أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد العليمى - الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو - الفصل الخامس















المزيد.....


الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو - الفصل الخامس


سعيد العليمى

الحوار المتمدن-العدد: 3945 - 2012 / 12 / 18 - 14:05
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ترجمة سعيد العليمى
(5)
القـراءات الداخليـة وإحتـرام الشكـل
ليس " سمو " الأسلوب مجرد خاصية عرضية للخطاب الفلسفي. إنه الوسيلة التي يميز بها خطاب نفسه بوصفه خطابا مفوضا ، فيصير بمقتضى إمتثاليته بالذات ممنوحا سلطة هيئة من الناس فوضت خصيصا لممارسة نوع من الحاكمية النظرية ( بتشديدها على المنطق او على الاخلاق وفق المؤلفين أو العهود ). في الخطاب العالم كما في الكلام العادي، تنتظم الأساليب في مراتب ، غير أنها هي ذاتها تخلق أيضا مراتب. تلائم اللغة السامية المفكر ذو الوضع الرفيع: الأمر الذي جعل " المأساوية المفتقرة للأسلوب " لخطبة هيدجر عام 1933 تبدو وبكلمة غير ملائمة في عيني من توفر لديه أي إحساس بالكرامة الفلسفية ، أي بكرامتهم بوصفهم فلاسفة ، وقد كان هؤلاء هم نفس الناس الذين هللوا لما عدوه حدثا فلسفيا أي المأساوية المؤسلبة فلسفيا لـ الوجود والزمان . (1)
يتحقق وضع الخطاب من خلال " سمو " الأسلوب ، وكذلك الإحترام الواجب لهذا الوضع. لا يستجيب المرء مثلا لجملة كهذه : " تكمن ورطـة المعيشة الحقيقية في ان الكائنات البشرية تبحث دائما أبداً عن كينونة المعيشة ، حتى أنه يتعين عليها دوما أن تتعلم العيش ، (2) بنفس الطريقة التي قد يستجيب بها المرء لتصريح في اللغة العادية كهذا :"إن نقص الإسكان يتزايد سوءا " ، أو حتى تصريح في لغة علمية ، مثل " في ميدان هاوس فوجتى، في واحد من المراكز المالية لبرلين ، إرتفع ثمن أرض البناء للمتر المربع من 15 مارك في 1865 إلى 344 مارك في 1880 و990 مارك في 1895. (3) يملى الخطاب الفلسفي كخطاب مبني شكليا ، شروط إدراكه الخاصة. فرض الشكل ، الذي يستبعد الرجل العادي ، يحمي النص من " التتفيه " - كما يقول هيدجر - بقصره على قراءة داخلية، بكلا المعنيين، أي بقراءة لا تتجاوز حدود النص نفسه ، تتلازم معها ، تلك القراءة التي تنحصر في مجموعة مغلقة من القراء المحترفين الذين يقبلون تعريفا "داخليا" للقراءة بوصفه أمرا واضحا بذاته : علينا ان نلاحظ فقط العادة الإجتماعية لنرى ان النص الفلسفي يحدد وفقا لها بوصفه نصا يمكن أن يقرأ ( في الواقع ) من قبل " الفلاسفة " وحدهم أي ، من قبل قراء مقتنعين مقدما ، ومستعدين للإعتراف ، ومنح الإعتراف لخطاب فلسفي، ولقراءته وفقا لما تتطلب قراءته ، أي " فلسفيا " ، طبقا للمقاصد الفلسفية الخالصة والمحضة ، بما في ذلك إستبعاد أي إحالة لأي شئ غير الخطاب ذاته ، الذي لا يفسح مجالا لأي أبعاد خارجية لكونه أساس ذاته.
