أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - نقاش حول الدين والثقافة وحرية الاعتقاد















المزيد.....


نقاش حول الدين والثقافة وحرية الاعتقاد


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1139 - 2005 / 3 / 16 - 10:20
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


أقدر للأستاذ اسماعيل أحمد مبادرته إلى التعليق على مقالي "موقع الثقافة في مشروع الإسلاميين السوريين" الذي نشر في جريدة "السفير" البيروتية (وليس "النهار" كما ورد في مقاله) في 22/1/2005 (إسماعيل أحمد: "هذه ثقافتنا يا استاذ ياسين" في موقع أخبار الشرق في 2/2/2005، وكان المقال قد نشر قبل ذلك في موقع الرأي بعنوان: هذه هوية أمتنا التي نستمسك بها، وهذه ثقافتنا). وأحيي إقراره المباشر بانه يرد "كإخواني من شباب هذه الجماعة المباركة".
أعتقد أنه تحدونا معا رغبة في الحوار والتواصل كمواطنين ومهتمين بالشان العام في بلدنا، رغم اختلافنا السياسي والإيديولوجي. ويقيني أن هذه الرغبة ليست فضيلة أخلاقية قد نتحلى بها فقط وإنما هي ضرورة حيوية لبلدنا. فتواصل وتفاهم وتعارف السوريين المختلفين هو المؤشر الأول على نضجهم السياسي وارتفاعهم عن السوية الحضارية والأخلاقية المتدنية للاستبداد الحاكم وضمان لمستقبل بلدهم.
بهذه الروحية سيعلق هذا المقال على ما كتبه الأستاذ أحمد. ومن أجل تنظيم التفكير فإني سأتناول ثلاثة مفاهيم وردت في عنوان مقاله، وتتكثف فيها وجوه الاختلاف بين مقاربتينا: مفاهيم الهوية والثقافة والأمة.

تملك خاص للأمة
ألاحظ في البداية ان العنوان الذي وضعه الأستاذ أحمد (الصيغة التي نشرت في موقع "الرأي": هذه هوية أمتنا التي نستمسك بها، وهذه ثقافتنا) ينطوي على تملك خاص للمفاهيم الثلاث، وتاليا على اقصاء من لا يشاركه فكرته عن الهوية والأمة والثقافة. وهذا في رايي يتعارض مع الشراكة في البلد وفي المواطنة، فلا أحد منا ضيف عند احد ولا أحد ينال حقوقه تنازلا أو تفضلا من أحد؛ كما أنه يطابق منهج السلطة التي نشترك، الأستاذ احمد وانا، في اعتراضنا عليها وفي تحملنا الكثير جراء موقفنا منها. ففلسفتها لا تقول شيئا آخر غير أن "ثقافتنا وهويتنا وأمتنا" هي التي تعبر هي عنها، بل هي وحدها التمثيل الأمين لها ولتاريخنا وخصوصيتنا، إلى درجة ان النظام يستنبط ذاته بالتمام والكمال من ثقافتنا وهويتنا وتراثنا. وهو ما يعني ان مقام الأستاذ احمد في المنفي وسابق مقامي في السجن هما تجليان لهويتنا وثقافتنا وخصوصيتنا الحضارية المهددة حسب النظام البعثي الحاكم.
والواقع أني أجد الأستاذ احمد يستند إلى ما أسميه ثقافة الطوارئ ذاتها التي يحكمنا حزب البعث واجهزته باسمها. لكن طوارئ الإسلاميين ثقافية أولا، بينما هي سياسية وعسكرية أولا عند البعثيين ومجمل القوميين، وأكثر الشيوعيين، فالأمر يتعلق بثقافة سياسية مشتركة راسخة بعض الشيء، وليس بإيديولوجيات ولا بمواقف سياسية متحولة. ورأيي ان موقفنا متهافت حين ندعو إلى إلغاء حالة الطوارئ بينما نستند إلى ثقافة الطوارئ (المرحلة حرجة، والأخطار محدقة، والغزو الثقافي داهم، والعدو على الأبواب، إلخ إلخ). ينبغي ان يكون هذا بديهيا.
