|
أنا غاضب
مهدي بن سليمان
الحوار المتمدن-العدد: 3944 - 2012 / 12 / 17 - 19:00
المحور:
الادب والفن
وعظني أبي ذات مرّة : " تكلّم و أنت غاضب ... فستقول أعظم حديث تندم عليه طوال حياتك " .
أنا غاضب ... ؛ لست غاضبا بسبب مذاق القهوة المرّ ، فمنذ ارتفاع سعر السكّر لم تنعم حاسة الذوق عندي بالطعم الحلو. لا يهمّ ، سأنتظر اليوم الآخر لأرتوي من أنهار العسل في الجنّة . و لست غاضبا لأن قارورة الغاز حديثة العهد نفذت أثناء استحمامي ، فخرجت لاعنا الغاز و مكتشفه . و قد غطت رغوة الصابون كامل جسدي حتى مؤخرتي . لا يهمّ ، سأقترض بعض الدنانير لأشتري قارورة أخرى و أزيل الرغوة عن مؤخرتي . لست غاضبا بسبب ارتفاع ثمن السكّر و انخفاض مستوى الغاز ، بل أنا غاضب لأنّ عشيقتي تركت زوجها لتنام بين أحضاني و الآن هجرتني لتضاجع شابّا أصغر مني سنّا و أوفر مالا ؛ فنساء اليوم أكثرُ نشاطا من النحلة العاملة ، تارة فوق زهرة الوادي الدنيئة و طورا فوق زهرة الجبل العالية .
أنا غاضب ... ؛ لست غاضبا لأنني تسلمت فاتورة الماء ، و كالسكران ذهبت لأردّ للدولة مستحقاتها فهنا " كل شيئ بالفلوس " حتى الماء الذي أنزله الله من السماء أصبح ضريبة تضرب الرؤوس و ترجّ النفوس . بعد تدافع و تلاحق في الصفّ البشري الفوضوي ، حان موعدي لدفع الجزية ؛ كانت دهشتي مدوية " هل صرت سفينة الصحراء لأشرب كل هذا الماء ... ؟ " . المهمّ ، عدت أدر اجي بخفي حنين ، لا يعمر جيبي سور الثقوب . فجأة ، ارتعش الهاتف و تعالى رنينه كالنواح : من المتكلّم ؟ أنا فاتورة الكهرباء ، يا سيدي . أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ماذا تريدين ؟ هل لك بمرافقتي لحضور حفل راقص على حسابك الخاصّ ... . و من شدّة الصدمة ، سقطت مغشيا عليّ و دارت الدنيا حولي حدّ الجنون ، فأصبح الكرسي فوقي و جالسه تحتي ، و أسياد اليمين مالوا إلى يساري ، و أصحاب اليسار انقلبوا إلى يميني . لست غاضبا بسبب تواتر الفواتير أو بسبب مذاق الماء الصالح للشراب و الانقطاع المستمرّ للتيار الكهربائي ، بل أنا غاضب لأن زوجتي تعشق راتبي و تسجد أمام سيارتي و تحبّ ما بين فخذي و تكره رائحة جسدي .
أنا غاضب ... ؛ لست غاضبا لأن عمّال الإدارة بطـيـئـون كالسلحفاة فهم كالآلات المبرمجة يرددون دائما : " عـد غدا ، المدير ليس هنا . " و لست غاضبا لأن منصبي في العمل تمّ بيعه بأكوام من النفاق البشري المعاصر فأصبحت المسؤول الأول عن الأرشيف و أصبح " عمّار " نائب المدير الجديد . لست غاضبا لأن العمل يسير بطيئا بينما يمضي الزمن مسرعا لا يلوي على شيئ بل يلوي رقابنا و نحن غافلون ، أو لأنني تدحرجت من السلم الوظيفي بفعل فاعل و أنا المفعول به ، بل أنا غاضب لأنّ باقة الجزيرة الرياضية مشفّرة و السبيل إليها باهض الثمن يكلّف نصف راتبي الجديد .
