أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - الاحتمال الأرجح: مفارقة انتصار الثورات والثورات المضادة فى -الربيع العربى-!















المزيد.....


الاحتمال الأرجح: مفارقة انتصار الثورات والثورات المضادة فى -الربيع العربى-!


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3963 - 2013 / 1 / 5 - 16:23
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
    


الاحتمال الأرجح: مفارقة انتصار
الثورات والثورات المضادة فى "الربيع العربى"!
بقلم: خليل كلفت
عندما تُكْمِل كل ثورة من ثورات ما يسمى بالربيع العربى عامها الثانى فى تونس فى 18 ديسمبر 2012، وفى مصر فى 25 يناير 2013، وفى اليمن فى 3 فبراير 2013، وفى البحرين فى 14 فبراير 2013، وفى ليبيا فى 15 أو 17 فبراير 2013، وفى سوريا فى 15 مارس 2013، وفى بلدان عربية أخرى فى أوقات أخرى متقاربة، تتأكد حقيقة أننا إزاء زمن ممتدّ إلى الآن ولأعوام أخرى من الثورة والثورة المضادة مادامت الثورة ما تزال بعيدة عن تحقيق أهدافها الأساسية ومادامت الثورة المضادة بدورها لم تصل بعدُ إلى تحقيق وترسيخ استقرارها الرجعى. ومن الجلىّ أن الثورة والثورة المضادة تحتاجان إلى زمن كافٍ وغير قصير لتحقيق الأهداف الأساسية لكلٍّ منهما.
وفى سياق جدل الصراع بين الثورة والثورة المضادة، يقفز سؤال منطقى: مادامت الثورة قد حققت بالفعل منجزات كبيرة وكذلك فعلت الثورة المضادة: ما هى احتمالات تطور هذه المنجزات على الجانبين؟
والحقيقة أن الثورة لها مسار منطقى ناشئ من طبيعتها وللثورة المضادة بدورها مسارها المنطقى، ولا شك فى أن مصير المساريْن إنما يحسمه الصراع العينىّ السابق والحالى واللاحق بينهما. ومن المفارقات أن من المحتمل وربما من المرجح أن يحقق كلا المساريْن نجاحات متصلة تؤدى بكل منهما إلى النجاح. وهذه المفارقة بحاجة إلى تفسير. والحقيقة أنه لا تناقض كما يبدو على السطح، بل ربما كان نجاحهما معا على مدى الأعوام القادمة هو المسار المنطقى والوحيد الملائم لطبيعة الأشياء، وهو الاستنتاج الذى يمكن استخلاصه من ثورات العصر الحديث.
ويعنى نجاح الثورات تحقيق أهدافها الأساسية: ليس تلك الأهداف التى توهَّمتْها الشعوب وتوهَّمها الثوار وحتى المناضلون الثوريون الأعمق فكرا ووعيا ونضجا وعِلْما فى كل ثورة طوال التاريخ قديمه وحديثه. فالشعوب فى حالة نجاح ثوراتها تخلق أُسُسًا وأدوات جديدة تاريخية لحياتها ونضالها ولتطور التاريخ والحضارة ولكنها لا تصل مطلقا إلى سلطة الدولة. وقد تصل حركات ثورية إلى السلطة مع إلحاق هزيمة ساحقة ماحقة بالثورة المضادة غير أن هذا لا يعنى وصول الشعوب أو الطبقات العاملة والشعبية والفقيرة العمالية والفلاحية إلى السلطة بصورة إستراتيچية. ذلك أنه سرعان ما ينتهى تطور التناقضات فى صفوف حركات وقوى الثورة بعد وصولها الجماعى إلى سلطة الدولة فى ظاهر الأمر إلى تبلور ونشوء واستقرار وترسيخ طبقة استغلالية جديدة.
