أحمد عصيد - كاتب وشاعر وباحث أمازيغي مغربي، وناشط حقوقي وعلماني - في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: كيف نستعيد الثورات المهرّبة؟


أحمد عصيد
الحوار المتمدن - العدد: 3957 - 2012 / 12 / 30 - 15:59
المحور: مقابلات و حوارات     

من اجل تنشيط الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية بين الكتاب والكاتبات والشخصيات السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى من جهة, وبين قراء وقارئات موقع الحوار المتمدن على الانترنت من جهة أخرى, ومن أجل تعزيز التفاعل الايجابي والحوار اليساري والعلماني والديمقراطي الموضوعي والحضاري البناء, تقوم مؤسسة الحوار المتمدن بأجراء حوارات مفتوحة حول المواضيع الحساسة والمهمة المتعلقة بتطوير مجتمعاتنا وتحديثها وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المرأة والعدالة الاجتماعية والتقدم والسلام.
حوارنا -95 - سيكون مع الأستاذ أحمد عصيد - كاتب وشاعر وباحث أمازيغي مغربي، وناشط حقوقي وعلماني -  حول: كيف نستعيد الثورات المهرّبة ؟  .

 

كانت السنة الأولى من العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين ، فاتحة عهد جديد طبَعه مدٌ غير مسبوق من الحراك الشبابي المفعم بالآمال، والمعتدّ بوسائط الإتصال الأكثر حداثة، حاملا معه روحا جديدة شعارها الحرية والمساواة والعدل، ومنطلقها إرادة الشعوب في الحياة، وهدفها الأسمى تحقيق الكرامة الإنسانية، وبناء دولة القانون التي عمادها التداول على الحكم وفصل السلطات واستقلال القضاء وسمو القانون والتدبير المعقلن لشؤون المجتمع، وهي القيم التي أصبحت اليوم رصيدا للإنسانية جمعاء، وخلاصة تجارب الشعوب والأمم التي قدمت تضحيات جسيمة من أجل تجاوز مساوئ الماضي الذي عرف الاستعباد بكل أنواعه، والتفاوت بين البشر بكل أضرُبه وأشكاله، كما عرف الدول الدينية التي كانت نماذج للقهر باسم السماء، وللاستخفاف بالكرامة الإنسانية سواء في الشرق أو في الغرب.
أدّى هذا الحراك القوي في بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط إلى إسقاط حاجز الخوف، وتكسير الطابو السياسي الذي يجعل من التسلط قدرا لا مفر منه، ومن التغيير أسطورة بعيدة المنال، وجعل القوى الحية تستعيد الثقة في مشروعها وخطابها، ومنح الشارع وصوت الشعب مصداقية جديدة كانت قد بدأت تتآكل وتستحيل إلى سراب.
وبقدر ما كان الأمل في هذه الانتفاضات كبيرا، بقدر ما ظهرت بالتدريج مخاوف الصفّ الديمقراطي من إجهاض هذا الحراك أو توجيهه الوجهة التي تؤدي إلى تكريس استبداد جديد باسم السماء، بعد عقود من الاستبداد باسم العسكر أو العائلة أو الشخص. وكان وراء هذا التخوف ما لاحظه الفاعلون السياسيون والمدنيون اليساريون والليبراليون من ترامي القوى المحافظة على الثورات المنجزة ومحاولة تحويلها لصالحهم، وهو أمر طبيعي تماما للأسباب التالية:

1) لأن القوى الإسلامية هي الأكثر تنظيما ، حيث استفادت من السنوات المنصرمة التي كانت فيها محاصرة ومضطهدة، لكي تتوفر على آلية انتخابية مروّضة ميدانيا.


2) لأن الإسلاميين بسبب الحصار الذي ضرب عليهم من طرف أنظمة الاستبداد توجهوا إلى العمل في عمق المجتمع، وعملوا فيما يمكن تسميته بـ "الإسلام الاجتماعي" عبر النشاط الخيري الذي سعى إلى الظهور بمظهر من يعوض الدولة في غيابها في مجالات محدّدة.


