطبقات الشعبية خاوية من ثقل ضواحي المدن وبلدات الريف والأحياء الشعبية، بعدما سَلَّمَت الطبقة السياسية ثورة الشعب إلى السياستين الدولة والإقليمية، فإن ما يُسمَّى ب/ألمرحلة الانتقالية" سيغوص بسورية في محيط من الفوضى الاقتصادية، والنهب الرأسمالي التجاري، والانقلابات السياسية، والمباريات العسكرية، ما لم ينشأ الحزب اليساري الثوري الجديد، فيَعمَل على استمرار الثورة إلى ان تَنتَقِل السلطة إلى اليسار والقوى الشعبية، مؤذنة ببداية ثورة جديدة. بمعنى آخر، فإن استمرار الثورة، خلال المرحلة الانتقالية داكنة السواد، يبدأ منذ اليوم.


2)- السياسة المادية:
ليون تروتسكي يُعرِّف الاستراتيجية الثورية من حيث هي: "تَشمَل نظاما يَجمَع ما بين الممارسات التي تقود، من حيث الوجوب، وعبر صلاتها المتبادلة وتتابعها، بالبروليتاريا إلى الفوز بالسلطة" (ليون تروتسكي، الأممية الشيوعية ما بعد لينين، باريس، بوفَّ، 1969، الأعمال الكاملة، المجلد الأول، ص 171، باللغة الفرنسية). هذا التعريف يأخذ بإستراتجية دكتاتورية البروليتاريا، وذلك على نقيض من الاستراتيجية البرلمانية التي نشأت في صفوف اليسار الألماني خلال الأزمة التي امتدت ما بين 1918 و1923، وقوامها الجمع ما بين الحركة العمالية القوية والتقليد البرلماني لألمانيا. اليسار الألماني المنتمي منه إلى الأممية الثانية،، كان ومايزال، يربط ما بين الإستراتيجية والتكتيك من خلال برنامج من المطالب التحريضية الانتقالية، والجبهة الموحَّدَة، للفوز بأكثرية مقاعد البرلمان، وتشكيل حكومة عمالية.
الإستراتيجية لدى لينين تسير في منحى من القطيعة مع المقولات المنطقية الجامدة للمادية الجدلية، لتضع السياسة في قلب الممارسة والوعي، اليساريين الثوريين، اللذين يَمْثلان، بصورة متجدِّدَة ومستمرة، في الإستراتيجية والبرنامج السياسي ل/"تحليل ملموس لواقع ملموس". لينين يرى أن "التقسيم الطبقي هو، وبالتوكيد، أعمق الأسس للتجمع السياسي(...) لكن النضال السياسي، حسب مقولة ، هو الذي يبنيه" (لينين، مهام الشباب الثوري، 1903، الأعمال الكاملة بالفرنسية، 1966، المجلد السابع، ص 470). تعريف لينيني يُسلِّط الأضواء على التكوينات السياسية في المادية التاريخية.
"البيان الشيوعي" لماركس وإنجلز، يبيِّن أن فوز البروليتاريا بالسلطة ضرورةٌ ملزِمَةٌ كي ما تمارس دورها من حيث هي طبقة مسيطِرَة. كومونة باريس (1871) وَضَعَت أمام ماركس حالة ديمقراطية من نمط جديد مماثلة للتك التي كان يمارسها ثوار الكومونة، والتي تكسر الجهاز البيروقراطي للدولة. الممارسة السياسية، أو النضال السياسي يَشْغل الحيِّز الأعظم من أعماله، ويَفتَح أمامه أشكالا جديدة من الابتكار في نمط الحكم الديمقراطي. إلاَّ أن ابتكار الديمقراطية لا ينفِ الحتمية الاجتماعية، ما دام نمو الطبقة العاملة، من حيث الكم والوعي، ينتهي إلى حركة تاريخية ذات ديناميكية، من شأتها أن تقود البروليتاريا إلى السلطة السياسية، وابتكار نمط جديد من الديمقراطية انطلاقا من هذا النمو، مُقَيَّدَةً بنوعيته وبموجبه. الأممية الثانية تشوِّه السياسة المادية عندما تكرِّس لديمقراطية السوق البورجوازية، بحجة أن المنطق التدريجي يبرِّر ما كانت التخابات العامة في ألمانيا تشهده من تطور. غير أن كلا من روزا لوكسمبورغ، وتروتسكي الشاب يتحفظان إزاء هذه الانتهازية، ليلحا على أهمية التطور الذاتي للبروليتاريا، من حيث موازين القوى والوعي، بفضل حالات كثرٍ من التعبئة الاجتماعية، والإضراب العام بوجه خاص.
تحت تأثير الأممية الثانية، شُوِّهَت السياسة البروليتارية بحجة أن التطور تدريجي، وأن الحتمية الاجتماعية تحصر السياسة في مسار زماني ذي نمط استمراري، فأصبحت السياسة المادية مجرد امتداد عضوي للحركة الاقتصادية. السياسة المادية بهذا المعنى لا تعدو كونها لدى أحزاب الأممية الثانية الاشتراكية، مجرد مرافق لحركة التاريخ، وما على السياسة إلا أن تعي هذه الحركة. حركات المواطنة وحقوق الانسان والمجتمع المدني في سورية اليوم، والتي تجمع في صفوفها يساريين من كل حدب وصوب، تبرِّر تمسكها بهذه القيم المثالية بالاعتماد على الحجة المنطقية إياها. التطور الاقتصادي، ليس غير.

3)- لينين:
لكن لينين يدحض هذا المنحى إلى حدِّ القطيعة الجازمة معه. إذ إن السياسة لديه ليست، أولا، مجرد امتداد للنضال الاجتماعي والاقتصادي، أي أنها ليست نتاج مجرد نزاع ما بين العامل ورب العمل، وإنما هي ترافق الصدام ما بين كل الطبقات في المجتمع. الأمر الذي يؤكِّد أن السياسة حائزة على استقلال ذاتي حيال ما هو اقتصادي اجتماعي، وأنها، علاوة على ذلك، ذات وظيفة بنيوية في ما يتعلق بما هو اجتماعي. أي أن السياسة المادية، أو السياسة حسب المادية التاريخية، موجَّهَةٌ في سياق من مجتمع مكثَّف، له مؤسساته، وله، علاوة على ذلك، لغته الخاصة به. أحد وظائف السياسة المادية هو تفكيك هذه اللغة للكشف عن مضامينها التاريخية. مضامين ليست فقط اقتصادية. إن هذا التحليل السياسي للمجتمع، يشكِّل أحد المكوِّنات الأساس لفهم ما تحمله محصلة صراع الطبقات من تفاعلات حيَّة ممكنة. إن الإمكان، هنا، يؤيِّد الضرورة دون أن ينفي الحتمية (راجع دانييل بنسعيد، السياسة من حيث هي فن إستراتيجي، منشورات سيليبس، 2011 ). النتيجة قوامها أن الإلمام بخصوصية المستوى السياسي هو مفتاح الاستراتيجية التي ترتبط ، ثانيا، بما هو "أزمة ثورية"، حسب ما يذهب إليه لينين وهو يستوعب بداية الحرب العالمية الأولى.
يُعرِّف لينين "الأزمة الثورية"، وهي إحدى تكوينات الاستراتيجية، بالعودة إلى حالة سياسية ثلاثية: الحكَّام في الأعلى غير قادرين على فرض حكمهم كما كان الآمر في ألسابق والشعب في القاعدة ما عاد يطيق أن يُحكَم كما كان الأمر في السابق، والطبقات الوسطى لا تَعرف ماذا تريد؛ إنها متردِّدَة. هذا التعريف، لا يَنتقِد فقط مقولة التدرُّج المنطقية، التي كانت وما تزال سائدة لدى اشتراكيي الأممية الثانية، كاوتسكي بوجه خاص، وإنما تمهِّد أمام لينين صياغة "الدولة والثورة". هذه الحالة الثلاثية، ليست نمطا أو نموذجا يُحتذى في كل مكان وزمان، إلا أنه يُمثِّل، بالرغم من ذلك، حالة "الأزمة الثورية" في سورية.
فالسلطات التي أسس لها دستور الجنرال أسد قبل أربعة عقود أصبحت بالية، الأجهزة القمعية، الجيش والاستخبارات ذات الأذرع الأخطبوطية، اَسقطت الدولة، ونحَّت "الحزب القائد" جانبا، ولم تعد السلطة التنفيذية سوى جهاز لإدارة الفساد وتعميمه، وأضحت السلطة التشريعية أضحوكة يتندر القوم بهزل أعضائها (نواب الشعب)، ليسود، في نهاية المطاف، وبعدما استشرى الفساد في القضاء والجيش والقطاع العام، حُكْمُ الأجهزة المتحالفة مع رأسمالية السوق. فتأسست إيديولوجية العنف، والقمع، والإرهاب، بينما استمر تراكم رأس المال يملأ جيوب قادة الأجهزة ومعاونيهم، وذلك بالمشاركةً مع كبار المزارعين والتجار وأرباب العمل الصناعي والوسطاء والسماسرة. حتى إذا ما جاء يوم الخامس عشر من آذار، انفجرت ثورة المجتمع في سورية معلنة القطيعة النهائية مع حكم الرأسمالية البيروقراطية. إيديولوجية القمع أصبحت اعتبارا من الخامس عشر عاجزة عن إرهاب الطبقات الشعبية، وإغلاق أفواهها الجائعة، أو إخماد أنين مرضاها، وإطفاء ظمأ أكثرية الشباب في المجتمع السوري للعلم والعمل. هذا اليوم يَشهد على إفلاس السلطة القمعية الفاسدة والمُفسِدَة. فلقد وصلت بالمجتمع السوري إلى طريق مسدود أو بدون مَنفَذ بعدما وَقعت في خازوق العولمة النيوليبرالية، وعلى رأسها وصايا البنك الدولي، والمنظمة العالمية للتجارة، وحرية البنوك، والإقبال بحماس زائد على الخصخصة في كل القطاعات، وتشجيع كبار المزارعين، والتفاوض مع الاتحاد الأوربي صاحب الشراكة السورية الأوروبية، والمحادثات السورية الإسرائيلية بوساطة أردوغان أفندي، والسكوت المطلق، من الوجهة العسكرية البحتة، عن الجولان المحتل.
هذا، مع العلم، أن ماضي السياسة السورية ملطخ بدماء الشعب الفلسطيني في مخيمات لبنان والأردن. ياسر عرفات غادر دمشق مطرودا إلى تونس !!! السياسة السورية شريكة غير مُعلَنَة مع السياسة المصرية بكل ما يتعلق بمعاهدة كامب ديفيد ووارسو. إنها تلك السياسة التي بدأت مع الجنرال حافظ أسد في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970، والتي لقيت تأييدا من السياسة الإمبريالية التي تسيطر على السياسة الدولية، طالما يمضي هذا الحكم قدما في قمع الحركة الوطنية الفلسطينية، والقوى الديمقراطية في سورية والبلدان المجاورة. هذا هو الحكم الذي سقط في سورية. إنه صاحب الأيدي القذرة التي كانت وقَّعَت، صبيحة يوم الانقلاب العسكري للجنرال أسد، على القرارين الدوليين 242 و338. فقبلت التفاوض مع إسرائيل من حيث المبدأ... . باختصار شديد، فإن سورية لم تعد سورية "قلب العروبة النابض"، نعم، وبكل توكيد، والمجتمع السوري لم يعد يتعرَّف على نفسه عبر حكامه.
أما الطبقات الوسطى، فإنها، في ما ثورة الطبقات الشعبية تقترب من نهاية سنتها الثانية، تنتظر، أن تأتي الثورة بأكلها لصالحها دون أن تشارك فيها، ومنها بوجه خاص، الشرائح العليا من الطبقة الوسطى. وكانت هذه الطبقة شهدت تحولات نوعية خلال العقود الخمسة الأخيرة. فلقد صعدت شرائح واسعة من صغار الفلاحين والطبقة الوسطى، وهي ذات امتدادات في الجيش الحاكم بصورة مباشرة تارة، وغير مباشرة تارة أخرى، إلى المستوى الأعلى من المجتمع السوري. لا سيما وأن الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى في الأرياف والبلدات وعواصم المحافظات، بما في ذلك دمشق وحلب، استفادت، على التوالي، من كل العهود لتي كانت تُسجِّل لنهاية العهد الاقطاعي، القديم والحديث، والبورجوازي الكولونيالي الذي كان عَرف نموا في عهدي الانتداب الفرنسي والاستقلال الوطني، استفادت، بالرغم من التناقضات ما بين العهود المتتالية، من ولادة الجمهورية العربية المتحدة، انقلاب الانفصال، 8 آذار/مارس، 23 شباط/فبراير، و16 تشرين الثاني/نوفمبر، إلى أن بلغت هذه الحالات من الانتقال الطبقي أوجها مع العهد الرئاسي ل/بشار الأسد، صاحب خطاب العرش الشهير (خطابه أمام <مجلس الشعب> لدى توليه رئاسة الجمهورية في العام ألفين). إن الدور القيادي الاجتماعي السياسي للطبقة الوسطى التي كانت تُشكِّل كتلة مجتمعية سياسية تاريخية واحدة، وطنية، وحدوية، قومية، يسارية، قد سقَطَ بعدما انشطرت إلى شرائح التحقت بالطبقات الشعبية، في ما كانت الشرائح الوسطى منها ذات الصلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالحكم العسكري، تنفك عن كتلتها السياسية التاريخية، وتتخلى رويدا رويدا عن الإيديولوجية القومية والاشتراكية التي كانت تسود لدى الطبقة الوسطى حتى منتصف الستينات من القرن العشرين، لتأخذ، في الختام، بأيديولوجية القمع والعنف والإرهاب. بمعنى آخر، فإن اتساع العلاقات الرأسمالية في المجتمع السوري الذي يأخذ بنمط الاستبداد الشرقي، ما فتئ القديم البالي ينتهي إلى الزوال متأخراً، في ما الحديث المعاصر لا يأخذ مكانه إلا بعد نضال شاق، إن اتساع هذه العلاقات في الريف والمدينة، وفي الريف والزراعة بوجه خاص، وإن كان أدى إلى حالات كثر من الانشطار في الطبقة الوسطى، ما أدى بالتالي إلى زوال دورها ككتلة سياسية واحدة، فإن الفقر بالمقابل قد اتسع بصورة واسعة، اتسعت معه الطبقات الشعبية، وذلك في ما كانت الرأسماالية البيروقراطية ذات الأصول المدنية والريفية والعشائرية، والتي كانت تنتمي إلى الطبقة الوسطى وشرائح من صغار الفلاحين، تزداد ثروة وتتقلص حجما.

