أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - الكتب معرفة ومتعة - الجزء الثالث















المزيد.....



الكتب معرفة ومتعة - الجزء الثالث


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3935 - 2012 / 12 / 8 - 09:22
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الكتب معرفة ومتعة - الجزء الثالث
(مقدمات وعروض لكتبى المترجمة
ومقدمات وعروض ومقالات مترجمة لكتب أخرى)
(كتاب إلكترونى، 2012)
 
الجزء الثالث
خليل كلفت
  
 
المحتويات
 
الجزء الأول
 
أولا: عروض مترجمة لكتب غير مترجمة أو من ترجمة آخرين
سياسة وفكر:
1: الشرف والغضب لا يكفيان عن كتاب: Deterring Democracy [الحيلولة دون الديموقراطية] تأليف: نعوم تشومسكى Noam Chomsky،1991 (عرض: جاريث چنكنز Gareth Jenkins).
2: الحروب الوشيكة The Next War [الحرب القادمة]، تأليف: كاسپر واينبرجر Caspar Weinberger  و پيتر شڤايتسر Peter Schweizer، 1997  (عرض: إينياسيو رامونيه Ignacio Ramonet).
أدب:
3: زيارة جديدة إلى مزرعة الحيوانات، عن رواية "مزرعة الحيوانات"، Animal Farm، چورچ أورويلJeorges Orwell ، 1945 (مقال: چون مولينو John Molyneux).
4: عوالم عديدة مفقودة، عن رواية "پيدرو پارامو" Pedro Páramo، خوان رولفو Juan rulfo، 1953 (عرض: مايك جونثالث Mike Gonzalez).
5: صوت ڤالزر، عن قصص مختارة Selected Stories، روبرت ڤالزر Robert Walser، 1983 سوزان سونتاج Susan Sontag، (مقدمة).
6: تذييل عن كتاب روبرت  ڤالزر بقلم: كريستوفر ميدلتون.
7: مارسيل پروست، عن رواية "البحث عن الزمن الضائع"، بقلم: أناتولى لوناتشارسكى (مقال)
8: پروست مؤرّخًا اجتماعيًّا بقلم: أندريه موروا (مقال)
9: حول الأسلوب فى السينما، عن فيلم "الأمل"، إخراج: أندريه مالرو، وهو مقتبس من روايته "الأمل"، فصل من كتاب أندريه بازان  Le Cinéma Français de Libération à la Nouvelle Vague (1945-1958) [السينما الفرنسيّة من التحرير إلى الموجة الجديدة (1945-1958)].
10: مقدمة جاستون ماسپيرو لكتابه الصادر بعنوان: الأغانى الشعبية فى صعيد مصر، جاستون ماسپيرو Gaston Maspero، إعداد د. أحمد مرسى و محمود الهندى، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000 (مقدمة).
  
ثانيا: مقدمتان لى لكتابيْن لمترجميْن آخريْن
سياسة وفكر:
11: ڤالتر بنيامين Walter Benjamin، هاوارد كايجل howard keigel وآخرون، 2000، ترجمة: وفاء عبد القادر مصطفى، المشروع القومى للترجمة، 2005 (مقدمة).
12: إشكالية مدرسة فرانكفورت (مقال لى ملحق بمقدمتى لكتاب ڤالتر بنيامين).
13: مصر وبلاد النوبة Egypt in Nubia، 1965، وولتر إمرى Walter Emery، ترجمة: تحفة حندوسة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2005 (مقدمة). 
 
ثالثا: مقدماتى أو عروضى لكتب من ترجمتى
سياسة وفكر:
14: الأساطير والميثولوچيات السياسية Mythes et mythologies politiques، راؤول چيرارديه Raoul Girardet، 1986، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1995 (عرض)
15: مصير العالم الثالث Les destins du Tiers Monde, analyse, bilan et perspectives، 1993، توما كوترو Thomas Coutrot و ميشيل إسُّون Michel Husson، دار العالم الثالث، القاهرة، 1995 (عرض).
 
الجزء الثانى
 
16: النظام القديم والثورة الفرنسية L’Ancien Régime et La Révolution، أليكسى دو توكڤيل Alexis De Tocqueville، 1856، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2010 (مقدمة).
17: النظام القديم والثورة الفرنسية (عرض)
18: كيف نفهم سياسات العالم الثالث: نظريات التغيير السياسىّ والتنمية Understanding Third World Politics: Theoris of Political Change and Development,، ، بى سى سميث B. C. Smith، 2009، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2011 (مقدمة).
19: انهيار النموذج السوڤييتى: الأسباب والنتائج، كريس هارمان Chris Harman، الطبعة الأولى، دار النهر، 1995، الطبعة الثانية، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2010 (مقدمة).
20: انهيار النموذج السوڤييتى، كريس هارمان (تذييل).
21: انهيار النموذج السوڤييتى، كريس هارمان (تلخيص).
 
أدب:
22: طبيب الأمراض العقلية The Psychiatrist، 1882، ماشادو ده أسِّيس Machado de Assis، دار الياس للطباعة والنشر، الطبعة الأولى بعنوان: السراية الخضراء، القاهرة، 1991، (رواية قصيرة).
23: دون كازمورو Dom Casmurro، 1900، ماشادو ده أسيس Machado de Assis، الطبعة الأولى: دار الياس للطباعة والنشر، القاهرة، 1991، الطبعة الثانية، آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2012 (رواية).
24: حكاية سكندرية وقصص أخرى، ﻟ ماشادو ده أسيس، المجلس الأعلى للترجمة، القاهرة، 2009.
25: أساطير البحر Légendes de la mer، برنار كلاڤيل Bernard Clavel ، 2006، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2007 (أساطير للناشئة).
26: أساطير البحيرات والأنهار Légendes des lacs et rivières، برنار كلاڤيل Bernard Clavel، 2006، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2008 (أساطير للناشئة).
27: أساطير الجبال والغابات Légendes des Montagnes et Forêts، برنار كلاڤيل Bernard Clavel، 2006، برنار كلاڤيل، Bernard Clavel، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2007 (أساطير للناشئة).
28: مختارات الميتافيزيقا والفانتازيا، خورخه لويس بورخيس  Jorge Luis Borges، الطبعة الأولى، دار شرقيات، القاهرة، 2000؛ الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب(مكتبة الأسرة)، القاهرة، 2008 (قصص، مقالات، أشعار، حكاية رمزية).
29: عوالم بورخيس الخيالية، آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، نخبة، القاهرة، 1999 (مقالات مختارة).
30: رحلة فى عالم بورخيس، تقديمى لملفّ مجلة القاهرة العدد 137 أپريل 1994 (ملحق بالمقالين السابقين عن بورخيس).
 
الجزء الثالث
31: كيف كتب دوستويڤسكى رواية الجريمة والعقاب؟ فى كتاب "دوستويڤسكى.. إعادة قراءة"، تأليف: يورى كارياكين، كمبيونشر، بيروت، 1991.
 
رابعا: عرض مترجم لكتاب من ترجمتى
32: الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالى- ترجمة الأدب الآيرلندى المبكر إلى الإنجليزية Translation in a Postcolonial Context - Early Irish Literature in English Translation، 1999، ماريا تيموسكو Maria Tymoczko، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2009 (عرض: پول سان-پيير Paul St-Pierre).
 
ملاحق
الملحق الأول
مقالات للدكتورة آمال فريد عن مجموعة قصص قصيرة
لكلٍّ من ادوار الخراط وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى     
33: ادوار الخراط: ساعات الكبرياء
34: إبراهيم أصلان - بحيرة المساء
35: جمال الغيطانى: أوراق شاب عاش منذ ألف عام
 
الملحق الثانى
التاريخ الذى أحمله فوق ظهرى: سيد عويس
36: سيرة ذاتية كدراسة حالة؛ عن كتاب سيد عويس: "التاريخ الذى أحمله على ظهرى، دراسة حالة"، بقلم: المستعرب الياپانى: إيچى ناجاساوا.
37: ثورة 1919 كما رآها طفل مصرى؛ عن كتاب سيد عويس: "التاريخ الذى أحمله على ظهرى، دراسة حالة"، بقلم: المستعرب الياپانى: إيچى ناجاساوا.
 
الملحق الثالث
فصل من كتاب "عالم جديد"
تأليف: فيديريكو مايور و چيروم بانديه.
38: أىّ مستقبل ينتظر الكِتاب والقراءة؟
 
الملحق الرابع
كلمة الغلاف لبعض ترجماتى
 
39: كلمة الغلاف لمجموعة من كتبى المترجمة
 
بيبليوجرافيا
 
 
 
 
31
كيف كتب دوستويڤسكى رواية الجريمة والعقاب؟
عن كتاب "إعادة قراءة لدوستويڤسكى" لمؤلفه: يورى كارياكين
(عرض: مجلة القاهرة 5 نوڤمبر 1985)
نقرأ معا خلال الدقائق التالية الفكرة الأساسية فى كتاب "دوستويڤسكى: إعادة قراءة" لمؤلفه يورى كارياكين. وترجع أهمية الكتاب المذكور إلى أن المؤلف يعالج فيه العملية الإبداعية ذاتها، أىْ الطريقة المحدّدة التى ألّف دوستويڤسكى من خلالها أعماله وكنموذج تطبيقى محدّد: "الجريمة والعقاب"، التى يَعُدُّها المؤلف رائعة من روائع دوستويڤسكى. ويضع المؤلف أمام أعيننا ثلاثة مستويات لتصور دوستويڤسكى للجريمة والعقاب أو يضع بالأحرى إلى جانب المستوى الذى يعرفه الجميع مستوييْن آخرين. فإلى جانب الشكل النهائى أىْ الرواية المطبوعة يضع المؤلف شكلها الأوّلى أو الجنينى ويتمثل فى رسالة كتبها دوستويڤسكى إلى كاتكوڤ محرّر المجلة التى نشرت الرواية لأول مرة على حلقات وفى تلك الرسالة يبيّن الروائى العظيم فكرة وخطة روايته. أما الشكل الوسيط الذى يتطور الشكل الجنينى من خلاله إلى الشكل النهائى فإنه يتمثل فى المذكرات الخاصة بالرواية ويدرس فيها دوستويڤسكى مختلف أحداث وشخصيات وتقنيّات وتفاصيل ودقائق الرواية التى كان يعتزم كتابتها أىْ "الجريمة والعقاب"، وقد اعتمد على مذكرات مماثلة فى كتابة روايات أخرى، "الإخوة كارامازوڤ"، على سبيل المثال.
ولا جدال فى أن الدراسة التطبيقية لعملية الإبداع ذاتها تُهِمّ جمهور القراء كما تُهِمّ الكتّاب أنفسهم وبالأخص شبابهم، وعلى هذا نستعرض الفصول الأربعة من الكتاب المذكور مع التركيز على نقاط محدّدة. ويبدأ المؤلف مناقشته كما يلى:
من الغريب أننا فى أغلب الأحيان نعرف عن أعمال الفن أكثر مما نعرف عن مبدعيها. وعلى سبيل المثال فنحن نعرف "دون كيخوته" أفضل مما نعرف سرڤانتيس، و "هاملت" أفضل من شكسبير، و راسكولنيكوڤ أفضل من دوستويڤسكى. وقد يقول قائل: "لكن هذا ليس غريبا أبدا، إن هذا وحده هو الطبيعىّ!" لكنْ هل هو حقا كذلك؟ والواقع أنه دون أن نعرف الثمن المدفوع من أجل أعمال الفن من جانب مؤلفيها - الكائنات البشرية ذات الآلام البشرية - لا يمكننا أن نأمل فى أن نفهم تمامًا الأعمال ذاتها. وتبرهن العملية الإبداعية أن إمكانيات الإنسان غير قابلة حقًّا للاستنفاد، ولكن المبدع أكثر واقعية، وأقوى دلالة، وأوفر حياة من أىّ عمل من أعماله.
وعندما ننظر إلى العالم الرحب والعدد الهائل من الشخصيات، اللذين أبدعهما دوستويڤسكى، لا نملك إلا أن نعجب كيف استطاع شخص واحد أن ينتج كل ذلك فى نطاق المدى القصير لحياة الإنسان، ولا سيّما شخص لم تكن الحياة بالنسبة له فراشا من الورود. وتتمثل المعجزة الكبرى فى الإبداع الفنى فى واقع أن "غير العادىّ" يُولد من "العادىّ"، وأنّ "النظيف" يخرج من "غير النظيف"، ولا يمكن لهذا أن يكون شيئا مختلفا لأنه يشكّل جوهر العملية الإبداعية. وأفضل برهان على هذا تقدّمه مذكرات دوستويڤسكى الخاصة بروايته "الجريمة والعقاب".
وكما هو معروف، أحرق دوستويڤسكى نسخة كاملة تقريبا من "الجريمة والعقاب" (ومن حسن الحظ أنها لم تُدمّر بكاملها). ولا تزال الدوافع الكامنة وراء هذا التصرّف غير واضحة تمامًا.
 فى سپتمبر (أيلول) 1865 كتب دوستويڤسكى رسالة إلى م. ن. كاتكوڤ، محرّر "روسكى ڤستنيك" (ولم يبق سوى مسوّدة من هذه الرسالة):
"هل لى أن آمل فى أن تُنشر روايتى فى مجلتكم "روسكى ڤستنيك"؟ إن فكرة الرواية لا تتعارض بأىّ طريقة مع ما تمثّله مجلتكم.
"إنها وصف سيكولوچىّ لجريمة. شابّ مطرود من الجامعة، برچوازى من حيث خلفيته الاجتماعية، يعيش فى فقر مدقع، يقرّر، مدفوعا بالطيش واضطراب التفكير، أن يخلّص نفسه من حالته التعيسة عن طريق ضربة جريئة واحدة. وهو يستسلم للأفكار الفجّة التى يتّفق أن تنتشر. ويقرّر الطالب أن يقتل مرابية عجوزًا، وهى زوجة موظف صغير. والمرأة العجوز غبيّة، صمّاء، مريضة، شرهة، وهى تحصل على فوائد ربويّة، وهى دنيئة وتدمّر حياة شخص آخر، أختها الصغرى التى تعذّبها هى رغم أنها تعمل من أجلها. (إنها لا تفيد فى شيء أىّ غرض لها فى الحياة؟ هل هى مفيدة لأىّ شخص؟)؛ تلك الأسئلة تخرج الشاب عن طوره. فهو يقرّر أن يقتلها ويسرقها، لكىْ يساعد أمّه، التى تعيش فى مدينة إقليمية، ولكى يُنقذ أخته، التى تعيش مع أسرة مالك عقارى ريفىّ باعتبارها وصيفة، من المخططات الشهوانية لرأس تلك الأسرة، تلك المخططات التى تهدّد بتدميرها، ولكى يُنهى دراسته، ثم يسافر إلى الخارج، وبعد ذلك يكون أمينا بقية حياته، حازما وصلبا فى تحقيق واجبه الإنسانى نحو البشرية. الأمر الذى سوف يعوّض عن الجريمة، إنْ كان بوسع المرء أن يسمى بالجريمة... قَتْلَ المرأة العجوز، الصمّاء، الغبيّة، الدنيئة، المريضة، التى ليست لديها فكرة عن سبب وجودها على قيد الحياة والتى كان من الممكن أن تموت بعد ذلك بشهر على أيّة حال.
"ورغم أن من الصعوبة بمكان تنفيذ مثل تلك الجرائم، أىْ أنها تترك وراءها دائما تقريبا دليلا ما فظًّا وما إلى ذلك، ويتوقف الأمر إلى أقصى حدّ على الصدفة التى تكون دائما تقريبًا ضدّ المجرم، فإنه ينجح، بطريقة ترجع بصورة كاملة إلى المصادفة، فى تنفيذ خطته وبدون صعوبة كبيرة.
"لقد مرّ شهر تقريبا قبل الكارثة النهائية، ولم يكن هناك ارتياب، بل لم يكن يمكن أن يوجد أىّ ارتياب ضدّه. وهنا يبدأ كامل المسار السيكولوچى للجريمة. فهناك مشاكل غير قابلة للحلّ تظهر أمام القاتل؛ وتعذّب قلبه مشاعر غير متوقعة وغير منتظرة. لقد وقع فى نهاية الأمر فى مصيدة الحقيقة الإلهية والقانون الذى صنعه البشر، وهو مضطرّ إلى التبليغ عن نفسه، مضطرّ، حتى إذا كان لا بدّ أن يهلك فى السجن، إلى أن يعود إلى الناس من جديد. لقد أرهقه الشعور بالعزلة والانفصال عن البشر وهو الشعور الذى استولى عليه بمجرّد ارتكابه الجريمة. وأخذ قانون الحقيقة والطبيعة الإنسانية يُحْدثان أثرهما. فالمجرم يقرّر من تلقاء نفسه أن يقبل العذاب ليكفِّر عن جريمته... زدْ على هذا أن قصتى توحى بأن العقاب الذى يحدّده القانون يخيف المجرم أقلّ كثيرا مما يظنّ مشرِّعو القانون؛ ويرجع ذلك إلى أن المجرم نفسه يحتاج إليه أخلاقيًّا".
وهكذا يمكن وصف "الجريمة والعقاب"، كما تصوَّرها دوستويڤسكى فى سپتمبر (أيلول) 1865، فى إطار النقاط الستّ التالية التى تغطِّى، بطبيعة الحال، الحبكة بأسرها:
1: الدوافع وراء الجريمة نبيلة تمامًا؛ 2: لا تتمثّل الجريمة إلَّا فى قتل امرأة عجوز، مُرابية؛ 3: الحدث السابق "للكارثة النهائية" يغطّى مدة شهر تقريبًا؛ 4: الاعتراف الطوعىّ والندم من جانب الطالب لا ينفصلان؛ 5: التكفير عن الجريمة ليس أمرًا أساسيًّا فى الرواية؛ 6: الحبكة جرى تصوُّرها على أنها اعتراف يُدْلى به مجرم.
فى النسخة الأخيرة (المنشورة) تعرَّضتْ هذه النقاط الست لتغييرات جوهريّة:
1: الدوافع وراء جريمة راسكولنيكوڤ تشتمل على الجنون ﺑ نابليون الذى يحجبه خداع النفس حول "الأهداف النبيلة"؛ 2: هناك ضحايا آخرون بالإضافة إلى المرابية العجوز؛ وهم يشملون ليزاڤيتا التى كانت حُبْلَى وأمَّ راسكولنيكوڤ، و ميكولكا الذى نجا بشقّ النفس من الأشغال الشاقّة؛ وفى أحلامه يرى راسكولنيكوڤ العالم بأسره يهلك؛ 3: تغطِّى الحبكة فترة تمتدّ حوالى عامين وعندئذ يبدو أنها تمتدّ إلى أعماق اللّانهاية؛ 4: الاعتراف بالجريمة، والندم عليها، والتكفير عنها، لا تجرى فى نفس الوقت: يعترف راسكولنيكوڤ فى اليوم الحادى عشر بعد الجريمة لكنه لا يندم عليها إلا بعد ذلك بثمانية عشر شهرًا؛ 5: المجرم التائب لا يجد طريقه إلى التكفير فى الحال؛ 6: السرد مكتوب بضمير الغائب.
فى النسخة الأخيرة، المنشورة، هناك أيضا مقال راسكولنيكوڤ وقصة عائلة مارميلادوڤ. والموضوع الذى يبقى دون تغيير، والذى هو أساسىّ فى الكتاب بأسره، هو "الشعور بالعزلة والانفصال عن البشر والذى... أرهقه". لكنّ شيئا واحدا جلىّ: التصوّر المبكّر للرواية حلَّ محلّه تصوُّر جديد ("يجرفنى معه بعيدا الشكل الجديد والخطة الجديدة").
يمكننا الآن أن نلاحظ أنّ رسالة دوستويڤسكى إلى كاتكوڤ قدّمت تصوّرا للرواية لا يعدو أن يكون - بالمقارنة مع الرواية المطبوعة - تصوّرا أوّليًّا ساذجا. والواقع أن المذكرات الخاصة ﺑ "الجريمة والعقاب" هى التى تملأ هذه الفجوة الهائلة. وإذا تأملنا الرواية كما تصوّرتْها الرسالة نجد أنفسنا إزاء اتساق داخلى بحيث لا يمكن الاحتفاظ ببعض عناصرها الرئيسية دون بعضها الآخر، وكان أىّ تصوّر جديد بصورة جوهرية يعنى تحطيم الاتساق القديم بكل عناصره الجوهرية، تلك المتصلة بالمحتوى وتلك المتصلة بالشكل على حدّ سواء.
كان تصوُّر الرسالة ينطلق من فرضية فحواها أن "الدوافع وراء الجريمة كانت نبيلة تماما" وأنّ كلَّ ما هنالك أن راسكولنيكوڤ عمد إلى تحقيقها بوسائل خاطئة وشريرة. وهذا العنصر الجوهرى فى تصوُّر الرسالة يحدِّد بقية العناصر. فمن الطبيعى تماما أن نكون إزاء رواية اعتراف، يسردها البطل، وأن يكون التبليغ الطوعى والاعتراف والندم نفس الشيء الواحد، ومن الطبيعى تماما ألّا يحتاج الأمر إلى وقت طويل حيث لا ينفصل الاعتراف والندم عن بعضِهما البعض فى الزمان وحيث لا حاجة إلى وقت تستغرقه عملية معقدة تصل فى نهاية الأمر إلى الندم وتفتح الباب أمام التكفير عن الجريمة، كما أن من المنطقى أن تكون أبعاد الجريمة والرواية محدودة، وأن يجرى تتويج كل ذلك بنهاية دينية، كما توحى الرسالة.
وكما سوف نرى، ينقلب هذا التصوّر بصورة جوهرية. ويبدأ هذا الانقلاب من صميم المحتوى، من مسألة الدوافع وراء الجريمة. ففى الرواية المطبوعة دوافع ظالمة تحققت من خلال وسائل شريرة وأدّت إلى المأساة والكارثة ودوافع نبيلة تحققت من خلال وسائل طيبة وأدّت إلى نتائج طيبة. واحتدم صراع الدوافع والأهداف داخل البطل، وأصبح كلّ حلّ سهل سريع باطلا ومفتعلا وغير قابل للتصديق. وعلى هذا النحو ينشأ اتساق داخلىّ جديد بصورة جذرية بين عناصر الرواية المطبوعة. فالتبليغ والاعتراف شيء والندم المخلص والتكفير شيء آخر مختلف. ويحتاج ملء هذه الفجوة إلى عملية طويلة حافلة بالصراع. كما يفتح التصوّر الجديد آفاقا جديدة واسعة. فالجريمة ترتدى أبعادًا هائلة بدوافعها المعقدة، بكثرة ضحاياها المباشرين والمحتملين، بتعقيد شخصية البطل التى تنطوى على عناصر متناقضة بحدّة بحيث يمكنها السير فى نهاية الأمر فى اتجاه عالم مختلف وحياة مختلفة. وتحتّم هذه التغيّرات فى المحتوى تعديلات جوهرية فى الشكل، من أهمها التخلّى عن رواية الاعتراف لصالح رواية يسردها المؤلف، ومنها السطر الأخير فى الرواية، ومنها البناء المعقد الذى أصبح محتوما وأصبح يحتّم بدوره حسابا وإعدادا بالغىْ الدقة لمعمار فنّى بالغ التعقيد والروعة والخصوبة.
والواقع أن المذكّرات الخاصة ﺑ "الجريمة والعقاب"، والتى يتبلور من خلالها تدريجيا هذا التصوّر الجديد جوهريا للرواية، تكشف عن الحساب الدقيق لكل العناصر الرئيسية قبل الكتابة النهائية، كما أنها تساعد القارئ والناقد فى إضاءة وتفسير نواح قد لا يسهل كشفها بدونها.
والآن... لقد حدث تحوّل فى الدوافع، فبدلا من راسكولنيكوڤ الذى يرتكب الجريمة (وسيلة خاطئة) بدافع إنقاذ أمّه وأخته ونفسه (ثم "تحقيق واجبه الإنسانى نحو البشرية" فى بقية حياته"... [أهداف تبدو نبيلة] أصبح لدينا راسكولنيكوڤ.. الذى هو فى المقام الأول مؤلف المقال إيّاه الذى يقسّم البشر إلى فئتين ويعنى دفْع هذه الفكرة إلى أقصاها القتل الجماعى لصالح نابليون مّا أو آخر، و راسكولنيكوڤ شخص "مولود من فكرة" شخص ("أكلته" فكرة، مثل كيريلوڤ فى رواية الشياطين) أو كما يقول هو نفسه: "إن مشاريعى استحوذت علىّ تماما، ورؤيتُها تتحقق أصبحت هدف حياتى" (هنا يقدم دوستويڤسكى مفهوم "الجريمة النظرية"). فقد أصبح لدينا راسكولنيكوڤ الذى يستحوذ عليه تصوّر يقسم الناس إلى "نابليونات" و"بؤساء" ويحلّ للفئة الأولى أن تتخطى العقبة عند الضرورة حتى بالقتل، حتى بالقتل بالجملة. وتستولى على هذا الشاب، بحكم طيشه وبحكم خلفيته الاجتماعية البائسة، الرغبة فى أن يكون نابليونا، فى أن يتخطى العقبة، لإنقاذ نفسه وأسرته والإنسانية قاطبة... وهذا الهدف الظالم يحتّم "الوسائل والنتائج" التى تقوم بدورها بكشف "الهدف الحقيقى" الذى يموّهه خداع النفس...
فكيف يؤثر هذا التطور العميق فى الدوافع وراء الجريمة (أىْ فى صميم المحتوى والمحاكمة التى تنبنى عليه)... كيف يؤثر فى تطوّر الأشكال والأساليب الفنية الرئيسية فى الرواية؟...
ليس من المدهش، إذن، أن نجد دوستويڤسكى يعمل فى "التشريح الرئيسى للرواية" (بهدف إزالة "أشكال عدم اليقين" فيما يتعلق بدوافع الجريمة) فى نفس الوقت الذى كان يحاول فيه أن يقرّر ما إذا كان ينبغى أن يكون السرد بضمير المتكلم أم بضمير الغائب، وقد اختار الأخير، رافضا شكل الاعتراف من نمط المذكرات.
حسب الخطة المبكّرة، كان على راسكولنيكوڤ أن يبدأ يوميات-اعترافه فى اليوم الرابع (؟!) بعد جريمة القتل التى جرت فى 9 يونيو. "16 يونيو. فى الليلة الثالثة بدأتُ يومياتى وقضيت أربع ساعات فى الكتابة".
بعد ذلك نقرأ: "لِيكنْ تقريرا... عمّن؟ ولمن؟" شطب دوستويڤسكى هذه الكلمات، لأنّه لا بد أن يكون قد أدرك أنه كان من المستحيل لقاتل أن ينقلب إلى كاتب سجلات عن جريمته فى اليوم الرابع بعد الحادث (فى النسخة "المنشورة" نجد راسكولنيكوڤ لا يزال فى ذلك الحين يرقد فاقد الوعى فى اليوم الرابع).
كان على راسكولنيكوڤ، حسب خطة دوستويڤسكى المبكّرة، أن يصبح "كاتب اختزال" لنفسه: "هنا تنتهى القصة وتبدأ اليوميّات".
غير أنه سرعان ما تغيرت الخطّة، وأصبحت القصة معقولة ظاهريا: "سوف أروى كلّ شيء فى المحكمة. سوف أسجّله كلّه. وأنا أكتب لنفسى، لكن ليقرأه الآخرون أيضا، كلّ قضاتى، إذا شاءوا. وهذا اعتراف، اعتراف كامل. سأريح منه صدرى ولن أكتم أىّ شيء". وهذا ممكن جسمانيا وسيكولوچيا، على حدّ سواء، لكن هل يمكن أن يقوم بالاعتراف بمثل هذه السرعة بعد القتل؟
عندئذ قرّر المؤلف أن تكون القصة "تقريرا فى شكل يوميات".
لكنْ بعد ذلك بنصف صفحة:
"خطة جديدة
قصة مجرم
منذ ثمانية أعوام
(لكى نحتفظ بمسافة منها)"
هذه خطة أكثر واقعية. و"ثمانية أعوام" ليست رقما اعتباطيا، فهى المدة التى حكم بها بالسجن على راسكولنيكوڤ. ولما كان البطل يبدأ فصلا جديدا فى حياته، فمن الطبيعى أن يستدعى أحداث الماضى.
غير أن الخطة الجديدة فرضت صعوبات بعينها، لأنها طرحت السؤال حول معنى الحياة الجديدة التى وجدها راسكولنيكوڤ. كان هذا سؤالا طبيعيا يمكن طرحه حيث إن وقت كتابة الاعتراف كان قد تمّ مدّه. مع ذلك كان على الاعتراف ذاته أن يبقى. لكن ليس طويلا. ففى الصفحة التالية نقرأ:
"خطة أخرى.
"القصة يسردها المؤلّف، وهو شخص لا يُرى لكنه كُلّىّ المعرفة ولا يترك البطل حتى لدقيقة واحدة".
وهكذا قبل دوستويڤسكى، فى نهاية الأمر، دور "كاتب الاختزال".
بعد صفحات قليلة نجد وصفا أكثر تفصيليّة للخطّة الجديدة:
"أعِدْ النظر فى كافّة المسائل فى هذه الرواية. غير أن الحبكة يجب أن تصبح بحيث تكون القصة يسردها المؤلف، وليس البطل. وإذا كان ينبغى أن تكون اعترافا، فلا بدّ من توضيح كلّ شيء بصورة مطلقة. ويجب أن تكون كلّ لحظة فى القصة واضحة بصورة كاملة.
"ملاحظة - إذا كانت اعترافا، فلا بدّ أنها [الرواية] ستكون فى بعض الأجزاء مفتعلة وسيكون من الصعب تصوّر لماذا كُتِبَتْ.
"لكنْ من ناحية المؤلف. هناك حاجة إلى قدر هائل من السذاجة والصراحة. يجب أن يكون المؤلّف كُلّىّ المعرفة وناجحا فى أن يقدّم إلى القارئ فردا من أفراد الجيل الجديد".
وهكذا.. من العبارة المشطوبة، "لِيكُنْ تقريرا... عَمَّنْ؟ ولمنْ؟" ينتهى دوستويڤسكى إلى إدراك "أنه سيكون من الصعب تصوّر لماذا كُتِبَتْ". ومهمة "إعادة النظر فى كافة المسائل" رُدَّتْ إلى المؤلف نفسه.
يعكس هذا التغيير فى الخطة صراعا بين الدوافع: لقد رغب دوستويڤسكى فى بعث راسكولنيكوڤ، فى أن يكتشف الكائنَ الإنسانىَّ فيه، فى أن يمنحه حياة جديدة، وكان يدرك - فى الوقت ذاته - الصعوبات المتصلة بتحقيق هذه الرغبة. ولأنه هو ذاته مرّ بهذه الصعوبات، فقد كان قادرا على الدخول فى أعماق مشاعر بطله بصورة كاملة.
والواقع أن قصةً حول بطل تقتضى تقمّص المؤلف لشخصية ذلك البطل، غير أن قصةً يرويها البطل تحتاج إلى التقمّص الكامل من جانب المؤلف. وفى إعداده للرواية التى جرى تخطيطها أصلا على أساس أنها اعتراف توصّل دوستويڤسكى إلى فهم أعمق الدوافع الحقيقية وراء جريمة راسكولنيكوڤ، وأدّى به هذا الفهم إلى رفض شكل الاعتراف لروايته.. التى احتفظت، مع ذلك، ببعض عناصر اعتراف. [رأينا منذ قليل أن دوستويڤسكى رغب فى بعث راسكولنيكوڤ وفى اكتشاف الكائن الإنسانىّ فيه وفى منحه حياة جديدة]
وتنتهى الرواية بفكرة العملية الطويلة والصعبة للميلاد الجديد المقبل ﻟ راسكولنيكوڤ.
[فما الذى ردّه، وردّ معه سونيا، إلى الحياة؟ يجيب دوستويڤسكى:]
"الحب ردّهما إلى الحياة، وكان قَلْبُ كلِّ منهما يحمل ينابيع لا نهاية لها من الحياة لقلب الآخر". وفى المذكرات نقرأ: "ملاحظة - السطر الأخير للرواية: (غامضة هى الطرق التى يصل بها الله إلى الإنسان)".
غير أن السطر الأخير فى النسخة الأخيرة، المنشورة، يختلف عن هذا السطر. ولدينا هنا مثال ممتاز عن كيف يمكن لفنان أن ينتصر على التصوّرات التى كوّنها فى وقت سابق. ورفْض هذا السطر ليس مسألة صعوبة فى متابعة الاتجاه الدينى حتى النهاية بقدر ما هو تعبير عن صراع بين التصوّرات المتعارضة التى كانت تمزّق الكاتب.
[وننتقل الآن إلى النقطة الأخيرة. يقول المؤلف]
يبرهن تحليلُنا للجريمة والعقاب وللمذكرات الخاصة بهذه الرواية على بُطلان الادعاء الخاص بالطبيعة اللّاواعية، والشبيهة بالسير أثناء النوم، للعملية التى أبدع دوستويڤسكى عن طريقها رواياته.
ويمكن القول إن دوستويڤسكى كان واحدا من أكثر الكتاب انضباطا عقليا، كان كاتبا يبنى حبكة رواياته بأقصى العناية والدقة. وعندما نقول هذا فإننا لا نقلّل بأىّ طريقة من شأن دور حدسه كفنّان.
ومن ناحية بناء الحبكة يمكن أن نقارن "الجريمة والعقاب" ﺑ "الكوميديا الإلهية" التى طبقّ فيها دانتى نظرية المعنى الرباعى للشعر - المباشر، والمجازىّ، والأخلاقىّ، والتماثلىّ - وهى النظرية التى كان قد طبقها من قبل فى "العيد". ويتمثل المعنى المباشر للقصيدة - فى تصوير ما بعد الحياة، والمجازىّ - فى فكرة العقاب، والأخلاقى - فى إدانة الشرّ والإشادة بالخير، والتماثلى - فى تمجيد حبّه ﻟ بياتريس (وهو الحبّ الذى أوحى بالقصيدة) وتمجيد الله، الذى هو الحب الذى يحرّك الشمس والنجوم.
وفى تطوير المستويات المتعدّدة للمعنى وفى بناء الحبكة بعناية، ذهب دوستويڤسكى إلى ما هو أبعد كثيرا من دانتى. لقد عرف دوستويڤسكى جيّدا ذلك القانون من قوانين الفن الذى ينبغى وفقا له أن يُخْفى عن القارئ السرّ الذى اكتشفه، لكنْ بقدر ما يمكّن القارئ من أن يكتشفه بنفسه، وأن يعيشه وكأنه سرّه هو.
والواقع أنّ دوستويڤسكى، الصوفى المزعوم، كان أكثر الكُتّاب عقلانيّة. ومن ناحية الدقة والإحكام يمكن مقارنة تجاربه فى الفن بالتجارب فى العلم، فى حين يمكن مقارنة القوة العاطفية فى كتابته بتلك التى فى الموسيقى.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
32
الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالىّ
 
الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالى: ترجمة الأدب الآيرلندى المبكر إلى الإنجليزية Translation in a Postcolonial Context:
Early Irish Literature in English Translation،
ماريا تيموسكو Maria Tymoczko،1999،
المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2009
(عرض: پول سان-پيير Paul St-Pierre)
 
هذا عرض كتبه أستاذ فى دراسات الترجمة عن كتاب: الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالىّ. الأدب الآيرلندىّ المبكر فى الترجمة الإنجليزية، تأليف: ماريا تيموسكو Maria Tymoczko، الأستاذة بجامعة ماساتشوسيتس أمهيرست (الصادر عن دار نشر سانت چيروم، مانشستر، المملكة المتحدة، 1999)؛ وقد صدرت ترجمة عربية ﻠ خليل كلفت لهذا الكتاب عن المركز القومىّ للترجمة، القاهرة، 2009؛ والكتاب مهم ليس فقط لأن دراسات الترجمة جديدة على ثقافتنا وليس فقط لأنه كتاب ممتاز لمؤلفته المهمة (ذات المكانة العالمية المرموقة فى ثلاثة مجالات: دراسات الترجمة؛ والأدب الكلتىّ فى القرون الوسطى؛ والدراسات الآيرلندية؛ وهى من المنظِّرين الرئيسيِّين فى دراسات الترجمة، حيث أسَّسَتْ اتجاهات جديدة لهذا المجال) بل كذلك لأنه ينطلق من بحث موضوعه الخاص المتمثل فى مختلف أبعاد ترجمة الأدب الآيرلندىّ المبكر إلى اللغة الإنجليزية فى ظل السيطرة الكولونيالية البريطانية إلى نقطة تقاطع الخاص بالعام فى تناول عميق لقضايا نظرية وممارسة الترجمة مع نظرية ما بعد الكولونيالية والكثير من القضايا ذات الصلة بما فى ذلك الأدوار السياسية والأيديولوچية للترجمة – المترجم.
هذا الكتاب الممتاز له عنوان غير ملائم فى الواقع ومضلِّل إلى حد ما. فالعنوان Translation in a Postcolonial Context ( الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالىّ) على غلاف الكتاب يجعل القراء يتوقعون الأدوار التى يمكن أنْ تلعبها ولعبتها الترجمة فى عملية تصفية الاستعمار الكولونيالىّ التى جرت فى القرن العشرين. أما العنوان الفرعىّ Early Irish Literature in English Translation )الأدب الايرلندىّ المبكر فى الترجمة الإنجليزية) - الذى لا يُكتشف إلا بعد فتح الغلاف – فإن من المرجح أنْ يُفاجئ نفس هؤلاء القراء باعتباره نقيض العنوان الرئيسىّ، من حيث إحالته إلى سياق محدَّد وبصورة محدَّدة من حيث الحديث عن نصوص قروسطية. ويمكن أنْ يقود هذا بعض القراء المحتملين، وهذا ما يمكن أنْ يكون مؤسفا، إلى أنْ يتركوا بلا قراءة عملا يمثل محاولة مثيرة وناجحة تماما لأنْ ينسج معا مناقشة لنظرية الترجمة عند مستوى التجريد مع شرح لوظائف الترجمات فى فترة بعينها وضمن مساحة جغرافية محدَّدة، وصلتها بما هو سياسىّ وأيديولوچىّ. وإنما تستكشف تيموسكو هذا البعد للترجمة: استخداماتها فى عملية تصفية الاستعمار الكولونيالىّ، وبصورة أعمّ فى كل أحوال التعامل بين الثقافات، والأدوار المختلفة التى يمكن أنْ تلعبها فى خلق وصون أو تقويض تمثيلات الأمة وثقافة الأمة. وكما تكتب فى فصلها الأخير، مشدِّدة على الأهداف المتناقضة التى يمكن أنْ تخدمها الترجمة:
يمكن أنْ يكون استخدام الترجمة لخلق أو تكديس المعرفة جزءا من المشروع الاستعمارىّ الكولونيالىّ، صورة مرآة منعكسة للمراقبة الشاملة panopticonism التى يمكن أنْ تصير إلى أقصى درجة عملية استخباراتية، طريقة فى استكشاف منطقة، طريقة فى استجواب مُقَدِّمِى المعلومات، وحتى، إنْ جاز القول، طريقة فى التجسس. وعلى العكس عندما يقوم بالترجمة رعايا هُمْ أنفسهم مستعمَرون كولونياليًّا، فإن إمكانية جمع وخلق المعلومات يمكن تحويلها إلى غايات جبارة، تشمل التجسس المضاد، والمؤامرة، والتمرد، مما يفضى إلى تحديد الذات وتقرير المصير، بالمعنى السياسىّ الأكمل، كما توضح المادة الآيرلندية (ص 582-583).
و  الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالىّ ليس محصورا فى سياقات بعد-كولونيالية، أو فى ترجمة الأدب الآيرلندىّ المبكِّر؛ بل يقوم بالأحرى باستقصاء الترجمات كأشكال للتمثيل، لتمثيل الآخر للنفس، والنفس للآخر، وأهمية مثل هذه التمثيلات ضمن العالم السياسىّ، حيث يمكن لمثل هذه التمثيلات أنْ تكون مصدر قوة، أو تعزيزها، أو الصراع ضدها وقلبها.
وتنبع قوة هذا الكتاب جزئيا من ارتكازه على خصوصيات ما هو محلىّ فى مناقشة مسائل مهمة بالنسبة لدراسات الترجمة بوجه عام (هل يمكن تحديد المعنى؟ ماذا يعنى أنْ نترجم ثقافة؟ ما هى النتائج السياسية والأيديولوچية التى يمكن أنْ تكون لترجمة؟). ومناقشة أدوار الترجمة فى آيرلندا، فيما يتعلق ببناء هوية وثقافة آيرلنديتين، مُقْنِعة وحافزة. وكما تعلق المؤلفة فى الفصل التمهيدىّ (مدخل)، فإن التشديد على المحلىّ [...] ربما كان يقدم أيضا الأمل الوحيد فى التقدم إلى ما وراء التعميمات الفظة إزاء الخصوصية الكافية التى يمكن أنْ تدفع إلى الأمام أيًّا من دراسات الترجمة أو دراسات ما بعد الكولونيالية. وعلاوة على هذا فإن المحلية مهمة لأنه مع عولمة العالم بصورة متزايدة، من المفارقات أن الاختلاف يبقى مستمرا وجليًّا فيما هو محلىّ. وإنما على المستوى المحلىّ بصورة متزايدة يجرى توضيح الاختلافات، والتفاوض عليها، وتفنيدها، والدفاع عنها، فى علاقتها بمسار التاريخ (ص 57-58).
وفى هذا العرض [للكتاب] سوف أتوسَّع فى الاستشهاد من الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالىّ فى محاولة لتقديم حجج المؤلفة بكل تعقيدها.
وبالإضافة إلى مدخل، يشتمل الكتاب على عشرة فصول، منظمة إلى حد كبير على أساس الموضوعات. والفصلان الأول والأخير يعكسان صورة أحدهما الآخر. ويؤكد الفصل 1 أن الترجمات تساهم فى بناء تمثيلات الثقافات المهمَّشة من خلال عملية اختيار وتفضيل جوانب بعينها، جوانب بعينها فقط، من تلك الثقافات، التى تنتهى عندئذ إلى تمثيل الثقافات ذاتها، فى كليتها. وهذه المسألة المتعلقة بالطبيعة الكنائية للترجمة يجرى تطويرها بصورة أكمل فى الفصل الأخير، كما يجرى التشديد على أبعادها السياسية: 
[...] كنائيات الترجمة بما هى كذلك نادرا ما تجرى تسميتها بوضوح وما يزال ينبغى اكتشافها بصورة كاملة. ويمكن العثور على مثل هذه الكنائيات فى الطريقة التى تكون بها الترجمة دائما عملية جزئية، والتى يجرى وفقا لها ترجمة بعض وليس كل النص المصدر، وفى الطريقة التى تمثل بها الترجمات النصوص المصدر عن طريق تركيز الاهتمام على أقسام أو أجزاء خاصة، أو عن طريق السماح لخصائص نوعية فى النصوص المصدر بأنْ تسيطر على مجموع العمل، وبالتالى بأنْ تمثله. وتقوم الكناية بدورها أيضا فى الطريقة التى تكتب وتقرأ بها النصوص المترجمة باعتبارها تمثيلات لثقافاتها المصدر وفى الطريقة التى تقوم بها الترجمات، كعناصر من النسق الأدبىّ المتلقِّى، بالتشفير كنائيًّا لسمات الثقافات المتلقِّية (ص 562).
وتنتقل تيموسكو إلى تأكيد أن هذه الطبيعة الجزئية، أىْ الكنائية، للترجمة هى على وجه التحديد التى تحدد مكانها برسوخ مع عالم السياسىّ والأيديولوچىّ:
ومن جوهر الترجمة أنْ تنقل مظاهر أو أجزاء parts من نص وثقافة، وهذا التحيز partiality ذاته للترجمة يعطيها مرونة، مما يسمح لها بأنْ تصير متحزبة partisan. ولو كانت الترجمة عملية "كل شيء أو لا شيء"، لكانت حقا معيارية وصارمة، وغير مرنة، وعاجزة عن أنْ تشارك فى جدل السلطة وإستراتيچيات التغيير (ص 575).
وعلى وجه التحديد فإن الطبيعة الانتقائية والجزئية للترجمة، بالتالى، هى التى تتمتع بالأهمية. وتكتب تيموسكو:
وفى قرارات المترجمين –القرارات الكبيرة مثل تلك الخاصة بمتى نترجم، وماذا نترجم، وماذا نحذف من سِجِلِّ الترجمة، وكيف ننقل النغمة فى الترجمة، وما هى مستويات الدقة التى ينبغى اعتمادها، وكيف ننقل فى الترجمة شكلا أدبيا، بالإضافة إلى القرارات الصغيرة المتعلقة بكيف نترجم مفاهيم ثقافية نوعية أو كيف نتهجَّى الأسماء- يمكن تتبُّع استجابة المترجم للنص وإطار عمل الثقافة المصدر من جهة، وللسياق السياسىّ، والاجتماعىّ، والجمالىّ، والأيديولوچىّ، للثقافة المتلقِّية من جهة أخرى (ص 581).
وفى الجدل بين ثقافتىْ المصدر والهدف لا يكون المترجم محايدا، بل يكون بالأحرى منخرطا فيما هو على الأقل جدا نضال "رمزىّ"، أىْ، نضال فى سبيل الرموز. والطابع المتحيِّز والمتحزب للترجمة يُدخلها فيما هو سياسىّ، ويحدد موقعها من حيث ما هو أيديولوچىّ. وتصير الترجمة أداة يمكن أنْ يستفيد منها كلٌّ من المضطهِد والمضطهَد؛ وهذه القدرة ذاتها للترجمة – على الاختيار وإعادة التكوين – هى التى تشكل أهميتها كموضوع للدراسة.
ويتناول الفصل الثانى ترجمة نص رمزىّ من الأدب الآيرلندىّ المبكِّر، "تويِنْ بو كولينْيِى"، نص من مجموعة ألستر انتهى إلى أنْ يكون، مع أن هذا لم يكن بدون صعوبة، بمثابة وثيقة تأسيسية للهوية الثقافية الآيرلندية. ويؤكد سِجِلّ ترجمة "تويِنْ بو كولينْيِى" فصل الآيرلنديِّين عن ثقافتهم وكذلك محاولاتهم لاستعادة تراثهم فى فترة القومية الثقافية التى ميَّزت أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وتكتب تيموسكو: 
وكان الشعب الآيرلندىّ نفسه معزولا عن الوعى بثقافته الخاصة فى شكلها اللغوىّ الأصلىّ، وكانت الترجمة وسيلة انتهوا عن طريقها إلى فَهْم وتفسير أنفسهم، هويتهم، ثقافتهم، أشكالهم الأدبية - وباختصار مكانهم فى العالم. وفى كثير من هذه النواحى، نجد دور الترجمة فى آيرلندا مماثلا ﻟ - وحتى متَّسقا مع - نموذج لدور الترجمة فى بلدان أخرى ذات تاريخ من الاضطهاد الكولونيالىّ والثقافىّ. ولا تملك الشعوب المضطهدة فقط أهدافًا سياسية برنامجية لترجمة المواد الثقافية التراثية، بل إن الترجمة، بعيدًا عن أچندتها السياسية النوعية، مهمة لأنها تحدد الثقافة القومية لأبناء البلاد وللعالم على السواء (ص 153).
وتلاحظ تيموسكو أن تاريخ ترجمات  "تويِنْ بو كولينْيِى" إلى الإنجليزية "[...] كانت مسألة سياسية إلى حد كبير" (ص 153) وأن قرار حذف مقاطع، أو على الأقل ترجمتها بصورة جزئية فقط، نتج عن العجز عن توفيق ما كان يُنظر إليه على أنه فجاجة الأصل، منظورا إليه على أساس القيم (الإنجليزية) السائدة.
ويناقش الفصل التالى التفاعل بين الترجمة والكتابة الإبداعية، وتأثيرهما المتبادل، حيث قدمت الترجمة أمثلة على أشكال تختلف عن أشكال الكتابة المكرَّسة والحداثية التى كانت تؤثر على الطريقة التى تجرى بها ترجمة النصوص:
وقد وُجد نمط من العلاقة المتبادلة بين الترجمة والإبداع الأدبىّ فى آيرلندا فى القرن العشرين. وأَثَّرَتْ ترجماتٌ فى الإبداع الأدبىّ، الذى حوَّل بدوره مستويات الترجمة وجعل أنماطا جديدة من الترجمات ممكنة. والأشكال الآيرلندية التى كانت حافزا لشكلية ييتس، و چويس، وآخرين صارت محوَّلة فى الكتابة باللغة الإنجليزية من جانب مؤلفين آيرلنديين، بحيث تقدِّم بدورها أفقا جديدا لإمكانية ترجمات جديدة للأدب الآيرلندىّ المبكر. ورغم أن ترجمات النصوص الآيرلندية المبكرة تحمل بصمة الاستعمار الكولونيالىّ حتى فترة تأسيس الدولة الآيرلندية، فإن من المفارقات فيما بعد أن البصمة الآيرلندية القوية على الإنتاج الأدبىّ باللغة الإنجليزية كانت رئيسية فى تحويل ذات تعريف وجوهر السرد والشعر باللغة الإنجليزية فى وقت لاحق فى القرن العشرين. وبدورها قادت هذه التطورات إلى تصفية الكولونيالية عن ترجمات الأدب الآيرلندىّ نفسه فى آيرلندا وإلى تمثيل أوفَى للشكلية الآيرلندية المبكرة فى مكانه الأساسىّ، ترجمة النصوص الآيرلندية المبكرة (ص 220-221).
وفى هذا الجدل بين الكتابة والترجمة صارت أشكال بديلة ومحتوى متنوع ممكنين، مما قاد إلى الصراع ضد الإملاءات المكرَّسة والكولونيالية.
ويتناول الفصل 4 الطريقتين الرئيسيتين اللتين جرت ترجمة الأدب الآيرلندىّ المبكِّر بهما: التراث الأكاديمىّ، الذى ظلت فيه الترجمة ثانوية بالنسبة للنص الأصلىّ، والتراث الأدبىّ، حيث كان يتم إجراء تبديلات فى الأسلوب بقصد ترسيخ قِدَم وسمو الأدب والأسطورة الآيرلنديين. وتُثْبِت تيموسكو أنه رغم الاختلافات بين هذين التراثين كان يدعمهما كليهما "التزامٌ دَمْجىٌّ بالمعايير الكولونيالية السائدة للأخلاق والاحتشام" (ص 265). ورغم أن الترجمات الأكاديمية "صارت تنحرف صوب حرْفية مؤلمة" (ص 278)، فقد عمل التراثان معا، حيث كانا يكوِّنان بالفعل نسقا واحدا للترجمة.
وفى الفصل 5، المتعلق بالمسائل التى تطرحها الترجمة من لغة ميتة، اللغة الآيرلندية فى هذه الحالة، تواجه تيموسكو قضية عدم يقين المعنى التى طورها و. أو. كواين W. O. Quine. وكما تكتب المؤلفة: "يعود أولئك المهتمون بالترجمة إلى حُجَّة كواين مرة بعد أخرى لأنها تفترض بطريقة متطرفة للغاية سؤالا يجب أنْ يطرحه كل مترجم: ما هى، إنْ وُجدت، القيود الموجودة على ترجمة تمثيلات نص المصدر وثقافة المصدر؟ وعلى أىّ أساس، إنْ وُجِد، يجرى تفضيل ترجمة على أخرى؟" (ص 300). وهى تستجيب بالدفاع عن يقين determinacy المعنى، عن إمكانية ترسيخ
معايير لتفضيل ترجمة على أخرى، وكذلك القيود على صحة مدرَكة لترجمة، بشرط أنْ تكون مثل هذه المعايير والقيود مبنية على استقصاءات علمية عادية، بما فى ذلك تلك الخاصة بمعارف مثل العلم السياسىّ، وعلم الاقتصاد، وعلم الاجتماع، والأنثروپولوچيا، والتاريخ الأدبىّ، بالإضافة إلى معارف أخرى ذات طابع إنسانىّ، كثيرة منها هى ذاتها مجالات مشكوك فيها، بالطبع (ص 314).
وتُواصل:
والقدرة على تقييم الترجمات وفقا لپارامترات [عناصر وعوامل ثابتة] نوعية أساسية لوجود أىّ تقييم للترجمات بما فى ذلك مقاربة وصفية للترجمة: تُعَدُّ المعايير الضمنية للصحة وإحساسٌ بيقين الترجمة شروطا مسبقة لتحليلات تمثيلات النصوص فى الترجمة، بما فى ذلك الجدل ضمن الترجمات بين الإمپريالية والتمرد (ص 315).
ويبحث الفصل التالى مسألة ترجمة الثقافة؛ بصورة أكثر نوعية، وهو يسأل، ضمن سياق ما بعد الكولونيالية، "[...] كيف يمكن أنْ تبدو ترجمة لا-إمپريالية non-imperializing للثقافة " (ص 327).
ومن النواحى النظرية، فإن القضايا المتصلة بالتمثيل الثقافىّ التى ينبغى بحثها فى هذا الفصل يمكن صياغتها كما يلى. يمكن القول إن الثقافة المصدر كممارسات ثقافية، ومفاهيم، ومعتقدات، وقِيَم، إلخ.. متميزة، لا توجد أو ليس لها أية نظائر قريبة فى ثقافة المتلقِّى. وبعض هذه العناصر لثقافة المصدر ليست مهمة فقط، إنها رئيسية، رمزية للنظرات المستقلة والحرة للثقافة إلى العالم، وبصورة خاصة النظرات إلى العالم التى عززها إطار العمل الثقافىّ فى العهد قبل الكولونيالىّ، فى حالة بلد مثل آيرلندا التى كانت قد صارت مستعمَرة كولونيالية. وإنْ شئنا الدقة فإنه لا توجد، بالطبع، أىّ نظرة وحيدة إلى العالم فى أىّ ثقافة، بل أسرة من النظرات ذات الصلة والتى يمكن أنْ تترابط مع عوامل مثل الطبقة، والدين، والنوع، والجيل، وتجربة الحياة؛ وهذه بوجه خاص هى حالة أمة لها تاريخ طويل يشمل سكانا غير متجانسين يتسمون بالتنوع اللغوىّ وبميراث صراع عسكرىّ وسياسىّ، كما هو الحال فى آيرلندا. وفى وضع كهذا توجد أسرة نظرات إلى العالم تتميز بالتعدد أكثر مما بالتجانس، تحقق ضمنها قِيَمٌ، ومعتقدات، وتفاهمات بعينها السيطرة، وتبقى أخرى خلافية.
والمفاهيم، والمعتقدات، والممارسات، من النوع الذى تجرى مناقشته هنا، رئيسية لفكرة الثقافة ذاتها، حيث ترتكز عليها الخبرة الفردية والأبنية الثقافية؛ ويمكن التعبير عنها فى اللغة، غير أنها أيضا تتشكل وتُبْنَى باللغة (ص 327-328).
وبالاستفادة بمفهوم أبيتيس habitus عند پيير بوردييه Pierre Bourdieu، تشير تيموسكو إلى أهمية ما تسميه "مفاهيم التوقيع [البصمة]" (ص 328) ضمن ثقافةٍ وترجمتها. وبالعودة إلى  "تويِنْ بو كولينْيِى"، تبحث ثلاث ترجمات (لكل من ستانديش أوجريدى Standish O Grady [1878-1880]، و أوجوستا جريجورى Augusta Gregory [1902]، و توماس كينسيلا Thomas Kinsella [1969]) ومعالجتهم لخمسة مفاهيم توقيع أساسية: شِيذْ síd (الاعتقاد فى عالم آخر)، و رياسدراذ ríastrad (تحوُّل البطل فى مجرى المعركة)، و كيشْ ces (حالة الخمول التى تصيب البطل)، و تويِنْ táin (الغارة على الأبقار)، و جيشْ geis (وصايا إيجابية، تحريمات). ويجرى تشخيص إستراتيچية أوجريدى على أنها دَمْجِيَّة:
[...] يجرى فى سياقها تفسير المفاهيم الثقافية الآيرلندية باستخدام أقرب المفاهيم إليها فى ثقافة اللغة الإنجليزية. [...] وعلى النقيض من ذلك، يمكن تسمية إستراتيچية ترجمة جريجورى إستراتيچية جدلية، يجرى فى سياقها تقديم تعريف للثقافة الآيرلندية، غير أن ذلك التعريف مقيَّد على السواء بالتزامه ببعض سمات التعريف الإنجليزىّ السائد للثقافة وأيضا وبصورة مفارقة باعتراضه ذاته على، وتمرده ضد، الثقافة السائدة. [...] وربما أمكن أنْ نصف إستراتيچية ترجمة كينسيلا بأنها إستراتيچية مُضلِّلة [خادعة]: إنه يجعل الاختلاف الثقافىّ جليًّا وصريحا دون التمهيد له من خلال التفسير (ص 341-344)
وتربط تيموسكو هذه الإستراتيچيات المختلفة بالعلاقات بين المستعمِرين والمستعمَرين:
تدعو الإستراتيچيات التى يستخدمها أوجريدى و جريجورى و كينسيلا لتمثيل الثقافة الآيرلندية المبكرة إلى المقارنة مع مراحل فى البحث عن هوية قومية ضمن العملية الأوسع المتمثلة فى الاستعمار الكولونيالىّ وتصفية الكولونيالية. ويمكن تشبيه إستراتيچية الدَّمْج التى يستخدمها أوجريدى بغرس معايير الاستعماريِّين الكولونياليِّين فى عقليةٍ مستعمَرةٍ كولونياليًّا. وعبْر انتحال قِيَم السلطة الكولونيالية وإغراق المعايير القومية فى المعايير الخاصة بالمستعمِر الكولونيالىّ، تصير الذات المستعمَرة كولونياليًّا مندمجة باعتبارها الآخر، وتكون، بمعنى ما، مرفوضة. ويمكن مقارنة الإستراتيچية الثقافية للترجمة، إستراتيچية جريجورى الجدلية، بنشوء تعريف للهوية القومية من المفارقات أنه يرتبط بتعريف المستعمِر الكولونيالىّ؛ وما من تعريف مستقل للذات يمكن أنْ ينشأ لأن الهوية القومية يجرى تعريفها فى تعارض مع المستعمِر الكولونيالىّ، وهى مقيَّدة بشروط الجدال التى تقترحها السلطة الكولونيالية. ومثل هذه المرحلة يمكن أنْ تدوم طويلا بعد أنْ تكون السيادة قد تحققت من جانب مستعمَرة سابقة، مما يؤخر نشوء أىّ إحساس مستقل حقيقىّ بالهوية القومية أو الاستقلال الذاتىّ الثقافىّ. وأخيرا، فبالإستراتيچية الحَرْفية للترجمة التى يستخدمها كينسيلا يمكن تشبيه نشأة هوية جرت تصفية الاستعمار عنها ويجرى فيها تجاوُز العلاقة المزدوجة للمستعمَر/المستعمِر، ويجرى الشروع فى بحث جديد عن هوية مستقلة ذاتيا، لا تعرقلها شروط المستعمِر الكولونيالىّ أو النزعة القومية الثنائية الجدلية. وفى هويةٍ جرت تصفية الكولونيالية عنها كهذه، يمكن أيضا تعبئة كل من الثقافة المحلية والثقافة الاستعمارية الكولونيالية ودَمْجهما بحيث تشكلان كيانا جديدا (ص 348-349).
 
