أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حاتم الجوهرى - طرق مطاردة الذات فى قصيدة النثر المصرية















المزيد.....



طرق مطاردة الذات فى قصيدة النثر المصرية


حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)


الحوار المتمدن-العدد: 3962 - 2013 / 1 / 4 - 22:17
المحور: الادب والفن
    


طرق مطاردة الذات فى قصيدة النثر المصرية
(إيهاب خليفة نموذجا)


نصوص التقمص
دراسة فى ديوان "مساء يستريح على طاولة"






مدخل:
----

لماذا "طرق مطاردة الذات"؟
لا يقف المنتج الإبداعي الإنساني بمعزل عن الظروف الاجتماعية التى نشأ فيها، فلابد للمنتج الإنساني عموما أن ينشا علاقة مع سياقه التاريخى، سواء كانت هذه العلاقة قائمة ومحققة وموجودة، أو كانت العلاقة بالقطيعة والانفصال.. وفى خضم الحياة الاجتماعية المتداخلة، تقبع الذات الإنسانية بين التحقق والتهميش؛ بين الحضور والغياب.. ويبقى الشاعر أو المبدع فى مهمة لا تنقطع، يبحث باستمرار عن ذاته الحقيقية، ويسعى لتعريف العلاقة بينها وبين العالم، هل ينفصل أم يتصل، وإذا انفصل كيف يبرر هذا الانفصال، وما البديل الذى يقدمه أو تقدمه ذاته فى الوجود والحياة! وإذا اتصل كيف يعرف شكل هذا الاتصال وما هى التمثلات الاجتماعية لهذا الاتصال.. يختلف الشعر كفن أدبي عن معظم الأجناس الأدبية، فى أنه يقف مباشرة فى مواجهة العالم، يملك قدرة على تلخيصه؛ بما يستلزم مواجهة واضحة ومواقفا ملموسة (حتى ولو كان الموقف ضبابيا أو عبثيا أو هامشيا أو مستغرقا فى التفاصيل؛ فهو يظل موقفا)، ومن هنا كان الشاعر فى كل عمل يقدم ذاته ويطرح نفسه كمشروع إنساني بشكل ما (حتى ولو كان طرحه يقوم على الهامش والانسحاب)، لا يقف الشاعر غالبا وراء ستارة بل تجد ذاته حاضرة، وأحيانا ما يكون الخطاب مباشرا على لسان المتحدث (الأنا)..
من هنا كان الشعر هو الفن الأول الذى يطرح الذات الإنسانية مباشرة أمام المتلقي (الذى أصبح متعددا معرفيا ويمارس سلطة خاصة به تجاه النص)، ويطرح الشعر موقف الذات من العالم (على تعدد المدارس الأدبية والفكرية وطرق ممارستها لهذا الموقف من العالم)، فالشاعر فى المقام الأول يقيم علاقة مع العالم، اتصلت أو انفصلت.. وتطرح ذاته موقفا من الحياة، سلبيا أو إيجابيا. فيكون الشاعر دائما فى حالة بحث عن ذاته، وكيف يكون صادقا مع نفسه فى مواجهة العالم الذى لا يستطيع أن يسيطر عليه فى أحيان كثيرة.. حالة البحث هذه هى التى شغلتني، ولم أطلق على الدراسة: البحث عن الذات، بدلا من: مطاردة الذات، لأنني أرى الاستسهال فى لفظة البحث، وأعتقد أن الحياة المعاصرة بكثرة تداخلاتها وسرعة إيقاع أحداثها، تجعل المبدع فى عملية مطاردة حقيقة لذاته ووجوده الحقيقي، فإما أفلح فى الإمساك بذاته جيدا واصطيادها، أو ضاع فى المتاهة وانسحق أمام الأحداث وأصبح وجوده هامشيا، لذا كان اختياري لعنوان الدراسة يقوم على فكرة المطاردة، التى تؤكد على المعاناة والمكابدة التى يلاقيها الشاعر فى كل مرة يمسك فيها بالقلم، وتؤكد على صعوبة أن يجد نافذة خاصة به يطل منها على شرفة العالم؛ ويجعلها مركزا لموقفه تجاهه.
تتخذ الذات الإنسانية عند الشاعر موقفا، فى كل مرة يختبر طبيعته كمبدع، حينما يتحدث عن الشارع أو المرأة أو الحب أو الهامش أو الموت أو الأصدقاء (مباشرة أو من خلال أقنعة، محاكاة أو تصريحا) ، هو يمارس مهنة طرح الذات على العالم، لذا فالشاعر إذا نجح فى التواصل مع ذاته ووجد القناة الصحيحة - الخاصة به والتى تختلف من شاعر إلى آخر- والتى تحدد وتعرف وجوده وعلاقته مع العالم؛ لامتلك قدرة وبنية نفسية قوية وهائلة لا ينازعه فيها أحد، لأن تكوينه الإنساني فى الأساس قائم على المواجهة وطرح الذات أمام الجماعة.. أما إذا ضاع المسار من الشاعر وفشل فى مطاردته لذاته، ولم ينجح فى بناء هذه القناة التى تربطه بالعالم، أو صياغة تعريف خاص لوجوده فى ظروف قاهرة لا يسيطر عليها؛ لأصبحنا أمام أشد درجات الاغتراب الإنساني وانسحاق الذات.. هذه الدراسة تحاول الإحاطة بالمقاربة العامة أو بالإطار الخاص بثلاثة من النماذج الشعرية المتباينة، تبحث عن الفكرة المركزية فى مقاربة كل منها وعلاقتها بالعالم، فى فترة تاريخية صعبة، مرت بها مصر والعالم..
وهذه الدراسة كانت جزء من دراسة طويلة أعددتها عن طرق مطاردة الذات فى الشعر المصرى المعاصر، ولكنى آثرت أن أنشرها منفردة أولا..

مقدمه :
-----

تتناول الدراسة ديوان الشاعر "إيهاب خليفة" ، الصادر فى طبعته الأولى فى القاهرة يوليو 2007 ، عن "شركة الأمل للطباعة والنشر"، والديوان يقع فى ( 112) صفحة من القطع الصغير، وعدد قصائده ( 28 ) قصيدة، تنوعت فى طولها بين القصائد القصيرة والقصائد الطويلة، والشاعر فى ديوانه "مساء يستريح على طاولة" نموذج متمايز لقصيدة النثر المصرية، يملك الروح المتقدة للشاعر -الظاهرة فى إنتاجه- وجرأة الكتابة والتعبير ويملك رؤية ومشروعا إنسانيا (قائم على محاولة الصمود رغم التكسر وتصديره أحيانا).. مشروعا يعطيه مضمونا جادا قد يبدو بسيطا فى بعض الأحيان، ويبتعد الديوان – لحد بعيد- عن بعض شعراء قصيدة النثر الذين يكتبون نسخا ضوئية مكررة من بعضهم البعض، والذين تعاملوا مع قصيدة النثر على أنها مشروع سياسي واجتماعي حاضن؛ فأثرت المعايير الشخصية والشللية على حكمهم للأمور، ولم يعد معيار التفوق والتميز – فى أحيان كثيرة- هو معيار أدبي / كتابى / إبداعي ، وإنما صار عند بعض كتاب قصيدة النثر معيار شخصى ؛ قائم على درجة المعرفة الشخصية. كأن قصيدة النثر تحولت عند البعض لمشروع سياسي أيديولوجي، يجرى برنامجه وخطابه الموحد على لسان بعضهم.. ولكن للموضوعية كان للحالة والظروف العامة السائدة فى مصر منذ نهاية الثمانينيات دخلا كبيرا فى هذا، ولا يتحمل هؤلاء وحدهم مسئولية ما قدموه أو دفعوا إليه.
و نعود للديوان الذى مكنته موهبة كاتبه من أن يخرج مختلفا –نسبيا- عما يدور شكلا ومضمونا، وهو أمر شاق ومتعب فى مصر بظروفها وتركيبتها الاجتماعية التاريخية المتراكمة، التى تعتمد على فكرة "التكيف" والتعايش مع الموضة السائدة. فمن ناحية المضمون والمعنى فى ديوان "مساء يستريح على طاولة" وبحثه ومطاردته لذاته، قد نجد أن الاغتراب فى الديوان يأخذ أحيانا أكثر من شكل؛ أحيانا شكلا مهزوما متشظيا ، وأحيانا شكلا مقاوما إيجابيا يبادر بالفعل ومحاولة استكشاف وولوج عوالم جديدة لكائنات أخرى، وتراوحت قصائد الديوان بين: القوة والتماسك أحيانا، وبين: الهزيمة والانكسار وجلد الذات أحيانا أخرى ، وهو راجع فى وجهة نظرى لروح الكتابة أو حالة الشاعر حيال كل نص.! ما بين روح فردية قوية مثابرة، وروح جماعية متشظية تصدر الهزيمة والانكسار، وقد تمارس جلد الذات فى طقس جماعى اتسم به –لحد ما - جيل قصيدة النثر التسعينية المصرية.
لكن سيكون أهم ما يميز الديوان هو "نصوص التقمص" وكيف استطاع الشاعر البقاء متوازنا على سلك رفيع..! كيف تلبس روح كائنات ضعيفة ومهمشة ومقهورة بطبيعتها، وكيف صنع منها حالة للتمرد ورفض الظلم و سعى للثورة.. الثورة التى انتهت فى معظم هذه النصوص بالموت (أو استشهاد الروح) دفاعا عما تؤمن به سعيدة راضية، وكأن الشاعر بكل بساطة وعكس العديد من قيم قصيدة النثر المصرية، التى ترفع أفكار الهزيمة التشظى والانكسار والتشيؤ؛ استطاع أن يعلى ويرفع أفكارا أخرى ويعود بنا لقيم: التضحية والفداء والإصرار والمثابرة ، والذات التى تناضل حتى الموت دفاعا عما تؤمن به ، ولكن كان هذا بشكل خفي وغير مباشر تماما، بسب تقنيته الشكلية (عبر الأقنعة المتعددة) التى استخدمها والتى أسميتها "نصوص التقمص".
وكان هناك أيضا بعض ما يشوب الكتابة الشعرية عنده قليلا، منها بعض التصديرات المسبقة والأحكام المستجلبة – فى رأيي – من خارج عالم القصيدة ومقاربتها الذاتية للعالم، والتى وردت فى بعض القصائد وأثرت عليها مثل: تصدير الإحساس بالهزيمة فى بعض الأحيان، رغم روح الشاعر المقاومة والشرسة، تصدير الشعور بالعجز والعدمية، رغم قوة المقاومة الداخلية والروحية للشاعر الجلية فى قصائده، و محاولة الوعي المسبق بما يحدث وتصديره فى بعض النصوص، كنوع من السيطرة والأحكام المسبقة على الأحداث، وإلقاء مسحة من اليأس واللامبالاة عليها مثلما حدث فى نهاية نص "كرجل انتهى أمره" وكسر حالة الإيهام لفكرة القصيدة..
إنما إجمالا نقول أن معظم ما يمكن أن يأخذ على كتابة الشاعر– فى رأيي الخاص – قد يعود لدرجة ما من التأثير والتأثر، وقع تحت طائلها بصفته فى النهاية واحد من جيل قصيدة النثر فى التسعينيات رغما عنه، والتى أثرت لحد ما علاقته ومقاربته للعالم.. استطاعت بعض الأفكار والقوالب الجاهزة أن تنفذ لتفرده، وشخصيته القوية وموهبته التعبيرية التى تطرح ذاتا متفردة فى وجودها وعلاقتها مع الحياة .. فكانت خلفية التشظى و التشيئ والعدمية وكسر التابو، تظهر بعض الشئ فى بورتريه القصيدة وعالمها.. رغم محاولة الذات الصمود فى مقاربتها الأساسية للعالم، فكنا فى صراع بين ما هو شخصى يحاول الصمود فى مقاربته الأصلية، وبين ما هو جماعى قادم من العالم يحاول التشظى، والتماهي مع الجماعي فى مقاربته للعالم والوجود.