4- الأزمة الثورية في سورية:
إلى ذلك، قإن هذا التطور السياسي الاجتماعي الاقتصادي، وإن كان ألغى الدور السياسي للطبقة الوسطى من حيث هي قائدة للمجتمع، ليضعه بين أيدي الرأسمالية البيروقراطية التي تخلت عن أصولها الطبقية، فإن التطور، من جهة ثانية، لم يلغِ الطبقة الوسطى من حيث هي شرائح اجتماعية متعيِّشة من فتات ما ترميه إليها الرأسمالية البيروقراطية، وشرائح أخرى من المستفيدين من فائض قيمة العمل ما لم تتحالف هذه الشرائح - وهي في نمو مطَّردٍ - سياسيا مع الطبقات الشعبية، فنتضم إلى ركب الثورة؛ لا سيما ما كان منها ذي دخل يكاد يلامس مستوى الفقر. بيد أن تطور العلاقات الرأسمالية في المجتمع السوري أدى أيضا، من جهة ثالثة، إلى ظهور شرائح عليا من الطبقة الوسطى، أفرادا وجماعات، ذات امتدادات سياسية في النظام الحاكم، كما في "المعارضة"، كانت وما تزال تتوق، منذ ما قبل الثورة وما بعد الخامس عشر من آذار، إلى إصلاح الرأسمالية البيروقراطية، بصورة "تدريجية وسلمية"، بحيث تتحول رويدا رويدا إلى رأسمالية ليبرالية مشرَّعة النوافذ والأبواب أمام العولمة أو الإمبريالية الجديدة. التصريحات الأخيرة لنائب الرئيس السيد فاروق الشرع تُعبِّر عن هذه الأماني.
هذا التكوين الاقتصادي السياسي للمجتمع في سورية سياسيٌ في المقام الأول من جهة الاستراتيجية السياسية المادية، طالما تواجه ثورة الخامس عشر من آذار، من حيث التكوين الطبقي للمجتمع، ومن حيث علاقة هذا التكوين بالسلطة أو الدولة المنقرضة منذ حينٍ، أزمة سياسية عنيفة من أجل الاستيلاء على نظام الهيمنة والسيطرة، أي الدولة. الدور السياسي للطبقة الوسطى انتهى، الرأسمالية البيروقراطية مضطرة للانتقال إلى نظام رأسمالي ليبرالي، وبناء دولة حيث لا توجد دولة، والطبقات الشعبية والتنسيقيات تفتقد بصورة كاملة إلى برنامج سياسي كفيل بإخراج سورية والمجتمع السوري من الطريق المسدود الذي بلغت إليه من جراء الراسمالية البيروقراطية. أضف إلى ذلك إن الطبقات الشعبية التي تدفع الثمن غاليا كي يتمخض المجتمع السوري عن مجتمع جديد ودولة حديثة، ومن أجل إنقاذ المجتمع السوري ككل أو الوطن سورية من هذا الطريق المسدود، لا يَلقى تجاوبا سياسيا من قِبِل الطيف السياسي السوري، ما دام"الائتلاف الوطني" يتسوَّل الحلول على أبواب العواصم الإمبريالية الكبرى في الغرب، وما دامت "هيئة التنسيق" تدعو بحماس، بالاتفاق والتعاون مع روسيا والصين وإيران، إلى مؤتمر دولي يُعقد بدمشق بمشاركة السلطة من أجل إيجاد حل للأزمة، وطالما يعمل كلاهما دونما كلل أو ملل على تدويل الحالة السورية، وتفريغها من مضمونها التاريخي، من حيث هي ثورة اجتماعية سياسية اقتصادية تجتاز حالة ولادة عسيرة لمجتمع جديد ودولة حديثة. زد على ذلك، أن "الجيش الحر" يرجِّح الطريق العسكري، ويسد المنافذ أمام الحل السياسي. ثمة إذن أزمة ثورية.
هذه الأزمة ذات تكوين سياسي ،أولا وأخيرا، مادامت السياسة، منذ ظهور الشمس وحتى زوالها، هي نفسها المادية التاريخية، وطالما تشمل كامل الصدام ما بين الطبقات في المجتمع، ولأنها ليست مجرد امتداد لصراع بسيط ما بين العامل ورب العمل، أو لأنها ليست مجرد امتداد بسيط للصراع الاجتماعي والاقتصادي. إن الاستراتيجية بهذا المعنى عملية متجدِّدَة ومتغيِّرة، حسب الأزمنة والأمكنة، لأزمة نظام السيطرة أو الحكم السياسي. لذا ترى لينين يعود غالبا للحديث عن "أزمة وطنية"، وذلك من جراء ما كانت الدولة الوطنية أو القومية تشغله من موقع في السياسة، أو من أجل السيطرة والحكم في روسيا القيصرية. على مسارٍ من هذه الأزمة الثورية يتكون الصراع الطبقي ويتطور(يتغيَّر)، فَيظهر الصراع ما بين سلطتين اثنتين، السابقة والجديدة، البورجوازية والبروليتارية، ثم الاشتراكية فالشيوعية. الماضي والحاضر، ومن ثم الحاضر والمستقبل. سلطتان، إحداهما تمثِّل حالة البورجوازية وهي تنقض على السلطة من أعلى المجتمع، والثانية تنتزعها من القاعدة. هكذا تتكَّون الاستراتجية الثورية كعملية سياسية واعية، منظّمَة وفاعلة، وهي ترافق النزاع الوطني أو الطبقي من أجل الهيمنة السياسية والإيديولوجية.
دانييل بنسعيد يلاحظ، على غرار لينين، وفي هذا السياق من العملية الاستراتيجية للآزمة الثورية، أن الصراع الاجتماعي من أجل الاستيلاء على نظام الهيمنة والسلطة ذو زمان تاريخي أبعد ما يكون عن التطور الأحادي المسار في مجتمع متجانس، وذلك على نقيض من كاوتسكي والأممية الثانية وورثتها. إذ إن للسياسة زمانها الخاص، بل وإن الأزمة الثورية تحدُث في زمان تاريخي منقطع عن ماضيه، وفي مجتمع مختلف عن حالته السابقة ما قبل الثورة. السياسية ذات زمان تاريخي خاص، والأزمة الثورية زمانٌ تاريخي منقطع. المجتمعٌ يجتاز حالة التوليد والابتكار لكل ما هو جديد مُحدَث. مجتمعُ الآزمة الثورية أو الصراع ما بين سلطتين اثنتين. غير أن انتزاع الهيمنة الاجتماعية ونظام الحكم ليس بالأمر الهيِّن. بالأحرى، هو ليس تلقائيا أو آليا. لذا، فإن لينين يؤكد بشدَّة على اهمية الحزب الثوري من أجل العثور على حل إيجابي للأزمة الثورية. لذا، أيضاً، فإن ما تفتد إليه ثورة الخامس عشر من آذار هو هذه العملية الاستراتيجية التي توفِّر للمجتمع السوري حلا للخروج من أزمته الوطنية، بفضل يسار ثوري جديد، متعدد الأدوات، كالجبهة السياسية، والنقابات، والكتائب شبه العسكرية، وذلك ضمن استراتيجية تَحُول دون انتصار الثورة المضادة، وتوفِّر الظروف أمام نشوء أنماط جديدة ديمقراطية مبتكره (لمَ لا) من نظام سلطة الهيمنة السياسية والاجتماعية.
إن أحفاد كاوتسكي اليساريين في سورية كثر. إنهم يريدون نظاما برلمانيا في مجتمع نبذ ديمقراطية السوق الكولونيالالية، والسوق الوطنية التي كانت تتآمر مع الأحلاف في عهد العدوان الثلاثي على مصر، متعطِّش للحرية من أجل الدفاع عن الطبقات المشاركة بدمائها في الثورة. مجتمع عسكري إن لم تَدس على برلمانه كولونيالية الانتداب الفرنسي، فإن العسكريتاريا السورية التي كانت تتقاتل في ما بينها حول المحاور الإقليمية والأحلاف ومن جراء شركة البابلاين، قلَصت عمر البرلمان إبان الانتداب أو ما بعد الجلاء الفرنسي وحتى غاية الوحدة إلى شهور. إن الديمقراطية في سورية وغيرها من الأقطار العربية لن تولد من بطن البرلمان الفرنسي والإنجليزي اللذين يعود تاريخ كل منهما في هذين البلدين إلى العهد الملكي (لا ننسى أن بريطانيا عرفت الثورة البورجوازية قبل فرنسا)، ولن تأتينا من رحم البونديستاغ، ولن توجد من عدم. إن أنصارها في سورية سيجدون أمامهم، إذا استمروا بولائهم الأعمى للمفاهيم وكاوتسكي وبرنشتاين، كالحرية والديمقراطية و(المواطنية)، لن يأتيهم أي شكل من ديمقراطية السوق، حتى إذا سلَّمنا جزافا أن خط التطور في بلد - لا، ولم يعرف أي شكل من أشكال ديمقراطية السوق - يسير نحو تكريس البرلمانية. سيرون أمامهم وحشا مشوَّها ينادي بحرية السوق العالمية في ما هي تَلتهم سورية مجتمعا وسلطة معا، ويبيع الجولان باسم السلام العادل، ويَقمع اليسار باسم القانون الذي يؤسِّس لمجتمعهم المدني، لكنه يقمع اليسار بتهمة الإرهاب. إنهم، إذن، يريدون برلمانا ميتافيزيقيا !! إن الديمقراطية في سورية لن تولد من عدم، كالاشتراكية سواء بسواء.
المجتمع الثوري في سورية يفتقد، على مستوى إستراتيجي آخر من الأزمة الثورية، وفي الوقت نفسه، للقيادة اليسارية، والإستراتيجية الثورية التي تقوده ببرنامج سياسي ثوري نحو الحريات السياسية، وإعادة توزيع الثروة الوطنية، والنمو، وتحرير الجولان، ودعم الثورة الفلسطينية وحركات المقاومة ضد الإمبريالية والصهيونية والعولمة. ما يفتقد إليه المجتمع السوري، ليس ديمقراطية السوق التي تدور في مخيِّلة أنصارها، وإنما العثور على الحلول السياسية الاستراتيجية لخصوصية الأزمة الثورية في سورية، ألا وهي ابتكار جديد للديمقراطية ونظام السلطة، من جهة، والانتقال بالثورة من حالتها العفوية التي تراوح في مكانها إلى الثورة الإستراتيجية والانتصار على الثورة المضادة التي تتأهب للانقضاض على المجتمع والوطن في آن واحد.
"كومونة" باريس التي سَبقت أفكار ماركس وإنجلز، بالرغم من من تكوُّنها عن وعي تلقائي، وممارسةً غير مُنَظّمَة، كانت تَحمل، مع ذلك وبصورة ضمنية، معرفةَ عملِيَّاتية، ما لبثت أن تكونت بصورة صريحة، واعية ومنظَّمَة، لدى ماركس وإنجلز. ما يعني أن العمل يسبق الوعي، وأن الوعي ما هو سوى العمل وقد انتقل من حالة تلقائية من الوعي والممارسة إلى حالة منظَّمَةٍ ومعرفيَّة، أي إلى استراتيجية سياسية ثورية، أو ما يُعْرَف بالمادية التاريخية أو المعرفة العملياتية. الترجمة من الفرنسية إلى العربية لل/"كومونة" Commune هو العامِيَة. أعضاء الكومونة "كومونار" communardsباللغة العربية ليس العوام بالمعنى القدحي للكلمة، وإنما العامة أو العوام بمعنى العموم، أو مفهوم عامة المواطنين "سيتوايان" citoyens (مواطنون)، والذي كُرِّسَ له مع الثورة الفرنسية. ثورة الخامس عشر من آذار تشترك مع الأزمة الثورية ل/"كومونة " باريس، من حيث هي حتى غاية اليوم، أزمة الانتقال السياسي الاستراتيجي من عفوية الممارسة والوعي التلقائي إلى العمل وقد أضحى عبر جدليات الأزمنة التاريخية عملا يرتفع إلى مستوى الفكر العملياتي (المادية التاريخية)، أو الاستراتيجية الثورية.
فالممارسة والنظرية مجبولان من لبنة واحدة هي المادة التاريخية، إلا أن جدليات الأزمنة التاريخية السياسية، هي التي تفصل ما بينهما. فتتطور الممارسة العفوية وما تحمله من وعي تلقائي عبر أزمنة التغيير، والتحول، والتطور، والصراع، والقطيعة التاريخية مع إيديولوجية الدولة ومؤسَّساتها، بما في ذلك السلطات القضائية والتنفيذية، وبوجه خاص قوانين الدولة، والتي تُشكِّل حجر الأساس في كل إيديولوجية، لتشكِّل لبنة أو عجينة واحدة مَجبولة من مادة التاريخ، بيد أن جدل الزمان التاريخي هو الذي يُحَوِّل التلقائية والعفوية ألى عمل واعٍ ومنَظَّم مجبولٌ بالتكوين الاقتصادي الاجتماعي. إلا أن الزمان، مَسْكَن الجدل، يتفرّع إل أزمنة، كل زمان منها زمانٌ لتكوين من تكوينات المادة التاريخية أو التكوين الاقتصادي الاجتماعي. التناقضات، على سبيل المثال، ضمن الطبقة العاملة في ما هي في صراع مع رأس المال حول الهيمنة والسلطة، تسير في منحاها الزماني الجدلي بصورة مستقلة ذاتيا عن تطور علاقات الإنتاج أو أدواته. لكل منها وتيرته وسرعته أو استقلاله الذاتي في ما يتعلق بجدل التطور والتحوُّل والتناقض والقطيعة الإيديولوجية. لكل من هذه التكوينات زمانه الجدلي على حدة، من جهة، ولها كلَّها مجتمعةً ومتفاعلةً زمانا واحدا شاملا، من جهة ثانيةً. الوعي بهذا المعنى يَلحق بالعمل، ولا يتكون إلا من حيث هو ممارسة ذكية، أو عمل ذكي واعٍ ومنُظَّم اجتماعيا ومعرفيا، أي العمل وقد أصبح هو نفسه فكرا.
هذه الصلات ما بين تكوينات التكوين الاقتصادي الاجتماعي ذات الوتائر متباينةُ التكوُّن في ما يتعلق بتطورها وتكوُّنها، هي الحيِّز الاستراتيجي السياسي، أو المعرفة العملياتية، التي تُبرمج المهام السياسية الثورية في ضوء هذه الأزمة السياسية المستمرة ما بين الماديات الموضوعية للتكوين الاقتصادي الاجتماعي. هنا أيضا تسير السياسة وفق وتيرة ذات استقلال ذاتي عمَّا سواها من ماديات التكوين الاقتصادي السياسي، وإن كان موضوع الاستراتيجية السياسية المادية يتكوَّن من جمع وترتيب تكوينات مادية اجتماعية اقتصادية متباينة في سرعة ووتيرة كل منها وهي تتطور، في كلٍ سياسي واحد شاملٌ، وذلك بتوثيق الصلات النضالية لكل منها على حدة، ولها كلها مجتمعة، في العملية الاستراتيجية لتنظيم الثورة. فإذا كانت المكوِّنات الاقتصادية الاجتماعية لا ترتبط في ما بينها تلقائيا، وكان الترابط والتفاعل ما بينها وقفٌ على العملية الاستراتيجية السياسية، قإن تكوُّن هذه الأخيرة في ساحة الصراع الاجتماعي ليس بدوره تلقائيا آليا. بل إنه يحوز، علاوة على ذلك، على استقلاله الذاتي عما سواه من تكوينات المجتمع وصراع الطبقات. إذ إن إن السياسة المادية وحدها هي التي تبني الصراع الطبقي من تناقضات اجتماعية عفوية وتلقائية، فتربط ما بينها حسب ما تحمله التناقضات بصورة ضمنية، لتنظِّم حركتها، تطورها وتحوُّلها، مجبولة بطينة المعرفة الاستراتيجية، او المعرفة العملياتية.

5- الثورة طريق سالكة نحو ابتكار الديمقراطية:
هذه، إذن، هي موضوعات البرنامج السياسي الاستراتيجي للأزمة الثورية في سورية. الانتقال بالثورة من العفوية إلى العمل الواعي المنظِّم. ترجيح كفة قوى الثورة في موازين قوى الأزمة الثورية، وانتزاع أثقال السياستين الدولية والإقليمية من كفة الثورة المضادة. ترجيح كفة الاستراتيجية السياسية الثورية باعتبارها ذات امتداد مسلّح شعبي، وذلك على نقبض من "الجيش الحر" الذي يرفع العمل العسكري والحرب الكلاسيكية لإسقاط السلطة فوق النضال السياسي الاجتماعي، فيشارك، على هذا النحو، أنصار تدويل الثورة، وفلول الدولة القومية التي كانت انهارت ما قبال الثورة، في تنظيم الثورة المضادة التي تُفَرِّغ الثورة من مكوناتها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية، لتستبدلها هبالتدويل والعسكريتاريا. الصراع السياسي في سورية مستمر منذ 21 شهرا من أجل الاستيلاء على نظام الهيمنة والسلطة. تصريحات لافروف ونائب الرئيس فاروق الشرع (لاغالب ولا مغلوب) تُعبِّر عن فلول دولة منهارة إلى الحضيض. لذا، فإن المعطيات السياسة للتكوين الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع السوري وللأزمة الثورية، تُحدُّ الصراع على نظام الهيمنة ما بين طرفين اثنين، ومن حدَّين اثنين. فلول الدولة القومية المنهارة، وأنصار التدويل، والعسكريتاريا الجديدة، من جهة. الطبقات الشعبية في المدن والبلدات، وصغار الفلاحين من جهة ثانية. هذا الصراع ما بين هذين التكوينين السياسيين هو موضوع الثورية في سورية. إن السياستين الدولية الإمبريالية والإقليمية والحلول العسكرية، كلها مرتبطة بالحد الأول والطبقات المُنعمة بثروات الرأسمالية البيروقراطية في السلطة المنهارة، كالمستفيدين مما ترميه لهم من بقايا وفتات، كلُّهم يرتعشون خوفا أمام الثورة، واتفقوا على الانحراف بمسارها الشعبي الطبقي، بحيث ينتزعون السلطة والثروة ويفتحون أبواب سورية أمام سياسات العولمة النيوليبرالية، تارة باسم الدين، وتارة باسم ديمقراطية السوق الليبرالية.
الأزمة الثورية في سورية تقف، وهي على عتبة بلوغ السنة الثانية من تاريخها، أمام مفترق طرق استراتيجي. فإما ينتهي انهيار الدولة القومية، وما يرافقه من فراغ نشأ عن سقوطها، إلى صراع ما بين سلطتين ضمن نظام الهيمنة السائد، أي الثورة المضادة من جهة، ليبراليون من أعيان وأعوان السلطة المنهارة، ومن المعارضة على حد سواء. وإما تستمر الأزمة الثورية بسرعة بطيئة من ناحية الطبقات الشعبية، وعلى وتيرة من تَشَكُّل اللجان والمجالس والتنسيقيات، بما يؤدي إلى تكوُّن سلطة ثانية، مناهضىة للثورة المضادة، والليبرالية، والتدويل كالتعريب، متحالفة ضمن جبهة يسارية، تمارس إدارة ذاتية للمحافظات ودوائر الحكومة وأدوات الإنتاج. مفترق الطرق هذا، ما هو سوى فرضيات استراتيجية، وهو أبعد ما يلكون عن نموذج أو نمط أو مثال أعلى يُحتذى. إن المسار التاريخي وصيرورته هو المعيار الاستراتيجي، فإذا كانت الاستراتيجية الثورية مجبولة منه وفيه، من لبنته وشكله وحركته، فإنها، بالمقابل، غير قابلة للنسخ والتعميم طالمل هي وليدة الخصوصية القومية.
على هذا المسار من الصيرورة الزمانية تتكون الاستراتيجية الثورية عبر الطريق الاجتماعي السالك ضمن الصراع على نظام الهيمنة والسلطة. السالك هنا هو الممكن. فإذا كان هذا الطريق الاستراتيجي ممكنا، الديمقراطية، الديمقراطية الاجتماعية، ال البروليتارية، العسكريتاريا، بقدر ما هو سالكٌ نحو مستقبل للصراع مرئي، فإن الضروري والممكن ليسا نقيضان أحدهما للآخر فحسب، بل وإنهما يستمدان الحياة من نصغ واحد، هو السياق التاريخي. الضروري ممكن، وما هو ممكن ضروري، ليس بحكم المنطق، وإنما من حيث الممارسة. الحتمية التاريخية تدخل في حيز الإمكان والضرورة. أما إذا تناقض كلٌ من الممكن والضروري أحدهما حيال الآخر من الواقع الاجتماعي الحي، فإن الإستراتيجية، حسب ما يرى دانييل بنسعيد، تنقلب إلى عقيدة طوباوية تسلك طريقا افتراضية نحو المدينة الفاضلة. الديمقراطية الاجتماعية والقومية (الوطنية) هي الطريق السالك أمام استراتيجية الأزمة الثورية في المجتمع السوري.
الأزمة الثورية في سورية تدحض التطور التدريجي. أولا، إذا سلَّمنا لاعتبارات محض سفسطائية بصحة التطور التدريجي، كما كانت الأممية الثانية في ألمانيا تروِّج لها لتبرير انضوائها تحت سقف البرلمانية البورجوازية، فإن دعاة المواطنة والبرلمانية، والمجتمع المدني، في ألمانيا كانوا يدافعون، عن واقع ملموس. كذا. أما في سورية، فإن اليسار المواطني والمدني والحقوقي والإنساني، يدافع عن أفكار لا وجود لها في التاريخ إلا في عقل هؤلاء وأولئك. إنهم ينسخون أنماطا غريبة عن الواقع، بدل أن يبتكروا ما يحمله الواقع من إمكانات في ما يتعلق بنمط الحكم الديمقراطي. ذلك أن المعطيات الراهنة، وما تختص مكوِّناتها من حالات التناقض والنزاع والفوضى والتآمر والصراعات شبه العسكرية والمسلَّحة، يرجِّح حتمية ممكنة مؤداها أن المرحلة الانتقالية ستشهَد صراعات قوية، واليسار مُلزَم بالاستعداد لها منذ الآن. "الجيش الحر" حالة من هذه الحالات شديدة الحساسية. إن الاقتتال ما بين الكتائب الإسلامية والمسلمة من جهة، والكتائب العلمانية الديمقراطية من جهة ثانية، هو حتمية ممكنة، وإن كان من السابق لأوانه التنبؤ بتوقيتها لمعرفة ما إذا كان كانت آتية لا محالة قبل المرحلة الانتقالية أم ما بعدها. الجواب صعب المنال طالما تأخذ كل حالة من هذه الحالات، وهنا حالة النزاعات شبه العسكرية والمسلَّحة، زمانها التاريخي الذي يسير بصورة مستقلة عن الأزمنة السياسية للمعارضة السورية التي تتسع وتتضارب حتى أن تعريفها بات أمرا متعذرا.

