أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - جبران أديب - في الخطاب اليساري التونسي الحالي















المزيد.....


في الخطاب اليساري التونسي الحالي


جبران أديب

الحوار المتمدن-العدد: 3954 - 2012 / 12 / 27 - 12:58
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
    



هل يتجاوز اليسار التونسي مِحنَه وقصورَه بإبداع؟
الحلقة السادسة: في الخطاب اليساري التونسي الحالي:


لقد سبق أن تحدثت أعلاه عن مشكلة النظرية وقراءة الواقع فلا داعي للعودة إليهما لأنه لا تغيير حقيقي وعميق حصل فيهما؛ إذ إن ذلك يقتضي تقييما واسعا وعميقا وهو ما نعتقد أنه لم يجر إلى حد الآن بصفة منهجية، ولكني سأركز في هذا المحور على تفاعل اليسار مع الجماهير وتعاطيه مع الأحداث في فترة ما قبل انتخابات 23 أكتوبر 2011 وخاصة ما بعدها .
في ما يتعلق بقضايا الهوية والنظام السياسي فقد بات الخطاب اليساري الجذري يتبنى الديمقراطية التعددية التي ينتمي فرقاؤها إلى مشاريع مجتمعية لا مشاريع دينية أو إيديوجية وهمية أو مشاريع دغمائية بما فيها المنسوبة إلى الماركسية، والتوتاليتارية الملازمة للتجربة السوفياتية والصّينية ...إلخ.
ومن حسن الحظ أن أصبح بعض قيادات اليسار يعي أن السلامة في اختلاف تلك المشاريع لا في تماثلها وتوحدها، وهذا هو الفرق بين السياسة الخلافوية و الشوروية "المحيَّنة بآليات الديمقراطية الشكلية" التي تفرغ الاختيار الشعبي من محتواه و لا توظف إلا المظهر الشكلي للديمقراطية المتمثل في التصويت الآلي البارد، وبين سياسة النظم الجمهورية والديموقراطية التي تسعى إلى توفير كل الضمانات للاختيار الشعبي الحرّ ، وتضمن في الوقت نفسه حق الأقلية في الوجود والتعبير والاعتراض ؛ حيث يواجه الرأيُ الرأيَ المقابل، ولا تسمح لأي طرف أن ينحو منحى شموليا كما لو كان يملك الحقيقة المطلقة.
ولهذا نرى اليسار - بعد الانتخابات الماضية - يبدي اهتماما متزايدا بضرورة مناقشة وطنية واسعة حول نظام الحكم (برلماني، أم رئاسي، أم مختلط....) ولكنه لم يعدّ ترسانة نظرية متكاملة لنقد الطرح ذي الخلفية الدينية سواء ما كان منه ذا طابع وهابي أم مالكي أم غير ذلك. وبسبب غموض رؤيته وعدم اكتمالها لم نرَ سياسييه ومثقفيه ينتشرون للمحاضرة في الجماهير بما يتلاءم وإدراكها. ولم يشرح للناس البسطاء ما معنى أن يكون الحكم مدنيا قائما على تدين متلائم مع البيئة التونسية وهي النظرة التي يلتقي فيها إلى حدّ ما مع الحركات الإصلاحية والليبرالية. ولم يحلل الخلفية العربية الإسلامية للهوية التونسية وطابعها الحضاري، ولم يبلور فكرة تساوي الروافد الحضارية التي صاغت هوية البلاد وتركت بصماتها الإبداعية فيها فشكلت شخصية تتميز بالطابع التقدمي في الحياة العامة وبالاعتدال الديني في بعدها الروحي والعقدي: وهُنا بالذات لا نرى اليسار يتميز بتبيان البعد التقدمي للثقافة التونسية ولا نجده يطرح القضايا الاجتماعية والثقافية بتجاذباتها وتناقضاتها ؛ ففي حين استقطب اليسار المتحجبات مثلا في أحزابه لم يناقش فكرة تحرر المرأة التونسية على مدى التاريخ من وصمة العورة ولم يبين أن المجتمع التونسي لم يكن يفرض