والحقيقة أننا إزاء ثورات سياسية فى سياق التبعية الاستعمارية وليس فى سياق ثورات اجتماعية كما كانت ثورات البلدان الصناعية المتقدمة؛ وهى بالتالى ثورات سياسية عالم-ثالثية لا تحقق بحكم طبيعتها سوى تطور تاريخى محدَّد فى حياة ونضال الشعوب، واسمه، فى كل مكان، الديمقراطية الشعبية من أسفل، أو الديمقراطية من أسفل (وأسفل هنا يعنى الشعب)، أو الديمقراطية ببساطة (فالجزء الأول من تعبير الديمقراطية مشتق من لفظة يونانية تعنى الشعب رغم الاشتقاق الخادع للجزء الثانى من هذا التعبير من اللفظة اليونانية التى تعنى السلطة أو الحكم)، وذلك مع بقاء الاقتصاد والسلطة فى أيدى الرأسمالية التابعة فى ظل نظام عسكرى و/أو إخوانى و/أو ليبرالى. وقد قطعت الشعوب خطوات على طريق تحقيق نوع من الديمقراطية الشعبية التى سيكون عليها أن تستكمل انتزاع وجودها وممارساتها وحقوقها وأدوات نضالها ضد الرأسمالية التابعة فى سبيل توسيع وتعميق الديمقراطية من أسفل فى المدى المباشر والقريب والمتوسط وفى سبيل الثورة الشيوعية الماركسية فى المدى التاريخى البعيد.
انتزعت الثورة، إذن، حرية سياسية لم يسبق لها مثيل (رغم الدستور الاستبدادى السابق والحالى واللاحق وقوانين دولة الظلم الاجتماعى) منذ ثورة 1919 والحريات النسبية التى تحققت بفضل تلك الثورة فى ظل دستور 1923، دستور الرأسمالية التابعة مع ذلك فى عهد الاحتلال البريطانى والملك، تلك الحريات النسبية التى دمَّرها انقلاب 23 يوليو 1952 بدعوى إقامة "حياة ديمقراطية سليمة"! كما حققت الثورة انتزاع الخوف من القلوب فانتزعت الحرية والمبادرة النضالية والممارسة العملية الثورية بالوسائل الثورية، وتناضل فى سبيل انتزاع وترسيخ الأحزاب المستقلة والنقابات المستقلة واستقلال الصحافة واستقلال القضاء، وفى سبيل انتزاع حقوق وحريات وممارسات مختلف أشكال الاحتجاجات الشعبية من تظاهر واعتصام وإضراب وغيرها، وفى سبيل انتزاع عدالة توزيع الثروة ورفع مستويات المعيشة وتأمين الأجور العادلة المربوطة بمؤشرات التضخم وتغيُّر الأسعار، وفى سبيل انتزاع تأمين صحى جيد وتعليم حكومى جيد. وقد حققت نضالات الثورة مكاسب أولى فعلية فى كثير من المجالات والمواقع والقطاعات الاقتصادية والإدارية والفئات الاجتماعية بفضل نضالاتها الإضرابية واحتجاجاتها العامة وتلك المسماة بالفئوية.
وما تزال الثورة تُثْبِتُ كل يوم أنها مستمرة بحيوية بالغة لتحقق أهدافها الأساسية النبيلة للطبقات العاملة والشعبية والفقيرة. ولا شك فى أن الديمقراطية الشعبية من أسفل كانت قد حققت فى البلدان الصناعية مكاسب أوسع وأعمق وبالأخص قابلة للصمود والاستمرار والرسوخ عبر القرون على حين تواجه الديمقراطية الشعبية العالم-الثالثية من أسفل صعوبات أكبر بما لا يقاس بحكم تخلف وتبعية اقتصادات وسياسات الرأسمالية التابعة.
وتتحقق مكاسب الثورة بوضوح أكبر فى مصر بالذات إلى الآن رغم أن الاقتصاد والسلطة باقيان، وسيبقيان، فى أيدى الممثلين السياسيِّين لمختلف أقسام وقطاعات الرأسمالية التابعة من عسكر وإخوان وغيرهم. وما تزال مكاسب هذه الديمقراطية من أسفل فى بدايات طريق شاق للغاية وطويل للغاية حتى بعد انتهاء الثورة "بوصفها ثورة". ولا شك فى أن العامل الأساسى الذى يغذى الثورة ويضمن استمرارها يتمثل بصورة مزدوجة فى الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية للطبقة العاملة والجماهير الشعبية والفقيرة والمزيد من نضج العناصر والقوى الثورية الحقيقية المخلصة إلى النهاية، مع الاستفادة من التناقضات والصراعات فى صفوف الثورة المضادة، فهى إضافة صافية إلى قوة الثورة لا ينبغى أن تستهين بها القوى الثورية الواعية.