---------------------------------------------------------------------

المبحث الأول : المضمون ومقاربة الذات للعالم
-----------------------------

نجد المفاجأة عند إيهاب خليفة والتى تحمل دلالات هامة جدا، تكمن فى أن الشاعر لم يطرح طريقة واحدة فى مقاربة الذات للعالم، بل حملت نصوصه مستويات متعددة من طرق المقاربة..! تأرجح بين الاتصال والانفصال، وتلك إشارة لحالة الصراع الداخلي فى بناء علاقة الذات مع العالم، وعدم قدرة الذات على حسم أمرها بشكل نهائي تجاهه، وتدل على حضور الكثير من الأسباب التى تدفع الذات للتردد فى الإعلان عن موقفها بشكل حاسم.. عل اختيارات الذات وقيمتها المركزية التى كانت تبحث عنها، وينتظم حولها عالمها وتفاصيله عند الشاعر إيهاب خليفة، كانت متداخلة بعض الشئ، نستطيع القول أنها وقفت فى أكثر من اتجاه، وسحبت العربة الشعرية فى أكثر من وجهة، وهى دلالة مع إشارتها للتنوع الإنساني، قد تدل على المزاجية والحيرة أيضا.. أو التقلب الحاد فى الحالة الداخلية للشاعر وموقفه إزاء الحياة، وربما نكون أكثر جرأة ونقول أنها تدل على عدم توازن المكانة وثبات الموقف، واستقرار علاقة الذات بالعالم عند الشاعر، نلاحظ أن علاقة الذات بالعالم كانت غير منتظمة، تحمل الكثير من التباينات، وكأننا أمام أكثر من قيمة مركزية، أو أمام صراع لمجموعة من القيم تتنازع بعضها بعضا عند الشاعر.. فمن تباينات علاقة الذات بالعالم عند الشاعر، وتعدد أدوارها ومستويات علاقاتها بالعالم نلمح التالي:

- فى وجود الذات الداخلي المستقل : نراه حينما يتحدث عن نفسه وينسى دوره فى المجتمع وموقعه فيه.. يكون حديثه متماسكا شامخا صلبا.
- فى وجود الذات الجزء من الجماعة: نراه حين يتحدث عن نفسه فى إطار المجموع المهمش.. يكون حديثه متشظيا عدميا جالدا للذات.
- فى وجود الذات المتداخلة مع العالم: نراه حين يصنع نص طويل به دراما صورية عالية.. نلمح ارتباك الوعي، حضور لروح المقاومة غالب وجلي، ولكن دائما ما يشوبه تصدير مفرده أو جملة تحيل لذاكرة العجز والعدمية.
- وجود الذات الجماعية المهمشة: ونراه أحيانا تستغرقه حالة المجموع المهمش فى نص طويل.. فينسى قوته الداخلية وإصراره الروحي.. ويسير فى نصه مع القطيع المهمش.
ولتحليل هذه القيم وموقف الذات من العالم ومقاربتها له نبدأ كالتالي :


أولا: البحث عن الخلاص:
( حالة نصوص التقمص والبحث عن الخلاص البديل ) :
-----------------------------------

حالة الاغتراب الشديدة وعدم القدرة على التكيف مع ظروف المجتمع وواقعه المهمش والسلبي والضاغط، حينما تصل لذروتها قد تدفع بصاحبها فى اتجاهات عدة .. أقصاها مدى؛ هو الرفض النهائي لهذه الحياة ومحاولة الانسحاب منها. وهذا الانسحاب قد يأتي بالموت أو الانتحار، أو باستخدام فكرة الانسلاخ عن الذات والخروج منها و البحث عن البديل فى عوالم أخرى .. كما اختار الشاعر فى نصوص ديوانه ..، ولجأ إلى فكرة التقمص التى قد تكون أيضا نوعا من المقاومة الوجودية.. وإعادة تعريف العلاقة مع الحياة من خلال أشكال أخرى.. فيبدو أن العالم بالنسبة إلى الشاعر ومن زاوية ما ، لم يعد يستحق الجهد المبذول والمبالاة والاهتمام المباشر منه كإنسان، وكائن بشرى يعيش على سطح هذه الأرض ، فلجأ لبديل روحي للمقاومة.. عبر استعارة وجود وحياة كائنات أخرى قد تبدو مهمشة للبعض، وعل تلك أيضا رسالة، فى محاولة بعث الحياة فى الأشياء المهمشة!
تماما مثل الممثل العاجز عن أداء فعل ما فى حياته الواقعية ، فيبحث عن الأدوار التى تحقق له هذا الفعل الغائب فى حياته الطبيعة، فلو كان ضعيفا لاختار أدوار القوة.. ولو كان خجولا لاختار أدوار الجرأة ، ولو كان مهزوما لاختار أدوار الانتصار والبطولة.. ولكن لا نستطيع القول أن حالة الممثل العاجز تنطبق على الشاعر.. ولكنها تشبه حالة الممثل الخجل أو الممثل المصاب بالإحباط، فيحاول أن يلبس على وجهه قناعا، يدارى به محاولته المتكررة لمواجهة العالم والانتصار عليه، فالشاعر يبحث عن فرصة أخرى للحياة.. فرصة أخرى للتغيير وبناء عالمه الذى يأمل.. فرصة فى شكل آخر غير الشكل والعالم البشرى، الذى أصابه بالإحباط والانكسار واليأس .. هذا العالم الذى قد يراه الشاعر ممتلئ بالخيانات والآثام والقواعد المعكوسة وغياب العدل والمنطق.
فهذه التقنية التى ألف الشاعر ودرج على استخدامها كان غرضها الأساسي والرئيس – فى رأيي الخاص – هو محاولة البحث عن الخلاص والحل لمعضلة وجوده البشرى ، لذا حملت فى طياتها نوعا من المقاومة الخفية والرفض للواقع مع محاولة تغييره من خلال كائنات مهمشة تشبه الشاعر .. كالنملة أو كيس القمامة أو العربة الرخيصة ثلاثية العجلات ( توك توك ) أو جنين لم يولد بعد أو قط صغير .. !هذه هى الكائنات التى رأى الشاعر فيها نفسه ... !!! ولم يتقمص روح نسر أو حمامه أو عصفور، ولم يتقمص روح عملاق محارب أو فيل إفريقي أو فهد برى أو حتى سمكة حرة فى البحار.. ! وإنما اختار كائنات مستضعفة وهامشية مقهورة ومغلوبة على أمرها، وحاول بث روح المقاومة والتمرد فيها بعد أن تلبس روحها وتقمص حالتها.. فجعلها ترفض واقعها وتتمرد عليه وتحاول تغييره، حتى لو كلفها ذلك حياتها مثلما فى نص "نملة"، وهو مستوى من المقاومة والصمود الروحي لم يعلن الشاعر مثله خارج "نصوص التقمص"، رغم وجود بعض نصوص التماسك والشموخ والكبرياء فى الديوان .. ونرصد ملامح مقاومة الذات صمودها فى "نصوص التقمص" كما يلي:

ملامح المقاومة والانتصار للذات خارج حدود عالمها (نصوص التقمص)

