أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عبد الحميد عبود - مفكرة ثورجي في بلاد الكرد















المزيد.....


مفكرة ثورجي في بلاد الكرد


عبد الحميد عبود

الحوار المتمدن-العدد: 3950 - 2012 / 12 / 23 - 12:43
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


وضعت موسوعة الكامل في التاريخ في طبونه السيارة، ركبنا أنا ومعتصم ومِدين في المقاعد الورائية، ساق محمود السيارة وبجانبة الآنسة نور، بديا مثل روميو وجولييت ثوريَيْن، حواجز الجيش الحر يعرفون السائق فلم يستوقفونا، محمود قاد السيارة بسرعة ودهس قطة تعبر الشارع، توقفنا في "الباب" لملئ البنزين، نور راحت تتفرج على الصور التي التقطتها للثوار ووضبتها في اللاب توب، تخلّصتُ من الجو المسموم، لعلي أنا الآخر كنت خائفا من الموت ولم أجاهر بخوفي، حين تخرج من الخطر إلى الأمان تشعر بشبق الحياة، المشوار رائع، جاء كلام رفاق السفر مثل رطانات كاكافونية، خلوت بنفسي، لم أتكلم البتة مع محمود ولم يكلمني، في مشوار الذهاب ثرثر كثيرا، أضحى باردا معي لسبب أجهله، استغرقتُ في الطريق، معنى الطريق، الرحيل هو كل الأشياء التي هي داخل الحلم، لم ألمح شيئا سوى عتمة مشرقة مثل تلك التي نراها في اللوحات الدينية، عالم الواقعية السحرية، التغريبة الفنتازية، أحسن ما في ظلام العتمة مع أحسن ما في ضوء النور، الطَريق ليست متعرجة ولا شاقة ولكنها مضيئة كالمعراج، انها مملكة الدهشة حيث تتمكن اللحظة من اختزان أعوام،
الليل في جماله الخاص يستنفر الأفكار ( الآن فهمت لماذا حين يطرب العربي يمول "يا ليل ") وللحق فإن سفر الليل أجمل من الليل ومن السفر معا، لا ترى شيئا ولكنك تتخيل كل شيء، مدين فتح النافذة ودخن سيجارة، ما أجمل صفنة المدخن في دوائر الدخان الحلزونية، لو أهداني سيجارة فلن أرفضها، يا الله كم أعشق سفر الليل، الأرض كلها لي، الليل ليلي، الحياة كلها لي، سعادة الآخرين سعادتي، رائحة التبغ والتخوم البعيدة، أنا لا أرحل بل أحلم، لا أستطيع ان أبرر رحيلي سوى بأنني أعيش حسب رغباتي، رحيلي حريتي، الثورة نفسها رحيل من عهد بائد إلى عهد سائد، هذه المرة قصدنا اعزاز من الطريق الطويلة للالتفاف على الحاجز الطيار بتاع الشبيحة، محمود داس على دواسة البنزين فكاد يخرج عن الطريق ، هل السرعة وسيلته للتغلب على الخوف ، ام انها متعة التجلي في حضرة صبية متوسطة الجمال ؟ عبرنا قرى لم أحفظ اسمها، تهنا قليلا في دابق، في هذا المرج حصلت المعركة بين السلطان سليم الأول وقانصوه الغوري، لم أشعر بسعادة كهذه، ظلام الليل أوتار، موسيقى منعشة مثل سمفونية الحب المشعوذ لمانولو دي فايا ،