وتشير تيموسكو إلى أن مفاهيم التوقيع تمثل فقط جانبا ينبغى بحثه، " پاراميترًا [عاملا] واحدا فقط يمكن الحكم به على إستراتيچية ترجمة بأنها دَمْجية، أو جدلية، أو ظاهرية [خادعة]" (ص 351) ويجب بحثها جنبا إلى جنب مع "ومعالجة العناصر الأدبية التى تشمل النوع الأدبىّ، أو الشكل، أو الشخصيات، أو الحبكة، ونماذج اللغة؛ والتكافؤات الأيديولوچية" (ص 351).
ويبحث الفصل 7 ترجمة الفكاهة، ويشير إلى الرقابة الذاتية من جانب المترجمين الآيرلنديِّين، الذين كانت رغبتهم تتمثل فى تقديم نص لا يعزز القوالب الجاهزة (الكلاشيهات) الإنجليزية – وعلى وجه الخصوص كلاشيه آيرلندىّ الكوميديا. وبالتالى محاولة التقليل من شأن الكوميديا. 
وقد وجد القوميون – سواء عازمين على بناء حركة سياسية موحَّدة أو قائمين بتعبئة الشعب فى عصيان مسلَّح - أن من الجوهرىّ أنْ تعتزّ الأمة بتراثها وأنْ يجرى تطوير صورة للذات self image من شأنها أنْ تجعل احترام الذات، والعمل الموحَّد، والاستقلال الذاتىّ، والمقاومة، أمورا ممكنة. وكان هذا يعنى فى الممارسة أنه لا شيء آيرلنديًّا يمكن نقدُه ضمن إطار العمل ذى الطابع القومىّ وأنه لا شيء ضارًّا بالصورة الآيرلندية يمكن نشره. ولهذا فإن البرنامج القومىّ الطابع جعل من القضاء على صورة آيرلندىّ المسرح أمرًا إلزاميًّا (ص 411).
وبالتالى فإن المقاطع التى بدا أنها تؤيِّد القوالب الجاهزة للمستعمِرين لم تكن تُتَرْجَم، غير أن هذا أدى إلى النتيجة المناقضة المتمثلة فى حذف العناصر الأكثر تشويقا للنصوص. "وتتمثل مفارقة تشويه العناصر الفكاهية فى الأدب الآيرلندىّ المبكر فى الترجمة الإنجليزية فى واقع أن الكوميديا هى أحد الاهتمامات الرئيسية للأدب الآيرلندىّ، ويُسْهم حَذْف هذه السِّمة للنصوص فى التهميش المتواصل للأدب الآيرلندىّ المبكر فى القواعد المعيارية المكرَّسة للأدب الغربىّ" (ص 419).
ويتناول الفصل التالى ترجمة أسماء الأعلام ومسألة التوحيد القياسىّ، وطرح مسائل الأيديولوچيا على "المستوى الجزئىّ" microlevel  للنص. وتتورط الأسماء وترجمتها فى مفارقة:
فمن ناحية من المستحيل ترجمة المعنى الدلالىّ للأسماء فى النصوص الآيرلندية (ونصوص ثقافات أخرى يكون فيها للأسماء معنى دلالىّ)  دون فقدان إحساس بأننا أمام "اسم" فى الإنجليزية باعتباره لقبا مُبْهَمًا دلاليًّا أو دون الإيحاء بأن شخصيات وثقافة النص ذات مكانة ثقافية أدنى. ومن المستحيل، من ناحية أخرى، حذْف المعانى الدلالية للأسماء فى النصوص الآيرلندية دون فقدان قَدْرٍ كبير من المعلومات التى هى جوهرية بالنسبة لمعنى النص ودون التخلِّى عن جانبٍ مُهِمًّ من جوانب الثقافة (ص 460).
وعلى هذا النحو، "إذا تمّ نقل الاسم من حيث التهجئة، ضاع الاسم لأنه يتمّ خلْق اسم جديد فونولوچيًّا؛ وإذا تمت ترجمة الاسم، ضاع الاسم لأنه يتمّ خلْق اسم جديد من ناحية التهجئة أو من الناحية الدلالية" (ص 470).
وأخيرا تبحث المؤلفة المقاربة الفيلولوچية للنصوص الآيرلندية المبكِّرة وترى ضمن هذه المقاربة علاقة بالإمپريالية:
وليس من المصادفة أن الفيلولوچيا كفرع من فروع المعرفة كانت سائدة فى أوروپا خلال القرن الذى شهد اندماج coalescence الإمپريالية الكولونيالية الأوروپية: مثل هذه الإمپريالية تم توسيعها فى الزمان وكذلك فى المكان جزئيًّا من خلال الاستعمار الكولونيالىّ للماضى عن طريق الفيلولوچيا، من خلال الممارسة الاختزالية للترجمة التى أصِفُها الآن.
وعن طريق التدريب، والمزاج، والرسالة، يُقارِب الفيلولوچىّ النصوص بحيث يجعلها مفهومة، مُزِيلا الصعوبة والإبهام (Dunkelheit) (ص 513-514).
 
ويجرى الهبوط بالنصوص الأدبية إلى مستوى النصوص غير الأدبية:
[...] حتى إذا كانت الفصاحة هى المعيار الشائع للترجمات الشعبية والمتسمة بطابع الثقافة الجماهيرية كما أكد ڤينوتى (Venuti 1992, 1995)، فإن مقاربات فيلولوچية إلى درجة عالية للغاية بقيتْ المعيار لترجمة النصوص القومية لثقافات أقلية أو غير غربية، منها معظم الثقافات ما بعد الكولونيالية. وتحمل الفيلولوچيا معها المقدمات المنطقية لأصولها الثقافية. وعبر مواضع سكوت الناشر والمترجم الوضعىّ، يجرى مَحْوُ التباسات وصعوبات النص المهمَّش، وكذلك قابليات للخطأ وانعدامات اليقين عند المترجم على السواء. ويؤبِّد هذا المسار المثل الأعلى الكلىّ الرؤية [أو: الشامل المراقبة] panoptic للتحديق الإمپريالىّ، الذى يَهَبُ المعرفة الكاملة للمراقب/المترجم (التى لا يعيبها سوى "التحريفات corruptions" فى النص المصدر)، وفى الوقت نفسه يجرى الهبوط بمكانة النص المطلوب ترجمته من قطعة أدبية إلى عمل غير أدبىّ. وحتى إذا كانت تفشل فى تمثيل القوة الجمالية للأعمال المعيارية المكرَّسة فإن الفيلولوچيا تُوقِعُ موضوع بحثها فى الشَّرَك، مُدْرِجةً إياه داخل إطار عمل بحثىّ شكَّلَتْهُ القيم الغربية السائدة. وتُحْكِم الفيلولوچيا تثبيت النصوص ما بعد الكولونيالية داخل إطار عمل وضعىّ، متطلبةً بذلك من الأدب موضوع البحث أنْ يتوافق مع تلك القِيَم، خافضًا صوت أىّ تحديات أو بدائل للعقلانية الغربية التى قد تقدمها النصوص. وفى محاولة لأنْ تكون دقيقة و"موضوعية"، تقوم الفيلولوچيا بإعادة تمثيل للمناورة الكولونيالية؛ إنها حتمية لأن القِيَم مشفَّرة فى عمق الممارسات الفيلولوچية نفسها (ص 535).
هذا إذن كتاب مهمّ فى مجال دراسات الترجمة، يشتبك مع بعض المجادلات الرئيسية الراهنة فى نظرية الترجمة بالإضافة إلى خصوصيات وتأثيرات محلية لممارسة الترجمة. والحجج التى يجرى تقديمها، والمرتكزة على خصوصيات ترجمة الأدب الآيرلندىّ المبكِّر إلى الإنجليزية، متطورة، ومتماسكة، ومُقْنِعة. وأنا أنصح بقوة بهذا الكتاب، خاصةً لنجاح المؤلفة فى العناية بالتفاصيل فى الوقت نفسه الذى تشتبك فيه مع اهتمامات نظرية. ومن المؤكد أن القراء سوف يتعلمون من كلا الجانبين.
 
 
 
ملاحق
 
 
الملحق الأول
كتابات عن أعمال عربية
 
بقلم الدكتورة آمال فريد، الأستاذ المحاضر بكلية الآداب جامعة القاهرة: ثلاثة فصول من كتابها "پانوراما الأدب العربى المعاصر"، والكتاب صادر بالفرنسية عن هيئة الكتاب، بالقاهرة، Amal Farid: Panorama de la Litterature Arabe Contemporaine, L Organisation Egyptienne Générale du Livre, 1978.
والكتاب مُهدى
(إلى ذكرى أبى الذى جعلنى أعرف
وأحب الأدب العربى
 إلى ذكرى طه حسين)
 
عن مجموعة قصص قصيرة لكلٍّ من
ادوار الخراط وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى     
 