الاحتجاب على المرأة ولم يبين أن البيئة التونسية لم تتبنّ النقاب على نطاق واسع. وأن الدعوات إلى الفصل بين الجنسين في المدارس والجامعات هي دعوات لا تتلاءم مع الثقافة الشعبية التونسية. ولم يكشف على أن السعي غير المعلن إلى تمرير نظام الكفالة بدل التبني يحطم النقلة الحضارية الكبيرة في إطار مفهوم الأسرة المسلمة الذي قرئ قراءة مقاصدية. ولم نره يشدد على مقاومة السعي تدريجي إلى الإقرار بأنماط من الزواج غير المدني كالزواج العرفي (وربما لاحقا المسيار المعمول به في بعض بلدان المشرق)، بل الدعوات إلى تعدد الزوجات... وغير ذلك من الإجراءات التي تسعى إلى ما يسمى بأسلمة المجتمع، وكل ما من شأنه أن يهدد الشخصية التونسية . هذا وغيره كثير ينقص اليسار معالجته ووضع بصمته فيه . وهنا يجب التذكير أنه على اليسار ألا يدعَ الآخرين من المتدينين الإصلاحيين والليبراليين يتفردون بتبني هذه القضايا والدفاع عنها حتى لا تبقى فوقية، وحتى لا يتم توظيفها فئويا وسياسيا مثلما حصل في المراحل السابقة.
كما نلاحظ انحسار إقبال اليسار - والتقدميين والحداثيين عامة - على المضي قدما في تعميق القراءات التقدمية للثقافة العربية –الإسلامية مثل الأفكار القائلة بمدنية الدولة في الإسلام بل علمانيتها مثل ما طرحه الشيخ علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" مما يجد له سندا في النص الديني والفعل النبوي. ولا بأس من التوسع في عرض النموذج التركي الأتاتوركي للفصل بين السياسة والدين مع قيام الدولة برعاية شؤون الدين . هذا النموذج يقدم صورة موازية التوافق بين العلمانية والإسلام أواللائكية والدين لما عرف في الغرب ورغم أنه مشتق من التصور الفرنسي الذي ينعته الإسلاميون على غير تدقيق بالعلمانية الشاملة أو اليعقوبية فهو ربما أقرب للتجربة الإنكليزية أو حتى الأمريكية التي يسميها الإسلاميون العلمانية الجزئية بل هي صورة معدّلة وفق الإطار الحضاري الإسلامي. كان على اليسار دراسة هذا النموذج ومقارنته أيضا بالنموذج التونسي والوقوف على خصائصه مع بيان نواقصه ودورانه في فلك العولمة خاصة بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم ومحاولاتهم تحوير هذا النموذج أو الحد من مظاهر العلمنة في الحياة التركية رغم تصريحات أردوغان بأنه لا تعارض بين العلمانية والإسلام.
كما نلاحظ فتور المطالبة بنظام الإرث بالتساوي بين المرأة والرجل والمطالبة بحرية المعتقد بناء أولا وأساسا على حق الاختلاف الذي تضمنه المبادئ القانونية العالمية بل تكفله أيضا الشرائع الدينية في تأويلاتها المتسامحة. وهذه طلبات ظهرت منذ أمد في الحياة الفكرية والسياسية التونسية قبل الثورة واستمرت بل قويت بعيْد الثورة بقليل، ووجد قادة النهضة أنفسهم في حرج شديد في مناقشتها وقتئذ لأن المد الحداثي كان مؤثرا وفاعلا؛ مما يعكس حقيقة ضعف مشاركة النهضاويين في الثورة واضطرارهم للمهادنة في بداياتها ومسايرتهم لطروحات الفاعلين الرئيسيين فيها، في حين انقلبت الموازين خاصة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 وبات الحداثيون واليسار منهم في حالة دفاع يتمسكون بالحد الأدنى من مظاهر المدنية والمساواة.