بلغنا اعزاز، البلدة تنام بعد ان لعبت على كل حبل، هاهو المكتب الاعلامي، يسمونه بيت القيافة لأن فيه يرتاح الثوار المجازون ويبالغون في البطولات، بيت منشرح مؤلف من طابقين، قريب من السوق ومن حارة بيت حاجولي، الساعة تجاوزت منتصف الليل، كان الشباب محنطين أمام التلفاز يشاهدون أفلام الرعب، تحممت وبدلت ثيابي، بعبصت في انترنت، فتحت صندوق الواردات، جملة إيميلات أفريقية متطفلة، يريدون ان يشاركوني ثرواتهم الخرافية، ماذا أعمل بخمسين مليون دولار نيجيري ، رميتها في سبام، إيميل ورد من لور تريد ان تطمئن عني، أنا بخير يا مولاتي وأحبك أكثر "، لم أخبرها ان شظية صغيرة استقرت ببطني، بحثت في غوغل عن صحيفة القدس، عبدل باري عطوان ( سأختصره بأحرف ع ب ع) لم ينشر مقالاتي، العكروت سأنشر عرضه، ربيب الدكتاتوريين من صدام إلى القذافي إلى الأسد، يلطش من مقالاتي على كيفه ولا ينشرها، علاوة عن هذا تفاجئتُ بقوميسير الصفحة الثقافية في نفس الجريدة يعلن عن ديوانه الشعري الجديد في باب الأخبار المثيرة الفضائحية، كان وجهه مبروزا بين أفخاذ الشراميط والقحاب ونجوم الكرة والمهووسين الجنسيين، أحلى تكتيك ودعاية، يا هكذا تكون الدواوين يا بلا ما تكون، رغم خيبتي من الجرائد ودور النشر فإنني لا أستطيع ان أتخلى عن الشعور المباشر بكوني كاتبا جريئا، لا بل وجريئا جدا لسبب غير بسيط، ان كتاباتي لا تُنشر ،دور النشر العربية تنشر فقط لزعانف الأقلام الكتبجية البوكرجية البلومزبرجيه، لو اني بصارة أتنبأ بالأبراج الفلكية، لو اني قحبة تتعرى، لو اني شيخ واعظ وأتحفتهم بخرافات لنشروني، لكني حدثتهم عن مغامرة حقيقية شفتها وعشتها وعايشتها، ماذا يعني مغامر رحال في عصر قرضاوي وعمرو خالد وتامر حسني ونانسي عجرم وعبدة وازن وأمجدانوف ناصر وع ب ع وبقية الأيور اللماعة، هذا عصر الصورة مش الكلمة، هذا عصر السبكتاكل مش الكتابة، عصر المظهر مش الجوهر، عصر الثورجية مش الثوريين، عصر السفر مش الرحلة، لم يبق الا أن أنشر مقالاتي في جرائد البعث وتشرين والثورة، ما يعز بنفسي هو اني لم أجد صحافيا عربيا واحدا على الجبهة، القدس والشرق الأوسط والحياة تأخذ أخبار سوريا من "رويترز"، العربان يستقون أخبار العربان بواسطة الخواجات، أتذكر رجلا في مخيمنا أثناء حرب عرفات وأبو موسى، فتح على إذاعة لندن ليعرف ماذا يحصل في المخيم، الاعلام العربي مثل العرب دائما متأخر عن اللحظة بلحظتين، الجرائد العربية كلها نسخ عن جريدة "البرافدا" التي تعني بالروسية الحقيقة وتقول كل شيء الا الحقيقة
نمت بلا بوصطار أفقت مبكرا كعادتي، الزمن في اعزاز بطيء، الرجال مش مستعجلين، أمان نسبي، مضيت إلى السوق، ابن بائع الفلافل سألني "أين كنت غائب عمو ؟" الناس يعرفوني ولا أعرفهم، أنا هو الغريب، يعرفوني متل الشعرة بالعجين، أتذكر مرة كنت أتجول في أحياء باماكو فاستوقفني زنجي وسلم علي بحرارة قال انه رآني أصلي بالمسجد الكبير (كنت الأبيض الوحيد بين الزنوج ) البلدة هرمت بمقدار شهر، ومقبرة الشهداء طفحت بالشهداء ،لا شيء جديد ولكنها الأشياء العتيقة ذاتها مصاغة بطريقة جديدة، انها الحرب، المصير السوري، الاسواق