 
33
ادوار الخراط: ساعات الكبرياء
كتب ادوار الخراط قصته الأولى فى عام 1943: ولم يكن لديه آنذاك سوى سبعة عشر عاما! ومنذ ذلك الحين لم يكف عن كتابة الدراسات النقدية، أو ترجمة قصائد الشعر، والروايات، والأعمال المسرحية. غير أنه لم ينشر إلا فى 1959 مجموعته القصصية الأولى "حيطان عالية" التى جمع فيها اثنتى عشرة قصة قصيرة. وقد رحّب بها النقِّاد ترحيبا حارّا حماسيّا لأنها قدّمت شيئا أصيلا، غير متوقع فى أدبنا العربى المعاصر. وقد تعرّف فيه كُتّاب كبار مثل يحيى حقى و نجيب محفوظ على كاتب موهوب يُسمعنا صوتا جديدا ولأسلوبه مذاق خاصّ.
وقد نوّه محمد مندور أحدُ أبرز نقّادنا نافذى النظر بالثقافة المزدوجة العربية والغربية ﻟ ادوار الخرّاط. وهو يدين لثقافته العربية بلغة ذات ثراء مذهل وهو يستعملها بأستاذيّة كاملة. وفيما يتعلق بثقافته الغربية فقد سمحت له باكتشاف كبار أساتذة الآداب الأجنبية وعلى وجه الخصوص تقنيات الرواية الجديدة.
والواقع أن ادوار الخرّاط يعطى أهمية بالغة للوصف ولا شك فى أنه ينتمى إلى "مدرسة النظرة" التى تعطى للأشياء أهمية أكبر مما تُعطى للكائنات البشرية. وكما هو الحال عند روب-جرييه، على سبيل المثال، نشهد فى قصص ادوار الخرّاط امتزاج العالم الخارجى بالعالم الداخلى، والموضوعى بالذاتى. وهو يمزج كذلك وقائع فعليّة معيشة بوقائع خيالية، مُتصوَّرة. ويشعر المرء أن بطله، شأنه شأن بطل الرواية الجديدة، قد وقع فى قلب دوّامة، وأنه ضائع داخل متاهة جُرِف القارئ معه إلى داخلها. ثم إنه لم يعد لدى الخرّاط خيط أريانى... إن القارئ يحار أمام نص أراده المؤلف مُحيرّا... زدْ على ذلك أنه، عندما يُطلب منه توضيح، يجيب دائما بقوله: "لا أدرى. أقرءوا." وبالتالى سيجد كل قارئ هناك إجابة خاصّة به. وفى نهاية القصة، لا يكون قد تحقّق شيء، ويظلّ كل شيء جائزا؛ ولن يجد المرء ما كان يبحث عنه...
وفى عام 1972، نشر ادوار الخرّاط فى بيروت، دار الآداب، مجموعة قصصية ثانية هى ساعات الكبرياء: وقد جلبت له هذه المجموعة جائزة الدولة التشجيعية فى عام 1973. والواقع أن قراءة قصص المجموعة السبعة (تحت الجامع - آخر السكة - الأميرة والحصان - جُرح مفتوح - البرج القديم - محطة السكة الحديد - فى الشوارع) تتركنا متأثّرين حقا بالجوّ الذى يلُفّها. وفى عالم عبثى، قريب جدّا لعالم كامو نشهد صراع الإنسان مع قوى القدر التى لا ترحم إنه صراع يشعر فيه الإنسان مقدّما بأنه مهزوم لكنه يناضل رغم ذلك، إنه سيزيف جديد. ويجد الإنسان نفسه مسحوقا تحت قدر محتوم لا يرحم غير أنه لا يتخلّى عن النضال... ونشعر بأن المؤلّف يرتفع من الشقاء الخاص، الفردى، إلى الشرّ العريق الذى يفترس البشر. وهكذا، فى القصة المعنونة تحت الجامع، ينتزع صبى صغير من فتاة صغيرة مصاصتها ويبتعد جاريا. هذا الحادث الصغير العادىّ المبتذل، ومعاناة هذه الفتاة الصغيرة، يجرى دمجهما فى سياق إنسانى، يجرى توسيعهما ليشملا كل ألم الإنسان الذى يقع ضحية ظلم من المظالم. وألم هذه الفتاة الصغيرة "ينبض به قلب واحد ممدود داخل الأجيال جميعا"، كما يقول لنا المؤلّف. هناك إذن وحدة فى الألم الإنسانى عبر المكان والزمان. وعند ادوار الخرّاط نجد لحظات الزمان الثلاث متشابكة تشابكا وثيقا. ولا تكف الذكريات، المعيشة أو المتصوَّرة عن التدفّق، مموِّهة الحاضر. زدْ على ذلك أن الحاضر مُمَسْرَح بصفة خاصة: لا يحدّثنا المؤلّف إلا عن اللحظات المأساوية لمصير من المصائر. والحاضر مثقل دائما بالشقاء؛ مَا مِنْ لحظة وفاق فى هذا الكون! ويغمر المرء شعور بأنه يعيش كابوسا...
وفى قصة جرح مفتوح نرى البطلة "أجيّة" تستحم فى دمها. لكن من الذى هاجمها؟ عصابة من قطاع الطرق؟ قطيع من الذئاب؟ لا نعرف ذلك بصورة جليّة واضحة. وليس لذلك أهمية. زدْ على ذلك أننا لا نعرف كذلك ما هى علاقة "أجيّة" بالبطل: أهى زوجته؛ أم عشيقته، أم أمّه؟ إنها كلّ ذلك معا؛ إنها المرأة المحبوبة. إنها الأرض، إنها الوطن. وتكشف السطور التالية هذه الصلة المقدّسة التى تربطه بها: "كيف يمكن أن أتركها، فى دمى هى، فى عظامى، مجدولة بنسيج لحمى، التراب الذى فى يديها عالق بجدران قلبى. وجهى لا يعرف له مأوى إلا على فخديها، وتحت ثدييها. هناك، هناك فقط، على أرض لحمها الدمثة بَيْتى، فى تلك الخصوبة الكثيفة الزهمة. هناك تسقط عنىّ مخاوفى وعذاباتى، وأجد راحتى وأمنى".
وأعتقد أنه لن يكون أمرا زائفا أن نرى فى البطلة رمز الوطن الذى أراد المؤلف أن يتناول بحذر هزيمته فى عام 1967. وهكذا فإنه عندما ينوح على أجيّة الجريحة النازفة إنما ينوح أيضا على وطنه الذى تسربل بالعار: "كيف امتُهنت؟ كيف امتُهنّا؟ (...) يا بنى، كيف امتهنوك؟ (...) كيف سقطت؟ أبكى، كالطفل (...) كيف أبرأ؟ وتبرأين؟ بكاء السقوط يا حبّى، والامتهان. كيف تجفّ الدموع؟"
لقد سقطت أجيّة لكنها طاهرة؛ واغتُصبت لكنها شهيدة. وهكذا يستدعى المؤلف بكثير من الحذر شقاء وطنه المهزوم من خلال السرد المؤثر لسقوط أجيّة.
وفى القصة المعنونة "محطة السكة الحديد" يجد البطل - الذى لا اسم له - شأنه فى ذلك شأن أغلب أبطال الخرّاط - يجد البطل نفسه داخل قطار. إنه داخل عربة خانقة نشعر أننا معه فيها بفضل الأوصاف التفصيلية التى يقدّمها المؤلف. والواقع أن هذه الأوصاف تخاطب كافة حواسّنا دفعة واحدة. وتختلط الأصوات والصور والروائح جميعا. ويهتزّ المرء لحركة القطار، ويشعر بالانزعاج بسبب اختلاط كلّ هذه الموجودات التى تضغط علينا من كل جانب وبالألفة التى دخلناها على الرغم منا... وهذا التصوير الواقعى والحرّ للغاية يجعلنا نفكر فى تلك العربة الأخرى التى صَحِبْنَا فيها أيضا مُسافر السيد بوتور Butor فى "التغيير". والجوّ واحد فى العملين غير أن بطل ادوار الخرّاط يعانى من مشكلة مختلفة. إنه على وشك أن يعقد خطوبته ويحمل فى جيبه الماسة التى ينبغى أن يقدّمها إلى خطيبته. غير أنه يدرك فى اللحظة التى يدخل فيها القطار المحطة أنه فقد ماسته! والآن وقد استولى عليه الذعر، يقفز كالمجنون بحثا عن الخاتم المفقود. وترمز هذه الماسة إلى أنه يملك ما هو نفيس فى هذه الحياة. فإذا فقده فإنما يفقد حياته ذاتها. وهذه الماسة هى "حجر خلاصه وصخرة نوره". ويصوّر لنا المؤلّف البحث المحموم للبطل. فهو يندفع نحو القطار الذى نزل منه لتوّه، وهو يجرى فوق القضبان، ويسقط، وينهض، ويسقط مرة أخرى، ويفقد وعيه، وأثناء كابوس مرعب يرى نفسه مدفونا تحت جثث مجمّدة مبتورة الأعضاء. وفى هذه الصفحات، يعطينا المؤلف، بفضل مفردات ذات ثراء مذهل، بعبارات تثير الرعب، وبفضل ايقاع لاهث، إحساسا بأننا نعيش هذا الكابوس! وتنتهى القصة بهذه الرؤية المهلوسة: البطل محكوم عليه بالبقاء مغروزا تحت تلك الجثث المجمّدة التى تبدو، مع ذلك أنها لا تزال تنبض... هل سيجد ماسته ذات يوم؟ لا نعرف شيئا عن ذلك. غير أنه يمكن للعناد والصلابة اللّذين أبداهما أن يتركا لنا بارقة أمل... ومادامت الحياة قائمة داخل الجثث ذاتها، ومادام النور ينفذ عبر الظلمات الأشدّ كثافة، فلا بد أن ينير أمل لا يُقهر قلوبنا دائما.
غير أننا نلقى هذا الجوّ الكابوسىّ مرّة أخرى فى القصّة الأخيرة فى المجموعة وهى القصة المعنونة "فى الشوارع". وهذه القصة تبدأ بهذه الأسطر الملغزة: "كانت العينان اللتان تنظران إليه قاسيتين، معاديتين، يعرفهما طول عمره. تواجهانه، بصمت، من غير لغة. ولا يريد أن يردّ عليهما". مَنْ المقصود هنا؟ ومن الذى ينظر إلى هذا الشخص؟ وتوضِّح لنا الجملة التالية أن هناك رجلا - ليس له اسم شأنه شأن أغلب أبطال الخرّاط - يقف أمام مرآة؛ وهكذا فعيناه، هو، هما اللتان تنظران إليه. يرتدى هذا الشخص ملابسه ويخرج إلى الشوارع. ونعلم أن المدينة بأسرها فى حالة قلق. ويجرى البحث عن سفاح قد يكون وحشا. لا أحد يعرف على وجه الدقة. والشخص الذى يشير المؤلّف إليه بالضمير "هو" يبدو ضائعا فى المدينة، فى متاهة الشوارع. ونتابعه عندما يركب الأتوبيس. ونسمع الضوضاء المُصِمَّة للمدينة، والناس، وصرير الفرامل، ونرى الجمهور المضغوط، مبهور الأنفاس، الذى يرجّه الأتوبيس الذى يشقّ طريقه بعناء فى التراب، فى الوحل. ويحس المرء بالاختناق برائحة التراب والعفونة. إنه إعصار من الضوضاء، والروائح، والصور؛ ونحسّ بالحياة المذهلة التى تجرفنا مثل قشة فى مهب الريح. ونرافق البطل فى الشوارع، وفى الميدان الكبير. إلى أين يذهب؟ ما هى وِجْهته؟ لا أحد يعرف، لكنه ينبغى أن يسير. "ذهنه هادئ، فى بؤرة ثابتة من حرارة ساطعة، يَعُدُّ عُدّته لصراع لا يعرف أين يحدث، ولا كيف يخرج منه، ولكنه يعرف أنه سيذهب إليه، طائعا أوْ برغمه، ويخور قلبه عندما تطوف بذهنه نتائجه، لا يسلِّم أبدا بها، ولكنه يعرف أنها محتومة وضرورية، أيّا كانت. ويعرف أنه، طائعا أوْ برغمه، سيخوض غمرته".
وهكذا يهيمن قدرُ محتوم على عالم ادوار الخرّاط. غير أن بطله لا يتخلّى أبدا عن النضال. ويتواصل البحث عن الوحش. وهذا الوحش فى كل مكان بالمدينة، لكنه أيضا داخل كلّ واحد منّا. ولا بد أن نسير دائما على الرغم منّا. ويتحاور البطل مع مُحاور مُبهم ليس شخصا آخر سواه هو ذاته: "قال له إن المركب لا بدّ أن يسير؛ قال له: كلّنا لا بد أن نمرّ من الميدان...". وهكذا فليس لنا خيار. "الوحش سفينة تبحر بنا فى مياه مجهولة. والعالم وحش، والألم".
ويواصل البطل سيره وكأنما فى حلم. ويناديه صوت ( وأخيرا يعطى المؤلف بطله اسمه الشخصىّ الأوّل: ادوار). غير أن البطل لم يعد يعرف نفسه. أصبح اسمه غريبا عنه. ويواصل سيره وكأنه يسير نائما. "ودون أن يفتح عينيه، كان يبدو له أنّ البيت بعيد"...
تلك هى الكلمات الأخيرة فى القصة وكذلك فى مجموعة الخرّاط. "البيت بعيد". غير أننا لابدّ أن نواصل السير أيّا كانت الأهوال التى قد نلقاها فى الطريق، رغم الأخطار، ورغم العقبات. وهكذا يوجد فى العالم القاتم ﻟ ادوار الخرّاط ضوء مُترنحِّ وبعيد يسير البطل نحوه متحسِّسا طريقه بعناء.
ولاشك فى أن الخرّاط يتميّز بين كُتّاب القصة القصيرة العربية الحديثة. الذين اتُّفق على تسميتهم جيل 1968 - بكونه خالق جوّ فذّ، ويتميز على وجه الخصوص بأسلوبه. ويشبه تصويره تطريزا رائعا لعمل دقيق وصعب، بألوان داكنة تارة، وزاهية تارة أخرى. أمّا التفاصيل الهائلة التى يقدّمها إلينا فتُعبِّر عنها كلمات تتجمع تحت ريشته فى تدفُّق رائع، تدفُّق يجرف القارئ معه، ويذهله، بل يرهقه أحيانا غير أنه يُثريه دائما! ومع أن ادوار الخرّاط لم يُصدر إلى الآن سوى مجموعتين من القصص القصيرة فالحقيقة أنه يمكننا القول إنه كاتب وُلد كبيرا.
إشارة
1: ميشيل بوتور michel butor، كاتب فرنسى ولد عام 1926 وقد نُشرت القصة المذكورة عام 1957 - المترجم.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
34:
إبراهيم أصلان - بحيرة المساء
 
 القصة القصيرة التى أسف الناس لتدهورها بل موتها، عرفت على العكس من ذلك، منذ عدة أعوام، فترة من الفترات الأكثر تألقا فى تاريخها. فمع عام 1968 - وهو العام الذى شهد، فى فرنسا كما فى مصر، رفض وتمرُّد الشباب - ظهر جيل جديد من الكتاب. جيل عقد عزمه على التعبير عن قلق وأسى، طموحات وأحلام الشباب؛ جيل اضطلع بمسؤولية كشف المشكلات الجديدة والصراعات الجديدة التى تُمزِّق عصرنا الحديث. وهكذا كان هناك إحساس بالحاجة إلى التجديد فى الأدب: إن وسائل تعبير جديدة أصبحت أمرا لا غنًى عنه. ويتحرّر الشعر العربى من نير القواعد الكلاسيكية ويكتب الشعراء الشبان منذ الآن "شعرا حرا". وتحدُث ثورة مماثلة فى القصة القصيرة وتصبح الشكل المفضل للتعبير لدى جيل 68. فيم تتمثل هذه الثورة فى القصة القصيرة العربية المعاصرة، وهى ثورة ينظر إليها بعض النقاد على أنها "نهضة" حقيقية؟ هذا ما سنراه فى الحال ونحن نتصفح معا هذه المجموعة القصصية ﻟ إبراهيم أصلان وهو أحد الكتاب الشبان الأكثر تمثيلا لجيل 68 هذا.
     فى هذه المجموعة، الصادرة فى 1971، جمع إبراهيم أصلان أربعة عشر قصة قصيرة سبق نشرها فى المجلات أو الصحف اليومية العربية فيما بين عامى 1965 و 1969. ولن نذكر سوى بعض عناوينها: الملهى القديم، البحث عن عنوان، بحيرة المساء، الرغبة فى البكاء، فى جوار رجل ضرير، المستأجر، العازف، الطوّاف، إلخ.. ومنذ الصفحات الأولى للمجموعة نجد مذاقا خاصا متميزا؛ يحس المرء بأنه نُقل إلى عالم غريب، شبيه بالوهم. ولا شك فى أن أصلان خالق فذ للجوّ. وهذا الجوّ قريب للغاية من ذلك الذى يلف عالم كافكا، عالم "الهناك" هذا. وقد استشهد ألان روب-جرييه، وهو يكتب مقالًا عن بيكيت، فى صدر مقاله بهذا القول المنسوب إلى هايدجر: "قدر الإنسان، هو أن يكون هناك".... وعندما تحدث عن عالمه الروائى الخاص قال روب-جرييه: "الإشارات والموضوعات ستكون "هناك" قبل أن تكون شيئا مّا.
 وعالم "الهناك" هذا، عالم كافكا هذا حيث الإنسان سلبىّ، ولمّاح، وغريب عن كل ما يحيط به، وحيث تملك الأشياء وحدها حضورا هاذيا، وحيث تمارس هذه الأشياء سحرا غريبا، هذا العالم هو أيضا عالم إبراهيم أصلان. ولا شك فى أن كُتاب جيل 1968 كانوا متأثرين ﺑ ألبير كامو: كان أغلب أبطالهم ينتمون إلى ميرسو. غير أنهم، عدا كامو، اكتشفوا كافكا، روب-جرييه، ساروت، الذين لهم تأثير ملحوظ للغاية فى القصص القصيرة العربية لهذا الجيل؛ على مستوى المحتوى وعلى مستوى التعبير على حدّ سواء.
والواقع أن أصلان، شأنه شأن كُتّاب الرواية الجديدة، ينتمى إلى ما يسمى بمدرسة "النظرة"، وهى تلك المدرسة التى وضعت نصب عينيها أن تقدم تسجيلا دقيقا، شبه فوتوغرافىّ، للأشياء والتى أعطت للحضور الموضوعى لهذه الأشياء الأهمية التى كانت تُعْطَى منذ عهد قريب للسيكولوچيا وللمغزى فى الرواية أو القصة القصيرة التقليديتين. ومع أصلان تدخل عالما مجرّدا من الطابع الإنسانى للشخصيات فيه حضور أقل من الأشياء. زدْ على هذا أن هذه الشخصيات، وهذا دليل على الأهمية الضئيلة التى يعطيها المؤلف إياها، لا تُسمَّى بأسماء محدّدة؛ مطلقا تقريبا. وعندما يخبرنا الكاتب بالاسم الأوّل لشخصية من هذه الشخصيات مثل هذا السيد، بطل قصة "التحرر من العطش"، فإنه يظل متواريا ومُبهما حتى نهاية القصة.
وإليك ملاحظة أخرى حول الشخصيات: إنها تُختزل إلى بعض الأنماط التى نلقاها فى كل القصص تقريبا. هناك قبل كل شيء الراوى الذى يختلط بكل جلاء بالكاتب. إنه كائن لمّاح وتعس تضجره صُحبة الآخرين. وهو يُلقى على الكائنات والأشياء التى تحيط به نظرة لا مبالية، لمّاحة، مجرّدة من الانفعال؛ إنه كائن لا مبالٍ = لا يعترض على شيء: إنه يقنع بكونه "هناك".... وهو يلاحظ ويصف بأدق التفاصيل ما يراه دون أن يكشف مطلقا عن مشاعره. وعلى مستوى الأسلوب، فإن هذا الكاتب الذى يتوخى عدم الانفعال يختار بالتالى لغة محايدة: كلمات تفتقر إلى الحياة وإلى الانفعال لتوصيل صورة للعالم بلا روح الذى يعيش فيه. وإيقاع السرد بطيء بصورة مقصودة؛ والحوار - وهو أسلوب يستخدمه أصلان كثيرا جدا - هزيل للغاية: يتبادل المتحاورون بالكاد بضع كلمات لا تكشف شيئا بصدد ما يدور داخل نفسهم...
وفيما عدا نمط الراوى، وهو نمط يتواتر غالبا، هناك نمط المجنون - وهو مجنون يبدو عاقلا تماما - الذى ينهمك فى التحادث، ويصغى باهتمام إلى ما يُقال له والذى لا يكتشف المرء جنونه إلا فى نهاية القصة إمّا عندما ينهض بغتة ويتجرّد من ثيابه ليقف عاريا كما ولدته أمه، أو عندما يتضح أنه تستحوذ عليه فكرة ثابتة غير معقولة مطلقا. وهكذا يبدو أن عالم أصلان يتذبذب بين العقل والجنون. ويظل أبطاله أغلب الوقت مشدودين بين بديلين: البقاء/الرحيل؛ الدخول/الخروج، إلخ... وهناك واقع مضحك: يحدث كثيرا أن تعقد مقابلة من الناحية الجسمانية بين الشخصيات؛ وعندئذ يصوِّرها الكاتب هكذا: "النحيل" و"البدين"... وينجذب انتباه القارئ نحو الجانب الجسمانىّ أكثر منه نحو سيكولوچية الشخصية التى يجرى إهمالها عمدا.
ولا تتغير مشاهد القصص كثيرا: نكون فى أغلب الأحيان داخل مقهى شعبىّ مناضده مرصوصة على الرصيف أو حتى فى زقاق مهجور حيث يتحادث صديقان، دائما على الرصيف أو أيضا داخل غرفة مفروشة على سطح.
وواقع أن عالم إبراهيم أصلان مختزل على هذا النحو يأخذه عليه بعضهم، مطالبا إياه بتنويع أعماله، حتى لا تنضب موهبته مطلقا. غير أن لدينا انطباعا بأن هذا التبسيط وهذا الإفقار يريدهما الكاتب. وهذه الكائنات التى نلقاها فى كل قصة، وهذه الأوساط التى هى ذاتها دائما، تسهم فى خلق جوّ أكثر تأثيرا حقا. وهذه الشخصيات بلا اسم، وبلا شخصية خصوصية تجسّد سعى الإنسان الهائم على وجهه فى عالم عبثى ورتيب والمحكوم على كل مساعيه للهرب بالإخفاق.
وهكذا نرى فى قصة "فى جوار رجل ضرير" رجلا أصابه الضجر. ففى حياته لا يحدث شيء أو تحدث أشياء قليلة جدا. وهو يدرك بوضوح لا جدوى، وتفاهة، وجوده. والقصة، التى تتخذ شكل يوميات يكتبها البطل، تبدأ بهذه الكلمات: "لم يحدث شيء". ورغبة فى كسر هذه الرتابة، ولإحساسه بحاجة إلى الهرب، يهجر البطل بيت الأسرة ويستأجر غرفة مفروشة على سطح بيت مالكه رجل ضرير. غير أنه، هناك أيضا، ليس سعيدا؛ ولا يصل إلى التكيف مع حياته الجديدة. ثم ها هو المسافر بلا حقائب والذى لا يملك فى هذه الدنيا سوى قوقعة يستخدمها منفضة سجائر، وتمثال صغير من الخشب... ها هو يرحل... وهذا الشاب، مقطوع الصلات، اللمّاح، لديه مشكلات وهموم وأمانىّ الإنسان المعاصر. وإذا كان حاضره أشدّ بؤسا من ماضيه فماذا سيكون مستقبله؟ وتخبرنا السطور الأخيرة من القصة بأن قوقعته انكسرت، لكنْ يبقى له على الأقل تمثاله الخشبى الصغير: لم يضع كل شيء... ومثل كتاب الرواية الجديدة، لا يقوم أصلان بأىّ تعليق، وهو لا يعطى حلًّا أبدا؛ وهو يترك لقارئه مهمة التفكير واستخلاص استنتاجاته الخاصة.
وتصوّر لنا قصة أخرى وهى قصة "العازف" استغلال الإنسان للإنسان. ومن المفترض أن يؤدى البطل نمرة فى أوركسترا، فهو لا يجب أن يعزف بل يجب أن يكون هناك وحسب، مؤديا حركات عازف الكمان. ونشاهد ضربا من الپانتوميم؛ ويبدو كل شيء ضربا من الوهم. والواقع أن الشاب ليس العازف المزيّف الوحيد، فالباقون، بدورهم، يلعبون أدوارا فى المهزلة. إننا إزاء خدعة كبرى يتخطى المسرح مشهدها ليشمل العالم. و إبراهيم أصلان ينزع القناع هنا عن استعباد الإنسان الذى يُعامل بوصفه موضوعا دون أية مراعاة لكرامته الإنسانية. و"العازف" قصة تعكس الاضطهاد المعنوى الذى يقع بعض الناس ضحايا له؛ إن الرأسمالية هى المتَّهمة. ويحث الكاتب بصورة ضمنية على الثورة، ويكشف لنا السرد والحوار عن دراما الإنسان المُهان والمجبر على بيع نفسه لكى يعيش.
وفى بحيرة المساء، يصوّر أصلان حياة مجموعة من اللاعبين فى المقهى، لا مبالين بكل شيء سوى لعبة الطاولة التى يلعبونها. وفى وجه هذه اللامبالاة يبرز الكاتب لنا الجدية التى يتكلم بها مجنون يرغب فى نقل عظام الأموات من أفراد أسرته لأنه تقرّر هدم الجبانة التى يرقدون فيها...
ومن قصة "المستأجر" نأخذ فقرة يقدّم إلينا المؤلف فيها وصفا موضوعيا بالغ الدقة ليدٍ، يده هو؛ غير أن هذه اليد موصوفة كشيء غريب عليه تماما، كشيء لا ينتمى إليه... "رأيتها وهى ملقاة أمامى محمرّة على السطح الخشبى الداكن، وقد غطتها الخطوط الخفيفة المتشابكة. قرّبتُ وجهى منها. كانت الأصابع مرتفعة ومائلة إلى ناحيتى، وكانت تُلقى بظلال منحرفة على باطن اليد الموضوعة. وفى الجانب القريب منِّى، عند الرسغ، كان عدد من الأوردة الرفيعة الزرقاء يتقاطع فوق شريان منتفخ قليلا، بعد أن ثبّتُّ عينى لاحظت أن هذا الشريان كان ينبض فى انتظام، ويحرّك بداية الخط العميق. تتبعت هذا الخط العميق المزدوج. كان يقسّم اليد المحمرّة ويتقدم منحرفا إلى الناحية اليسرى، وينتهى فى ذلك المكان الموجود بين الإصبع القصيرة الوحيدة، وتلك الإصبع الأخرى القريبة من بقية الأصابع الطويلة." إلخ...
وفى هذا الوصف التفصيلى الذى يذكّرنا بتلك الأوصاف التى نلقاها فى أعمال روب-جرييه نلاحظ أن الكاتب لم يقل "يدى" أو "أصابعى" عن عمد... وأنه يستخدم كلمات محايدة وباردة، جديرة بكتيّب فى البيولوچيا!
وفى ختام هذا الدخول العابر فى عالم إبراهيم أصلان: ما هو الانطباع الذى نحتفظ به منه؟ حقا إن الأمر يتعلق بعالم مظلم وحزين غير أنه يتصاعد منه شعر عميق. ويتجنب أصلان كل تدفقٍ للمشاعر، وهو لا يحبّ أن يتغرغر بالكلمات، وهو يؤثر تأثيرا أكبر بفضل كتمانه، وهذا العالم الذى يشجب أصلان سخفه، ويرفض نفاقه وظلمه، هذا العالم لم يتخلَّ الكاتب عن جعله أفضل. لكن ما العمل؟ إبراهيم أصلان لا يقول ذلك. وعلى كل واحد منّا أن يجد حلّه!
 