أنا غاضب ... ؛ لست غاضبا لأن العمل الإنساني بالمستشفيات تلاشى و اندثر ، فالفقير المسكين لا يدخل و الثري صاحب الجاه يتفضل ، ثمّ إن المبيت في إحدى غرفه شديدة الرطوبة يتطلب المال الوفير و الصبر الكثير . و لست غاضبا لأنّ الطبيب الجرّاح يسرق أعضاء المرضى البؤساء ليبيعها في السوق السوداء و يشتري سيارة بيضاء . لست غاضبا لأن سيارة الإسعاف تصل دائما متأخرة ، أو لأنّ الأدوية اختفت من خزائن المستشفيات و أثرت أسعارها أصحاب الصيدليات ، بل أنا غاضب لأن صديقي الوحيد سرق منّي حبيبتي و فضّ بكارتها تحت تأثير رغبتها الحيوانية المفرطة .
أنا غاضب ... ، لست غاضبا لأنني شاهدت دماء الأبرياء تغمر شوارع فلسطين بينما تملأ خيرات الأرض موائد " صنّاع القرار " . و لست غاضبا لأن أهمّ " دربي " في منطقة الشرق الأوسط جمع بين " فريق فتح " و " فريق حماس " انتهى بتبادل الشتائم و اللكمات فتمّ منح لقب البطولة للفريق صاحب المرتبة الثالثة " فريق إسرائيل " . لست غاضبا لأنهم أهدروا دماء أطفالهم و خسروا لقب البطولة المحلية ، بل أنا غاضب لأنني رأيت إحدى " المتحجّبات " تدلف إلى منزل جارنا الأرمل و بيدها زجاجة خمر معتقة و علبة سجائر رخيصة الثمن ، إبّان الإفطار تماما .
لست غاضبا ... ؛ الغضب يسبب الأمراض المزمنة ، خاصة ذلك السكّري فبسببه سأحرمُ من أنهار العسل في الجنّة و لن أتابع نشرة الأخبار العالمية خوفا من أن تتعكر نسبة السكّر في دمي فأموت . و الحياة هنا أرحمُ من أدفن في زاوية المقبرة دون إحياء جنازة راقية فأمثالي لا يملكون هكذا نفقات .
لست غاضبا ... ؛ الغضب يُفقدني أعصابي و تثور دمائي ، خاصة عندما تتساقط الفواتير فوق كاهلي في نفس اليوم الذي ترتفع فيه أسعار المعيشة ، أو عندما أذهب لقضاء بعص الشؤون الإدارية ، و يتلكّأ الموظف خلف مكتبه المريح . عندها ، سأضربه ضربا مبرّحا فيُزجّ بي في إحدى السجون المظلمة ، و نار الجحيم أرحمُ من السجون هنا ثمّ إنّ أمثالي يخافون العتمة .
هل أنا غاضب ... ؟ لا طبعا فالغضب من شيم الضعفاء و أنا أقوى الأقوياء . لماذا أغضب ... ؟ لا داعي للغضب ، فالحياة هنا أجمل ما في الوجود . متى سأغضب ... ؟ لن أغضب أبدا ، ما دمتم حرّا هنا . فلم الغضب ؟
و كما أقول دائما : " من عاش غاضبا تلعنه السماء ، و من مات باشّا تُخلدّه الأرض الفيحاء " .
#مهدي_بن_سليمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العنصرية ... عنقاء الدهر ؟
-
الخمار في سيرة ابن هشام قبل تشريعه في القرآن
-
بن علي ... حقبة من تاريخ تونس
-
رئيس منتخب... و لربع قرن في عشر خطوات
-
لنشرب كأس الوطن بدون نخب ... و بدون سيكس
-
يوميات آخر مواطن تونسي
-
لم أرك يا أبي
-
لأننا فعلا عرب
-
حقيقة قناة حنبعل و سياسة العار
-
رسالة مباشرة إلى الشيخ الغنوشي
-
إلى الدين
-
8 مارس اليوم العالمي للعورة
المزيد.....
-
أحمد عز ومحمد إمام.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وأفضل الأعم
...
-
تيلور سويفت تفاجئ الجمهور بألبومها الجديد
-
هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف
...
-
وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما
...
-
تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
-
انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
-
الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح
...
-
في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
-
وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز
...
-
موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|