أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود عبد الغفار غيضان - مِن نسْلِ غيضان الحكيم















المزيد.....

مِن نسْلِ غيضان الحكيم


محمود عبد الغفار غيضان

الحوار المتمدن-العدد: 3939 - 2012 / 12 / 12 - 19:50
المحور: الادب والفن
    


مِن نسْلِ غيضان الحكيم

صوته كان مختلفًا عن كل أصوات أعمامي، وكل أعمامي كانوا مختلفين عن بقية الناس! لا أدري أهو تعصبٌ لهم أم أنها الحقيقة؟ لم تكن فيهم تلك الخشونة والقسوة التي كان الرجل الريفي يتباهى بها عادة. لم يكن أيُّ منهم يحب إثارة المشاكل أو التفاخر بالعائلة كبيرة العدد والعتاد أمام الآخرين. لم أستيقظ من النوم قط على هرولة أحدهم ممسكًا بتلابيب الآخر أو حاملا هراوة أو بندقية ليهدده أو يهمَّ بقتله كما شاهدت بين الحين والآخر هناك. كلهم تزوجوا من العائلات الصغيرة في قريتنا، ربما إيثارًا للمشاكل التي يسببها الزواج من الأقارب، وربما لأنهم تعلموا معنى الاختيار، فتزوجوا مَن أحبًّوا، ليس عندي تفسير واضح لهذا الأمر حتى الآن. حملوا وجه أبيهم وسُمرة بشرته ونبرات صوته بنسب متفاوته، وعاشوا بقلب أمهم طيلة حياتهم. كان اسمها "دهب"، لم أشاهدها أبدًا، لكني عرفتُ مما سمعته عنها أنها كانت من معدن خاص، وأن باب بيتها كان مفتوحًا بالخير للجميع.
كنتُ بالجامعة، ورجع عمي الأصغر من العراق بعد سفرة متعبة وعودة حزينة تجرر حولاتٍ صفراء يتجرع الأولاد مرارة صرفها من البنك بعد وفاة الأب. تنزل الحقائب من فوق سيارة البيجو التي أحضرته من المطار، يتسارع الكل إلى الشارع مرددين اسمه "عمي عبد الفتاح جه.. عمي توحه جه.." قبلات وأحضان وزغاريد ولا يدهشك أبدًا لو كنتَ من أهل الريف أن ترى مئات الناس أمام بيتك في طرفة عين. رغم كل هذا الزحام الشديد سأل عني، وكنتُ في غرفتي أعد حقيبة السفر للقاهرة. ترك كل شيء وجاء إلى حجرتي، أخذني بين ذراعيه وقبلني عدة مرات. أقسم بالله أنه لم يغير أي نقود وأنَّ هذا المبلغ البسيط جدًّا بالمصري هو كل ما معه. وضعه في جيب قميصي ودعى لي بالتوفيق والنجاح مشددًا على أنه بانتظار ابن أخيه دكتور الجامعة. ما زلت على أية حال أعتقد- مع الإيمان بقضاء الله وقدره- أنهم ماتوا صغارًا وبتتابع لم أر ولم أقرأ عن مثله في أي كتاب من كُتب الحياة التي شاهدتُ منها قدرًا غير قليل.
أعود مِن جديد إلى صوت عمي الأكبر الذي كان فيه قوة وخشونة تتبدد تلقائيًّا بمرور طفل من العائلة أمامه. يسأل الجالسين حوله: "ابن مين الولا ده؟ - (هامش تفسيري: هكذا ينطق البورسعيدية كلمة "واد" في قريتي.)- ما شاء الله كبر قوي كده؟". كان يسكن في مدينة بعيدة، ويحرص على زيارتنا في الأعياد والمناسبات الخاصة، وكانت العائلة تُنجب بمعدلات يصعب على مثله أو غيره استيعابها. أبي شخصيًّا كثيرًا ما كان ينُادي إحدى أخواتي باسم أختٍ أخرى.

