أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عفيف إسماعيل - صور شعبيّة.. وقسم السّيد أدفريني*















المزيد.....


صور شعبيّة.. وقسم السّيد أدفريني*


عفيف إسماعيل

الحوار المتمدن-العدد: 3963 - 2013 / 1 / 5 - 09:06
المحور: الادب والفن
    


المكان: مدينة الحصاحيصا، ستديو الحصاحيصا
الزمان: النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي
......
كنتُ بالغرفة الصغيرة المظلمة التي تُسمَّى "المعمل" في الجزء الخلفيّ من الأستديو، أعالج المرحلة الأخيرة من تظهير صورة لزبون سوف يحضر بعد عشر دقائق، حين سمعتُ ذاك الصوت المألوف ينادي:
- أهل الدار.. سلام عليكم.
- مَرْحَب بيك.. اتفضَّل دقائق بس وأكون معاك.
- يا عفيف يا أخي نِحْنا جاينَّك من آخر الدنيا تقول لي دقائق!.
أدركتُ أنني أعرف صاحب هذا الصوت معرفة وثيقة، سريعاً طُفْت بكل الملفّات الصوتية في ذهني لعلِّي أجد صوتاً يطابق صورةً لشخصٍ أعرفه، لم يَهْتَدِ ذهني الذي كان مشغولاً باللحظة الفاصلة التي تَظهر بها ملامح صورة الزبون بتدرُّج الظلال على ورق التصوير، تلك هي اللحظة المفصلية التي تحدِّد جودة الصورة وصلاحيتها للأوراق الثبوتية، إن بقيَت ثوانٍ أخرى في المحلول سوف تسوَدّ تماماً حين تعالى الصوت مرة أخرى:
- يا عفيف نمشي ولا شنو يعني؟.
- لحظة واحدة بس.
على حوض محلول التثبيت رميتُ بالصورة وقد اكتملَت ملامحها السمراء وهي تفتعل الجدية المطلوبة التي تليق بصورة لاستخراج الجنسية السودانية. غسلتُ يدي سريعاً، وخرجتُ إلى صالة الاستقبال بالأستديو، لأجده واقفاً مُمسكاً بِعصاهُ المعقوفةِ في يده اليمنى، ويرتدي جلباباً أبيضَ ناصعاً، وابتسامة أشدّ بياضاً من ذاك الجلباب، وعينان تطلّ منهما شقاوةٌ طفوليةٌ، ومرحٌ مشاكسٌ، وبيده الأخرى كان يتأكَّد من أن عمامته البيضاء في مكانها الطبيعي.
- هكذا -
كأنه خارجٌ للتوّ من برنامجه الشهير "صُور شعبية"، وجدتُ الأستاذ الطيب محمد الطيب يقف أمامي باسماً، مثل نبيٍّ يَوَدُّ أن يُبلغ رسالةً إلى ضَالٍّ شَريد، ويمدّ يده لمصافحتي باسْمِي، وأنا أردِّد كلمات الترحيب الدائرية بارتباكٍ ظاهر. كان ذهني مشغولاً بأنني لا أعرف الرجل معرفةً شخصيةً، ولم ألتقِ به من قبل أبداً في حياتي!!، ولم أرَه من قبل إلا على شاشة التلفزيون؛ حيث يستطيع أن يخلب ألبابَ كلّ مشاهديه المتحلِّقين حول التلفاز لمشاهدة برنامجه الشهير "صُور شعبية"، ويناديني باسْمِي كأني صديقٌ حميمٌ له.