3) لأنّ الأنظمة الاستبدادية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، خلال صراعها ضدّ الشيوعيين أو اليسار الاشتراكي، عملت على احتكار الشأن الديني واستعمال العقيدة في المجال السياسي بشكل أدى إلى النتيجة نفسها التي يريدها الإسلاميون، وهي انتشار الوعي المحافظ وانحسار الوعي الديمقراطي التقدمي. فرغم أن الإسلاميين لم يكونوا يُشرفون على مجالات الإعلام والتربية والتعليم، إلا أن هذه المجالات لعبت أدوارا هامة لصالحهم بسبب عدم رغبة الأنظمة القائمة في إنجاح الانتقال نحو الديمقراطية، حيث اعتبرت أن الخطر الذي يهددها هو مطالب الحداثيين، كما اعتقدت بأن الإيديولوجيا الدينية السلفية ستظلّ دائما مسالمة، وأساسا لتكريس أخلاق الطاعة والولاء والمهادنة، ولم تتوقع أن تصير هذه الإيديولوجيات تنظيمات مسلحة وعنيفة تهدد استقرار بلدان العالم بأسره، وليس فقط الدول الإسلامية.


4) لأن القوى الديمقراطية في معظمها قوى معارضة تقاطع العملية الانتخابية باعتبارها غير شرعية، وعندما تكون الأغلبية مقاطِعة، فإن الأقلية المنظمة هي التي تستفيد من عملية الاقتراع، فقوة الإسلاميين ـ الذين يتوفرون على كتلة ناخبة منضبطة ولكنها محدودة ـ إنما مصدرها عزوف اليساريين والليبراليين وبقية الشرائح الاجتماعية التي تشكل الأغلبية الفعلية، وانقسام صفوفهم وتشرذمهم. هكذا أصبحت الفكرة القائلة بعدم المشاركة في الانتخابات لنزع الشرعية عن المؤسسات، أصبحت تلعب بعد الثورات دورا خطيرا لصالح الإسلاميين، بل إنها في مصر كانت وراء نجاح الإخوان والسلفيين بشكل واضح، وكذا وراء صعود محمد مرسي رئيسا للدولة، ووراء تمرير دستور ديني في استفتاء لم يصوت عليه إلا 11 في المائة من المصريين الذين في سنّ التصويت، بعد أن قاطع 67 في المائة العملية كلها وصوت 33 في المائة بـ"لا"..


5) لأن اليساريين والليبراليين لم يهتموا كثيرا بموضوع الدين في عملهم التحسيسي والتأطيري، معتقدين أن هدفهم المتمثل في إنجاح الانتقال نحو الديمقراطية الشاملة، يمكن أن يتحقق دون الاشتغال من داخل المنظومة الدينية نفسها، مما جعل القيم الحداثية تبدو لدى العامة كما لو أنها غربية المنزع ، وعديمة الجذور في التربة المحلية. وقد أدّى هذا إلى جعل الإسلام بمفهومه السلفي المتشدّد (الوهابي) هو السائد في الخطاب السياسي وإن لم يكن هو السائد لدى أغلبية المواطنين في حياتهم اليومية.


6) تسلح الوهابية العالمية بأموال البترول التي أصبحت عامل تخريب واحتواء لكل دينامية تسير في اتجاه التحديث والدمقرطة. وهو عامل ظهر بقوة وبشكل مكشوف خلال الثورات وبعدها، حيث لعب المال الخليجي دورا كبيرا في الانتخابات المصرية والتونسية والليبية، كما يتوقع أن يلعب دورا أكبر في الحياة السياسية القادمة لدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط.


لهذه الأسباب ليس أمرا مستغربا صعود نجم الإسلاميين بعد الثورات، ومحاولتهم استعادة الدولة الدينية التي ناضلوا من أجلها منذ انهيار الخلافة العثمانية.