 
 
35
جمال الغيطانى: أوراق شاب عاش منذ ألف عام
 
النقاد الذين تحدثوا عن الأزمة التى تجتازها القصة العربية حيّوا بحماس هذه المجموعة القصصية ﻟ جمال الغيطانى. وكانت هذه المجموعة تمثل فى نظرهم، فى سياق تاريخ القصة العربية المعاصرة، الممثل الأكثر جدارة لتيار جديد يناظر ما يدعى فى السينما "بالموجة الجديدة". ظهرت "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" فى فبراير 69 عن "كتاب الطليعة" وقدمت إلى جمهور القراء موهبة حقيقية، وفكرا مبكر النضج، وعلى وجه الخصوص شكلا أصيلا مبتكرا.
و جمال الغيطانى، الذى ولد فى مديرية سوهاج فى قلب الصعيد، نشأ فى القاهرة، فى حىّ شعبىّ هو الجمالية حيث لا يزال يعيش. ولمّا كان يعيش فى حىّ تاريخى فقد دفعه ذلك إلى دراسة تاريخ بلاده، وإلى كشف وجه مصر القديمة، وفى محاولة للسيطرة على الزمن، هذا الزمن الذى يجرفنا إلى الأبد، قرّر الغيطانى أن يستمدّ موضوعات قصصه من التاريخ. وفى إنتاجه، يقودنا الكاتب، وراءه، عبْر متاهات التاريخ القديم، عائدا بنا إلى العصور الوسطى. ويختار الغيطانى من التاريخ المشكلات والأزمات ذات الأثر العميق فى عصرنا الحديث. ويقدم الغيطانى إلينا المشكلات الخالدة التى طرحت نفسها على البشر فى العهود الغابرة والتى تطرح نفسها بحدّة على البشر فى عصرنا. وقد فرض عليه اختياره للموضوعات التاريخية شكلا ملائما لها: فهو يقلّد أسلوب المؤرخين القدامى ويكون لدى المرء انطباع عند قراءة أغلب قصصه بأنه يقرأ وثائق يعلوها الغبار...
وتشتمل مجموعة جمال الغيطانى على القصص التالية: أوراق شاب عاش منذ ألف عام، عودة ابن اياس إلى زماننا، أيام الرعب، ما جرى فى المقشرة(1)، مأساة ابن سلام. وسنحاول الآن أن نقدّم تحليلا تفصيليا للقصتين الأكثر أهمية فى هذه المجموعة وكذلك لمحة موجزة عن القصص الثلاث الأخرى.
فى كبرى هذه القصص، وهى المعنونة " أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، يُطلعنا الكاتب على أوراق مبعثرة كتبها هذا الشاب بعد نكسة يونيو 1967، وقد اكتُشفت هذه الأوراق نحو عام 2967! وهذه "الألف عام" لا تنتهى إذن فى الوقت الحاضر، كما قد يدفعنا العنوان إلى الاعتقاد؛ فهذه الألف عام لا تشكّل عصرا غابرا بل "مستقبلا تاريخيا"... والواقع أن ذلك الشخص - من أحفادنا - الذى يقدّم أوراق هذا الشاب، يعلن أنها كُتبت أثناء حرب بين مصر ودويلة صغيرة جدا كانت تُدعى فى سالف الزمان إسرائيل، وهى دويلة لم تعد موجودة الآن، أىْ فى عام 2967.... ونعلم كذلك أن هذه الفترة ذاتها شهدت انتشار الاشتراكية على كامل كوكب الأرض.
ولما كان الأمر يتعلق بأوراق صغيرة، فقد سمح ذلك للكاتب بألَّا يضع فى اعتباره التتابع المنطقى للأحداث. ويجد المرء كل شيء فى هذه الأوراق: فهو تارة يخبرنا بعدوان إسرائيلى على الأراضى المصرية: وهو يجعلنا نشاركه قلقه فى الشوارع المظلمة حيث تنتصب البيوت مثل الأشباح فى صمت الليل. وهو تارة أخرى يجعلنا نسمع الإذاعة التى تذيع نشيدا وطنيا أو نشرة الأخبار وهى تعلن انسحاب قواتنا إلى الضفة الغربية... والكاتب لا يعلّق على الهزيمة لكنه يعمد ببراعة إلى أن يُتْبِع هذه العبارات من أوراق الشاب المجهول بأخرى مأخوذة من التاريخ القديم تصف فترة من القحط والبؤس: "ونزل الوباء فى الناس، فكادت مصر أن تخلو من سكانها": هذا ما نقرأ فى هذه الوثيقة التاريخية. وليس بالأمر الصعب أن يعقد المرء الصلة بين هذه النازلة وبين النازلة الإسرائيلية.
والأسلوب الذى ينتهجه الكاتب والذى يتمثّل فى مزج الحاضر والمستقبل بالماضى دفعة واحدة، بموضوعية مقصودة، هذا الأسلوب، المستخدم بكثرة فى سيناريوهات أفلام "الموجة الجديدة"، أكثر إيحاءً، وأكثر تأثيرا، وأكثر فصاحة رغم إسراره وكتمانه ورصانته من كل وصف واقعىّ، ومن كلّ بوْح مباشر.
وتُحدِّثنا صفحات الأوراق أيضا عن الحالة الروحيّة للشاب الذى - بعد النكسة - يجوب مضطربا شوارع مدينته الصغيرة حيث استُؤنفت الحياة الطبيعية: يذهب الناس إلى السينما ويأكلون البطيخ. أمّا هو فيختنق وحده بطعم المرارة. وفى تضاعيف صفحات اليوميات يُدْرج الكاتب آية قرآنية، مقتَطفا من قصيدة فرعونية أوْ من أسطورة قديمة، بضعة أسطر من جريدة صادرة فى يونيو 67 حيث، إلى جانب أخبار ڤيتنام، يجرى حث الشباب على التطوع فى حركة المقاومة الشعبية. وهكذا وجد الشاب المخرج الذى كان يبحث عنه: سيسافر إلى الإسماعيلية، سيسافر إلى الجبهة، لاستئناف القتال. وكلمته الأخيرة: "سأرحل" تذكّرنا هنا بعبارة "إنّى راحل" التى أطلقها بعزم وتصميم فى نهاية قصة نجيب محفوظ المعنونة "يُحْيِى ويُمِيت"، البطلُ الشابُ الذى قرّر أن يذهب ليقاتل العدوّ الإسرائيلى حتى آخر قطرة من دمه.
ولا شك فى أن "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" تُعَدُّ بين أصدقِ ما كُتب عاطفة وأكثرِه أصالة وابتكارا من ناحية الشكل فى الأدب الذى استلهم كارثة يونيو 1967.
وفى الحكاية المعنونة "عودة ابن اياس إلى زماننا" يتخيّل الكاتب أن المؤرّخ ابن اياس عاد من الماضى ليعيش فى عصرنا الحديث، وليعيش على وجه التحديد محنة 1967 القاسية. غير أن ابن اياس يحس بالضياع فى الشوارع المكتظة السكان بالقاهرة، وهو يحس بالغربة إزاء هذا الحشد من البشر الذين لم يأت ليشاركهم همومهم، والذين لا يفهم مشكلاتهم الجديدة. وهو لا يحلم بأكثر من أن يغادر هذا العالم ليستأنف نومه الأبدىّ الذى قطعه هذا الهرب المؤقت إلى الأرض...
و"أيام الرعب" هى القصة الوحيدة(2) التى جعلت الحاضر إطارها. وبعد العودة صوب الماضى والتسلّل إلى المستقبل، ها هو أخيرا واقع الحياة اليومية المعتاد. وفكرة "أيام الرعب" ليست جديدة، غير أن أسلوب الكاتب وهو يقصّ علينا قصة الثأر التقليدية هذه أسلوب جديد. والواقع أنه لا يقصّ علينا مجرّد قصة، بل يكشف لنا قبل كل شيء حالة روحية، يكشف لنا المحنة الإنسانية التى يمرّ بها البطل محروس فياض سلامة. وهذا الأخير شاب صعيدى يعيش فى القاهرة حيث يعمل موظفا. يصله خطاب من الصعيد يطلب فيه جدّه منه أن يحترس لأن قاطع الطريق الشهير الذى ينشر الرعب فى أنحاء الصعيد، عويضة، خرج من السجن وسافر إلى القاهرة باحثا عنه، ليقتله. وهكذا سيكون بمقدور عويضة أن يثأر لموت خاله، الذى قتله منذ عشرين عاما أحد أفراد أسرة محروس(3). وتبدأ "أيام الرعب" بالنسبة ﻟ محروس منذ أن يقرأ هذا الخطاب الذى يحمل نذير الموت. ويشعر الشاب. التعيس أنه حيوان مطارد. ويجعلنا الكاتب نتغلغل داخل هذه النفس التى يخنقها القلق، والتى يملؤها خوف بشع: وهو يُسْمِعُنا الحوار الداخلى ﻟ محروس، هذا المحاصر بالموت. وقد كتب يقول: "أدرك أن حياته فى خطر. كأنه لم يعرف هذا من قبل. ربما مات الآن.. بعد ساعة، بعد يومين. حتما سيحدث هذا. بل إن أىّ شيء يمكن أن يقع الآن: تستحيل البيوت إلى ضباب أزرق فاقع.... يتحول الناس إلى ذرات صغيرة... أىّ شيء يمكن أن يقع.. انغراس الجسم المعدنى فى لحمه هو.. عظامه هو.. لكن متى!! كيف.. أين!! لا يدرى، عندئذ يغمض عينيه.. ولا يطلّ على شيء فى الدنيا.. أبدا.. أبدا.."
ويعرف محروس أن عويضة سيلاحقه بلا كلل وأنه سينتهى إلى الانقضاض عليه كما ينقض حيوان مفترس على فريسته... قد يلوذ بالفرار، لكنْ هل يمكنه أن ينجو من مصيره؟ إن عويضة، بالنسبة له، مصير محتوم، وهو تجسيد قدر لا يرحم! وها هو الكاتب يُسْمِعُنا مرة أخرى، حتى فى هذه القصة التى تنفرد بأن موضوعها غير مستمد من التاريخ، هذه الصيحة التى يُطلقها البطل "لو هناك حياة غير الحياة، لو عاش إنسانا آخر فى عالم ثانٍ". ويعبّر البطل الشاب على هذا النحو عن حنينه إلى عصر آخر يكون بالنسبة له ملاذا، ومرفأ أمان. ونلقى دائما هذه الفكرة الأثيرة لدى الكاتب: الهرب فى الزمن، ماضيا كان أم مستقبلا، للإفلات من الحاضر القاسى. غير أن محروس يدرك تماما أن ما يتمناه عبث باطل؛ وحينئذ فإنه - كىْ يتخلص من عذابه، وفى حالة من اليأس - يستسلم. وفى ميدان سيدنا الحسين، يخلع ثيابه، ويلوّح ببطاقته الشخصية وهو يزعق: "أنا واحد وثمانين ستة وستين.. جمالية.."(4) وألقى بطاقته على الأرض.. بوسع عويضة أن يلتقطها، وبوسعه أخيرا أن يطعنه ليضع حدا لعذابه! ويعتقد الناس من حوله أنه مجنون. "وسمع عويضة يشقّ الزحام واثقا، ثقيل الخطى لا يُوقفه أحد". هل سمع محروس فعْلا خطى عويضة أم أن ذلك مجرد هذيان؟ هل قُتل محروس على الفور أم أن سيرزح طويلا تحت هذا الخوف الذى يعذّبه؟ الكاتب لا يقول لنا شيئا عن ذلك. وعلى أية حال، لاشك فى أن الرعب الذى يعيش فيه أكثر حدَّةً بالقطع من الجسم الحديدى، وأكثر يقينا من رصاصة، وأقسى قلبا من عويضة ذاته...
وفى القصة المعنونة "ما جرى فى المقشرة"، يجعل الكاتب السرد على لسان آمر ذلك السجن فى زمن المماليك. ويقصّ هذا الآمر قصص التعذيب الذى يعانيه السجناء التعساء: عندما هرب أربعون منهم من السجن، أمر الآمر بإلقاء القبض على أربعين من الأبرياء الذين يسيرون فى الشارع، لتسليمهم إلى الأمير القاسى. وآمر السجن هذا الذى يرسل الأبرياء إلى الموت لا يفوته أبدا أن يتلو صلواته ساعة موتهم: وحيث صارت القسوة بالنسبة له نوعا من الواجب المهنىّ، فإن ضميره لا يعذّبه مطلقا!
و جمال الغيطانى يحاكى هنا لغة الوثائق التاريخية: إنه يقدّم لنا رواية للأحداث التى جرت فى عصور قديمة، غير أن هذه الأحداث ليست غريبة عن عصرنا الحديث، عن هذا العصر المتميز بالصراعات والكوارث التى تملأ النفوس كآبة.
وفى "مأساة ابن سلام"(5) يستدعى الكاتب ذكرى هزيمة المماليك على أيدى العثمانيين من خلال شخصية من عامة الشعب هى شخصية ابن سلام، الذى يمثل رمز الشعب البائس، المضطهد، المقهور. وعلى رأس الشعب ثار ابن سلام ضدّ طغيان الزينى بركات بن موسى، غير أنه قبض عليه وحكم عليه بالإعدام. وقد أعُدِم فى الميدان العام وظلّ جسده، طوال ثلاثة أيام، معلّقا فوق باب زويلة. و ابن سلام ليس فقط شخصية تاريخية، فهو يظل رمز النضال، والمقاومة، ليس فقط فى ذلك العصر الحزين فى تاريخ مصر، عصر الاحتلال العثمانى، بل كذلك وبصفة خاصة فى هذه السنوات التى نعيشها الآن. وإذا كان ابن سلام قد مات، فإن النضال لم ينته، وسيتولى التغيير آخرون، وسيواصل آخرون بعناد النضال الصلب الذى بدأه...
واللافت للنظر فى إنتاج الغيطانى هو أننا نجد فيه - من خلال هذا الشكل التاريخى - صدى صادقا للأزمات والمشكلات التى هى أزماتنا ومشكلاتنا. وهرب الكاتب فى الزمان لا يمنعه من أن يكون - شأنه فى ذلك شأن بقية الكتاب الشبان من أبناء جيله - كاتبا ملتزما، يطلعنا على التجربة الإنسانية لشباب اليوم. هذا الشباب الذى يُلقَّب "بجيل الثورة"، والذى يحسّ بالحاجة إلى أن يصرخ بمعاناته، وإلى أن يعبّر عن مرارته وقلقه، وإلى أن يبوح بأمانيّه وأحلامه: وقد أصبح جمال الغيطانى ناطقا بلسان جيله، وهكذا أثرى أدبنا العربىّ المعاصر مضيفا إليه قوة تعبير جديدة وبصفة خاصة مجدِّدا ببراعة وسائل التعبير فى القصة العربية.
 
إشارات
1: عنوانها الكامل: هداية أهل الورى لبعض مما جرى فى المقشرة - المترجم.
2: المقصود أنها القصة الوحيدة فى المجموعة فللغيطانى قصص كثيرة ذات موضوعات معاصرة - المترجم.
3: الواقع أن جدّ محروس، والد أبيه، قتل خال عويضة منذ أربعين عاما - المترجم.
4: بطاقته الشخصية رقمها 8166 وهى صادرة عن قسم الجمالية - المترجم.
5: عنوانها الكامل: كشف اللثام عن أخبار ابن سلام - المترجم.
 
 
 
 
 
 
الملحق الثانى
 
مقالان للمستعرب الياپانى إيچى ناجاساوا،
عن
كتاب الدكتور سيد عويس: "التاريخ الذى أحمله فوق ظهرى، دراسة حالة"
(صدرت أجزاؤه الثلاثة عن دار الهلال، القاهرة، 1985 و 1986)
المقال الأول: 36: سيرة ذاتية كدراسة حالة؛ عن كتاب سيد عويس: "التاريخ الذى أحمله على ظهرى، دراسة حالة"، بقلم: المستعرب الياپانى: إيچى ناجاساوا.
المقال الثانى: 37: ثورة 1919 كما رآها طفل مصرى؛ عن كتاب سيد عويس: "التاريخ الذى أحمله على ظهرى، دراسة حالة"، بقلم: المستعرب الياپانى: إيچى ناجاساوا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
36
سيرة ذاتية كدراسة حالة
لعالم اجتماع مصرى
 
عن كتاب سيد عويس: التاريخ الذى أحمله فوق ظهرى
بقلم المستعرب الياپانى: إيچى ناجاساوا
نُشر فى أخبار الأدب، عدد 17 مارس 1996
 
- 1 -
يتضمن هذا المقال ملاحظاتى الشخصية كمترجم على كتاب "سيرة ذاتية" – التاريخ الذى أحمله على ظهرى، دراسة حالة، تأليف الدكتور سيد عويس، عالم الاجتماع المصرى (1913-1989). وتجرى الآن ترجمة هذه السيرة الذاتية إلى اللغة الياپانية، وستُنشر طبعتها الياپانية الجزئية والتجريبية ضمن سلسلة تُطبَع بالاستنسل عن معهد الاقتصادات النامية فى مارس 1995. وأرجو أن يُسهم كل من هذه الترجمة الجزئية وملاحظاتى هذه كمترجم فى النشر المأمول للترجمة الكاملة لهذا الكتاب فى المستقبل القريب.
وهناك دافعان قادانى إلى الاهتمام الشديد بهذا الكتاب وإلى أن أقرِّر ترجمته إلى اللغة الياپانية. والدافع الأول أكاديمى؛ ويتمثل فيما يلى: الاستفادة من مادة هذا الكتاب فى موضوعى البحثى الجديد: "المثقفون المصريون والتراث الشعبى". فأنا أعتزم أن أقارن بين الموقفين الأكاديمييْن لاثنين من المثقفين المصريِّين فى سياق تاريخهما الشخصى. وأحدهما هو المؤلف سيد عويس، والآخر مؤرخ ماركسى هو أحمد صادق سعد (1919-1988). وقد عاشا كلاهما فى نفس عصر الثورات الوطنية وكانت لهما اهتمامات مشتركة بالتراث الشعبى المصرى عبر مختلف ممارساتهما الاجتماعية: الأول كمُصْلِحٍ اجتماعى فى حقل أنشطة الخدمة الاجتماعية، والآخر كثورى فى الأنشطة الماركسية والالتزامات بالحركة العمالية. وفرضيتى هى أنه توجد صلة تكاملية بين الاثنين فى مجال استقصاء التراث الشعبى المصرى. ويمكن لمثل هذا البحث أن يقدم بعض المنظورات المفيدة للتفكير فى الموقف الحرج للمثقفين العرب فى الفكر العربى المعاصر، وكذلك للتفكير فى مشكلة اغترابهم عن الناس العاديِّين.
أما الدافع الآخر فهو بالأحرى دافع عاطفى. ذلك أن المرحوم الپروفيسور ماساناو أوداكا (1915-1994) – وهو مستعرب بارز فى الياپان، والسفير الياپانى السابق فى دمشق، والذى توفى فى فبراير فى السنة الماضية – كان صديقا حميما للدكتور عويس. وفى ربيع سنة 1989، قام الپروفيسور أوداكا برحلة قصيرة إلى سوريا ومصر حيث كان عليه أن يبقى كدپلوماسى، وزار الدكتور عويس – الذى رحل عن العالم بعد عدة أشهر فقط – فى مسكنه بالعجوزة. وكان لى الحظ فى أن أسمع تلك القصة من الپروفيسور أوداكا، غير أن من المؤسف أننى نسيت أن أسأله بالتفصيل عن كيف قامت صداقتهما فى الماضى. ومنذ ربيع 1994 شرعتُ فى ترجمة هذا الكتاب لأهديها إلى ذكرى صداقتهما.
 