لم تَطُل حيرتي حين سمعتُ من خلفه ضحكاتٍ مكتومةً تحوَّلت إلى قهقهة صاخبة، تبينتُ صاحبَها قبل أن أراه، وهو صديقي محمد أحمد الفيلابي، الذي انفجر بضحكته، تلك التي تشبه صوت مغنِّي أوبرا من فصيلة التينور، وهو يؤدِّي إحدى النوتات العالية للحظة عشقيّة، وتعانقنا، وقال من غير أن يضيف لقب الأستاذ:
- طبعاً دا الطيب محمد الطيب ما محتاج لتعريف!، على فكرة هو مؤلِّف ومُخرج ومُمثل هذا الموقف الدرامي الذي مثَّله أمامك قبل قليل، عشان تعرف إنو عندو مواهب تانية داسِّيها من الشعب السوداني.
ضحكنا، وقال الأستاذ الطيب محمد الطيب:
- ونِحْنا ماشِّين للدِّنْدِر قبل يومين، مَعَانا مجموعة من الشباب من الجمعية السودانية لحماية البيئة، ومِن ما وصلنا الكاملين لسانهم ما وقف من سِيرتك، وكانوا دايرين يغْشُوك، حتى ولو لي خمس دقائق، لكن أنا حسمتهم ليك، قلت ليهم الزّول البتتكلَّموا عنو دا خمس دقائق ما بتَمْرُقكم منو ونحنا أصلاً متأخِّرين أكثر من ساعة. آها.. ونحنا جنب "ود الفادني" راجعين، أخوك دا "ووضع يده بحنُوّ على كتف الفيلابي" بدا يترجم زي الدرويش، وأنا ما فارِز من كلامو غير عفيف.. الحصاحيصا.. عفيف.. الحصاحيصا. آها.. قلت النَّشوف عفيف الجن دا للزمان البِيعرفوه الناس البَعرفهم كلهم وأنا ما بعرفوا. وبعدين بيني بينك أنا عارف إنو الحصاحيصا دي فيها "فُولا" سمحة ما تتفوَّت، آها ..قلنا نَجِي نغشاك ونفطر معاك، آها.. قصَّرنا معاك.
- ممكن نجيب سمك، وحاجات تانية مع الفول.
- فول بس ما مكسور، وعليهو زيت سمسم وشَمار وتوم وحبة جبنة، وكان في بصلة وزيت سمسم إضافي من الدكان يكون كتَّر خيرك.
- جداً.. في سمن بلدي في الدكان القريب دا!.
- سمن.. سمن خلي الكولسترول الـ"......" أم أهلنا ذاتو.
جلس الأستاذ الطيب محمد الطيب على الكرسي المقابل لباب الأستديو، وصديقي محمد أحمد الفيلابي بصخبه المعهود وعشقه اللامحدود لخلق لحظات مفرحة غارقة في الحنين ويسألني عن الأصدقاء المشتركين، وينقل إليّ أخبار بعضهم أيضاً، ونحن نتسامر عن حكاياتنا مع صديقنا المشترك أيوب مصطفى وأخباره في البلاد البعيدة "التي تموت من البرد حيتانها"، لاحظتُ مشهداً تكرَّر أكثر من مرة؛ وهو أن العابرين من أمام الأستديو كانوا بعد أن يعبروا البابَ قليلاً يعودون بخطواتٍ بطيئة تُشبه رقصة مشية مايكل جاكسون على القمر ليتحقَّقوا مما رأته أعينهم، هل هو حقاً الأستاذ الطيب محمد الطيب أم شُبّه لهم؟!
نظرتُ إلى الأستاذ الطيب محمد الطيب، كأنه قرأ ما يدور في ذهني وقال:
- أقيفْ بَطَيِّرُم ليك هسَّع!
قال ذلك وخلع عمامته الكبيرة ووضعها بين ركبتيه، فبانت تلك الصلعة التي زادته وقاراً على وقار. وانقطع سيل الراجعين القهقهرى لرؤية صاحب الصور الشعبية.
- آها.. إنت من وين يا عفيف؟.
- أنا اتولدْتَ في الحصاحيصا.
- أقصد عَقابك، أُمك أبوك وجدودك؟.