صحيح أن الدرس الذي استخلصه اليسار والليبراليون والحداثيون هو أنه لا يمكن أن نخرج مباشرة من الاستبداد وعقلية الحزب الواحد إلى الديمقراطية؛ فشعبنا وإن اختلف نسبيا عن بقية الشعوب العربية في درجة تمدنه فإنه هو الآخر عاش طويلا على عبادة الزعيم والحاكم الواحد، ولم يألف قيم التعددية والديمقراطية والتداول على الحكم والحوار...إلخ، فهي مازالت بعيدة عن متناول عقلية المواطن التونسي العادي على صعيد الممارسة (يُنظر محور "فوبيا الإسلاميين من "العلمانية الشعبية والنخبوية غير المدجنة" إسلامويا أو نهضويا" في مقال العربي بن ثاير المنشور في موقع الأوان أون لاين تحت عنوان "الإسلام السياسي ومفارقات الفلسفة الذرائعية للمشروع المجتمعي: تونس أنموذجا"). بيْد أننا نودّ التشديد على أن ما يرنو إليه المجتمع التونسي المعروف باعتداله في نهاية المطاف من تسامح واختلاف ليس مقصورا على النخبة والطبقة الوسطى فقط، بل يشمل حتى الطبقات الشعبية. وهذا الاتجاه المدني العريق إذا استطاعت المعارضة التقدمية بجانحيها الليبرالي واليساري أن تكرسه وتوسعه فكريا وسياسيا في أرض الواقع فستزيده الأيام تبلورا كلما ابتعدنا عن عصر الخوف والرعب الذي شكل جانبا من وجدان التونسي وترسب في لاوعيه، وكلما شعر التونسي بقيمة ثورته ذات البعد الإنساني العالمي وتمسك بكرامته وثمّن عاليا مواطنته وتشبّث بأبعادها الحضارية، ومارس حريته على الوجه المدني الديموقراطي المنشود
غير أن اليسار لم يفلح في إيجاد صيغة تمايز حقيقي عن اليمين الديني من جهة وعن الليبراليين من جهة أخرى، ولذلك هرع إلى أن تبئير الخطاب حول الفاقة والحاجة والجوع والفقر والبطالة والتهميش والشهداء والجرحى واستعادة الأموال المنهوبة ومقارعة الفساد ومحاكمة المفسدين والمرتشين والقناصة والقتلة وأولوية المحاسبة ثم المصالحة، والدفع نحو إعادة هيكلة الإعلام، واستقلالية القضاء... إلخ. ويبدو لي أن كل هذه المتطلبات أيضا لا يختلف وطنيان صادقان، لا فقط يساريان، في أولويتها. وأن الإسراف في الحديث عنها، والاكتفاء بها دون غيرها من أبعاد أخرى من المفروض أن يتضمنها الخطاب السياسي الثقافي اليساري، وإن كان يبدو تكتيكا مفحما بل ربما مبكّتا إلى حد ما، فإني أظنه غير ناجع وغير كاف استراتيجيا في الانتخابات القادمة؛ حيث أنه قد بات نوعا من الشعبوية الفجة والسطحية شديدة المباشرتية التي قد تكون مفلسة عند أول حركة بهلوانية نهضوية أو ترويكية قبيل الانتخابات بثلاثة أشهر مثلا؛ حيث من المتوقع أنهم سيعلنون حينها عن حزمة من "المشاريع والمبادرات" التي قد تعيد استقطاب من بدؤوا يغادرونهم ،،، إن الاكتفاء بالمطلبية إذن سيغدو حينئذ أمرا تمجه النفس حتى عند الجمهور الذي يتحدث عنهم هذا الخطاب؛ فالناس - حسب الانطباعات أو حتى "الدراسات الإحصائية" التي تظهر من حين إلى حين - لم يهربوا من النهضة وإن تقلص إشعاعها، ولا حتى من المؤتمر والتكتل. ولا هم انصرفوا حتى عن بقايا التجمعيين فضلا عن الدساترة الذين يستغلون المتن المعصرن لخطاب الدولة الوطنية المسماة أمة تونسية بكاريزما بورقيبية مجددة. ولا ملوا شعبوية الإسلاميين المغلفة بأردية الوعود الخلب والمخيال التقليدي الخليفي لعصور خالية لكنها مازالت جذابة ومغرية، ومن الأكيد أنهم سيعدلون أوتارها ونغماتها وفق بعض المتطلبات الحالية. ولا شعبوية الجنون المحفز للخيال الثورجي كما يبدو عند المرزوقي وجماعته وحتى عند المنشقين عنه.