معطلة والناس غير مطمئنة، النازحون يتكاثرون، بعضهم يحمل أطفاله ومن ليس عنده ذرية يحمل قفصا فيه كناري، حسن حاجولي تفاجأ بي " أهلا أستاذ يهنيك السلامة تفضل "، لكني فضلتُ ان نتمشى بالبرية، حسن يبدو كأنه لوحة من لوحات الواقعية الاشتراكية، لكنه طفران لم يَبْق في جيبه ثمن سيجارة، اشتريت علبة جلواز وبزورات وسرحنا باتجاه أراضي الحاج فاضل كنو (إقطاعي مؤيد يملك 13 ألف شجرة زيتون ) أغار حسن على البطيخ، سألني عن حلب فقلت انها خربة كبيرة ولكنها صامدة، سألته عن اعزاز فصار كلامه أشبه بنشرة كوارث ،جماعة جبهة النصرة السلفية هدموا مراقد الأولياء كالشيخ خميس وسواه، منعوا كش الحمام، أقفلوا صالون الكوافيرات، عمار الداديخي فتح سجنا للنساء في معبر السلامة، حسن قرفان ويفكر بطلب لجوء سياسي في أوروبا، بخلاف بيت خاله أبو أيوب حاجولي فلا أحد في بيت حسن يحمل السلاح، أخوه يذهب للرقة يشتري المازوت الرخيص يخبئه للاحتكار ويبيعه بالغالي، أخوه الثالث يشتغل في الشام، الرابع مهندس نازح بتركيا مع بقية الحريم ،
سئمت من اعزاز، من نفسي، من استراحة المحارب، السفن تنعم بالأمان في الموانئ، لكنها لم تصنع من أجل ذلك، الملاح الذي لا يخاطر بالغرق جبان، الجمل يحتاج إلى صحراء ليتحرك بحريته، أجملُ البلاد هو بلد لم نرحل إليه بعد ثمة مخاطر برسم المخاطرين، بلاد السحر والغموض، شوق لامتناهي لرحيل لامتناهي، أريد ان أغادر لأي مكان آخر، الجندي المنشق محمد قال لي "ولماذا لا تزور منطقة الكورد "، فعلا، لماذا ولكن من يستقبلني هناك ؟ قللي "عمي أبو جوان في عفرين " جائت والله جابها، المشكلة هي اني لا أستطيع التنقل دون مرافق يرافقني، فاتحت حسن بالموضوع فخاف، حزب ب ك ك مش مزحة، يمارس العنف والاغتيال، حسن بيتوتي من أوابد الطير التي تصيف وتشتي بأرضها، وفوق هذا مضبوع بالكرد ومصاب بالكردوفوبيا، لم يحمل السلاح ضد الأسد ولكنه مستعد يقاتل الكرد لأنهم انفصاليون، يعتبرهم دخلاء جائونا من زاغروس وأرمينيا وكرجستان، الخيال الشعبي العربي يجمل الكرد مع المجرمين وقُطّّاع الطرق ولصوص الأغنام، عفرين بالنسبة له منطقة سيئة الصيت، عش دبابير، هذا ما شوَّقني أكثر لها، حسن لا يفهم هذه الرغبة لأنها مش رغبته، أنا وحدي أفهمها لأنها رغبتي، رحت أنخيه وأذكره ان عفرين فيها بيرة ومقاصف وسهر، شط ريقه وافق على الفور
ما ألذ استنشاق الهواء وما أحلاه، إنني أصفق طربا للظل والجمال الأرض، إنني أسبح وأمدح بصوت الكون كهربائي، لا أنفعل أبدا أمام الفنون الجميلة، أنفعل فقط حين أكون في حركة نحو المجهول، عفرين تبدو بعيدة لأنها خطرة ولكنها قريبة جدا، فشختين، رحت أتفرج على سيارة الدودج العتيقة وهي تتمختر فوق الاسفلت، سيارة عتيقة من زمن حسني الزعيم ولا زالت تتحدى الزمن ،ثبتت عيني على يد أبو رياض وهي تعبث بعتلة التغيير، على الطريق سيارات حلبية تنقل نازحين باتجاه واحد، اتجاه