الثورة الشعبية، إذن، مستمرة. ورغم منجزاتها فى كل ثورات "الربيع العربى" فإنها ما تزال فى البداية. فهل تنجح فى تحقيق أهدافها الأساسية؟ وبالطبع فإن معايير نجاح الثورات وثيقة الصلة بطبيعتها. ومن الخطأ الجسيم قياس نجاح ثورة سياسية عالم-ثالثية بمعايير ثورة "اشتراكية" مثلا أو حتى بمعايير ثورة برچوازية ديمقراطية. وقد بالغ كثيرون فى ثورتنا ورأوا فيها ثورة اجتماعية كاملة الأوصاف، وربما ثورة "اشتراكية"، ولم يفهموا مطلقا طبيعتها الأقل شأنا بضيق أفق نموذجى، بل زيَّنتْ الشوڤينية العربية والشوڤينية المصرية لأصحابها "الثوريِّين الرومانسيِّين" أوهاما فحواها أن ثورتنا سوف تُغيِّر العالم كله! ولأن الطبقة العاملة لا يمكن أن تصل إلى السلطة إلا من خلال ثورة اشتراكية (بمعنى: شيوعية) فإن تصوُّر وصول ثوراتنا إلى سلطة الدولة إنما يعكس موقفا نظريا يمينيا لأنه يريد سلطة پروليتارية فى خدمة ثورة برچوازية (رأسمالية)، أىْ: فى خدمة الرأسمالية التابعة للإمپريالية العالمية والإمپراطورية الأمريكية!
هناك بالطبع استثناء فى تاريخ النضال الاشتراكى يتمثل فى "شعار" قيادة وسلطة الطبقة العاملة فى الثورة الديمقراطية أىْ الثورة البرچوازية أو الرأسمالية منذ زمن ثورة 1905 فصاعدا. ولم يتحقق هذا الشعار فى روسيا قبل ثورة أكتوبر 1917 البلشڤية. ذلك أن ما تحقق بالفعل فى تلك الثورة ليس سوى ذلك الشعار القديم أىْ قيادة وسلطة الپروليتاريا أو ممثليها الماركسيِّين الثوريِّين فى ثورة برچوازية رأسمالية، مع تقييم طبيعتها على أنها ثورة اشتراكية. ولكن الثورة الروسية كانت ثورة سياسية فى سياق ثورة اجتماعية برچوازية رأسمالية. وما حدث فى روسيا تكرر فى بلدان أخرى أهمها الصين. وكان المصير النهائى فى كل الأحوال هو النظام الرأسمالى الحالى فى هذين البلدين وغيرهما عَبْرَ رأسمالية الدولة فيهما كليهما. ورغم الإيمان بالمصير الشيوعى المنشود للبشرية كلها فى مستقبل ما يزال بعيدا فإن من السذاجة والصبيانية أن نتوهم فى كل ثورة، مهما كانت طبيعتها العينية المحددة ومهما كانت الشروط الموضوعية والذاتية التى تحيط بها، ثورة شيوعية أو اشتراكية تؤدى إلى استيلاء الثورة على سلطة الدولة.
وإذا كانت الثورة فى منتصف الطريق، إنْ لم تكن فى أول الطريق، فإن الثورة المضادة لم تنجح، رغم مكاسبها ومنجزاتها الفعلية، فى تحقيق أهدافها الأساسية الشريرة.
ويتمثل الهدف الكبير للثورة المضادة فى إلحاق الهزيمة بالثورة وبالتالى الاستقرار الراسخ لنظام الرأسمالية التابعة. ومن الجلى أن الطبقة الرأسمالية التابعة والقوى والأحزاب والحركات التى تُمثل مختلف قطاعاتها سياسيا ما تزال بعيدة عن تحقيق هدفها الكبير بشقيْه: الهزيمة الإستراتيجية للثورة، والاستقرار الجوهرى للنظام الجديد القديم.