هناك إذن أشياء أخرى تشد الجماهير غير لوك خطاب البطون الجائعة والجيوب الخاوية والافواه الفاغرة والجراح الغائرة ،،،وهذا ما على اليسار أن يكتشفه ولم لا أن يبدعه؛ فعلى مدى التاريخ توجد نماذج من قمة الجاذبية وسحر الخطاب ما يمكن الاشتغال عليه واستثماره، فبورقيبة كان يسحر وهتلر كان يسحر وعبد الناصر كان يسحر وغاندي كان يسحر ولينين كان يسحر وجيفارا كان يسحر واليوم حسن نصر الله يسحر وبوتين يسحر وأوباما أيضا يسحر .
وإنه لمن المؤسف أن نرى يسارا ضاربا في تاريخ البلاد بطولها وعرضها وعمقها ولكنه خال من كل رمزية وجاذبية أخرى غير محمد علي الحامي وفرحات حشاد الذي جعله اليسار يساريا وهو إلى الدستوريين الوطنيين المناضلين والشعبيين أقرب ... ومن المحزن أن يفتقر هذا اليسار إلى كاريزمات حقيقية وشخصيات وازنة وخطاب ساحر .
صحيح أن سحر الخطاب لا يكفي، وأن النهضة مثلا فازت في الانتخابات وليس لديها خطيب واحد ساحر ... وأن محمد الهاشمي الحامدي – الإسلامي السابق ورئيس قائمة العريضة الشعبية - لم يكن ساحرا، وأن المرزوقي لم يكن ساحرا أيضا، ومصطفى بن جعفر لا لمسة من سحر لديه ... ولكن في الخطاب وبعض المواقف جاذبية ما على اختلاف هؤلاء الفرقاء، وإن كان مضامين خطاباتهم عقيمة عمليا؛ تلك الجاذبية التي وصفتها بأنها شعبوية زائد شيئا ما سنتحدث عنه في المحور الأخير من هذا المقال، في حين أن في الخطاب في اليساري - وحتى التقدمي المقابل – جفاف وعقم، وإن كان في مضمونه ثراء وجدة وعمق.
ولو عمل اليسار بطريقة منهجية على بلورة خطاب جامع عميق وساحر فإن كثيرا من الموازين ستتعدل بالعمل الدؤوب وبالإبداع.
هذا، ولن يكون اليسار يسارا بدون إبداع وسحر... ونذكر أن رجيس دوبريه يشبه السياسي بالساحر ، ولكن يجب أن نحذر قفا العُملة الذي تحدث عنه ريجيس دوبريه نفسه حين أشار "إلى أن سحر القول في السياسة يدعو إلى تفكير سحري في الأمر السياسي".
فالسحر الذي نعنيه ليس التفكير السحري بل التفكير العقلاني الساحر ، والسحر في معناه الأساسي القدرة الفذة بل الخارقة على الجاذبية والقدرة الفذة بل الخارقة على إبطال الجاذبية المضادة . وحاجة اليسار –والمجتمع بأكمله- إلى الخطاب الواقعي الساحر - لا السحري – نابع من أنه اليوم يواجه واقعه كما هو بحقيقته الحافية العارية، وعليه وعلى أحلافه أن يجتهدوا بأقصى سرعة وأدق منهجية وأصح بيداغوجية لتغييره.