- 2 –
ورغم أننى قدَّمتُ هذه الدراسة على أنها "سيرة ذاتية" فى الفقرة الافتتاحية فإن هذه العبارة غير دقيقة. ووفقا لإيضاح المؤلف فإن هذا الكتاب ليس مكتوبا كسيرة ذاتية بل هو "دراسة حالة" يحاول فيها عالم اجتماع (أو باحث حالة اجتماعية) إجراء أبحاث عن نفسه. وهكذا تبدأ مقدمة هذا الكتاب بقصة عن اليوم الذى بدأ فيه المؤلف إجراء أول "دراسة حالة" كمشروع تدريبى بمدرسة الخدمة الاجتماعية بالقاهرة فى 1938. وقد اختار كأول عميل له حدثا جانحا يقيم فى حى الخليفة الذى كان مسقط رأس المؤلف ذاته. وعلى النقيض من افتراضه أنه على معرفة تامة بكل أنحاء الحى وأنه يمكنه العثور بسهولة على منزل الصبىّ، كان عليه أن يواجه الكثير من المصاعب قبل أن يصل إليه. وفى نهاية المطاف التقى بأسرة الصبىّ وكانوا يعيشون مع الأموات فى الجبانة. كانوا يُقيمون فى منطقة أزقة مدينية يسمونها اليوم "مدينة الأموات". وقد أصابته هذه المقابلة الأولى من مقابلات بحث الحالة بمثل تلك الأسرة "الشبحية" بصدمة هائلة، جعلته يشعر وكأن عينيه "قد استُبدلت بهما عينان أخريان". وبعد أن مرّ بهذه التجربة، التى كانت نقطة تحوُّل فى حياته وعمله، أجرى المؤلف قدرا هائلا من دراسات بحث الحالة كانت تمثل أنشطة خدمة اجتماعية أساسية، واستطاع من خلالها أن يقلِّب ويقرأ صفحات "موسوعة المجتمع المصرى"، إنْ جاز القول. غير أنه بالمقارنة مع هذه الأبحاث التى تتعامل مع أناس آخرين، كانت دراسة الحالة الأخيرة حول الباحث ذاته، والتى "لن تتكرر ممارستها"، أكثر إيلاما بكثير بالنسبة له، كما يعترف. وكتجربة لدراسة حالة بقلم عالم اجتماع يحاول أن يصف نفسه بكل ما فى وسعه من موضوعية، فإن هذا الكتاب غنىّ باستدلالاته المنهجية. غير أنه ليس من الصعب أن نتصور أن السحر المنهجى لهذا الكتاب إنما هو ثمرة من ثمار تضحية المؤلف بتحمُّل الجهود المؤلمة التى ينطوى عليها إجراء دراسة حالة موضوعية على نفسه.
وهكذا يمكن تقييم هذا الكتاب على أنه وثيقة بحثية عن نوع العلم الاجتماعى تتبنَّى شكلا وصفيا خاصا من دراسة الحالة. ومن وجهة نظر أخرى، يمكن النظر إليه على أنه "أدب سيرة ذاتية"، غنىّ بالتعبير الأدبى. لكننى بمقدرتى الأدبية الهزيلة لن أقوم بتحليله كعمل أدبى لوضعه فى مكانه من آداب السيرة الذاتية فى مصر الحديثة، ولا بمقارنته ببعض الأعمال الممتازة التى أنتجها هذا التقليد الأدبى مثل السيرة الذاتية لكلٍّ من طه حسين وأحمد أمين – وهما كلاهما متوفرتان بالفعل بالياپانية. وإنما يتمثل هدفى الوحيد فى استعراض هذا الكتاب كعمل علمى اجتماعى، منطلقا من دوافعى الشخصية والعملية كما أوردتُ أعلاه.
وباختصار، يمكننا أن نتعامل مع هذا الكتاب بطريقتين: كعمل علمى اجتماعى يقدِّم دراسة حالة من ناحية، وكعمل أدبى يتم تعريفه كأدب سيرة ذاتية من ناحية أخرى. وفى هذا العرض، أختار الطريقة الأولى فهى تتلاءم مع دافع المؤلف إلى الكتابة كما كتب فى مقدمة هذا الكتاب.
وبغضّ النظر عن الإيضاح المذكور أعلاه، يمكننا تصنيف كلٍّ من دراسة الحالة حول المؤلف نفسه وأدب السيرة الذاتية ضمن مقولة واحدة تُسمَّى "التاريخ الشخصى". ومع ذلك فإن هذا الكتاب فريد إذْ أنه تاريخ شخصى لعالم اجتماع ينتهج شكلا خاصا لدراسة الحالة كسيرة ذاتية، وهذا أمر غير مألوف أبدا بين السِّيَر الذاتية للمثقفين. وعلى سبيل المثال، يمكننا تمييز علاقة متوترة نوعية بين الواصف والموضوع الموصوف أو بين المحلِّل والموضوع الذى يجرى تحليله فى هذه الدراسة. ويشتمل هذا الكتاب على الكثير من موادّ البحث الأولية فى مجالات الفولكلور والمعتقدات الشعبية، أما الاهتمام المكثف للمؤلف فهو ينصبّ على أنشطته البحثية. وجدير بالذكر أن هذه المواد الفولكلورية – مثل طقس "الزار" الذى كان يلعب دورا مهما فى فترة ولادته كما أوضح – لا تنتمى إلى أية ثقافة غريبة وجامدة موجودة خارج المحلِّل نفسه، بل لها، على العكس، علاقة دينامية لا تنفصم بتكوين شخصيته، أىْ بعملية تشكُّله الذاتى كعام اجتماع فى سياق تاريخه الشخصى.
كذلك يمكننا أن نستفيد من هذا الكتاب كمصدر لمواد بحثية لدراسة التاريخ الفكرى لمصر الحديثة، لأنه يوضِّح تطور الفكر الاجتماعى والسياسى لمثقف عاش فى عصر الثورات الوطنية. وفى تاريخ فكره الشخصى، هناك جانبان لشخصيته كمصلح اجتماعى (فى مجال الخدمة الاجتماعية) وكباحث اجتماعى فى مجال العلم اقترنا بصورة لا تنفصم وكأنهما نسيج واحد محبوك لتكوين مفكر اجتماعى عميق. كما أن هذا الاقتران لجانبين فى شخصيته قد تعزَّزَ بحماسه الوطنى الذى تعبِّر عنه كلماته فى المقدمة والتى تقول إنه لم يخطر بباله أن يدرس موضوعا بحثيا آخر سوى مصر. وكبداية لأنشطته البحثية تَوَخَّى "التعرُّف الصادق على اتجاهات أعضاء المجتمع المصرى المعاصر وما وراء هذه الاتجاهات من تراث ثقافى قديم ومتجدِّد". وهو يشير فى أعماله إلى التيار القوى للاستمرارية فى التراث الثقافى المصرى والذى قد يُساء فهمه كنوع مما يسمَّى "بالفرعونية". ويمكننا أن نجد، فى مثل هذا التعبير عن الإعجاب تجاه ثقافته الخاصة، استيعابا عميقا ومتعدد الطبقات "للتراث الثقافى المصرى" يتجاوز الفهم السطحى للأبنية الجمعية للثقافة. وهذا الاستيعاب ثمرة هائلة نضجت من خلال تكوين شخصية مركبة لهذا المثقف: إنه عامل ودود فى مجال الخدمة الاجتماعية وكذلك باحث اجتماعى رصين.
وتتألف هذه الدراسة من ثلاثة أجزاء؛ الجزء الأول: "الأرض والبذور"؛ الجزء الثانى: "ماء الحياة"؛ الجزء الثالث: "الثمار". وقد نُشرت هذه الأجزاء مسلسلة فى "كتاب الهلال" (العدد 417 سپتمبر 1985، والعدد 429 سپتمبر 1986، والعدد 443 نوڤمبر 1987). ووفقا لإيضاح المؤلف، فالجزء الأول قصة عن "الأرض"، أىْ أسرته، وأسرته الممتدة، وعشيرته، وجيرانه فى "الحارة" و "الحتَّة"، حيث بُذرت "بذور" المؤلف. ويتحدث فى الجزء الثانى عن "ماء الحياة الذى يتدفق ويستمر تدفقه دائما إلى الأمام.. دائما إلى المستقبل"، أىْ ماء نبع الأفكار التى التقى بها عندما كان يدرس بالخارج. وفى الجزء الثالث، يعرض الثمار، أىْ منتجات التفاعل بين "الأرض والبذور" و "ماء الحياة". ومن المفترض أن المصريِّين منذ العصور القديمة آمنوا بهذا: "مادامت الأرض ذاتها لا تُنتج ثمرة، لا البذر ولا الماء يحمل شيئا فى حد ذاته".
وبكلمات أخرى فإننا أمام مركَّب عضوى من تاريخ شخصى يتألف من ثلاثة عناصر: "أرض الوطن" التى أنبتت البذور، أىْ رمز المؤلف نفسه؛ والأفكار الحديثة التى منحته "ماء العقل" ليصير مُصْلِحًا اجتماعيا وباحثا اجتماعيا؛ وثمار البحث الناتجة عن التفاعل بين العنصرين المذكورين أعلاه. وهكذا توضِّح هذه الدراسة كيف أمكن لدارس غير أوروپى حصل على مناهج وأفكار العلوم الاجتماعية الحديثة أن يلتقى وجها لوجه بثقافته هو وأن يتأملها فى سياق تتبُّع تاريخ تكوين شخصيته.
هذه هى بنية الكتاب المذكور أعلاه، ولهذا يمكننا أن نقرأه باعتباره تشكُّلا شخصيا للمؤلف كعالم اجتماعى. وبالإضافة إلى ذلك، يمكننا أن نختار طريقة أخرى للقراءة من الوجه المناقض، لكى نبحث عن "الأرض والبذور" أو "ماء الحياة" فى "ثمار" دراساته. وفى القسم التالى، سأقدِّم بصفة جزئية بعض مضامين الكتاب الذى قمتُ بترجمته، موجِّها اهتمامات خاصة إلى العلاقة بين "الثمار" و "الأرض والبذور".
- 3 –
والجزء الذى قمتُ بترجمته من هذا الكتاب يشمل "المقدمة"؛ والفصل الأول: "أمى فى أسرتها التناسلية"؛ والفصل الثانى: "أبى فى أسرته الممتدة". ومن خلال قراءة الفصلين الأوليْن، اللذين يضمهما الجزء الخاص ﺑ "أرض" حياته، واللذين يتعلقان بوالديه بوجه خاص، ليس من الصعب أن نتعرَّف على الطريقة التى جرى بها إلقاء "بذور" ثمار أبحاثه فى تلك الأرض. وعلى سبيل المثال، يمكننا أن نجد "فى الأرض" الدافع والخلفية للقيام ببحث أصبح أحد أهم أعماله: "من ملامح المجتمع المصرى المعاصر: ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعى" [المطبوع لأول مرة فى 1965] والذى يحلِّل فيه عبادة الأولياء فى سياق التراث الثقافى المصرى. وقد نشأ الدافع لبحثه حول هذه الظاهرة من اهتمامه العملى بأن "يُسْمِع أصوات الصامتين" وكذلك بأن يكشف عن "جرائم غير منظورة"، الأمر الذى أشار إليه فى نفس الكتاب (صفحات 19-29) [فى الطبعة الثانية المنشورة فى 1978]. على أننا – عندما نقرأ الجزء المترجم بعد مرور فترة ما – نخرج بانطباع مختلف: كان اختياره لموضوع البحث هذا حاسما لتاريخه الشخصى، وكأنه كان قد التقى بالموضوع المذكور الذى قُدِّرَ له التعريف ﺑ "جذوره".
وعلى سبيل المثال، يمكننا العثور على "بذور" ثمار أبحاثه فى حادثة دراسة الحالة الأولى التى أجراها عن أسرة الصبىّ التى عاشت فى حوش قرافة، فى سياق حكاية تتصل بالقيم السائدة والوعى الأخلاقى السائد بين الفقراء الذين كانوا يستجدون المال فى جبانات حىّ الخليفة، أو فى سياق تجربته لزيارة لمقابر الأولياء برفقة والديه. غير أن الأكثر الأهمية من القصص المذكورة أعلاه يتمثل فى تجاربه الشخصية الخاصة ﺑ "الميتات" التى واجهها داخل أسرته أثناء طفولته. ويحفل الفصلان الأولان بقصص تتعلق بالميتات والأموات. لقد عانى ميتات أخيه الأصغر، وأخته، وعمته، وعم أبيه، وأبيه.
وقد أثر موت أبيه فى حياته تأثيرا حاسما لأنه اضطر إلى التخلى عن دراسته فى المدرسة الثانوية لكى يقوم بإدارة دكان أبيه. وقد قُدِّر لمعانياته لهذه الميتات (إزاء لحظة كل ميتة منها، مرور الوقت المنقضى حتى الموت، مشاعر أفراد الأسرة إزاء الموتى) وكذلك لحساسيته فيما يتعلق بالموت والموتى أن تكون الأساس لدراسته اللاحقة للمعتقدات الشعبية فى "رسائل إلى الموتى"، الأمر الذى اعتبره تراثا ثقافيا أصيلا ظل المصريون يحتفظون به فى عقولهم منذ العصور القديمة.
ويتعلق أحد الموضوعات الرئيسية فى الجزء الذى قمتُ بترجمته هذه المرة، والتى ظهرت فى عناوين الفصول، بمشكلات "الأسرة"، مع تأكيد كبير على مسألة مكانة النساء فى الأسرة الأبوية الممتدة. وقد كرر المؤلف مرارا الحديث عن مكانة النساء والرابطة الأسرية فى المجتمع المصرى، ليس بصوت عالٍ بل بهدوء بكلمات غنية بالدلالة فى عمل مثل: "حديث عن المرأة المصرية المعاصرة: دراسة ثقافية اجتماعية" (منشور فى 1977). ويبيِّن لنا هذا الكتاب أن عينيه الدافئتين والمحبَّتين تجاه النساء المصريات نشأت أصلا من تاريخه الشخصى، خاصة ذلك الخاص بطفولته.
وعلى ما أتذكر فقد أدلى ذات مرة برأيه فى إحدى الجرائد حول مسألة إصلاح قانون الأحوال الشخصية الذى كان يثير مناقشة ساخنة فى مجلس الشعب. وقال إن الرسوم الجدارية الرائعة فى آثارنا القديمة تذكِّرنا اليوم بأن العلاقة المتكافئة بين الزوج والزوجة وبين الوالديْن وأطفالهما كانت، وينبغى أن تكون، أساس الوعى الأخلاقى فى المجتمع (الأهرام، 3 يونيو 1985). وهو يعتقد بقوة أن مثل هذا المعنى الأصلى للرابطة الأسرية كتراث ثقافى توارثه المصريون منذ العصور القديمة هو ما ينبغى تجديده فى سبيل إصلاح العلاقات الاجتماعية فى المجتمع المصرى المعاصر. على أنه لا يطالب بأىّ رفض جذرى للعلاقات الجذرية التقليدية ولا للوعى بالقيم الثقافية فى الماضى.
وعندما يصوِّر مشكلة المجتمع البطريركى (الأبوى) فهو لا يقوم بمجرد وصف علاقات أحادية الجانب بين النساء المضطهَدات (بفتح الهاء) والرجال الطغاة فى الأسرة. وعلى سبيل المثال فهو يصف جدته أُمَّ جده لأبيه التى اضطهدت بغلظة أفراد الأسرة بسلطة ساحقة وكانت هى "رجل البيت". وهذه القصة موحية بسمات البنية الأيديولوچية للنظام الأبوى فى المجتمع المصرى (أو العربى). وهو يشير أيضا إلى أن هذه العلاقة الأبوية مصحوبة دوما ببعض التوترات ويقدم مثلا من حياة زوجة عمه التى حاولت أن تتمرد على سلطة الرجال فى الأسرة. وكانت، فى طفولتها، مطلعة على الحياة ذات الطابع الغربى فى ذلك الحين من خلال أصدقاء والدها الذين كانوا ينتمون إلى طبقة "الأفندية". غير أن زواجها انتهى بها إلى الدخول فى أسرة تقليدية كبيرة فى المنطقة الحضرية الشعبية. وبينما تبدو أفعالها وكلماتها البريئة لكنْ الجريئة ضد رب الأسرة، أىْ جدّ المؤلف، حوادث تثير الابتسام، فإن أفعالها المتحدية ضد أب المؤلف، أىْ وكيل رب الأسرة، تثير الإشفاق، إذْ إننا نعلم أن هذه الأفعال كانت تعبيرا عن مشاعرها المركَّبة نحوه.
وبالإضافة إلى مشكلة النظام الأبوى فى الأُسَر المصرية، يكشف هذا الكتاب عن جوانب شتى فى العلاقات الأسرية داخل بيت كبير لأسرة تاجر عاشت فى حىّ حضرىّ شعبى بمدينة القاهرة. وعلى سبيل المثال، هناك وصف حىّ لعالم النساء فى الأسرة، بما فى ذلك النزاعات والصراعات بين "نساء البيت" اللائى أصبحن زوجات لأبناء الجد، وأخواته وبناته المتزوجات اللائى تركن الأسرة شرعا، وكذلك إدارة البيت، وبوجه خاص تقسيم العمل بين نساء أهل البيت. وجديرة بالتنويه كذلك تلك الأوصاف الخاصة بالعلاقات الاقتصادية بين أفراد الأسرة إذ إنها تشمل عُرْفًا خاصا بقيام الجد بتوزيع الملابس على أفراد الأسرة "كزكاة" فى شهر "محرَّم"، والعلاقات بين الدكاكين التى يديرها "رجال الأسرة" (جده، وأخو جده، وأبوه وعمه) ونوع من التجارة الأسرية فيما بين تجار القاهرة. وعندما تعمل أسرة ممتدة كجهاز قمع للسلطة الأبوية، أو كنظام اقتصادى لتجارة الأسرة وأسباب رزقها، فإنما على هذه الأسس يقوم العالم الغنىّ لمعنى العلاقات الأسرية بين أفراد الأسرة. ويبدو أن المؤلف يؤمن بالميراث الثقافى الوطنى الذى ظلّ يحافظ عليه المصريون منذ العصور القديمة والذى ينبغى أن يكون أساسا للنهضة الوطنية اليوم وفى المستقبل.
وينبع سحر هذا الكتاب من سحر جاذبية شخصية المؤلف. ويذكِّرنا حبه لأسرته وتعلُّقه بالموتى ببعض الدارسين الياپانيِّين البارزين الذين حاولوا بكل إخلاص وصدق بحث الميراث الثقافى للياپان التقليدية. وتماما كما جرى تشخيص المجتمع المصرى على أنه "مجتمع متمحور حول الأسرة" أو "مجتمع تسوده الأسرة"، جرى تشخيص المجتمع الياپانى كذلك على أنه "مجتمع الأسرة"، من جانب الكثير من الباحثين. كما حافظ المجتمع الياپانى على المعتقدات الخاصة بالموت واحترام الموتى كميراث ثقافى مهم. وإنى لآمل بصدق أن أقوم بدراسة مقارنة بين الباحثين الياپانيِّين وهذا المؤلف على أساس التاريخ الشخصى لكلٍّ منهم.
المصدر: Mediterranean World XIV, Published by the Mediterranean Studies Group Hitotsubashi University, Tokyo, 1995  ["عالم المتوسط"، العدد 14، مركز الدراسات المتوسطية، جامعة هيتوتسوباشى، طوكيو، 1995].
 
