أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد القبانجي - مدرسة الجشتلت ... علم نفس الشكل















المزيد.....



مدرسة الجشتلت ... علم نفس الشكل


أحمد القبانجي

الحوار المتمدن-العدد: 3942 - 2012 / 12 / 15 - 23:09
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


برزت هذه المدرسة في العقد الثاني من القرن العشرين، وكانت في بداية أمرها بمثابة اعتراض على عمليات التجزئة في المدارس النفسيّة كما رأينا في المدرسة التجريبيّة ومدرسة التحليل النفسي، فقد كان السائد في الأوساط تجزئة الأحاسيس والعواطف والعمليات الذهنيّة إلى عناصرها الأوّليّة، فكانت تسمّى لذلك بالعنصراتيّة، أو الذرّية، نسبة إلى تحليل الكلّ إلى ذرّات صغيرة، فكانت مدرسة الجشتلت ـ أو مدرسة الشكل أو الهيئة ـ أوّل مدرسة نفسيّة أثبتت بالمنهج التجريبي وجود ظواهر إدراكيّة لا تنسجم مع العنصراتية أو الذراتيّة في المناهج القديمة، لأنّ هناك حقائق معرفيّة لا تتكوّن من ذرّات وعناصر أوّليّة، وهي بحاجة إلى دراسة كليّة، ولذا ذهب رجال هذه المدرسة إلى أنّ الإدراك ليس كمّاً من تراكم العناصر الإدراكيّة التي ترد الذهن بصورة مفاهيم مترابطة، بل الإدراك كلّ منسجم ومتشكّل على شكل هيئة واحدة يندمج فيه المدرِك والمدرَك، والمثير والإستجابة، والموضوع والذات، والذهن والمحسوسات في وحدة جديدة مستقلّة، فالماء عند تحليله يتكوّن من هيدروجين واوكسجين، إلاّ أنّ صفات هذين العنصرين تختلف كليّاً عن صفات الماء، والمربع يتكوّن من أربعة أضلاع متساوية، فلو أخذنا كلّ ضلع على حدّة لدراسته فانّنا لا نجد للمربّع وجوداً حينئذ، وكذلك بالنسبة لإدراكات الإنسان بعد تحليلها إلى عناصرها الأوّليّة.
وتعتبر هذه المدرسة المانيّة التأسيس، وقد بدأت في التشكّل على يد ثلاثة من أشهر رجالها وهم: «فرتايمر»، و«كوفكا»( ) و«كوهلر».

علم نفس الشكل والجذور الفلسفيّة:
لم تكن نظريات الجشتلتيين وليدة الساعة، أو عديمة الجذور في الفلسفة الالمانية، وخاصة «كانت» فقد اقتبست هذه المدرسة اُصولها الفلسفيّة من مقولة كانت في الوحدة الإدراكيّة المضادّة لمقولة تداعي المعاني في المدرسة الترابطيّة المتقدّمة، ففي نظر «كانت» هناك بعض القوالب مثل الزمان والمكان، والعلّيّة التي يضيفها الذهن على التجربة هي فطرية بالأساس، وليست وليدة التجربة، بل هي متقدّمة على وجود الإدراك في الذهن، وإدراك هذه العناوين من الزمان والمكان والعلّية يتمّ بطريق الشهود والحضور الوجداني فقط، وكانت لأفكار «ارنست ماخ» الفلسفيّة تأثيراً مباشراً على هذه المدرسة، فقد تحدّث في كتابه «تحليل الإحساسات» ـ 1885 ـ عن المكان والشكل والزمان بعنوان أحاسيس للنفس، فكان يرى أنّ هذه الاحساسات مقولات مستقلّة عن العناصر التي تدخل في تركيبها، فعلى سبيل المثال يمكن أن تكون الدائرة بيضاء، أو سوداء، أو صفراء، ولكن هذه الأشكال لا تخدش مطلقاً في دائريتها.
ويؤكّد «فون ارنفلز» (1859 ـ 1932) أنّ كيفية الإدراكات لا توجد في الموضوع الذي يراد تجربته، فإنّ الشخص المدرك يضفي على الأشياء الماديّة المتخذّة كموضوع للتجربة شكلاً وكيفية ومعنىً خاص، فهو يسعى لتوحيد ما يراه في إطار واحد منسجم في كيفية خاصة عبّر عنها بكيفية الجشتلت، فالإدراك أعلى من الإحساس بهذا المعنى، أي انّه يصوغ من الأحاسيس الواردة إلى الذهن من الحواس وحدة حقيقية متكاملة.
ومن النظريات الفلسفيّة التي كان لها تأثير مباشر في صياغة نظريّة الجشتلت هي النظرية النسبيّة في الكيفيات والتي تدّعي إنّ كيفيات الأشياء تحصل من جرّاء إرتباط الشيء بغيره من الأشياء، فالطويل والقصير، والقريب والبعيد والكبير والصغير، وغيرها من الكيفيات المختلفة للأجسام ليست لها حقائق مستقلّة عن الإدراك، وإدراك هذه الكيفيات بدوره يعتمد على ملاحظة نسبتها إلى بقيّة الأشياء، أي لولا وجود تلك الأشياء لما تسنّى لنا إدراك الكيفيات المذكورة بوجوداتها الوضوعيّة.

المفاهيم الأساسيّة في مدرسة الجشتلت
1 ـ الوجود والواقع:
هناك نظرة فلسفيّة سائدة تقوم على أساس أنّ الوجود والواقع شيء واحد، فالواقع هو الوجود، أي الموضوع المستقل عن الإنسان وإدراكاته، ولذا كان الواقع في نظر هؤلاء الفلاسفة وكثير من علماء النفس ومنهم علماء المذهب السلوكي هو الأشياء الماديّة الموجودة في الخارج بقطع النظر عن إدراك الإنسان لها.
ولكن بالنسبة لنظريّة الجشتلت فانّ الواقع يختلف عن الوجود، لأنّ الواقع في هذه النظرية هو العالم الخارجي كما يراه ويدركه الفرد من دون إنكار لأصل الوجود المستقلّ للأشياء ـ ولذا يختلف الواقع من فرد لآخر وفقاً لتصوّره عن الموضوعات الخارجيّة، ويكون إدراك الإنسان محدوداً أيضاً، لأنّ الإدراك الكامل للموضوعات الخارجيّة غير ممكن إطلاقاً، ونتيجة لذلك يكون إدراك الشخص للعالم المادي والمجتمع متأثّراً بأهداف هذا الشخص وميوله وتجاربة المسبقة عن الحياة.
ويترتّب على ذلك أيضاً أنّ المحيط المادي والمحيط النفساني غير متساويين كما كان لدى السلوكيين، فالمحيط النفساني لدى الجشتلتيين عبارة عن إدراك الفرد لما حوله، فليس المحيط المادي هو الذي يحاصر الفرد، بل «الميدان الإدراكي» والمجال الحيوي للشخص هو الذي يحيط بالفرد، وقد يستوعب مختلف المظاهر الماديّة في العالم الخارجي، إلاّ أنّه لا يعني بالضرورة احتوائه لجميع أفراده الماديّة، ولهذا السبب من الممكن وجود شخصين في زمان ومكان واحد مع تفاوت المحيط النفساني لكلّ منهما لاختلاف أهداف وتجارب كلّ منهما.

2 ـ الإدراك:
للإدراك لدى التجريبيين والسلوكيين ظاهرة متولّدة من اتّصال الحاسة بالمحسوس الخارجي، ثمّ إرسالها عن طريق شبكة الأعصاب إلى الدماغ ويقوم الذهن بتفسير هذا الشيء المدرَك، فالعمليّة تشبه إلى حدّ كبير جهاز التصوير (الكاميرا)، ففي البداية يحدث الحس، ثمّ يتبعه إدراك المعنى، أي إنّ الحسّ والمعنى أمران مختلفان.
ولكنّ الباحث الجشتلتي لا يذهب إلى الفرق بين حسّ الشخص وبين المعنى الذي يراه لهذا المحسوس، لأنّ الفرد لا يحسّ بشيء من المحيط المادي إلاّ ما يتّفق مع أهدافه وغاياته، أي إنّ الإدراك في الجشتلت ظاهرة واحدة يرتبط فيها الحسّ مع المعنى ويحدثان في وقت واحد، ولذا يكون الإدراك مقولة إنتخابية وتقع في دائرة إختيار الإنسان، فالشخص الهادف يختار لمدركاته من المحيط الجوانب الفاعلة التي تتفق مع أهدافه، ولهذا السبب يكون الشخص حسّاساً لبعض مفردات المحيط دون بعض، فكلّ إدراك أو حسّ مرتبط بجميع ما في الظرف الذي وقع فيه الإدراك، وكلّ ظاهرة نفسانيّة تحدث نتيجة تفاعل عدّة عوامل مختلفة.