- أمّي اتولدَتْ في الحصاحيصا برضو، لكن أبوي اتولد في شرق الله البارد.
- وين في شرق الله؟.
- شرق تمبول، ود أب شام.
فرفع يديه وسبابته تماماً مثلما تفعل جدتي، وصار يطوِّحهما مرةً ذات اليمين ومرةً ذات اليسار ويردِّد:
- يا أب شام.. ورا وقدّام.. يا أب شام.. ورا وقدّام، تعرف ود أب شام دي إنْدَايَتها كانت ملتقي لكثير من الحكايات العظيمة في تاريخ البُطَانة، وعندها مكانة خاصة عند أهلك الهَمْبَاتَة.
- هل زُرت ود أب شام من قبل؟.
فجأة انسحبت ابتسامته المتسامحة، واكتسَت كلّ ملامح وجهه بحزنِ مَن تلقَّى خبراً فاجعاً، وطاف دمعٌ شفيف بعينيه، وصار ينظر بعيداً كأنه يرى مشاهد موجعة تمرّ أمامه وقال:
- تعرف آخر مرّة زُرتها من زمن بعيد جداً، أظنّك الزمن داك كنتَ لسَّه حايم بلباسك وبتلعب بالتَّرْتَار. ذهبت إليها مع الفنان الشعبي قسم السيد أدُفِريني عندما كنت أحقِّق كتاب "الإندَايَة"، ولولاه لما تمّ هذا الكتاب. تعرف قسم السيد دا فنان فريد عصرو، ما لقي البيأرِّخ لحياتو وفنو، كان هو دليلي الموثوق لكل الأنادِي بالجزيرة. تلك رحلة لا توصف، ولا يجود الزمان بمثلها، مع تلك الرفقة الممتعة والملهمة لقسم السيد أدُفِريني. قسَماً عظَماً داك كان طرب فريد من نوعو، ونشوة لا تضاهيها أي نشوة أخرى، لا أحد يعرفني في كل تلك الأماكن، لكن كلهم كانوا يعرفون قسم السيد أدُفِريني وأغنياته ويحتفون بوصوله بشكل خاص بنحر الخرفان والعتان، يضيفونه ببِكري المشروبات الزاهية، يكرِّمونني مثله تماماً، ولا أحد يطالبه بأن يدفع مليماً واحداً، ذاك المغنِّي الفذّ لا يجود الزمان بمثله مرتين، وكان يؤلِّف الألحان والأغنيات في الحماسة والعشق، والفروسية، والمناحات، والحكايات الشعبية الخالدة وحكايات أسفل المدينة عفو الخاطر وكما البرق تتوارد إليه المعاني والأنغام كأنّ هناك مَن يُمليها عليه من مكان ما. وأيضاً يحفظ الدُّوْبِيت والأغنيات القديمة والجديدة والحكايات الشعبية الأسطورية ويرويها. دا كلُّو كُوم، وعزفو على الدلُّوكة كوم تاني، دا بسوِّي بيها البِدَع عديل كدا!. للأسف لقد ضاعت أغلب أغنياته، دي الحقيقة المفجعة، هو أحد الذين ساهموا بشكل واضح في المحافظة على الكتير من أغنيات التراث. هدر ساكت راحت معظم أغانياته الخاصة الما بتُعَوَّض أبداً!.
من أطراف الذاكرة تشكَّلَت في ذهني تلك الصورة البعيدة، لرجلٍ تُميِّزه سُمرته اللامعة، وقامته الفارعة، وجسده المُمتلئ، ووجهه البشوش الذي تضحك معه شلوخه الثلاثة. تذكرتُ ظهوره المتباعد في الحيّ، كنتُ أراه أحياناً عائداً بعد نهاية يوم عمل شاقّ في محالج الحصاحيصا مع جدي عبد الله خير السيد، والعم إبراهيم هنداوي أو نائماً بعمق في ديوان الجدّ آدم محمد آدم "ود آدم". كنا نتحلَّق حوله لنرى الرجل الذي ينام مبتسماً.