إلى ذلك فإن عنوان مقالة الأستاذ أحمد يفيد في إغلاق النقاش لا في فتحه، وفي إقصاء كاتب هذه السطور وأمثاله لا في مشاركتهم والحوار معهم. فهو يقول: هذه ثقافتنا وهذه هوية أمتنا، وليس هذا تصوري أو تصور الإخوان المسلمين عن هويتنا وثقافتنا. ومن المفهوم ضمنا بالتالي أن يكون من يعارض الأستاذ أحمد خارجا على هوية الأمة وثقافتها. ترى ما هو المعادل السياسي لهذا الكلام؟
لا شك لدي أن الأستاذ احمد يريد لي ولمخالفيه الآخرين خيرا. لكن المسألة ليست في النيات الذاتية بل في الإشكاليات الفكرية والسياسية. إشكالية أحمد استئثارية وإقصائية: تستأثر بالحقيقة وتقصى المخالفين. وعند الممارسة تنفجر التناقضات الموضوعية التي كانت تخفيها النيات الذاتية المخلصة. وانفجارها يودي ببشر ملموسين وليس بافكار وآراء مجردة.

هويتنا هي ما نفعل لا ما نرث
في غير موقع من مقاله يتحدث ناقدي عن هوية الأمة، ويقرر أنها ليست "عرضة للمساومة سواء قبلنا بها أو رفضنا برنامج هذا الفصيل أو ذاك". هذا إضفاء للقداسة على "هوية الأمة"، لا أجد له سندا في العقل ولا في التاريخ ولا في الدين. ولسبب ما يعتقد الأستاذ احمد انه اقرب إلى "هوية الأمة" من منقوده. واميل إلى ان السبب في ذلك افتراضه أن هوية الأمة هي دينها (دين أكثرية افرادها في الواقع)، وأن انتماءه إلى حزب سياسي يسعى إلى رسملة الدين والتراث الحضاري الإسلامي والعربي سياسيا يجعل منه أحق بهما من غيره.
لا أوافق على شيء من ذلك. وبالخصوص ان المشروع الذي انتقدت غياب مفهوم الثقافة عنه يقول إن الجماعة التي أصدرته هي جماعة من المسلمين وليست جماعة المسلمين. لا أوافق على ذلك أيضا لأن الإخوان المسلمين في سوريا وغيرها حزب سياسي قبل اي شيء آخر. إن مطابقة سياسة الحزب مع الدين الإسلامي أمر يحق لأي كان ان يجادل فيه، سواء كان من وجهة نظر إسلامية اخرى أو من وجهة نظر التحليل السياسي والاجتماعي.
إلى ذلك فإن الأستاذ أحمد يتحدث عن مفهوم مجرد وخلافي هو الهوية (هذه هويتنا) بطريقة تملكية تناسب المحسوسات والمحسومات. والحال الهوية المحسوسة المحسومة هي هوية شعب منقرض، هوية صمتت وآلت إلى آثار وماديات. أما هوية الشعوب الحية فهي هوية حية وتاريخية. هويتنا ليست معطى ثابتا وفوق تاريخي. هويتنا ليست قدرا لايحول ولا يتبدل. هويتنا ليست ما فعله تاريخنا بنا أو لنا بل ما نفعله بهذا التاريخ وما نفعله في هذا التاريخ. هويتنا ليست ما تركه لنا الأسلاف او صنعوه من أجلنا بل ما نفعله بتركة الإسلاف وما نصنعه بما سبق لهم أن صنعوه. وهي، في كل حال، ليست جوهرا ثابتا متعاليا على الأزمنة، ولا معدنا نقيا يشبه ذاته دوما ولا يختلط بغيره.