لقد تخلصت تونس من الدكتاتور، ولكن ها هي الديكتاتورية السوداء الناشئة قد انتصبت عليها بمأساة شارك اليسار والحداثيون جميعا فيها. وهي تُقيم على كواهل الجميع، وقد أعادت رسكلة أشنع الفاسدين التائبين إليها . إنها إذن مرحلة تصعيد "ضحية هولوكوستية" ليس لها من الشرعية النضالية إلا الشرعية "السجنية" التي لم تكن من أجل الشعب بل كانت من أجل الحزب. لقد كانت هذه الحركة على طرفي نقيض مع الدولة بمجتمعها وأحزابها ومنظماتها، ولم تكن فعليا مناهضة للسلطة من أجل النهوض بالمجتمع بل من أجل أن تحل هي محلّ السلطة. ولقد فشلت – في مرحلة سابقة - في اكتساح الفضاء الاجتماعي والسياسي؛ لأنها كانت انفرادية تدعي امتلاك الحقيقة كما كان نظام الحكم يفعل أيضا. ثم استطاعت هذه الحركة أن تتسرب إلى المجتمع السياسي والمدني حين ارتدت قميص التعددية والمدنية والمسالمة والتسامح الدفاع عن الحريات والحداثة، واليوم تتكشف عن عمق رجعيتها بل سلفيتها، فلئن أوحت في مخاضات ما قبل الثورة بأنها باتت ديموقراطية المنهجية والبيداغوجية كما جاء ذلك في تفاهماتها مع الذين خدعتهم في 18 أكتوبر 2005 ، فإنها ظلت ترسل إشارات متعددة مربكة ومتضاربة ومزدوجة، من أجل جعل الحداثين على اختلاف حول تقييمها دائما، فيرى بعضهم الإشارات التي تعجبه ويحاجج بأنه" متفائل"، وينعت الآخر بأنه لا يرى في النهضة إلا شيطانا فهو إذن "متشائم" . وينسى الجميع أن مساءلتها تكون في مستوى نصوصها التأسيسية ذات النزعة الإخوانية السلفية المنغلقة التي مازالت تتمسك بها ولا ترتضي عنها بديلا، وتنشرها في موقعها الرسمي. ومن خلال كتابات زعمائها لاسيما راشد الغنوشي الذي لم يتخلّ عن أي حرف في كتاباته الأصولية السلفية الإخوانية وأن محاسبتها تكون من مدى تطابق أقوالها بأفعالها. (ينظر في هذا الصدد على سبيل المثال مقال بيرم ناجي: "حركة النهضة التونسية: دراسة نقدية"، في موقع الحوار المتمدن، ومقالين متصلين بقلم العربي بن ثاير : "في الإسلامي السياسي: الخطاب والممارسة 1 و2 " في موقع الأوان أون لاين، ومقال مصطفى القلعي: " معًا من أجل الخلافة السّادسة بإذن الله"، في موقع الحوار المتمدن) .
ولكن حتى خطابها القيادي "الحداثي تطمينيا" ، أي الذي يريد -في ظاهره- أن يظهر بمظهر الحداثة المطمئنة، لم نره يبدي ولو شيئا من التحفظ الجدي والعلني على خطاب آخر في ذات الحركة يجذر الإقصاء والعنف ويجتاح المجتمع بالإهانات والتدخل في شؤونهم الدينية و التبكيت وإيقاع الخجل في نفوس الناس البسطاء، وفرض تصوراته السلفية القمعية المنغلقة بالتسلط الفكري والتأثير النفسي أو حتى بالقوة والقهر.
هذه القيادات النهضاوية (التي تدعي أنها باتت مدنية والواقع نفسه يكذبها كل يوم وفيديوهات الغنوشي نفسه تفضحه بين الفينة والأخرى) لا يسعى من هم أكثرها إيمانا بالتحديث فيها قيد أنملة لوضع حد لسطوة كوادر وسطى ودنيا وقواعد وأنصار ومتعاطفين هم أقرب إلى السلفية الجهادية التي تسعى إلى "أسلمة" المجتمع المسلم أساسا وأصلا عبر إيديولوجية مغلقة، فارضةً إياها كما أسلفنا على المجمتع . إنها إذن إزدواجية الخطاب، وإزدواجية التنظيم، وإزدواجية والأهداف في حين أن خطتهم موحدة: وهي ابتلاع المجتمع، تهديمه، إعادة تفصيله على مقاسهم... ولم يعد لهم سبيل إلى إنكارها !