تذكرتُ عندما كنتُ في السابعة من العمر، كنتُ مُغرماً بسماع أصوات الآلات الإيقاعية التي يجود بها ليل الحصاحيصا القديم في تنوُّعه الفريد كسودان مصغَّر، لكن أكثر الإيقاعات التي كانت تشدُّني تلك التي تُعزف أحياناً بعد منتصف النهار وتحملها الرياح إليَّ من إنداية "نَسمّا"، أو من "ربع الخراب" أو من أعراس المدينة، وأحياناً أسمع ذات الإيقاعات عندما أزور جدي في الحلة الجديدة آتية من ضفة النيل الأزرق، حيث يقبع منفرداً ذاك المكان الذي يُسمَّى " الجَوْ" الذي حذَّرَني جدي من الاقتراب منه لاصطياد الأسماك أو السباحة أو لأيّ سبب كان، وأن لا أقترب من هذا المكان عند زيارة مزار سيدي الحسن مع جدتي الذي لا يبعد عن "الجو" كثيراً، وكانت تشدّني إلى ذاك المسيد رائحة البخور النديّة التي يعبق بها المكان في كل الأوقات، وكراماته التي تتجلّى لي دائماً في العُملات المعدنية الكثيرة المدفونة تحت الرمال، برغم حرارة دعاء جدتي الصادق للحسن السابق قولة "يا"، إلا إنها تعود خاوية اليدين، وأعود بثروة صغيرة تكفي لحقّ التسالي والفول والسِّمسمية، وقد تفيض لشراء ضَرَّاب نياش مجرَّب من البلِّي من أصدقاء شلة اللعب بابكر عبد الرازق أو دبوا أو عصام البابا لم أستطع أن أفوز به من خلال الرهان. كانت تَعَرِيفَات سيدي الحسن كافية لإتمام الصفقة بلا جدال طويل، وتلك كرامة أخرى لا تعرفها جدتي.
وكنتُ أُلاحظ عندما يجيء بوليس السَّوَاري مُمتطياً حصانه و يصفِّر تلك الصافرة المزعجة التي يفوح منها أمرٌ صارمٌ وعنجهيةٌ أكثر من صافرة حُكام كرة القدم وتمتدّ لمدة أطول حتى يسمعها كلّ سكان المدينة الصغيرة في ذاك الأوان، ما إن تنتهي تلك الصافرة المزعجة، حتى تتوقَّف كل تلك الإيقاعات الطروبة الآتية من ناحية "الجَوْ"، ومنذ ذاك الزمان ارتبط عندي أن ظهور العساكر يعني نهاية الأشياء الممتعة والجميلة. ووجدتُ تفسيراً مُقنعاً لمعنى جُملة "هادم اللذّات" الغميسة.
كنت أزور بيت جدي كل يوم جمعة للاستماع عن قرب إلى تلك الإيقاعات النادرة، كنتُ أميّز اختلاف عازفيها، وكانت تستبدّ بي النشوة حين استمع إلى ذاك العازف بإيقاعاته الطروبة، وهو يعزف إيقاعَي السِّيرة والتُّمْ تُم الخفيف، وما إن يبدأ حتى تتعالَى معه تأوُّهات المتحلِّقين حوله الحارَّة، كأنهم على مرمى جدار مني، وتبدا العرضة الما خمج التي أسمع دبكة أرجلها المتناغمة مع تلك الصيحات الحماسية هع هيع.. هع هيع ، وكان ذاك يَحدث أحياناً في نهارات "إنْدَايَة نَسمّا"، التي لا تبعد كثيراً عن الحي الأوسط الذى نسكنه بوسط المدينة، حيث كانت تحتلّ ذاك الخلاء الواسع، بعد سينما الحصاحيصا وبين الحلة الجديدة، ومساكن عُمال كمبو المحالج. كانت "إنداية نَسمّا" تقف وحدها مثل دير مقدّس في ذاك الخلاء.