وتكون الأنظمة اشد استبداد حين يتم تسييس الهوية على النسق البعثي السوري والعراقي الذي أجزم أن الأستاذ أحمد يعترض عليه سياسيا، لكنه في الواقع يستنسخه فكريا. ذلك أن هوية المجتمعات لا تنفصل عن وجودها التاريخي النثري والتحول الذي نراه ونعيشه. وهذا المفهوم غير قابل للتسييس. فما يسيسه المسيسون هو مفهوم للهوية فصل عن حياة الناس ووجودهم التاريخي، ثم فرض عليهم بوصفه روحهم الحقيقية. يقول الإسلامي إن هذه الروح هي الإسلام، وأن الإسلام هو تأويله هو له. ويقول البعثي إن العروبة هي هذه الروح، وأن العروبة هي ما يفعله هو. غير ان هذا باب للانقسام لا للوحدة، وللاستبداد لا للحرية، وللتمييز بين الناس لا للمساواة. فلا يمكنك تسييس الهوية وإبقاءها عنوانا للوحدة في الوقت نفسه. ولا يسعك أن تجعل من الإسلام حزبا و"أمة" في الوقت ذاته. ولا يمكن لك أن تجعل العروبة سلطة حزبية وهوية وطنية في آن معا.
إذا قرا الأستاذ احمد ثلاثية نجيب محفوظ سيجد وضعا للمراة اشبه بوضع "الأَمَة"، وسيجد أن زوجها (سي السيد) صاحب سلطة مطلقة عليها. هل دونية المرأة وخروجها من بيتها مرتين، مرة نحو دار الزوج ومرة نحو الدار الآخرة، هو هويتنا؟ وإذا قرا رواية "قلب من بنقلان" التي صدرت عام 2004 لسيف الإسلام بن سعود بين عبد العزيز آل سعود سيجد صفحة من تاريخ السعودية كان الرق وتجارة الرق شيئا طبيعيا فيه إلى درجة ان تحريم الرق عام 1956 الذي جاء نتيجة ضغوط دولية اثار امتعاض رجال الدين. هل تجارة الرق أم تحريمه من هويتنا؟ في رايي أن الإسلام كسب ولم يخسر من طي صفحة العبودية والوضع الدوني المطلق للمرأة. واصارحك القول إنه سيكسب وسيزداد رفعة ونقاء مع حظر تعدد الزوجات وتراجع الحجاب بل ومنع الأذان لصلاة الصبح عبر مكبرات الصوت...
وإذا تحولنا من علاقة الهوية بالتاريخ، وقد راينا أنها متحولة وتاريخية هي ذاتها، إلى علاقتها بالمجتمعات الملموسة والحية نتبين انها مركبة واستيعابية ومفتوحة على التهجين والاستعارة والتمثل والعدوى. هل ترتد هوية سوريا اليوم إلى العنصر الإسلامي او العربي الإسلامي فحسب؟ ماذا نفعل بالعناصر غير العربية وغير الإسلامية، وبعضها قبل عربي وقبل إسلامي، وبعضها حديث أو معاصر؟ اي العناصر أكثر مطابقة لهوية سوريا: العنصر البدوي ام المديني ام الفلاحي؟ كان إسلام بلاد الشام مدينيا اساسا، لكن هل يعني أن الإسلام البدوي والفلاحي غير مقبولان؟ وماذا عن الإسلام غير السني: العلوي والاسماعيلي والدرزي؟ عقيديا، كل منها بعيد عن الإسلام السني، لكنها تنتمي جميعا إلى المجال الحضاري الإسلامي الذي تفاعلت فيه مواريث إسلامية ومسيحية ويهودية، ويونانية وهندية وفارسية قديمة.
إن اي مفهوم واحدي للهوية سيفضي حتما إلى مشكلة سياسية متفجرة (فضلا عن الإفقار الثقافي). فإذا كان إسلاميا فسيقصي المسيحيين واليزيديين، واذا كان عربيا سيقصي الأكراد والأرمن والشركس. وما دمنا بصدد الحديث عن سوريا وعن مشاريعنا السياسية والحضارية لمستقبلها فقد يكون علينا أن نبلور مفهوما للهوية الوطنية السورية يستوعب التعدد الإثني والديني والمذهبي، وتكون المساواة وحرية الاعتقاد ركنيه الجوهريين. ومن نافل القول أن استيعاب التعدد غير ممكن على أرضية دينية أو قومية محددة. من نافل القول ايضا ان المساواة دون حرية اعتقاد تكون قناعا للامساواة، وان حرية الاعتقاد الديني وغير الديني تكون مفرغة من المضمون إن لم تكن متكافئة للجميع.