ليست الحلقة الممأسسة لإساءة القراءة الجماعية التي تخلق الإعتقاد في قيمة الخطاب مؤسسة إلا عندما تواجه بنية إنتاج وتداول هذا الخطاب بالنفي الذي يثيره ( بقوله ما عليه ان يقوله فقط في شكل يميل إلى إظهار أنه لا يقوله ) ، معلقون قادرون على إعادة إساءة قراءه الرسالة المنفية ؛ حيث ما ينكره الشكل تعاد - إساءة قراءته - بمعنى آخر ، مقر ومعترف به في الشكل ، وفي الشكل فقط ، الذي يخلقه هذا الانكار الذاتي. بايجاز ، إن خطابا مبنياً شكليا يقتضي قراءة شكلية أو شكلانية ، تعترف بالنفي الأولى وتعيد إنتاجه ، بدلا من إنكاره حتى تكد - شف عن ما الذي ظل ينكره. يقتصر أثرالعنف الرمزي الذي يتضمنه أي خطاب أيديولوجي في إساءة قراءته ، والذي يتطلب إعادة إساءة قراءة ، على الحد الذي يحوز فيه على تصديق المخاطبين به حتى يعاملوه كما يرغب في أن يعامل ، أي بكل الإحترام الذي يستحقه ، مراعين الشكليات المناسبة التي تتطلبها خصائصه الشكلية. يحقق الإنتاج الأيديولوجي المزيد من نجاحه الحق بقدر ما يستطيع تخطئة من يحاول إختزاله إلى حقيقتة الموضوعية : يسبب إعلان الحقيقة الخفية لخطاب ما فضيحة لأنه يقول شيئا " هو آخر شيء كان عليك أن تقوله " .
إنه لمن الجدير بالملاحظة ، بعد أن عرفنا كيف رفض ودحض بعناد أي قراءات إختزالية أو خارجية لعمله ( تدلل على ذلك رسائله إلى جان قال ، وجان بوفريه ، وإلى طالب ، وإلى ريتشاردسون ، وحوار مع فيلسوف ياباني ، إلخ ) أن هيدجر لم يتردد في إستعمال براهين " ذات نزعة سوسيولوجية خرقاء " ضد خصومه ( مثلا عند إنتقاد كتاب سارتر الوجودية مذهب إنساني ( 1946 ) : وهكذا ، إذا كان ضروريا ، فقد كان مستعدا لإعادة توظيف موضوع " دكتاتورية الحيز العام " بالمعنى الدقيق إجتماعيا (إن لم يكن سوسيولوجيا) ، (رسالة حول النزعة الانسانية، باريس، أوبييه ، 1964 ص ص 35و 39 )، الذي كان موجودا بلا شك في كتاب الوجود والزمان ، أضف إلى ذلك ، أنه يفعل هذا في مقطع يحاول فيه تحديداً أن يؤسس أن " التحليل الوجـودي " للـ " هُم " لا يعني بـأي شكل تقديم إسهاما عرضيا في السوسيولوجيا ( ص 41 ) ، تنهض إعادة استحضار هيدجر الأول من قبل هيدجر الثاني شاهدا على حقيقة (شدد عليها بتأكيده على كلمة " عرضيا " في الجملة المقتبسة ) أن هيدجر الثاني لم يجحد بأي طريقة هيدجر الأول.