وكما رأينا عند الحديث عن الثورة فإنها مستمرة بحيوية هائلة بعيدا عن أن تكون فى ذمة التاريخ أو مهزومة، فالثورة المضادة لم تنجح فى هزيمة الثورة بل تقض هذه الأخيرة مضاجع الطبقة الرأسمالية التابعة وممثليها السياسيِّين من عسكر وإخوان وسلفيِّين وليبرالية يمينية متوحشة.
والاشتباك على أشدِّه فى سوريا ويعتقد أغلب المحللين السياسيِّين أن إسقاط النظام السورى صار مسألة وقت، وأنه إذا كان النظام يدمر المدن والقرى على رؤوس بنات وأبناء الشعب السورى وأطفاله وشيوخه فإن هذا الشعب يوشك على أن يدفنه.
وتجرى فى ليبيا بداية عملية تشكُّل طبقة جديدة سوف تستغرق زمنا غير قصير بحكم أن نظام القذافى ذاب تقريبا فى الهواء؛ لأنه لم يكن يقوم على طبقة رأسمالية مالكة بل على مجموعات وعصابات ومافيات وميليشيات أحاطت بحُكم الشخص وتبخَّرت معه دون أن تترك بقايا طبقية متبلورة ومترابطة وناضجة.
وفى تونس صراع على أشدِّه بين أطراف عديدة منها الإسلام السياسى لحزب النهضة، والإسلام السلفى، والقوى المدنية والعلمانية المتنوعة ومنها رئيس الجمهورية ، والقوى اليسارية والعمالية.
وتُراوح الثورة والثورة المضادة مكانهما فى اليمن دون نتائج حاسمة فى عهد خلفاء على عبد الله صالح حيث تفرض التكوينات القَبَلِيَّة منطقها على الثورة والثورة المضادة، مع دور سعودى وأمريكى حاسم تتحداه ثورة شبابية وشعبية عنيدة.
وهناك البحرين والأردن كمثليْن بارزيْن لبلديْن يحتدم فيهما صراع كبير، وهناك أيضا إرهاصات واحتمالات موريتانيا والمغرب والسودان ولبنان ما بعد نظام بشار الأسد.
وبالطبع فإن شقَّىْ الهدف الكبير للثورة المضادة متلازمان وممتزجان ومندمجان وبالتالى فإن الثورات المضادة المعنية ما تزال فى منتصف الطريق أو دون ذلك بكثير، بعيدةً تماما عن الاستقرار المنشود بل فى خضم أزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية خانقة تدل على اشتداد الأزمة الثورية فى بلدان "الربيع العربى" جميعا.
وإذا انتقلنا إلى مصر باعتبارها حالة بالغة الأهمية فى المشهد العربى الراهن بحكم وزنها السكانى وبحكم نضجها النسبى، الطبقى العمالى والرأسمالى التابع، وكذلك بحكم طريق التصفية التدريجية للثورة الذى سلكته الثورة المضادة الحاكمة؛ ببُعْد نظر آثر عدم التورط فى حرب أهلية شاملة كما فعلت العصابات الحاكمة فى ليبيا وسوريا واليمن، وذلك بفضل إدراك واضح لحقيقة أن طريق الحرب الأهلية هو أقصر طريق إلى إسقاط وتدمير وتمزيق الطبقة الحاكمة ودولتها وسلطتها ونظامها وإحلال طبقة رأسمالية تابعة جديدة محلها كما شهد التاريخ المعاصر للثورة والثورة المضادة وحتى انقلابات عسكرية مهمة غير مرة. ورغم كل جرائم قتل بنات وأبناء الشعب المصرى وثورته على نطاق واسع فقد نجحت الثورة المضادة الحاكمة فى مصر فى إنقاذ نفسها (إلى الآن) من مصير مدمر فى حالة تطور عنفها إلى حرب أهلية لا تُبْقِى ولا تذر.