الأمة العقيدية والأمة التعاقدية
يستخدم المشروع والأستاذ اسماعيل أحمد مفهوما غير واضح للأمة. هل هي الأمة السورية أم الأمة العربية أم الأمة الإسلامية؟ وهل هذه هي أمة المسلمين البالغين مليارا وربع ام امة المؤمنين الهداة فحسب؟ وحين نقول ثقافة أمتنا أو هوية امتنا أو ثوابت امتنا هل المقصود أمة تعاقدية أم امة عقيدية؟
كاتب هذه السطور عربي وعروبي، لكنه يعتقد ان مفهوم الأمة السورية مشروع فكريا وسياسيا. فليس غير هذا المفهوم يمكن توحيد السوريين على ارضيته. ويبقى هذا صحيحا حتى لو كان جميع السوريين عربا ومسلمين وسنيين. ذلك ان مقام المواطنة مستقل عن مقام الإيمان دون أن نفتعل خصاما او تعارضا بينهما. وإلى المقام الأول تنتمي مدركات الحزب السياسي والتعاقد والهوية المركبة والديمقراطية والدستور وتداول السلطة. فيما تنتمي إلى المقام الثاني قيم الأخوة والهداية ورفقة الإيمان التي يخبرها الناس في الصلاة او في الحج أو في السجن. وبالطبع قد يشارك المرء في الأمتين، امة المواطنة وامة الإيمان، أو أمة التعاقد وأمة العقيدة، دون أن يعني ذلك ان المقامين متطابقان. فليس ثمة ما يمنع المواطن أن يكون مؤمنا، وليس ثمة ما يحتم على المؤمن أن يرفض المشاركة مع مؤمنين أو غير مؤمنين في شراكة سياسية وحقوقية متساوية، اي في المواطنة.
لعلنا، الأستاذ اسماعيل أحمد (والأستاذ محمد المؤيد الذي انتقد مقالي نفسه من موقع مطابق لموقع الأستاذ احمد في مقال له بعنوان "وللثقافة شجون" في أخبار الشرق، 17/2/2005) وانا شركاء، في امة المواطنة والتعاقد المحتملة، ونحن الآن "شركاء" في افتقارنا للحقوق التعاقدية للمواطنة في بلدنا سوريا. هذا لا يقتضي بحال شراكة إيمان وعقيدة. هل يشرط الأستاذان شراكتنا التعاقدية بشراكة عقيدية؟ هذا سؤال عليهما وعلى الإسلاميين السوريين الإجابة عليه بوضوح تام.
وخلافا لما يخشى الإسلاميون، وخلافا لما قد يامل علمانيون متطرفون لم ينتقدوا علمانيتهم، فإن العقائد الدينية تعيش أبهى ايامها في ظل السياسية التعاقدية والمدنية، أعني السياسة التي ترى في حرية الاعتقاد شرطا لكل اعتقاد. وهو ما يعني ان الأمة العقيدية تكون باحسن حال في ظل الأمة التعاقدية، وأن المطابقة القسرية بين العقد الإيماني مع الله والعقد السياسي بين الناس إساءة للعقد الأول وإفساد للعقد الثاني.
إن الدولة التي تحرس الدين، هي الدولة التعاقدية وليس الدولة الدينية، الدولة التي يتوافق على تنظيماتها أفراد يتمتعون بحرية اعتقاد متكافئة، مع ما يعنيه ذلك من حرية عدم الإيمان. أي باختصار دولة الحرية. بعبارة اخرى لا يحرس الدين غير حرية الاعتقاد أو الحرية الدينية. أما المفهوم الذي يستخدمه المشروع والمأخوذ من الماوردي فلا يبرره التاريخ. الواقع ان الدولة في تاريخنا الإسلامي كانت عبئا على الدين. كان معظم السلاطين والخلفاء فاسدون من وجهة نظر إيمانية. ربما كان بعضهم عظماء كرجال دولة، ربما كان بعضهم محاربون من ارفع طراز، ربما بلغت الحضارة الإسلامية ذروة رفيعة في عهد بعضهم، لكن إيمان المسلم المتوسط أو المسلمة المتوسطة اليوم انقى من إيمانهم واصفى.