لا يمكن أبدا لأشد الاستراتيجيات الرمزية رهافة أن تملى تماما شروط نجاحها الخاصة بل من المحتم أن تخفق إن لم يكن بمقدورها أن تعتمد على التستر الفعال الذي توفره هيئة كاملة من المدافعين عن الإيمان الـذين ينسقون ويوسعـون الهجوم الأولى على القراءات الإختزاليـة. (4) وهكذا فإن رسالة حول النزعة الإنسانية - وهي القطعة الأخاذة التي غالبا ما تقطتف من كل المداخلات التي هدفت لأن تتلاعب إستراتيجيا بالعلاقة بين الأنساق الظاهرة والكامنة ، ومن ثم توظف الصورة العـامة للعمل - قد إشتغلت كنوع من الرسالة الكهنوتية، كنبع دائم الفيض من التعليقات تُمكن كهنة الوجود الأدنين من أن يعيدوا لصالحهم إنتاج التدابير الوقائية المدرجة ضمن كل تحذيرات المعلم، وهكذا يضعون أنفسهم على الجانب الأيمن من الحاجز بين الخبراء والدنيويين. حيث تتلاحق أمواج الإنتشار ، فإنها تنتشر في دوائر ما تنفك تتسع من التفسيرات المفوضة والتعليقات الملهمة إلى الاطروحات العالمة، المداخل الأولية، واخيرا ، الكتب ، وهكذا، إذ ينزلق المرء هابطا مقياس التفسيرات ، ويتدهور لطف إعادات الصياغة ، يميل الخطاب البسيط إلى التركيز على نحو متزايد علىالحقائق الأساسية ، ولكن كما في فلسفة الفيض ، يصاحب الإنتشار خسارة في القيمة ، إن لم يكن في الجوهر ، ويحمل الخطاب " المتفه "والذي جعل " شعبيا " وصمة إنحطاطه ، ومن ثم يساعد على تعزيز قيمة الخطاب المبدع ، الأصل، قُدما .
لا يحتاج هيدجر إلا إلى تاكيد - ان " الفلسفة تبقى دائما معرفة … لا يمكن أن تكيف لحقبه بعينها . وان "الفلسفة بصفة أساسية لا زمن لها لأنها واحدة من تلك الأشياء القليلة التي لا يمكن لها أن تجد أبداً صدى مباشرا في الحاضر ، (5) أو أيضا انه "لمما ينتمي إلى ماهية كل فلسفة أصيلة ان يسيئ معاصروها دوما فهمها" ، (6) - حتى يردد كل المعلقين مباشرة : إنه لمصير كل الفكر الفلسفي ، إذا ما حقق درجة معينة من القوة والدقة ، أن يساء فهمه من قبل المعاصرين الذين يضعهم على محكه. أما ان يصنف بوصفه رسول المأساة ، ومدافع عن العدمية ، وخصم للمنطق والعلم ، هذا الفيلسوف الذي كان همه الوحيد والدائم هو مشكلة الحقيقة ، فتلك بالفعل واحدة من المساخر التي يمكن أن يدان بها عصر تافه" ، (7) "لفكره مظهر شيئ ما غريب بالنسبة لزمننا ولكل شيئ معاصر" . (8)
العلاقات المؤسسة بين مؤلفات المفسر العظيم والتفسيرات أو التفسيرات الإضافية sur interpretations التي تقتضيها ، او بين التفسيرات الذاتية التي قصدت أن تصحح وتستبق التفسيرات المضللة أو العابثة وان تصادق على التفسيرات المفوضة ، هي شديدة التشابه - بغض النظر عن إفتقارها لحس الفكاهة - مع العلاقات التي دشنها دوشا Duchamp بين الفنان ومجموعة مفسريه : يتضمن الإنتاج في كلتى الحالتين إستباقا للتفسير، وفي لعبة التخمين المزدوج التي يلعبها مفسريه يُستدعى التفسير الإضافي ، بينما يظلون محتفظين بحق التبرؤ منه باسم عدم إستنفاذ العمل بصفة أساسية ، الذي قد يغوى كذلك بقبول أو رفض أي تفسير ، من خلال السلطة المتعالية لقوته المبدعة ، وهي المؤسسة أيضا بوصفها سلطة نقدية ونقدية ذاتيا. (9) مما لا شك فيه أن فلسفة هيدجـر هي أشد واكمـل سابقات التجهيزReadymade ( بالإنجليزية في النص الأصلي - المترجم ) فلسفيا، فهناك أعمال صنعت بغرض أن تفسر وأخرى صنعت بواسطة فعل التفسير أو بشكل أكثر دقة بواسطة التفاعل بين مفسر ، يتجاوز بالضرورة مختصره ومنتج يُبقى ، من خلال دحضه ، وإعادة تعديلاته المتكررة ، وتصحيحاته، على هوة لا تعبر بين العمل وأي تفسير بعينة (10) .