** فى قصيدة "توك توك شارد جنب الكورنيش" يقول:
- سأمر فى كل الميادين .. / أتوقف حين أريد / أركن بمقتضاي..
فى دلالة على الحرية والإرادة والقدرة، ثم فى نفس النص يعلن حالة العصيان والتمرد ورفضه لكل السائد، وإيمانه بذاته فقط حتى لو كلفه ذلك حياته، فى تكرار لنفس معنى المقاومة الصلبة الحاسمة التى ترتبط فقط بالذات بعد أن فقدت إيمانها فى العالم، ونلاحظ ذلك فى قوله "ليس لي الآن محطة سواي"، حيث يقول :
- دعوني أدمر الفتارين / دعوني أرى إطاراتي تصفى / .. وسائقي يموت / وحدي ذات يوم / سأمضى نحو لجنة مرورية / وليطلقوا النار / فليس لي محطة الآن سواي .
**فى قصيدة "كيس قمامة أسود":
هنا كانت روح التمرد والتحسر بادية أكثر من روح المقاومة المباشرة فى هذا النص حيث يقول، مصرحا عن فكرة الوطن السلبي والوحدة بصراحة :
- من الميلاد / أعلم أنني وطن / لما هو مهمل / ومنفى ، كل وقت يأتيني زائر / بلا ملامح / يحمل ذكريات عفنة.
- مما صنعت / من إطارات السيارات الممزقة ، أين أنتظر/ أنتظر مكوما بجوار أعمدة مطفأة.
وكأنه فى حالة عجز وتهميش للذات التى تستخدم فعل "التكويم"، ثم أنهى الشاعر تمرده بنفس النهاية فى معظم نصوص التقمص؛ وهى الموت وحيدا مصير كل مقاوم ومتمرد، التى ربطها هنا بشكل غير مباشر بالمقاومة، وكانت ترتبط بشكل مباشر بفكرة: التمرد والتحسر، والعزلة والغربة المنتشرة فى القصيدة .. حين قال
- كثيرا يلمسونني / لكن لا يقاسمني أحد / شبق المحرقة.
** فى قصيدة "نملة"
هذه القصيدة هى أوضح نماذج "قصائد التقمص"؛ دلالة على الفكرة التى أتحدث عنها والمتعلقة بالمقاومة ورفض الذات الصريح للقهر والمطالبة بالحرية، ورفض الذوبان فى القطيع المنمط.. وستنتهي أيضا مثل أخواتها بالموت والاستشهاد فى سبيل الحرية، ورفض الخوف والذل والهوان وانتصار الروح، فى معان لن تتكرر بمثل هذا الوضوح واليقين المصرح به فى العالم الشعري لإيهاب خليفة، خارج "نصوص التقمص كما قلنا.. وسنذكر أبياتها بلا تعليق أو تحليل لوضوحها الشديد .. فيقول الشاعر فيها على لسان النملة التى تقمص ذاتها :
- يجعلني أعيش / كلاجئ سياسي مطارد / يحرمني من الحياة الحرة
- ماذا أؤمل / وأبسط حقوقي مهدرة / أن تكون لي قامة
- وحياتي كلها عبودية / كنت أمة فى سوق / اشتراني سيد ، من السيد
- سأشرد قبيل الشتاء القادم / عن السرب / سأستقبل لأول مرة / حبيبات الجليد بلا خوف
- قد أموت عند أول خطوة / أو مع أول قطرة / لكن روحي / ستصعد إلى آفاق بعيدة
ولكن نؤكد فقط على السطر الأخير الذى ربط الموت بالخطوة الأولى، وأيضا ربط ذلك بالانتصار والخلاص وصعود الروح لأفاق بعيدة.
**فى قصيدة "من مذكرات جنين لم يولد":
وفى هذا النص بدا الشاعر ساخرا حادا ضد الجميع ولم ينتمي سوى للسواد الذى عرفه على أنه والده.. ووضح فيه رفضه الشديد للمسلمات الفارغة من مضمونها أو شعارات العالم التى ترى الذات زيفها.. وثار على فكرة الأم الغائبة عن أولادها.. و وضع فكرة التجربة أو الذات معيارا لما سيمنحه من اعتراف لأبيه، ومطالبته بحقه فى التعبير عن رأيه فيما يخصه واحترام بدنه وجسده، ويمكن القول أن المقاومة هنا كانت حاضرة بقبول فكرة الخسارة والوحدة.. إذا لم يكن المكسب والعلاقة الإنسانية حقيقية فى نظر الذات، فالمقاومة هنا تبدو بادية من خلال رفض المسلمات الفارغة من مضمونها؛ حتى ولو أدى ذلك للوحدة أو الخسارة التى يمكن أن تقاربها هنا لفكرة الموت فى باقي "نصوص التقمص"، فيقول الشاعر فى القصيدة:
- هذا مكان كئيب وضيق / أشعر برغبة عارمة فى هجره / قدماى لا تساعداننى / فى إيجاد مخرج
- يجب إتقان الكذب .. / يجب تعلم النفاق .. / يجب إتقان البكاء
- لن أسمح لهم / باجتزاء أى شئ منى / من أى موضع
- لا أبوة ستمنح إلا بعد تجارب طويلة .. / ولا أمومة سأنادى بها / ما دمت سأحرم من رضعة
- فسأدين بالانتماء فقط لأبى / أبى الذى عرفته .. / أبى الذى احاطنى لأشهر كاملة / بلونى المفضل / أبى الذى اسمه ظلام
** نص "كيف قتلت طقطقة الأصابع قطي الوحيد"
وعلاقة العنوان بالنص هنا علاقة مكملة وليست علاقة عنونة فقط.. فدلالة العنوان مكملة للنص وغير معبرة عنه فقط ، فهو يقول أن وحدته ( بكل ما تحمله من دلالات وآلام غير مصرح به ) ستقف عائقا فى سبيل إتمام هذه العلاقة والمبادلة وأنها ستقتل صديقه القط الوحيد مثله ، أما فى النص فتصاعد الأحداث يقول أنه سوف ينجح فى مبادلة قطه الوحيد بجسده ، ولكن يبدو أننا سنضطر للتأويل المفرط فى هذا النص .. !! فنستطيع القول أنه حين فاز بجسد القط ليعالج وحدته؛ أعطاه جسدا ميتا هو جسده نفسه وذاته .. وبالتالي أصبح القط ميتا، أو مقتولا بفعل الشاعر حين أعطاه جسده الوحيد والمتهالك والساكن وأخذ جسد القط بدلا منه ، ودلالة هذا النص لا تكتمل – فى رأى – إلا بدلالة العنوان المكملة ...
وهذا النص هو من أكثر نصوص التقمص صراحة .. وكان الحديث فيه بشكل مباشر عن هجر الذات لجسدها ، وسعيها للحصول على جسد آخر، وكان الموت هنا من نصيب هذا الآخر الذى صادقه أو اختاره، جعل مصير القط هو الموت فور ارتداءه جسده الذى تعايش معه وتحمل كل أوجاعه.. دليل على مدى تألم هذا الجسد وشدة ما تعرض له انكسارات، وربما من الممكن أن نقول أن موت القط دليل على مدى قوة وصلابة الشاعر ومقاومته لكل ما يحدث وتحمله للآلام .. والتى لم يتحملها القط عندما ارتدى جسد الشاعر؛ وذلك تأويل مفرط.. ولكن اجبرنا عليه النص الذى يقول الشاعر فيه:
- لا يستطيع طقطقة الأصابع / فهو قط / وأنا كما تشير الأدلة آدمي وحيد
- سنعقد صفقة إذن / بيني وبينه
- سيخلع القط فروه / وسأضع أمامه جسدي / وسوف يتم التبادل
- ولتجد الأرصفة / مغفلا آخر / لكى يصاحبها / ويطقطق الأصابع
- وأضع العنوان أيضا لدلالته المكملة : كيف قتلت طقطقة الأصابع قطي الوحيد
ونرى العلاقة بين كون الذات فى حالة من الغفلة والوحدة والعزلة والعجز، ووجودها فى الشارع والأرصفة، فهنا تقدم الذات مبررا لوجودها فى هذه العلاقة مع العالم.

وسنكتفي بهذا القدر من نصوص التقمص ولن نتناول أى من نصوص التقمص غير المباشرة، إنما خلاصة نقول أن نصوص التقمص توازى حالة نفسية للذات التى تريد الخروج من جسدها والبحث عن بديل. وتشبه تماما الشخص الذى يؤجل انتحاره (وقطع صلته النهائية بالعالم) عن طريق كبسولات دوائية تخلق لديه حالة من الانتصار والرضا، وكل نص هو كبسولة جديدة تمد الشاعر ببعض الطاقة الروحية، وبعض الزمن وبعض المقاومة الخفية التى قد تنقلب يوما صريحة ويقينا متصالح مع الذات ، ينتقل من نصوص التقمص إلى نصوص التعبير الأخرى عند الشاعر . وننتقل لدراسة قيمة أخرى من مضامين العالم الشعري..


ثانيا : روح الانكسار والهزيمة والتحسر وجلد الذات
(حالة نصوص التشظى والتكسر ) :
---------------------------------

أعتقد أن الهزيمة وروحها فى النصوص ليست أصيلة عند الذات، رغم أن التصريح بها كان بشكل مباشر وواضح، ولكنها كانت – فى رأيي الخاص – هزيمة جيل صدرت له هذه الحالة فصدرها.. رغم وجود بعض القضايا التى تسحب القوة بالفعل؛ مثل الموقف من العائلة وخيانة الصحاب والنخبة مثلما فى نص "يقطين"، لكن الباقي كان تصديرات – فى رأيي – مثل الموقف من العاهرة فى نص "الآثمة"، والذي نلمحه دائما مصحوبا فى أوقات كثيرة بفكرة "المومس الفاضلة" أو العاهرة القديسة ، وأيضا نصوص جلد الذات مثل "سأنفر" و "لن أفتح لنفسي". ونقسم هذه النصوص إلى: نصوص هزيمة مباشرة، ونصوص هزيمة غير مباشرة.

أ- نصوص الهزيمة المباشرة وجلد الذات والموات

** نص "نفور" حيث يقول :
من النهر.. / من ابتسامة طفل.. / وزرقة بحر / سأنفر كثيرا..
لا تقولوا لي : نحبك سأنفر / لا تحضروا لي أزهارا / سأنفر
خاصمت نفسي.. / متربصا / لأطعن روحي بها / حين تمر.
ونلاحظ هنا حضور الذات بشكل واضح، وفكرة الخصام والانفصال عن الذات، وخيار الموت والهزيمة.
** نص "لم أفتح لنفسي" حيث يقول :
- ذلك باب .. / ولكن عليه قفلا / فثمة من يرغب فى الدخول
- هناك غابة تطرق .. / وريح / ونفس
- كسلان أنا ... / سأفتح ... للغابة / والريح ...
- ولن أفتح الباب / أبدا لنفسي.
ونلاحظ أيضا استمرار فكرة القطيعة مع الذات، وكأنه يعاقبها على وجود، وعلاقة مع العالم لم ترضه، ولم تحقق له السعادة الغائبة، ولم تقدم له تعريفا مستساغا لوجوده فى العالم .
** نص "يقطين" حيث يقول :
- يوما سكب الله .. / يوما سكبت العائلة ... يوما سكب الساسة / كلمات أخرى فى جوفي
- لو نظرتم / لرئيتم زرقة البحر / وقد خالطها دم / وأشرعة متكسرة
- وعلى الشاطئ غريقا / بعورة مكشوفة / وليس فوقه / يقطينة / واحدة
هنا نلمح تمرد الشاعر على كل وعى مسبق تم تلقينه إياه، وكأنه يقول ما الجدوى ما النفع! الذات هنا تضع معيار النتيجة والهدف، لم تجد فيما قدم لها من أفكار دينية واجتماعية وسياسية الجدوى والطريق، فكانت رد فعل وحاولت أن ترفض ذلك العالم وذلك الوجود الذى لم يقدم لها شيئا.. واعتقد أن مساحة "التابو" الديني كانت ميراثا مشتركا، ونمطيا عند غالبية شعراء قصيدة النثر المصرية التسعينية.
** نص "الصمت أعظم الموسيقيين" حيث يقول :
- فى الغرف / الفارغة من البهجة / فى القلوب التى / مسحت ملفات الحب منها
- فى النفس المنشقة / على نفسها .... / نجد آلاته ... / تعزف سيمفونية سوداوية / تقهر سمع الجميع.
يستمر الشاعر هنا فى الطرق على فكرة انفصال الذات عن نفسها وواقعها، والرغبة فى ممارستها لعلاقة القهر مع العالم، التى مورست عليها.
** نص "الآثمة" حيث يقول فيه:
- بنفس وجوهنا غدا / سنصحو / تاركين على الوسادة لعابنا / الذى نعجز عن منعه / من السيلان فى النوم .
- لن نقول لها / صباح الخير / ولن نمنعها / وهى تنتقل من سرير لآخر
- دوختنا الآثمة / سيرتها / فى كل الحكايات / فسدت
وعل الفكرة هنا هى قبول وجود هذه الآثمة، وتنقلها من شخص إلى آخر، والعجز عن منعها رغم معرفة الجميع بحكايتها.
*** نص "آخر يوم فى حياة صاد":
الذى يعد من أقوى نصوص الهزيمة المباشرة، حيث يقول الشاعر:
- .. فقد انتهى كل شئ / من حوله
- وعليه أن يثبت أن الخريف/ الذى يعيش فيه / والهزال الذى يفتت عظمه كذبة
- هناك تأكدت/ أن نملة ضئيلة / يمكن أن توقع الهزيمة
- هناك عرفت أنك لم تصنع مجدك / فى وطنك الأم / فلا مجد لك / وعرفت أنك / وللأسف الشديد تكبر.
حيث نلمح فكرة الشعور بالهزيمة ومرور العمر، وغربة الذات فى علاقتها الأساسية مع العالم؛ فى الوطن الذى هو مفترض أن يكون مصدر القوة والفخر.