إلى ذلك فإن الإسلام اليوم ملاذ من طغيان السلطة وتعسفها. فإذا توحدا كانا سلطة ساحقة ثقيلة الوطأة وخطرا على الحرية والإيمان معا. ثم إن توحدهما يجعل من الخروج من الدين وعليه الشكل الوحيد للاعتراض السياسي. في جمهورية إيران الإسلامية، حيث تتوحد السلطتان الدينية والسياسية كف 75% من الناس عن الصلاة و86% من طلاب الجامعات. وفي سوريا البعثية كم نسبة من يؤمنون بالعقيدة البعثية، وكم نسبة الذين كفروا بالعروبة التي جعلها النظام دينا رسميا وجعل من الاعتراض عليه خروجا عليها؟

هذه ثقافتنا ايضا!
أكثر ما اثار ناقدي هو مفهوم الثقافة في مقالي. اود بداية ان ابدد سوء فهم او تفاهم. يعتقد الأستاذ إسماعيل الأحمد إن مفهوم الثقافة كخصوصية او كتراث أو كهوية او حتى كحضارة "لا يعجبني". هذا تجن وتسرع. ففيما عدا ان الإعجاب وعدم الإعجاب غير واردين في مقام كالذي نتناقش فيه، فإن ما قلته في مقالي هو ان مفهوم الثقافة الغائب عن مشروع الإسلاميين هو مفهومها كإبداع وليس كتراث وخصوصية..إلخ. نعم الثقافة تعني التراث الذي ترثه أمة من ماضيها، وتعني الهوية التي تميزها عن غيرها، وهي منبع خصوصية العرب بالمقارنة مع الفرنسيين والصينيين، والأكراد عن العرب والترك.. (ليس ثمة خصوصية غير مقارنة)، وبعض الدارسين يقيم ترادفا بين الحضارة والثقافة، ويرى ان كل ما اكتسبه الإنسان من حياته في مجتمع هو ثقافة، سواء كان تقنيات او تنظيمات ام قيما وعقائد. هذا كله ثقافة. وكله "يعجبني" إذا كان الأستاذ اسماعيل احمد مصرا على معرفة موقفي. لكن لو انقرض العرب والمسلمون منذ عام أو منذ الف عام لأمكن للدارسين والانثروبولوجيين أن يدرسوا ثقافتهم بالمعاني المشار إليها. ما الذي يميزنا عن شعب منقرض على صعيد الثقافة؟ قبل كل شيء، الإبداع، أي ابتكار معان وافكار وقيم وتنظيمات جديدة، بما في ذلك تجديد فهمنا للموروث الثقافي ذاته. كان امرؤ القيس والمتنبي شاعران عظيمان، لكن من يكتب بطريقتهما اليوم يضمن لنفسه فشلا عظيما. كان ابن خلدون مؤرخا وعالم اجتماع عظيما لكنه لم يعد كافيا لفهم واقعنا المعاصر. لا يستطيع أحد منا أن يكون شاعرا اليوم دون ان "يقتل" أبينا المتنبي، وابينا احمد شوقي، بل وابينا بدر شاكر السياب. المبدع من الشعراء (والمفكرين والفلاسفة والروائيين والمسرحيين ..)هو الذي يقتل ابائه. لذلك تاريخ الإبداع هو تاريخ الآباء القتلى أو هو مذبحة للآباء. أم الشاعر الوفي لآبائه فيجازف بأن يبقى صغيرا أبدا. الوفاء ليس فضيلة ثقافية وإن يكمن فضيلة عظيمة في علاقتنا مع آباءنا وامهاتنا واصدقائنا، حتى لو صدف ان كنا شعراء. كذلك لا يمكن ان يصنع أحدنا سينما جيدة مع البقاء ضمن سياج ثقافتنا الموروثة. ولا يمكن أن يتجدد فهمنا للدين دون اخذ مسافة من التاويلات الشائعة النصوص التاسيسية. ولا إبداع فكريا وثقافيا دون الخروج على ولي الأمر البعثي والشيوعي.. وقطعا الإسلامي. ولن يفعل الإسلامي غير تكرار سيرة البعثي إن ظن أن الخروج الفكري على "الأب" البعثي مباح لكنه محرم على الأب الإسلامي، وأن تحطيم السياج جميل حين يكون سياج الشيوعيين لكننه فوضى وسفاهة حين يكون سياج الإسلاميين.