التناظر أقل إصطناعية مما يبدو لأول وهلة : بتأسيس أن معنى " الإختلاف الأنطولوجي " الذي يفصل فكرة عن كل الفكر السابق (11) هو أيضا ما يفصل التفسيرات الأصيلـة عن التفسيـرات " المبتذلة " ، مـا قبل الأنطولـوجية ، والتفسيرات الأنثربولوجية الساذجة ( مثل تفسيرات سارتر ، وفقا لهيدجر ) ، فان هيدجر يضع عمله بحيث لا يُطال ويدين مقدما أي قراءة ، سواء تقصد أم لا ، أن تقصر نفسها على معناه الشعبي وتختزل ، على سبيل المثال تحليل الوجود " غير الأصيل " إلى وصف " سوسيولوجي " مثلما فعل بعض المفسرين المعينين حسنى النية سيئ الإلهام ، وكما يفعل السوسيولوجي ، ولكن بقصد مختلف كلية . بوضع تمييز داخل العمل نفسه لقراءتين للعمل ، يجد هيدجر نفسه في موضع موات لحفز القارئ الموافق ، حين يواجه بتوريات مركبة أو تفاهات صارخة ، أن يلجأ لإرشاد المعلم . قد يفهم القارئ بالطبع غاية الفهم ، ولكن يوعز إليه بان يشك في أصالة فهمه الخاص ، ويمتنع عن الحكم على العمل الذي وضع مرة ولكل الأزمنة بوصفه مقياسا لفهمه.
هنا قد نبين عرضاً مثلا مرموقا يتعلق بهوس التفسير ، الذي يؤدي لتعبئة المصادر المتراكمة لأممية المفسرين ، لتجنب النزعة التبسيطية ، لأنها شجبت مقدما بواسطة لعبة الكلمات الحـاكمـة : "في اللغـة الإنجـليزية فـإن هـذا المصطلـح errance [ تجوال -تيهان-شرود] هو نتاج إصطناعي تأسيسا علىالمبرر التالي : المعنى الأولى للكلمة اللاتينية errare هو " أن يتجول " أما المعنى الثانوي فهو " أن يضل " أو " أن يخطئ " بمعنى " أن يضل عن الطريق القويم" . هذا المعنى المزدوج قد إحتفظ به في الكلمة الفـرنسية errer . إحتفظ بالمعنيين في الإنجليـزية وفي الصيغة الوصفية "errant" : المعنى الأول ( يتجول ) يستخدم لوصف الأشخاص الذين يتجولون باحثين عن المغامرة ( "مثلا الفرسان الجوالة" ) ؛ المعنى الثاني يدل على " الإنحراف عن الحقيقي أو الصائب " ، ينحرف erring . ليست صيغة الاسمerrance ، مبررة في الإستعمال الإنجليزي العادي ، ولكن نقدمها نحن أنفسنا ( مقتفين أثر المترجمين الفرنسيين ، ص ص 96 وما يليها ) ، قاصدين أن نوحى بالفروق الدقيقة ( لكلمتي ) " أن يتجول " و " أن يضل " (" erring " ) ، حيث أن الأولى هي أساس الأخيرة. يبدو هذا أمينا لمقاصد المؤلفين حتى نتجنب بقدر الإمكان التفسيرات الأبسط التي قد تنشأ عفويا بترجمتها بوصفها خطأ " error " ؛ (ريتشاردسون ، هيدجر ص 224 - 29 ؛ التشديد لي. أنظـر أيضا ص 410 ، حول التمييز بين الروح الشعرية poetry والشعر ( poesy .