عفرين، ولا سيارة واحدة بالاتجاه المعاكس، على حاجز كفرجنه مسلحون بيشمركة وحتى مسلحات، ثمة راية ب ك ك وعلم آخر عليه صورة أوجلان بشاربه الثخين ووجهه الإسبرطي الصارم، عنصر الحاجز أشار بيده لنا لنكمل طريقنا ( حركة اليد هذه تساوي تأشيرة دخول )، من بعيد بدت عفرين نسخة كردية عن غرداية الميزابية، مدينة خارج السرب، معزولة عن الجوار العربي ومبنية على قمة تلة، بسرعة وصلنا كأننا لم نسافر، هاهي الشمس الكردية وشعلتها الصافية، شرارة الآلهة ميثرا الجميلة، وهئنذا دون كيخوتي الفارس ذو السحنة الكئيبة وهذا هو مرافقي سانشو حسن بانزا، على المدخل تمثال كاوة الحداد، البطل الأسطوري، عفرين منطقة آمنة وفرتها الحرب، باكس كوردستانا، كل شيء يسير بشكل طبيعي، العفارنة يشربون العرقسوس، يلحسون بوظة، يفصصون فستق حلبي، بلدة حيادية كأننا في سويسرا، اتصلنا بأبو جوان فواعدنا في مشفى ديرسم ،" دير بالك أستاذ، نحن في بلاد الكرد ولازم نتتهيأ للمصاعب" هكذا هيأت الأحكام الجاهزة لحسن، لكن المدينة سهلة وليست ممتنعة، ترحب بالكل، لا أحد ينظر لك، مفيش سين جيم، وين رايح منين جاي، مدينة نشطة زمامير وزحمة وعربات باعة جوالين (ارتفع عدد سكانها وإيجار بيوتها بعد ان أضحت ملاذا للنازحين ) نور الشرق ليس ككل الأنوار، سماءه ليست ككل السماوات، درجات اللون تجعل الزرقة زرقات، هذا الشرق المُشرِق لم يتغير كثيرا، ولو تعادل حبي له مع نفوري منه لما هجرته، نزقه، نزواته، هي نفسها، الشمس تطلع عليه كل صباح وترتمي عند قدميه، تحممه بالنور وتدفئ أضلاعه قبل ان تشوي جسده، الشمس ذاتها لم تتغير كثيرا، ولو تعادل حبي له مع نفوري منه لرجعت إليه رجوعا نهائيا، لكنه لم يتغير على الاطلاق، حياته المزدوجة، حريمه ومحرماته، هي ذاتها، سماؤه لا زالت تتواطأ على أرضه وروحه توشك ان تغتال عقله، شرقُ ماذا يكون هذا الذي لا ينظر لنفسه إلا على انه مركز الكون، وكيف أجاز المستشرقون تحديد موقعه نسبةً لقارة متغطرسة وهو الذي لا تجوز نسبته الا لنفسه ؟
تقهوينا قهوتين عالواقف واستهدينا بسهولة للمشفى، أبو جوان تعرف علي بسهولة، سألني عن ابن أخيه المنشق، قلت انه بخير ومنعته الظروف من المجيء، ركبنا السيارة عبر بساتين الزيتون ،لاحظتُ ان معظم بيوت عفرين ترفع علم ب ك ك بألوانه الصفراء والخضراء والحمراء، بينما معظم بيوت كفرزيتا يرفعون علم كردستان او جمهورية مهاباد ( نفس الألوان وتتوسطها الشمس )، تقهوينا وغلوزنا، مد المضيف سفرة المحاشي، من يقاوم الباذنجان المحشي، الكوسى، ورق الدوالي، المرق الأحمر المغمس بالسمن الحموي، وليمة ملوكية تقطع مع المأمونية والفلافل، كل هذا الدلال ! أنتم الأكراد لماذا تهاجرون إلى ألمانيا وعندكم كل الخيرات، الشمس، الجبل، البحر، الشجر، الزيتون، المرعى! لم أطرح السؤال علنا على مضيفي لأني أعرف الجواب سلفاً، سيقول لي ما ناقصنا إلا شوية حرية، وشوية فلوس