3 ـ التجربة:
تعني التجربة في هذه المدرسة التعامل والتفاعل الهادف مع المحيط النفساني الخاص بالفرد، فهي محاولة تتلاءم مع مقولة النسبيّة، وتختلف عن التجربة في مفهوم السلوكيّة، حيث أنّ الباحث السلوكي ينظر إلى التجربة من منظار عملي، فهي عبارة عن ظواهر شرطيّة يمارسها الإنسان من خلال ورود مثيرات خارجية على الحواس تستدعي إستجابات جديدة، أو تقوم بتغيير الإستجابات القديمة، ولكن التجربة في نظر الجشتلت عبارة عن سلوك يمدّ جذوره إلى فكر الإنسان، فهي تلقي الضوء على كيفيّة تعامل الفرد مع محيطه الإدراكي الذي ينسجم مع أهدافه أيّ محيط كان.

4 ـ الدوافع:
لا نجد في الجشتلت مفاهيم خاصّة بالدوافع والغرائز والمثير والإستجابة وأمثال ذلك، فإنّها ممّا لا تنسجم مع أطروحة الجشتلت المعرفيّة، ونجد بدل ذلك مفردات علميّة اُخرى من قبيل الهدف، التوقّع، النيّة والقصد وأمثال ذلك، لأنّ السلوك في هذه النظريّة تابع للكل والهيئة الواقعيّة للفرد، ذلك الواقع الذي يتعامل فيه الفرد من ميدانه المعرفي النفساني من خلال مفردات كالهدف والقصد ومدى فهمه وكيفية إدراكه عن الأشياء والرموز المحيطة به، فلذا لا يصحّ اعتبار الباعث على العمل محرّك ميكانيكي صرف يفرض نفسه على الفرد، ويدعوه لسلوك معيّن. بل انّه أكثر من ذلك، فالباعث، أو الغريزة تنشأ من موقع نفساني متحرّك يستبطن في أعماقه الإرادة والرغبة الواعية لسلوك معيّن.
الباعث في هذه النظريّة هو عنصر «عدم التوازن والتعادل» في ميدان الحياة الشامل للأهداف والموانع التي تعيق الفرد من تحقيق أهدافه، فقد يكون الهدف إيجابياً أو سلبياً، وعندما يبرز أمامه مانع لنيل مقصوده وغرضه، فانّه يثير في الفرد شعوراً بالإنفعال، فيسعى الفرد من خلال الغلبة على هذا المانع إزالة ذلك الإنفعال والتوتر.
انّ كيفية الباعث وقوّته وضعفه من توابع الميدان النفساني للفرد، فلا يصحّ البحث عن المنشأ الداخلي أو الخارجي للدوافع النفسيّة. أيّ انّه لا يمكن تصنيف الدوافع إلى ما يكون لها منبع داخلي كالغرائز، أو خارجي كما ترى ذلك السلوكيّة، فالباعث أو الدافع في رأي الجشتلت نابع من أعماق الميدان النفساني للفرد في الزمن الحال، لا الماضي دون الإستهانة بتجارب الفرد في حياته الماضيّة. ولا ما سوف يأتي عليه من المستقبل، فالمهمّ في نظر الجشتلت هو الدافع للفرد في الزمان الحال.
وببيان آخر، إنّ الإدراك يتحدّد بفعل نوعين من العوامل:
أ ـ العوامل الداخليّة وتستبطن إرادة الفرد وأهدافه والحاجات النفسيّة التي هي عبارة عن مؤشر على توتر حاصل في النفس من جرّاء عدم توازن وتلاؤم مع المحيط النفسي.
ب ـ العوامل الخارجيّة: وهي العوامل الموجودة في الوسط أو الميدان النفساني (المحيط + الإدراك الشخصي له)، وهي قد تكون إيجابيّة، أي لها خاصية الجذب كالماء للعطشان، وقد تكون سلبية منفّرة ولا تساعد الشخص في تحقيق أهدافه.
ومهمّة الميدان النفسي هي أنّه يوحّد بين هذين النوعين من العوامل، أي أنّ العطشان يدفعه عطشه وإحساسه الداخلي هذا نحو الماء، وكذلك خاصيّة الماء في رفع العطش تجذب هذا الشخص إليه لإرضاء حاجته وإزالة التوتر وإعادة التوازن، فكلّ جزء سواء كان داخليّاً أو خارجيّاً مرتبط بالكل، وكلّ تغيير في الوسط الخارجي يؤدّي إلى تغيير في ذات الشخص، وكلّ تغيير وتبدّل في ذات الشخص يؤدّي إلى تغيير في الميدان النفسي والوسط الواقعي لذلك الشخص، فالتغيير في الجزء يؤدّي إلى تغيير في الكلّ ويحوّله إلى شكل جديد وجشتلت آخر. فالعلاقة بين الفرد والوسط هي علاقة إتحاد.
وحينئذ، فكلّ شيء يرد الوسط النفساني يغيّر الكلّ، وينتج شيئاً جديداً يستدعي سلوكاً خاصاً، لأنّه تقدّم أنّ السلوك ما هو إلاّ سعي الإنسان للقضاء على التوتّر الناجم من ورود أشياء إيجابيّة أو سلبيّة في الحقل النفساني وإعادة التوازن للوصول إلى الهدف وحلّ المشكلة. فكلّ نقص أو زيادة تولد توّتراً، والتوتر بدوره يحرّك أو يثير السلوك أمّا نحو الشيء الموجب، أو بالإبتعاد عن الشيء السالب.

4 ـ الذهن والبدن:
كانت العلاقة بين الذهن والبدن مورداً للبحث والمناقشة منذ قديم الأيّام وعلى اختلاف المذاهب الفلسفيّة، وقد رأينا كيف أنّ ديكارت كان يقول بالتباين المطلق بينهما، ومن ثمّة ذهب المحقّقون في السابق إلى وجود مستقل في الإنسان باسم الذهن أو العقل يكون هو المنشأ والمصدر للفعّاليات النفسيّة.
ومع تطوّر الكشوفات الطبّية ثبت وجود ترابط وثيق بين الأمراض النفسيّة وبعض الأمراض الجسديّة وبالعكس، وأنّ أحدهما قد يكون علّةً للآخر، ثمّ جاء دور مدرسة التحليل النفسي التي أعطت للذهن بعداً جديداً في عالم اللاشعور، فبعد أن كانت فعّالية الذهن تقتصر على منطقة الوعي أضحت قادرة على التصرّف في البدن من خلال مكبوتات اللاشعور وتبديل العلائم المرضيّة من مكان إلى آخر.
ثمّ أصبحت فعّاليّة الذهن بمثابة ظواهر سلوكيّة تختصر المسافة على الفرد وتعينه على التوصّل إلى حلّ مشكلته بأقصر طريق وأسهل وسيلة وأقل جهد بدني، ولذا كانت فعّاليّة الذهن وفعّالية الجسد تسيران جنباً إلى جنب في سبيل نيل الهدف وقضاء حاجة الشخص، غاية الأمر أنّ أحدهما وهي فعّالية الذهن تصرف مقداراً أقلّ من الطاقة، ومن ذلك تتبيّن نظرية الجشتلت في تصوير الوحدة التامّة بين الذهن والبدن، وكيف أنّ فعّالية الذهن هي بنفسها فعّاليّة للبدن ولكن بجهد أقل، وأنّ فعاليّة البدن هي فعاليّة الذهن ولكن بجهد أكبر.
ولتوضيح هذا المعنى يُمثّل لذلك بالجندي في ميدان القتال، فانّه يستعمل عضلاته وأعضاءه البدنيّة بكثرة في حربه مع العدو، يرتفع فيه ضغط الدم، وتسرع دقّات قلبه ويعيش في حالة من الهياج والإنفعال العاطفي و... أمّا بعد رجوعه من ساحة المعركة، وهدوء الزوبعة، فإنّ ذلك الجهد البدني يتحوّل إلى فعّاليّة ذهنيّة فيفكّر في القضاء على العدو، ويتحدّث عن أجرامه وخبثه، ولكن بجهد بدني أقل، وهذا يعني أنّه استبدل الجهد البدني الكبير بجهد ذهني يسير، وهذه من خصوصيات الذهن، حيث يستطيع أن يقتصد في عمليّة استهلاك الطاقة، ويستخدم تلك الطاقة المخزونة في مجالات بنّاءة اُخرى في حين أنّ موقفه الأوّل لم يتغيّر في ماهيّته عن موقفه الثاني إلاّ في مجال كيفية استهلاك الطاقة ضدّ العدوّ. وهكذا يستطيع الإنسان بالإستفادة من قدرة الذهن على التفكّر والإبداع من إستحصال مقولات جديدة، وتطوير العلوم والفنون الحضارية.
وبناءً على ذلك، لا يوجد هناك إنفصال وإنقطاع بين الفكر والجسم، «وليس الفكر قوّة تنظيم تجري بفعل نشاطية ما يتميّز بها، ذلك أنّ ما في الداخل هو أيضاً في الخارج حسب جملة «غوتيه» وضعها كوهلر عنواناً لمبحث من مباحثه: إنّ إدراك شيء ما، كتاب مثلاً، هو كلّ، أي غشطلت يجد في الجهاز العصبي ما يوازيه، ما يعادله، ما يقابله، أي أنّ الشكل يجد ما يوازيه في الجهاز العصبي المنتشر في كلّ الإتجاهات، والذي يحيط بسائر أقسام وضلوع وسطوح الكتاب وألوانه، لأنّ في الجهاز هذا سيّال عصبي، أي حركة، وما الألوان إلاّ ذبذبات ـ حركات ـ تتباين من حيث الطول والقصر في سرعتها أو بطئها».
وبذلك تقتضي هذه النظرية تماماً على ثنائية الذهن والبدن، أو نظرية التوازي بينهما، لأنّها بهذا المفهوم الجديد تحيطنا علماً بأنّ التفكّر والعمل ليسا من مقولتين ويعمل كلّ منهما بشكل مستقل عن الآخر، بل بعنوان مجموعة متحدّة واحدة تستقي من منهل واحد، ويمكن إستبدال أحدهما بالآخر.