وعندما تحولت الثورة الشبابية فى مصر إلى ثورة سياسية شعبية بفضل انضمام الجماهير العاملة والشعبية والفقيرة المدينية إليها بعشرات الملايين، وفى غياب ثورة ريفية فلاحية بالطبع، أجبرت الثورة الشعبية المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية على البحث عن طريقة فعالة للالتفاف حول مطلبها الأساسى المتمثل فى إسقاط النظام بالبدء بالإطاحة بالرئيس مبارك عن طريق انقلاب عسكرى يستمدّ شرعيته من تفويض من نفس الرئيس الذى كان يجرى خلعه فى لحظة خلعه!، فكان انقلابَ قصرٍ ناجحًا أرجع الثوار إلى منازلهم فى تلك اللحظة الفارقة. وبعد الأيام القليلة الأولى للثورة دخل الإسلام السياسى بقيادة الإخوان المسلمين على الخط. وقد انضموا إلى المظاهرات والاعتصامات عندما اطمأنوا إلى أنهم إزاء ثورة شعبية كبرى تستطيع حمايتهم. وقبل تنحية الرئيس مبارك دخلوا فى مفاوضات معه من خلال مدير مخابراته عمر سليمان تحددت من خلالها أسس تحالفهم اللاحق (القائم إلى الآن والذى لم يستبعد صراعا لاحقا رغم التحالف) مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وبفضل هذا التحالف تحقق (منذ التعديلات الدستورية والإعلان الدستورى التأسيسى) الأساس الدستورى القانونى التشريعى لشرعية حكم المجلس الأعلى، وشرعية الاستفتاءات والانتخابات الپرلمانية والرئاسية، وشرعية الرئيس الإخوانى الحالى التابع لجماعة الإخوان المسلمين ومرشدها تبعية السَّمع والطاعة، كما تم توجيه الضربات ضد قوى الثورة وقد شملت مذابح مروِّعة واستخدام أساليب جهنمية ستبقى عارا على النظام المصرى القائم إلى الآن بشقَّيْه العسكرىّ والدينىّ الإسلامىّ الإخوانى. ورغم ما يبدو على سطح قرارات رئيس الجمهورية فى 12 سپتمبر 2012 والإطاحة بقمة قيادة المجلس الأعلى وبالإعلان الدستورى المكمل فإن السيطرة الفعلية باقية لهذا المجلس، ما لم تتحول مصر، لا قدَّر الله، إلى دولة دينية وهذا احتمال ما تزال تقاومه الثورة.
ذلك أن الإخوان المسلمين وحلفاءهم السلفيّين والوهابيِّين نجحوا، كما نجح العسكر من قبلهم، بالترويع والمذابح بمباركة الإخوان المسلمين والإسلام السياسى ككل، فى كسب عداء الشعب، والمجتمع، والقوى السياسية، والمثقفين، والصحافة، والإعلام، والقضاء بمختلف مستوياته وعلى رأسها المحكمة الدستورية العليا، وكذلك فئات حاسمة فى المجتمع كالموظفين والأطباء والمعلمين والمحامين وغيرهم، وبالأخص عداء القوة الحاسمة فى الثورة: الطبقة العاملة والجماهير الشعبية والفقيرة. ذلك أن الثورة إنما هى ثورتها بحكم أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية المتردية بصورة لا توصف؛ ليس بوصفها طبقة عاملة لذاتها، ومتحررة من سيطرة الأيديولوچيا الإسلامية السياسية، وتناضل فى سبيل ثورة شيوعية فى بلد يحمل فى رحمه جنين مجتمع جديد شيوعى، بل بوصفها طبقة فى ذاتها تعانى الاستغلال الوحشى، وتقع فريسة متلازمة الفقر والجهل والمرض. ولا ينبغى أن يتصور أحد أن الطبقة العاملة والجماهير الشعبية والفقيرة سوف تتخلى عن أهدافها ومطالبها التى تلخصها شعارات الثورة: "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية".
وتتمثل سمة اللحظة السياسية الراهنة من جهة فى أن الثورة لم تُهزَم بل حققت منجزات كبيرة على طريق انتصار الثورة لكنها لم تنتصر بعدُ بصورة راسخة، وتتمثل من جهة أخرى فى أن الثورة المضادة حققت، رغم فشلها فى القضاء على نضالات الثورة المستمرة، منجزات مهمة على طريق إنقاذ النظام الرأسمالى التابع بصورة مستقرة وراسخة، لكنها لم تنجح بعدُ فى الخروج الآمن من "أزمة" الثورة، بسبب الطاقات الكبرى المتواصلة التجدُّد للثورة السياسية الشعبية، عاجزة عن تلبية أىّ قدر مهم من أهداف الثورة فى العدالة الاجتماعية والحرية، فى إطار اقتصاد رأسمالى تابع للإمپريالية وخاضع لإملاءاتها ويعانى بالتبعية من الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التى تمسك بخناق مراكز الرأسمالية العالمية.