ذاتَ نهارٍ في نهايات الخريف، وصَهْد الدَّرَت يفرض سكونه علي حركة كل الكائينات الحية، عُدتُ من المدرسة في عامي الأول بها، ففتحتُ باب السُّنُط بصريره المميّز، الذي نبَّهَ أمي لحضوري، أتاني صوتها من خلف التُّكُل محمَّلاً برائحة دخان العُوَاسَة الخانق، وعبق الفِيْتَرِيْيَة المخمَّر الذي تَصنع منه كِسْرَتها، وهي تُنبِّهني بأن أطبِّق ملابس المدرسة جيداً، وأن أضع شنطة الكتب في مكانها. بلامبالاةٍ رميتُ بشنطة الدَّمُّوريَّة بكرَّاساتها القليلة من كتفي على الأرض، وخلعتُ القميص والرّداء المدرسي ورميتُهما على عنقريب خالٍ من اللِّحَاف، وتخلَّصتُ من "الشّدّة البيضاء" كلّ فَرْدَة في مكان، وسرتُ إلى المَزْيَرَة التي تتوسَّط الحُوش الواسع بأزْيَارها الثلاثة، كان لي كوبٌ خاصٌّ أضَعُه تحت الزِّير الصغير في كلّ الأوقات ليتجمَّع فيه ماء النُّقَّاع البارد، ويا ويل مَن يسطو على ذاك الكوب.
كان ذهني يُعاظل كيفية صناعة أفضل الفخاخ للطيور التي تأتي فقط مع نهايات فصل الخريف، فجأة سمعتُ تلك الإيقاعات الطروبة "تُمْ تُمْ" خفيف به مسحة إثيوبية، كأنها قادمة من بيت الجيران، فخرجتُ مُسرعاً كي أدرك مكانها، تعالَى مرةً أخرى صرير باب السُّنط، سبقتُ صوت أمي قبل أن يسأل عن مَن القادم، وقلتُ لها بصوت عالٍ مليء بالهمّة:
- بَقْفِل في الباب من الغَنَم.
ونلتُ تقريظة لم أتبيَّن كل كلماتها سمعتُ فقط خواتمها:
- إنتَ تتبارك يابا.
وخرجتُ لم أنتبه إلى ذلك السّروال القصير الذي كنتُ أرتديه، ولا إلى تلك الفنيلة بلا أكمام، ولا إلى رجليّ الحافيتين، تلفتُّ يميناً ويساراً، كان الشارع خالياً تماماَ من المارّة، إلا من عثمان طه يجلس في بَرَندة دكانه. بوصلة الإيقاعات كانت تشدّني آتيةً من شمال المدينة؛ حيث "إنْدَايَة نَسمّا". كانت لقوة الإيقاعات وحماسها وآهات المتحلِّقين حولها مغنطيسيّتها الخاصة التي جعلتني لا أفكِّر بغيرها، لم تترك مجالاً لكلّ التحذيرات من الاقتراب من ذلك المكان. كانت المعضلة كيف سأعبر عثمان طه الجالس في برندة دكانه من غير أن يسألني وجهتي، وكان هو قد وَجد مَهامّ للجريدة التي انتهى من قراءتها، وصار يهشّ بها الذباب، ويحرِّك بها الهواء قليلاً، بعد أن توقفت مروحة سقف دكانه وصارت مثل أذرُع عملاقة لكائن خرافي، أخذتُ حَجراً صغيراً، وضممتُ يدي علية بقوة، كأنني أخشي على عملة معدنية من السقوط، ومررتُ قربه، ولوَّحت له بيدي المضمومة، بخطوات واثقة كأنني ذاهبٌ إلى دكان عم مالك جهينة الغسَّال الذي يليه:
- أزيّك يا عم عثمان.
- أهلاً وسهلاً يا ولدي.