5 ـ مبادي عامّة في إدراك الكلّ
للإدراك عند الجشتلت مبادي وضوابط يتمّ من خلالها فهم الكلّ لدى الفرد ..
منها: إنّ للكلّ ماهيّة اُخرى لا توجد في الأجزاء، كما رأينا في الأشكال الهندسيّة (المربّع المثلّث الدائرة ..) حيث أنّ المفهوم من الكلّ مغاير للمفهوم من الأجزاء.
ثمّ إنّ الجزء في ضمن الكلّ يعطي معنى آخر غير ما لو كان مستقلاً ومنفرداً، وهذا المعنى مقتبس من الكلّ أيضاً، أي أنّ الكل يضفي على الأجزاء سمات خاصة لم تكن الأجزاء لتتصف بها في حال الإنفراد، فالكل هنا هو الذي يحدّد معنى الأجزاء التي يتكون منها «كلّ إدراك هو تنظيم أصيل، إنّه بنيّة تتعلّق في داخلها الأجزاء بالكل».
ومنها: قانون الأدنى والأعلى للعمل، الحدّ الأدنى عبارة عن ضرورة وجود رغبة مهما كانت طفيفة لتحقّق الإدراك، لأنّ سلوك الإنسان يخضع لرغبات وأهداف مسبقة، وأمّا الحدّ الأعلى فهو أنّ الإنسان إذا أراد أن يوفّق في أعماله ونشاطاته فلا ينبغي تأطير حياته بمجموعة مكتسبة من العادات والصفات كما تراه السلوكيّة، لأنّ ذلك من شأنه تحديد خبرات الفرد بتلك المعلومات والقوالب المعرفية والسلوكيّة المعيّنة، فلا يتمتع بالمرونة في إدراك الوسط النفساني له، فلا يتسنّى له القيام بالحدّ الأعلى من العمل.
ومنها: قانون التجاور: حيث تدرك الأشكال وفقاً لهذا القانون بشكل خاص متأثرة بالتجاور والتقارن فيما بينها، فليس للفرد أن يدركها بغير تلك الصورة والشكل الذي يوحي به التجاور، كما ترى ذلك في الرسم أدناه:

الشكل الأوّل


فكلّ من يلاحظ هذه الأشكال لابدّ له من ملاحظتها بشكل خاص متأثّر بالمجاورة، فيرى كلّ مجموعة من النقاط، أو كلّ خطّين متجاورين على حدة ولا يرى مثلاً أحد الخطوط في الزوج الأوّل مع خطّ آخر من الزوج الثاني.
ومنها: قانون التشابه: حيث تميل الأشياء المتشابهة إلى التجمّع، وببيان آخر: إنّ الأجزاء المتشابهة في اللون أو الحجم، أو الشكل تتحد رغم الفواصل بينها لتكون شكلاً مستقلاً كما في الرسم أدناه:

الشكل الثّاني


فأنت تلاحظ هذا الشكل بصيغته العمودية، فترى الدوائر الصغيرة تشكّل عموداً منسجماً في أجزائه، وكذلك الدوائر الكبيرة، ولا تحبّ رؤيتها اُفقياً لعدم تجانس الأجزاء وتشابهها بالرغم من وجود العامل الأوّل وهو المجاورة، ممّا يدلّ على أنّ عامل المشابهة أقوى سلطة في عمليّة الإدراك من الأوّل، وكذلك فيما لو كانت المشابهة اُفقيّة مثلاً كما في الرسم التالي.

الشكل الثّالث


فتلاحظ انّ الدوائر المتشابهة في الحجم أو اللون تشكّل سلسلة اُفقيّة فيما بينها، وتأبى إدراكها العمودي.
ومنها: قانون التكميل أو الإتمام: وفي هذا القانون الإدراكي تميل الأشكال الناقصة إلى الإتمام في الذهن، أو أنّ الذهن يميل إلى رؤية الأشياء كاملة وتامّة وان كان فيها بضع النقص والخلل، فالمربّع الناقص نحاول إدراكه على أساس انّه كامل، والدائرة غير المستديرة تماماً، أو الناقصة، نحاول تغافل النقص ورؤيتها كاملة، كما في الشكل:

الشكل الرّابع


ولا يقصر هذا المعنى على الأشكال الهندسيّة، بل يتعدّى إلى الأفكار والقيم والخواطر وغير ذلك، فنحن قد نغضّ النظر عن نقاط الضعف في أنفسنا، أو لا نحاول رؤية نواقص الطرف الآخر المنسوب إلينا كالبيت والسيارة والصديق والدولة، وبعبارة اُخرى نحبّ أن نرى الأشياء وفق مقتضيات الكمال، وتكميل الأشياء الناقصة، وذلك لإعادة التوازن وإزالة التوتّر الناشيء من وجود النقص في الشكل.
ومنها: قانون الشكل الجيد: وفيه تكون الأشكال المفضّلة في عملية الإدراك هي المتّسمة بالإنتظام، والبساطة، والتجانس، فلو كانت أمامنا عدّة أشكال مختلفة، فإنّنا نميل إلى إدراك الأشياء أو الأشكال الأفضل من خلال اتّصافها بتلك المواصفات المذكورة، فالذهن يميل إلى النظم والبساطة والتجانس، وينفر عن أضدادها حتّى كأنّه لا يراها، كما في الشكل التالي:

الشكل الخامس


ففي هذا الشكل يلفت نظرنا شكل الدائرة دون ما سواه من الأشكال المتناثرة وغير المنتظمة، لأنّ الدائرة أكمل وأقوى نظماً وبساطة وتجانساً من تلك الأشكال.
ومنها: قانون الصورة والأرضيّة: يقرّر هذا القانون في إدراك الأشكال على أنّ «كلّ شيء حسّي لا ينوجد إلاّ في علاقة مع أرضيّة ما»، فنحن نرى النجوم على صفحة السماء، فتشكّل السماء أرضيّة وخلفيّة للنجوم، وعندما نريد شراء بعض الفاكهة من السوق، أو قطفها من الشجرة، فانّ الفاكهة تبدو بشكل جلي لنا، وما عداها من الأغصان والفضاء في البستان تشكّل خلفيّة لها، والجدار بدوره يشكّل أرضيّة للألواح والصور المعلّقة عليه، وعندما تتحدّث مع شخص تكون بقيّة الأشياء من أثاث وجدران بمثابة الأرضيّة، وهكذا في سماع الاُمّ صوت إبنها من بين الأصوات، والضجيج، ففي كلّ هذه الحالات يتجلّى الشكل والهيئة التي نهدف إلى إدراكها دون سائر الأشكال الاُخرى التي تكون لذلك الشكل بمثابة الأرضيّة، وتتميّز الصورة عن الأرضيّة إنّها تجذب الإهتمام ولها انتساق وتلاؤم في مكوّناتها ووضوح في إدراكها بخلاف الأرضيّة التي تكون بلا شكل معيّن ومحدّد، وغير منتظمة وباهتة.
وهناك حالات تتناوب فيها الصورة والأرضيّة على الظهور على مسرح الإدراك كما في الوجهين المتقابلين والقدح بينهما.