وإذا أدركنا أننا لسنا إزاء ثورة عمالية شيوعية أو حتى ثورة برچوازية ديمقراطية بالمعنى الحقيقى وهى الثورة التى تُحَقِّق الاقتصاد وسلطة الدولة للبرچوازية (فى إطار نظام رأسمالى)، وتُحَقِّق الديمقراطية من أسفل للطبقة العاملة والجماهير الشعبية والقوى الثقافية والفكرية والعلمية الحية الخلاقة فى المجتمع (كما كانت الثورة الفرنسية الكبرى)، بل إزاء ثورة شعبية سياسية ديمقراطية عالم-ثالثية لا تحقق بحكم طبيعتها سوى الديمقراطية الشعبية من أسفل رغم بقاء الاقتصاد والسلطة فى أيدى الرأسمالية التابعة للإمپريالية وممثليها السياسيِّين، مع إبقاء آفاق مفتوحة أمام تطورات مستقبلية تاريخية قد تجلبها معها تطورات محلية، وإقليمية، و – بالأخص – عالمية تاريخية غير مرئية فى الوقت الحالى.
وهنا سرٌّ مهم من أسرار الثورات: عندما تتفجر ثورة سياسية شعبية ديمقراطية (وليست ثورة شيوعية ناضجة فى شروطها الموضوعية والذاتية) فى بلد رأسمالى متقدم مستقر بوصفه كذلك أو فى بلد رأسمالى تابع مستقر بوصفه كذلك أيضا، فإن الثورة يمكن أن تنجح (وتنجح بالفعل على الأرجح) فى تحقيق وحماية وتطوير وتوسيع الديمقراطية من أسفل غير أن النظام الاجتماعى الاقتصادى يبقى فى الاقتصاد والسلطة كما كان مهما قدَّم من تنازلات أمام الثورة. والحقيقة أنه لا وجود فى التاريخ الطبقى للبشرية كلها شيء من قبيل الديمقراطية من أعلى ممثلة فى صميم البنيان السياسى للدولة التى هى بطبيعتها النقيض المباشر للديمقراطية. وتتمثل الديمقراطية الوحيدة فى كل مكان فى الديمقراطية الشعبية من أسفل.
والحقيقة أن انتقال سلطة الدولة إلى طبقة جديدة يرتبط ارتباطا وثيقا لا ينفصم بوجود ثورة سياسية فى سياق ثورة اجتماعية تُحَقِّق إما نقل السلطة إلى هذه الطبقة التى كان المجتمع القديم حاملا بها وبالرأسمالية التى تطورت معها فى إطار مجتمع انتقالى (الثورة الفرنسية مثلا)، وإما قيام السلطة الجديدة بتشكيل طبقة جديدة استغلالية تسيطر فى النهاية على الاقتصاد والسلطة (كما حدث فى روسيا والصين). كما أن استيلاء قوى جديدة على سلطة الدولة فى بلد من البلدان يشترط ثورة سياسية أو انقلابا عسكريا كبيرا، وفى الحالتين يكون الاستيلاء على السلطة مسألة مادية عسكرية سواء فى حالة ثورة سياسية شعبية كبرى تهزم الطبقة الحاكمة ودولتها وقواتها ونظامها (الثورة الفرنسية مثلا مرة أخرى)، أو فى حالة انقلاب عسكرى كبير تتمثل فيه بحكم طبيعته ذاتها القوة المادية العسكرية اللازمة للاستيلاء على السلطة، حيث تقوم تلك القوة المادية العسكرية بتكوين طبقة استغلالية جديدة (كما شهدت مصر من خلال انقلاب 1952 العسكرى).