عبرتُ مُسرعاً دكان مالك جهينة، ومهرولاً عبرت زقاق اللذة، ثم سينما الحصاحيصا لصاحبها علي دنقلا، وكان التُّمْ تُم الراقص يحتلّ كلّ مسام الفضاء والخلاء الواسع بين السينما وإنْدَاية "نسما" إنطلقت مثل إعصار، تجذبني تلك الإيقاعات الحارّة، ووقفتُ عند باب السُّنُط الموارب الذي يسمح بدخول شخص واحد، ألصقتُ عيني بأحد الشقوق العديدة بالباب، ورأيتُ ذاك العازف يدقُّ دَلُّوكة شكلها غريب جداً، مزيّنة حوافها بزخارف عديدة، وفخارها يبدو لامعاً، وأصابع العازف الرشيقة تمسّها مَساً ساحراً، جعل تلك الدائرة المتحلِّقة حوله تذوب في نشوة الطرب، ويُخرجون تلك الأصوات المُلتاعة، وهناك من يجعر مثل مثكول، ويعانق عازف الإيقاع حتى كاد أن يشغله عن عزفه، وعندما تخلَّص المغنِّي من هذا المعجَب المتيَّم رفَع رأسه، وأدار وجهه، فرأيتُ تلك الشلوخ النائرة تبتسم تحت ضوء الظهيرة، فتعرَّفت على صاحبها، وسط دهشتي، بأنه هو عم قسم السيد أدُفِريني الواحد دا البعرفو، الذي لم أعرفه مغنّياً مِن قبل، هو ملك كل لحظات الطرب والنشوة التي كانت تتسرَّب إليّ من بعيد، وشغلتني كثيراً أزماناً طويلة إيقاعاته الملتهبة، وسرَّبت لي متعة خالصة، ثم رفع المغنّي قسم السيد أدُفِريني وجهه إلى أعلى وصار يشدو بصوتٍ كأنه استلفه من مزمار رعويّ، وازداد الهياج، وتعالى التصفيق، استبدَّت النشوة به، فصار يعزف الدَّلُّوكَة بكُوعه الأيمن تارةً، وبكوعه الأيسر تارةً، ومرّات بجبهته، وأحياناً بأسفل الحَنَك من غير أن يختلّ الإيقاع "التُّمْ تُم" الراقص، وكانت تلك أعلى ذروات المشهد، حين صار صوت الجميع يردِّد مفردة واحدة وهي "وُووب.. وُووب.. وُووب" بتنغيم به كثيرٌ من الأوجاع وكثيرٌ من الطرب. وصرتُ أردِّد معهم: "وُووب.. وُووب..وُووب".
كانت روائح عديدة تطوف بأنفي بتنوُّعها، أكثرها وضوحاً رائحة المُشُك الثاقبة، وروث البهائم، وصُنَان البول الخانق يستعرُ مع زنقة نصّ النهار، ورائحة نارية لشطة قبانيت ودمعة ضان في آخر مراحل نضوجها وقدحة توم آتية من جهة الكمبو وبخور لطيف لا أدري كيف تسرَّب إلى أنفي وسط كل هذا العطن، فجأة أتت رائحة شواء مستبدّة احتلّت اللحظة، كان هناك في طرف الرَّاكُوبة أحدهم يرتدي عَرَّاقي قصير جداً، ويهزّ ردفيه برقصٍ بديعٍ متناغم مع التُّمْ تُم، وهو يرمي باللحم في كانون كبير ملتهب الجمرات، ويردِّد: "وُووب..وُووب.."، وقربه امرأة في منتصف عمرها وسيمة الملامح مشرقة الإبتسامة تساعده وهي وتعد سلطة خظروات قوامها البصل الأخضر والطماطم والتبش، وعلي صحن آخر أم فتفت ومراره يتلامع فشفاشها مثل كنز من المجوهرات تحت الشمس، وعلي صحن طلس مطرقع الأطراف كمية كبيرة من البصل الكسلاوي متبل بالشطة والليمون.