الشكل السّادس



فإذا رأيت القدح أو رجل منضدة في الوسط لم تر حينئذ الوجهان المتقابلان حيث صارا بمثابة أرضيّة لصورة القدح، وإن لاحظت الشكل على انّه وجهان متقابلان زالت صورة القدح أو رجل المنضدة.
وللتمييز بين الصورة والأرضيّة أهميّة بالغة في حياتنا اليوميّة، وبها يمكن التمييز بين مدركات كثيرة على المستوى المحسوسات الخارجيّة، وكذلك على مستوى الأفكار أيضاً، فتبرز فكرة من بين ركام الأفكار لتجعل من الأفكار والمفاهيم الاُخرى أرضيّة تقف عليها.

6 ـ التعلّم:
رأينا أنّ السلوكيين يعتمدون في نظريات التعلّم على أساس من قوانين التعلّم الشرطي لبافلوف، وقانون الأثر لثورنديك الذي يعتمد في الأساس على مبدأ التجربة والخطأ دون تدخّل للوعي في مسألة التعلّم، فالحيوان يستمر في تكرار المحاولات الخاطئة العشوائية في فتح باب القفص لنيل الطعام الموجود خارجه حتّى تصادف يده الزر الكهربائي المعدّ لذلك فيفتح له الباب ويحصل على مراده، وفي كلّ مرّة تعاد فيه التجربة تكون الأخطاء أقلّ والمدّة أقصر لحلّ المشكلة، ومن ذلك صاغ ثورنديك السلوكي قانون للأثر في التعلّم الذي سيأتي الحديث عنه في فصل التعلّم في الجزء الثاني.
إلاّ أنّ كوهلر الجشتلتي هاجم هذه المقولة بشدّة، وأثبت من خلال تجاربه على قرد الشمبانزي «سلطان» والتي أجراها في جزر القناري الاسبانية أنّ التعلّم بطريقة المحاولة والخطأ فرضيّة غير معتبرة، لأنّ الازرار والمزاليج والمفاتيح خافية على الحيوان في تجارب ثورنديك، فلا يتعلّم إلاّ بالمصادفة، ولو أنّنا فسحنا المجال للحيوان باستخدامه وعيه ووضعنا أساليب حلّ المشكل أمام عينه لأمكن أن يتعلّم بصورة أفضل، وهي الطريقة التي أسماها كوهلر بالاستبصار، وتعتمد هذه النظرية في التعلّم على أساس من نظرية الجشتلت في إدراك الكل، فالمفروض وضع التجربة بشكل يدرك فيه الحيوان العلاقة بين الوسيلة والهدف، فالقرد الجائع يحاول الحصول على الموز المعلّق على السقف، إلاّ أنّه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً، فيلتفت إلى مجموعة من الأعواد والقضبان الملقاة على أرضيّة القفص، وفجأة تبرق في نفسه فكرة حمل أحد الأعواد أو القصب للتوصّل إلى الهدف، فإذا لم ينجح في المرّة الاُولى حاول مرّة اُخرى مستعيناً بقصبة ثانية يدخل طرفها في نهاية القصبة الاُولى المجوّفة، وهكذا إلى أن يفلح في مقصوده، وكذلك لو استبدلنا الأعواد بصناديق فارغة، فانّ القرد سيضع أحد الصناديق ويقفز عليه للوصول إلى الموز، فإذا لم يتمكّن في المراحل الاُولى، وضع صندوقاً ثانيا فوق الأوّل وصعد عليه حتّى تصل يده إلى الموز. ومن ذلك يفهم أنّ التعلّم بحاجة إلى إدراك جميع الروابط والعلاقات التي تربط بين الوسائل والأهداف، وأن تكون الوسائل في مرأى ومسمع من الشخص المتعلّم حتّى تتمّ عمليّة التعليم، وبعد ذلك ومن خلال عدّة محاولات يبرق الحلّ فجأةً في الذهن، أو الإكتشاف الفجائي للروابط كما يسمّيها كوهلر.

7 ـ السلوك:
تقدّم في المذهب السلوكي أنّ سلوك الفرد حصيلة معادلة المثير والإستجابة، فهو عبارة عن حركة الغدد والعضلات المتأثّرة بالمحيط الخارجي، ولذا يكون قابلاً لمشاهدته وقياس مقداره، بينما ترفض مدرسة الجشتلت هذا التصوّر عن السلوك، وترى أنّ السلوك هو ما يقع في الوسط النفساني ويتطابق مع الهدف، ولذا لا يكون مجرّد حركة فيزياوية كما يراه السلوكيون، ولا تكون جميع أنماط السلوك قابلة للمشاهدة، بل بالإمكان استنباطها من خلال العمل، فيمكن أن يكون الفرد قريباً عاطفياً من فرد آخر دون أن تصدر منه حركة بدنيّة. فالسلوك غالباً يصدر وينوجد في الميدان النفساني للفرد، لا المحيط الخارجي المستقل عن الشخص.
وبذلك يمكن تعريف السلوك بأنّه عبارة عن كلّ تغيير في الميدان النفساني يكون موضوعاً لقوانين الإدراك الجشتلتي، فعلى هذا قد يكون السلوك عملاً هادفاً ظاهرياً، أو يكون تغيير في النيّة وإدراك القيم والمثل للأشياء ممّا يؤدّي إلى تغيير في كلّ الميدان أو الحقل النفساني.
وعلى أي حال، فالشخص، والمحيط، والروابط المتغيّرة لا توجد بصورة مستقلة عن بعضها، فلأجل معرفة السلوك المستقبلي للفرد لابدّ من أخذ كلّ من الشخص والمحيط بشكل منظومة من العوامل والعناصر المترابطة.