أيضاً فالمضيف يفكر كثيرا بألمانيا، شقيقاه يعيشان هناك وهو بقي وحده في القرية لرعاية والدته المسنة، كانت الثروة بالنسبة للكردي هي ان يتملك أرضا وخمسين زيتونة والآن هي ان يهاجر ويتملك جنسية ألمانية، كفر زيتا قرية وادعة على سفح جبل وفيها ألف نفر، فيها مسجد وحيد وفيه مصلٍ وحيد، هو نفسه المؤذن والأمام، الكرد مش متدينين بالمرة لكنهم مسيسون، حين يجتمع كرديان يؤلفان ثلاثة أحزاب، الكرد مش متفقين بس متحدين، ثمة مليون كردي في عفرين ومثلها في القامشلي والحسكة، النظام السوري لعبها خبيثة حين سلّح ثوار حزب العمال الكردي (ب ك ك واسمه في عفرين با يا دا) للضغط على تركيا، ب ك ك ما عنده برنامج سياسي واضح، حزب راديكالي يركز على عبادة الشخصية واللجوء للعنف والاحتكام للسلاح، لا يعترف بالتعددية ويفرض نفسه بالقوة على بقية الأحزاب، أبو جوان قال هذا وهو يزورب بين الفضائيات الكردية الإثني عشر وبين الجزيرة والعربية وقناة حلب اليوم، تحسر حسن ان ليس في القرية حانة جعة مفتوحة، معلش سكرنا بالشاي الثقيل، نعسنا أمام الشاشة، في الصباح تدرجنا أنا وجوان وحسن مشيا حتى عفرين، حسن رجع إلى اعزاز، بينما قصدتُ مكتب حزب الييكيتي، فلسطيني بين الأكراد ! هذا نادر فقد درجت العادة ان يقال كردي بين الفلسطينيين، لكني أسبح عكس التيار وأذهب حيث لا يذهب أحد، دارت القهوة المرة، وجيء بالتين الطازج، (تين عفرين يضرب به المثل)، كثير من المتواجدين هنا تدربوا في مخيمات اللجوء في لبنان، تفتحوا على الثورة مع الفلسطينيين شركاؤهم في الهم، كان ثمة رجل يلبس كاكسيت وله سكسوكة، انه عبد المجيد شيخو، سألته " جنابك قريب مروان شيخو فقيه الإذاعة والتلفزيون ؟" ضحك، عبد المجيد ناشط سياسي وصحافي، عضو مؤسس للجائزة التي تعطى لمناصري القضية الكردية (أعطيت للعراقي منذر الفضل، ودانييل ميتران ) عبد المجيد يبحث بالمجهر عن كاتب سوري عريي يؤيد القضية ( الكردية) ولا يجد، جاء عبد الرحمن آيبو مسؤول الحزب بعفرين، رجل بشوش لطيف متواضع لا يمكن تمييزه عن بقية العناصر، أبو ريناس ( هذا لقبه) مناضل عضوي ويتكلم بتواضع وهذا ما يجعل كلماته مسموعة، مناضل بسيط لا يجيد الكلام الطليعي قدر إجادته العمل الجماهيري، لا يقبض مالا من الحزب بل من مهنته كمهندس مدني، دعانا للغذاء في بيته، الصالون افرنجي ويخلو من المساند والحُصُر، لكنه لا يخلو أبدا من الزوار، في مجلس الكرد الكلام كله بالكرمنجي، العربي مثل الأطرش بالزفة، أحيانا يتبرع أحدهم بالترجمة، محظوظ هو الضيف الذي في ضيافة المعلم أبو ريناس، قهوة دخان بقلاوة برازق شيش كباب، سوريا ( على فقرها ) باذخة في موائدها، الإفطار، لا يختلف من الإثنين للثلاثاء للاربعاء، ولا يختلف من اعزاز لعفرين لحلب، صينية مدورة واسعة وعليها إبريق شاي وصحون زيت وزعتر وزيتون وبيض مقلي وباذنجان مكدوس وبندورة وخيار وفلفل أخضر وأحيانا يضاف إليها