ولكل هذا فإن الاحتمال الأرجح يتمثل فى أن تتحقق مفارقة انتصار الثورة بنجاحها فى تحقيق وترسيخ الديمقراطية الشعبية من أسفل، وانتصار الثورة المضادة فى إنقاذ نظامها الرأسمالى التابع للإمپريالية وللإمپراطورية، ويتمثل، بعبارة واحدة، فى ألَّا تهزم الثورة نفسها بالسير وراء أحزاب وحركات ممثِّلة سياسيا لأقسام عسكرية أو إسلامية أو ليبرالية من نفس الطبقة الرأسمالية التابعة، وفى ألَّا تنجح الثورة المضادة بطبقتها ودولتها ونظامها وأحزابها الليبرالية اليمينية، وبمهادنة قوًى يسارية، وبحلفائها المحليِّين والإقليميِّين والعالميِّين، فى سحق الثورة الشعبية وحرمانها من تحقيق كل أو معظم أهدافها الأساسية!



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة 25 يناير - مقالات النصف الثانى من 2012
- تحالفات الإخوان المسلمين وأوهام الديمقراطية
- عربدة فى قمة السلطة.. الاستفتاء والدستور ومجلس الشورى ومجلس ...
- السلطة التشريعية فى مصر بين الأسطورة والحقيقة بقلم: خليل كلف ...
- الاستفتاء مصيدة خبيثة.. مقاطعة الاستفتاء من ضرورات إنقاذ الث ...
- الثورة تتسع وتتعمَّق والحركة الجماهيرية تتجاوز قيادات جبهة ا ...
- الكتب معرفة ومتعة - الجزء الثالث
- إلغاء الإعلان الدستورى إلغاء مشروع الدستور مقاطعة الاستفتاء. ...
- يسقط حكم المرشد.. والتراجع كارثة
- الكتب معرفة ومتعة - الجزء الثانى
- الكتب معرفة ومتعة - كتاب إلكترونى 1
- ادوار الخراط وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى مقال عن مجموعة قص ...
- عملية -عَمُود السَّحَاب- وأقدار مصر وسيناء وغزة بقلم: خليل ك ...
- روبرت ڤالزر (مقالان: 1: سوزان سونتاج، 2: كريستوفر ميدل ...
- كتاب سيد عويس: التاريخ الذى أحمله على ظهرى
- غزة وما بعد غزة
- بعيدا عن تأسيسية الدستور ودستور التأسيسية ضرورة الإطاحة السل ...
- كيف كتب دوستويڤسكى رواية الجريمة والعقاب؟ -إعادة قراءة ...
- مارسيل پروست (مقالان: مقال: أناتولى لوناتشارسكى، ومقال: أندر ...
- مصر وبلاد النوبة تأليف: والتر إمرى، ترجمة: تحفة حندوسة مقدمة ...


المزيد.....




- أحدها ملطخ بدماء.. خيول عسكرية تعدو طليقة بدون فرسان في وسط ...
- -أمل جديد- لعلاج آثار التعرض للصدمات النفسية في الصغر
- شويغو يزور قاعدة فضائية ويعلن عزم موسكو إجراء 3 عمليات إطلاق ...
- الولايات المتحدة تدعو العراق إلى حماية القوات الأمريكية بعد ...
- ملك مصر السابق يعود لقصره في الإسكندرية!
- إعلام عبري: استقالة هاليفا قد تؤدي إلى استقالة رئيس الأركان ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: الولايات المتحدة تبارك السرقة وتدو ...
- دعم عسكري أمريكي لأوكرانيا وإسرائيل.. تأجيج للحروب في العالم ...
- لم شمل 33 طفلا مع عائلاتهم في روسيا وأوكرانيا بوساطة قطرية
- الجيش الإسرائيلي ينشر مقطع فيديو يوثق غارات عنيفة على جنوب ل ...


المزيد.....

- كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل ... / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان / سيد صديق
- تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ ... / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- المثقف العضوي و الثورة / عبد الله ميرغني محمد أحمد
- الناصرية فى الثورة المضادة / عادل العمري
- العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967 / عادل العمري
- المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال ... / منى أباظة
- لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية / مزن النّيل
- عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر / مجموعة النداء بالتغيير
- قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال ... / إلهامي الميرغني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان - خليل كلفت - الاحتمال الأرجح: مفارقة انتصار الثورات والثورات المضادة فى -الربيع العربى-!