ظننتُ أنني رأيت شبحاً يخرج من الباب، ولم أكترث لذلك كثيراً، وظللتُ أردد: "وُووب.. وُووب.. وُووب"، فجأة انتبهتُ إلى صوت نشاز يأتي من خريرٍ غليظٍ قربي، فالتفتُّ لأجد عينَي عمي "......" يتطاير منها الشّرر وهو ينظر إليّ صارخاً:
- الشريف.. الجابك هنا شنو؟، الليلة الله قال بقولك،
"الشريف" هو الاسم الذي يناديني به جدّي عبد الله خير السيد و كل كبار العائلة.
تسمَّرَت خطواتي، أصابني شلل مباغت. كانت المدّة التي أفرَغ فيها مثانته كفيلة بأن أهرب من أمامه وأختبئ في آخر مكان في الدنيا، هل شرب برميلاً كاملاً من المَرِيسة؟، أشفقت على الحائط الطيني من الانهيار، وظننتُ أنه سوف يظل يبول بلا توقف حتى غروب الشمس أو تتعطل مثانته عن هذا الضخ المتواصل، تسمَّرَت خطواتي، شلل مباغت أصابَ كل مفاصلي، نظرات عمي النارية تثقب وجهي، وخريره الشلالي يقيّد خطواتي ويثقل بدني مثل كابوس، "وُووب.. وُووب" صارت بعيدة، كأنها آتية من جوف بئر، معها نقرات قسم السيد أدُفِريني الطروبة. أفقتُ على صفعةٍ تنهال على خدّي الأيمن، وتطرحني أرضاً، ويدٌ تشدّني من أذني وتنهال بسيلٍ من التوبيخ الثقيل، ظننتُ المسافة التي قطعتُها قبل قليل في خمس دقائق، من بيتنا إلى إنْدَاية "نَسمّا" صارت أطول من مليون ميل. لا أدري كم من الصفعات نلتُ في ذاك اليوم في بيتنا العامر بالأسرة الممتدّة، حتى الجيران الذين سمعوا بالحكاية لم أسلَم من لدغات ألسنتهم، وسياط أشجار النيم النارية وسيور المحافظ الجلدية، وتلسعني تلك القرصات ذات اللدغات الحارقة في منتصف الظهر التي لا مجال لحَكّها التي خصَّصتها لي الخالات والعمّات والجارات بغير رأفة مشفوعة بـ: "أحَّيْييييييييييييييي" الممطوطة التي تكاد أن تنزع قطعة من جلدي معها.
ضمّتني جارتنا الطيّبة مريم طويل إلى حضنها، وصاحت بالنساء بصوتها الصارم:
- خلاص كفاية، الولد دا كملتَن لحمو، أصلو هو عمل شنو؟
نبَتَ لي لسانٌ بعد أن وجدتُ الحماية والحصانة الكاملة وأفضل شروط اللجوء الأُسَري الذي وفّرته لي الخالة مريم طويل:
- أصلو أنا عملتَ شنو عشان كلّكم تدقّوني كدا؟! حقّو تدقّوا عمّي كمان لأنو كان جوه الإنداية!، هسَّع وينو؟! هو بكون رجع تاني هناك.
- أسكت، سَكَتْ حِسَّك.
- كمان ببول الشارع!.
- أجِيْ يا بنات أمي!.
- وبجي البيت كل يوم بالليل سكران.
- هو ما راجل كبير.
- يعني لما أكبر ممكن أمشي إنْدَاية "نَسما" أو "الجَو" أو "ربع الخراب" وأسمع قسم السيد أدفريني؟!.
ضمتني مريم طويل إليها أكثر تحميني من يد ممتدة بأظافرها الطويلة متاهبة لقرصة نارية، وهي تضحك قالت:
- حليل أبوى داك، يا أخوانا دي مصيبة شنو الليلة دي! يبخروا فيها وهي تظرط!