6-استراتيجيات ثورية:
الحتمية الممكنة والضرورية تُفَنِّد السياسات السائدة لدى الطبقة السياسية، يمينها "المجلس" و"لائتلاف"، ويسارها "هيئة التنسيق"، لأن الطريق الاستراتيجية السالكة للأزمة الثورية في سورية تجتاز عتبة القطيعة الحاسمة والنهائية مع نظام السلطة، وتَعْتَبِر تدويل الأزمة وتعريبها انحرافا عن المسار الاقتصادي الاجتماعي للثورة، وترفع السياسة فوق الكفاح المسلح ومتقدمة عليه في ما يتعلق بسلَّم الأولويات الاستراتيجية. فإذا كان الإمكان والحتمية يتفقان مع الضرورة مادام ما هو ممكن يؤكد ما هو ضروري، وذلك على أرض الواقع، في المجتمع والتاريخ، وليس من وجهة نظر منطقية فقط، ليس من باب المحاكمة المنطقية الجدلية - ليست جدلية إلا بشرطٍ وهو أن يُفهم المنطق الجدلي المادي من حيث هو تنظيم اجتماعي إنساني للمادة التاريخية – فإن الحتمية، وإن كانت ممكنة وضرورية، إلا أنها لا تَسكب الاستراتيجية بصورة عفوية ومن تلقاء نفسها في برنامج سياسي. ذلك أن الاستراتيجية تقع في حيز اختيار ما بين حالات كثر مما هو ممكن، ضروري وحتمي. لذا، فإن الحيز المادي التاريخي للإستراتيجية من حيث هي خيار ما بين حالات ممكنة، يتسع للصواب والخطأ. الواقع وحده هو الحاسم والحَكَم.
غرامشي يميِّز بين استراتيجيتين اثنتين. حرب المواقع في البلدان الرأسمالية من جراء رسوخ الهيمنة البورجوازية، في السياسة بفضل السلطات الثلاث، ومنها بوجه خاص التشريعية. إذ إن الثورة الشاملة على مختلف الجبهات، وفي وقت واحد، لإسقاط الدولة البورجوازية وتشييد حكم البروليتاريا متعذِّر، لأن الهيمنة الإيديولوجية وتسلطها على المجتمع ذي مفعول قوي وجذري. الحرب الشاملة عَرِفَت آخر حالة لها مع نهاية الثورة الجمهورية ضد الملكية في أسبانيا (1936-1939)، وانتصار الفاشية بقيادة الجنرال فرانكو. الحرب الشاملة استراتيجيةٌ ممكنة حيث الدولة وإيديولوجيتها ضعيفة، وحيث سلطات الدولة تعيش على سطح المجتمع، وتفتقر للجذور الاجتماعية. الثورة البلشفية هي برأي غرامشي مثالٌ حي على الحرب الثورية الشاملة.
دانيل بنيسعيد يميِّز لآسباب بيداغوجية، تعليمية ومبسَّطة، بين استراتيجيتين اثنتين. الإضراب العام بدرجة عالية من العصيان، والحرب الثورية طويلة الأمد، وذلك على غرار ما أوضحه ماو تسيدونغ منذ العام 1927 في كتيِّب له بعنوان "لماذا يمكن تشييد النظام الأحمر في الصين". في الحالة الصينية، فإن ازدواج السلطة يسير في منحيين اثنين، لأن سلطة الثورة تأخذ حيزا في المكان عبر الأراضي المحرَّرة التي تَخضع للإدارة الذاتية، وتنكون من خلال تتطور الجيش الشعبي. من هذا المنظور الإستراتيجي، فإن تحرير المناطق الريفية يُشكِّل خطوة حاسمة، وذلك في ما تُصبح "حرب التحرير حلقة سياسية هامة. الفيتنام في الستينات من القرن العشرين يُعْتَبَر المثال الحي ما بعد الصين على الحرب الثورية طويلة الأمد.
ثورة الخامس عشر من آذار لا مثيل لها بمقياس هذه الحالات من السياق الاستراتيجي الثوري، ليس لآنها فريدة من نوعها، وإن كانت ذات خصوصيات تاريخية مجتمعية، وإنما لأنها تحوِّلت أو كادت أن تصبح ثورة مضادة تَهرع إلى العواصم الكبرى لاستجداء التدخل العسكري، والأسلحة، والضغوط الدبلوماسية، مُمَوِّلة من مشايخ البدو في شبه الجزيرة العربية، مختبئة في المدن بدل أن تقف إلى جانب فقراء الفلاحين، عاجزة وعلى رأسها "هيئة التنسيق" (القومية اليسارية) من تعبئة العمال في حركة عصيان عام تحت سقف "الإضراب حتى غاية سقوط الحكم". "الجيش الحر" عاجز من جراء تكوُّنه تحت سقف سياسات متضاربة إن لم تكن متنازعة عن احتلال موقع واحد فوق الأرض والاحتفاظ به عندما يقر الجيش النظامي استعادته. أضف إلى ذلك أن حرب التحرير الوطنية لاستعادة الجولان ليس لها مكان في سياسة هؤلاء وأولئك من زعماء الحارات، نزلاء الفنادق الفخمة في القاهرة واسطنبول وغيرهما. السلطة تحارب الشعب بصواريخ سكود وتُغير على الأفران ومحطات توزيع الوقود، وهي التي لم تشن غارة واحدة على إسرائيل. إلى آخره، وهلم جرا، من تخريب بنيوي للمنشآت العامة والملكيات الخاصة، وتدمير مبرمج "للجيش "النظامي"، وذلك إلى أن تصل بنا الثورة المضادة إلى هاوية الدمار. هنا يتضح أن النزهات الدولية والعربية، بما في ذلك روسيا والصين وطهران، هي محط اللقاء بين جميع أطراف الثورة المضادة، في السلطة والمعارضة معا، ما دام التدويل هو القاسم المشترك، بالإضافة إلى غيرها من قواسم سياسية، وبالرغم من أنها متنافرة في ما بينها، التدويل هو الذي يجمعها في كتلة واحدة معادية للثورة الاجتماعية الاقتصادية والتحررية، خائفة منها، وتتسابق لسرقتها من الشعب الثائر من أجل الخبز والكرامة. ليس الكرامة الفردية فحسب، وإنما الكرامة الوطنية والطبقية.
ثمة علاقة وثيقة ما بين الإضراب العام تحت شعار العصيان حتى غاية إسقاط النظام، وتاريخ الحركة العمالية في بلد ما على وجه التحديد. في مثل هذه الحالة الإستراتيجية، فإن ازدواج السلطة يَظهر في المدن. إنه عمالي وشعبي. في المدن السورية، يَظهر العمل المسلَّح في ما تكاد تنعدم السياسة، كإضراب العمال وإعلانهم للعصيان حتى غاية إسقاط النظام، والتسيير الذاتي أو الإدارة الذاتية. هذا، مع التسليم بأن للحركة العمالية في سورية تاريخا سياسيا ذي جذور راسخة في المجتمع السوري. بل، وإن المظاهرات الشعبية فقدت الكثير من حدتها واتساعها بعدما أزاح "الَجيش الحر" السياسة جانبا لينشر العمل العسكري الذي يفتقد إلى أي إستراتيجية ثورية. حتى وإن سلَّمنا بوجودها، فإن الجيش الحر، صاحب الرؤوس المتعدِّدَة، مسيَّر بموجب استراتيجيات متسابقة ومتنازعة في ما بينها، إن هي لم تتقاتل في "المرحلة الانتقالية"، فإنها ستفعل عما قريب. هذا، في ما الثورة في شهرها الثاني والعشرين لم تُعلن مرة واحدة عن إقالة محافظ مدينة، أو حتى مختار حارة أو بلدة، ضاحية، وتسمية بديل ثوري له. الضرائب والرسوم وجباية نفقات الكهرباء والماء لم تَستول عليها الثورة. الطبقة السياسية بدورها لم تساعد على تشكيل أي مجلس بلدي في المدينة والريف. بل وإنها سارعت إلى تشكيل مجالس لها في المنفى والمهجر تحت الأضواء المسلَّطة لقناة الجزيرة ومثيلاتها. لذا، فإن الثورة الشعبية ما تزال عفوية كما كانت في الحادي عشر من آذار 2011، تقائية، يغلب عليها التضحية بالروح، لأن الطبقات الشعبية لا تملك غيرها تقدِّمه عربانا في ساحة الثورة، ومن أجل إسقاط نظام الهيمنة السائد أو الآيل إلى السقوط. ضواحي المدن السورية، حيث ينتشر فقراء الفلاحين الذين نزحوا إلى المدينة، بعدما خذلتهم السلطة، بحثا عن عمل يدرُّ عليهم ما يكفي من المال لزراعة أرضهم، وحيث تتجاور أيضا البروليتاريا الرثة التي تقتات من فتات بورجوازية المدن بدون أية ضمانات اجتماعيه، صحية، تربوية، مع أصحاب الدخل المحدود، لم يجد هؤلاء وأولئك القيادة السياسية التي تساعدهم على الانتقال بالثورة من حالتها العفوية إلى العمل الواعي المنظَّم. الريف وفقراء الفلاحين، أحد المصادر الرئيسة للثورة، بعدما سحقت السلطة صغار الفلاحين وشجعت كبار المزارعين، لم يجد التنظيم السياسي الذي يقوده برنامج ثوري إلى المرحلة الانتقالية المنتظرة، ويمدُّه بالسلاح كامتداد للإستراتيجية السياسية.
ولا تعدم المرحلة الانتقالية ومنذ الآن من داعية إلى معالجة الأزمة الثورية وتناقضات المجتمع السوري عبر البرلمان والانتخابات العامة. كل "البرامج السياسية" المتداولة اليوم في الساحة السياسية السورية تُسًلم بأن الديمقراطية البرلمانية هي الحل الوحيد، وتعتقد أن البرلمان هو مركز الثقل في السلطة السياسية، وتربط ما بين الاستراتيجية التدرجية للنضال من أجل السيطرة على نظام الهيمنة، والمجالس الشعبية، بيد أنها تسلِّم بأن البرلمان هو المسار الوحيد نحو الاشتراكية. كل القوى تريد أن تَنقل الصراع، والحرب مصطلح أصوب من الصراع في ما يتعلق بالحالة السورية، من الشارع إلى البرلمان، من حيث هو ساحة للمبارزة بين سياسات متصارعة، ينتصر فيها الفريق الأكثر عددا على سواه. اليمين واليسار، الدين السياسي والعلمانية، كل هؤلاء يقلّصونِ الحرب الاقتصادية الاجتماعية في سورية إلى إشكالية العدد. مفهوم العدد هذا، هو الذي يمد السياسة الحديثة والديمقراطية غير الاجتماعية، منذ نهاية القرن السابع عشر، بمبرراتها الإيديولوجية.
لكن الثورة في المدينة، إذ هي تعبئ الطبقة العاملة والطبقات الشعبية، فإنها، في وقت واحد، وعلى وجه السرعة، تصطدم مع السلطة. إلا أن الظروف الموضوعية المشار إليها أعلاه تؤخِّر من نشوء المجالس الشعبية والعمالية والفلاحية في سورية، وتجعل من تكوُّنها بطيثا ومتزامنا مع تكُّون اليسار الثوري حديث العهد في المجتمع السوري. ما ينبئ بأن الطبقات الشعبية لن يكون لها مكان في السلطة على المدى القريب، وأن الأزمة الثورية في سورية ستمتد لمدة طويلة، ولن تتقدم إلا بوتيرة زمنية بطيئة، لاسيما وأنها تفتقد حتى الآن إلى الاستراتيجية الثورية التي تربط ما بين نشوء التنظيم الذاتي، وتطور الحركة العمالية، وتشكيل حكومة ثورية تمثِّل السلطات الشعبية المناهضة للسلطة السائدة، بما في ذلك السلطات الممنوحة لحكومة المرحلة الانتقالية التي ستمثل الليبرالية الجديدة ذات الجذور في السلطة والمعارضة على حد سواء. حكومة انتقالية دينية أو علمانية، هذا لا يهم كثيرا طالما أن حكومة المرحلة الانتقالية في هاتين الحالتين ستكون ليبرالية، وثيقة الصلة بالعولمة، و"السوق الحرة المتوسطية"، و"السلام العادل" مع إسرائيل. هذه الحكومة، سترهن الاقتصاد الوطني السوري "الموعود"، لدى الرأسمالية الأوروبية والأمريكية والآسيوية، بحجة أن "النظام البائد" دمَّر البلاد، وأضعف الاقتصاد. ما يفرض على سورية، على حد زعمهم، أن تستجدي المساعدات الأجنبية من أمريكا وأوروبا وآسيا، وتأخذ ب"خطة مارشال" جديدة، وتستغني عن بناء الجيش بحجة أن الاقتصاد السوري المنهار ذو أولوية بمقاييس الملكيات العقارية والتجارة الحرة والبورصة والبنوك والتبادل والعرض والطلب، وكسر أجور العمل من أجل التشجيع على الاستثمار المتوحش.


7- أزمتان اثنتان، التكوين الاقتصادي الاجتماعي، والإيديولوجية من حيث هي العدو اللدود للاستراتيجية الثورية والمادية التاريخية الجدلية:
إلى ذلك، فإن الاستراتيجية الثورية في سورية تجمع ما بين المدينة والريف، الاضراب العام للقوى المُنتِجَة، والعصيان العام، بما في ذلك خلع الإدارات وتنظيم إدارات ذاتية، والامتناع عن تسديد الضرائب والرسوم للسلطة البائدة، ورصد ريعها للمجالس الشعبية التي تقود وتنظِّم الثورة المسلحة. خلعُ كل أشكال السلطة وإداراتها في الريف، وتحرير المناطق الريفية بقوة السياسة المسلحة بجيش شعبي. مناهضة السياسات التي تعوِّل على السلطات الثلاث للدولة، والنضال من أجل دستور يعترف، بالإضافة إلى السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، باستقلال المجالس الشعبية عن الدولة وأيديولوجيتها، دستورها وتشريعاتها وقوانينها. سلطة ثانية ما لم تنشأ وتترسخ، فإن الثورة المضادة هي التي ستتفوق على ثورة الخامس عشر من آذار الشعبية. هذه هي أدوات التعبئة الشعبية للمجتمع في سورية كي تخوض الثورة حربَها ضد السلطة البائدة والثورة المضادة بدون تمييز. هكذا إستراتيجية هي المؤهلَّة حسب الإمكان والضرورة والحتمية للانتقال بالأزمة الثورية من حالتها العفوية إلى حالةٍ من العمل الواعي المُنَظَّم. مالم يحدث هذا التحول الإستراتيجي، فإن الحقوق التي تكتسبها الطبقات الشعبية بثورتها على الرأسمالية البيروقراطية، وإن سُرِقَت خلال المرحلة الانتقالية وما يليها من ليبرالية معولمة لا وطن لها، إلا أنها تؤسِّس لثورة مستمرة. الأمر الذي يملي على العملية الاستراتيجية أن تستعد منذ الآن لخوض معركتها في صلب المرحلة الانتقالية.
غير أن الاستراتيجية الثورية ومستقبل ثورة الخامس عشر من آذار مرتبط بصورة وثيقة بما يسميه دانييل بنسعيد "الصعيد المتحرِّك للمناطق الاستراتيجية في العالم". هنا، على هذا الصعيد، تظهر أمامنا في الواقع الملموس استراتيجية شاملة على الصعيد العالمي، واستراتيجية ثانية لانتزاع السلطة في كل بلد على حدة وبوجه التحديد، وهذه الأخيرة ذات خصوصيات محلية أو قومية. ويلاحظ هذا الثوري الفرنسي أن الدول القومية، وإن كانت العولمة النيوليبرالية نالت منها بالضعف، بيد أن الصعيد القومي هو الذي تُبنى بمقتضاه العلاقات الطبقية، وهو أيضا الذي يربط المجتمع بالدولة. الأمر الذي يُعطي للصعيد القومي أهمية استراتيجية من حيث هو حلقة مُوَجِّهَة حاسمة.
ويميِّز دانييل بنسعيد بين نمطين اثنين من الآزمة. أزمة مرتبطة بالسياق والظروف المتغيِّرة، وأزمة ثانية بنيوية. فيبيِّن أن الأزمة التي تلحق بالدول القومية ومجتمعاتها ليست أزمة مرتبطة بالسياق، وإنما أزمة مرتبطة بالعناصر التي سَكَبت المعاصرة حول مقولات المكان القريب من المواطن والمحيط به، كالمدينة والإقليم أو المحافظة، والوطن بصورة أوسع، والسيادة القومية، والسلطة السياسية. إنه يشير أيضا إلى أن الأزمة نالت بالوهن الحركة العمالية في أوروبا لأنها بنيت منذ القرن التاسع عشر حول هذه المقولات. الأزمة العظمى في رأيه هي، بالإضافة إلى الأزمة التي تَلحق بكامل التكوين الاقتصادي الاجتماعي، أزمة الحيِّز القومي أو التراب الوطني من حيث هو إطار لممارسة المواطنية. هذه الأزمة المزدوجة، مقولات أيديولوجية المعاصرة، من ناحية، وأزمة التكوين الاقتصادي الاجتماعي، من جهة ثانية، تجتاح بتأثيراتها المُهلِكَة المجتمع وأشكال تنظيماته السياسية والنقابية. وهي، علاوة على ذلك، تقف عقبة أمام إعادة تنظيم المجتمع لقواه السياسية والنقابية.
في ضوء هذا التحليل النقدي تندرج، منذ الثمانينات والآن خلال الثورة، مقولات (المواطنية) التي أطاحت بالوطنية، والمجتمع المدني الذي يلغي التناقضات المجتمعية أو الصراع الطبقي ويسكب كل المجتمع في قالب واحد هو الفرد، أو المواطن، بحيث يتساوى الغني والفقير، صاحب رأس المال والعامل، المطالب بحقوق الجنسية المثلية من أرباب عمل وأصحاب دخل محدود المجتمعين جنبا إلى جنب بدون أي تمييز سوى ما بين مؤيد لها ومناهض لها، والمطالب برفع أجور العمل، شرط أن يلتزم هذا الأخير بقانون العمل في الدولة الليبرالية والذي يَجمَع حول مائدة واحدة وبالتساوي بين العمال وأرباب العمل والحكومة الليبرالية. فلنَذْكُرُ أيضا أن مقولات البرلمان، وحقوق الإنسان، والانتخابات، وتسيِّس الدين دفنت القضية الفلسطينية والجولان المحتل وحركة التحرر الوطني. أي إنها، بتعبير آخر، َرَدَمَت كل ما يتعلق بأزمتي التكوين الاقتصادي الاجتماعي، وأزمة المجتمع السياسي، وهي أزمة إيديولوجية عظمى، لتتوج البرلمانية السياسية وقد حُذِفَت منها الديمقراطية الاجتماعية، ومقولات المواطنة وقد حُبِسَت في المكان الضيق للدستور والقانون وغير ذلك من المكوِّنات الإيديولوجية للدولة الليبرالية. حقوق الإنسان و(المواطنية) والمجتمع المدني نَهَضَت على قدميها كي تعادي الاشتراكية وتُلغي من قاموسها الثورة إلى أن صُدِمَت بالتاريخ المخفي عنهم في يوم الخامس عشر من آذار. فلنلاحظ أيضا أن مقولة الحريات العامة السياسية والشخصية وَأدت، وهي حية، مهمةَ الاقتصاد الوطني الذي يلبي الاحتياجات المعيشية والتنموية للمجتمع في سورية. مهمة مجتمعية ووطنية لا مَخرج للسلطة والمجتمع من الأزمة الثورية المسيطرة عليهما، ما لم تَرتفع هذه المهمة الاقتصادية إلى مقام الأولوية في كل استراتيجية ثورية.
هذه الأزمة الأيديولوجية، إلى جانب أزمة التكوين الاقتصادي الاجتماعي، هي نفسها التي كانت شوَّهَت السياسة حتى أصبحت عبأً على الشعب، ولم تعد، كما كانت عليه حتى غاية مطلع الستينات، أداته الوحيدة للدفاع عن وطنه وأحواله المعيشية. هذه الأيديولوجية هي نفسها التي كانت تنحرف بالسياسة حتى أنها جعلت منها حفلة تنكرية، الرجال يرتدون ملابس النساء، والنساء بثياب الرجال، وعصابات اللصوصية مزينة بأوسمة البطولة. "البطل القومي " (باستثناء الرئيس جمال عبد الناصر)، و"الرفيق القائد"، و"الحزب القائد"، و"الجبهة الوطنية"، و"التجمع الوطني "الديمقراطي"، و"دولة ألممانعة"، و"الحزام العربي الأخضر" الذي أرغم بالقوة الأكراد في منطقة "الجزيرة" السورية على الهجرة، و"حرب تشرين التحريرية"، و"الردع السوري"، و"سد الأسد"، و"الصمود والتصدِّي"، والنتائج بالأرقام والعدد للاستفتاءات الشعبية، إلخ، كل ذلك قضى على كل سياسة مرتبطة بالتكوين الاقتصادي الاجتماعي، ووضع خاتمة لعهد غابر كان فيه وزير الخارجية السوري السيد الدكتور ابراهيم ماخوس يشارك في العمليات الفدائية داخل إسرائيل، ويُخفي ذلك عن وزير الدفاع حافظ أسد (1966-1970). ثم ظَهَرت مرة ثانية وثالثة في مطلع الثمانينات مقولات "المجتمع المدني"، و"حقوق الإنسان"، و"الديمقراطية"، و"الأكثرية" والٌأقلية"، الاتنية تارة والانتخابية تارة أخرى، لتحل محل الاستراتيجية الثورية. فأصبحت النوادي، ومنها "تجمع اليسار الماركسي" و" إعلان دمشق" و "التجمع الوطني الديمقراطي"، البديل عن الحزب الثوري، وأصبح الرقم أو النسبة والعدد حجر الزاوية في كل سياسة ديمقراطية، وذلك في ما كان يرتفع حتى غاية الرابع عشر من آذار للعام 2011، وعلى امتداد عشر سنوات كاملة مضت‘ على أكتاف هؤلاء وأولئك، شعار "الانتقال (أو الإصلاح) التدريجي السلمي". فإذا بالثورة تفاجئهم وتخيفهم، لأنها استعادت السياسة من الحفلة التنكرية التي كانوا حشدوا لها خلال خمسة عقود أو أكثر.
الإرهاب والقمع والعنف، وكل ما كانت السلطة البائدة تمارسه من تشنيع بالمجتمع، كان مستمرا على إيقاع من الأصوات النشاز التي كانت تنطلق من الحفلة التنكرية. فلانٌ اعتُقِل لآنه شيوعي، وما أن أُطلِقَ سراحه حتى تراه وقد تبنى المقولات السائدة !! هذه الحفلة هي التي تعرقل اليوم نشوء اليسار الثوري الجديد. إنها أيضا هي التي كانت وما تزال تقاوم الاستراتيجية الثورية بمقولات المواطنة، والديمقراطية بدون مضاف إليه اجتماعي، والمجتمع المدني الذي يتخم الأغنياء بملذات الدنيا، ويرمي للفقير، بافتراض أنه كريم، ما تبقى من قشور على المائدة. أو إنه يؤسِّس لجمعيات الإسعاف الخيري والتصدُّق على المساكين والمعوزين. هذا هو المجتمع المدني الذي يُلغي المجتمع برمته ما دام يَعتبره فردا واحدا لا على التعيين، وقد تضاعف كمَّاً حتى أصبح وطنا وشعبا. نعم. رب قائل هنا وهناك، في المجلس والهيئة والائتلاف الوطني، يقول مردِّدا اليوم وغدا: إن"الانتقال تدريجي وسلمي"، ثم يضيف و"ديمقراطي". إن الإيديولوجية السائدة في الدولة، والتي انتهت إلى إيديولوجية القمع الوحشي والعنف، وفي داخلها تحصَّنَت الرأسمالية البيروقراطية، هي التي امتدت إلى مجتمع المثقفين، فأقاموا قلاعا ونصبوا مقولات ما لبثت أن حَبَسَت نفسها، وبدورها، وراء قضبان الرأسمالية البيروقراطية وأيديولوجيتها. لكن إمكانات كثر انفجرت من تحت أقدامهم، ففاجأت، بقوتها وامتداداتها الزمنية أو التاريخية، السلطة ومجتمع المثقفين والسياسيين معا. الثورة في سورية اليوم حبلى بالإمكانات المتنوعة والغزيرة على مسارٍ من حالات من التغيير للأزمتين الاثنتين، أزمة الأيديولوجية السياسية ومقولاتها إياها، وأزمة التكوين الاقتصادي الاجتماعي. الرأسمالية البيروقراطية لم تعد قادرة على تسيير الاقتصاد لتلبية الحد الأدني من احتياجات الطبقات الشعبية، وذلك في ما كانت ولا تزال الطبقات الشعبية مقطوعةً الصلات بأندية المثقفين والسياسيين، من جهة، وقد آثرت الموت للمطالبة بحقوقها المنهوبة، على السكوت عن سلطة رَأسمالية مُسْتغِلَّة بصورة بشعة، وتلتهم بجشع "الأخضر واليابس". غير أن الأزمة الأيديولوجية والسياسية، وهي بنيوية وليست ظرفية عارضة، وبالرغم من أن الاقتصادي الاجتماعي مهيأ للتغيير الثوري، ليست جاهزة للحل، وذلك إلى حين تشكُّل جبهة يسارية ثورية مسلَّحة باستراتيجية مادية.