8 ـ الجشتلت العلاجي:
بينما كانت مدرسة التحليل النفسي ترى في عالم اللاشعور محوراً تدور حوله رحى الأمراض النفسيّة من خلال مخزوناته المكبوتة التي تحاول البروز بطريقة مقنعة وغير قانونيّة، فينشأ من ذلك مظاهر غير مألوفة في السلوك، ترى مدرسة الجشتلت محورية الوعي الظاهر في فهم أساس المرض النفساني، وبدلاً من اعتبار الغرائز كركيزة في فهم المحتوى الداخلي للإنسان كما تراه مدرسة التحليل النفسي ادّعت أنّ الوضعيّة الناقصة، أو الجشتلت غير الكامل هو الدافع الأصل لكلّ الفعاليّات في الحقل النفساني للإنسان.
وتوضيح ذلك أنّ كلّ فرد منّا له حقلان نفسانيان: حقل خارجي، وحقل داخلي، وافتراق هذين الحقلين ووجود التفاوت والإختلاف بينهما هو المنشأ لكافّة الإختلالات العصبية والنفسيّة للفرد والتي نطلق عليها الأمراض النفسيّة. فالحقل الداخلي للنفس والذي يعبّر عنه غالباً بالذهن لا ينبغي أن يكون متضاداً مع الحقل والميدان الخارجي، أي العالم الخارجي المحيط بالفرد، فأحد خصوصيات عالَم النفس الداخلي أنّه يريد مواكبة ومماثلة العالم الخارجي، فالشكل أو الجشتلت الذي ينمو ويتشكّل في الذهن يجب أن يوافق ويطابق الجشتلت الموجود في الخارج، وفي هذه الصورة فقط يمكننا أن ننعم بحياة سعيدة، فالذهن السالم ما هو إلاّ إنعكاس رقيق عن الواقع الخارجي، فلو حدث خلل في الإرتباط بينهما وقطعت العلاقة بين الداخل والخارج فانّ توازن الفرد النفسي سينهار، ويغرق الفرد في توقّعات وآمال لا يوجد ما يعادلها في الخارج.
وفي هذه الصورة سيكون الفرد سجين ميدانه النفسي الخاص وليس له اتّصال بالعالم الخارجي، ويتعرّض للفشل في جميع محاولاته للنجاح ونيل الموفقية في صياغة شخصيته، ومن ثمّة يتّهم العناصر الخارجيّة ويلقي عليها باللائمة دون ملاحظة التقصير في الحقل الداخلي.
بينما لو كانت العلاقة بين الداخل والخارج جيدة، فسوف يكون بإمكانه الاستفادة من طاقاته واستثمار قدراته في الوجهة الصحيحة ونحن في الحالات الطبيعية نعيش مع واقعنا كما هو، كلّ لا يتجزّأ، وواحد فريد من نوعه، والمريض هو الذي اُصيبت كلّيّته بعوامل التجزئة والتآكل، أي إنّ شخصيّته الواحدة صارت هدفاً لسهام التحلّل والتجزئة والإنقسام، والعلاج الجشتلتي يقوم على مبدأ إعادة الكليّة لهذا الفرد وتنظيم شخصيته وإعادة صياغتها من جديد بعنوان الكلّ، فالهدف هو تبديل الإنسان المتمزّق والوهمي الغارق في الخيال إلى إنسان واقعي.
وأحد الطرق لمواجهة المشاكل والمتاعب في الحياة هو إرتقاء سطح التحمّل .. التحمّل الذي يقترن عادةً مع نمو الفرد ورشد قابلياته، ويتيح للفرد أن يتصرّف في المواقع الناشزة وغير الموائمة بأسلوب مشروع وصحيح.
وفي الإنسان ميل نحو الكمال وتكميل المواقع الناقصة في شخصيته، فلابدّ في هذا السبيل من تلاحم جميع الأبعاد الذهنيّة والجسميّة في الفرد بعنوان كلّ أو شكل واحد منسجم، وإزالة كلّ مانع يوجب التوتّر النفسي ويسبّب بروز مشكلات نفسيّة في طريق هذا الهدف، فالجشتلت في كلّ فرد يريد أن يكون كاملاً، فلو وجد نقص فيه فأهمّ هدف للفرد هو رفع النقص هذا.
ومع العلم بوجود مئات الأشكال الناقصة في كلّ فرد، فينبغي على الإنسان مراعاة الأولوية في رفعها، وتنظيم هذه النواقص وإختيار أشدّها وأكثرها تأثيراً لرفعه وإزالته، ثمّ يتوجّه صوب الأقل فالأقل، فإن لم يستطع الفرد من تحديد الأولويات المذكورة، فانّ مهمّة المعالج الجشتلتي هي إيضاح الغموض والتشويش في هذا الجانب للفرد.
وبهذا يختلف الطبيب الجشتلتي عن مثيله في مدرسة التحليل النفسي الذي يتوغّل في عالم اللاشعور للبحث عن الغرائز المكبوتة.
بينما يسعى الجشتلتي إلى الكشف عن الظاهر والحال من الوعي، لأنّ كلّ المشكلات تنبع من هذا البعد في شخصيّة الفرد، فالكشف عن الحال الحاضر وإراءته للمريض هو الذي يتيح له الفرصة في تفهّم النواقص والسعي في ردمها.
ونلاحظ في الجشتلت العلاجي التأكيد على مقولتين هما: «الحال» و «الكيفية».
أمّا مفهوم «الحال» فملفت للنظر مع عمق فلسفي، لأنّه لا يمكن الكشف عن شيء إلاّإذا كان موجوداً في الحال، في حين إنّنا بمجرّد أن نسعى لدراسته والإتّصال به يصبح ماضياً.
وأمّا مفهوم «الكيفيّة» فهي أنّ الإنسان في الثقافات السالفة كان يهتمّ بـ«لماذا» أي يبحث عن الأسباب والعلل، لأنّه يعتقد أنّ الكشف عن العلل يمكنه تغييرها، وبالتالي تغيير المعلول، ولكنّنا في عصر الذرّة والألكترون لا نحتاج إلى البحث عن السبب، بل عن الكيفيّة، فلا نسأل «لماذا» بل «كيف». فنحن ندرس الهيئة الكليّة، وبعد إطلاعنا ومعرفتنا بها نسعى إلى تغييرها.
الهيئة المثاليّة المحبّبة لدى مدرسة الجشتلت هي شخصيتنا الطبيعية في الحياة، ولكن الأغلب يبني شخصيته على أساس من العناوين الوهميّة، وعلى مفاهيم مزيّفة تتعلّق بإصلاح الذات ومحاولة تهذيب النفس والترقّي لإحراز مكانه متميّزة في المجتمع.
المريض في منظور الجشتلت ليس هو الذي عاش مشكلة في الزمان الماضي، بل هو الفرد الذي يعاني في هذا الحال، وفي هذا المكان من مشكلة، فبالرغم من أنّ المشاكل الفعليّة لها جذور في الماضي، إلاّ أنّ هذه المشكلات ترتبط بسلوكه الفعلي في الحال الحاضر، فهذا الفرد غير قادر على التوافق مع مشكلته في هذا الحال وهذا المكان (الآن، وهنا).

9 ـ مباديء العلاج النفسي:
العلاج النفسي لدى الجشتلت يقوم على مباديء مسبقة لابدّ من أخذها بنظر الإعتبار:
أ ـ الأخذ بالكلّ: في الحقل النفساني، أي الاتّحاد بين النفس الإنسانيّة للشخص مع ما يحيط بها من أشياء، فلا تدرك هذه كأشياء مستقلّة عن نفس الإنسان.
ب ـ اتّحاد المحتوى الداخلي: فأحد الاُمور المشهودة في حقيقة الإنسان هو أنّه يمثّل وحدة بسيطة لا تتجزّأ خلافاً للسائد في الأوساط الفلسفيّة والعلم نفسية من القول بفصل النفس عن البدن، أو الذهن عن الجسد بالرغم من الكشوفات العلميّة التي تؤكّد تأثير كلّ منهما في الآخر تأثيراً مباشراً.
ج ـ التعادل الحياتي: أو الحيوي، ويراد به أنّ حياة الإنسان بما فيها من نشاطات وسلوكيات مختلفة تخضع لمقولة واحدة، وهي «التعادل الحياتي» كما يسمّيه علماء الجشتلت، وذلك أنّ الإنسان يسعى إلى المحافظة دائماً على تعادله في الأوضاع والظروف المختلفة، وفي نفس الوقت يقوم بإشباع حاجاته الفسيولوجية، لانّ الحاجات كثيرة جدّاً ومتنوعة، وكلّ حاجة تبعث على الإخلال بتعادل الفرد، ولذا نجد أنّ مقولة «التعادل الحياتي» تجري باستمرار في حياة الفرد. وهذه من خصوصيات الحياة أن يعيش الإنسان بين الخلل والتعادل، فلو استحال على الفرد إيجاد التعادل لرسوخ الخلل والنقص، فهو حينئذ مريض نفسي حيث لا يمكنه إشباع حاجاته الأساسيّة.
وقد تقدّم أنّ إيجاد هذا التعادل في الإنسان يقوم على أساس التفاعل الإيجابي مع المحيط، وتطبيق المحتوى الداخلي مع متطلّبات الخارج، أي الوسط والحقل النفساني.
د ـ حدود الإتّصال: لا يمكن لأي فرد أن يعيش مستقلاً عن الغير، فالفرد دائماً جزء من الميدان النفسي الخاص به، وسلوكه تابع للكلّ الذي يشمل الفرد نفسه مع المحيط الخاص به، والذي يعين كيفيّة سلوك الفرد هو شكل وماهيّة إرتباط الفرد مع المحيط، فان كان هذا الإرتباط إيجابياً ومتقابلاً ومتفاعلاً من كلا الجانبين كان سلوك الإنسان سويّاً، وإلاّ فلا.
وفقاً لنظريّة «برلز» أحد أقطاب الجشتلت أنّ بقاء الإنسان يرتبط بالآخرين تماماً، وإذا كان بقاؤه البدني وإشباع حاجاته الجسديّة متوقّف على وجود الآخرين، وإحتمال بقائه حيّاً بصورة منفردة قليل جدّاً، فكذلك الحال بالنسبة إلى بقائه النفسي والعاطفي، بل أنّ احتمال بقائه نفسيّاً وعاطفياً بدون الآخرين أقلّ من السابق. فكما أنّ الإنسان يحتاج الآخرين في مأكله وملبسه ومسكنه، فكذلك يحتاج إليهم في اتّصاله النفسي ورشده العاطفي، لأنّ الإنسان موجود فردي وإجتماعي، وجميع الاضطرابات النفسيّة ناشئة من عدم قدرة الفرد على إيجاد تعادل نفسي بينه وبين الآخرين.
الشخص العصابي (المريض نفسيّاً) هو الذي لا يعرف حدود الإتّصال بينه وبين العالم الخارجي إنّه يحاول الدفاع عن نفسه وعن وجوده دائماً مقابل تهديد بالإفناء والمحقّ من قبل عالم لا يعرف الرحمة.