"وهذا الخطاب- إلى ذلك- يؤثر التصالح مع طبقة الاستبداد والفساد داخليا، والهيمن الإقليمية والدولية خارجيا، معيدا إنتاج "التجمع" البائد بمساحيق شرعية ودينية ومدنية سطحية وبائسة، وكأنّ كل همِّه -بل وَهْمه- هو "استعادة" الإسلام بأي ثمن وبأي وسيلة ولو كانت أغرب من الميكيافلية وذلك على حساب تحمل مسؤولياته الوطنية والاجتماعية التاريخية تجاه المفقرين والعاطلين والجياع حين يبحث عن تحالف واسع يميع فيه المسؤولية، ويتخفى وراءه في صورة الفشل، ويزهو بحنكته وحكمة قيادته في صورة النجاح الذي ستعمل الدوائر الخارجية ما في وسعها على إضفائه حتى يتم إحكام السيطرة على مقدرات البلاد مع غض النظر عن تدهور منسوب الحرية والازدهار الحقيقي والبهجة التي أعقبت الثورة...
إن مهمة اليساريين، الذين تمثلهم الجبهة الشعبية تحديدا، والديموقراطيين التقدميين في الأحزاب الأخرى كالتحالف الديمقراطي وغيره، هي مهمة كبيرة الآن ومتعددة الأوجه، وتتمثل أساسا في محاصرة بقايا الدكتاتورية البائدة، و التدخل الأجنبي سافرا كان أم متحجبا، ومحاربة الفكر الكلياني الشمولي والأصولي، والدكتاتورية الملتحية التي تأتي من سطح المجتمع وقاعه.
إن بعض مكاسب الحداثة وبعض الحريات الفكرية والاجتماعية المكتسبة في العهد البورقيبي خاصة - رغم نواقصها الشديدة ورغم أنها كانت فوقية وموظفة سياسيا - مهددة اليوم في الصميم، و الخسائر قد تكون أجسم أمام التراجعات الفكرية وتخلخل القيم التنويرية وهشاشتها، إذا لم يتصد لحمايتها اليساريون والتقدميون والديمقراطيون عن طريق وضع برنامج مشترك – حتى وإن كانت خطة العمل خاصة بكل طرف - للدفاع عنها والتمسك بها والجرأة والشجاعة في نشرها ومزيد توضيح قيمتها الحياتية للجماهير الواسعة؛ إذ يبدو أن مهمة الدفاع عن استقلال القرار الوطني سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعن الحريات الجماعية والفردية –وفي صميمها ومركزها الحريات الشخصية – ازدادت حدة مع توسع العلاقات غير التكافئية مع المشرق العربي ومع الغرب، وليس لليسار إلا أن يكون في مقدمة من يعملون على "فرض" قيم المواطنة والتسامح والاختلاف من جهة، والدفاع عن الحقوق الوطنية والعدالة الاجتماعية وكل ما انبثق من أجله من رحم المعاناة وسديم المكابدة ماردُ ثورة الحرية والكرامة.
ولذلك نرى أن عدم إدراج المسائل الحضارية والثقافية والمؤسساتية بشكل منهجي في خطاب اليسار يجعله كسيحا لا جاذبية فيه مهما أوغل في دعوات الاحتجاج الاجتماعي والتنديد بالاختيارات الاقتصادية الليبرالية المتوحشة، ونكتفي في هذا الصدد بمثالين ساطعين من الأمثلة ذات الصلة بالشأن السياسي عامة والشأن الانتخابي على وجه الخصوص:
1- إنه لمن الغريب مثلا ألا تُصدر عن الجبهة الشعبية دعوة لعقد مؤتمر أو ندوة أو لتشكيل هيئة وطنية مستقلة ومدنية لمحاسبة الفساد والاستبداد مثلا "تاركين " المبادرة لحركة وفاء المنشقة عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، في حين أنه قد تبين من خلال برامج هذه الحركة ومنشوراتها ومحاورات أمينها العام وبعض قيادييها أنها لا تمتلك رؤية اجتماعية واقتصادية واضحة تفصلها عن خيارات حركة النهضة.