8- الثورة إمكانات متنوعة لكل منها زمان تاريخي ووتيرة:
يُعْتَبَر، بوجه افتراضي، تشكيل هذه الجبهة إمكانية سياسية متاحة. إنه، ضروري إلى حد الحتمية. بوادره تَظهر كل يوم من خلال مجالس اليساريين المنعقدة حول توحيد اليسار الثوري الاشتراكي. إلا أنها ما تلبث أن تنفرط لأن الاتفاق ما بينها حول إستراتيجية ثورية مُوَحَّدة إشكاليةٌ معقَّدة. مصدر هذه العراقيل يعود إلى سيطرة أيديولوجية سياسية لدى السلطة والمعارضة على حد سواء، مناهضة للاشتراكية الثورية. النوايا الحسنة متوفِّرِة، لا ريب في ذلك. إلا أن السياسة مستقلةٌ بزمنها التاريخي عن التكوين الاقتصادي الاجتماعي الذي يتقدَّم عليها بوتيرة زمنية تاريخية سريعة. فانفجار الثورة لأسباب وثيقة الصلة بالآوضاع المتردية للشعب، والطبقات الشعبية - بوجه خاص – لاسيما وأنها تُشَكِّلُ غالبية التكوينات الاجتماعية الاقتصادية، لم تجد الاستراتيجية الثورية التي تقودها نحو المرحلة الانتقالية المقبلة، بعدما تكون انتقلت بالثورة من عفويتها وتلقائيتها إلى العمل الواعي والمُنَظَّلم. مسألة الأداة الثورية، حزبية كانت أم جبهيه، كانت وما تزال إشكالية رئيسة ترافق كل استراتيجية ثورية.
لقد ساد، خلال ردح مديد من التاريخ لدى الاشتراكيين الثوريين أو الشيوعيين، اعتقاد وثوقي مؤداه أن المجتمع يتطور نحو الاشتراكية والشيوعية على مسار واحد بحكم "الحتمية التاريخية". هذه العقيدة تجمع كل مكونات المجتمع الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية في حزمة زمنية واحدة. غير أن مكوِّنات التكوين الاقتصادي الاجتماعي، وإن كانت غير متضاربة في ما بينها من حيث هي مادة تاريخية، اقتصادية، اجتماعية وسياسية، فإنها متنوعة ومتباينة من حيث الوتيرة الزمنية لتطورها. هذه الوتيرةُ سياسيةٌ. إنها وقف على الاستراتيجية الثورية. فالحركة العمالية، على سبيل المثال قد تكون في مرحلة متأخرة منقسمة إلى نقابات، اشتراكية، دينية، وقومية، و(عمالوية)، وذلك بالرغم من أن الظروف الاقتصادية الاجتماعية المسيطرة عليها واحدة ومتردِّية، وتملي عليها الانتقال إلى الثورة الاشتراكية. إنها لا تتحول في وقت متقدِّم إلى بروليتاريا ثورية ما لم تعتمد على استراتيجية ثورية. أي سياسة اشتراكية وتنظيم سياسي ثوري. مثال آخر مأخوذ من نمط الإنتاج الرأسمالي، قوى الإنتاج، علاقات الإنتاج، وأدوات الإنتاج. هنا أدوات للإنتاج ميكانيكية، معلوماتية ومبرمجة، بما يؤدي إلى استغناء رب العمل عن أعداد واسعة من العمال، وارتفاع نسبة العاطلين عن العمل، وارتفاع عالٍ لأرباح الرأسمالي. لكن زمن الثورة بالرغم من ذلك، إن هو لم ينتكس الى الوراء من جراء غياب البرنامج السياسي الثوري والعمالي والشعبي والاجتماعي، فإنه يتلاشى تحت تأثير الأيديولوجية السائدة، ومن جراء انحراف الأحزاب الشيوعية، تحت تأثير نمط النموذج الفكري السائد (براديغما Paradigmes )، عن مسار الثورة الاشتراكية، وتحولِّ هذه الأحزاب إلى أجهزة دستورية. الأمر الذي يؤكِّد بأن تطور القوى العاملة نحو تكوين بروليتاريا ثورية لا يَتبَع بصورة حتمية، ميكانيكية عمياء، الوتيرة التاريخية لتطور قوى الانتاج أو البروليتاريا الثورية. فالعاطلون عن العمل ينقطعون، بدورهم، وتحت تأثير ذات الظروف، عن نقاباتهم وأحزابهم الثورية مرغمين على التسول من الدولة "المعونات الاجتماعية".
بافتراض أن اجتماع الكلمة ما بين تكوينات اليسار الاشتراكي المنبثق عن ثورة الخامس عشر من آذار، في ما يتعلق بالتحليل المادي التاريخي لطبيعة نظام الهيمنة، حاصل بالفعل، إلا أن هذه التكوينات، أمام البرنامج السياسي الثوري، متباينة في ما يينها، سواء في ما يتعلق ببرنامج المرحلة الانتقالية، أم شعارات المرحلة الراهنة من الثورة. الأمر الذي يؤكِّد مجددا أن الوتيرة الزمنية لتطور التكوين الاقتصادي الاجتماعي، أي ثورة الطبقات الشعبية، والعمال وفقراء الفلاحين، لا يتطور وفق وتيرة الثورة السياسية. لكل منهما زمانه المستقل، وإن كانا ينتميان معا لثورة الخامس عشر من آذار، بالرغم من أنهما نتاجٌ لتكوين اقتصادي اجتماعي واحد. هنا تظهر إشكالية كأداء، ألا وهي الانتقال بالثورة من العفوية إلى العمل الواعي المنظم. الاقتصاد والمجتمع هو الذي حمل الشعب على الثورة. إلا أن الاستراتيجية الثورية ما تزال تبحث عن مسار استراتيجي يتَّفق مع ما هو ممكن، ضروري وحتمي. فإذا كانت الثورة العفوية تفتقد للثورة في الوعي والعمل والتنظيم، فإنها تَتْبَع، من وجهة نظر الاستقلال الإيديولوجي والسياسي، إمكانات متنوعة ومتباينة ومتضاربة ومتصارعة، منها الثورة المضادة، والثورة الاجتماعية.
الثورة المضادة تستفيد من الظروف الآنية العارضة، منها الإقليمية التي تناهض مقاومة الإمبريالية والصهيونية، وتنهل من الفراغ السياسي الذي يتسع كلما فشل اليسار في توحيد قواه. هذه الأخيرة تتقدم بوتيرة سياسية سريعة من جراء القنوات التلفزيونية و"المساعدات" المالية التي تُغدَقُ عليها من آل نهيان وسعود. ثمة بالمقابل إمكانية متاحة أمام الثورة الاجتماعية لتلبية المهام الشعبية والوطنية، وتشييد نظام من الهيمنة يلبي هذه المهام. الثورة الاجتماعية بنيوية وليست آنية وعارضة، وذلك على نقيض الثورة المضادة، ما دامت جذورها ممتدة في التكوين الاقتصادي الاجتماعي. الثورة المضادة ممكنة طالما تستفيد من الأزمة الثورية المستفحلة ما بين نظام الهيمنة والطبقات الشعبية. لكنها زائلة وعارضة لأنها تستمد ثقلها في موازين القوى الاستراتيجية للمجتمع السوري من الظروف الدولية والإقليمية. الثورة الاجتماعية، ولأنها تكوين سياسي معجون بلبنة التكوين الاقتصادي الاجتماعي، فإنها مبنية وبنيوية، وليست عارضة أو ظرفية، ليس من باب الإمكان وحده، وإنما هي ضرورة لا مفر منها. بل وإنها حتمية شرط أن يتفق ما هو استراتيجي ممكن، وما هو اقتصادي اجتماعي وضروري. هذا الاتفاق مابين ما هو حتمي وضروري، اقتصادي اجتماعي من جهة، سياسي استراتيجي من جهة ثانية، يسير بصورة بطيئة، شأنه شأن الوتيرة التاريخية لانتقال الثورة من العفوية إلى العمل الواعي المنظم.

9- مع المعذرة من العلوم والمنهج والمنطق والاقتصاد والسوسيولوجيا بالنيابة عن الاستراتيجية الثورية:
الاستراتيجية الثورية هي التي تربط ما بين أزمنة المكونات الاقتصادية الاجتماعية، ومسارات الإيديولوجية السياسية السائدة، وذلك وفق وتيرة تاريخية مستقلة عن سواها. هذا يعني أن اليسار يتحمَّل المسؤولية التاريخية لإستراتيجيته السياسية. إن كاتب هذه الأسطر لا يدعي لنفسه أنه يحمل لليساري الذي يقرؤها استراتيجية جاهزة. كلآَّ ثم كلاَّ. كل ما تسعى إليه هذه الصفحات المفتوحة بين أيدي القارئ الثوري، هو التذكير بأن العملية الاستراتيجية الثورية معقَّدَة، ُمرَكَّبة ومتطورة. هذا باٌلإضافة إلى أنها متغيِّرة. حتى أن الاستراتيجيات الثورية للحركة الاشتراكية عبر حوالي قرنين اثنين، وإن كانت تؤكد أن استراتيجية الثورة الاشتراكية كانت وما تزال ذا مضمون ثابت، إلا أن ما لحق بالعالم من متغيِّرات جوهرية، وبخاصة مع نهاية الحرب الباردة، يَحمل معه ابتكارات إستراتيجية تفنِّد وتدحض ما هو سائد، وتبتكر برامج سياسية متجدِّدَة. مضمون إستراتيجي ثابت، وهو الأزمة الثورية، وتشييد سلطة تحارب السلطة ألآفلة، وتضع نصب عينيها التكوين الاقتصادي الاجتماعي، وتقتفي أثر ما يتركه استقلال السياسة والإيديولوجية عن التكوين الاقتصادي الاجتماعي من حيث الوتيرة التاريخية لها. إن أعمال لينين، بما في ذلك "الفلسفية"، تُدخل الصراع الطبقي إلى الحيِّز السياسي المادي المستقل للعملية الاستراتيجية. لينين "مُحرِّك إستراتيجي" كما يشير اللينيني الفرنسي جورج لابيكا. إن المسارَ الاستراتيجي عملية قوامها العمل والوعي المنظَّمين، وإن كان ذلك المسار مختلف عن الواقع الاجتماعي من حيث ترتيب المهام والأولويات الاستراتيجية، إلا أنه ، مع ذلك، ينقل النزاع الاجتماعي من حيِّز الفوضى والاضطراب والعفوية إلى الحيز الواعي المنظَّم للحرب السياسية والمسلَّحَة. حتى إذا افترضنا أن الطبقة العاملة لم يكتمل تكوينها كبروليتاريا ثورية في المجتمع السوري، غير أن النزاع في صلب المجتمع السوري محتدم عبر الأزمة الثورية ضد علاقات الهيمنة والاستغلال، ومن خلال الصراع ما بين التحرر الوطني والقومي والإمبريالية والصهيونية.
الأزمة الثورية في سورية تفتقد، وهي تقطع السنة الثانية من تاريخها، إلى العملية الاستراتيجية من حيث هي تتحرك بين مكونات متباينة في ما بينها من حيث تقدُّمها أو تأخرها على مسارات الثورة، والربط ما بينها في برنامج سياسي ومسلح بناءً على استراتيجية سياسية، اجتماعية، اقتصادية وحربية. على سبيل المثال تقديم المهمة السياسية وما يتبعها من عمل مسلح، والتي تأخرت بعدما قفز ال/"الجيش الحر" فوقها، تقديم المهمة السياسية لليسار الثوري على الوحدة الوطنية التي قطعت شوطا متقدما، وإن كانت شُوِّهَت، على البرنامج الحربي الثوري. بناء الجبهة اليسارية الثورية مهمةٌ تَحتل مرتبة عالية من جراء الاحتلال الإسرائيلي للجولان، وحقوق الشعب الفلسطيني، او مهام الاقتصاد الوطني، وتلبية الاحتياجات المعيشية للمجتمع والطبقات الشعبية، والجمع بين الديمقراطيتين السياسية والاجتماعية. هذا يعني أن مهام الجبهة اليسارية أوسع وأكثر أهمية من مهام الجبهة الوطنية، ما دامت الأولى منهما تتسع لتشمل مهام الجبهة الوطنية، بما في ذلك تخليص هذه الأخيرة من الثورة المضادة. فلنلاحظ أن زمان الجبهة اليسارية والاستراتيجية السياسية متأخرٌ إذا ما نظِرَ إليه من ساحة الصراع الطبقي، إلا أنه متقدِّمٌ على سواه إذا ما نُظِرَ إليه من أسفل سلم الأولويات الاستراتيجية. مثال آخر وهو أولوية السياسة على الثورة المسلحة، من جراء الغياب شبه الكامل للسياسة المادية، ورجحان كفة الثورة المضادة على الثورة الشعبية. في هذا السياق يتَّصل سلم الأولويات بمهام تخترق الكتلة السياسية الطفيلية، كتمزيق "هيئة التنسيق" و"المجلس" و"الائتلاف الوطني"، وتعزيز الانشقاقات في الأحزاب الشيوعية، ودعم "ائتلاف اليسار" و"تيار اليسار الثوري" والشيوعيين المنشقين. تشييد الجبهة اليسارية مهمةٌ ذات أولوية على سواها مادام مجتمع الثورة في سورية يفتقد حتى اليوم إلى الاستراتيجية التي تقوده إلى الدولة الوطنية الديمقراطية. وطنيةٌ ديمقراطيةٌ من حيث بناها السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالتشديد على هذه الأخيرة بالنظر إلى المهام الوطنية والاجتماعية والدفاعية التي تنتظر الاقتصاد السوري.
الحلقة الرئيسة في هذه العملية الاستراتيجية هو بناء سلطة الطبقات الشعبية لدحر السلطة الآيلة إلى الزوال، بحيث تَفرض الطبقات الشعبية، بموجب موازين القوى المتصارعة والمتحاربة في المجتمع، سياستها خلال المرحلة الانتقالية، وكي تدحر أيضا الثورةُ الشعبية الثورةَ المضادَة، حتى لو نجحت هذه الأخيرة في سرقة السلطة خلال فترة عارضة. هذا كله يملي على الاستراتيجية الثورية أن تناضل وتحارب من أجل ابتكار نظام للهيمنة ديمقراطي، اجتماعي، ووطني، يَحُول دون أن تنفرد الرأسمالية وحلفاؤها من الطبقات الوسطى بالسلطة، ويعقد صلة الترابط المتطور والمتغيِّر عبر الصراع السياسي والطبقي ما بين الديمقراطية والثورة. صراع ما بين الديمقراطية والثورة ينتهي إلى اتفاق في نهاية جولة تاريخية ما. فالديمقراطية مفرَّغةٌ من مضمونها الثوري، الشعبي والاجتماعي، تتحوَّل إلى استبدادٍ تمارسه أجهزة الدولة بالاعتماد على سلطاتها الثلاث. بيد أن الثورة، بالمقابل، عندما تنفصل عن الديمقراطية، فإنها تتحول إلى دولة من نمط الاستبداد الشرقي. "ديكتاتورية البروليتاريا"، سيئة السمعة بسبب ما لحق بها من تشويه ما بعد وفاة لينين، أو حتى خلال الأشهر الأخيرة من حياته، إذ هي تنادي بسلطة الطبقة العاملة وحلفائها، فإنها ترمي إلى هدف واحد، ألا وهو زوال الدولة، عبر توسيع الديمقراطية كي تشمل من لا صوت لهم في الدولة، وتَحُول أيضا دون انفراد البورجوازية بسلطات الدولة، فتمنح كل السلطات، وليس السلطات الثلاث فقط، للطبقة العاملة وحلفائها وللطبقات الشعبية. هذه السلطات الثلاث، حلمُ المثقفين والسياسيين المحترفين في سورية، هي سلطات الدولة، وليست سلطات المجتمع. إن ديمقراطية السوق التي تحمي وترعى حرية التنافس والأسعار والأجور والاستثمارات الوحشية والأجنبية، واتي غالبا ما ترفض التخطيط الوطني للاقتصاد، هي، علاوة على ذلك، التي تَرفع الدولة على أركانها الثلاث، التشريع والتنفيذ وحكم القضاء، كي تحكم المجتمع بقوة تشريعاتها و"عدالتها" وأدواتها التنفيذية، من شرطة وعسكر ومجلس للوزراء. هكذا ديمقراطية، مؤسساتها وسلطاتها، لا تمتُّ للمجتمع بصلة. إنها تسلخ الدولة عن المجتمع، وتستوعب المجتمع السياسي، وتحكمه بقوة القانون والدستور والتشريعات (الأيديولوجية) والثقافة، وبخاصة الثقافة السياسية، والجيش وقوى الأمن.
التوفيق الاستراتيجي بين الثورة والديمقراطية، وبين طرفيها الحياتين والحيويين، السياسة اليسارية المادية، من جهة، والتكوين الاقتصادي الاجتماعي، من جهة ثانية، عبر مد جسور من التنظيمات السياسية والاجتماعية، جسور متنقلة قبل أن تكون متحركة، للربط ما بين الأزمنة المتفاوتة لكل من التكوين الاقتصادي الاجتماعي والإيديولوجية، وتقليص حالات كثرٍ من التفاوت ما بين وتيرة هاتين الكتلتين الماديتين، وما بين تباين الوتيرة ضمن مكوِّنات كل كتلة على حدة، كتباين وجهات نظر تنظيمات اليسار الشيوعي حيال البرنامج السياسي، أو انقسام الطبقة العاملة ما بين مؤيِّد لها وثائر عليها، والتي تنتظر الاتحاد وراء الثورة أو وراء برنامج سياسي يساري ثوري يستجيب لمطالبها واحتياجاتها المعيشية. إن السياسة اليسارية الثورية في سورية اليوم، هي تلك التي تعبِّر عما تحمله الحركات الاجتماعية من جذرية، وتبحث للمجتمع عن مسارات تخترق معها الطبقات الشعبية ساحة الصراع السياسي الطبقي (ثورة الشعب مناهضة للرأسمالية البيروقراطية)، وتوفِّر أيضا الظروف المؤاتية أمام تبلور يسار ثوري وجذري.
هذا التوفيق الذي يرافق الاستراتيجية الثورية، لا يؤدي دوما إلى إلغاء التناقضات، وإذابة الخلافات، التي تصاحب الاستراتيجية، وإن كان من المفترض أن تنجح هذه الأخيرة في تقليصها ولحمها. لحم المسارات المتباينة للكتلتين الماديتين، من حيث الوتيرة الزمنية، ممكنٌ إلى حد الحتمية في ظروف الأزمة الثورية، لآن الأزمة الثورية في سورية اليوم تكوين اجتماعي عفوي طالما بقي معلقاً بانتظار القفزة النوعية لليسار من أجل اختراق اجتماعي للساحة السياسية. ولآن الأزمة الثورية توفِّر، علاوة على ذلك، الظروف الموضوعية لتقليص المسافات ما بين خلافات اليسار الثوري، إذا عرفت الاستراتيجية ملاحقة تطورات الأحداث التاريخية المتوقعة، ومواجهة المفاجآت التاريخية، وهي كثرة متنوعة من حيث سرعتها وأهميتها، مواجهة المفاجآت غير المتوقعة من قِبَل المعرفة المادية التي تتغطرس غاليا أو أحيانا فتسمي نفسها علما، أو تعترف باحتمالات الخطأ في المجال الاستراتيجي، فترضى بالمعرفة العلمية (المادية التاريخية معرفة علمية، وليست علما قائما بحد ذاته: الظروف الموضوعية، والسياق التاريخي، ونقد الإيديولوجية والفلسفة) تعريفا للمادية التاريخية، لتنحني بتواضع أمام أسبقية الفعل على الوعي، والظاهر الواقعي والمتقدم زمنيا في المجتمع على المخفي الضمني واللاحق المتأخر من التاريخ. أسبقية تلك الثورة التي انطلقت في الخامس عشر من آذار 2011، من صلب الطبقات الشعبية، والأحياء الشعبية، والضواحي الريفية والشعبية، والقرى والبلدات الشعبية. اسبقيه كل هذه الكتل التي تذوب في نار واحدة منبثقة من التكوين الاقتصادي الاجتماعي والسياسة المادية. أسبقية تلك الثورة العفوية وتقدُّمها، من حيث الظاهر الواقعي، على الجبهة اليسارية الثورية التي ما تزال، بالرغم من أن المهام الثورية التي تتأتى من الظروف الموضوعية للأزمة الثورية تستعجل اليسار الثوري، ما تزال ضمنية في طور المخاض بعد مضي حوالي السنتين الاثنتين على ظهور منحنى جديد لمسار التاريخ والصراع الطبقي والقومي في المجتمع السوري. ينبغي أن يبدأ صراع الكامن ضد القائم، الجبهة اليسارية الموعودة ضد العفوية الثورية للشعب والثورة المضادة. صراع باسم الثورة الشعبية. ينبغي، علاوة على ذلك، أن تتحول النظرية، التي هي "أقل قيمة مما هو قائم"، على حد قول ماركس في رسالة له إلى إنجلز، أقل قيمة من الثورة العفوية في صراعها ضد نقائضها، السلطة والثورة المضادة، و صراعها ضد أعدائها كي تصير إلى ثورة واعية وعمل منظَّم، بعدما تكون الثورة نقلت الجبهة اليسارية مما هو كامن إلى ما هو قائم، كي تتحول النظرية" إلى عملية"، أي إلى استراتيجية ثورية.
<ينبغي إلغاء التناقض، الضمني أكثر من أي وقت مضى، بين الوعود التي تحملها العلوم، وبين المجتمع الذي يُمعِن في حبسها. ينبغي أن يبدأ صراع الكامن ضد القائم، وذلك باسم هذا الأخير، وأن تتحول النظرية، التي هي أقل منه قيمة (انظر، كارل ماركس في رسالة له موَجَّهَة إلى إنجلز بتاريخ 14 تشرين الثاني/نوفمبر . 1968, انظر أيضا، لينين، الأعمال الكاملة بالفرنسية) إلى عملية. "إن الكلمة الأخيرة للعلم الاجتماعي ستكون دائما - كما يقول ماركس مختتما "بؤس الفلسفة" باستشهاد من الروائية الفرنسية جورج ساند - "الصراع أو الموت، النضال الدموي أو العدم". ويبدأ لينين مسيرته بهذه الكلمات: "في نظر ماركس، المهمة العاجلة للعلم هي أن يُعطي كلمة النضال الحقة (لينين، الأعمال الكاملة بالفرنسية، المجلد 1، ص 356). أما الطريقة، فهي بديهية، تتلخص في تخليص العلم من رأس المال، وتوجيه المعرفة - المؤسَّسة أخيرا والحاصلة عنها – ضد رأس المال ذاته. وهذا ما يلخصه ف. إنجلز تلخيصا رائعا: "كان العلم، في نظر ماركس، قوة تاريخية متحركة، قوة ثورية"(مجلة الاشتراكي الديمقراطيDer Socialdemokrat ، العدد 13، 22 مارس/آذار 1883)>(*) .. <إن تداول النعت "علمي" – المعمول به لدى المؤسِّسين من قبل –سيتسع، على التوالي أو في وقت واحد، ليشمل الاقتصاد والتاريخ والاشتراكية والسياسة و...ولن تنجو بدورها الإيديولوجية من نعتها ب"العلمية"، على نحو ما فعل لينين: "الإيديولوجية العلمية"، مُحدثا، هنا وهناك، حسب وتيرة تصلُب الاتجاهات الحالية، بصفة صريحة أو ضمنية.. تياراتٍ مختلفة، وحيدة الاتجاه ومتنافسة على حد سواء، تطورية عِلْمَويَّة، تاريخانية، سوسيولوجية، إلخ. لعل الحدث الكبير من هذا التاريخ، أي عملية الوثوقيَّة (أو الدوغمائية)، المأخوذة عن العلوم الوضعية، ضد الجدلية التاريخية، لم يستنفد، على هذا النحو، جميع صوره>(المصدر السابق، ص 921-922).
لتجنب أي التباس في ما يتعلق بمفهوم العلم، والماركسية من حيث هي "علم"، على حد زعم التيارات الماركسية الأحادية على تنوعها واختلافها، <لا بد من استحضار – حسب ما ينبِّه إليه جورج لابيكا في "المعجم النقدي للماركسية"، ص 910-911) - أن معاني العلم مختلفة اختلافا هاما من الفرنسية إلى الألمانية (المصدر السابق). (اختلاف يسري على تعريف مصطلح "العلم" باللغة العربية، مُقارُنا بالمصطلح ذاته باللغة الألمانية). "إن مصطلح فيزينشافت Wisenshaft أوسع معنى من مصطلح سيانس science باللغة الفرنسية، (أي "علم" بالمفهوم العربي). فالفيزنشافت لا تحيل فقط إلى أنظمة المعرفة، أو إلى الأنظمة المعروفة من نمط الرياضيات، والفيزياء، والبيولوجيا، بما في ذلك العلوم الإنسانية، فحسب، وإنما يشمل أيضا ال/فيزينشافت معاني وحواس الدراية، أي المعرفة بصورة عامة، أي المنهج أو التعليم. (يضاف مصطلح المعرفة "فيزينشافت" باللغة الألمانية إلى الأدب، ليصبح "المعرفة الأدبية" litereturawissenshaftler (سَقَطَ هذا التوضيح من الطبعة الأولى للترجمة العربية للمصدر المذكور، من فالفيزنشافت وحتى غاية المعرفة الأدبية. بالفرنسية: Bensussan- Labica, Dictionnaire critique du marxisme, coll. Quadirge/PUF, 2ème éd.,p 1030).
بتعبير آخر، فإن المادية التاريخية (الماركسية) تٌعَرِّف غيرها من المعارف والعلوم، ولا تُعَرَّف بها. إنها معرفة علمية أوسع وأشمل من كل العلوم والمعارف التي تختصر المادية التاريخية الجدلية، إن هي لم تأت عليها، بنظام معرفي أُحادي، علموي، منهجي، اقتصادي، سوسيولوجي، فلسفي، منطقي، بيولوجي تطوري، إلخ. إنها العَمْلانِيَّة ( أو العملياتيَّة) الاستراتيجية.