في ملامحه مهابة تفرض عليك توخي الحذر عند الاقتراب منه، وفي حكاياته طرافة وخفة ظل وإثارة تدفعك دفعًا لتجلس عند أقرب نقطة منه. أحد الجيران في شارع خلفي أكملوا مراسم الزفاف قبل أربعين عمي الذي مات منذ زمن بعيدٍ، فكان عمي الأكبر يكرر كلما تذكر هذه الحادثة: "والله العظيم لازم آجي وأعمل فرح حتى لو طهور عيل من العيال عشان العالم الـــ ... (هامش تفسيري: المعني واضح في هذه الحالة كما أتصور). وزارنا عمي الأكبر عدة مرات وكانت هناك أكثر من فرصة لرد الصاع صاعين لكنه لم يفعل. لهذا قلت إنهم كانوا حقًّا مختلفين. تهديد أحدهم ووعيده لا يحمله دخان السيجارة الملازمة لمثل تلك الحالة لأبعد من مترين أو ثلاثة في الزمن. كان يحكي عن صباه، وكيف أن أحد الخفر وكان يسمى "الصوفي" قد حاول إفساد فرح أحد أعمامي، ومن سوء حظه كان عمي الأكبر قد وصل. ودون نقاش أو سماع تفاصيل، دخل إلى الحلقة التي شكلها الناس حول ما بدا أنه مشكلة، وجذب الصوفي من أبَّة جلبابه (هامش تفسيري: الأبَّة هي طرف فتحة الجلباب البلدي الذي يشبه الرقم سبعة في هيئة مغلقة عادة) ثم نطحه بالرأس فأرداه كالقتيل. علا الصراخ في الحي معلنًا موت الصوفي، بينما طالب عمي الأكبر الجميع باستكمال الفرح. حُمل الصوفي إلى داره، ولم أهتم أبدًا بالسؤال عن تفاصيل ما حدث له بعدها. فقط كنتُ أكتفي بابتسامة خبيثة كلما شاهدت عم "صوفي" بشاربه المتميز جدًّا، شاعرًا بفخر، لم أعرف له سببًا مطلقًا، أنَّ عمي قد طرحه أرضًا في يومٍ من الأيام.
مرت سنوات وسنوات. كبُر عمي وأنهكته الغربة، لكنك إن رأيته في القرية وتحدثت معه، لا تشعر أبدًا أنه يعيش في البندر. ورثنا من عمي وأولاده هذه العادة. نعيش في المدن ونتكلم لغة أهلها، وبمجرد ركوبنا الباص متجهين للقرية يعود اللسان من تلقاء نفسه، بسعادة المستمتع بنزع جبيرة الغربة عن مفاصله المتيبسة، إلى أصله. كانت ابنتي صغيرة نوعًا ما، وسألتني: بابا أنت ليه بتتكلم بالطريقة دي لما بنروح بيت جدو وتيته؟ ضحكتُ وأجبتها بأن أهل الريف يحبون أن يحدثهم أولادهم بلهجهتم وأن يرتدوا ملابسهم ذاتها مهما عاشوا في المدن البعيدة. إنها التحية غير المصطنعة التي تَُشعرهم جميًعا بأن ابنهم الذي خالط أهل البندر لم يتغير ولم يبتعد عنهم. رجع عمي بعج تقاعده مع زوجته الطيبة إلى مدينة صغيرة بالقرب من قريتنا. اشترى بيتًا هناك ولم أسمعه أبدًا يطلب من أبي مكانه في بيت العائلة أو يطلب نقودًا. فبكلمة واحدة بينهما كانا قد اتفقا على أن يعطيه أبي مبلغًا معينًا نظير نصيبه في بيت جدي. وبكل هدوء انتهى الأمر. مثل هذه المواقف في قريتنا كانت تسبب الكوارث الإخوة. لكنها لم تسبب شيئًا من هذا بين أعمامي. تركوا بعضها للنادر جدًّا من الأبناء أو الأحفاد بحكم تغير الكثير من الأشياء في هذا الزمن. كان أبي يعشق أخاه الأكبر "غيضان"- (هامش تفسيري: في كل بيت في قريتنا ستجد شخصًا واحدًا على الأقل يحمل اسم جدنا الأكبر غيضان)- كان يسافر إليه بفرحة طفل ذاهب إلى سوق الأحد بالمدينة المجاورة لشراء ملابس العيد أو بداية العام الدراسي الجديد. لم أستطع أن أجد وصفًا دقيقًا لهذا الحب وهذا الحرص على الائتناس بالأخ البعيد. وربما أحس أبي بضعف قدرتي اللغوية عندما حاولت أن أخفف عنه حزنه بفقد أخيه الأكبر، فقال لي: غيضان ما كانش أخويا بس. غيضان كان أبويا." أدركتُ ساعتها أن أبي كان يهرول ناسيًا كل شيء لأجل أن يشتري مع أبيه- (هامش تفسيري: عفوًا، أخيه الأكبر) ملابس العيد مع أنه كان قد جاوز الخمسين من عمره.

محمود عبد الغفار غيضان
13 ديسمبر 2012م



#محمود_عبد_الغفار_غيضان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إنهم يلعبون -السيجه- في بلد غيضان الحكيم.
- سيجه
- عندما غضب غيضان الحكيم (من حكايات غيضان الحكيم)
- جنازير النهضة (من حكايات غيضان الحكيم)
- عودةُ الضَّخَّاخ ( على هامش: ما أشبه العتبة بالسيدة)
- عودةُ الضَّخَّاخ (على هامش: ما أشبه العتبة بالسيدة)
- حلم -أبو الشِّهيبْ-
- طاقية أبي
- شَالُ جَدِّي
- عالمٌ ثالث
- عالمٌ ثالثٌ مختلف
- عم عليّ رضوان والفرَّاز


المزيد.....




- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود عبد الغفار غيضان - مِن نسْلِ غيضان الحكيم