هل قتل الأب وتحطيم السياج والخروج على النص والأصل والوصاية ومخالفة الأمر وولاته "محض تمرد وفوضى وهياج وثورة عمياء مطلقة" كما يقول الأستاذ احمد؟ بل هو حرية إبداع وتجديد للحياة، بما فيها الإيمان. لكن بالفعل ثمة عنصر تخريب وعصيان وفوضى في كل إبداع. فالإبداع ابن الحرية الأصغر، اما ابنها الأكبر فهو الموت. الحرية لا تبدع إلا إن قتلت، ولا تجدد الحياة دون موت.
ولست ادري من اين توصل الأستاذ احمد إلى أني لا أرى للأخلاق اثرا على الثقافة؟ لعله اعتقد اني ادعو الناس إلى قتل آبائهم الذي أنجبوهم وربوهم. كلا ياسيدي. فوالدي، أطال الله في عمره، حي يرزق، لم اقتله ولا افكر في قتله. كذلك لم احطم سياج بيته. ورغم اني سجنت شيوعيا، ووالدي مؤمن حاج لا يفوت فرضا، فإني لم اشعر يوما اني ارتكبت مخالفة اخلاقية، أو أن افكاري السياسية تنتهك التزامي البر به.
ولعله أضحى من النافل القول إني اعتبر التحصين الثقافي حاملا لخطر الاستبداد وفرض العقائد بالإكراه وتكون طبقة من المفوضين العقيديين الذين يفتشون ضمائر الناس ويمتحنون إيمانهم. الإسلام لم يعرف ما يشبه القوميسارين السوفييت ومحاكم التفتيش في اوربا المسحية في العصور الوسطى، لكنه عرف ظاهرة الشرطة الدينية او المطوعة في السعودية، وعرف تعصبا دينيا فتاكا في افغانستان الطالبانية، وعرف في تاريخه القديم صراعا سياسيا دينيا واستبدادا سياسيا دينيا يصمد للمقارنة مع اي استبداد سياسي ديني في اي مكان من العالم. وأصارح الصديقين، أحمد ووليد، اني اعتبر عبارة الغزو الثقافي خطيرة كتشخيص وأخطر كتوصية ضمنية بالعلاج. وبالخصوص لأنها تنقل مفهوم الغزو من قاموس الحرب إلى قاموس الثقافة، مع ما يستدعيه ذلك من اعتبار بعض الأفكار والتنظيمات عدوة على غرار ما يكون الأميركيون او الإسرائيليون اعداء مثلا.
يمكن بالطبع لأي كان اي يصوغ آراء من يعتبره خصمه في صورة كاريكاتيرية ليسهل عليه دحضها وإظهار بطلانها على غرار ما يفعل الأستاذ احمد حين ينسب إلي اني اعتبر العولمة "تلاقح ثقافي وإبداع وتنوير حتى لو كان ادب بورنو وصهينة وتجديف بكل ثوابت الأمة". هذا أسلوب المساجلين الإيديولوجيين وليس النقد الموضوعي. ومن جهة اخرى هذا الكلام مهين للأمة التي ينبري الأستاذ احمد للدفاع عنها. فالأمة تبدو هنا مثل "أمَة" غريرة يسهل على اي كان إغواءها و"تطبيقها" و"إخراجها عن ثوابتها". لكن لعلنا نعلم ان أغر الفتيات هن المعزولات عن العالم والممنوعات من الاختلاط والتعرض لـ"العدوى".