 تقييم ومناقشة
لا شكّ أنّ الفلسفة لها تأثير كبير على نمط التفكير لدى أصحاب هذه المدرسة الشكلانيّة، وخاصة الفلاسفة الألمان أمثال كانت وهوسرل وآخرين، وبذلك نلاحظ عودة إلى الجذور والأصالة بعد إفراط شديد وجنوح إلى الحيونة وطرد كلّ ما يتعلّق بالعواطف البشريّة وحذف كلّ ما يتصل بالروح والعالم غير المادي وخاصة في السلوكيّة.
وتعتبر هذه النقطة من امتيازات هذه المدرسة ولذا لم تجد قبولاً واسعاً في انجلترا وامريكا بعد نفوذ واستحكام السلوكية في أوساطهما العلميّة، وكانت إشكالات وردود علمائهم ومفكّريهم على مدرسة الجشتلت تنصب في الغالب على هذه النقطة وتفريعاتها.
فمن ذلك أنّهم ولتمحضّهم في التفكير المادي لم يتعقلوا وحدة الشخص مع محيطه المادّي لأنّ ذلك قد يستتبع القول بأنّ الإدراك عنصر غير مادي وإنّ النفس الإنسانيّة تتسع في عالمها لتستوعب الوسط الخارجي أيضاً، وأساساً فانّ مقولة الحقل أو الميدان النفساني وأنّ الواقع يختلف باختلاف الأفراد، أي أنّ الإنسان لا يدرك الأشياء الواقعيّة بما هي هي، وبما هي موجودة في الخارج، بل يدركها بما هي متعلّقة بنفسه وكيفيّة إدراكه وأهدافه وطموحاته، كلّ هذه المفاهيم موافقة تماماً للتفكير العرفاني الإسلامي، يقول العارف الإلهي «صدر المتألّهين» في كتابه «الشواهد الربوبيّة»:
«حكمة مشرقيّة: كلّما يراه الإنسان في هذا العالم أو بعد إرتحاله إلى الآخرة فإنّما يراه في ذاته وفي عالمه ولا يرى شيئاً خارجاً عن ذاته، وعالمه أيضاً في ذاته»( ).
فعلى هذا لا مجال لإيرادات من هذا القبيل سوى صعوبة تعقّل مثل هذه المعاني المخالفة للظواهر الحسيّة، وقد يتوهم البعض أنّ هذا المعنى يؤدّي إلى الإعتقاد بالنسبيّة المطلقة فلا توجد حقيقة ثابتة حينئذ في منظومتنا المعرفيّة، وبالتالي يسوقنا نحو وادي المثاليّة.
إلاّ أنّ هذا التوهّم لا أساس له، لأنّ النسبيّة المطلقة لا تعتقد بوجود عالم خارجي سوى ما يدرِك وما يدرَك وما وراء عالم الإدراك فلا شيء، أي أنّها تضع المعيار للحقائق في إطار إدراك الفرد للموضوعات، أمّا الشكلانيّة الجشتلت فترى وجود عالم مستقل عن الإنسان، غاية الأمر أنّ الواقع على قسمين: واقع خارجي ليس لنا طريق لإدراكه بنفسه وكما هو موجود، وواقع مرتبط بنفس الإنسان، وهذا الثاني هو الذي يتفاعل الفرد معه دائماً، وهو الذي يشكّل مع المحتوى الداخلي وحدة حقيقيّة وكلّ مستقل.
ومن امتيازات ومحاسن هذه المدرسة أنّها أعطت بعداً جديداً لدراسة الإنسان بتأكيدها على الكلّ، لأنّنا نلاحظ في حالاتنا النفسيّة عندما نأكل قطعة من الحلوى، أو نتعرّض إلى وخزة دبوس، فانّ كلّ الشخصيّة تلتذّ أو تتألّم لا فقط العضو الحاس، وهكذا في تفاعلاتنا مع المحيط، فعندما يسقط إبني على الأرض، أو يصيبه مكروه أو مسرّة فإنّني أشعر بتلاحم وثيق ووحدة تامة وكأنّ المكروه أصابني، فأتألم وأفرح تبعاً لألمه وفرحه، بل أنّهما شيء واحد في ميداني النفسي الخاص.
وببيان آخر: إنّ المدارس الاُخرى «الذرانيّة» ترى تعدّد الإدراكات على موضوع واحد، فالعين تدرك من قطعة الحلوى شيئاً واللسان شيئاً آخر، واللامسة، والشامّة ... وهكذا، أمّا الجشتلتية فترى على العكس من ذلك، وأنّ هناك شيئاً آخر لا تدركه هذه الحواس كلاً على حدة، وهو «الكلّية» التي هي أكبر من هذه الجزئيات. وله معنىً في عالم النفس يغاير هذه المحسوسات الجزئية، وكذا الكلام في شخصيّة الفرد، فهي ليست مجموعة صفات وأفعال وتصورات وعقائد، بل على العكس، أنّها وحدة منظّمة ومغايرة لكلّ واحدة من المحتويات ولها الأولويّة في التعامل معها ودراستها.
وكذلك لو أخذنا مثال إنفعال الغضب في الإنسان، ففي تحليله إلى عناصره الأوّليّة لا نجد سوى زيادة ضربان القلب، سرعة التنفس، إحمرار الوجه، حركات عشوائية، تقطيب الملامح، زيادة نسبة الهرمون في الدم و... وكلّ هذه لا تعطي معنى الغضب، فلا نصل في النهاية إلى فهم صائب لهذا الإنفعال إلاّ إذا أخذناه كوحدة كلّية.
ثمّ أنّ نظريات الجشتلت وخاصةً فيما يتعلّق بالتعلّم وبعض مناهج وأساليب العلاج النفسي لعبت دوراً هاماً في تطوير وإخصاب علم النفس، بل ألهمت الفلاسفة وعلماء النفس في المدارس الاُخرى وزادت في تراثهم المعرفي وخاصةً في الفلسفة الوجوديّة ومدرستها في علم النفس كما سوى نرى.
ومن مجلوبات هذه المدرسة أنّها أعادت اعتبار الوعي والسلوك الهادف للفرد بعد أن لاقى جفاءاً كبيراً من السلوكيّة ومدرسة التحليل النفسي، وأعطت للمحيط الإجتماعي دوره الفاعل في صياغة الشخصيّة كعنصر حي وجزء لا يتجزّأ من شخصيّة الفرد، أي أنّها وسّعت من دائرة الشعور بالذات الفرديّة لتستوعب المحيط الإجتماعي أيضاً دون الإقتصار على البدن المادي ومحسوساته الذاتية.
امّا سلبيّات ونقائص هذه المدرسة فلابدّ من مناقشتها على المستوى الفلسفي تارةً، وعلى المستوى النفساني ونظرياتها في هذا المجال تارةً اُخرى.
أمّا على المستوى الفلسفي فلا ينبغي الإلتفات إلى ما قيل ضدّها من اقتباسها هذه الأفكار من مقولات لفلاسفة المان أو من غيرهم، فجميع الاُطروحات الحضارية الجيّدة لابدّ لها أن تستفيد من التراث الفكري للبشريّة، ولا معنى لأن تدير ظهرها لجميع النتاج البشري في عالم المعرفة، ولكن الأولى أن يقال: إنّ الإفراط في اتّخاذ منهج معيّن ومحاولة تفسير جميع الظواهر النفسيّة والإدراكيّة من منظور واحد قد أضرّ بجميع المدارس النفسيّة والفلسفيّة التي سلكت هذا السبيل، والشكلانيّة اُصيبت بنفس المعضلة ممّا جعلها تخسر مجلوبات هامّة وتهمش جوانب حيّة في شخصيّة الفرد من قبيل نبذ جانب اللاشعور، وتحديد جانب التعليم والتعلّم بالإستبصار الكهلري، والتغافل عن مسألة الوراثة وتأثيرها في صياغة سمات الشخص المزاجية وغير ذلك. وقد رأينا أنّ كلّ مدرسة حاولت إستيعاب جميع المواضيع في حقل النفس وإخضاعها لتفسيرها ورؤيتها الخاصة بها، ودراستها من الزاوية الموضوعة سلفاً لها، كما في نظريات التحليل النفسي وخاصةً التفسير الجنسي الفرويدي للسلوك البشري، أو مقولة التعلّم الشرطي لبافلوف حيث استندت إليه السلوكيّة في تفسير جميع المظاهر السلوكيّة.
وهذا هو السبب الذي حدا بعلماء النفس المتأخرين إلى عدم الإقتصار في منظومتهم المعرفيّة على مدرسة خاصّة، بل محاولة الإستفادة من جميع المدارس النفسيّة والأخذ بالجوانب الإيجابيّة منها وطرح النواقص وإفرازات الإفراط المنهجي.
ثمّة ملاحظة اُخرى في هذا المورد أيضاً، وهي أنّ الجشتلتية، أكّدت دائماً على أخذ الشخصيّة ككلّ لا يتجزّأ، فهلاّ أدخلت في نظرتها الشموليّة البعد الغيبي في الإنسان ورغبته في العبادة وتقديس الكمال وخاصة في دراساتها العلاجيّة؟
ومن المفيد أن نستعرض بعض المقولات الأساسيّة لهذه المدرسة:
فبالنسبة إلى المحيط فما تقدّم من نظريّة الجشتلت في تقسيمه إلى وجود وواقع فهو وان كان على الإجمال مقبولاً ومعقولاً كما تقدّم آنفاً، إلاّ أنّه ليس من الصحيح أنّ المحيط النفساني يشكّل إطاراً مغلقاً حول الشخص وحائلاً بينه وبين الوجود الخارجي الموضوعي، فلا يدخل شيء من الخارج إلى هذا المحيط إلاّ بعد أن يصطبغ بألوان الأهداف والغايات ودوافع الشخص، فلا يمكن للإنسان أن يتّصل بالخارج إلى من خلال هذا الإطار، فهذا الطرح لا يخلو من إفراط، وقد ثبت في الفلسفة الإسلاميّة إمكانيّة ذلك، فنحن نستطيع إستلام المعارف والتصوّرات الخارجيّة كما هي سواء كانت موافقة للمحيط النفساني أم مخالفة، أي أنّ ما يذكره الجشتلتيون من كليّة هذا القانون والمفهوم من المحيط النفساني لا يؤيده النظر الفلسفي الدقيق.
بالنسبة إلى الإدراك وانّه مقولة إنتخابيّة ويرتبط دائماً بأهداف الشخص كما ترى ذلك مدرسة الشكل لا يخلو من إشكال، فالعالم الفيزياوي عندما يخرج بنتائج من تجاربه على الموضوعات الطبيعيّة لا يلزم أن تكون هذه النتائج موافقة لأهدافه كما هو الحال في عمليّة التجارب النفسيّة بوسيلة الاستبطان حيث يقرّر المشاهِد للتجربة ما يرغب أن تكون النتيجة، ولذا كان منهج الإستبطان غير موثوق النتائج بالقياس إلى التجارب في العلوم الطبيعيّة.
أمّا عن الدافع الأصل في نظريّة الجشتلت والذي هو عبارة عن وجود الخلل والارباك في صياغة التعادل في الحقل النفساني، فالظاهر أنّه تعريف لملازمات الدوافع النفسيّة، فإنّها تنفصل عادةً من إيجاد التوتر وعدم التعادل لا أنّها هي في الحقيقة، أمّا تقسيم الدوافع في فضاء الميدان النفسي إلى داخليّة وخارجيّة، أي إنّ بعضها ناشيء من حاجات فيزيولوجيّة، والبعض الآخر ناشيء من المحيط، وبينهما نوع من التناغم والإنسجام، وكلّ دافع داخلي كالعطش لابدّ أن يكون له موضوعاً خارجيّاً كالماء، وبالعكس، فكلام في منتهى الصواب، وهو ما أكّد عليه علماء الإسلام بالنسبة إلى الدوافع الفطريّة للعبادة وأنّها أحد الأدلّة على وجود الله تعالى والحياة الاُخرى، إلاّ أنّ هذه الدوافع المتعاليّة لا نجد لها أثراً في تحقيقات هذه المدرسة، ولا يمكن القول بأنّ هذه الدوافع لها منشأ فيزيولوجي وانّها حاجات بدنيّة ليس إلاّ، ولا هي وليدة المحيط خاصة في مثل حبّ الكمال والجمال وعبادة الله في مجتمع فارغ من هذه الظواهر.