2- وإنه أيضا لملفت للنظر ألا يكون اليسار مستعدا (كما قد يبدو على الليبراليين والوسطين أنهم يفعلون) لطرح مبادرة لفرض ضمانات نزاهة الانتخابات المتملثة –على سبيل الذكر لا الحصر - فيما يأتي:
• المطالبة بالإيقاف الفوري لاستفراد النهضة بالتعيينات الإدارية الحزبية؛حيث اشتكى حتى من هم معهم في الترويكا من غرس النهضاويين والتجمعيين المتنهضين في الإدارة التونسية من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، لاسيما المواقع السياسية الحساسة ذات الصلة بالشأن الانتخابي.
• المطالبة بتشكيل لجنة وطنية محايدة للتعيينات الإدارية.
• العمل على إيقاف الاستحواذ التدريجي على الإعلام العمومي من قبل النهضة، وإيجاد مبادرة سياسية إعلامية تفصيلية لفرض الديمقراطية في التعاطي الإعلامي مع الشأن العام.
• المطالبة بالرجوع عن مشاريع تدجين القضاء، وتقديم مبادرة تفصيلية في هذا الشأن.
• العمل على إيجاد آلية مدنية ما لمراقبة تشكيل الهيئة العليا للانتخابات عن كثب وخاصة الهيئات الجهوية المنبثقة عنها في الجهات والولايات.
• المطالبة بخارطة الطريق الواضحة والتفصيلية لإجراء الانتخابات.

إن ما قد يتذرع به اليسار من مشاركته في مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل والمؤتمر الذي دعا له ونظمه يوم 16 اكتوبر 2012 وأنه ينتظر استئناف الحوار ضمن تلك المبادرة، لا يمكن أن يكون حجة على تأخر بلورة مبادرة منهجية شاملة خاصة به وفق المقاربة اليسارية، يمكن أن يتم الحوار حولها بين مختلف الأطراف أو يمكن أن تدخل في حوار مع مبادرات الأطراف الأخرى من اجل انتاج مبادرة مشتركة تحظى بموافقة فعاليات العمل التقدمي الديمقراطي الوطني .



#جبران_أديب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تفاعلات انتخابات 23 أكتوبر 2011 ومطبّات الآتي
- هل يتجاوز اليسار التونسي مِحنَه وقصورَه بإبداع؟ الحلقة الراب ...
- النخبة اليسارية التونسية ماقبل الثورة
- الحلقة الثانية - ملامح اليسار العالمي ما بعد انهيار المعكسر ...
- هل يتجاوز اليسار التونسي مِحنَه وقصورَه بإبداع؟ الحلقة الأول ...


المزيد.....




- في وضح النهار.. فتيات في نيويورك يشاركن قصصًا عن تعرضهن للضر ...
- برج مائل آخر في إيطاليا.. شاهد كيف سيتم إنقاذه
- شاهد ما حدث لمراهق مسلح قاد الشرطة في مطاردة خطيرة بحي سكني ...
- -نأكل مما رفضت الحيوانات أكله-.. شاهد المعاناة التي يعيشها ف ...
- -حزب الله- ينعي 6 من مقاتليه
- صفحات ومواقع إعلامية تنشر صورا وفيديوهات للغارات الإسرائيلية ...
- احتجاجات يومية دون توقف في الأردن منذ بدء الحرب في غزة
- سوريا تتهم إسرائيل بشن غارات على حلب أسفرت عن سقوط عشرات الق ...
- -حزب الله- ينعي 6 من مقاتليه
- الجيش السوري يعلن التصدي لهجوم متزامن من اسرائيل و-النصرة-


المزيد.....

- عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية / مصطفى بن صالح
- بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها / وديع السرغيني
- غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب / المناضل-ة
- دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية / احمد المغربي
- الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا ... / كاظم حبيب
- ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1) / حمه الهمامي
- برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب / النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
- المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة / سعاد الولي
- حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب / عبدالله الحريف
- قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس / حمة الهمامي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي - جبران أديب - في الخطاب اليساري التونسي الحالي