حمص وفول وفلافل، ترويقة شاملة لكل خيرات الأرض، كل ألوان الأرض، كنت أخجل من نفسي، كنت أتظاهر بالأكل ولا آكل، رغم جوعي كنت آكل نصف طاقتي، لعلي أظن ان الأكل حتى الشبع في هذه الظروف الاستثنائية شيمةٌ همجية، وفي المساء كنت أشتري سندويشة فلافل وأتعمد وصولي متأخرا كيلا أشغلهم بتحضير العشاء، وللحق فأن أبو ريناس ككل الكرد يقدس الضيف ولكن مسؤولياته كثيرة فهو متعهد بناء ويقود أكبر حزب جماهيري في البلدة، لذا وضعني تحت رعاية " يحيى" من أول وهلة شعرت ان هذا اليحيى هو نسخة كردية عن حسن حاجولي، شاب لطيف ولماح، المشكلة مع يحيى هي نفس المشكله مع حسن، مع كل سيجارة يدخنها يهديني سيجارة، وكلما تفتقت قريحته للكلام يُتَتِّن ويجعلني أتتن أكثر، قلت له اني أريد التعرف على البلدة، مررنا بشارع أحمد شوقي، ثم بشارعي المتنبي والعروبة، قال يحيى انه سيتم قريبا تكريد أسماء الشوارع وحتى أسماء القرى والدساكر التي عربها البعث بطريقة اعتباطية، في المساء قادني إلى بيته، كان عندهم نازحون أكراد من حي الشيخ مقصود، في افطار الصباح وضعت أم يحيى خبزا معجونا بالتين، زرنا السوق والمحلات التجارية، هنا يأتيك النوم بسرعة كأنك في جزيرة استوائية، لكن كيف تنام في مدينة لا تنام، محلات الويسكي مفتوحة علنا ( المد الوهابي توقف عند أسوار عفرين )، المدينة ستاخانوفية، في النهار تبني العمارات وتحرث الحقول، في الليل تصبح أبيقورية تأكل تلهو تسكر ايضا، سهرنا أنا ويحبى ومحمد في مقصف المدينة، قضيناها ( ناشفة) على القهوة والشاي والدخان والكلام على ألحان السيكا والنهاوند، كنت أظن ان الثورة السورية لها بعْدٌ طائفي ( سني/ علوي ) وبُعد طبقي (غني /فقير ) وهنا أدركتُ ان لها بُعدا عرقيا، الكردي عليه كل واجبات العربي وليس له شيء من حقوقه، حُظرت لغته وفولكلوره، بَيْعُ عقار الكردي للعربي ممكن والعكسي لا، حتى يرث الكردي أرض أبيه يحتاج لموافقة الأمن العسكري والسياسي، لا خلاف حول ان الكردي مظلوم لكنه يبالغ دائما فكردستانه تمتد من مكة إلى اسطنبول مرورا بكيليكيا وكبادوكيا وسيحون وجيحون، دخلت مسجدا ( للفضول) فرأيت عدد المصلين لا يسدون الصف الأول، زرت مدرسة تعليم اللغة الكردية فرأيت ان الذين يَدرسون والذين يُدرِّسون هم من نفس العمر، سجلت في الكراس ما سمعته من أبو ريناس:
الكرد قبائل رحل ينحدرون من موجات القبائل الهندو أوروبية التي تركت إيران في أواسط الألفية الثانية قبل الميلاد، الكردي كان ذائبا في الأمة الاسلامية مع صلاح الدين، بدا الشعور القومي مع الشاعر أحمد خاني ( قرن 17) وتطور مع الأمير بدرخان والشيخ عبيد الله والشيخ سعيد والقائد سمكو، وقاضي محمد مؤسس جمهورية مهاباد، وتبلور مع بارازاني وطالباني وتجذر مع أوجلان، موطن الكرد هو الجبل ( حيث لا يستطيع الجمل ان يسير)، يوجد لهجتان كرديتان، الكرمنجية التي يتكلمها معظم الأكراد بالمناطق الشمالية ( تركيا وسوريا) وتكتب بالحرف اللاتيني، والسورانية التي يتكلمها كرد المناظق الجنوبية العراق وإيران وتكتب بالحرف العربي ،