من جهتي أعتقد ان حصانة أمتنا، سورية ام عربية ام إسلامية، في عقلها وفي حريتها وفي إبداعها. وان المزيد من الحرية يعني المزيد من الإبداع يعني المزيد من الحصانة (رغم اني لا احب كلمة الحصانة في مجال الثقافة). وأن العدوى الثقافية أمر مرغوب فيه، وان العفة في الثقافة امر خطير ومنذر بالعقم، وأن اكثر الثقافات عفة هي أكثرها انعزالا وبدائية (قد تكون كوريا الشمالية عفيفة ثقافيا أكثر من اية دولة عربية، ولعل طموح كمبوديا بول بوت وأفغانستان طالبان كان عفافا ثقافيا مطلقا)، وأن البورنو لا يستعمر إلا شخصا مكبوتا تستعمره اصلا الأخيلة الجنسية. ثم لست ادري كيف تحصننا سياسة الأستاذ احمد الثقافية ضد البورنو اليوم؟ فبفضل الانترنت والبث الفضائي يمكن لأي مراهق ومراهقة (وكهل وكهلة، وشيخ وشيخة) ان يشبعا حواسهما من الثمار المحرمة لجنة الجنس الافتراضية.
إن شرف الأمة مثل شرف الفتاة مثل شرف الفتى: في عقلها أو عقله الناقد، وفي إرادتها أو إرادته الحرة، وفي النصف الأعلى من جسمها او جسمه. هذا لا يعني ان نترك النصف الأسفل من أجسامنا للغرائز وحدها. ما يعنيه ان من لا يقيم شرفه أو شرفها في راسه وفي قلبه لا يفيده كل عفاف الدنيا. إن امراة تافهة لا يمكن ان تكون شريفة حتى لو كان لها خمس بكارات.
أما الصهينة، فليت الأستاذ أحمد يترك امر الاختصاص في فضح "عدواها" للسيد علي عقلة عرسان واتحاد كتابه. وليته يقارن بين "حصانة" الكتاب البعثيين و"عدوى" أمثالنا. ولن ازيد.

نقطتان تكميليتان
اشترك الأستاذان احمد ووليد في نقد اتهامي المفترض للإسلاميين بالظلامية والعدمية. لكن يبدو لي أن نقدهما يفتقر إلى شيء من التبين. إذ لم يرد في مقالي قط وصف مرسل للإسلاميين عامة او الإخوان السوريين بأنهم ظلاميون وعدميون. لقد وصفت ما سميته الاكتفائية الإسلامية، بالظلامية والعدمية ومعاداة الحضارة. ولا أجد اليوم ما يدفعني لسحب هذا التقييم. أعني بالاكتفائية الإسلامية الموقف الذي يعتبر اننا مستغنون بالإسلام عن كل فكر وثقافة وعلم آخر. وهو موقف غير نادر الشيوع في اوساط الإسلاميين. والأصل فيه هو النزعة العقيدية التي تعتبر ان كل ما هو مهم ومفيد واساسي موجود هنا، في عقيدتنا. لذلك ثمة تناسب بين الظلامية وبين النزعة العقيدية المطلقة، لذلك الإسلاميون الأكثر ظلامية هم الأكثر سلفية، وبالخصوص الوهابيون؛ ولذلك أيضا ثمة ظلاميات ماركسية وبعثية وناصرية: تلك المواقف التي تعتقد ان كل ما هو أساسي من أجل فهم العالم وسياسة العالم وتذوق العالم والسلوك في العالم موجود في الماركسية او البعثية او الناصرية؛ ولذلك تجنح هذه العقائد إلى توليد نوع من العدمية، يمكن تسميته عدمية فيض المعنى أو عدمية اليقين بأن الحق معك، وان كل من يختلف عنك على باطل، ما يقوض الحواجز الأخلاقية أمام إبادته. هنا أصل الإرهاب، إرهاب المنظمات أم إرهاب الدول. ولعل الأخوان أحمد ووليد يعلمان ان النظام البعثي لم يتمكن من تشريع إبادة الإسلاميين منذ أواخر السبعينات إلا بعد أن "شيطنهم"، أي ابادهم معنويا كشرط لإبادتهم سياسيا وجسديا. بالمقابل لعلهما يعلمان ان الإسلاميين مارسوا الشيء نفسه في تلك الفترة، وإن اختلفت سند "الشيطنة". سند الشيطنة البعثية "قومي" و"تقدمي" وسند الشيطنة الإسلامية ديني.