(المقتطف السابق باللغة الانجليزية في النص الأصلي - المترجم )
النصوص بطبيعتها موضوع نزاع إستراتيجي ، ولكن ليس إقرارها ، سلطتها، وضماناتها في هذه النطاقات فعالة إلا إذا كان دورها مخفيا بوصفها كذلك، وخاصة - حيث أن هذه هي وظيفة الإعتقاد - في عين مؤلفيها ، حيث تمنح المشاركة في رأسمالهم الرمزي فقط مقابل إحترام الخصائص التي تحدد أسلوب العلاقة التي يتعين أن تؤسس بين العمل والمفسر . وفق المسافة الموضوعية التي تفصلهما في كل حالة. يتعين أن نحلل بشكل أوفى في كل حالة فردية ، ما هية المصالح النوعية للمفسر ، سواء كان باحثا من الطراز الأول، أم متحدثاً رسميا ، معلقا ملهما ، أو مربياً بسيطاً وفقا للموقع النسبي الذي يشغله المفسر، والعمل المفسر في لحظة معينة في مراتبيتهما الخاصة ، ولتحديد كيف وأين يذهبون بالتفسير . وهكذا قد نجد بلا شك أنه لفي غاية العسر أن نفهم موقعا متناقضا بوضوح كموقع " الماركسيين الهيدجريين " الفرنسيين ، ورثة ماركوز MARCUSE (12) وهوبرت HOBERT (13) ، إذا لم نضع في حسباننا حقيقة أن مشروع التبييض الهيدجري قد ظهر في وقته تماما ليستبق آمال هؤلاء الماركسيين الذين كانوا الأشد قلقا لأن يعفى عنهم ، بربط الفلسفة الأرفع مكانة بين الفلسفات المعاصرة مع الفلسفة العامية Plebeia philosophia بإمتياز ، أي المشكوك بقوة إذن في " تفاهتـها " . من بين كل وسائل التلاعب المختفية في رسالـة حول النزعة الإنسانية (14)، لا يمكن لشيء أن يمس الماركسيين " المتميزين " بفعالية مثل إستراتيجية الدرجة الثانية التي تعتمد على إعادة تفسير لسياق سياسي جديد مرتبط بالحديث عن " حوار منتج مع الماركسية"، الإستراتيجية النموذجية هيدجريا لـ " تجاوز " ( زائف ) عبر التجذير radicalization التي وجهـها هيـدجر في بواكير حياته ضـد المفهـوم المـاركسي عن الإنسلاب alienation ( Entfremdung ) : الأنطولوجيا الأساسية التي تؤسس" تجربة الإنسلاب" " وهي ما أدركه ماركس (وإن يكن بطريقة لا تزال غاية في " الأنثروبولوجية ) " غير أن الإنسلاب الأساسي للإنسان الأكثر راديكالية وأساسية ، هو نسيانه لـ " حقيقة الوجود " ، ألا يمثل ذلك بالتأكيد الردايكالية (15) التي لا شئ بعدها nec plus ultra ؟.
علينا ان نعيـد فقط قـراءة الجـدالات المثـيرة للدهشة غالبا التي يبرر فيها جان بوفريه Beufret Jean ، وهنري لوققر Henri Lefebrre ، وفرانسوا شاتليه Francois chatelet ، وكوستاس أكسيلوس Kostas Axelos (16) التماثلات التي يرسمونها بين ماركس وهيدجر ، لنقتنع بأن هذا التركيب الفلسفي غير المتوقع يقوم إلى حد ما على برهان " داخلي " إن أردنا الدقة : " لقد إستحوذت علىّ رؤية ساحرة - بالرغم من ان هذه الكلمة ليست غاية في الدقة - وهي تغلب علىّ بسبب مناهضتى لتفاهة أغلبية النصوص الفلسفية التي ظهرت في الأعوام الأخيرة ، ( هـ. لوفقر ) " ليس هناك من تناقض بين رؤيـة هيدجر التـاريخية - الكونيـة ومفهـوم مـاركس العملي التاريخي (هـ. لوفقر ) ؛ " إن القاسم المشترك الذي يوحد بين ماركس وهيدجر ، أي الذي يربطهما في عيني ، هو حقبتنا نفسها ، عصر الحضارة الصناعية عالية التطور والانتشار الكوني للتكنولوجيا (…). وأخيرا ، فإن هذين المفكرين يتقاسمان نفس الموضوع على الأقل …. هذا ما يميزهما عن السوسيولوجيين ، الذين لا يحللون على سبيل المثال ، سوى تجليات معينة حينا هنا ، وحينا هناك (17) ، ( ف شاتليه ) . " إنطلق ماركس وهيدجر كلاهما نحو نقد جذري لعالم الحاضر وكذلك الماضي ، وهما يتقاسمان إهتماما مشتركا بالتخطيط لمستقبل الكوكب ، ( ك.أكسيلوس ) ؛ يكمن" إسهام هيدجر الأساسي في أنه يساعدنا على أن نفهم ما قاله ماركس " ( ج .بوفريه ) ؛ " إستحالة أن يكون نازيا هو جزء لا يتجزأ من المنعطف بين الوجود والزمان و الزمان والوجود. إذا لم يكن الوجود والزمان قد حفظ هيدجر من النازية ، فقد كان الزمان والوجود الذي ليس كتابا ، وإنما مجمل تأمـلاته منذ عـام 1930 ومطبوعـاته منذ 1946 ، هي التي أبعـدته نهائيا (ج. بوفريـه ) ، " هيدجـر ببساطة شديدة مادي " ( هـ.لوفقر ) " يواصل هيدجر ، في أسلوب غاية في الإختلاف ، عمل ماركس" ، ( ف. شاتليه ) .
لا تكفي المصالح النوعية للمفسرين ، ولا عين منطق المجال الذي يؤدي بالقراء الذين يتمتعون بأعظم كفاءة وموهبة إزاء سير القديسين الهرمنيوطيقية، إلى الإتجاه نحو الأعمال الأشد تميزا لتفسير لما أمكن أن يُعترف بفكر هيدجر في مرحلة ما ، وفي أشد القطاعات في المجال الفلسفي تباعدا ، بوصفه الإنجاز الأشد تميزا للطموح الفلسفي. لا يمكن أن يدرك هذا المصير الإجتماعي إلا على أساس صلة من الميول القائمة قبلا ، هي ذاتها مشتقة من منطق تدريب وتطويع هيئة من أساتذة الفلسفة ومن موقع المجال الفلسفي في بنية مجال الجامعة والمجال الثقافي ،… إلخ . لم يكن لنخبوية البورجوازية الصغيرة لـ " زبده " الهيئة الأستاذية التي ألفها أساتذة الفلسفة ، على الأقل في فرنسا حيث كانت أصولها تتجذرغالبا في الشرائح الدنيا من البورجوازية الصغيرة ، وحيث كانت قد اظهرت براعة اكاديمية بطولية في هزيمة قمم المراتبية الإنسانية وشقت طريقها إلى أعلى داخل اسمى برج عاجى للنظام التعليمي ، عاليا فوق العالم وأية قوة عالمية ولم يكن لها إلا آن تردد صدى ذلك النتاج النموذجي لميول مناظرة لديها.