أبو ريناس حين يجادل في التاريخ تفوح منه رائحة القومية الكردية، يفضّل الملا مصطفى برازاني على صلاح الدين الأيوبي لكون هذا الأخير قائدا إسلاميا أكثر منه كرديا، يكره حزب ب ك ك لكنه يجل مؤسسه (آبو) أوجلان، يفضل (كاكا) مسعود على (مام) جلال، انه أكثر الكرد كردية مع ذلك يحتفظ بأشعار عربية في الجوال، اللغة العربية ضليعة في الكردية مش دخيلة، الكرد لا يرفضون الثقافة العربية بل يرفضون الاستبداد العربي، وأن كان الكرد يأسطرون تاريخهم فلأن الأسطرة خاصية للشعوب المقهورة، يقولون لك نفرتيتي كردية، النبي سولومون كردي، يوسف العظمة كردي، سليمان الحلبي كردي، احمد شوقي كردي، بما أن سفينة نوح رست على الجودي وهو جبل حدد أبو ريناس مكانه في كردستان، اذن نوح كردي، مارادونا كردي ومادونا، لغة ( الآفستا) التي بها كتب زرادشت كتابه المقدس هي أصل الكردية، لأن أفلاطون تتلمذ في جندريس فهو كردي، يكردون العالم كله، لأن بشرتي فاتحة فقد قال لي "ولا يستغرب ان تكون أنت نفسك كردي "، ضحكت، لي الشرف يا كاكا، لكن ألا يكفيني فلسطينيتي لتضع على كاهلي هَم الكرد، الشعوب المعترة على أشكالها تقع، بيننا وبينهم حزازات مش عداوات ،
يحيى من جهته رافقني كظلي وأجهد نفسي لأجلي فأهديته مسبحة العقيق، الكردي إذا لم تعاشره لا تعرفه، حين عرف عابدين اني فلسطيني حلف علي بالطلاق لأشرف بيته، حدثني عن (خالد رشيد ) المستشار الاقتصادي لياسر عرفات وعن تلك الأيام المباركة حيث كان لا يخلو بيت كردي من مجلتي الهدف والحرية، زرت موقعا أثريا في عين دارة، حيث يوجد معبد ميتاني من حجر البازلت، فتحوا لي مستودعات البعثة اليابانية التي استخرجت استحاثات عتيقة، قلت للحارس انت حارس الذاكرة وقائم على ما هو أثمن من ذهب المصرف السوري، لم يكن ممكنا زيارة المغارة أم بابين، الآثار تشهد على العرب لا للعرب، الآثار من أثر أهل البلاد الأصليين، الفينيقيين الفراعنة البربر، الكرد السومريين الآشوريين، العرب( في صيغتهم الوهابية) لا يعرفون ولا يعترفون بالآثار، لذا يريدون بيعها أو هدمها، آثار عين داره قد تكون كردية او لا تكون لكنها بكل الأحوال مش عربية، الكردي مهما تمكن من العربية يخبص بها، أحيانا لا يميز المؤنث من المذكر، وتبقى عقدته أل التعريف يقول عراق يونان، ثمة تشابه بين الكرد والطوارق، كلاهما ضحايا للجيوسياسة، مع فارق ان الطوارق تسلفنوا فيما الكرد تكردوا، يقطن الكرد في عفرين كوباني والجزيرة هي عبارة عن ثلاث مناطق مبعثرة جغرافيا ومفصولة بقبائل عربية ( في عفرين زرع النظام قبيلتين عربيتين ( العميرات والبوبنا ) مجلوبتين من منبج )، سوسيولوجياً، فإن الكردي أكثر تطورا من العربي، البيت لا ينقسم إلى سلملك وحرملك، هي دار واحدة مفتوحة على