- يعني لما أكبر ممكن أسكر زي عمي في الإنداية؟ وامشي بيوت الزقاق زي الناس الكبار؟
- يا ولد أسكت ولا هسَّع بقوم عليك تاني.
الذي خفَّف من وليمة التعذيب الأُسَري تلك النشوة التي تطوف ببالي عندما أتذكَّر قسم السيد أدُفِريني ، وهو يتقوَّس مثل راهبٍ على آلته الإيقاعية، ويعزف ألحاناً كأنّها آتية من فضاءٍ خارجيّ، وتجعل كلّ من حوله يذووب ويردد: "وُوووب.. وُوووب.. وُووب". أو يطير في الجو بصقرية حماسية تكاد عصاها الثملة أن تثقب السماء.
لذلك عندما قال الأستاذ الطيب محمد الطيب بأن الطرب الذي أطربه له الفنان الشعبي قسم السيد أدُفِريني طرب فريد من نوعه لا تضاهيه أية نشوة أو أي غناء آخر، تأكَّدتُ أننا سبحنا معاً أكثر من مرّة في نهر الفنان قسم السيد أدُفِريني حتى ثمالة الأغنيات التي تعشعش بالذاكرة والروح مثل أطياف وريفةٍ لا تستطيع الإمساك بها أو الفكاك منها.
عندما رحل قسم السيد أدُفِريني إلى الضفة الأخرى، جاء الأستاذ الطيب محمد الطيب يرافقه وزير الثقافة والإعلام لحكومة نميري [1969-1985م] عمر الحاج موسى ورهط من موظّفي الوزارة لتقديم واجب العزاء، وتحدَّث وزير الإعلام عن خُسران السودان مكتبة زاخرة بكل معارف الثقافة الشعبية السودانية.
غاب الفنان قسم السيد أدُفِريني ، الذي عاش غريباً مثل نبيٍّ منبوذ يمضغ غربته الوجودية وسط حشود لم ترى منه إلا لمعان خاطف لكنه مؤمنٌ بعظمة رسالته الفنية التي تعالج غرباته العصية، برغم أن المدينة تهمله وتلعنه جهراً، وتحبه سراً عندما يسمعونه يغنّي في بيوتات أسفل المدينة يذوبون من فرط الطرب في أعراسهم وأفراحهم عندما ينسجم مع دلوكتة لدرجة أن يثقب جلدها التخين يتصائحون بفرح:
- قدِها يا أدفريني.. قدِها يا أدفريني..
يتواطؤون جميعاً بنسيانه من ذاكرة المدينة، إلا مَن الذين سبحوا حتى ولو لمرة واحدة في محيط هديل أغنياته.

* من كتاب مُسامرة من وراء المحيط -قيد الطبع-



#عفيف_إسماعيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وداعا ..زوربا السوداني(2-2)
- مُسامرة من وراء المحيط..محمود.. أرق المهووسين
- وداعاً زوربا السوداني1
- لوحة2
- مُسامرة حوارية مع الفنانة المغنية د. ياسمين إبراهيم
- رنين الحنين على أجنحة نوارس عائدة أو نغم أخضر
- مسامرة حوارية- جريدة الحصاحيصا
- زهور ذابلة
- إندماج أم إقصاء؟!
- مبادرة -برانا- الثقافية
- نورس حط على القلب
- المتشظي
- عازف البيانو الأعمي في ميدان فورست او ظل بلا اثر
- الشاعر المصري حلمي سالم.. وفقهاء الظلام
- نافذةٌ لا تُغري الشمس
- وتبقي طفلة العصافير الموسمية
- بيكاسو ماقبل وبعد الجرنيكا
- الوان
- عودة
- قبعات غير مناسبة


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عفيف إسماعيل - صور شعبيّة.. وقسم السّيد أدفريني*