لا تفعل تأثيرات اللغة الهيدجرية - التي يظهر انها الأكثر خصوصية ، وأهمها كل تلك التأثيرات التي تؤلف البلاغة المترهلة للعظمة الدينية ، تنويع على كلمات نص مقدس، تشتغل كمصفوفة لتعليق مطرد لا ينتهي ، تقوده نية إستنفاذ موضوع هو بالتعريف غير قابل للإستنفاذ - لا تفعل اكثر من أن تحمل الألاعيب المهنية إلى درجة قصوى من التطرف النموذجي ، ومن ثم تضفي عليها شرعية مطلقة تسمح لـ" أنبياء الكاثدرائية السابقين (Kathederpropheten)، كما أسماهم قيبر weber ، بان يعيدوا روتينيا إنتاج وهم كونهم فوق الروتين . لا تنجح آثار هذه النبوة الكهنوتية تماما إلا على أساس التواطؤ العميق الذي يربط المؤلف ومفسريه بقبول الإفتراضات التي يتضمنها تعريف سوسيولوجي لوظيفة " النبىالصغير المعين من قبل الدولة، كما قال قيبر weber أيضا : لا شئ من بين هذه الإفتراضـات ، يخـدم على نحو أفضل مصالح هيدجر أكثر من تحـويل النص إلى مطلق ľabsolutisation du texte من قبل أي قارئ متعلم يحترم ذاته . لقد إستلزم الأمر إنتهاك واجب الحياد الأكاديمي الذي بلغ حداً إستثنائيا بالإلتحاق بعضوية الحزب النازي حتى يمكن إثارة مسألة "الفكر السياسي" عند هيدجر، غير أنها سرعان ما قبرت مرة أخرى، حيث بدت كأنها إقتراح غير ملائم. وهو نوع آخر من التحييد : لقد إستبطن أساتذة الفلسفة بعمق التعريف الذي يستبعد من الفلسفة أي إحالة ظاهرة للسياسة حتى انتهوا أخيرا إلى ان ينسوا أن فلسفة هيدجر هي فلسفة سياسية من البداية حتى النهاية.
ولكن الإدراك الصحيح شكليا سوف يبقى شكليا محضا وخاويا إن لم يكن غالبا غطاءا لفهم أعمق وفي نفس الوقت أكثر خفاءً، وهو يتأسس على التناظر التام للمواقع بهذه الدرجة أو تلك على قاعدة صلة التطبع habitus . أن تفهم معناه أيضا أن تفهم دون ان يقال لك ، أي أن تقرأ ما بين السطور وأن تعيد في نمط الممارسة ( أي ، غالبا ، بشكل لا واع ) احداث الإرتباطات اللغوية والبدائل ، التي هيأها المنتج بداية أيضا بشكل غير واع : هذه هي الكيفية التي وجد بها حل للتناقض النوعي للخطاب الأيديولوجي ، الذي يستمد فعاليته من إزدواجه، ولا يمكن أن يعبر شرعيا عن المصالح الإجتماعية إلا في أشكال تخفيه أو تشي به. تناظر المواقع والتناغم الناجح لحد بعيد للتطبع habitus يشجع على إعتراف عملي بالمصالح التي يمثلها القارئ والشكل النوعي للرقابة الذي يحظر التعبير المباشر عنها ، وهذا الإعتراف يعطى بكل معنيي الكلمة مدخلا مـباشرا لما يعنيه الخطاب باستقـلال عن أي عمليه واعية لفك الشفرة décodage . (18) . يولد هذا الفهم ما قبل اللفظي من المواجهة بين مصلحة تعبيرية لم تقل بعد، أو حتى مقموعة ، ونمط تعبيرها المقبول ، الذي إرتبط ( تمفصل ) بالفعل وفقا للمعايير المقبولة ضمنا في المجال الفلسفي . وحتى سارتر Sartre ، الذي كان من المحتم أن يتمرد على إعلانات إيمان هيدجر النخبوية إذا كانت قد عرضت له في هيئة ما أسمته سيمون دى بوفوار Simon de Beauvoir " فكر الجناح اليمينى " ناسيه أن تشمل هيدجر (19) ، لم يكن بمقدوره أن يدرك بنفاذ بصيرة التعبير الذي قدمته مؤلفات هيدجر لتجربته الخاصة في العالم الإجتماعي ، إذا لم تكن قد ظهرت له مرتدية أشكالا تناسب مواضعات وخصائص المجال الفلسفي. يمكن أن ينشأ الإتصال بين العقول الفلسفية هكذا من تشارك لاوعيهم الإجتماعي . يفكر المرء في رواية الغثيان La nausee ، وهي التعبير المعلى لتجربة شاب من " النخبة " ووجه فجأة باللامغزي ( أي ، اللامعنى العبثي ) وبالمكان الذي عين له- كمعلم فلسفة في مدينة