 
37
ثورة 1919 كما رآها طفل مصرى
عن كتاب سيد عويس: "التاريخ الذى أحمله على ظهرى، دراسة حالة"،
بقلم: المستعرب الياپانى: إيچى ناجاساوا
مقدمة
كانت ثورة 1919 انتفاضة شعبية كبرى تطمح إلى الاستقلال التام لمصر وإلى تحريرها من الحكم الاستعمارى البريطانى الذى تم إضفاء الطابع الرسمى عليه بعد إعلان الحماية على مصر فى ديسمبر 1914. وقد بدأت عاصفة الثورة كحركة احتجاج على نفى سعد زغلول وزعماء وطنيِّين آخرين حاولوا حضور مؤتمر السلام فى ڤرساى، غير أن الحكومة البريطانية رفضت حضورهم. وامتدت الثورة فى الحال إلى كل أنحاء البلاد، ليس فقط فى المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية، بل أيضا فى المناطق الريفية. وتُعد هذه الثورة واحدة من كبرى الانتفاضات الشعبية فى الشرق الأوسط خلال القرن العشرين، ويمكن مقارنتها بثورة 1979 الإيرانية. وفى حين أن أحداث الثورة الإيرانية كانت محصورة داخل حدود المدن الكبرى، كانت ثورة 1919 واحدة من كبرى الثورات الفلاحية فى العالم الثالث فى العصر الحديث [Goldberg 1992].
وقد وصف كثير من المؤلفين المصريِّين هذه الثورة باعتبارها حلقة وسيطة تربط بين ثورتين وطنيتين أخريين: الحركة العرابية فى 1881، وثورة يوليو 1952. غير أن تقييم ثورة 1919 ظل أمرا معقدا يُعتبر محورا للجدال السياسى فى كتابة تاريخ مصر المعاصرة [Kato 1989]. فمن جهة، فى الخطاب التاريخى الوطنى الرسمى (مثلا، الميثاق الوطنى المصرى الصادر فى 1962)، انتهت ثورة 1919 إلى "انتكاسة" للثورة الوطنية ولم تتكشف الديمقراطية بعد تلك الثورة إلا عن "ملهاة مهينة" استعانت بها "الفلول المنهزمة" من طبقتى كبار ملاك الأرض والبرچوازية، وكان من المقدر لها أن تلغيها الثورة الوطنية الحقيقية [The Charter: 25-26-الميثاق 39-40]. ومن جهة أخرى، نظر نقاد النظام الناشئ عن ثورة يوليو إلى ثورة 1919 على أنها أبرز حدث فى تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وعلى أنها أدت إلى ظهور نظام الدولة الحديثة (نظام دستور 1923) وعلى أنها فتحت الباب لدخول عصر الليبرالية المصرية.
ويبدو أن دراسة هذه الثورة قد حققت تقدما بطيئا، رغم أننى لا أعرف ما إذا كانت قد تأثرت بالجدال السياسى المذكور من قبل أم لا. وما يزال أغلب الباحثين المصريِّين يستخدمون العمل الكلاسيكى للرافعى [الرافعى 1946] كمصدر أصلى، ويستخدمون أيضا تقرير القنصل البريطانى، والصحف، ومذكرات الزعماء السياسيِّين، وبعض الوثائق غير المنشورة (التماسات إلى المحكمة العسكرية، على سبيل المثال)، غير أنهم نادرا ما استخدموا موادَّ تقدم آراء الناس العاديِّين وتجاربهم فى الثورة. على أننا نجد، فى السنوات الأخيرة، ظهور بعض الاتجاهات الجديدة فى دراسة ثورة 1919. ويتمثل أحد هذه الاتجاهات فى محاولة وصف الثورة من وجهة نظر المجتمعات المحلية [الدسوقى 1981؛ إسماعيل 1991]، ويتمثل اتجاه آخر فى دراسات الباحثين الأجانب حول التمردات الفلاحية فى سياق الثورة باستخدام إطار نظرى مقارن جديد [Schulze 1981; Goldberg 1992]. ويجب أن نلاحظ أن الاتجاه الأخير، الذى يستخدم نظرية الاقتصاد الأخلاقى ونظريات أخرى، ينتمى إلى أحدث اتجاه فى الدراسات التى تدور حول السلوك السياسى للفلاحين المصريين [Brown 1990]، وهو يثير فكرة انتقادية لكتابة التاريخ الشعبوية البدائية التى تعتمد على استخدام مفهوم جرانيتىّ التجانس وجوهرىٍّ عن "الشعب".
وفى السنوات الأخيرة، نجد أيضا محاولة منهجية جديدة فى كتابة تاريخ الشرق الأوسط فى العصر الحديث يشدّد على "الشعب بدون تاريخ" الذى لا يستطيع أن يمثل نفسه. وترمى هذه المحاولة إلى نقد الكتابات التاريخية المتمحورة على النخبة والاختزالية التاريخية التقليدية للفاعلين اللاشخصيِّين، مثل الدين، والرأسمالية، والنظام العالمى [Burke 1993]. وبكلمات أخرى، فإن هذه المحاولة فى الكتابة التاريخية الجديدة ترمى إلى وصف "تجارب" الأفراد التوّاقين إلى تأمين حياتهم المعتادة التى كثيرا ما تقاذفتها أمواج الأيديولوچيات السياسية والتغيرات الاجتماعية الاقتصادية، وكانت مقيدة أيضا بالأنساق اللاشخصية المذكورة منذ قليل.
وفى هذا المقال، سوف يكون إسهامى من خلال وصف أصوات الناس الذين عاشوا تجربة ثورة 1919 من خلال عينىْ طفل. وفيما بعد صار هذا الصبى عالم اجتماع شهيرا، هو الدكتور سيد عويس (1913-1988)، المشهور بتأليف: "ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعى" [عويس 1965]. وكان واحدا من قلة من العلماء الاجتماعيِّين المصريِّين الذين قاموا بدراسة عميقة للتراث الثقافى الشعبى للمجتمع المصرى. وفى أواخر حياته كتب "دراسة حالة" فى شكل سيرة ذاتية، بعنوان: "التاريخ الذى أحمله على ظهرى" [عويس 1985]. وأنا أترجم الآن هذا الكتاب إلى الياپانية (انظرْ عرضى للكتاب [Nagasawa 1995] – للاطلاع على الترجمة العربية للعرض المذكور: انظرْ؛ أخبار الأدب، عدد 17 مارس 1996، ترجمة: خليل كلفت). وأعتقد أن هذه السيرة الذاتية لمثقف مصرى – نشأ وتربّى فى حىّ حضرى تقليدى بالقاهرة الإسلامية – مفيدة، كوثيقة غنية بصورة رائعة، فى دراسة التاريخ الاجتماعى لمصر الحديثة(1).
1: أسرة عويس وثورة 1919
ولد سيد عويس فى فبراير 1913 فى حى شعبى نموذجى بقسم الخليفة بالقاهرة. وكانت أسرة عويس فى ذلك الوقت أسرة كبيرة ممتدة يرأسها جدّه، الذى كان تاجرا غنيا وحاكما مطلقا للأسرة. وكانت هذه الأسرة تتألف من أبى سيّد وأمه؛ وأُسَر جدّه، وأخى جده، وأخى أبيه؛ ومن أقارب جدّته وآخرين (وصل عدد الأطفال إلى 15 من أفراد الأسرة). وعندما اندلعت الثورة، كان سيد فى السادسة فقط من عمره، وذهب إلى مدرسة أولية، وهو يتذكر فى السيرة الذاتية تأثير الثورة على أسرته على أنها "أحداث حزينة ومثيرة"، كما يلى:
ولا يمكن إلا أن أذكر ما حدث فى أثناء ثورة 1919. وكان الجميع يتحدثون عنها فى البيت وفى الشارع وفى المقهى. وكنت أعلم عنها عن طريق جدّى لأبى وعن طريق ابن عمى "عبد المنعم" الذى كان فى ذلك الحين شابا يافعا يدرس فى الأزهر (مركز التعليم الإسلامى السنى – إيچى ناجاساوا). كان الإنجليز يجوبون شوارع القاهرة وهم يحملون البنادق لينشروا الخوف والفزع فى قلوب المصريِّين أطفالا كانوا أو شبابا أو نساء أو رجالا. وعندما مر الإنجليز أمام الحارة التى يقع بيتنا فيها لم يكن ابن عمى "عبد المنعم" فى البيت. كان مع زملائه الشبان يملؤون الشوارع هتافا بحياة مصر وسقوط الإنجليز والخونة. عندئذ أىْ عندما مر الإنجليز حاملو البنادق أمام الحارة صرخت زوجة عمى "أم عبد المنعم" صراخا متواليا مزعجا. وكان أبى فى المنزل لسبب لا أعلمه. وعندما علم أن الصراخ صادر من إحدى حجرات المنزل خرج من غرفته ذاهبا إلى مصدره، وصاح فى زوجة عمى طالبا منها أن تصمت وإلَّا. كان أبى الابن الأكبر وكان يرى بحق أو من غير حق أنه صاحب البيت إذا غاب عنه أبوه، أىْ جدّى لأبى. فلم تصمت. ورأيته وكنت صغيرا فى السادسة يهجم عليها لكى يلطمها أو يهددها بذلك لكى تصمت، فما كان من أمى إلا أن حالت بينه وبين ذلك فوقفت بينهما. فما كان من أبى إلا أن وجدها أمامه فأفرغ شحنة غضبه بأن ضرب أمى على خدها وكانت حاملا. وسأذكر ما حييت أنه بعد ذلك قد هدأوا واستكانوا، وأن زوجت عمى هدأت واستكانت. أما أمى فقد حدث لها مالم أتبينه فى وقته إلا بعد أن رأيت ما يشبه اللعبة المصنوعة من اللحم الآدمى فى وعاء. وقيل لى وقتئذ أن هذه اللعبة قد نزلت من بطن أمى...
وران الصمت على البيت حتى رجع جدّى لأبى من عمله، ثم عاد ابن عمى "عبد المنعم" بعد الغروب. وإذا بزوبعة تثور. سمعت حديثا صاخبا يصدر عن جدى لأبى وابن عمى. كانا يبدوان لى وكأنهما يمثلان دورا على المسرح الذى ذهبت إليه ذات مرة مع أبى فى أحد الأعياد. كان جدّى وحده وفى إحدى يديه كرباج، أما اليد الأخرى فقد كانت ممسكة بذراع عبد المنعم وكان جدّى يقول صارخا: "ما لهم الإنجليز يا ولد يا خنزير؟ مش هُمَّ اللى جابوا لنا الكهربا، مش هم اللى جابوا لنا الترمواى، مالهم الإنجليز يا ولد يا خنزير؟، ويردّ عليه ابن عمى صارخا هاتفا "تحيا مصر. ويسقط الإنجليز". كان جدّى يقول ما يقول وهو يضرب ابن العم بالكرباج وكان يقول ابن العم هاتفا ما يقول وهو يُضْرَب بالكرباج. وكانت نساء البيت وكن كثيرات يقفن من بعيد وتُهَمْهِمُ الواحدة بعد الأخرى "معلهشى يا سيدى حرَّم خلاص". وأسمع وأنا مشدوه عبد المنعم هاتفا فى كل مرة يضرب فيها "تحيا مصر، تحيا مصر، يسقط الإنجليز، يسقط الإنجليز". وكنت ومعى أطفال الأسرة وكانوا كثيرين نقف ونسمع ولا نقول شيئا. ولكننا كنا نرى ما يحدث مشدوهين، وكانت قلوبنا الصغيرة التى بدأت تكبر تخفق لهتافات عبد المنعم، وكنا من أجل ذلك معه قلبا وقالبا، نحيِّيه ونأسى له، ولكننا لم نستطع أن نفعل شيئا [عويس 1985: 32-33 (32-34 طبعة كتاب الهلال – المترجم العربى)].
ومن المرجح أن يكون هذا الحدث قد وقع ذات يوم فى أواخر مارس 1919 بعد أن اندلعت الانتفاضة الشعبية الكبرى فى 9 مارس وتم إرسال عدد كبير من الجنود الإنجليز إلى مصر لقمع هذه الحركة الشعبية. وقد مرّ موكب عسكرى للجيش البريطانى بعد أن تجوَّل فى شوارع كثيرة فى القاهرة بزقاق فى حىّ شعبى عاشت فيه أسرة عويس. وهكذا اقترب صوت أحذية الجنود من الناس العاديِّين الذين لم يشتركوا مباشرة فى أىّ نوع من الحركة الوطنية كالمظاهرات المعادية لبريطانيا. وقد احتكَّ هؤلاء الناس بالاستعمار الكولونيالى لأول مرة ووجدوا أنفسهم وجها لوجه بصورة مباشرة أمام خطره، مما أثار توترات اجتماعية كان لها تأثير كبير على العلاقات داخل أسرتهم. لقد امتزج الحماس الثورى بالعاطفة الوطنية، وحرّكت فظاعة العنف الجوّ الساكن للحياة الأسرية المعتادة، وأثارت خلافات حادة بين أفرادها. وكما سنرى فيما بعد، هزت الثورة السلطة الأبوية داخل الأسرة وكشفت مثل هذه المواقف غير المعتادة بعض العلاقات الدقيقة وحتى المرهفة بين أفرادها، فيما يتعلق بالمواقف السياسية وكذلك أيضا بالمشاعر العاطفية.
وفى سياق هذه الأحداث، يجرى وصف الثورة على أنها جزء لا يتجزأ من تاريخ الأسرة. وفى هذا التاريخ الوطنى المصغر فى أسرة واحدة، وجدنا مجموعة من الأشخاص من أسرة عويس كانوا مشتركين فى الثورة بأشكال متباينة: زوجة عم الطفل سيد التى لم تستطع أن توقف صراخها لأنها كانت قلقة على ابنها الذى ذهب ليشترك فى المظاهرات المعادية لبريطانيا؛ وأبوه الذى وبّخ زوجة عمه صائحا فيها وحاول أن يهجم عليها؛ وأمه التى حاولت التدخل بينهما فضربها زوجها؛ وابن عمه وجدّه اللذين دخلا فى مواجهة وتشاجرا بعد عودتهما إلى المنزل؛ وأطفال الأسرة الذين أحسوا بتعاطف عميق مع ابن عمهم.
ومن الملائم أن نقول إن هذه الأشياء ربما كانت تمثل مواقف متباينة للمصريِّين إزاء ثورة 1919، ولكنْ ليس لكل المصريِّين بطبيعة الحال. وقد دلّت مواقف المصريِّين إزاء الثورة وسلوكهم فى سياقها وآراؤهم فى الحكم الاستعمارى البريطانى على أشكال بالغة التنوع وفقا لاختلاف مواقعهم الاجتماعية. وينبغى أن نحذر من تخيُّل شعب جرانيتىّ التجانس والوحدة يمكن تعبئته بصورة آلية فى الحركة الوطنية. وسننتقل هنا إلى التركيز على مشهد حىّ للمواجهة بين ابن عم الطفل سيد الذى تجرأ على الاشتراك فى مظاهرات خطرة وجدّه الذى أثبت موقفه المتعاطف مع الحكم البريطانى.
2: آراء مختلفة عن الحكم الاستعمارى البريطانى:
المواجهة بين ابن عم الطفل سيد وجدّه
بدأت ثورة مارس فى 9 مارس 1919 بعد اعتقال سعد زغلول ونفيه إلى مالطة فى 8 مارس بمظاهرة لطلاب مدرسة الحقوق التى كان قد تخرَّج منها. وكانوا يهتفون بأنه لا يمكنهم أن يدرسوا القانون فى بلد يُداس فيه على القانون بالأقدام، وانضمَّ إليهم طلاب كثيرون من مدارس أخرى مثل المدرسة الزراعية، ومدرسة الهندسة، ومدرسة الطب، والمدرسة الثانوية التجارية، ونظموا مظاهرات ضخمة، وكانوا يهتفون ﺑ: "حياة مصر وزعامة سعد". وفى 10 مارس انضمَّ إلى هذه الحركة طلاب الأزهر حيث كان عبد المنعم يدرس، وكانت مظاهرتهم جيدة الإعداد والتنظيم وفقا لأحد المراقبين. وتلت هذه المظاهرات الطلابية إضرابات ضخمة للعمال وموظفى الحكومة، واشترك فى المظاهرات المعادية لبريطانيا طلاب المدارس الابتدائية، والطالبات، و – لدهشتنا – تلاميذ المدارس الأولية. وفى 11 مارس قُتل طالب، وكان أول ضحية، برصاص الجنود البريطانيِّين، وفى 16 مارس قُتلت امرأة من قسم الخليفة، مسقط رأس سيد، فكانت الضحية الأولى من الإناث فى المظاهرات [مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر 1984: 52-65]. واكتسبت هذه المظاهرات الدامية المعادية لبريطانيا المزيد من القوة عن طريق تنظيم سلسلة من مظاهرات جنازات هؤلاء الضحايا (ويمكن أن نجد نموذجا مماثلا لها للحركة الشعبية فى ثورة 1979 الإيرانية التى حدثت بعد ذلك بستين سنة).
وقد وقف طلاب الأزهر دائما على رأس هذه المظاهرات ولعبوا دورا مهمًّا فى مدّ الثورة إلى كل أنحاء البلاد، وبصفة خاصة إلى الريف لأن أغلب طلاب الأزهر كانوا من أبناء أعيان الريف [عبد المطلب 1990: 29]. وعندما تم إغلاق كل المدارس أثناء فترة اضطرابات الثورة، صار عبد المنعم مدرسا خصوصيا للأطفال فى الأسرة. وكان يعلمهم النحو العربى ويشرح لهم أيضا الشئون السياسية فى ذلك الحين. وحاول تحفيظهم القصائد الوطنية عن ظهر قلب. واعتقد الصغير سيد أن ابن عمه "كان يملك أدق نظرة لموقف الثورة بين أفراد الأسرة". والواقع أن عبد المنعم لعب فى الدعاية للثورة بين الجمهور العام بما فى ذلك الأُسَر العادية دورا مماثلا لدور زملائه من طلاب الأزهر عند عودتهم إلى قراهم.
وكان جدّ سيد، الذى ضرب حفيده غاضبا بكرباج، صارخا بأنه خنزير يجهل فوائد الحكم البريطانى، نوعا من أغنياء الحرب جمع ثروته أثناء الحرب العالمية الأولى. وقد ورث دكَّان عطارة من أمه، أم جدة سيد، التى كانوا ينظرون إليها فى الواقع على أنها "رجل البيت"، ثم قام بتوسيع تجارته عن طريق الحصول على مركز الوكيل الوحيد لشركة شل للپترول بالقاهرة وبدأ يتاجر فى الپترول، والبنزين، وشحوم السيارات وزيوتها، فضلا عن الشمع. وفتح مكتبا فى ميدان العتبة، وهو مركز تجارى مشهور فى القاهرة، ووسع تجارته بزيادة زبائنه فى كل أنحاء المدينة، واشترى فى نهاية الأمر عشرة دكاكين وعشرة بيوت. وكان تقديره للحكم الاستعمارى البريطانى وكأنه حقق التطور الاقتصادى فيما يبدو من خلال تدفق رأس المال الأجنبى وتشييد البنية التحتية الحديثة منذ الاحتلال البريطانى فى 1882.
غير أن الجدّ، شأنه فى ذلك شأن عبد المنعم، قام أيضا بتعليم أحفاده وفقا لطريقته الخاصة. فكان يأمرهم كل يوم بأن يقرأوا بصوت مرتفع مقالات من الصحف أمامه، وكان يصحح أخطاءهم النحوية. ويتذكر سيد نفسه جيدا أنه قرأ مقالا عن اغتيال السير لى ستاك، الحاكم العام للسودان فى نوڤمبر 1924. وينبغى أن نلاحظ أن الجدّ وابن العم كليهما كانت لهما "بيئة ثقافية مشتركة": أىْ، التراث الفكرى الإسلامى رغم اختلاف آرائهما عن الحكم الاستعمارى البريطانى. والواقع أن الجدّ، الذى كان يملك مجموعة ضخمة من الكتب عن الإسلام مثل كتب تفسير القرآن فى مكتبته، كان يأمر ابن العم أحيانا بأن يقرأ أحد هذه الكتب على أحفاده.
3: هزّ السلطة: الأب وزوجة العم
يُنظر إلى الحارة فى القاهرة، وكذلك فى مدن أخرى فى الشرق الأوسط، على أنها مكان اجتماعى خاص وحميم، على النقيض من الشارع كمكان عام. وكانت حارة سيد، التى كانت تتألف من ستة بيوت، ملعبا آمنا للأطفال الذين كان بوسعهم أن يأخذوا الخبز والماء من أىّ منزل فى الحارة فى أىّ وقت يشاءون. وفى العادة كان سيد وأصدقاؤه يلعبون الكرة هناك وفى شهر رمضان كانوا يصنعون نموذجا لمدفع بالقرميد كان يُستخدم لمعرفة وقت الإفطار. ولهذا فعندما أتى الجيش البريطانى من الشوارع الرئيسية إلى مقربة من مداخل الحوارى، نظر الناس العاديون فى الحوارى إلى هذا الاستعراض نفسه على أنه غزو خطير لمكان معيشتهم الخاصة.
وكانت زوجة العم زينب، أم عبد المنعم، هى التى كان رد فعلها على الاستعراض العسكرى هو الأكثر حساسية فى الأسرة. فقد صرخت صراخا حادًّا لأنها كانت قلقة على ابنها الذى كان يشترك فى المظاهرات المعادية لبريطانيا فى ذلك الحين. ولم تتوقف عن الصراخ رغم أن والد سيد كان فى المنزل. أو أنها علمت ذلك جيدا وتجرأت على أن تفعل هذا عن عمد. وقد قامت بمثل هذا "التحدى المستهين"، فيما يتصور الصبىّ، لأنه كانت لها أحاسيس معقدة نحو أبيه.
وكانت زوجة العم زينب إنسانة غريبة فى أسرة عويس. وكان أبوها من طبقة "الأفندية" (أصحاب الياقات البيضاء الحضريون المتعلمون)، وكان يعمل "كاتبا" فى "دائرة" يملكها أمير. وقد اضطرت زينب إلى مغادرة بيت أبيها وكانت ما تزال طفلة بمجرد أن ماتت أمها وتزوَّج أبوها من زوجته الثانية. وقد تربّت عند أسرة أمها، غير أنه كان يُسمح لها أحيانا بزيارة بيت أبيها فكانت تسنح لها فرصة الاتصال بعالم أبيها، مجتمع "الأفندية". وكانت تتمنى الانضمام إلى هذا المجتمع الراقى ذى الطابع الغربى، غير أن هذا كان مستحيلا. وفى نهاية المطاف تزوج منها عم الطفل سيد فانضمت إلى أسرة نموذجية من أسر الناس العاديِّين فى حىّ شعبى، وإنْ كانت قد احتفظت بعاطفة معقدة نحو عالم أبيها. وقد جاءت إلى الأسرة بسلوك صعب المراس، فكانت تُبدى رفضها لعاداتها، وأحدثت اضطرابا فى علاقاتها التقليدية. وكان مما لا يمكن تصوره فى نظر بقية أفراد الأسرة أن تتحدث بكل تلك الصراحة، وحتى أن تجرؤ على أن تطلب المال من الجدّ الذى كان كل أفراد الأسرة ينظرون إليه على أنه رأس الأسرة الرهيب ذو السلطة المطلقة.
وكان يبدو أنها تتخذ موقفا معقدا إزاء أبى سيد. ورغم أنها حاولت أن تقوم "بهجوم سيكولوچى" عليه، هو الحارس على عادات وتقاليد الأسرة، إلا أنها كانت تشعر بعاطفة معقدة نحوه. وذات يوم، تجرأت على دعوة زوج "أختها" – وكانت سمعته تشوبها الشوائب(2) إلى المنزل. وقد فعلت هذا رغم علمها أن أبا سيد كان بالمنزل، وقد وبَّخها بقسوة وطرده. غير أنها ما كانت امرأة غير مخلصة أو غير أخلاقية. وبالأحرى، كما يفسر سيد، فقد تجرأت على الإقدام على مثل هذا التحدى المشين لأنها كانت تُجلّ المركز الرفيع لأبيه فى الأسرة. وبدا أنها اعتبرت أن أم سيد لا تستحق رجلا رائعا مثل زوجها. وكانت فى بعض الأحيان تراقب عن عمد أمّ سيد وهى تستقبل عند الباب أباه الذى عاد من عمله. وكانت زوجة عم بغيضة للصغير سيد. وعلى سبيل المثال، يتذكر سيد أنها شرحت له أن أباه أصيب بأول نوبة قلبية لأنه حاول أن يمارس حقه فى الحياة الزوجية. غير أنه يمكن الآن أن يفهم السبب فى أنها لم تكفّ عن صراخها فى ذلك اليوم:
كانت تملؤها الرهبة من الرجال الذين يسيرون فى استعراض عسكرى (الجنود الإنجليز) ربما لأنها أساءت فَهْمَ أنهم أتوا إلى الأسرة لكى يحرموها من مركز رأس الأسرة، الرجل صاحب السلطة رسميا وفعليا (أىْ، والد سيد). ويمكن اعتبار الرهبة التى أبدتها فى مثل ذلك الموقف تعبيرا عن صلفها الكاذب وزهوها، غير أن السلوك الذى سلكته فى ذلك الحين نتج عن ظروف ثقافية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية متباينة [عويس 1985: 46](3).
4: الوعى الوطنى للأم
كان إجهاض أمه هو المشهد المؤثر للغاية فى نفس الصغير سيد وأصبح محفورا فى عقله وصار لا يُنسى. ولم يُرزق أبواه سوى بطفل واحد، فى حين كان لدى كل زوج وزوجة فى الأسرة أطفال كثيرون. وقد علم أن بعض إخوته وأخواته ماتوا بعد ولادتهم مباشرة. ولهذا حاولت أمه وعماته إقامة حفل "زار" (طقس لتهدئة الأرواح التى قد تسيطر على شخص) لكى يُولد(4). وقد قٌمْنَ حتى بخداع أبيه الذى كان ينظر إلى هذا الطقس على أنه من الخرافات (غير أن سيد افترض أن الأب ربما كان قد علم بذلك وتعاون معهن). وقد فهم بعمق الميل الخاص من جانب والديه نحوه، هو طفلهما الوحيد. وهو يتذكر جيدا أن أخاه الصغير توفى بعد ميلاده بشهرين، وأن أخته أيضا ماتت فى الثالثة من عمرها. وقد تسنّى له أن يعرف أنه كان له أخ أكبر توفى أيضا، وكان اسمه كامل، عندما كان يُنَادَى على أبيه وأمه على أنهما أبو كامل وأمّ كامل، حتى فيما بينهما. وكان اسم ابنهما الأكبر مأخوذا من اسم الزعيم الوطنى الشهير، مصطفى كامل. وكان اسم سيد ذاته مأخوذا من اسم الولى الصوفى، السيد البدوى [الذى يوجد ضريحه] فى طنطا. وهو يؤكد أن المصريين احتفظوا بتقليد قديم جدا فى تسمية أطفالهم بأسماء الآلهة، والقديسين المسيحيِّين، والأولياء المسلمين، والملوك، والزعماء السياسيِّين منذ زمن العصر الفرعونى.
وفى سيرته الذاتية، كتب سيد قائلا إنه اشترك فى المظاهرات المعادية لبريطانيا مرتين. وقد احتفظ فى ذاكرته ببعض الكلمات التى قالتها له أمه عند عودته إلى البيت أثناء تلك الأيام الثورية. وهو يتذكرها كما يلى:
وإننى أذكر أيضا ما قالته لى أمى فى أثناء هذه الثورة الشعبية العظيمة، هذه الأم التى عرف القارئ حتى الآن بعض سمات شخصيتها التى لا تدل أبدا على الوعى الوطنى الكافى لا عن تقاعس ولكنْ لأن هموم الحياة الأخرى وظروف نشأتها قد أعجزتها عن ذلك. قالت لى وعيناها مغرورقتان بالدموع "سيد اللِّوا سمُّوه... سمُّوه الإنجليز". ولم أعرف مَنْ أو ما هو "اللِّوا" وإن عرفت المقطع الثانى. وكانت تعنى "اللِّوا" مصطفى كامل الذى مات وهو فى شرخ الشباب(5). ومن أجل ذلك سرت شائعة فى صفوف الملايين بأن هذا الزعيم العظيم لا يمكن أن يكون قد مات ميتة طبيعية وبأن أعداءه وأعداء المصريين هم الذين قتلوه بالسمّ. ومَنْ يكون هؤلاء الأعداء سوى الإنجليز أعداء الحرية التى كان ينادى بها، بل كرس حياته القصيرة من أجلها هذا الزعيم [عويس 1985: 58-59]... وأذكر الآن ما اختلج فى جوانحها، وأن الدمع كاد أن يجرى من عينيها. وكانت لحظة أكدت لى فيما بعد أن الظالم المستبد يذكُر عادة ما يفعله وينسى ما هو أهم، ردّ فعل ما فعل، وأن الوطنية مشاعر لا يقف فى سبيل وجودها فقر أو جهل أو حتى ضباب فكرى [عويس 1985: 81-82].
هذا هو تفسيره الموضوعى للوعى الوطنى لأمه. ومن المفترض أنه كان لكلماتها تأثير كبير على تطوره الفكرى. وربما جاز لنا أن نقوم بهذا التأمل حول هذه القصة كما يلى. فى ذلك الحين، ربما كانت أمّ سيد قد تذكرت مصطفى كامل "المسموم" (فيما اعتقدتْ) فذكَّرها بابنها الميت، وهو كامل آخر. وربما تذكرت بعد ذلك سيد، الذى كان يشترك فى مظاهرة فى الشوارع، فكانت شديدة القلق بسبب صورتىْ الكاملين، على "ابنيْها الميتين". ويمكن القول إن الوعى الوطنى قد ينشأ فى عقول الأفراد من نسج خيوط مشاعر الأشخاص الحميمين لتصنع قماشة عريضة من الإيمان المشترك بوطن. وخلال الأيام المتوترة أثناء الثورة، كان الوعى الوطنى يتشكل فى عقل الأم، عن طريق تداخل صور أبنائها بعد أن مرت من جديد بحادث حزين آخر هو إسقاط جنينها.
5: ثورة 1919 والصغير سيد
من السمات المتميزة لثورة 1919أن مختلف الفئات والمجموعات الاجتماعية فى كل من المدن والقرى اشتركت فيها كلها معا. وعلى وجه الخصوص ما زال يُشار بصورة متكررة إلى يومنا هذا إلى أن المسلمين والأقباط تعاونوا وعززوا تضامنهم الوطنى أثناء الثورة، وكذلك إلى أن النساء لعبن دورا مهمًّا فيها. والواقع أن أول مظاهرة نسائية فى 16 مارس أعلنت نقطة البداية للحركة النسائية المصرية. وإلى جانب هؤلاء المشاركين الكبار، تمت تعبئة الأطفال أيضا فى ثورة 1919. وقد لوحظ بصورة متكررة أن الأطفال شاركوا بحيوية فى الحركات الجماهيرية فى مدن الشرق الأوسط، كما حدث فى حركة الانتفاضة فى فلسطين المحتلة وفى أحداث شغب حضرية أخرى. وفيما يتعلق بهذه النقطة، من المثير أن نقارن هذه الحركات الحديثة بتلك التى جرت فى العصور الوسطى. وينبغى أن نلاحظ أيضا أن أطفالا كثيرين سقطوا ضحايا فى ثورة 1919 كما فى حالة الانتفاضة.
ووفقا لذاكرة سيد فقد اشترك فى الثورة مرتين. فى الأولى، اشترك فى إضراب ومظاهرة نظمهما طلاب أكبر منه فى المدرسة الأولية، وفى الثانية اشترك فى مظاهرة أخرى هتف فيها مع أصدقائه: "فلتسقط لجنة ملنر"، دون أن يعرف ما يعنيه هذا الهتاف(6). ويمكن أن نسمى ثورة 1919 بثورة الأغانى، لأنه أثناء أيام الثورة انتشر فى كل أنحاء البلاد عدد من الأغانى الشعبية الوطنية والأناشيد، التى تضمنت أحيانا كراهية الشعب للحكم الاستعمارى البريطانى. وكان سيد نفسه ينشد كل يوم أغانى ثورية مثل أغانى سيد درويش، الموسيقى الشهير فى تلك الأيام.
وحتى بعد أن مرت ذروة الثورة، ظل حماسها باقيا فى حياة الصغير سيد. وذات يوم لاحظ أن المئات من طلاب المدارس الثانوية قاموا بغزو فناء المدرسة الابتدائية التى دخلها بعد تخرجه من المدرسة الأولية فى 1921 فى الثامنة من عمره . فقد كسروا بوابة المدرسة، ودخلوا الفناء، واحتلوه. وكان يوم امتحان. غير أن الامتحان تم إلغاؤه، وأطلّ سيد وأصدقاؤه إلى الفناء من نوافذ حجرات الدراسة، ولاحظوا أن ناظر المدرسة محاط بمجموعة من طلاب المدارس الثانوية. وقد اعتاد هذا الناظر أن يقف متشامخا كعملاق، ولكنه بدا فى ذلك اليوم أشبه بقزم بين مجموعة من طلاب المدارس الثانوية. لقد هزت الثورة نظام السلطة فى المدرسة كما فى الأسرة.
ومع ذلك فمن الصحيح أيضا أن ناظر المدرسة هذا قد ساعد طلابه على صقل وعيهم الوطنى من خلال طريقته الفريدة فى التعليم. فقد انجذب الصغير سيد إلى رسم بيانى بالتسلسل الزمنى للأُسٍر الحاكمة الفرعونية القديمة رسمه ناظر المدرسة وتأثر بعمق برحلة نظمها الناظر نفسه إلى الأهرامات وأبى الهول فى الجيزة. ومن خلال مثل هذا التعليم، دراسة التراث التاريخى، أحسَّ هو ورفاق دراسته بالنفور من الأتراك ومن أمّ الملك كلما عادت من إجازتها الصيفية فى تركيا. وكان هذا أيضا هو السبب فى أنه أحسَّ بالاستياء من موقف متغطرس لمدرس إنجليزى التقى به أيام المدرسة الثانوية.
وإلى جانب تأثير التعليم فى المدارس على وعيه الوطنى، تأثر تطوره الفكرى أيضا بالتعليم بمعناه الواسع فى الأسرة والمجتمع المحلى. فبالإضافة إلى الدروس الخاصة التى أشرنا إليها من قبل والتى تلقاها من الأب وابن العم فى الأسرة، كانت اللقاءات السياسية لأبيه وأصدقائه هى التى قدمت فرصة مهمة ﻟ سيد لتأكيد فكره الوطنى. وكان أصدقاء أبيه يعملون فى مهن مختلفة، فمنهم الترزى، والنقاش، وضابط الجيش، والكاتب، وصاحب المكتبة، غير أنهم جميعا كانوا يشكلون "شلّة" كما تسمى فى الحياة السياسية المصرية.
وفى أغسطس 1927، شهد الصبىّ موكب جنازة سعد زغلول، وكانت جنازة ضخمة وقد دفن فى قرافة الإمام الشافعى بجوار الحىّ الذى تقع فيه وكالة أبيه. وقدَّم، وكان فى الرابعة عشرة من عمره، تقييما باردا ﻟ سعد زغلول كسياسى. فقد قال: "وكان إنسانا من حقه أن يخطئ أحيانا وأن يصيب أحيانا أخرى" [عويس 1985: 111](7).
وكان السياسيون فى حزب الوفد الذى تزعَّمه سعد يُعتبرون الجيل الجديد من القادة السياسيِّين الذين قاموا بتقوية مركزهم أثناء ثورة 1919. وعلى العكس من الجيل القديم للحزب الوطنى، كانوا قد تلقوا تعليما حديثا وحصلوا على خبرات إدارية فى ظل الحكم البريطانى. غير أن من الأهمية بمكان أن سيد الصغير، رغم أنه كان يشعر بالتعاطف مع الحزب الوطنى، بدا أنه بدأ يدرك بصورة مبهمة مجيء عهد ما بعد الوفد، الطريق إلى ثورة يوليو، من خلال فهمه لخلفيتها الاجتماعية عبر تجاربه الشخصية فى تلك الفترة بعد ثورة 1919. وهذه التجارب هى التى أثرت تأثيرا كبيرا على تطوره الفكرى عبر حياته الأكاديمية كمتخصص فى أنشطة الخدمة الاجتماعية وكذلك أيضا كباحث سوسيولوچى.
وذات يوم لعب الكرة مع أصدقائه فى أرض فسيحة بجوار القلعة. وفى طريق عودتهم رأوا نساء شبه عاريات تحت سور القلعة. "وكان النصف الأسفل من أجسامهن عاريا تماما، وكانت كل واحدة منهن تضرب ساقيها بيديها وما تحت الساقين وما بينهما صائحة: ’هالو جونى جيفت مونى‘، ’هالو چورچ جيفت فود‘، والإنجليز يضحكون ويهللون ويقذفوهن بـ ’البقسماط‘ أحيانا، وبـ ’السليقة‘ أحيانا أخرى". وعند رؤية هذا المنظر، قذف سيد وأصدقاؤه هؤلاء النسوة بالحجارة حتى غضبن وأخذن يجرين يطاردن الصبية غير أنهن لم يستطعن اللحاق بهم [عويس 1985: 96](8). وكان هؤلاء النسوة من الفقراء الذين يعيشون فى حىّ الخليفة، يقتاتون على ما يشحذون من أولئك الذين يزورون مقابر أسرهم أو مشاهير أولياء الله من المسلمين.
وعلاوة على هذا، ففى النصف الأول من العشرينات، فقد عدد كبير من العمال الذين عرفهم الصبى جيدا أعمالهم بسبب الأزمة الاقتصادية بعد الحرب العالمية الأولى(9). فكانوا مجبرين على كسب قوتهم من بيع الأطعمة ومن أعمال أخرى متنوعة. وبالإضافة إلى ذلك، لاحظ أن الكثيرين من الناس كانوا يجنَّدون كعمال فى الجيش البريطانى للحصول على "كسرة خبز" فى زمن الحرب. وكانوا يرسلونهم إلى سوريا وفلسطين، تاركين وراءهم أسرهم فى مصر. ويقال إن عدد المزارعين المجندين للخدمة العسكرية كعمال وصل إلى مليون ونصف مليون، وصار هذا التجنيد أحد أهم أسباب ثورة 1919 [بركات 1991: 66-67؛ Goldberg 1992: 268-271].  
وفى وقت لاحق، ترك سيد المدرسة الثانوية نتيجة لموت أبيه، غير أنه لم يستطع أن يتخلى عن أمله فى الدراسة فدخل مدرسة الخدمة الاجتماعية بالقاهرة فى عام 1938 وكان فى الخامسة والثلاثين من عمره فى ذلك الحين(10). وفى أول يوم من أول تدريب على دراسة حالة فى هذه المدرسة، التقى بأسرة فقيرة جدا تعيش فى "حوش قرافة" فى حىّ الخليفة، فى منطقة أزقة مدينية صارت تسمى "مدينة الأموات". وعندما التقى بهذه الأسرة وأصيب بصدمة جعلته يشعر بأن عينيه "قد استُبدلت بهما عينان أخريان" [عويس 1985: 11]، استحوذ على كيانه نفس العقل النقدى الذى استشعره أيام ثورة 1919. إنه عقله النقدى الفريد الذى ظل ينشد الإصلاح الاجتماعى فى مصر والذى امتزج بإحساسه الوطنى.
إشارات
1: ثلاثية نجيب محفوظ الروائية (بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية) تقدم لنا أيضا صورة نموذجية للأسرة القاهرية وتصور اشتراك أفرادها الشبان فى ثورة 1919 [محفوظ 1956، 1957 [1971، 1972، 1976)]. ويمكن أن نقارن هذه الرواية بالسيرة الذاتية ﻟ عويس – إشارة للمؤلف.
2: كانت هذه المرأة تستقبل زوج "أختها" الذى كانت تشوب سمعته الشوائب على مسمع ومرأى من الجميع، ولم تستقبل صديقا أو عشيقا كما جاء فى نص المستعرب الياپانى – إشارة المترجم.
3: تركنا استشهاد المستعرب الياپانى كما هو لكى يتابع الصلة بين استنتاج صحيح فى حد ذاته بشأن نزوع الرهبة من الإنجليز إلى تحطيم رهبة رأس الأسرة، وبين استشهاد لا يتضمن هذا المعنى وإنْ بدا كذلك نتيجة لقراءة خاطئة لنص عويس فى هذا الموضع. على أن الصفحة السابقة للصفحة التى يأخذ منها استشهاده تشتمل على نص يشير إلى رهبة الإنجليز ورهبة أبى سيد:
وكانت تفعل ذلك وغيره متحدية أبى فى بعض الأحيان. إنها تعلم مكانة هذا الرجل وهى تنزله فى قلبها منزلة رفيعة، ومع ذلك تراها تصرخ صراخا رهيبا وهو فى البيت عندما مرّ الجنود وهم مدججون بالسلاح أمام الحارة التى نسكن فيها لأن ولدها عبد المنعم كان فى ذلك الحين خارج المنزل، كان يشترك فى مظاهرة ثورة 1919 (ص45، نفس المصدر).
وجاء فى موضع سابق:
 كان الإنجليز يجوبون شوارع القاهرة وهم يحملون البنادق لينشروا الخوف والفزع فى قلوب المصريين أطفالا كانوا أو شبابا أو نساء أو رجالا. وعندما مرّ الإنجليز أمام الحارة التى يقع بيتنا فيها لم يكن ابن عمى "عبد المنعم" فى البيت، كان مع زملائه الشبان يملؤون الشوارع هتافا بحياة مصر وسقوط الإنجليز والخونة. عندئذ أىْ عندما مرّ الإنجليز حاملو البنادق أمام الحارة صرخت زوجة عمى "أم عبد المنعم" صراخا متواليا مزعجا. وكان أبى فى المنزل" (ص32، نفس المصدر).
وينبغى الآن أن نعيد اقتباس ذلك الاستشهاد الذى أسيء فهمه وأسيئت بالتالى ترجمته إلى الإنجليزية، فبعد الإشارة إلى الاستقبال المهيب الذى كان يلقاه أبو سيد من زوجته أم سيد، يعلق الدكتور سيد عويس قائلا:
"إنها الرهبة التى كان يشعّها الرجال فى ذلك الحين أو تلك التى كان يشعّها بعض الرجال عندما يؤدون دور صاحب السلطة والنفوذ دور رب العائلة الرسمى أو الفعلى. تبدو هذه الرهبة فى هذه المواقف التى إن دلت على شيء فهى تدل على الزهو الكاذب والصلف الذى لا داعى له. ولكنها الظروف الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الظروف السياسية كانت كلها من وراء هذه الأنماط السلوكية فى ذلك الحين" (ص46، نفس المصدر).
ومن الواضح أن هذا الاستشهاد الأخير كان ينبغى أن يتطابق مع الاستشهاد الوارد فى المقال. غير أن الأصل يخلو تماما من الكثير مما نجده فى استشهاد المقال. فالرجال الذين يشعُّون الهيبة هم أبو سيد وأمثاله وليس الجنود الإنجليز، ولا وجود لأىّ استعراض عسكرى ولا لأىّ إشارة إلى مجيء هؤلاء لحرمان الأسرة المصرية من مركز رأس الأسرة. كما أن الاستشهاد الأصلى يخلو من أىّ إشارة إلى زوجة العم زينب ولا إلى أن الرهبة كانت تملؤها ولا إلى أنها أساءت فهم شيء ما ولا إلى أنها أبدت رهبة ولا إلى أنها عبرت بذلك عن صلفها وزهوها ولا إلى أنها سلكت سلوكا ما من أىّ نوع. ويبدو أن الأستاذ إيچى ناجاساوا فَهِمَ أن زينب هى المقصودة بعبارة "إنها" فأخطأ قراءة الاستشهاد كله – إشارة المترجم.
4: فى الحقيقة لم يكن هناك حفل زار، بل كان الأمر يتعلق بطقوس التبخير والعقد من أجل حفظ الحمل والولادة وذلك على يد الحاجة صابرة كوديا الزار – إشارة المترجم.
5: "اللواء" هو اسم الصحيفة التى أصدرها هذا الزعيم الوطنى الذى مات فى الثانية والثلاثين من عمره فى 1908، واعتاد الناس أن يطلقوا عليه هذا اللقب – إشارة المؤلف.
6: أرسلت الحكومة البريطانية لجنة ملنر لتقصى الحقائق حول الوضع المضطرب فى مصر وشروط المصالحة مع الزعماء الوطنيِّين المصريِّين من ديسمبر 1919 إلى أپريل 1920، غير أن حركة مقاطعة هذه اللجنة امتدت إلى كل أنحاء البلاد – إشارة المؤلف.
7: يبدو أن وصف تقييم الصبىّ سيد ﻟ سعد زغلول بأنه بارد يرتبط بالترجمة الخاطئة لهذا الاستشهاد، وقد أثبتنا الأصل الصحيح للاستشهاد فى متن المقال، أما الترجمة الإنجليزية الخاطئة له فيمكن أن نعيد ترجمتها إلى شيء من قبيل: "كان فى الحقيقة إنسانا ارتكب أخطاءً أحيانا وكان مصابا (أو: مبتلًى) بها (أىْ: بالأخطاء)" – إشارة المترجم.
8: هناك خطأ فى الترجمة الإنجليزية جعل هؤلاء النسوة يلطمن "يضربن بأيديهن على خدودهن"، فى حين أنهن كن يفعلن شيئا آخر استدعى توسيع الاستشهاد قليلا – إشارة المترجم.
9: يشير الدكتور سيد عويس إلى "العشرينات فى النصف الأخير" وإلى "الكساد (الذى) كان يضغط على أنفاس سكان الحىّ من العمال" (ص96، نفس المصدر) – إشارة المترجم.
10: يشير الدكتور سيد عويس إلى 16 من شهر أكتوبر عام 1937 باعتباره تاريخ افتتاح مدرسة الخدمة الاجتماعية بالقاهرة وحضوره أول محاضرة كطالب فيها، أما عام 1938 فقد كان تاريخ قيامه بدراسة حالة أول حدث جانح متهم فى جريمة أمام محكمة الأحداث بالقاهرة وليس تاريخ دخوله تلك المدرسة – إشارة المترجم.
 