ثانياً :
مقترحات، ليس غير، على مسار جبهة يسارية ثورية موحَّدة
1- ) يَرجع الاشتراكيون الثوريون، في تحديدهم للأهداف التي تُملي عليهم أن يناضلوا من اجل تنفيذها في كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع في سورية، إلى السياق التاريخي المادي، والظروف الموضوعية للمجتمع، والصراع الطبقي، ونقد الإيديولوجية السائدة، وتغيير نمط الإنتاج ألاقتصادي، ومناهضة الإمبريالية، وذلك في ضوء الصيرورة التاريخية للمجتمع في سورية، وخصوصياته الطبقية والقومية. إن أهدافهم المرحلية، في ما يجتاز المجتمع السوري أزمة ثورية منذ حوالي السنتين اثنتين، تقتضي توجيه النضال الشعبي وفق استراتيجية ثورية من أجل بناء دولة الديمقراطية بأوسع معانيها الاجتماعية والسياسية، وكي ينطلق المجتمع، من خلال ثورته المستمرة على طريق الابتكار والإبداع السياسي، نحو بناء الاشتراكية، من حيث هي الهدف الاستراتيجي الأعظم، وذلك بعدما يكون اليسار الثوري قد أنجز أهدافا استراتيجية مرحلية.

آ - الأهداف المرحلية الاستراتيجية:
2- ) إن الأزمة الثورية في سورية، وهي أزمة نظام الرأسمالية البيروقراطية، أزمة نظام من الهيمنة والتسلط والاستغلال آيل إلى الانهيار، وأزمة صراع عنيف بين أكثر من جبهتين اثنتين لانتزاع السلطة، الأحوال المعيشية والحياتية للطبقات الشعبية، النضال ضد السلطة الرأسمالية البيروقراطية، والنضال من أجل التأسيس لسلطة المجتمع الثوري المستقل عن كافة أنماط الدولة وسلطاتها الثلاث، والنضال أيضا ضد الليبرالية المتوحشة، تَفرض على الاشتراكيين الثوريين والطبقات الشعبية خلال المرحلة الحالية من تاريخ سورية، أن تناضل سياسيا لنيل هدفين اثنين، ألا وهما: إسقاط النظام، وإنجاز المرحلة الانتقالية نحو أوسع معاني الحريات السياسية والديمقراطية.
3- ) إذا كان من الصعب التنبؤ منذ الآن بنمط النظام الديمقراطي الذي يجتاز في الوقت الراهن سماء الطبقات السياسية والمثقفة، فإن جبهة اليسار الثوري تناضل من أجل بناء سلطة الطبقات الشعبية أيا كان لون الديمقراطية في سورية. سلطة سياسية تقود المجتمع أيا كانت تلك الدولة المقبلة على المدى القريب، إن لم يكن المتوسط أيضا. سلطة سياسية ذات استراتيجية مُسَلَّحة للدفاع عن نفسها، عندما تقتضي الأزمة الثورية الممتدة في سورية خلال ما يُسمَّى ب"المرحلة الانتقالية" وما بعدها، ولمجابهة الدولة وسلطاتها الثلاث، وكي تدحر سلطةُ الطبقات الشعبية الثورةَ المضادة التي تُحقِّق، كي تحفظ لليبرالية الحديثة المعولمة عمراً مديدا، تقدما ملموسا من حيث موازين القوى السياسية والعسكرية. الأمر الذي يملي على جبهة اليسار الثوري أن تناضل سياسيا بضراوة كي تٌلحق الهزيمة بالأيديولوجية السائدة، والتي تطغي عليها مقولات العنف الديني، وإرهاب الرأسمالية البيروقراطية، و"ديمقراطية" السوق الليبرالية.
4- ) مرحلةُ الأزمة الثورية على الصعيد السياسي لإسقاط النظام، تُرافقها وتليها مجموعةٌ من المهام تتلخص في صياغة استراتيجية سياسية مرحلية تلبي المهام التي تتحكم بالمجتمع في سورية، وهي: شن حرب سياسية ومسلَّحة لإسقاط نظام الاستبداد والنهب والاستغلال والفساد، وبناء الدولة الوطنية، دولة الديمقراطية الاجتماعية والسياسية، وذلك بابتكار منظمات اجتماعية وشعبية لمراقبة السلطات الثلاث للدولة – دعم مشروط للسلطة التشريعية المقبلة، ورفض الترشُّح للانتخابات التشريعية، لأن الانضواء تحت الدستور الآتي لاحقا من شأنه أن يُحَوِّل جبهة اليسار الثوري إلى جهاز من أجهزة الدولة، ويُرغمها باسم الدستور على التخلي عن الثورة واستراتيجيتها، وذلك حسب ما هو سائد في البلدان الرأسمالية التي تُسمِّي نفسها "ديمقراطية". فإذا كانت الشروط التكتيكية تفرض على الجبهة أن تشارك في الانتخابات، فليكن من وراء مرشَّحين يُعتبرون من أصدقاء الجبهة. إن جبهة الاشتراككيين الثوريين تناضل أيضا من أجل التأسيس
- ل/"جبهة الوحدة الوطنية "من أجل تحرير الجولان المحتل. –
- إعادة تنظيم الجيش السوري، وتأسيس جيش شعبي لمقاومة الصهيونية والعدوان الخارجي. - التساوي والشراكة بين الذكور والإناث... .
5 – ) مرحلة الأزمة الثورية على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي تَفرض على الجبهة المطالبة
- بسيادة القوانين الوضعية للأحوال الشخصية كأساس للوحدة الوطنية أمام تشريعات مدنية مُوَحَّدَة. - التأسيس لاقتصاد وطني تنموي، متطور، ويلبي، في المقام الأول، احتياجات الشعب والمهام الوطنية. - نظام للتأمينات الاجتماعية والصحية والتربوية يحمي أصحاب الدخل المحدود، ويكفل للعاطلين عن العمل حياة كريمة.
- إعفاء العاطلين عن العمل من الضرائب والرسوم ومنحهم مجانية الكهرباء والماء والمواصلات العامة.
- مد شبكة مواصلات تابعة للقطاع العام بأجور زهيدة.
- تخفيض أسعار الكهرباء والماء والأدوية والوقود. وخصخصة مخابر إنتاج الأدوية كي تُخَفَّض أسعار الأدوية والعقاقير الطبية إلى أدنى مستوى ممكن.
- توفير المستشفيات والمشافي والمستوصفات لكافة الشعب، وبخاصة للطبقات الشعبية، وذلك بتعميم العمليات الإنشائية في هذا المجال.
- توفير السكن الآمن لأصحاب الدخل المحدود، والعاطلين عن العمل.
- تعميم التعليم المجاني حتى غاية التخصص العلمي، على أن تَكفل الدولة دخلا ثابتا للشباب حتى نيلهم الشهادة العلمية أو المهنية.
- رسم خطة خمسية لإعادة بناء سورية، ورفض كل أشكال المساعدات الدولية المقرونة بشروط تمس بالسيادة الوطنية، ومهام التحرر الوطني الاجتماعي والاقتصادي، وعلى رأسها توصيات البنك الدولي، والصندوق الدولي، والمنظمة العالمية للتجارة.
- حماية البيئة من فوضى النظام الرأسمالي.
- تطوير الإنتاج النووي لأغراض سلمية مدنية... .
6- ) تضمين الدستور هذه المهام، بما يُلزم الحكومات المتتابعة والمتناوبة على الحكم، على اختلاف اتجاهاتها، بالالتزام بها، وعلى رأسها المهام الاقتصادية الاجتماعية، ما دامت السلطات الثلاث مسلَّم بها في الدولة البورجوازية وأيديولوجيتها المهيمنة. إذن، ينبغي على الجبهة اليسارية الثورية أن تناضل بلا هوادة من أجل إنجاز هذه المهمة ذات الصلة بالدستور السوري.
7- ) إذا كانت القوى المشاركة في الأزمة الثورية، على الصعيد السياسي الاجتماعي، تشمل كافة القوى والفئات ألاجتماعية والتيارات السياسية المتضررة من النظام، والتي تنسجم مصالحها مع اعتماد الديمقراطية بأوسع معانيها الاجتماعية والسياسية، وتلك التي تتطلع في نضالاتها إلى التأسيس للدولة المدنية التعددية، إلا أن الأزمة الثورية في سورية، وهي الصراع لانتزاع سلطة الهيمنة الاقتصادية والإيديولوجية، تؤكِّد أن الطبقات الشعبية في الريف والمدينة، من أصحاب الدخل المحدود، والعاطلين عن العمل، وبوجه خاص الشبان منهم، وصغار الفلاحين، وشرائح واسعة من الطبقة الوسطى، هي، خلال هذه المرحلة من تاريخ المجتمع السوري، الطبقة الثورية التي كانت وما تزال الشعلة المتوهجة لثورة الخامس عشر من آذار. لكن دورها السياسي بقي متأخرا وراء طبقة اجتماعية من السياسيين ممثلَّة في "المجلس" وا"لائتلاف الوطني" و"هيئة التنسيق"، تبحث عن مخرج من الأزمة الثورية التي فُرِضَت عليها رغما عنها، وبقوة الحدث التاريخي للثورة، وذلك بدوافع الجوع والمرض والتشرد والفقر والظلم والأجور المتدنية أمام أسعار للسلع مختلة بقياس الأجور، وكل ما تعاني منه الطبقات الشعبية في حياتها اليومية والمصيرية، منها المستقبل غير الآمن لأصحاب الدخل المحدود، والبروليتاريا الرثة، من أجراء مهنيين، والمياومين بدون عقد عمل، تبحث تلك الطبقة السياسية عن مخرج لها من الأزمة الثورية، إما عن طريق السياسة الدولية والإقليمية التي تقع، ما بعد سقوط حائط برلين، تحت سيطرة العولمة النيوليبرالية والإمبريالية الجديدة، وإما عن طريق حرب شبه عسكرية معدومة من أي برنامج سياسي وطني ديمقراطي واجتماعي.
7- لذا، فإن البرنامج السياسي للجبهة يناضل من أجل ترجيح كفة الطبقات الشعبية في الصراع على نظام الهيمنة, هذا الترجيح لموازين القوى، يُشكِّل أحد المهام الرئيسة لجبهة اليسار الثوري في سورية، ويقتضي بالضرورة والإمكان تشييدها بصورة عاجلة. الأمر الذي يفرض على الاشتراكيين الثوريين العمل على تطويق وعزل القوى والتيارات الدينية المتطرفة والإلغائية والتكفيرية والموالية للعولمة النيوليبرالية، والتي تعمل لبناء أنظمة تعيد إنتاج الاستبداد وترفض التعددية، لاسيما وأن "مشاركتها" في ثورة الخامس عشر من آذار تفتقد إلى البرنامج السياسي الوضعي، وتمارس العنف غير السياسي، وترجِّح في نهاية المطاف كفة الحلول الدولية والإقليمية، وتلغي المطالب الشعبية والوطنية، وتصم أذنيها عن سماع أصوات الطبقات الشعبية من حيث هي المحرك المركزي للثورة.
8- ) تعبئة كل مكونات الشعب السوري في النشاط الثوري من أجل إسقاط النظام بموجب شعار أو مهام "الوحدة الوطنية من أجل نيل الحريات السياسية، الاجتماعية والفردية، الوحدة الوطنية من أجل تحرير الجولان". إن بناء الجبهة الوطنية الموحَّدَة بناءً على هذا الأساس، يُشكِّل أحد المهام العاجلة لجبهة اليسار الثوري، ما دام البرنامج السياسي المرحلي للجبهة اليسارية أوسع من برنامج الجبهة الوطنية، يستوعبه ويتقاطع معه. إن الظروف التاريخية للمجتمع في سورية تستدعي الجمع بين الجبهة اليسارية الثورية والجبهة الوطنية الواسعة، ما دامت الأزمة الثورية هي في الوقت نفسه ثورة وطنية لتحرير الجولان، ودعم الثورة الفلسطينية، وإعادة بناء الجيش النظامي، وتأسيس المقاومة الشعبية المسلحة.
9- ) تَمنَح جبهة اليسار الثوري الموحَّد الأولوية للاستراتيجية السياسية، والنضال ألاجتماعي، وترى أن الثورة المسلَّحة هي امتداد استراتيجي للسياسة. إن الأزمة الثورية في سورية، وإن كانت تُرجِّح، بوجه الإمكان والضرورة، نهاية نظام الهيمنة السائد، إلا أنها بالمقابل تُعبِّر عن المجتمع السوري في سياق من حالات متنافرة ومتنابذة من الصراع لانتزاع نظام الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية. من هذه الحالات ظهور الثورة المسلَّحة شبه العسكرية. إن طبيعة المعركة في المجتمع السوري ضد نظام الهيمنة السائد أو الآيل إلى الانهيار النهائي، تَفرض على الطبقات الشعبية أن تَحمل السلاح لحسم المعركة.
9- لكن الحرب بوجهها العسكري المسلَّح، سبقت الحرب بوجهها السياسي الاجتماعي، وجاءت قبل أن تنضج الاستراتيجية السياسية الثورية. ما يضع الأزمة الثورية في حالة من الخلل ما بين السياسي والعسكري. إن هذه الظروف تُلزِم اليسار الثوري بالعمل على ترجيح السياسي على العسكري، وذلك بمشاركتها في الثورة المسلَّحة، من جهة، وبتوجيه العمل المسلَّح وفق استراتيجية سياسية ثورية، من جهة ثانية.
10- ) إن استراتيجية الثورة المسلَّحة في المجتمع السوري تستدعي، من حيث تكوينها الاقتصادي الاجتماعي، أو من حيث هي حرب الطبقات الشعبية في الريف والمدينة ضد الرأسمالية البيروقراطية، وللدفاع عن المصالح المهدورة لصغار الفلاحين، لاسيما وأن توسيع السلطة للملكية الزراعية، ودعمها المالي للمزارعين الجدد خلال العقد الأخير، قد أَرغَم فقراء الفلاحين، ولعجزهم المالي عن زراعة ملكيتهم الصغيرة، على الهجرة إلى المدينة بحثا عن الأعمال اليدوية، إن هذه المعطيات الاقتصادية الاجتماعية، تُملي على الثورة المسلّحة، اعتماد الحرب الخاطفة التي تتشكل من مجموعات صغيرة، من حيث عدد وحداتها العاملة، والتي تباغت هيئات السلطة السائدة، وتنسحب بصورة سريعة إلى مواقعها السرية. الأمر الذي يتنافى مع الحرب شبه الكلاسيكية، والتي تسيطر حتى الآن على الثورة المسلحة. إنه، أيضا، يُلزِمُ الثورة المسلحة أن تستغني عن حرب الجبهة ضد الجبهة. ذلك إن استمرار هكذا شكل من الحرب الثورية، لن ينجح بإسقاط السلطة، وسيوسِّع من تدمير المدن والصناعات، وذلك بالرغم من أن الظروف الموضوعية فَرضت، بالمقابل، وبصورة مفارقة للحرب الثورية، على المجتمع السوري، أن يخوض الحرب السياسية الشاملة على مختلف الجبهات ضد نظام الهيمنة الآيل إلى السقوط.
11- ) اعتماد استراتيجية ثورية تأخذ بالثورة السلمية دون أن تلغي الانتقال، في الوقت المناسب، وعندما ينضج النضال السياسي الثوري، إلى "الثورة المسلحة" بكل ما في هذه الكلمة من معنى. ذلك أن التكوين الاقتصادي المجتمعي لسورية، يفرض على الثورة استراتيجية تجمع بين الريف والمدينة، وتعقد التحالفات السياسية المناهضة للسلطة، ما بين القوى الاجتماعية صاحبة الثورة ومحركها، على أساس من مناهضة الاستغلال، والاستبداد، والظلم، واحتكارات سلطة الرأسمالية البيروقراطية، للسياسة والثروة الوطنية والسوق الاقتصادية والإنتاج الاقتصادي. استراتيجية ثورية قوامها شن معركة سياسية مجتمعية على كافة الجبهات ضد سلطة الاستبداد والظلم والاستغلال والاحتكار، ضد سلطة الهزائم الوطنية وسِلْم الضعفاء المنهارين، ومن أجل إسقاط النظام على كافة الجبهات عبر معركة واحدة شاملة، وليس على مراحل، وموقعا وراء موقع.
11- بتعبير أوضح: إن استراتيجية الثورة الصينية بقيادة ماو تسي دونغ، والتي أَسست السلطات الشعبية فوق المناطق التي كانت تضمها إلى السلطة الشعبية المناهضة لنظام الهيمنة الذي كان سائدا، لن تعطي ثمارها في المجتمع السوري الذي يُشبه حارة واحدة من المناطق مترامية الأطراف للإمبراطورية الصينية. الإضراب العام من نمط العصيان المدني للعمال وأصحاب الدخل المحدود حتى غاية سقوط النظام الآيل إلى الانهيار، وإن كان مجديا وفعالا، إلا أنه غير كاف بمقياس سلطة للهيمنة تدك المجتمع أعزل السلاح، بالقذائف الصاروخية والطائرات الحربية. إنها مهمَّةٌ تُملي على الحرب الثورية، سياسية ومسلَّحة، أن تجمع ما بين حرب العصابات، والإضراب العمالي العام، والعصيان المدني الذي يتسع ليشمل رفض الشعب لتسديد نفقات الكهرباء والماء. هذا، في ما يتعلق بالمدن. أما في الريف، القرى والبلدات، فإن صغار وفقراء الفلاحين مؤَّهلُون في المجتمع السوري، من غير خسائر كبيرة في الأرواح، وعلى نقيض من الممارسات الغامضة لما يسمَّى ب"الجيش الحر"، مؤهلون للجمع بين حرب العصابات، وبين الاستيلاء على السلطات المحلية. فبقدر ما تتسع رقعة العصيان المدني وحرب العصابات والسطات المناهضة للسلطة السائدة، في الريف والمدينة على حد سواء، وبقدر ما تتسع السلطات الشعبية، بقدر ما تنتقل الأزمة الثورية من عفويتها إلى العمل الواعي المنظَّم، فتشمل حينئذ مختلف المناطق وعموم البلاد. بهذا المقياس السياسي الاستراتيجي للتكوين الاقتصادي الاجتماعي للمجتمع في سورية، تصير الوتيرة البطيئة لانهيار السلطة السائدة، مَهْمَا تلقت هذه الأخيرة من دعم أجنبي، سريعة.
12-) إن المعطيات السياسية، الاقتصادية الاجتماعية، الراهنة للأزمة الثورية في سورية، تنبئ بأن المرحلة الانتقالية لن تتوَّج بنظام للهيمنة ديمقراطي ومستقر، وذلك من جراء تعدُّد الشرائح السياسية التي تتصارع في ما بينها لانتزاع نظام الهيمنة والسلطة. الأمر الذي يملي على جبهة اليسار الثوري أن تستعد منذ الآن لتوفير الظروف أمام استمرار الثورة خلال المرحلة الانتقالية الآتية.