ب - نصوص الهزيمة غير المباشرة :

وهى عندما كانت تحضر فكرة هزيمة الذات بشكل عابر على بنية القصيدة ومضمونها؛ ممثل ذلك فى مقطع شعري أو مقطعين.. وتكون القصيدة فى سواهما ، غير مباشرة الهزيمة وتحمل معادلا موضوعيا ينتقل من خلاله المضمون، الذى قد لا يكون معبرا عن فكرة الهزيمة بشكل مباشر، فكانت تلك المقاطع بمثابة تأكيد على غربة الذات وشعورها العام الذى تطرحه وتريده أن يصل للجميع، حتى فى محاولاتها لإقامة علاقة مختلفة مع العالم فى نصوص قد تحمل قيما أخرى، ولكنها كانت بمثابة تأكيد على موقف عام، يرتبط بشعور الذات بالعجز فى علاقتها مع العالم.
ومثال لهذه المقاطع التى جاءت فى تلك النصوص
** فى نص "مشاعر" حيث يقول :
- لا شئ سيستعصى / سوى أمنية واحدة ووحيدة / هى أن يعود بك وقت / إلى وراء.
فهنا نلمح فكرة القدرة (لا شئ سيستعصى)، ولكن تتدخل الذات لتضع بصمة (سوى أمنية واحدة ووحيدة).
** فى نص "البلدة العظيمة" حيث يقول :
- ولا ينقصنا الآن / سوى لعنة الروح / حتى تكون اللوحة / مشهدا حيا يخلو من حياة.
نلمح فكرة التناقض واجتماع المتضادات فى فكرة الحياة (مشهد حى) التى هى عاجزة ومحطمة وميتة (يخلو من الحياة).
** نص "شتاء أطول صوف أقل" حين يتحدث عن صديق له قائلا:
- صار من الألفة بمكان / حتى لم يعد يجرؤ على إزاحة / أي سد
حيث تتحول الألفة لفكرة العجز والتكيف والتعايش مع الصعاب، تتحول العلاقة مع العالم لفكرة التنميط وقبول الهزيمة، والانكسار أمام أي عقبة أو مانع.
** فى نص "حارس شخصى للبكاء" حين يقول :
- لا أنظر إلى الوردة / بل إلى الشوك ....
- لا أنظر للحياة / بل إلى التراب ...
فى استمرار لفكرة رغبة الذات فى تصدير الإعلان الجماعي (كجيل أو مدرسة أدبية مثلتها قصيدة النثر المصرية التسعينية) عن فشل علاقتها مع العالم، وقيام مقاربتها الأساسية له على حالة إعلان الفشل، ورؤية أسوأ ما فيه: فى الوردة الشوك، وفى الحياة التراب. خلاصة - فى رأى وتأويلي الخاص - إن نصوص الهزيمة المباشرة وغير المباشرة ربما حملت ذاكرة الهزيمة الجماعية التى صدرت لهذا الجيل (أو المدرسة الأدبية) فصدرها.. وحين كان الشاعر كذات يتذكر وجوده بالنسبة للمجموع وكفرد ينتمى لنخبة ما.. كانت هذه الحالة تظهر وتسيطر عليه.. وتستدعى ذاكرة التشظى والتشئ والهزيمة وجلد الذات، وعلاقة القطيعة والانسحاب من العالم.


ثالثا : روح المقاومة والصمود
(حالة نصوص القوة والتماسك والشموخ )
--------------------------

من المحتمل أن نصوص المقاومة والصمود -رغم قلتها العددية لنسبة قصائد الديوان- قد تكون هى الروح الأصلية والأساسية للذات، والتى تعبر بحق عن صفاتها ومكوناتها الأساسية، الخالية من كل مؤثر مجتمعي محيط ومتغير (قد يرتبط بالمدرسة الأدبية لقصيدة النثر المصرية).. والتى تتمثل فى: الاعتزاز بالنفس والشموخ والتعالي والكبرياء والتماسك والصلابة والمقاومة والصمود.. وأرى أن هذه النصوص كانت تأخذ مكانها فى عالم الشاعر حين يكون شديد الالتصاق بذاته (التى تتخلص مما هو جماعى، وتتخلص من فكرة النتيجة أو علاقة الواقع بأثره على الذات) ، حين يبتعد بعض الشئ عن أثر ما علق به جماعيا بصفته واحد من أبناء جيل قصيدة النثر التسعينية المصرية باختياراتها الإنسانية والفكرية، رغم أن هذا لا يعنى انه فى باقي النصوص الأخرى ليس ملتصقا بذاته ، ولكنه يكون فى علاقته بذاته متأثرا لحد ما بمؤثرات خارجية محيطة به، ودخيلة على صفات الروح الأساسية عنده.. وذلك استنادا على قياس الحالة العامة التى يصنعها الديوان ، ومجمل دعواه وطرحه ومشروعه عن علاقة الذات بالعالم..
ومن أمثلة هذه النصوص :
** نص "ثمن" وأضعه فى هذه القائمة لسبب وحيد وهو انتصاره لقيمة الحب فى مواجهة القهر، عكس تعاطيه مع فكرة الرغبة فى نص "الآثمة" حيث يقول فيه:
- أمسكي بذراعي / فأمام عيني / أزمنة منهارة ..
- إن الجفنين قريبان قريبان جدا / قريبان / لكن ما أصعب / تعانقهما / دون حبيب
فهو هنا فى ظل وجود "الأزمنة المنهارة"، لا يشعر بالقدرة على الراحة والنوم إلا فى وجود الحبيب وقيمة الحب.
** نص "لا مثل أعلى لي" حيث يتحدث الشاعر عن تماسكه فى وجه المزيفين أو أصحاب أنصاف الحلول وهو من نصوص المقاومة والتماسك الواضحة .. والانتماء للذات فى ظل غياب القدوة والنموذج والمشروع الجامع حيث يقول فيه :
- بصمتي واضحة / فى حلوق / السفلة
- من فصيلتي من طبع / وصار باردا / هؤلاء من محبتي طرودا
- إن خلطت بغيري / لا أندمج
- لا أغير طبعي / مهما حصل
- أعلم كيف ومتى / أجرح / ولا مثل أعلى لي / سواي
فهنا الذات تتحول لذات مركزية، تصدر أحكاما على الأشياء، وتملك القدرة على الفعل والمبادرة؛ الذات التى ترى فى وجودها القيمة المركزية النافية لكل ما سواها.
** نص "خبرات" وهو نص رغم احتمالاته التأويلية المفتوحة والمتعددة والتى يمكن أن تحتمل العديد من وجهات النظر ، إلا أنني احسبه على نصوص القوة والتماسك والتحدي النسبي، استنادا حتى على عنوانه الذى يدل على فكرة النضج والخبرة ( رغم عدم وضوح نوع هذه الخبرة .. ! ) ، وروح الندية التى تطل منه .. ورغم أن جانب النص الثاني مبهم ويحمل تأويلات عدة، ويقول فى النص :
- إن هدمت وحدتي / وهتكت سرى / أبكيتك/ وفضحتك
ويقول فى نصف القصيدة الثاني:
- تعلم / خوض الأشياء / دون ترك / دليل
وعله فى هذا النص الثاني يتحدث عن القدرة على اختبار وممارسة التجارب المتعددة، لكن مع محاولة الحفاظ على براءة الذات أو على الأقل على حيادها. ولكن ذلك النوع من التجارب – إذا حاولنا فهم منطقه والحكم عليه- سرعان ما يرتد للذاكرة، ويطالب بثمن التجربة وتلك العلاقة التى نشأت مع العالم، ويعتقد صاحبها أنها مرت بسلام وبلا دليل.
** نص "أيد خفية" وهو بجوار نص "لا مثل أعلى لي" يعد من أوضح نصوص الكبرياء والشموخ والقوة فى الديوان، رغم اعترافه بترصده واستهدافه من قبل البعض .. وان قوته وكبرياءه قد خفقت .. حيث يقول فيه :
- لم يبق من مجدى / سوى اللون / والاسم
- كنت غاية الغايات / يوما
- ربما الأيدى الخفية / ترصدتنى / وعملت ضد / سيد الفاكهة
- كنت / الفتى الارستقراطى / الذى لا يبوح بأسراره / إلا على موائد الكبار
فهنا الذات تتحدث عن أصلها، ومركزيتها فى العالم، ثم فى علاقتها مع العالم تقول أن هناك من أفسد وجودها، ولكنها تعطينا ملمحا عن الأصل الذى تحدثنا عنه للذات. وخلاصة حملت هذه النصوص عموما اعترافات ومواقف صريحة تؤكد على سمات وصفات الذات الأساسية؛ التى ترتبط بالقوة والتماسك والتفرد والصمود والمقاومة.


رابعا : الروح المرتبكة والبين بين
( حالة نصوص الخلط وارتباك الوعي )
-------------------------

هذه النصوص تمثل حالة الارتباك والتداخل فى مقاربات الذات للعالم، فكما لاحظنا عند إيهاب خليفة يوجد تعدد فى طرق مقاربة الذات للعالم، هذه الطرق تداخلت بشدة فى مجموعة من نصوص الديوان: وكان لسان حالها يقول: أنا أقاوم وأحاول الصمود، لكنني أشعر بالعجز والتكسر وأملك انطباعات وقناعات مسبقة، أو من يقول أنا أحاول التماسك إنما هناك شئ ما خاطئ فى المعادلة يجذب العربة للوراء. فهي نصوص تماثل من يصنع لوحة جميلة ومتقنة الصنع لكنه لسبب ما؛ يقوم بلطشها بفرشاته بعشوائية بعد أن ينتهي، أو كنحات يتعمد أن يشوه طرف ما أو عضو ما فى التمثال الذى يصنعه دليل عدم كماله، لسبب أو رسالة ما يريد أن يبعثها لمن سيشاهد تمثاله ونتاج إبداعه ، فهي نصوص ارتباك الوعي وتداخل طرق الذات فى مقاربتها للعالم.. أو هى نصوص وحالة المزاوجة بين: روح وحالة المقاومة والصمود، وبين: الشعور بالعجز والهزيمة ، وربما تكون هذه النصوص هى أعلى نصوص مواجهة الشاعر لذاته ومطاردته لها .. ، فأخبرته بحقيقتها وفطرتها المقاومة التى ظهرت فى بعض نصوص الديوان..! ولكن أخبره وعى الذات المتراكم فى علاقته بالجماعة: بانتمائه لجيل وواقع مهزوم..! فخرجت هذه النصوص تحمل المعنيين..!! ولمحنا هذه المقاربة من الذات فى نصوص: "ما قاله الصلصال فى المصنع" ، "كرجل انتهى أمره"، "ما للصبيان ومالى"، "ماء غير شكله". ونتناول هذه النصوص كالتالي:
** نص "ما قاله الصلصال فى المصنع " :