والسؤال المطروح حاليا هو كيف يمكن للقوى الثورية التي قادت الانتفاضات أن تستعيدها وتوجهها من جديد الوجهة الصحيحة ؟


أولا:
 لا بدّ من الانطلاق من مبدأ أن الثورة ليست هي الأحداث التي وقعت في الشارع لبضعة أسابيع، والتي انتهت بطرد الحاكم الفرد أو قتله، بل هي كل الدينامية التي تتمخض عنها والتي قد تستمرّ لسنوات، ومن هذا المنطلق فالثورة انطلقت ولكنها لم تنته بعد، وهذا ما يسعى الإسلاميون إلى طمسه بطيّ الصفحة والتصرف كما لو أن الثورات أعطت ثمارها بصعودهم، بينما الحقيقة أن الثورات لم ترفع شعارات دينية، ولا طالبت بحكم الإسلاميين، بل اندلعت من أجل الكرامة والحرية المساواة والعدالة الاجتماعية وغيرها من المطالب التي ما زالت قائمة ولم يتحقق منها شيء.


ثانيا:
 لقد أفرزت الساحة السياسية بعد الحراك الشعبي خريطة جديدة للتكتلات والتحالفات، منها تراجع التقسيم التقليدي يمين / يسار، اشتراكي / ليبرالي، لصالح تقسيم جديد يشمل معسكرين لا ثالث لهما، معسكر الحداثيين ومعسكر السلفيين، يضمّ الأول اليساريين والليبراليين والقوى المدنية والسياسية المختلفة لتي تؤمن بالديمقراطية كما هي متعارف عليها عالميا. بينما يضمّ المعسكر الثاني كل القوى التي ترى بأن القيم الديمقراطية غربية المنشأ وأن العودة إلى الشريعة الدينية يمكن أن يشكل أساس نهضة في العصر الراهن.


ثالثا:
 أن الخريطة الجديدة المذكورة تفرض السعي إلى تشكيل جبهة موحّدة لمواجهة التحديات القادمة، والحفاظ على المكتسبات الضئيلة التي تحققت خلال المراحل السابقة، والتي كانت نتيجة نضال وتضحيات لا ينبغي أن تذهب سُدى. وما سيجمع بين قوى هذا التكتل هو الشعور المشترك بالخطر، وهو تكتل يمكن أن يتشكل من القوى السياسية اليسارية والليبرالية، ومن القوى المدنية كالحركات النسائية والأمازيغية والشبابية، ومن الأقليات الدينية والإثنية التي يتهدّدها المشروع الوهابي.


رابعا:
 ضرورة العمل في عمق المجتمع عبر التحسيس والتأطير والتعبئة من أجل استعادة الأغلبية المقاطعة والعزوفة عن السياسة، والتي يدين لها الإسلاميون بنجاحهم، وذلك من خلال إعادة الحياة إلى المقرّات الحزبية وتنشيطها، وانتهاج سياسة القرب من السكان عبر الحملات التوعوية، وإتاحة الفرصة أمام الشبيبات الحزبية للتعبير عن رأيها و التحرك في المجتمع.


خامسا:
 سيكون على هذه القوى المتكتلة الاستمرار في مقاومة أي شكل من أشكال تفعيل الدساتير التي يضعها الإسلاميون مستفيدين من السياق الحالي، وخاصة في القطاعات التي ستمسّ مباشرة حريات الناس وحقوقهم الأساسية، دون التخلي عن استعمال ورقة الشارع واستمرار الثورة إلى أن تتحقق أهدافها الكبرى المعلنة، وترسيخ أسس الديمقراطية بشكل نهائي لا رجعة فيه.


سادسا:
 على القوى الديمقراطية كذلك الاستفادة من أخطاء التجربة المصرية، وأخذ العبرة من الطريقة التي يستولي بها الإسلاميون على الدولة باعتماد الأقلية المنظمة على حساب الأغلبية المتفرقة، والحسم في ضرورة إنهاء موقف المقاطعة الذي يجعل الأغلبية رهينة في يد الأقلية الحاصلة على أغلبية نسبية، والتحلي باليقظة من أجل الحفاظ على المكتسبات، ثم توسيعها في اتجاه الترسيخ الديمقراطي الشامل.