ب – الثورة الشعبية ومناهضة الثورة المضادة:
13- ) لقد آن الأوان لثورة الخامس عشر من آذار وهي تستكمل السنة الثانية من تاريخها، أن تميِّز بين القوى الثورية للشعب في سورية، من جهة، وبين الطبقة السياسية التي مَسَخت الثورة إلى كشتبان بيد الخيَّاط الدولي والعربي، وحَشَت الثورة برصاصة تنطلق من بندقية ما يُسمَّى ب/"الجيش الحر"، نحو هدف مجهول، أن تمِّزَ ما بين الطبقات الشعبية والطبقة السياسية من خلافات وصراعات صريحة وضمنية في آن واحد. أن تميِّز الأولى عن الثانية، من جهة التكوين الطبقي والصراع الطبقي، وذلك بموجب موقع ودور كل منهما في الثورة، وليس من حيث مقولة مجرَّدة لتصنيف الطبقات، وإنما وفق معيار استراتيجي لقياس وتثمين مدى مشاركتها ضمن التنسيقيات في المعركة على أرض الواقع. إن جبهة الاشتراكيين الثوريين منحازة دوما إلى الطبقات الشعبية، وتَسَجِّل أن الشعب أو المجتمع بصورة عامة لا يبالي بتجار السياسة الذين يقفزون ما بين العواصم الكبرى ومصادر البترودولار، يلتمسون منها ما يسمونه "حماية الشعب السوري"، ويتصدرون شاشات التلفزيون، زاعمين أنهم يمثلون الشعب السوري وثورته. إن الشعب غير القادر على حماية نفسه بنفسه، في معركة الحفاظ على الحياة والنمو، ليس جديراً بالحياة، ولن يلبث أعداء الثورة من دحره وإبادته في ما هم يزعمون مساعدته وحمايته.
14- ) إذا كانت الاستراتيجية الثورية تعبئ كل القوى المشاركة في الثورة مشاركة فعلية، ولا تمثِّل إلا من كان مشاركا في الثورة مشاركة سياسية بالقول والعمل، من أجل إنجاز الانتقال الديمقراطي المطلوب، فإن هذه الاستراتيجية تستدعي بالقوة صياغة برنامج للثورة يراعي مصالح كل الطبقات والشرائح المجتمعية المشاركة في الثورة وتنسيقياتها مشاركة سياسية فعلية. الأمر الذي يملي، بتعبير آخر، على استراتيجية ثورة الخامس عشر من آذار في سورية، أن توسع من شعاراتها، بحيث تَجمَع ما بين المطالب المجتمعية والسياسية والاقتصادية لكل الطبقات والشرائح المجتمعية التي تشارك في الثورة بروحها وجسدها ودمائها وعرقها، ولا سيما ما كان منها ينطق باسم الطبقات الشعبية التي تشارك في الثورة بصورة واسعة، والتي تعيش حالات من الذل والفقر والجوع والمرض والتشرد.
14- إن نجاح الثورة وإحراز الانتقال الديمقراطي يتوقف اليوم على توسيع الثورة من حيث الكم والوزن والنوع، وهذا يملي على الاستراتيجية الثورية في سورية أن تَجمع ما بين المجتمعي والسياسي دون أي تمييز ما بين الطبقات إلا على أساسٍ معيار استراتيجي لمدى مشاركتها الفعلية في الثورة. بتعبير آخر، فإن الصراع الطبقي في المجتمع السوري خلال الأزمة الثورية، يستمد تعريفه من حيث دور هذه الطبقة في الثورة. إن ثورة الخامس عشر من آذار لا تسن على الطبقات أحكاما نظرية عمياء، أو تصنيفات جوفاء، وإنما تعتمد استراتيجية سياسية تراعي مواقف طبقات المجتمع من الثورة، وهي تشمل كل القوى الوطنية حسب مقدار مشاركتها النضالية السياسية في الثورة.
15- ) إذا كان تشيِّد الجبهة الوطنية يشكِّل إحدى المهام ذات الأولوية في استراتيجية جبهة الاشتراكيين الثوريين، فإن الجبهة الوطنية لن تنجح في تعبئة الشعب السوري بصورة كافية، ما لم تكسر الطوق السياسي الذي يخنقها، لتخرج منه إلى الاجتماعي والوطني ومناهضة الصهيونية والسياسة الدولية التي تقع منذ زوال الاتحاد السوفياتي تحت نفوذ الإمبريالية. إن أي برنامج سياسي لأية جبهة وطنية في سورية، لن تقوى على تعبئة الثوريين غير المرئيين حتى غاية اليوم من جراء الإشكالية البرامجية التي تسيطر على الأزمة الثورية، ما لم تَجمع بدورها ما بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والوطني.
16- ) كل ذلك يستدعي توسيع النضال السياسي والمسلَّح، إلى أن يحين الوقت المناسب للانتقال من الثورة السلمية وحرب العصابات، إلى الثورة المسلحة الشاملة، والتي تمتد على كافة جبهات القتال المسلَّح، وذلك عندما يصل انهيار السلطة الذي كان بدأ يظهر منذ سنوات، وتفاقم تفكُّكه مع انطلاق الثورة، إلى الحضيض، وتكون، حينئذ، السلطة السائدة قاب قوسين أو أدنى من السقوط النهائي على حدود معركة الجبهة الواحدة والشاملة.
- إن الاستعاضة عن العمل السياسي بالعمل العسكري قبل أن تنضج الظروف السياسية من شأنه أن يجهض الثورة، ويستدرج التدخل "الإنساني"، "الدبلوماسي"، ثم العسكري. الأمر الذي يَحْمِل معه احتمالات تنبئ باندلاع الحرب الأهلية، وتفكيك أواصر الوحدة الوطنية والتاريخية للأمة العربية، وغيرها من القوميات في سورية.
- إن سياسة الإضرابات، والإضراب العام، وإضرابات العصيان المدني، والعصيان المدني، واستيلاء الشعب على مقار البلديات والمحافظات والمجالس الإدارية، واحتلال معامل القطاع العام والخاص، واجتياح الوزارات وإدارات "السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية" التي تستحق من الثورة الشعبية أن تدوس عليها، طالما تكرس هكذا سلطات للفساد والظلم والذل، حتى لو كان ذلك احتلالا عارضا وسريعا بما يوفر القتلى قبل الأوان، أو بانتظار انسلاخ النقابات عن السلطة، وقطع الطرق العامة، والمواصلات الاستراتيجية الجوية والبحرية والبرية والسكك الحديدية، وسد الطرق المؤدية إلى الجسور، وإن كانت في المرحلة الراهنة مؤقته، سريعة، وخاطفة، على نمط حرب العصابات، فإنها كفيلة وحدها في المرحلة الراهنة، من حيث هي استراتيجية سياسية ثورية، أشدُّ خطراً على الرأسمالية البيروقراطية من مليون رصاصة وقذيفة وقنبلة مجهولة الأهداف، كفيلةٌ بتوفير الشروط السياسية والاجتماعية والمسلحة لتفكيك العلاقات البيروقراطية ما بين المكوِّنات القمعية الاستغلالية لنظام من الأجهزة، فيشتِّتها، ويستنفذها، ليزرع فيها، بالنتيجة النهائية، أسباب التناقض والانقسام والضياع والزوال.
17- ) كان وما يزال العنفُ، وما يرافقه من قمع وظلم، الإيديولوجيةَ التي تحمي نظام الفساد بعدما سقطت الدولة القومية، وانهارت السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، وأزيح حزب البعث جانبا، ولم يبق من السلطة سوى الجيش والأجهزة الاستخباراتية التابعة له، والتي كانت مطية لاحتكار الثروة وتراكم رأس المال والجاه، فضلا عن قمع المجتمع والمُستَغَلِّين من أبناء الشعب في سورية، ومسالمة إسرائيل بصورة شبه مُعلَنَة. إن سلطة العنف لم تتوان، منذ اليوم الأول لنشوب الثورة، عن زج كل هذه الأجهزة القمعية بكافة أسلحتها الحربية في محاولة منها لقمعها. لكن الثورة في مرحلتها السلمية كانت أقوى من الجيش النظامي، بالرغم من أنها بدأت وما تزال عفوية.
17- فالشعب، وإن كان متضامناً اجتماعيا مع الثورة المسلحة بنمطها الحالي (الجيش الحر)، ومعادٍ لجيش السلطة، بيد أنه لم يحمل السلاح بعد، لأن البرنامج السياسي الثوري، والذي يلبي مطالبه السياسية وغير السياسية، ما يزال في طي المُضْمَر. فإذا كانت الثورة السلمية والعفوية مرشَّحة، حسب ما يتبيَّن كل يوم من استمرار التجمعات والمظاهرات الشعبية في الشارع، للتطور، من العفوية إلى البرنامج السياسي الاستراتيجي، بالرغم من أن آلة القمع والظلم تَشُن حربا شعواء على الأحياء الشعبية، وبالرغم من أن "الجيش الحر" يشن حربا كلاسيكية ضد السلطة، متخِّذاً من البلدات والقرى والضواحي والأحياء الشعبية معسكرا له، مكشوفاً تحت أبصار الجيش النظامي، ويقع ضمن مسافة القصف المجدي للشبيحة وجيش السلطة، وإذا كان الشعب يُقدم كل يوم الشهداء دونما حساب أو تقطير، ويُغدق دماءه بكرم وكرامة، من أجل رفع الظلم عنه، وإحراز الانتقال إلى الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والتحرر الوطني - ما ينبئ أن الثورة السلمية مرشَّحة للاستمرار- فإن الوقت قد حان للانتقال بالثورة، من العفوية الشعبية التي تفوقَّت من حيث وعيها السياسي، سواء في ما يتعلق بالوحدة الوطنية، أم من حيث مقاومتها للسلطة، ورفضها للثورة المضادة بمختلف مضامينها، كالتدخل الأجنبي ولجوء الجيش الحر إلى الأحياء الشعبية لحماية نفسه وليس لحماية المجتمع، هي مؤهلة للانتقال من الثورة العفوية إلى الثورة المنظمة.
17- فلقد تفوَّقت ثورتنا بالرغم من عفويتها الثورية، على كل السياسات التي تحاول زجها في معارك ذات طبيعة دينية تارة، أو مناهضة للثورة، طالما تستعيض تلك الطبقة السياسية، نزيلة الفنادق الفخمة، عن المعركة المجتمعية والسياسية لشعبنا، بالتدخل الأجنبي. ما يؤكد أن هذه الثورة الشعبية مؤهلة لإنجاز مثل هذا الانتقال إلى الثورة المنظَّمَة، لاسيما وأنها تسير في منحى مخالف، إن لم يكن مفارقا، للمسارات السياسية السائدة، والتي تزعم حتى اليوم، وما بعد مضي حوالي السنتين اثنتين من تاريخ الثورة، أن إحراز الانتقال الديمقراطي والوطني لن ينتقل إلى حيز الواقع، مالم يجتز أحد مسارين اثنين. فإما "الانتقال السلمي" عبر النظام نفسه من أجل الإصلاح السلمي. وهذه سياسة تجد صدى لها في هيئة التنسيق والليبراليين في السلطة. وإما "الانتقال المسلح" بالاعتماد على "الجيش الحر"، وبالتنسيق الحربي والدبلوماسي مع العوامل الخارجية. إ
17- إن جبهة اليساريين الثوريين تُسجِّل أن هذه السياسات السائدة لم تجد صدى لها لدى التنسيقيات الثورية في ميدان المعركة المجتمعية الدامية لإسقاط نظام العنف والظلم والاستغلال، وظلَّت معزولة عن الشعب الذي رفضها واستهزأ بها بوعيه الثوري العفوي، وذلك في ما تلتصق السياسات المناهضة للثورة بالسلطة ووزارات الدفاع والخارجية في العواصم الكبرى والقاهرة والدوحة وإسطنبول وغيرها. لذا، فإن جبهة الاشتراكيين الثوريين عازمة على تفنيد هذه السياسة، ورسم سياسة ثورية، ليست بديلة عن التنسيقيات، وإنما هي ترجمة عنها، في ما تتطور الثورة من الحالة العفوية إلى الحالة المنظَّمة. هذا الانتقال من العفوية الثورية إلى الثورة المنظَّمة استراتيجياً هو أوسع مهام الجبهة.
18- ) الجيش النظامي غير وطني وخائن للشعب قياداتٍ، من أمراء وضباط، أولا، ثم صف الضباط، من مساعدين ورقباء وعرفاء، ثانيا. هذا، في ما يتعلق بالبنية الوظيفية للجيش، وللاعتراف بأن الجيش النظامي يضم أفرادا وأنفارا وطنيين، مناوئين للسلطة، وموالين للثورة.
18- من المُجحف بمكان، أن يُعْتَبَرَ الجيش السوري جيشً وطنيٌّ. ناهيكم وأن مصطلح "جيش الشعب" مغرضُ بحق عشرات الألوف من شهداء الثورة، ومئات الألوف من المهجرين ممن فقدوا منازلهم تحت قصف البراميل المتفجرة والقنابل التي تنهال عليهم من الطائرات المقاتلة السورية. أقل ما يقال على هذا الصعيد، إن هذا الجيش السوري ليس جيش الشعب، وإنما جيش السلطة الرأسمالية البيروقراطية المتحالفة مع غرفتي أرباب العمل التجارية والصناعية.
18- إن تولى إلى حكومةُ انتقاليةُ مهترئةً من كثرة احتكاكها بالمسيو والمستر والروكوآنه الروسي وأصحاب الفخامة والسعادة والملالي والشيوخ والأمراء والرفاق في الصين، فلان وفلان، ومخدورة، فوق ذلك، بوعود السلام على الطريقة الصهيونية، مهمةَ قوميةً عليا كتلك التي ستوكل إليها، ألا وهي إعادة بناء الجيش. الأمر الذي ينبئ منذ الآن بواحد من احتمالين اثنين. فإما يزول المجتمع القومي وتتلاشى سورية، في مثل هذه الحالة. أو إما تستمر الثورة للدفاع عن الجولان والحقوق المسلوبة للجيش الفلسطيني. إن الممكن البنيوي في المجتمع السوري هو الذي سينتصر، في نهاية المطاف كما يُقال، على الاحتمال العارض والظرفي. أي إن تحرير الجولان وفلسطين بالقوة، سيتفوق على "الشراكة المتوسطية" مع إسرائيل.
18- إن الجيش السوري يَحكم البلاد منذ جلاء المحتل الفرنسي عن أرض الوطن، وحتى غاية اليوم. وكان تأسَّس بأيدي الانتداب الفرنسي، وتلقى منه التدريب الميداني والعلوم والفنون العسكرية. حتى أن الأمراء والضباط الذين شكلوا "الجيش الوطني" السوري، كانوا يتقنون اللغة الفرنسية. وكان هؤلاء يُوفدون إلى المدارس العسكرية العليا التي كانت تؤهلهم عسكريا لشغل المركز العسكري القيادي ك"عقداء أركان حرب". كان الجيش السوري حينذاك يتبادل، بين وقت وآخر، المناوشات الحربية مع الجيش الإسرائيلي. أكثرية هؤلاء الأمراء والضباط كانوا ينحدرون من الطبقات الوسطى للمدن، في ما كان الريف يمد الجيش بالأنفار وبمعدلات متوسطة في ما يتعلق بضباط الصف، لأن أبناء الريف، وبخاصة الفلاحين الفقراء وأصحاب الملكية الزراعية الصغيرة، لم تكن الظروف حينذاك، أي ما قبل الجلاء، متاحة أمامهم لتلقي تعليمهم الثانوي، ومن ثم الانتساب إلى الكلية العسكرية.
18- إذا راجعنا تاريخ الانقلابات العسكرية في سورية ما بعد الجلاء، وحتى غاية إعلان الوحدة بين مصر وسورية في العام 1985، فإن الجيش السوري كان ساحة للصراع على سورية، بين المحورين المصري الملكي المتحالف مع آل سعود، برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، وبين المحور الأردني العراقي التركي المتحالف مع بريطانيا التي كانت تسهر بشراسة على خط التبلاين لنقل النفط العراقي من العراق إلى الموانئ البحرية، عبر سورية، وعلى امتداد الساحل الشرقي من البحر الأبيض المتوسط. خلال هذ الصراع، دخل الجيش السوري في حالة نزاعات داخلية مؤيِّدة لبريطانيا صاحبة مشروع الهلال الأخضر على امتداد بلاد الشام، أو سورية الكبرى تحت شعارات القومية السورية والحزب القومي السوري، وبين قوى مناهضة لبريطانيا. فرنسا ضمن هذا الصراع احتفظت لنفسها في سورية ولبنان بنفوذ بنكي عبر "بنك سورية ولبنان" الذي كان يمول زعماء الحزب الوطني، ومنهم خالد العظم، الذي خاض انتخابات رئاسة الجمهورية في العام 1955، ضد شكري القوتلي. لكنه فشل، فناوأ الوحدة السورية والمصرية، وتقرَّب من السياسة السوفياتية، فسمي بالمليونير الأحمر.
18- في هذه الأثناء، فإن الحركة الشيوعية حظيت بتأييد في الأوساط الشعبية والطبقة الوسطى التي كانت ما تزال تمارس دورا ثوريا. هذا في ما كانت الانقلابات العسكرية تتتابع، منذ الجلاء، وحتى غاية الوحدة، تحت تأثير الصراع على سورية من أجل عبور أنابيب النفط البريطانية عبر سورية، ومن جراء السباق، ما بين آل سعود وآل الهاشمي المنحدرين من شبه الجزيرة العربية، والمعادين لآل سعود، من أجل بسط النفوذ الإقليمي. لاسيما وأن آل سعود، كانوا وما زالوا، يخشون على سلطتهم من أي نظام ديمقراطي ناجح في المنطقة، وبخاصة في سورية.
18- إلى ذلك، فإن الجيش السوري، ما بين 1946 و1958، ركب السلطة خلال الانقلابات العسكرية، بصورة صريحة فجَّة، وكان يحرِّك الدمى السياسية من وراء الستار والمكتب الثاني خلال الفترات القصيرة والمتقطعة من تاريخ الحياة البرلمانية في سوريا. إلى أن تحالف الجيش مع البعثيين و"يسار" حزب الشعب، فأعلنوا الوحدة مع مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، كي يحولوا دون اتساع النفوذ السوفياتي الشيوعي.
18- لم ينخرط الجيش السوري، حتى غاية هذا التاريخ، بأية معركة عسكرية واسعة، بالرغم من أن المناوشات العسكرية مع العدو الإسرائيلي على حدود بحيرة طبريا كانت تصل أحيانا إلى درجة عالية من القتال.
18- خلاصة القول إن الجيش السوري منذ جريمة الانفصال الأسود عن مصر، لم يضطلع بأي دور وطني، وبُني اعتبارا من الانفصال، ثم مع انقلابات 8 آذار 1963، و23 شباط 1966، و17 تشرين الثاني 1971، لحماية السلطة العسكرية، وذلك بالرغم من مقاومة المدنيين البعثيين للعسكريتاريا. تلك المقاومة التي انتهت إلى تصفية ميشال عفلق، وصلاح الدين البيطار، ونورالدين الأتاسي، والدكاترة الأطباء نور الدين الأتاسي، إبراهيم ماخوس، ويوسف زعيِّن، واللواء صلاح جديد.
18- منذ انقلاب حافظ الأسد، وزير الدفاع أثناء هزيمة حزيران للعام 1967 أمام الجيش الإسرائيلي، وهو الذي أمر جيوشه بإخلاء الجولان والقنيطرة قبل دخول الجيش الإسرائيلي إليها، ما حمل السوريين على التهكم عليه والسخرية منه بدعوى "أنه باع الجولان ومنازلها بكامل أثاثها لإسرائيل"، وهو أيضا الذي وُصِف على لسان الشعب السوري، بأنه "أسد في لبنان وأرنب في الجولان"، وذلك في إشارة من الشعب إلى أن الجيش السوري لم يُطلق رصاصة واحدة على مواقع الجيش الإسرائيلي ما بعد
حرب تشرين، في ما هو دكَّ مخيمات الفلسطينيين ومعسكرات المقاومة الفلسطينية في لبنان بالمدافع الثقيلة، بعدما كان وقف متفرجا على ذبح الفلسطينيين بالأردن إبان "أيلول الأسود. حافظ هذا، هو الذي خسر الحرب مرة ثانية أمام إسرائيل التي احتلت في نهاية حرب تشرين 1973 مزيدا من الأراضي السورية. وهو نفسه الذي أعاد، علاوة على ذلك، تنظيم الجيش، بحيث يفشل كل انقلاب بالإطاحة بمملكته. فلم يعد دور الجيش تكريس الانفصال عن مصر، وقمع الوحدويين، فحسب، وإنما عُهدَ إلى هذا الجيش ذات البنية المُحْكَمَة بإتقان للدفاع عن نظام الرأسمالية البيروقراطية بقيادة الجنرال حافظ، وبالتحالف ما بين قادة الأجهزة والقطعات، ورأسماليِّ السوق في سورية ولبنان، عُهد إليه، ما بعد توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار مع إسرائيل في العام 1973، وذلك في أعقاب حرب تشرين، بتصفية المقاومة الفلسطينية في لبنان، وقمع الحركات الوطنية والديمقراطية اليسارية، والتي كانت تشهد توسعا وانتشارا منقطع النظير. حينئذ، لم يكتف الجيش بقيادة الجنرال حافظ، وبعدما كان انتزع السلطة من اليسار الثوري لحزب البعث العربي الاشتراكي، بالحيلولة دون أن يهرع الجيش السوري لنجدة الثورة الفلسطينية التي كانت تخوض حربا ضد الملك حسين في الأردن، وتنادي بالحرب الشعبية، وتشرف أيضا على تشييد مجالس السلطات الشعبية، لم يكتف بذلك، وإنما وسِّع من قمعه للتنظيمات اليسارية في سورية، وقمع عصيان الأخوان المسلمين في حماة بصورة وحشية لا مثيل لها، وزج معارضيه في السجون. حافظ هذا، ما أن انتزع السلطة من أيدي القادة المدنيين ليسار حزب البعث، حتى سارع إلى الاعتراف ت بقرارات مجلس الأمن الدولي 242 و 338 ، والتي تنص على التفاوض مع إسرائيل "لاسترجاع أراض محتلة" (في بلاد الواق الواق)، وتتضمن بالتالي اعترافا ضمنيا بإسرائيل.
18- أقل ما يقال في الجيش السوري أن بنيته وهيكله ليست مبنية كي تضطلع بمهام التحرر الوطني، ووظائف الدفاع عن الأمة العربية، والشعب في سورية. هذا الجيش هو الذي شارك بإرغام الثورة الفلسطينية على النزوح إلى أقاصي بلاد الله، تونس، بعدما ذبح الفلسطينيين في معسكراتهم التي كانت منتشرة في لبنان. هو الذي طرد الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات من دمشق. ولم يوفّر جهدا لإنهاك الثورة الفلسطينية عسكريا. إلى أن اضطرت إلى إبرام اتفاقية أوسلو مع إسرائيل. هذا المجرم، هو الذي مارس ضغوطا قاتلة، جنبا إلى جنب مع الخائن أنور السادات، وإسرائيل، والإمبريالية، من أجل تفكيك حركة التحرر الفلسطينية (فتح)، بما كان يفسح المجال أمام اتساع النشاط السياسي لحركة حماس.
18- كان يخشى على سلطته من الشعب، لذا، فإنه لم يوزِّع الأسلحة الخفيفة على عموم شعوب بلدان "المجابهة" (كذا) مع إسرائيل، ولا حتى مدها بالعصي والحجارة والمنجنيق ووسائل التواصل المعلوماتي، وإنما راح يولي "المقاومة" لطائفة محدَّدة بعينها في جنوب لبنان مهمةَ مقاومة إسرائيل، وذلك بحيث يحصرها على امتداد مساحة من الأرض الضيقة، التي يعيش فوقها فربق نت الأقليات بعزل نفسه عن قوى التحرر، وما ذلك إلا كي يستغني الجنرال عن "المقاومة"، إذا ما اقتضت الضرورة مقايضتها مقابل الإبقاء على سلطته.
18- إلى ذلك، فإن جبهة الاشتراكيين الثوريين، إذ هي تدعو إلى جبهة الوحدة الوطنية من أجل إنجاز المجتمع في سورية مهامه الوطنية القومية التحررية، فإن برنامجها السياسي، إذ يدرك ما آل إليه الجيش السوري من تدمير ذاتي على مسار من سياسة عسكرية غير وطنية خلال سبعة عقود من تاريخه، فإنه يناضل من أجل بناء جيش المقاومة الشعبية، تحت شعار الوحدة الوطنية من أجل تحرير الجولان والدفاع عن القضية الفلسطينية، وكي تكون المقاومة الشعبية موازية للعسكريتاريا، ومقاومة لها، إذا ما هي عاودت الظهور مستفيدة من تهافت الطبقة السياسية، لاحتلال السلطة، أو لممارسة الضغوط على المجتمع لإرغامه علي التسليم بتسوية سلمية مختلّة الأركان الوطنية والقومية مع إسرائيل. هذا، في ما يحتفظ برنامج الاشتراكيين لنفسه بحرية تشييد كتائب مسلحة ثورية لحماية اليسار والطبقات الشعبية من أية دسائس ومؤامرات للنيل منهم، أولتخريب الحياة الديمقراطية في البلاد، أو من أجل تقليص الحريات الوسعة التي كانت ثورة الخامس عشر من آذار ناضلت وضحّت بالغالي والنفيس من أجل نيلها خلال المرحلة الانتقالية، وعلى امتداد المراحل التاريخية لتطور المجتمع والدولة في سورية في المستقبل.
19- ) لقد بدأت ثورة الخامس عشر من آذار بداية سلمية. وما تزال حتى اليوم، وبالرغم من ظهور "الجيش السوري الحر"، فإن شرائح واسعة من الثوار الأحرار ما تزال تتطلع إلى السياسة الثورية السلمية. إلا أن إيديولوجية العنف التي تمخضَّت عن نظام الفساد والظلم والاستغلال، وسقوط السياسة بعدما حلَّ العنف محلها، فضلا عن الخصوصية السورية للثورة وما يرافقها من ظروف موضوعية للحالة السورية، ومنها الطوبوغرافيا، والجغرافيا الطبيعية والبشرية، والتكوين الاقتصادي الاجتماعي للسلطة والمجتمع، والتشكيلة السياسية للسلطة وتحالفاتها الداخلية والخارجية، وموقع سورية الاستراتيجي، العربي والدولي، كل ذلك يفرض على السياسة الثورية أن تجمع ما بين الثورة السلمية والثورة المسلحة. ذلك أن الثورة لن تقوى على إسقاط النظام، وهو ذو تكوين عسكري، ديكتاتوري واستغلالي، ما لم تنتقل، في مرحلة من مراحل تطورها، من الثورة السلمية إلى الثورة المسلَّحة الشاملة.
19- فلنلاحظ أن الثورة على مسار من تطورها وتاريخها، انتقلت إلى حالة الثورة المسلحة قبل أن تنضج سياسيا، وقبل أن تنتقل إلى الثورة السياسية المنظَّمة. الأمر الذي يضع الثورة أمام مهمتين اثنتين، قبل أن تتوفر الظروف المواتية لانتقالها إلى الثورة المسلحة. أما، وقد فُرض عليها هذا الانتقال إلى الثورة المسلحة، وهي ما تزال في مرحلة الثورة العفوية، فإن المهمة الأولى لإحراز الانتقال الثوري، الديمقراطي والوطني، يكمن في إعادة تنظيم التنسيقيات، ميدانيا وسياسيا، معها ومن أجلها، للارتفاع بها ما فوق السياسات السائدة في عهد الثورة. تلك السياسات التي أهملت التنسيقيات الشعبية سياسيا، تنظيميا وميدانيا. أما المهمة الثانية، فإنها، إذ هي تأخذ بالثورة المسلحة التي فُرضت عليها قبل الوقت المناسب، فإنها ملزَمَة، بحكم الخصوصية السورية للثورة، وما يلازمها من ظروف موضوعية وضرورية، أن تعيد تنظيم الثورة المسلحة بحيث تتوافق بصورة استراتيجية مع الظروف الموضوعية من جهة، ومع التكوين السياسي للثورة.
19- لذا، فإن مهمة إعادة تنظيم "الجيش الحر" تُعتبر من المهام الرئيسة المفروضة على الثورة منذ الآن. لا سيما وأن استراتيجية الجيش المنشق وتكتيكه السياسي والعسكري لا يخضع حتى غاية اليوم إلى أي توجيه من القيادة السياسية، المركزية والموحَّدَة، للثورة. إن العمليات العسكرية للجيش الحر، والتي تنتهي في جميع الحالات، إلى الانسحاب من البلدات والأحياء التي تحتلها، وذلك أمام الهجوم الشرس لجيش السلطة، مخلِّفةً وراءها مئات الضحايا من الثوار الأحرار والمدنيين غير المسلحين، تُبيِّن أن الاستراتيجية السياسية والعسكرية التي تحرِّك "الجيش الحر"، هذا الخليط المزيج من العقائد والأساطير، إن هي توفَّرت بالفعل، وبافتراض ذلك، فإن أقل ما يقال عن سياسته، إنه لم يبلغ بدوره مرحلة النضوج السياسي. إنه يعتقد أن إسقاط النظام العسكري الذي يَشن حربا كلاسيكية ضد الشعب والجيش الحر معا، سوف يسقط بالاعتماد على حرب عسكرية كلاسيكية مضادة.
19- لذا، فإن جبهة الاشتراكيين الثوريين تشير إلى أن سقوط السلطة العسكرية، يستدعي إنجاز تغيير جوهري وجذري في استراتيجية الثورة المسلحة. الأمر الذي يُلزِم الثورة بتوسيع العمل العسكري بحيث ينبثق عن الثورة الشعبية "مقاومةً شعبيةً" مسلحةً تذيب "الجيش الحر"، الأشبه بالجيش النظامي، وهو يتمخَّض عنه، منه إلى "المقاومة الشعبية"، وتَعهد بالمنظمات العسكرية للمقاومة الشعبية، إلى القيادة السياسية المنبثقة عن التنسيقيات الشعبية.
19- فضلا عن ذلك، فإن الخصوصية السورية للثورة، تملي على الثورة المسلحة أن تنبذ مواجهة جيش النظام مواجهةَ الحرب الكلاسيكية، فتنأى بنفسها عن الأحياء والمظاهرات والتجمعات في المدن والبلدات، وتتخلى عن احتلال مواقع ثابته لن تلبث عن تنسحب منها تحت وابل من قصف الجيش النظامي المتفوق، من حيث تسليحه وتحالفاته الداخلية والإقليمية والدولية، ليس على الجيش الحر فقط، وإنما على أي تحالف عسكري، دولي وعربي، طالما تفرض تجارة السلاح في العالم في الوقت الراهن، التبارز في ما بينها في ميدان الصواريخ والأنظمة المعلوماتية العسكرية فوق الأراضي السورية والبلدان المجاورة.
19- إن جبهة اليسار الثوري تلاحظ، في ضوء الظروف الموضوعية لسورية، أن الحرب العسكرية الكلاسيكية في مواجهة الجيش النظامي، ومحاربة النظام وفق استراتيجية جبهة ضد جبهة، حتى لو استعان جيش سورية الحر بالقوات العربية وغيرها، لن نقوِّض النظام العسكري. الأمر الذي يملي على الثورة المسلحة، بعدما تَستكمل الثورة السلمية تطورها بأسرع وقت ممكن، أن تعتمد على المقاومة الشعبية، وتستعيض عن الحرب الكلاسيكية بحرب التحرير الشعبية، أي حالات لا حصر لها، في سجلات الجيش النظامي وأجهزته الاستخباراتية، من هجمات في كل مكان (حرب العصابات)، في المدينة، بصورة أوسع من الريف، حيث أن النسبة المئوية لعدد السكان، وتوفُّر المخابئ السرية حيثما توجد، هي التي ترسم طبيعة العمليات المسلحة التي تَعتمد على المباغتة الخاطفة والانسحاب السريع، والتنظيم السري، والتخفي، وذلك بما يقود، في نهاية الأمر، إلى تصدع آلتها العسكرية، بعد إنهاكها وتمزيقها وتفتيتها ونشر الفوضى بين صفوفها. إنها مهمة ثورية في متناول قنبلة المولوتوف، والقنبلة اليدوية، والأسلحة الفردية الميكانيكية، والحجر، والمنجنيق، والتي يبلغ مداها المجدي إلى مواقع استراتيجية للسلطة، ليس، للدبابة والمدفع والمنصة الصاروخية والقنبلة النووية، قدرةً على بلوغها.
20- ) إن "الجيش الحر"، هذا الخليط المزيج من الطوباويات والسياسات الليبرالية التجريبية، النفعية البراغماتية والانتهازية، والأساطير الدينية، وإن كان يتسع – ما في ذلك شك - للوطنيين المخلصين الأوفياء للقضايا القومية والوطنية والطبقية للمجتمع السوري، فإن – وبالاعتذار من الوطنيين منهم الأبطال الشرفاء - ممارساته تُتَرجم عن بنية مضادة للثورة ذات وظائف، لن تلبث أن تتكشف بوضوح، عن سلطة عسكرية بديلة عن الجيش النظامي الذي يحكم المجتمع ويستغله. فضلا عن أن قياداته، وببعض التسامح فلنقل ليس جلُّها، تنادي علانية، أو كما كان أحد شعراء "عصر الانحطاط" يقول: "على عينك يا تاجر"، تنادي ب/"التدخل الأجنبي لحماية المواطنين". إن جبهة الاشتراكيين الثوريين تنبّه إلى أن ما يظهر عن "الجيش الحر" من ممارسات بنيوية معادية للديمقراطية، عسكريتاريَّة غير سياسية، إنما هي آتية من رحم المجتمع العسكري في سورية، من النظام العسكريتاري، وهي امتداد له. وموظَّفة، من حيث هي مضادة للثورة، لحساب السياسة الدولية والعربية (الجامعة العربية، والمشايخ والأمراء وجرٍّ). إن الجبهة لن توفِّر جهدا من أجل تصويب كل هذه الحالات من الاعوجاج السياسي، بالإضافة إلى تلك الالتواءات العسكريتارية.
21- ) التنسيقيات الشعبية تُكوِّنُ إحدى خصوصيات ثورة الخامس عشر من آذار وعمودها الفقري، اليوم، غدا وبالأمس القريب. حتى أن السياسات السائدة في عهد الأزمة الثورية، والتي تقتات من السياسة الدولية الذهب والفضة والألماس، وتُغذِّي شعب الثورة بالسياسات السامة، تعيش بصورة طفيلية على هامش التنسيقيات ، وتمتص دماءها، دون أن تشارك فيها بصورة سياسية منظَّمَة، ودون أن تعمل أيضا على الارتفاع بعملها، بحيث تتخطى تنظيماتٍها الحالية التي كانت تأسَّست على قاعدة من الحي، والمدينة، والبلدة، والضاحية، والقرية. التنسيقيات، علاوة على ذلك، ولما كانت ما تزال على عفويتها، وإن كانت هذه التلقائية ترتفع بوعيها الوطني والمجتمعي والسياسي إلى مستوى عال من النضج، طالما تصدُّ الحرب الطائفية، وتناهض التدخل الخارجي، وتنادي بالوحدة الوطنية في مواجهة السلطة، إلا أنها ما تزال تفتقد إلى البرنامج السياسي الذي يجمع في ما بينها على أسس سياسية ومجتمعية ذات برنامج ثوري، وقيادة مركزية موحَّدَة، بما يوفر للثورة أسباب الانتصار، ويتيح لها، ما أمكن ذلك، إنجاز الانتقال الديمقراطي الوطني التحرري المطلوب.
21- إن أداء التنسيقيات ما يزال فطرياً، بالرغم من أنه يكشف عن وعي وطني وسياسي، هو خلاصة تاريخ طويل من نضالات الشعب السوري في سبيل التحرر من تسلط الدولة العثمانية والقومية الطورانية، ومن أجل الاستقلال، ومقاومة الصهيونية والأحلاف، وما كان من السياسات الدولية معاديا للشعوب، تحررها وتقدُّمها، ومن أجل الوحدة العربية، وتحرير فلسطين. إن السياسة السائدة في عهد الثورة، لم تهبط حتى اليوم إلى التنسيقيات الشعبية، وكانت وما تزال تعيش في قلاع السلطات، سواء في دمشق، أو القاهرة، أو الرياض والدوحة، أو باريس ولندن وموسكو وبكين وواشنطن ومجلس الأمن الدولي والجامعة العربية. وكانت السياسات السائدة وما تزال تطمح إلى الصعود بالتنسيقيات إلى أعلى برج في الحصن السياسي الرسمي السائد، وليس الهبوط إليها والاندماج فيها. لذا، فإن السياسة السائدة تعيش حتى اليوم في وادٍ، في ما تعيش التنسيقيات في برك من الدماء والعذاب والظلم والاستغلال والجوع والتشرد.