كيفيّة العلاقة بين الذهن والبدن في نظر الجشتلت ـ الذهن يراد به النفس ـ فالأصل الأوّلي لدى علماء الجشتلت أنّ الإدراك الذهني مادّي، والنفس غير الماديّة في الإصطلاح الشرقي وفي الفكر الإسلامي بالخصوص لا وجود لها سوى في هذا الإدراك الذهني المادّي، ومن ثمّ تقول نظريّة الجشتلت أنّ فعاليّة الذهن عبارة عن مجموعة النشاطات التي تصرف من الطاقة الفيزياوية مقداراً أقلّ من الفعاليّات البدنيّة، وكلّ من النشاط الذهني والبدني يشكّلان في الحقيقة كلاًّ واحداً على أساس تبديل النشاط الفيزياوي البدني إلى نشاط نفسي وذهني وبالعكس.
هذا الكلام لا يثبت في ميزان التحقيق العلمي، لأنّ الظاهر أنّ نظرية الجشتلت استهدفت من هذا الكلام توضيح إشكاليّة العلاقة بين النفس والبدن التي قال ديكارت بالتباين فيما بينهما، وأهملتها المدرسة السلوكيّة، وربطتهما مدرسة التحليل النفسي بعنصر اللاشعور، فلا مفرّ من القول بماديّة النفس والإدراك الذهني إذا أردنا ترسيم علاقة بين النفس والبدن، ولكن هذا الحلّ قد أثبت الفلاسفة المسلمون وقبلهم أرسطو بطلانه، وأنّ النفس والإدراك الذهني غير مادّيين، غاية الأمر كانت هناك صعوبة في تصوير العلاقة بين البدن المادّي والإدراك الذهني أو العقل غير المادّي حذراً من الوقوع في التباين والعداوة بينهما كما في مذهب إفلاطون وديكارت، غير أنّ الفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألهين حلّ هذه المسألة العويصة في نظريته في «الحركة الجوهرية» دون اللجوء إلى القول بماديّة النفس أو العقل وأيّدها بالأدلّة الفلسفيّة المحكمة، وأصبحت مورد القبول لدى جلّ الفلاسفة المسلمين المتأخّرين أمثال الطباطبائي والشهيد الصدر والمطهّري وغيرهم، وتقوم هذه الفكرة على أساس أنّ الإنسان في مسيرته التكامليّة يبدأ من المادّة، ثمّ يتكامل تدريجيّاً في واقعه وجوهره النفساني إلى مراتب عاليّة من التجرّد، وكلّ مرتبة لها آثارها بعد خروجها من القوّة إلى الفعل، فهذا الفعل والإنفعال والتحوّل في عين انّه مجرّد وغير مادي إلاّ أنّه غير منفصل عن المادّة، ولذا كانت آثار النفس غير ماديّة تارةً، وهي النشاطات المرتبطة ببعد الإنسان الروحي والمعنوي، واُخرى ذات خصائص ماديّة فيما يتعلّق ببعده البدني، وتفصيل هذا الكلام لا يسعه هذا الموجز.
وكيف كان، فالقول بماديّة الإدراك الذهني وبتبعه ماديّة العقل والنفس أوّل الكلام.
ثمّ إنّ عملية التبديل وتحوّل النشاط البدني إلى ذهني وبالعكس لا يخلو بدوره من أشكال، فانّ عنوان التبديل يستبطن زوال العنوان الأوّلي للنشاط لدى تحوّله إلى العنوان الثاني كما في تبدّل الماء إلى بخار أو ثلج، أو تبدّل الخلّ إلى خمر، فالموضوع في الأوّل ينعدم بعد تحوّله إلى الموضوع الثاني، بينما لا نجد هذا المعنى في تبدّل الفكرة والإدراك الذهني إلى عمل بدني، فالذهن يبقى مختزناً للفكرة والنظريّة حتّى بعد إنزالها وتطبيقها على أرض الواقع كالمهندس الذي يترجم اُطروحته الهندسيّة إلى واقع عملي من بناية أو سدّ أو جسر، فبعد إنجاز العمل لا تزول الفكرة الذهنيّة لهذه الأطروحة، وكذا العكس أيضاً فالنشاطات الفيزيائية البدنيّة لا تتحوّل في مثال الجندي إلى نشاطات ذهنيّة في حال رجوعه من جبهات القتال، ولا ضرورة لهذه المقولة، لأنّ الجندي وكثير من حالات النشاط البدني الحادّ يصحبه جهد عقلي مماثل في الوقت نفسه، فهو يقاتل بجسده وعقله ينشط في إيجاد الوسائل الكفيلة لإحراز النصر، وتوقّي الخطر، والمثال الأفضل ما نلحظه في مسابقات كرة القدم، فهل يصحّ القول إنّ الجهد العضلي لهؤلاء المتسابقين لا يقترن مع جهد عقلي كبير؟
نعم، قد تصحّ هذه المقولة في كثير من الحالات، لأنّ الإنسان في حالات العمل البدني المرهق لا يسعه في آن واحد الإستغراق في التفكير والتأمّل، وكذلك إذا كان غارقاً في تفكير فلسفي عميق يكون الذهن بحاجة ماسّة إلى الهدوء والتقليل من النشاط الفيزيائي للبدن ليساعده ذلك في عملية التركيز الفكري، إلاّ أنّ هذا المعنى لا يمكن قبوله كقانون عام لسلوك الإنسان، ولا يكون دليلاً على تبديل النشاط الفيزياوي إلى نشاط ذهني وبالعكس.
المرض والعلاج في هذه النظريّة بحاجة إلى توقّف وتأمّل أيضاً، فقد استبدلت هذه المدرسة عنصر اللاشعور في مدرسة تحليل العوامل كمحور للسلوك الشاذّ بعنصر آخر وهو الظاهر أو الوعي الحالي، وقد تقدّم أنّ الإفراط في نظريّة معيّنة يستوجب خسارة جوانب إيجابيّة في نظريات اُخرى، فلا شكّ في تأثير اللاشعور والعقد النفسيّة كعقدة الحقارة والتجارب في الطفولة على مجمل السلوك العام للفرد، كما لا إشكال في دخالة العوامل الوراثيّة في ذلك، فان كان المراد من الظاهر هو ما يعمّ كلّ هذه الاُمور فهو طرح لفظي وتلاعب بالعبارات لا أكثر، وإلاّ فليس من اليسير إنكار كلّ هذه العوامل والإهتمام بالحال فقط.
وتقدّم أنّ معيار السلامة لدى الشكلانيّة هو تطابق القسم الداخلي مع الخارجي في دائرة الميدان النفسي بحيث يكون الذهن والمحتوى الداخلي للفرد إنعكاساً رقيقاً عن عالمه الخارجي، وحينئذ يكون الإنسان واقعيّاً وينعم بحياة طيّبة وسالمة. ولكنّنا نتساءل فيما لو كان المحيط الخارجي مترديّاً من الناحية الأخلاقية، أو متوغّلاً في عقائد خرافيّة كعبادة الأوثان والعنصريات القوميّة وكان عقل الفرد يرى بوضوح بطلان وسخافة هذه الأفكار والأعمال، فهل من الضروري التنكّر للعقل والوجدان والإنخراط مع العرف السائد لنيل الحياة الطيّبة؟ وهل ستكون حياته طيّبة واقعاً؟
نعم، في صورة واحدة يكون هذا الفرض معقولاً، وهو أن نقوم بضمّ العالم الاُخروي والبعد الإلهي والغيبي إلى محيط الإنسان الخارجي ولا نقتصر على المحيط المادي الدنيوي، فحينئذ تصحّ مقولة ضرورة التطابق الداخل والخارج، أي تطابق الذات مع متطلّبات الإيمان بالله واليوم الآخر فيسعى الفرد في هذا الاتجاه لنيل الحياة الطيّبة في حياته الدنيويّة هذه، ولكن أنّى لرجال الجشتلت الإعتراف بالواقع الاُخروي أو متطلّبات البعد الروحي للإنسان؟
ثمّ لو أنّنا اقتصرنا على هذه الدنيا في الأطروحة العلاجيّة، وبذلنا جهدنا لإيجاد المصالحة والإنسجام التامّ بين المحتوى الداخلي للفرد وعالمه الخارجي، فهل أنّ آمال الإنسان وطموحاته تقنع بما يجده في محيطه النفسي من موضوعات لإشباع حاجاته النفسيّة؟
من الواضح أنّ الإنسان في كثير من الحالات لا يتسنّى له إشباع كلّ رغباته وتحقيق جميع ملذّاته الدنيويّة، بل ولا الأغلب منها، فتبقى الكثير من الحاجات النفسيّة من قبيل نيل الثروات وحيازة المناصب الإجتماعية والسياسيّة والإنتقام من بعض الناس وغيرها لا تجد طريقاً إلى التحقّق في أرض الواقع، ولا يجد الإنسان في نفسه القدرة على تهميشها ونبذها، فيبقى التعارض والتباين على حاله، أو نقول بأنّ الأكثرية القاطبة من الناس مرضى حسب تعريف الجشتلت للمرض والسلامة.
بينما لو اعترفنا بحقيقة البعد الروحي والعالم الاُخروي أمكن إيجاد الإنسجام بصورة واقعيّة بين الداخل والخارج، فيغضّ الفرد النظر عن كثير من المحروميات الماديّة طمعاً في الكمالات واللذائذ الاُخرويّة، أي إنّه يتنازل عن تلك الرغبات الدنيوية ويوافق نفسه مع المحيط ويرضا بالقضاء الإلهي طمعاً في التعويض الاُخروي، وإلاّ فسنواجه مشكلة التعارض المذكور بين طموحات الإنسان الكبيرة وآماله العريضة وبين الواقع الضيّق والمحدود.
وهناك أيضاً بعض الردود والإشكالات التي ذكرها علماء النفس الغربيون من المدارس الاُخرى من قبيل وجود نقص في تعريف المفاهيم وغموض في تصوير النظريّة بشكل عام وتعدّد التصويرات والمعاني للنظرية وإختلاف فهمها لدى علماء الجشتلت أنفسهم، ثمّ أنّ مقولة الكلّ والشكل الجيّد لا تستوعب كافة مرافق الحياة ومظاهر السلوك كما تدعى ذلك الجشتلتية، فأحياناً نجد أنفسنا بحاجة في البحث العلمي إلى التفكيك والبحث عن العناصر والعوامل الأوّليّة، فلا معنى لتشدّد في رفض الذرانيّة أو التحليل إلى العناصر.
وقد اُخذ عليها أيضاً أنّها لم تهتمّ بدور التجربة على جميع الصعد وخاصّةً في مقولاتها الفلسفية.
وأخذ عليها أيضاً أنّها مدرسة آحاديّة التفسير تؤكّد في تفسيرها للسلوك على العامل الواحد كما سبق أن رأينا ذلك في المذهب الفرويدي، بينما تكشّف لعلماء النفس خطأ هذا التصوّر، ولذا تميل المدارس الجديدة، بل علم النفس بصورة عامّة إلى الأخذ بمقولة تعدّد العوامل للسلوك من قبيل العوامل الوراثيّة والتربوية والفسيولوجيّة ونمط التغذية والثقافة وغير ذلك.
ثمّ إنّ الشكلانية ترفض بجديّة تقسيم للإنسان إلى جسد وروح، وتأبى الإذعان لكلّ ما يتّصل بعالم غير مادّي وما ورائي، في حين أنّ رؤيتها للجشتلت في الإنسان وما يتّصل به من حقل نفساني خارج بدن الإنسان يذكرّنا بمقولة الفلاسفة والعرفاء عن الروح في الإنسان المحيط ببدنه ..
* * *