هذا النص هو من نصوص المقاومة الجماعية .. التى يتحدث فيها الشاعر بصيغة جمع المتكلم (نحن)، وكانت فكرته مباشرة وواضحة ضد ( السلطة /الاحتلال )، فهو يتحدث عن مجموعة من دمى الصلصال محبوسة فى مصنع (مجتمع ما)، وتتعرض للقهر والتعذيب وأصيبت إحداها "بالرصاص المشع" فى إحالة تذهب بنا للأرض العربية المحتلة فى العراق واستخدام (اليورانيوم المنضب أو المشع ) ضدهم. واستمرت دراما النص وفكرته الأساسية فى التصاعد، مرورا بتعذيب هذه الدمى الصلصالية فى المخفر ثم تمردها المستمر وعدم استسلامها لجلادها ، ونشاطها السري فى المقاومة الليلية غير الظاهر نهارا أمام حارس المصنع (السلطة / المحتل)،
واعتقد أن حالة الجماعية هنا واستخدام ضمير الجماعة المتكلم.. فرضها الواقع المرير والجديد على الذات ، فجيل التسعينيات لم يشهد عصر الاحتلال المباشر وفظائعه، إنما كنا نصحو كل يوم على مأساة القضية الفلسطينية المتكررة، فهذه "الأنا" المتكلمة هى تطور نوعى ومهم فى هذا الديوان ، حيث وجدت الذات ضرورة التعبير والانتماء للجماعة الإنسانية الأوسع (التى تتجاوز حدود النطاق الأدبي لمدرسة قصيدة النثر المصرية)، وضرورة أن تقارب العالم من خلال علاقة الجماعة، هذا النص يلج مساحة إنسانية جديدة، تعطى الذات رؤية أوسع وأرحب لعالمها الشعري ومقاربته للعالم ... ولكن كان حاضرا رغم هذا لطشة فرشاة العجز، وجلد الذات واللامبالاة وإلقاء التبعية.. وهو ما أراه خارجا عن جو النص وحالته المقاومة.. ولكن ذلك يعود لفكرة الذات الجماعية التى تنتمي لها الذات مسبقا (مدرسة قصيدة النثر المصرية)، وإلحاح تلك الذات حتى تطل برأسها داخل حالة الجماعة الجديدة التى يقدمها النص، فى خير تعبير عن تداخل حالات مقاربة الذات للعالم عند إيهاب خليفة، فتعددت الرسائل فى مضمون النص وعلاقته بالعالم ومقاربته له، ونرصد تعدد الرسائل السلبية (لن نستعرض مضمون النص العام الواضح) كما يلي:
** تصدير الإحساس بالعجز / اللامبالاة :
- نحن دمى / صنعتنا اليد العارفة / صنعت لنا الأذيال / ... وتركتنا ها هنا ثابتين .
فكيف تستوي فكرة المقاومة والصمود مع فكرة الحيوانية والثبات أو الجمود، وكنوع من جلد الذات واللامبالاة وصفها بالدمية.
**إلقاء التبعية ونفى المسئولية عما يحدث :
- صنعتنا اليد العارفة / .... / تركت أمامنا جرائد وسجائر / وأسدلت ستائر حولنا / ولم تضع على الباب قفلا .
تطرح الذات هنا فكرة أن هناك من يتحمل الذنب (اليد العارفة)، وأن الجماعة (النحن) مجرد استجابة للمثيرات المحيطة بنا، وهى تشبه فكرة الجبر أو تحرك الإنسان فى طريق مخطط ومرسوم له مسبقا، رغم أنه صرح بان تلك "اليد العارفة" تركت لهم حرية الخروج من الباب غير المغلق، الذات هنا كمن تقول أن هناك يد عليا تسيطر على الأمور، ونحن مجرد دمى فى الأحداث ، وهو كما أردفت ما لا يتفق – فى رأى - مع روح المقاومة والصمود فى النص ورسالته الأساسية .

** نص ( كرجل انتهى أمره )

تدور فكرة النص حول شخص امتلك أو ابتكر أداة آلية للتحكم فى سلوك البشر من حوله (ريموت) ، وأعطى لكل زر من أزرار هذه الأداة رقما؛ وكل رقم له وظيفة تجعل البشر ينفذونها. وتبدو فكرة ارتباك الوعي أو الخلط بين مقاربات الذات للعالم على مستويين :
- مستوى الأحداث وتصاعدها داخل النص
- المستوى العام وهدم فكرة الشخص الذى يمكن له أن يسيطر على الأحداث فى نهاية النص.

فعلى مستوى الأحداث قسم الشاعر أزراره لصنفين :
صنف للمقاومة أو الإيجابية
وصنف للسلبية أو الاستسلام
ومن أمثلة أزرار المقاومة أو الإيجابية أو القوة :
- زر ( 3 ) الذى سيجعل المرء يحب أول ما تقع عليه عيناه
- زر ( 6 ) الذى سيصيب المواطنين بالثورة فينقلبون على الحاكم
- زر ( 7 ) الذى سيصيب الناس بالرقة والصفاء
ومن أمثلة أزرار الاستسلام والضعف والانكسار :
- زر ( 1 ) الذى سيصيب سيجعل المرة يقذف المارة بالحجارة
- زر ( 2 ) الذى سيجعل الضحية يقتل أو من يقابله على طريقة أحد الأفلام الأمريكية
- زر ( 5 ) الذى سيصيب الإنسان بالاستسلام للسلطة والانصياع لها
- زر ( 9 ) الاستسلام والانسحاب من المجتمع بعد دفعه نحو الصراع الداخلي والفتنة ثم كتم صوته والرحيل
أما المستوى الثانى لفكرة الخلط أو المراوحة بين المقاومة والاستسلام فى النص :
فهو جاء فى نهاية النص عن طريق هدم فكرة الذات التى قد تسيطر على أحداث العالم، وعلى مجريات أموره بضغطة زر ..، حيث أصاب تلك الذات فى نهاية النص بالشلل .. ونفى كل هذا وقدرة الذات على السيطرة والفعل، وقال أن كل هذا أكاذيب وكأنه يلقى بلطشة الفرشاة على لوحته، حيث قال فى نهاية النص :
- لا / كل ذلك أكاذيب / كل ذلك أكاذيب
- بل فى كيفية الإمساك بحلم كهذا / والضغط / عليه / بأنامل / يد / مشلولة


** نص "ما للصبيان ومالي" :

فى هذا النص القصير يتحدث الشاعر بصيغة المتحدث المفرد الحاضر (أنا) ، وتحضر أيضا الجماعة لكن بين الاثنين مسافة، يحمل النص فكرة الإثمار مع الغربة يحمل فكرة المقاومة العربية مع العجز، يحمل فكرة الأصل وفكرة التنكر له ، يحمل فكرة العلو والسمو ويحمل فكرة التشويه والإحساس بالدونية، يحمل الاتصال والقطيعة فى علاقته ومقاربته للعالم والمجتمع المحيط، وأخيرا أنهى الشاعر النص بالاستسلام الذى قاربه للسلام والهدوء، هو نص من أفضل نصوص التعبير عن ازدواج حالة مقاربة الذات للعالم، وجمعها بين النقيضين، فيقول فى نصه:
** أنا الذى لا يثمر (ثم يكمل البيت قائلا) إلا بيدين غريبتين.
** لم اعتبروني رمزا عربيا (ثم يكمل البيت قائلا) رغم أنني عاجز.
** أتنكر وأغير لونى (ثم يكمل البيت قائلا) ومع ذلك يعرفونني.
** إنسونى يا حاملي الحصى (ثم يكمل البيت قائلا) وأبلغوا الملح والصحراء منى السلام.

** نص "ماء غير شكله"

أما آخر هذه النصوص فهو نص "ماء غير شكله"، والذي يعد من نصوص الديوان القليلة الذى يحتمل درجة عالية من التأويل والتأويل المفرط، والمراوحة فيه بادية بين المجانية فى التعامل ثم معيار المحبة فى العطاء ، وعدم اتساق المظهر مع الجوهر أو الشكل مع الفعل.. مع رفضه لفكرة من يشك فيه، ثم قبوله لفكرة الألم منتج اللذة فى نوع من المازوخية.. حيث يقول الشاعر فيه :
- ربما أبدو أهبل (ثم يكمل البيت قائلا) لكنني لا أمنح لذتي إلا لمن يشتريني.
- من يقطعني بسكين الريبة / أفلت من يده.
- من لا يقطعني شرائح / لا يتلذذ .
وفى نهاية النص تعبير مباشر عن اختلال دلالة ظاهر الأشياء عن جوهرها، فى انفصال واضح للذات عن العالم، حين طلبت عدم الثقة فى مساحة الخير والخضرة داخلها، لأنها ليست مرتبطة بشئ أو مبدأ؛ وحاولت الذات أن تضفى على نفسها نوعا من الحيادية المرتبطة بالخسارة، حينما عرفت نفسها بأنها ماء، وكأنها تضفى على مقاربتها للعالم نوعا من المراوغة وغياب التحديد، فى إشارة لغياب المرجعية وعدم اليقين من شكل العلاقة مع العالم.
- لا تظنوا أخضري / مرتبط بشئ.
ثم قال بعد ذلك:
- على كل حال / أنا مجرد ماء / غير شكله.


---------------------------------------------------------------------------------

المبحث الثانى :الشكل وتقنياته
------------------

ربما نجد أن مستوى اللغة عموما عند الشاعر -فى المعظم- كان بسيطا سلسا يصنع جملا مفهومة مترابطة، ومرتبطة بحالة شعرية و صورة كلية، كما لا تسعى لغة الشاعر لبناء حالة من الغموض والإلغاز.. وأظن أن اللغة عنده تحاول بناء حقل دلالي خاص بها، له عالمها الذى قد يتكون من مجموعة من الحقول الدلالية المتعددة، التى تتواصل معا ويجمعها عقد جيد البناء وهو الصورة والفكرة الكلية. ويكون واسطة هذا العقد هو الحالة النفسية التى يحملها النص وتبحر عبر جمله برشاقة عالية، و أحيانا يستخدم الشاعر مفردات قد تبدو عادية ولا تنتمي لعالم الشعر الكلاسيكي برهافته، ولكن هذا لا يحدث فى كل الأحيان ولا يسرى فى كل النصوص ، بل يرتبط غالبا بتصدير حالة من الحزن والانكسار والهزيمة، أو باستخدام مفردات وأدبيات قصيدة النثر ومصطلحاتها ، يرتبط بتصدير حالة من التشظى والتشيئ والعدمية، ولكي نوضح ما قلناه بأمثلة ونماذج من الديوان ، نتعرض تفصيليا للعناوين التالية :