ج – سياسة بديلة، "البديل" السياسي:
22- ) إن السياسات السائدة حتى الآن هي التي تَحُوُل دون أن تتغذى الثورة من الطاقات والإمكانات الاحتياطية الهائلة التي ما تزال كامنة في المجتمع السوري، ولم تُحرِّكها الثورة بعد. إذن، ينبغي على البرنامج السياسي للثورة أن يؤكِّد أن هذه السياسات هي أيضا التي ما تزال تعرقِّل الثورة، وتحول دون اعتماد المجتمع على قواه الذاتية. ينبغي على البرنامج أن يدعو إلى مقاطعة سياسة التدويل، ويكشف، في الوقت نفسه، ما يسود من انحرافات سياسية تستعيض عن ثورة المجتمع بالسياسة الدولية لاستلام السلطة، ويبيِّن أن هذه الأخيرة هي التي تريد مسخ الثورة إلى ذرات في النظام المعلوماتي للإمبريالية بالسوق الدولية، وهي التي تَحُول دون أن يَستَجمع الشعب كامل قواه الثورية الذاتية، لينتصر على سلطة الاستبداد والاستغلال، ويَقهر أعداء الشعب المتربصين في كل مكان، في سورية والعالم، بالثورة. إن الغاية من وراء إهمال هذه السياسات السائدة للطاقات الثورية الهائلة والكامنة في المجتمع، اجتماعية وسياسية واقتصادية وبشرية، والتي لم تُوُظَّف حتى الآن توظيفا استراتيجيا من قِبَل الثورة، إنما تَرمي إلى تحويل الثورة الاجتماعية السياسية في سورية إلى قضية دولية تَنكر على الشعب مؤهلاته في ممارسة السياسة، وقيادة الدولة بنفسه وبصورة مباشرة. وهي التي تُفرِّغ، في المقام الأول، الثورة من مضمونها السياسي والاجتماعي، طالما هي تستعيض عن ميادين الثورة بالدهاليز المظلمة للسياسة العربية والدولية، وتشحن الثورة بطاقات قاتلة لا هدف لها سوى الكر والفر، فوق مساحة من العمران البشري، تهاوى حطاما وأطلالا من جراء تقدُّم "الجيش الحر" وتراجعه، ذهابا وإيابا، وإلى ما لا نهاية.
23- ) إن الثورة من أجل إسقاط النظام وبناء الجمهورية الجديدة وتحرير الوطن وَصلَت اليوم إلى نقطة اللاعودة. فالحوار مع السلطة، وأنصاف الحلول، والوساطات الدولية والعربية، والتآمر على الثورة لسرقتها من الجماهير خوفا من حكم الشعب بالشعب، إنما يُمهِّد كل ذلك الطريق أمام الثورة المضادة.
24- ) إن هذه التلقائية الواعية وصلت إلى أقصى ما تستطيع الثورة العفوية بلوغه. فإذا ما راوحت في مكانها، ولم تتخط العفوية إلى العمل السياسي المنظَّم وفق استراتيجية ثورية، فإن كفة السلطة من جهة، وكفة الثورة المضادة والطابور الخامس من جهة ثانية، في موازين القوى، هي التي سترجح على الأرجح. الآن الفوري، وكي يستفيد الشعب من الفرصة الأخيرة المتاحة أمام استمرار الثورة، وللحيلولة دون أن تَسرق الثورةُ المضادة الثورة َمن التنسيقيات– ولو كان ذلك بصورة مؤقتة كما يحدث اليوم في مصر وتونس واليمن، ناهيكم وليبيا التي وُلدت فيها الثورة ميتة – فإن أمام التنسيقيات، بعدما تنتقل إلى العمل السياسي المنظم بناء على استراتيجية ثورية، مهام غير قابلة للإنجاز ما لم تَضحى العفوية الثورية للشعب ثورةً منظمةَ.
- إن انتخاب مجالس بلدية بديلة لمجالس السلطة، وانتخاب سلطات سياسية موحَّدة للثورة، والانتقال من التظاهر والتجمع في الشوارع والأحياء والمدن والبلدات والضواحي، إلى مداهمة مصانع ومؤسسات القطاعين العام والخاص، بصورة مباغتة والانسحاب منها بسرعة، مهمةٌ لن تنجزها التنسيقيات ما لم تنتصر السياسة الثورية البديلة على السياسات السائدة.
- إلا أن الحركة الثورية للتنسيقيات تُلزم أيضا، إذا ما أرادت الثورة السياسية من جانبها السلمي أن تبث الفوضى، ومن ثم التصدع في أجهزة السلطة، فإن احتلال النقابات والمؤسسات الحكومية بصورة مباغتة والانسحاب منها على وجه السرعة، لا يختلف عن مداهمة المقاومة الشعبية المسلَّحة للمواقع الاستراتيجية للسلطة على اختلاف درجة أهميتها، مركزية كانت أم هامشية.
- بل، وإن السياسة السائدة، وهي غريبة عن التنسيقيات، زَجَّت الوطن في حالة الإضراب ورفعت شعار العصيان المدني قبل الأوان. فكأنها كانت تريد من وراء ذلك إلحاق العطب بالعمل السياسي السلمي، والسير بالشعب والثورة والوطن وراء "الجيش (الكلاسيكي) الحر.
25- ) إن الثورة في المقام الأول عملية استراتيجيةٌ سياسيةٌ تَجمعُ وتوفّقُ، بموجب معادلات متغيِّرة بين النضال السلمي والنضال المسلّح. لذا فإن الجبهة:
- تُشدِّد على ضرورة أن تلتزم "الثورة المسلحة" بما تراه القيادة السياسية التي تفرزها الثورة، وبما تحمله الثورة على الصعد الاستراتيجية والتكتيكية من تجديد وتغيِّير.
- أن تنضوي الحركة الثورية بكافة قواها ضمن الإطار السياسي الذي ترسمه القيادة السياسية للثورة عبر المسار الثوري المستمر، وعبر مراحله: الثورة السلمية، الثورة المسلَّحة، المقاومة الشعبية المسلحة، وذلك وفق المقتضيات الاستراتيجية والتكتيكية المتغيِّرة.
- إن الإطار السياسي هو وحده مصدر الشرعية. إن العمل العسكري، ما لم يَلتزم بهذا الإطار السياسي، من شأنه – على وجه الاحتمال والإمكان - أن يهدِّد أهداف الثورة، وينالَ من وحدة العمل الثوري، ويرجِّح علاوة على ذلك موازين القوى لصالح الثورة المضادة.
26- ) إن ما تقدِّمه الثورة بسخاء من تضحيات، وشهداء، وما يرافقها من سجن للأحرار، وتعذيب حتى الموت، وتشويه جسدي للمخلوق الإنساني، وتدمير للأحياء السكنية، ومقابر جماعية، وخطف للمواطنين الشرفاء، لن يكون أبداً ذريعة، لأصحاب الحلول الدبلوماسية والعسكرية، تُبرِّرُ لهم سرقة الثورة والقضاء على مكامنها الاجتماعية. ولن يبيح، مهما بلغت التضحيات من أجل انتصار الثورة، للسياسات الدولية والعربية المعادية لتحرر الشعوب، أن تفرض انتدابا جديدا على الوطن، بحجة أن سورية آيلة إلى الدمار والحرب الأهلية، وتحتاج إلى مساعدات اقتصادية وبشرية لإعادة تعمير البلاد واقتصادها المنهار، وغير ذلك من مقولات يرادُ منها التشكيك بأصالة الثورة، والتبرير باسم "الإنسانية" لبناء دولة مفبركة من كل حدب وصوب، وتنصيب زعامات، ما هي في نهاية المطاف، سوى عدوان للقضاء على الثورة خوفا من حكم الشعب بالشعب.
- إن جبهة الاشتراكيين الثوريين آلت على نفسها إلا أن تساهم في تعرية هذه السياسات، وكي يَرسٍّخَ البديل الثوري عنها. إن ثورة الخامس عشر من آذار 2011، إذ هي تُعَبِّر عن الانتماءات التاريخية والجغرافية واللغوية للوطن الأم، إلا أنها ليست فقط جزءٌ من الثورات التي اقْتَلَعت أنظمة الاستبداد والفساد والعمالة، وإنما هي أيضا جزءٌ من معركة ضد سياسات الهيمنة وسرقة ثروات الشعوب وثوراتها. وهي، فوق ذلك، مناهضة لأية سياسة تهدف إلى التحكُّم بتطلعاتها التحررية والاستقلالية، وذلك فضلا عن خصوصية معركتنا ضد الصهيونية كأداة استعمارية عدوانية توسعية مغْتًصِبة للأرض والوطن.
- هذا، وإن كانت ثورتنا معادية لكل أشكال الهيمنة والسيطرة، عربيةً كانت أم دولية، عسكريةً أم سياسية دبلوماسية معادية للعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، فإنها بالمقابل لا تتعارض، من حيث هي معادية للتسلُّط بجميع أنماطه، مع الجهود المبذولة من قِبَل المنظمات الاجتماعية السياسية، والمدنية، المناهضة للاستبداد والاستغلال في العالم، ضد النظام الدموي في سورية.
27- ) إن تسخير كل الإمكانات لتوفير الإغاثة الطبية والغذائية والنفسية والمادية لا يمكن لها أن تؤدي دورها إلا بتوفير أساليب عملانية (عملياتية) منظَّمَة تعتمد على المنظمات الإنسانية في اختيار وجمع وإيصال فعَّال لها، بما يتناسب مع احتياجات مواطنينا في الداخل كما في المهجر. ويجب أيضا توظيف كل الجهود لدى شعوب العالم والمنظمات العالمية الإنسانية للمساهمة في توفير أكبر قدر من العون والإغاثة والإسعاف.
28- ) إن الخيارات السيادية للوطن ما بعد سقوط النظام سترسم إطارا وطنيا حرا لعلاقاته الندِّية مع دول الجوار والعالم، باستثناء إسرائيل. علاقات لا تعتمد إلا على المصلحة القومية العليا والمشتركة والمتبادلة مع كل من يمد يد الصداقة للوطن، بما في ذلك من يقف اليوم ضد ثورة الشعب السوري. إن الثورة مطالبة بتوجيه خطاب واضح للأنظمة التي تدعم النظام لشرح حقائق الثورة ومطالبها وأهدافها، والتأكيد على أن المصالح المشتركة لهذه الدول مع الوطن، تُلزِمها بالتوافق مع خيارات الشعب السوري الثائر ضد كل سياسة معادية لتحرر الشعوب وازدهارها.
29- ) على هذا الصعيد، فإن جبهة الاشتراكيين الثوريين تناضل، بلا هوادة، كي تتحول حالات متنوعة من المقاومة المُسَلَّحة ضد الصهيونية، من تكوينات طائفية ضيِّقة وعصبوية، وقفٌ على فريق ديني بعينه دون غيره، وبإقصاء القوى الوطنية من مناطق التماس العسكري مع إسرائيل، إلى مقاومة شعبية مسلحة معادية، ليس للصهيونية فقط ، وإنما للإمبريالية أيضا. مقاومة وطنية مسلَّحة تجمع بين كل القوى الوطنية المناهضة للصهيونية والإمبريالية على اختلاف انتماءاتها السياسية والسياسية الدينية.
30- ) إن جبهة الاشتراكيين الثوريين، إذ هي تؤكد أن التنسيقيات هي العمود الفقري للثورة وجهازها العصبي ويدها الضاربة، فإنها تنبِّه إلى أن التنظيم السياسي الموحَّد والمركزي للتنسيقيات الشعبية، شأنه شأن المقاومة الشعبية المسلحة، هو أحد المقومات الرئيسة للاستراتيجية الثورية لثورة الخامس عشر من آذار. بل، وإن التنسيقيات تَشغَل منذ الآن حيزا هاما في بناء سورية الديمقراطية المتحررة.
30- كما أن المقاومة الشعبية المسلحة في سورية الغد، هي أحد المقومات الأساس، إلى جانب الدولة وجيشها، في الدفاع عن سورية المستقبل في مواجهة العدو الصهيوني، وما كان من السياسة الدولية معاديا للشعوب.
31- ) إن انبثاق التنسيقيات، إحدى خصائص الثورة في سورية، أسلوبٌ نضاليٌ وثوريٌ يحتِّم، بعد مرور حوالي السنتين اثنتين على تاريخ الثورة، على القيادة السياسية للثورة أن تَنتقل بالتنسيقيات والثورة معا من العفوية إلى العمل المنظَّم الواعي، وأن تَبتكر أليات نضالية تنظيمية، وترسم برنامجا سياسيا يردُّ بموضوعية على الصعوبات والعراقيل التي تعترض الثورة، وأن تُخطِّط وتُبرمِج لممارسات نوعية جديدة، ميدانية وتنظيمية وسياسية، وذلك لتوفير الشروط الموضوعية لاستمرارها وانتصارها. الأمر الذي يَفرض استراتيجيةً تستجيب للظروف الواقعية للثورة والتنسيقيات الثورية، وتَعتمد على القيادات المعبِّرة عنها والمنبثقة منها، وتقود الوحدة الوطنية ضمن جبهة أو ائتلاف مسلَّح ببرنامج سياسي أو استراتيجية ثورية. لذا فإن جبهة الاشتراكيين الثوريين تُلحُّ مجدَّدا، على:
- إن تطوير الثورة إلى مقاومة شعبية يَستدعي توظيف كل الخيارات الميدانية، ورفع وتيرة التعبئة الشعبية، من الاعتصام، إلى الإضراب والعصيان المدني، واحتلال النقابات والمؤسسات الحكومية والمنشآت العامة ووسائط النقل العام والمدارس والجامعات، وتشكيل مجالس بلدية وإدارية، إن لم تحل محل مجالس السلطة السائدة، فإنها موازية لها، وتعمل ضدها.
- إن تطوير المواجهة ضد السلطة وأجهزتها بالاعتماد على القوى الذاتية لشعبنا غدا اليوم موضوعا أكثر إلحاحا من جراء الصعوبات والعراقيل التي تعترض معركة الشعب ضد النظام.
- إن النضال السلمي للثورة، والذي يَدفع له شعبنا ثمنا باهظا بدمائه وأرواحه، يجد نفسه مضطرا، بالرغم عنه أو مُكرَها، إلى تغيير استراتيجية هذه المواجهة، من حيث هي دفاع مشروع عن النفس أمام آلة القتل البربرية وجرائم النظام.
32- ) إن صياغة البرنامج السياسي لمستقبل الوطن، وتأسيس الجمهورية العصرية الجديدة من حيث هي دولةُ سيادة القانون، والتعددية، وفصل السلطات، واستقلالية المجتمع المدني عن الدولة، المجتمع المدني من حيث هو النقيض للمجتمع العسكري، وحرية العمل النقابي، والتوزيع العادل للثروة الوطنية، ورفع المستوى المعيشي للطبقات المُسْتَغلَّة والمحرومة، ورفع الظلم والاضطهاد بشتى أنماطه، والبناء الاقتصادي والمؤسساتي، والتنمية المستديمة، الاقتصادية والبشرية، وتكريس الدستور لحقوق المواطنة والقوميات وحقوق المرأة، المدنية منها والسياسية، فضلا عن مساواتها بصورة كاملة غير منتقصة مع حقوق الرجل، والالتزام بالميثاق العالمي لحقوق الإنسان وحماية الطفولة، والاعتراف الدستوري بالشعب الكردي وغيره من القوميات كمكوِّن أساس من مكوِّنات المجتمع السوري على مبدأ الشراكة والمساواة في الحقوق والواجبات، لن يَنتقل كل ذلك إلى حيِّز الواقع والفعل إلا بوضوح الالتزام بين كل الأطراف المشاركة في الثورة حول ميثاق وطني موحَّد واضح الأهداف، وَالوفاء للمسؤوليات التي تنتظر مجتمع الثورة ما بعد سقوط النظام، شرط أن يُقرَّ دستور الجمهورية أن كل المواطنين مِتساوون بصورة كاملة أمام أحكام الدستور دون أي تمييز بينهم، من حيث الانتماء السياسي والديني والقومي.
33- ) إن جبهة الاشتراكيين الثوريين تناضل من أجل بناء جمهورية مُقَيَّدَةٌ حصرا بالدستور ومؤسساتها الديمقراطية التي تأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتَكُون الحكومة والجهاز الإداري للدولة مسؤولين أمام السلطة التشريعية والقضائية. كما يَرسُم دستور الجمهورية الجديدة للقوات المسلحة وجهاز الأمن اختصاصات تضعها تحت أمر السلطة التنفيذية، بحيث تنحصر وظيفتها في حماية الوطن والشعب. إن الجبهة تناضل من أجل التخلص بصورة كاملة ونهائية من عهد الحكم العسكري، ومخلَّفاته التي ستقاوم المجتمع المدني، وتكرِّس لحكم العسكريتاريا. لذا، ينبغي أن يَحظر الدستور على الجيش النزعات العسكرية إلى السلطة، ويمنعه بصورة قاطعة من كل تدخل في الشؤون السياسية.
34- ) إن تكوين الثورة اجتماعيٌ ومطلبيٌ، كما هو معركة من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية. ذلك أن هيمنة طبقة الأجهزة السلطوية على السياسة والاقتصاد والمجتمع، وهي التي كانت وما تزال تستأثر بحركة السوق وتراكم الثروات، وتَسْتَغِلُّ كل المُنتِجين دونما تمييز بين أصحاب الأجر المحدود والمنافسين لها من المستثمِرين، وتَنشر الفساد، وتَسلب ثروات الوطن الطبيعية وغيرها، وتتحكم بالإدارة دونما أي مرجع قانوني على كل الصعد، التعليمية، والإنتاجية، والزراعية، والضرائبية، وتَحتكر أيضا توازع المشاريع الوطنية الإنمائية وغيرها محاصصةً مع المُمَوِّلين، وتُقصي المواطن - علاوة على ذلك - عن العمل السياسي، وتُسَخِّر النشاط النقابي والمدني في خدمة النظام الاستخباراتي التآمري لحراستها من الشعب المُفْقَر والمستَغَل، كل ذلك يُلْزم أي برنامج سياسي أو استراتيجية للثورة، في حاضرها كما في المرحلة الانتقالية لبناء الجمهورية الجديدة، أن تُكرِّسْ للمساواة بين كافة المواطنين أمام القانون، وتَحْفَظ الوحدة الوطنية، ما دامت سورية في عهد الجمهورية الجديدة تُلغي الاحتكارات السلطوية، وتُؤسِّس القوانين التي تكفل لرأس المال التراكم والمساهمة في بناء اقتصاد وطني متطور بما يلبي المهام الوطنية للتنمية، على أساس من تلبية الاحتياجات المعيشية والحياتية للمجتمع في سورية.
34- إلا أن البرنامج السياسي للثورة، إذا ما أراد تعبئة الشعب وراء الثورة وفق مبدأ الاعتماد على الذات، والتصدي للمؤامرات السياسة، العربية منها والدولية، فإن الاستراتيجية الثورية لن تنجح في بلوغ الجمهورية الجديدة ما لم تُكرِّس، أثناء المرحلة الثانية من تاريخ الثورة، لحقوق الطبقات المُستَغَلَة، والأكثرية المُفْقَرَة من شعبنا، وللعاطلين عن العمل، وتطالب بالحياة الكريمة للمواطن، وذلك جنبا إلى جنب مع توفير المناخ السياسي لإعادة البناء الاقتصادي والصناعي الوطنيين، كشرط أساس للسيادة القومية والتحرر الوطني. لذا، فإن جبهة الاشتراكيين الثوريين تناضل من أجل دستور يَحمي هذه المطالب، بما يُلزم التداول السياسي أن تَتقيِّد بها.
35- ) الثورة تختبئ أو تستمر علانية. هذا، يتوقف على نجاح جبهة الاشتراكيين الثوريين في تشييد سلطة اجتماعية من المجالس الشعبية من ناحية، ومجالس الجبهة الوطنية من جهة ثانية، والمجالس الموحدة من جهة ثالثة، لإنجاز المهام المرحلية الملحة، قومية، وطنية، اقتصادية، اجتماعية وطبقية، عسكرية ومدنية. هذا، مع تبنِّي، خلال هذه المرحلة، سياسة النضال من أجل الحياة الديمقراطية في ظل الوحدة الوطنية. إن الوحدة الوطنية التي نُسِجَت عراها عبر النضال البطولي لشعبنا، والتي تحقَّقت بأيدي الثوار في ميادين المواجهة العنيفة مع النظام الإرهابي، تَفرض، على كل وطني أيا كانت انتماءاته، أن يرتقي بالسلوكية الوطنية والديمقراطية، بالإضافة إلى الهيكلية التنظيمية، بحيث يكون كل ذلك انعكاسا صادقا لهذه الوحدة، سواء في الموقف والسلوك، أم في الخطاب والممارسة. إن ذلك يستوجب الالتقاء حول القواسم المشتركة، والاعتراف بالآخر، ورفض الإقصاء والاستئثار والانتهازية والترفع والفوقية والنخبوية، من أجل توفير أفضل مناخ للمشاركة والتعاون اللذين يتأسَّسان على قاعدة من الالتزام الوطني الواضح، ليس فقط أثناء مرحلة تحرير الوطن من العائلة الأسدية، وإنما خلال مرحلة بناء الجمهورية ومؤسساتها الديمقراطية والوطنية.