#أحمد_القبانجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المجتمع المدني مجتمع تحت سلطة القانون
- القرآن والتحدي بمجموع الآيات
- التفسير السيكولوجي لظاهرة الايمان بالله
- منهج العقل الديني في التعامل مع المعارف والمطالب الدينية
- التفسير السسيولوجي لظاهرة الايمان بالله
- التجربة الدينية للنبي
- هل الدين معيار للعدالة أو العدالة معيار للدين؟
- القراءة السطحية للنصوص
- -لا للديمقراطية- هو الشعار الحقيقي للإسلام السياسي
- صورة الله عند الفلاسفة
- من انجازات النبي ... توحيد القبائل والشعوب
- المنهج الجديد في تفسير النص
- اسطورة الفيل وحرب أبرهة الحبشي
- العلاقة المتبادلة بين الدين والأخلاق
- من انجازات النبي ... تشكيل الدولة
- مساهمات الفلاسفة في نشوء علم النفس
- حقوق الانسان من منظور اسلامي
- ابراهيم الخليل وإشكالية ذبح الابن
- الوعد الالهي بالارض المقدسة
- نقد الاعجاز البلاغي في القرآن


المزيد.....




- بآلاف الدولارات.. شاهد لصوصًا يقتحمون متجرًا ويسرقون دراجات ...
- الكشف عن صورة معدلة للملكة البريطانية الراحلة مع أحفادها.. م ...
- -أكسيوس-: أطراف مفاوضات هدنة غزة عرضوا بعض التنازلات
- عاصفة رعدية قوية تضرب محافظة المثنى في العراق (فيديو)
- هل للعلكة الخالية من السكر فوائد؟
- لحظات مرعبة.. تمساح يقبض بفكيه على خبير زواحف في جنوب إفريقي ...
- اشتيه: لا نقبل أي وجود أجنبي على أرض غزة
- ماسك يكشف عن مخدّر يتعاطاه لـ-تعزيز الصحة العقلية والتخلص من ...
- Lenovo تطلق حاسبا مميزا للمصممين ومحبي الألعاب الإلكترونية
- -غلوبال تايمز-: تهنئة شي لبوتين تؤكد ثقة الصين بروسيا ونهجها ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد القبانجي - مدرسة الجشتلت ... علم نفس الشكل