أولا - المفردات اليومية:
---------------

فى دلالة على محاولة كسر المألوف، والخروج على ما هو نمطي ومسلم به، استخدم الشاعر مجموعة من المفردات غير المعتادة نسبيا (ربما تنتمي لحقل ودائرة المفردات الشعبية الدارجة)، فكان تأثير الحالة العامة للشاعر واختياراته الإنسانية والأدبية؛ واضحا على بنية الشكل ومستوى اللغة، وبعض الحقول الدلالية التى طرق الشاعر عالمها، ووردت هذه المفردات بنسبة صغيرة وضئيلة مقارنة بإجمالي مفردات الديوان.. و يمكن حصرها فيما سيلي - وإن أفلتت واحدة هنا أو واحدة هناك- : (الأواني – الترعة – شعبان عبد الرحيم – الجيم المعطشة – توك توك – يطنشون – مطب – أحواض الغسيل – سرنجات الحقن – حب الشباب – الدمامل – الصراصير – المج – العتلة – الشحتفة – كلب بوليسى – أطعمة الميكروويف – رقبة زجاجة). وقد وردت المفردات داخل النصوص التالية:
- ( وهى تغسل الأوانى فى ترعة ) فى نص "الحلوة"
- ( عزبه الشيخ الأعمى بالجيم المعطشة ) فى نص "الميت"
- (سائقي يسمع أغانى شعبان عبد الرحيم ) فى نص "توك توك شارد جنب الكورنيش"
- ( والزبائن الذين يطنشون ) فى نص "تك تك شارد جنب الكورنيش"
- ( كل ازدراء مطب ) فى نص "تك تك شارد جنب الكورنيش"
- ( حياتى أمام الأبواب أو تحت أحواض الغسيل ) فى نص "كيس قمامة أسود"
- ( على أرصفة لا أسماء لشوارعها ومن سرنجات الحقن ) نص "كيس قمامة أسود".
- الخبز لا يزورنى / إلا والفطر طافر على وجهه / كحب الشباب .. ؛ نص "كيس قمامة أسود".
( وتعصر قلوبكم كالدمامل ) نص "كرجل انتهى أمره".
- ( قاصمة ظهر الصراصير ) نص "نملة".
- ( تشرب الشاى فى مجها الخاص ) نص "فاطمة".
- ( من رفع الدلتا بعتلة ) نص "شتاء أطول صوف أقل".
- ( النظارة السوداء لى والشحتفة عالمى الوحيد ) نص "حارس شخصى للبكاء".
- ( ككلب بوليسى يخشى إعدامه ) نص "آخر يوم فى حياة صاد".
- ( وأطعمة الميكروويف لم تكن مريحة بحال ) نص "آخر يوم فى حياة صاد".
أما فى النصوص القصيرة فكانت تلك المفردات تتماس بشكل أوضح وأكثر مباشرة مع تصديرات التشظى والتشيئ والعدمية .. والإحساس بالهزيمة وجلد الذات .. فى علاقة أوضح تربط الشكل (المفردة) بالمضمون ( قيمة ورسالة وغرض النص ) كما فى نص "نفور":
- ( خاصمت نفسى ومعى رقبة زجاجة ) نص "نفور".

وعل هذه المفردات المجمعة من معظم قصائد الديوان؛ قد يستخدمها أحد شعراء قصيدة النثر الذين لم تنضج تجربتهم بعد، ربما فى نص واحد ، ولكن الشاعر لم يقع فى فخ تصدير المفردات العادية أو اليومية، وإن كان يستخدم ويوظف كثيرا مشاهد يومية وتفاصيل حياتية بسيطة فى قصائده مثل مشهد: المرور والميدان واللجنة المرورية، الذى استخدمه أكثر من مرة فى قصائد الديوان.

ثانيا: الجملة والتكثيف:
--------------

لم يقع الشاعر كثيرا، فى ذلل الاستطراد والاسترسال فى الجمل الشعرية، أو اللجوء للصور العنقودية؛ وإعادة إنتاج الجملة متكئا على الجملة التى قبلها، فى متوالية حسابية قد تسمر إلى مالا نهاية .. وكانت قصائده متماسكة فنيا و مفرداتها وجملها سلسلة فى انسيابها الشعوري، ويمكن أن القول أن الاسترسال والاستطراد قد يرتبط بفكرة: التصدير أو فكرة الإلحاح الذهني الضاغط على المبدع فى مجال ما، سواء من ناحية المضمون و الأفكار التى يرد تمريرها والتعبير عنها فى قصيدته ، أو من ناحية الشكل واستخدام التقنيات ، ونقول أن وجود الاستطراد فى نصوص الشعر كان ضعيفا وخافتا ويمكن تأويله أيضا فى سياق الدراما، لكن نرصده على أية حال كما يلى:
نص "حارس شخصى للبكاء" حيث يقول الشاعر فيه:
- البكاء لا يكون موجودا / حين تطلبه. ثم يستطرد قائلا:
- البكاء هو الذى يطلبك / كرجل لديه ثأر عندك. ثم يتكأ على الجملة السابقة ويضيف مستطردا:
- يظهر أمامك فجأة / كلجنة مرورية. ويزيد فى الوصف للجملة السابقة قائلا:
- تفتش عن أشخاص مشتبه فيهم / قاموا للتو بإحداث تفجيرات.

أو قد يأتي الاسترسال ( الذى يمكن تأويله عند إيهاب فى سياق الدراما) فى النصوص الذهنية التى تحمل إلحاحا فى تصدير المضمون السلبي كميراث جماعى عند جيل التسعينيات، هذه النصوص التى خلت نسبيا من توظيف وإعمال الصورة الكلية أو الفكرة العامة ، رغم وجود الفكرة دائما فى نصوص الشاعر ولكن يبقى توظيفها وكيفية نقلها على الورق محل الاختلاف والتميز بين النصوص بعضا البعض، ومثال لهذه النصوص الذهنية والتى تكون الجمل فيها متكئة على بعضها البعض، فيما قد يشبه المتوالية الحسابية التى قد تستمر إلى ما لانهاية ، ما جاء فى نص "مشاعر" وخاصة فى بدايته، حيث أخذت الجمل تتوالى متكئة على جمل تسبقها فيما يشبه الاستطراد، أو كمن يجدل حبلا طويلا يستمد طوله بمزيد من الجدل والسحب للغزل الذى فى يده، فيقول فى النص:
- إن كنت رومانسيا / فقد ينبت لك جناحان / بهما تحط على السحاب إن أمكن. ثم يتكأ على نفس جملة الخطاب ويقول:
- وبهما تغيب فى الذكرى/ أو الشفق. ثم يستطرد قائلا:
- إن كنت بلا ساقين / فها هى الأرجل الصناعية / والأعين الصناعية / والدموع الصناعية


ثالثا : توظيف الصورة الكلية والجزئية :
-------------------------

الصورة الكلية تخلق عالما خاصا بالقصيدة ترتبط التفاصيل به، وتعطى القصيدة نوعا من المذاق الخاص ، وقد تتكون الصورة الكلية من عدة صور جزئية تتصاعد فى دراما شعرية ، أو تحمل الصورة الكلية أحداثا وتفاصيل تصب فى صالح تشكيل لوحة عامة للقصيدة تشكل روحها ، وربما كانت الصورة الكلية فى قصيدة النثر قليلة الاستخدام نوعا، فغالبا ما يتكاثر استخدام التفاصيل اليومية والمفردات الحياتية المختلفة والمتعددة، التى ليس بالضرورة أن تنتمي لحقل دلالي واحد، ولكن يجمعها حالة شعورية واحدة لتعبر عما يريد الشاعر التصريح به ويجول بخاطره. وهذا ما تفوق الشاعر فيه لحد بعيد، فقد تميزت العديد من قصائده بوجود الصورة الكلية العامة التى تدور حولها القصيدة، وتنسج حولها الأحداث التى تعبر عنها، فجاءت بعض قصائده الطويلة ممهورة بتوقيع الصورة الكلية مثل :

- قصيدة "ما قاله الصلصال فى المصنع": تدور حول فكرة دمى بشرية من الصلصال تحاول المقاومة والتمرد وعلى هذا الإطار تنسج الأحداث وتتصاعد الدراما الشعرية.
- قصيدة "الحلوة": تدور حول فكرة تحمل روح الأسطورة لامرأة جميلة قهرها مجتمعها.
- قصيدة "البلدة العظيمة": فكرتها الأساسية تبادل الأماكن بين الأحياء، والأموات سكان المقابر فى بلد ما
- قصيدة "كرجل انتهى أمره": تدور فكرتها حول ريموت يتحكم فى أفعال البشر ويوجهها.

وربما كانت الصورة الكلية من أهم سمات وأدوات كتابة الشاعر، والتى ميزت قصيدته وأعطتها رونقا ومذاقا خاصا..