د- مقدِّمَةٌ جديدة أو خاتمة مؤَجَّلَة:
36- ) فإذا دُفنت الثورة بعدما تكون ماتت مرات ومرات، من جراء الثورة المضادة التي تقود العالم، ولأن اليسار الثوري في سورية فاشل، فاشل ، كان وما يزال منذ تأسيس أول حزب شيوعي في البلدان العربية، وحتى غاية هذا اليوم الذي يَشهد كيف تُمسَخ الثورة إلى ثورة مضادة في كشتبان الخياط الإمبريالي، فاشلٌ بالتشديد والتوكيد، فلأن الثورات العربية كلها، وفي كافة الأقطار العربية والكردية والبربرية الأمازيغية، المنحدرة من السامية والآرية، والمتطلعة إلى النهضة الحضارية، والمجتمع الاشتراكي، والسوق الليبرالية، تدور في حلقة مفرغة، ما أن تنجح في استلام السلطة حتى تعود من حيث أتت، دون أن تُحدث أي تغيير، كما كان بقول إنجلز في "ثورة الفلاحين"، في إشارة منه إلى ثورات الفلاحين في الجزائر وغيرها خلال القرن التاسع عشر، وما قبلها. أو كما يُفهم من "البداوة والعمران" لدى ابن خلدون. تعود إلى الاستبداد. الثورة الفلسطينية، الثورة الوطنية الديمقراطية، ثورة الوحدة، ثورات الطريق غير الرأسمالي، الثورة الماركسية اللينينية في اليمن وظفار والعراق، حرب التحرير الشعبية في الأردن، هكذا دواليك، وهلم جرى، سقطت كلُّ الثورات المتتالية ما بعد الاستقلال، بعدما عجزت عن إنجاز المهام التي كانت تَحْمُلُها إلى السلطة. حتى (عصيان)، (ثورة) السياسة المتدينة، ذُوِّبَت عبر قنوات الدولة المستبدة، منذ تلك "السقيفة" التي تاهت ثم تاهت في بحثها عن فلسفة سياسية تبني بها دولة تحفظ لها الأندلس وطرق التجار الدولية، البرية والبحرية، وحتى غاية انتخاب آخر برلمان مصري، والذي تحوَّل، بوتيرة ثورية عالية، ظاهرة في المجتمع، أم مضمرة في صراعاته مع العدوين اثنين، في الداخل والخارج، إلى فُرجَة شامتة بأنظار الشعب الثوري في مصر.
37- ) كلا، إن الثورة الشعبية انبثقت، في سورية كما في غيرها من البلدان العربية، في ما كانت العولمة النيوليبرالية تشق منافذ لها في السوق السورية وسلطة الرأسمالية البيروقراطية، وذلك كرَدٍّ على النظام الإمبريالي الجديد الذي يختلف عن سابقه، من حيث هو لا يوفِّر على شهيته الفظَّة لتراكم رأس المال، أية ذرة من تراب الكرة الأرضية وثرواتها البشرية والطبيعية. الأمر الذي يُحتِّم على البرنامج السياسي لجبهة الاشتراكيين الثوريين، أن يَضع نصب عينيه هذه الوحشية الجديدة، فيناهض السياسة الدولية وتوابعها باعتبارها إمبريالية، ويفتح أمام ثورة الخامس عشر من آذار مسار اعتماد المجتمع في سورية على الذات، بالتحالف مع قوى التحرر والديمقراطية في عالم الصراع الطبقي‘ القومي منه، والعالمي.

حسان خالد شاتيلا
منتصف شهر كانون الثاني/يناير 2013
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*معجم الماركسية النقدي، بإشراف جيرار بن سوسان – جورج لابيكا، صفاقس – بيروت، دار محمد علي للنشر- دار الفارابي، الطبعة الأولى 2003.



#حسان_خالد_شاتيلا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -واجب الكراهية- للطغيان والتسلط - في العنف والعنف الثوري*
- التاريخ غير المرئي للثورة المستمرة
- .../... ثورة الخامس عشر من آذار: تهافت السياسة الليبرالية وب ...
- ثورة الخامس عشر من آذار: تهافت السياسة الليبرالية وبؤس اليسا ...
- ثورة 15 آذار السورية: اليسار في سورية تائه في رقعة ألعاب الس ...
- ثورة 15 آذار/مارس في سورية: الخطاب السياسي أولا وأخيرا
- -ميدانية القاهرة- (مقدمة)
- إيديولوجية تجمع اليسار الماركسي (تيم): مقاربة نقدية ومادية
- جورج لابيكا أو تغيير العالم بلا معلِّم
- يمين ويسار، نهاية الاستعصاء
- اليمين واليسار في عهد -الإعلان- والخلاص-*
- الضفة الجنوبية لحوض المتوسط مطالبة بانقاذ المنتدى الاجتماعي ...
- لبنان*
- المقاومة كمصدر للديمقراطية
- عن معاني المقاومة العربية في زمن العولمة النيوليبرالية
- بيان من شيوعي يدعو إلى المقاومة
- إعلان دمشق تكتيك دفاعي يفتقد إلى جيش مجتمعي
- من أجل حملة مناهضة للشراكة الأوروبية المتوسطية
- النداء والأجندة الصادرين عن مجلس الحركات الاجتماعية لبلدان ح ...
- حركة مناهضة العولمة تنصب أول حاجز لها في حوض المتوسط لمقاومة ...


المزيد.....




- محكمة تونسية تقضي بإعدام أشخاص أدينوا باغتيال شكري بلعيد
- القذافي يحول -العدم- إلى-جمال عبد الناصر-!
- شاهد: غرافيتي جريء يصوّر زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني ...
- هل تلاحق لعنة كليجدار أوغلو حزب الشعب الجمهوري؟
- مقترح برلماني لإحياء فرنسا ذكرى مجزرة المتظاهرين الجزائريين ...
- بوتين: الصراع الحالي بين روسيا وأوكرانيا سببه تجاهل مصالح رو ...
- بلجيكا تدعو المتظاهرين الأتراك والأكراد إلى الهدوء
- المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي: مع الجماهير ضد قرارا ...
- بيان تضامن مع نقابة العاملين بأندية قناة السويس
- السيسي يدشن تنصيبه الثالث بقرار رفع أسعار الوقود


المزيد.....

- مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة / عبد الرحمان النوضة
- الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية ... / وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
- عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ ... / محمد الحنفي
- الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية / مصطفى الدروبي
- جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني ... / محمد الخويلدي
- اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956 / خميس بن محمد عرفاوي
- من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963.......... / كريم الزكي
- مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة- / حسان خالد شاتيلا
- التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية / فلاح علي
- الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى ... / حسان عاكف


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية - حسان خالد شاتيلا - ثورة الخامس عشر من آذار في سورية: الانتقال من عفوية الثورة إلى الاستراتيجية الثورية