ثمة نقطة أخيرة أثارت استياء ناقداي. قلت في مقالي مثار الجدل: "لعل الإنسان حر لأنه قادر على رفض التكليف الإلهي". لست أعتز بالإثم، لكني أعتقد بالفعل أن معيار الحرية هو التمرد على التكليف الإلهي. فمن يتمرد على خالقه قادر التمرد على كل سلطة وتجاوز كل حد واختراق كل سياج، إن للخير أو للشر. هنا اصل الحرية واصل الثقافة، لكن أيضا اصل الانتهاك والتحطيم. هذا خلافا لما يبدو ان الأخوان فهماه ليس دعوة إلى الإلحاد او رفض "التجارة" الإلهية المنجية. ليس دعوة اصلا. إنه استدلال على اننا احرار، وعلى ان الميثاق الإلهي هو بالأصل ميثاق حرية. إذا كنت استطيع ان اقول لله لا، فهل يستطيع ان يستعبدني طاغية او سفاح؟ وإذا كان الله قد خلقني قادرا على قول لا له، فهل يستطيع ان يمنعني طاغية أو سفاح؟ هذا تعريفي كإنسان. ولعل لا هذه، المؤسسة للحرية، هي الأمانة التي عرضت على "السموات والأرض والجبال فأبين ان يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلوما جهولا". ظالم لنفسه، جاهل لعبء تنوء به الجبال بل والأرض والسماء. ياله من غرور! ويالها من حرية!
لدى الإسلاميين استدلال آخر، معكوس، وخاطئ، في رايي: العبودية لله تحرر من كل عبودية، اي تحرر من كل ما دون الله. خاطئ، لأنهم يقيمون كمال الخالق على نقص جذري للمخلوق، وإطلاقية الخالق على محدودية مطلقة للمخلوق. أما التمرد على التكليف فهو ارتفاع بالخالق وارتفاع بالمخلوق. فما دام من يخلق الحر أعظم ممن يخلق العبد، وما دام الخالق هو الأعظم بالتعريف، فإن حريتنا هي الإقرار الحق بعظمة الخالق وهي "التسبيح" الحقيقي له.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تسييس العلاقة السورية اللبنانية
- ما بعد الحقبة السورية: تحديات الوطنية اللبنانية الجديدة
- أمام الأزمة وجهاً لوجه
- من يقتل رفيق الحريري؟
- الإعلام الفضيحة: ماذا فعلت جريدة -تشرين- بالحوار مع الأسير ا ...
- السجناء السوريون في إسرائيل أو موقع الجولان في الوعي السوري ...
- دولة مؤسسات أم دولة أجهزة؟
- في ذكرى انتفاضة الجولان: الشجاعة وحدها لا تكفي!
- موجتان لنزع العقيدية في الثقافة السياسية السورية
- نظام اللاسياسة: العنف الطليق والعقيدة المطلقة
- ضد الحرية وليس ضد -الحرة-
- عشر أطروحات حول السلطة والندرة
- موقع الثقافة في مشروع الإسلاميين السوريين
- من يهين سوريا؟
- اصول تناقضات السياسة الخارجية السورية
- تعاقد سوري لتقاسم تبعات سلام مفروض
- لبنان المستقبل لا يبنيه لبنانيو الماضي!
- السوريون والسياسة الأميركية: هل من جديد؟
- محددات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط
- نقد ثقافة الضحية


المزيد.....




- وحدة أوكرانية تستخدم المسيرات بدلا من الأسلحة الثقيلة
- القضاء البريطاني يدين مغربيا قتل بريطانيا بزعم -الثأر- لأطفا ...
- وزير إسرائيلي يصف مقترحا مصريا بأنه استسلام كامل من جانب إسر ...
- -نيويورك تايمز-: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخ ...
- السعودية.. سقوط فتيات مشاركات في سباق الهجن بالعلا عن الجمال ...
- ستولتنبرغ يدعو إلى الاعتراف بأن دول -الناتو- لم تقدم المساعد ...
- مسؤول أمريكي: واشنطن لا تتوقع هجوما أوكرانيا واسعا
- الكويت..قرار بحبس الإعلامية الشهيرة حليمة بولند سنتين وغرامة ...
- واشنطن: المساعدات العسكرية ستصل أوكرانيا خلال أيام
- مليون متابع -يُدخلون تيك توكر- عربياً إلى السجن (فيديو)


المزيد.....

- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - نقاش حول الدين والثقافة وحرية الاعتقاد