أما بخصوص الصورة الجزئية ، فنستطيع القول أن العديد من قصائد النثر المصرية لم تهتم بالتصوير أو المجاز أو التخييل كثيرا، وتحاول أن تستعيض عن ذلك ببناء مفاهيم شعرية بديلة وجديدة، قد تعتمد على العالم الخاص المباغت لكل شاعر، وقد تعتمد أحيانا على المفاجأة الصادمة لنقل الواقع كما هو دون تغيير أو اختيار، أو قد تعتمد على تقنية البوح والفضفضة والاسترسال، أو تقنية الفضح والكشف وجلد الذات فى مجتمع شرقي محافظ ، مع استخدام لغة عادية غالبا؛ يتم فيها محاولة بناء علاقات هادئة بين الجمل والكلمات بعضها البعض، وحين يتم استخدام معادل موضوعي لفكرة ما .. فهو يكون بسيط وقريب منها ومباشر لحد بعيد ، مع وجود بعض المحاولات لعمل عدة مستويات (أو طبقات) لتلقى العمل فى بعض النصوص النادرة ولدى قلة من شعرائها ، ولكن لا تهتم قصيدة النثر فى المعظم بالصورة الجزئية ، وإن حدث ذلك يكون غالبا بنسبة قليلة فى بناء النص تكاد لا ترى ، ولدى قلة نسبية من شعرائها ، وقليل من كتابها من تعاطى مع الصورة الجزئية واعتمدها من تقنياته.
ويعد ابتعاد عدد كبير من كتاب قصيدة النثر بشكل جماعى وقصدي، عن التخييل والمجاز والتصوير – فى رأى الخاص – نوعا من المرحلية الزمنية التى لن تستمر عند الأغلبية منهم، فلقد اعتقد العديد منهم: أن المجاز والتخييل والتصوير آلية ساكنة وثابتة وجامدة سهلة التعلم، قد تعطى من لا يستحق جواز مرور مزيف لعالم الشعراء الذى منحوه قداسة خاصة، ولكن بالمثل يمكن القول أن كل الآليات التى تستخدمها قصيدة النثر يمكن تاطيرها وتدريسها وتعلمها من ناحية الشكل (التقنيات والأدوات واللغة) والمضمون (المواضيع والحالة والعقائد و الأفكار السائدة) ، بل إن هذا ما حدث بالفعل عند الكثيرين وكان النقمة الكبرى على قصيدة النثر، وجعلها موضع للهجوم وجعل الدفاع عنها صعبا وشاقا؛ جعل من يدافع عنها يكون بين شقي رحى..! ما بين العديد من النماذج التى تستسهل الشكل والمضمون، الذى كتبه وكرره أسماء أصبحت تحسب على رواد قصيدة النثر المصرية ، وبين الشكل الجديد الذى تستخدمه و قد يكون فيه مساحات واسعة للإبداع والفكر والتجارب الإنسانية البكر.. !
ويقع الشاعر فى منطقة وسط من حيث استخدامه للتخييل والمجاز والصورة الجزئية، مع ميله بعض الشئ لاعتماد التخييل تقنية من أدواته، فقد تواجدت الصورة الجزئية (تشبيه / استعاره / كنايه / ...) فى نصوصه وكانت حاضرة بنسبة جيدة وموظفة، تدل على أن الشاعر تجاوز مرحلة الإتيان بها لمجرد التأكيد على الإمكانية والقدرة، وندلل على نماذج من حضور الصورة والمجاز فى قصائد الديوان كما يلي:
- نحن دمى / صنعتنا اليد العارفة / صنعت لنا الأذيال. نص "ما قاله الصلصال فى المصنع".
- أسلحتنا صلصال / وهوياتنا صلصال / وعيوننا صلصا. نفس النص السابق.
- قميصا من صلصال ممزق .. / .. رسالة من صلصال سرى / ..رصاصة من صلصال مشع. نفس النص السابق.
- نتسلق بنطال الحارس / نقيد يديه بالخيوط. نفس النص السابق.
- العجوز التى تساقطت أسنانها / وافترستها تجاعيد. نص "الحلوة".
- ألم تكن هناك والمرايا تتبعها. نفس النص السابق.
- كانوا يتجسسون على ظلها. نفس النص السابق.
- الجبل الذى كان مسرح الحدث / طار فى الهواء. نفس النص السابق.
- تخلع ملابسها / و تسبح مثل جنية / برجلين كزعنفة. نفس النص السابق.
- انتقل الأحياء إلى المقابر / وانتقل الموتى إلى البيوت. نص "البلدة العظيمة".
- على نفس الكرسى / المرصع بالجماجم / والدماء. نفس النص السابق.
- ورغم التشوهات التى دمغت عظامهم. نفس النص السابق.
- يسمرون فى ساحة الإعدام / فى بقايا أكفان قذرة. نفس النص السابق.
- وهاهم الحراس النبلاء ... / يبتسمون فى أكفانهم أيضا. نفس النص السابق.
- كلابهم المدربة السوداء / الميتة أيضا / التى تكاد تنجح. نفس النص السابق.
- القبل التى استعصى على الهواء / المشبع بالجاز حملها. نص ("توك توك شارد جنب الكورنيش".
- كل موعظة حفرة / كل إزدراء مطب. نفس النص السابق.
- إن كنت رومانسيا / فقد ينبت لك جناحان / بهما تحط على السحاب. نص "مشاعر".
- كل وقت يأتينى زائر / بلا ملامح / يحمل ذكريات عفنة. نص "كيس قمامة أسود"
- الخبز لا يزورنى / إلا والفطر طافر على وجهه / كحب الشباب. نفس النص السابق.
- أخشى أن ينسونى / فأصبح / فريسة لقطط. نفس النص السابق.
- سيعيدون تشغيل أحشائى / بما يدر ربحا خرافيا / على وكلاء مجهولين. نفس النص السابق.
- يجعل الضحية يقتل أول ظل يقابله. نص "كرجل انتهى أمره".
- يجعل المواطنين ... / فيحاصرون الحاكم بالأسئلة. نفس النص السابق.
- فتمر أنهار الرقة فيكم / وتعصر قلوبكم. نفس النص السابق.
- فتسقط الأقنعة / التى تحيط بغرائزكم. نفس النص السابق.
- تستبدل بالدموع صخرة / وبقدميك الكسيحتين / مهرا. نص "فاطمة"
- إذا رأيتم فى يده جمجمة / فهى الشفقة. نص "شتاء أطول .. صوف أقل"
- من رفع الدلتا بعتلة / حتى ارتد النيل مصدوما / إلى المنابع. نفس النص السابق.
- سيخلع القط فروه / وسأضع أمامه جسدى .. ، نص "كيف قتلت طقطقة الأصابع قطى الوحيد".

ونكتفى بهذه الأمثلة التصويرية والتى تحسب بلا شك فى صالح الديوان، وأجاد الشاعر استخدامها وتوظيفها لحد بعيد.

رابعا: استخدام "تقنية التقمص " :
---------------------

"تقنية التقمص" تعنى محاولة تلبس أشياء وكائنات أخرى ، والتحدث باسمها والشعور بما تشعر به، كان هاجسا شديد الإلحاح على الذات فى الديوان ككل، وتكررت مرارا وتكرارا .. حتى وصلت لدرجة التصريح المباشر بالفكرة؛ وهجر جسده البشرى وتقمص جسدا آخر لكائن آخر، وهو القط فى نص "كيف قتلت طقطقة الأصابع قطي الوحيد" ، وهى تقنية جيدة أجاد الشاعر استخدامها وعرف دروبها جيدا عبر نصوص عدة، بل وجدت نماذج لها فى ديوانه السابق، ديوان "طائر مصاب بأنفلونزا"، وهو ما يجعل لهذه التقنية جانبان جانب شعورى يتعلق بالمضمون وتكرار هذه الحالة الوجدانية المرتبطة بطريقة الذات فى مقاربة العالم؛ التى تعتمد على القطيعة والبحث عن نوع آخر من الوجود، كحالة من الرفض والتمرد على الواقع الإنسانى. وحضر الجانب الشكلي لتكرار استخدام نفس التقنية؛ فهل عجز الشاعر عن البحث عن أفكار أخرى وأشكال أخرى! أم استهواه الشكل بعد أن برع فيه وأجاد تقمص شخصياته وكائناته المتعددة ، وأجاد إرسال مضمونه الوجودى فيه!
وربما هى كتقنية شكلية نجح فيه الشاعر، تحتاج لأن يبحث عن مداخل أخرى لتوظيفها، حتى يستطيع أن يطرق بها مساحات جديدة ، فالشاعر قد نجح فى استخدام تقنية الصورة الكلية بشكل موفق جدا، وكانت فى صالح الديوان وميزته كديوان نثرى. كما نجح أيضا فى توظيف تقنية "التقمص" لحد بعيد، ووردت هذه التقنية مباشرة وواضحة فى خمسة نصوص، مع شبهة لوردوها مستترة فى خمسة آخرين على الأقل، ولنرى سويا ما أسميته "نصوص التقمص" فى الديوان:
- نص "توك توك شارد جنب الكورنيش" حيث تقمص الشاعر دور عربة ثلاثية العجلات "توك توك".
- نص "كيس قمامة أسود" حيث تقمص الشاعر دور كيس قمامة أسود.
- نص "نملة" حيث تقمص الشاعر روح نملة.
- نص "من مذكرات جنين لم يولد" حيث تقمص الشاعر روح جنين فى رحم أمه.
- نص "كيف قتلت طقطقة الأصابع قطي الوحيد" حيث تبادل الشاعر الجسد مع قط.
وتلك هى "نصوص التقمص" الصريحة فى الديوان ، وتواجد أيضا بعض النصوص التى تحمل شبهة تقنية التقمص بشكل غير مباشر مثل:
- نص "الحلوة" حيث تقمص الشاعر دور - واستخدم تقنية - الراوي الخارجي الذى يحكى قصة مأسطرة، لامرأة قهرها مجتمعها وإنما بتلبس وإحساس تام يماثل حالة التقمص ونصوصها.
- نص "طبيعة" ويدور حول كيان جلدى فرغ من جوهره، وتم حشوه بأشياء أخرى وهى نفس فكرة الخروج من الجسد والتخلص مما به.
- نص "ماء غير شكله" حيث يتقص دور قطرة ماء، ولكن بلغة تبدو متعددة المستويات والدلالات؛ لذا لم أضعه فى نصوص التقمص المباشرة أو الصريحة، لاحتمالاته التأويلية المتعددة.
- نص "البلدة العظيمة" حيث تقمص الأموات دور الأحياء وتقمص الأحياء دور الأموات وتبادلا الأماكن.
- نص "حارس شخصى للبكاء" حيث تقمص دور حارس متخيل للدموع أو البكاء، وعاش أحاسيسه وتكلم بلسانه.
كما نلمح وجودا لتقنية التقمص فى نص "فاطمة" الذى يشبه نص "الحلوة"، من حيث وجود راوى خارجى يرينا العالم بعينه، ويحدثنا ويصف لنا مشاعر وأفعال فاطمة بدرجة تعايش عالية، صحيح أن استخدام التقنية فيه لم يكن مباشرا، ولكنها فكرة تلبس أرواح كائنات أخرى واختبار الشعور بإحساسها .. فى محاولة للبحث عن طرق مختلفة للوجود والبحث عن العلاقة مع العالم، وكانت السمات العامة الشاعر الواضحة للذات عند تناول هذه النصوص هى: (التعايش التام – مسحة الحزن – الحسرة والتأسى على الحال – حضور المقاومة والصمود الإيجابي).