ريفية صغيرة . وضع في موضع غير مريح في الطبقة السائدة ، بوصفه بورجوازيا غير شرعى ، مسلوب من حقوقه البورجوازية وحتى من إمكانية إدعائها ( وهو موقف موضوعي يجد تقريبا ترجمة شفافة له في فكرة " النغل " ) ، يمكن للمثقف أن يحدد نفسه فقط بالتعارض مع بقية العالم الإجتماعي ، المصنف بوصفه " أنغالاقذرين ، أي ، " بورجوازيا " ولكن بالمعنى المقصود عند فلوبير بالأحرى منه المعنى المقصود عند ماركس ، ويعني كل هؤلاء الذين يشعرون بالراحة مع أنفسهم وآمنون على حقوقهم لأنهم يملكون حظ وتعاسة ألا يفكروا. إذا ما وافقنا على أن ندرك في " البورجوازي " و " المثقف " التحقق " الوجـودي " لما سوف يصبح فيما بعد ، في نظـام سارتـر المـورى فلسفيا ما هو في ذاته en soi ( الكائن المكتفى بذاته ) ولأجل ذاته pour soi ( الكائن الواعي بذاته ) ، سوف نفهم على نحو أفضل معنى "الحنين لأن تكـون إلها" ، أي ، المصالحـة بين البورجوازي والمثقف ( " الذي يعيش كبورجوازي ويفكـر مثل نصف إلـه " ، كما قال فلوبير ) ، بين السلطة التي لا فكر لها والفكر الذي لا سلطة له (20)



#سعيد_العليمى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو - الفصل ا ...
- الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر -- بيير بورديو -- الفصل ...
- الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر -- بيير بورديو -- الفصل ...
- الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو -- الفصل ...
- العبث القانونى وهل يحمى الرئيس الثورة ؟
- المادية التاريخية والصراع الطبقى والممارسة الثورية -- جورج ل ...
- المادية التاريخية والصراع الطبقى والممارسة الثورية - جورج لا ...
- المادية التاريخية والصراع الطبقى والممارسة الثورية - جورج لا ...
- المادية التاريخية والصراع الطبقى والممارسة الثورية - جورج لا ...
- فى حقوق إمتياز الدولة البوليسية - إعادة هيكلة - قوى الثورة
- الانطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر -- بيير بورديو
- قانون حماية مكتسبات الثورة -- الا نقضاض على مكتسبات الثورة ت ...
- المفهوم الماركسى للقانون جانيجر كريموف
- القانون ونظرية الخطاب
- امبريالية ام مابعد امبريالية ؟
- القمع يؤرخ للثورة -- ضد مشروع قانون الطوارئ
- القسم الثانى من رواية عشاق افينيون بقلم الزا تريوليه -- مراج ...
- القسم الاول من رواية عشاق افينيون بقلم الزا تريوليه -- مراجع ...
- رواية عشاق أفينيون بقلم الزا تريوليه -- مقدمة ومراجعة ابراهي ...
- النص القانونى بين التأويل و-او التدليل


المزيد.....




- شاهد رد مايك جونسون رئيس مجلس النواب الأمريكي عن مقتل أطفال ...
- مصادر تكشف لـCNN كيف وجد بايدن حليفا -جمهوريا- غير متوقع خلا ...
- إيطاليا تحذر من تفشي فيروس قاتل في أوروبا وتطالب بخطة لمكافح ...
- في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشارالمرض ...
- لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟
- 3 قتلى على الأقل في غارة إسرائيلية استهدفت منزلًا في رفح
- الولايات المتحدة تبحث مسألة انسحاب قواتها من النيجر
- مدينة إيطالية شهيرة تعتزم حظر المثلجات والبيتزا بعد منتصف ال ...
- كيف نحمي أنفسنا من الإصابة بسرطانات الجلد؟
- واشنطن ترسل وفدا إلى النيجر لإجراء مباحثات مباشرة بشأن انسحا ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد العليمى - الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو - الفصل الخامس