بعضها والمرأة متحررة ( نسبيا) ولا يوجد على رأسها حجاب ولا نقاب ولا يحزنون، الاحزاب العلمانية والهجرة إلى ألمانيا لعبت دورا في هذه الطفرة، يقال ان الكردي حقود وهذا مش دقيق تماما (بدليل ان طالباني رفض توقيع مرسوم إعدام صدام ) ويقال ان الكردي شوفيني وهذا مجاف للحقيقة، ويقال ان الكردي ضحية كليشيهات نمطية، هذَا صَحِيح، صحيح جِدًّا، والأصح منه ان الكردي عنيد، الكردي إذا قال يوق (لا) يعني يوق، واذا حارب يحارب حتى الموت، (كلمة بيشمركة تعني الذين يقفون أمام الموت) تحكي النكتة ان مستشار الرئيس السوري فيّقه من النوم قائلا سوريا احترقت . فسأله الرئيس هل تدخل الأكراد ؟ / لا ،/قال اذن لم تحترق بعد، لا شك عندي ان العربي شوفيني فهو الذي قسم الصحراء إلى سودان وبيضان، وهو الذي قسم العالم إلى عرب وعجم، وهو الذي اخترع كلمة "تستكردني"، الربيع العربي هو ربيع كردي، الحرية لا تتجزأ، من سوء حظ الكرد تواجدهم عند تخوم الامبراطوريات الفارسية العصملية العربية، فالأتراك والعرب والإيرانيون يختلفون دائما ويتفقون فقط على قمع الكردي، كردستان جميلة لأنها حلم، ما يكسبه الكرد في الحروب يخسرونه في المفاوضات، ليس للكردي الا الريح، لكن الكردي تعلم ان يطلب المستحيل ليحصل على الممكن، وهذا ما حصل في إقليم كردستان العراقي، الكردي مسلم بالصدفة ويحن إلى مجوسيته، ويقدس عيد النوروز ( اليوم الجديد)، قال أبو ريناس " يمكن ان نتوحد إذا تخلينا عن إسلامنا ورجعنا إلى يزيديتنا ( اليزيدية مزيج من العناصر الإسلامية والوثنية والزرادشتية)
الأيام في عفرين مرت بسرعة، كان زيارتي اساسا ليوم واحد فبقيت ست أيام، كان بودي ان أمكث العمر كله (ثمة كرد تعربوا وعرب تكردوا ) ولكن علي ان أكمل المشوار، الطريق تناديني ( أنا كالماء ان بقيت بمكانها تأسن) السندباد البري دائم السفر، يكره الحذر ويعشق الخطر، طلبت من أبو ريناس ان يعتقني من الكرم الكردي فوضع سيارته تحت تصرف يحيى الذي أوصلني إلى اعزاز، إلى قلب المكتب الاعلامي ولم يتركني الا بعد ان سلمني تسليم اليد لمحمود أبو زيد
يتبع الجزء الرابع في ريف ادلب



#عبد_الحميد_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفكرة ثورجي في الثورة السورية(2)
- مفكرة ثورجي في الثورة السورية (1)
- مفكرة ثورجي في الثورة السورية
- حلب التي لا تستحق اسمها
- اصبح عندي الآن بندقية الى حلب خذوني معكم
- الفساد ، ماركة سورية مسجلة
- ظبية خميس ، فاجرة في هيئة شاعرة
- أيها النساء ، أبو القاسم الأمين هو الداء وقاسم أمين هو الدوا ...
- بيان لرجل واحد ضد أيور الثقافة
- عن الثورات العربية والمناعة الخليجية
- بيان لرجل واحد مع النساء وضد الشريعة
- بلا بوكر بلا جوكر ، نريد جائزة باسم البوعزيزي


المزيد.....




- الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - عبد الحميد عبود - مفكرة ثورجي في بلاد الكرد