خامسا- بين الدراما والتصاعد، والوعي والقصدية :
--------------------------------

قد يرتبط مفهوم الوعي فى قصيدة النثر – فى رأيي– بفكرة التمرير، أو التصدير أو القصدية أو الشحن المسبق بأفكار وعوالم جاهزة، يتعمد الشاعر وضعها فى قصيدته وتتسرب لعالم الذات الشعري بعد ذلك بتلقائية.. سواء فى شكل مفردات ربما مثل (السجائر – الإسفلت – أعمدة الإنارة – الويسكى أو الخمر - ...)، أو فى شكل حقول دلالية بعينها مثل (كتابة وحقل الجسد / كتابة وحقل الغرفة)، أو تركيبات لغوية بعينها لجمل مكررة مثل كتابة التفاصيل اليومية، ونقل الواقع كما هو دون تخييل، أو قد ترتبط بتصدير مشاعر عامة مثل ( الهزيمة أو اليأس أو الإحباط أو الإحساس بالدونية أو جلد الذات المفرط أو .... )، وذلك دون تعايش وتجربة خاصة بالذات مع تلك المضامين، والقضايا و المشاعر والأحاسيس التى تطرحها فى عالمها الشعري، وعلاقتها ومقاربتها للعالم.
ويجوز القول أن التصاعد الدرامي للأحداث الشعرية فى النصوص ذات الفكرة العامة أو الصورة الكلية ، يتطلب نوعا ما من الوعي الفطري بترتيبها وتناسقها، وأقصد بالفطري هنا أي الذى تم التدريب عليه مسبقا وامتلاك مهارته والتشبع بها ، بحيث تخرج سلسلة تلقائية عند الإمساك بالقلم. وهو ما يحسبه البعض نوعا من الذهنية أو الميكانيكية فى القصيدة، وهو ليس كذلك .. ولكن إذا تم مقارنته بكتابة التدفق الشعوري فى الشعر الكلاسيكي، يظهر الاختلاف النسبى؛ حيث يكون تخرج الذات دفقة متوالية من المشاعر الحرة، التى تعبر عن إحساس ما، وتنتمى لحقل دلالى واحد غالبا كالبحر أو السماء أو الزهور أو الغروب أو الطيور أو الخضرة أو الغسق ..
وقد ينظر بعض الكلاسيكيين– والكلاسيكى تنسحب هنا على كل ما قبل القصيدة النثرية – بعض تقنيات قصيدة النثر كدرب من دروب الذهنية والترتيب والميكانيكية ، فى حين لا يكون الأمر كذلك فى العديد من الأحوال، النجاح فى تقنيات قصيدة النثر يشبه لوحة فنية يرسم الفنان إطارها العام، ويتخيلها كليا ثم يضع لمساته فى تفاصيلها وجزئياتها، ويقع فى الذهنية التى يشير إليها كتاب القصيدة الكلاسيكية؛ من يعجز فى بث الحياة فى تفاصيلها الصغيرة وربطها بعقد من المشاعر مع صورتها الكلية، وهو يكون إما غير ناضج فنيا بعد ولم يدرب أدواته جيدا لتسعفه لحظة الكتابة، أو لم تمكنه موهبته من مجارة صورته الشعرية المتخيلة فى ذهنه سواء فى أول كتابة أو فى كتابة التنقيح. ونستطيع أن نقول أن الشاعر نجا – لحد بعيد - من هذه الميكانيكية داخل القصيدة، أو لم كن ذهنه حاضرا بكثافة وملح عليه، بحيث يجبره على وضع كم من الجمل والتعبيرات الجافة دون إحساس وتضفير فى النص، وقد وفق فى ذلك كثيرا خاصة فى نصوص الصورة الكلية الأربعة التى تحدثنا عنها وأيضا نصوص التقمص برغم تكرارها، ولكن وقع الشاعر فى الذهنية الملحة بتعبيراتها وتصديراتها فى بعض القصائد القليلة فى الديوان، وناتى على ذلك بالنموذج:
- نص "مشاعر" الذى حمل بفكرة الوعي، والخطاب المباشر عن إنسان القرن الحادي والعشرين.. فلم يكن هناك معادلا يحمل النص ولم يحمله صوره كلية أيضا ..، فجاء يحمل بعض الميكانيكية بالفعل ، ولكن هذا راجع لأن الشاعر لم يستخدم فيه أي من تقنياته المتمكن منها ، فامتلأت القصيدة بمفردات ( إنسان هذا القرن / جدولا للمشاعر / مسرح الوجود / دورا ثانويا / المناديل الصناعية / الأرجل الصناعية / قوارير بكاء عالية الجودة / عرائس من الصين )، فرغم فكرته الجيدة إلا أنه افتقد الصورة الكلية، وبراعة الولوج للقصيدة والفكرة العامة التى كان من الممكن أن تنقله لمستوى تقنى أعلى؛ .. يعبر عن مضمونه – المصرح به فى النص – بشكل أكثر فنيه ولا يتصف بالذهنية أو والجفاف.

خامسا : حضور جمل كسر التابو الدينى:
-------------------------

نجا الشاعر من العديد من أكلاشيهات وتصديرات قصيدة النثر شكلا ومضمونا ، ولكن تأثر فى الخلفية ببعض العوالق، أهمها الشعور المسبق والمصدر بالانكسار والتشظى وجلد الذات، والكسر الهادئ والخفيف للتابو الديني، وإن لم يكن فجا وسافرا كما فى العديد من القصائد النثرية، بل كان كسرا خافتا وعابرا كمن يريد أن يعلن فقط عن وجوده، ويصرح به ، ونماذج كسر التابو الديني فى النص جاءت فى بعض المواضع مثل:

- ياسين ليس سورة مقدسة / نزلت من عل. نص "شتاء أقل .. صوف أقل".
- ولا يدين ستأتلفان بسهولة مع الله أو أى أ حد. نص "شتاء أقل .. صوف أقل".
- يوما سكب الله فى أذنى كلمات / يوما سكبت العائلة فى روحي كلمات / يوما سكب الساسة كلمات أخرى فى جوفى. نص "يقطين".

سابعا - تقنية المفردة المركزية :
--------------------

فى بعض القصائد الشعرية قد تستخدم الذات مفردة مركزية فى النص، تكررها فى بداية كل مقطع أو مشهد شعري، وتبنى حولها وتنسج عالمها الشعري، و قد تكون هذه الكلمة هى موضوع القصيدة ومضمونها، وقد تصب فقط فى اتجاه غرض ورسالة النص، ولقد استخدم الشاعر تقنية "المفردة المركزية" مرة واحدة تقريبا فى ديوانه فى نص "الميت"؛ حيث كانت المفردة المركزية هى مفردة "الميت" التى حملها العنوان .. وتكررت فى بداية ستة مقاطع شعرية ، وهذه المفردة كانت أيضا موضوع القصيدة ومضمونها، عن الإنسان الذى بلا جذور ينتمى إليها، وتقوم علاقة الذات مع المجتمع والعالم فيه؛ على الانفصال والغربة.
حيث تعرضت الذات للقهر من مجتمعها الذى أجبرها على الاغتراب و الموات، والذي يحمل أيضا إشارة مهمة وموجعة لغياب العقل والمنطق عن المجتمع، حين قال فيما معناه أن الرجال الحاملون للنعش لا يحملون رؤوسا فوق أكتافهم ، وأيضا إشارة لفكرة التنميط الديني الموجود فى المجتمع ورفضه للمغاير، حين قال فيما معناه أن من يقول أنه على تواصل عال مع الخالق، فيما يشبه الصوفة يطرده المجتمع المنط على فكرة شكل واحد للتدين.. فهذا النص فى غالبه قد يقول أن المجتمع (المصرى) يرفض كل ذات تخالف عاداته وتقاليده الرسمية السائدة، وأن الذات التى تختلف تتمرد على وضع من أوضاعه المستقرة، سوف تصبح علاقتها معه وطريقة مقاربتها له؛ قائمة على الغربة والاغتراب،وفى حالة قطيعة معه. مثلما شهدنا فى نص "الميت"، الذى يعطينا انطباعا يقول بان وجودها ومقاربتها لذلك العالم، هى مقاربة الميت، من يعيش ويشعر انه ميت، وهى ربما تكون من أعلى حالات قطيعة الذات فى مقاربتها للعالم التى رصدناها فى الديوان.


الختام :
----


تعددت طرق مقاربة الذات عند إيهاب خليفة، وكان الصراع والتباين حاضرا على عدة مستويات، بين الذاتي والروح التى تشعر أنها قوية مصطفاة، وبين الموضوعي وحالة الانكسار التى سادت مصر طويلا، كما كان هناك تداخل بين الخاص الفردي الأقرب للتماسك عند الشاعر، وبين العام الجماعي الأقرب للهزيمة والتشيؤ عند مدرسة قصيدة النثر المصرية التى ازدهرت فى التسعينيات.
ومن أبرز مظاهر أثر المضمون على الشكل عند الشاعر، كان استخدام "تقنية التقمص" التى تعبر عن رفض الذات لواقعها ومحاولتها البحث عن عوالم جديدة، عند كائنات أخرى قد ترى فيها الألفة والدفء، واتسمت لغة إيهاب خليفة عموما بالتماسك والسلاسة، ولم يكن بينه وبين الخيال قطيعة مثلما حدث مع البعض من كتاب قصيدة النثر..
ويبقى التحدي الأكبر أمام الشاعر فى المستقبل، الذى سوف يضع موهبته واختياراته على المحك، بين النمطي والمألوف وما تمرس عليه فى تقنية التقمص، وبين الجديد والمساحات الغامضة دائما فى العالم، هناك مغامرة جديدة كل مرة يمسك فيها الشاعر بالقلم، وتظل العوامل المجهولة فى التجربة هى المحفز الأكبر للذات المتوهجة؛ طالما بقيت متوهجة تدب فيها الروح.
و نستطيع القول أن الشاعر نجا من العديد من فخاخ قصيدة النثر المدرسية، وكتابتها النمطية المكررة، نجا – لحد بعيد - من نمطية كسر التابو: الجنسي والديني، وأيضا نجا من كتابة الفضح الذاتي، وكتابة التشظى واستنساخ الذات، ونجا أيضا من العديد من فخاخ قصيدة النثر الشكلية، وأدواتها الكتابية وأكلاشياتها المحفوظة ومفرداتها وقاموسها الشائع ، فلم يصدر دائما جمل التفاصيل اليومية ولم تستهويه العادية والتقريرية .. وإنما نجح – لحد ما - فى توظيف ما استخدمه من تلك الأدوات.
ونجح الشاعر فى استخدام الصورة الكلية والفكرة العامة داخل قصائده وكان المجاز والتخييل حاضرا فى شعره ولم يصب الشاعر بعدوى كراهيته والنفور منه ، لكن اللغة فى حاجة إلى مزيد من الاعتناء والجمال والبلاغة والجهد والنحت،ولعل بعض النصوص فى حاجة لمزيد من المشاعر، والأحاسيس المباشرة المتدفقة، لا تتوقف أمام التصديرات والأفكار المسبقة؛ .. ولكن ليس بشكل الشعر الكلاسيكي وإنما فى توازن مع الصورة أو اللقطة الشعرية الجديدة.
ففي النهاية – فى رأيي الخاص – قصيدة النثر ليست شكلا للتعبير عن تنويعات الهزيمة، والانكسار والجمود والجفاف والتشيؤ وفقط، إنما هى شكل شعري مثل أي شكل شعري آخر، تستخدم للتعبير عن كل المضامين وحالات الشعر: الحب و المقاومة والتصوف والرومانسية والثورة وأحيانا الخطابة ، بجوار التعبير عن الوجود والفلسفة والاغتراب والانكسار ، فلا يصح أن يظل الشكل حابسا للمضمون – كحكم مسبق ضد تطور الإبداع- فى هذه القصيدة المصرية التى يجب أن تتطور بشعرائها وخبراتها واختياراتها الإنسانية.





#حاتم_الجوهرى (هاشتاغ)       Hatem_Elgoharey#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 25يناير2013 : سجال الأطراف الأربعة
- -الحوار المتمدن- و-أنا علماني-
- ذكروهم: التجمع الصهيونى فى فلسطين ومنظومة قيم - الطفرة - (mu ...
- فى استراتيجية الثورة: الفرصة والفرصة المضادة
- الثورة وإرث العلمانية والدين
- الثورة والأيديولوجيا الشعبية والوعي الانتقائي
- المسارين الثوري والسياسي: بين التكيف والتمرد
- -محمد محمود- الماضى والمستقبل
- الفلسطينى بين: الأيديولوجيا والتاريخ.. حين يكون الموقف مأزقا ...
- كيف يكون الشعر إنسانيا فى المساحة السياسية!
- اليسار: المصري، والفلسطيني، والصهيوني و خرافة -الاحتلال التق ...
- -الصهيونية الماركسية-وجذور: المرحلية والنسبية، فى الفكر الصه ...


المزيد.....




- فنان فلسطيني يجسد تاريخ وتراث القضية الفلسطينية في لوحاته (ص ...
- فنان فلسطيني روسي يجسد تاريخ وتراث القضية الفلسطينية في لوحا ...
- هيبقى فيلم جباااار..حقيقة تحويل لعبة جاتا لفيلم سينمائي في ا ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- فنان إيطالي يتعرّض للطعن في إحدى كنائس كاربي
- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حاتم الجوهرى - طرق مطاردة الذات فى قصيدة النثر المصرية