مراجع
أولا: بلغات أخرى
·        Barakat, ‘Ali (Trans. By Kato, Hiroshi and Nagasawa, Eiji) 1991, Peasant Revolts in Modern Egypt, 1769-1952, M.E.S. series no. 30, Institute of Developing Economics (in Japanese).
·        Brown, Nathan 1990, Peasant Politics in Modern Egypt: The Struggle Against State, New Haven, Yale University.
·        Burke, III, Edmond 1993, “Middle Eastern Societies and Ordinary People’s Lives”, in Burke ed., Struggle and Survival in the Modern Middle East, Berkeley, University of California Press.
·        The Charter, n.d., Cairo, State Information Service, United Arab Republic.
·        Goldberg, Ellis 1992, “Peasants in Revolt: Egypt 1919”, International Journal of Middle Eastern Studies (24): 261-280.
·        Kato, Hiroshi 1989, “The 1919 Revolution”, in the Study Group on the Social Change in the Arab East ed., An Annotated Bibliography the Modern History of the Arab East, Chapter 1, “Egypt”, Institute of Developing Economics, pp. 8-9 (in Japanese).
·        Nagasawa, Eiji 1995, “An Autobiography as Case Study of an Egyptian Sociologist: Sayyid ‘Uways, The History Which I Carry on My Back”, Mediterranean World XIV (The Mediterranean Studies Group, Hitotsubashi University, Tokyo.
·        Shulze, Reinhard 1981, Die Rebellion der Aegyptischen Fallahin 1919, Bonn, Ballbek Verlag.
 
ثانيا: باللغة العربية
1: إسماعيل، حمادة محمود 1991، "دور الأقاليم فى تاريخ مصر السياسى: قراءة فى التاريخ السياسى لمديرية القليوبية، 1919-1936"، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
2: الدسوقى، عاصم 1981، "ثورة 1919 فى الأقاليم: من الوثائق البريطانية، القاهرة"، دار الكتاب الجامعى.
3: "الرافعى، عبد الرحمن 1946، "ثورة سنة 1919"، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية.
4: عبد المطلب، عاصم محروس 1990، "دور الطلبة فى ثورة 1919، 1919-1922"، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
5: عويس، سيد 1965، "من ملامح المجتمع المصرى المعاصر: ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعى"، القاهرة، مطبعة دار الشعب.
-- :6  1985، "التاريخ الذى أحمله على ظهرى، دراسة حالة"، القاهرة، دار الهلال، الجزء الأول.
7: محفوظ، نجيب 1956 (1972)، "بين القصرين"، القاهرة، مكتبة مصر، الطبعة التاسعة.
8: -- 1957 (1971)، "قصر الشوق"، القاهرة، مكتبة مصر، الطبعة الثامنة.
9: -- 1957 (1976)، "السكرية"، القاهرة، مكتبة مصر، الطبعة السابعة.
10: مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر 1984، "شهداء ثورة سنة 1919"، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
11: "الميثاق"، قدَّمه الرئيس جمال عبد الناصر إلى المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية يوم 21 مايو 1962، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الملحق الثالث
 
الفصل 14 من كتاب عالم جديد
وقد قمتُ بإلحاقه هنا
لأنه يدور حول مستقبل الكتاب والقراءة
 
 
 
 
 
 
 
 
38
أىُّ مستقبل ينتظر
الكتاب والقراءة؟
 
فى 1972، عُهد إلى اليونسكو بمهمة تنظيم أعمال العام الدولى للكتاب، التى أتاحت جذب اهتمام الجمهور إلى مستقبل الكتاب والقراءة. وبعد هذا بجيل تقريبا، أبرزت الثورة السيبرنيطيقية ملامح مجتمع جديد للمعلومات، وبدا أن وضع الكتاب قد تغير بصورة جذرية. وفى هذا السياق من التحول الكامل، ورغم النبوءات التى تعلن نهاية عصر غوتنبرج، والزوال الوشيك للكلمة المطبوعة، فإننى مقتنع بأن الكتاب ما يزال، وسوف يظل، أداة أساسية لتعليم الأجيال المقبلة، ولتقدم المعارف، وللتداول الحر للأفكار. والواقع أن الكتاب ما يزال يشكل أداة لا بديل لها - بلا منازع فى معظم أنحاء العالم - للمعلومات والمعرفة، للحلم والهرب، وليس هناك ما يسوغ الإعلان عن اختفائه الوشيك.
ولا شك فى أن التكنولوچيات الجديدة للاتصالات المسموعة والمرئية والإعلام المتعدد الوسائط تتجه بسرعة إلى تغيير سياق إنتاج واستقبال الكتابة والمعلومات. ويتطلب هذا المنظور من جانبنا تفكيرا جديدا حول نشر المعرفة وتقاسُمها. غير أنه يبدو لى أن من المهم أن نناضل ضد تلك الفكرة الزائفة، وغير الصحيحة تاريخيا، القائلة بأنه لا مفر من أن يحل نمط جديد من الاتصالات محل الأنماط السابقة له وأن يحكم عليها بالزوال: إن اختراع المطبعة لم يحل مطلقا محل الاتصال الشفاهى والنقل الشفاهى. ولهذا فإنه ينبغى أن نفكر فى مختلف أنماط الاتصال من حيث التكامل، وليس من حيث التنافس بينها.
وبالتالى فإنه لا ينبغى أن تؤدى بنا الثورة التكنولوچية الراهنة إلى أن نقلل من دور الكتاب؛ بل ينبغى بالأحرى أن تحفزنا إلى إعادة تعريف وظيفة الكلمة المكتوبة فى مجتمعاتنا وفى الإطار الجديد لوسائل الاتصال. وهذا التفكير فى الطابع المستقبلى ضرورى بصورة خاصة لأن الكتاب يظل الوسيلة المفضلة لكل فكر نقدى وإبداعى. وبدون قارئ لا يوجد كتاب: ولكى يلعب الكتاب دوره بصورة كاملة فإنه يفترض تنوعا لا نهائيا من القراء الذين يعطونه، بفعل القراءة ذاته، كامل معناه وتعددا فى المعانى. والكتب، كما كتب أفلاطون فى پروتاغوراس Protagoras، "لا تستطيع أن تجيب ولا أن تسأل". ذلك هو امتياز البشر، فالقراءة حقا هى ذلك الفعل الذى يأتى فى سياقه، فى مجابهة مع الآخر، بدء حوار صامت، وعلاقة تضامن فكرى، وبداية احترام الآخرين، وبادرة تأسيس ثقافة سلام وتسامح. والحقيقة أن النظم الشمولية لا تسئ فهم هذا مطلقا، فهى لا تكاد تفرض سيطرتها إلا وتواصل بلا انقطاع إحراق الكتب وفرض رقابة دائمة فى هذا المجال.
 
الكتاب: أداة الحرية
وحامل التراث الثقافى العالمى
 
ذلك أن القراءة أيضا فعل من أفعال الحرية يفتح أمامنا أبواب المعرفة ويعطى لكل منا قوة إضافية للتأثير على العالم. وتبين دراسة للعالم اللغوى ألان بنتوليلا Alain Bentolila عن شبه الأمية أن كلام شبه الأميين الصغار يحتوى بالكاد على 0.5% من الكلمات المجردة - وهذا "قصور يتركهم عاجزين بصورة مفزعة إزاء فرض هذا المفهوم أو ذاك عليهم إذ يقدم لهم على أنه المبدأ التفسيرى الوحيد والشامل"(1). والقراءة، على العكس، تشكل إحدى أوثق ضمانات "البحث الحر عن الحقيقة الموضوعية" و"التبادل الحر للأفكار والمعارف" والتى تتمثل مهمة اليونسكو بحكم نصوص قانونها الأساسى فى دعمها. ولهذا فإنه لا غنى عن المزيد من تعزيز النضال ضد الأمية التى، وإن كانت قد انخفضت من حيث قيمتها النسبية، إلا أنها ما تزال تصيب أكثر من 880 مليون من الكائنات البشرية. ويجب أيضا إعطاء دفعة جديدة لمكافحة شبه الأمية، هذا الشكل من الإقصاء الجذرى، الذى يصاحب ويغذى فى كثير من الأحيان أشكالا أخرى من العزل. ويجب أن يشكل الوصول الشامل إلى الكتاب وإلى القراءة، مدى الحياة، إحدى أولوياتنا للقرن الحادى والعشرين.
ونحن على اقتناع بأن الكتاب يمثل من الناحية الجوهرية أداة للتحرر. غير أنه يمكن فى الممارسة العملية الانحراف به عن غايته ووضعه فى خدمة الاضطهاد والتمييز والعنف. والحقيقة أن إجلال الكتاب، عندما يكون محصورا، يمكن أن ينتهى إلى التعصب ورفض كل شكل آخر للمعرفة حالما يشوه التراث ويحيله إلى أيديولوچية للإقصاء. وبهذا الخصوص ينبغى أن نعير اهتماما بالغا للكتب المدرسية، التى يجرى الانحراف بها فى أغلب الأحيان عن غاياتها ويتم استخدامها بالتالى فى تمجيد ثقافة للحرب والانغلاق، وتقيم حواجز لا يمكن عبورها بين الثقافات بدلا من تقريبها، وتطمس الدور الذى يلعبه الشعب، والنساء، والأقليات، وعامة الناس، فى التاريخ، فلا تحتفى فى أغلب الأحيان إلا بالأمراء والأقوياء والفاتحين. وهذا هو السبب فى أن تنقيح المقررات المدرسية يشكل الخطوة الأولى نحو هذه الثقافة للسلام وهى أسمى أمانى اليونسكو؛ ثقافة تقوم، دون إنكار للتاريخ القومى، بوضع المعرفة فى خدمة الأيديولوچية. ويجب بحث هذا التنقيح للكتب المدرسية عن طريق مفاوضات ثنائية بين الأمم التى كثيرا ما وضعها التاريخ فى مواجهات أو عن طريق تدابير متكاملة على المستوى الإقليمى حيثما أتاحت ذلك إنجازات التعاون. تلك هى المهمة الضخمة التى تطرح نفسها علينا: أن نشجع فى كل مكان ظهور أشكال متعددة للقراءة والكتابة والكلام تعكس تعقيد العالم وثراءه وتعدديته.
وتعبر هذه التعددية عن نفسها فى المحل الأول فى تنوع اللغات، وهى مصدر تعددية النظرة إلى العالم Weltanschauungen. وعلى العكس، كما يشدد چاك ديريدا Jacques Derrida، "مع لغة واحدة، تفرض نفسها دائما، بدون مناقشة ممكنة، فلسفة واحدة، مجموعة واحدة من بديهيات الخطاب والتوصيل الفلسفيين"(2). على أنه فى الوقت الحالى، تختفى لغات عديدة بمعدل من المحتمل أنه لم يسبق له مثيل(3). ومع اختفائها يغدو التنوع الثقافى للعالم هو المهدد بالانقراض. ويجب أن تعمل اليونسكو فى هذا المجال، وآمُل أن تكون حماية التنوع اللغوى إحدى أولوياتها: لهذا فإن توزيع الكتاب وتشجيع القراءة بأكبر عدد ممكن من اللغات يمثلان محورين أساسيين يجب أن نواصل تطويرهما.
ومع ذلك فإنه لا يمكن لسياسة فعالة لدعم الكتاب أن تقتصر على تشجيع القراءة فى المرحلة الأخيرة. إذ ينبغى أيضا، وسوف نعود إلى هذه النقطة، تشجيع الإنتاج الأدبى والكتابة كشرط مسبق للقراءة. ويمكن أن يكون إنشاء جوائز أدبية على المستوى القومى، ولكن أيضا على المستوى الإقليمى والدولى، مفيدا بهذا الصدد؛ وعلى وجه الخصوص فإنه ينبغى إدخال ممارسة الكتابة منذ المراحل الأولى للتعليم الابتدائى وطوال التعليم الثانوى، وإدخال دورات الكتابة الأدبية creative writing فى المستوى الجامعى. ويسهم تشجيع التعبير الشفاهى، وبصورة خاصة عبر المسرح، فى تعزيز هذا المنطق نفسه. والتحدى هائل: تشكل اللغات جانبا فريدا وثمينا من تراث البشرية. وإذا نجحنا فقط فى حمايتها فإن الكلمات ستصير، وفقا لعبارة كاميلو خوسيه ثيلا Camilo José Cela، "أبقى من الحجر".
 
إشباع الجوع للكتب:
نحو وصول شامل إلى الكلمة المكتوبة
 
لا ينبغى أن يعمينا ظهور وانطلاق الإنترنت عن حقائق أساسية: فى أغلبية البلدان فى مختلف أنحاء العالم يبقى الوصول إلى التكنولوچيات الجديدة هو الاستثناء وما يزال الكتاب امتيازا نادرا. وفى حين أنه، فى عدد كبير من البلدان الصناعية، يواجه عرض وافر من الكتب طلبا متراجعا على القراءة، فإن الأغلبية الساحقة من البلدان النامية تجد نفسها فى الوضع المعاكس: إن "الجوع للكتب" هناك يمثل وباءً ويتفاقم نتيجة للزيادة الديموغرافية: نقص الكتب المدرسية والتقنية أو كتب الأطفال، عجز فى شبكات المكتبات، أسعار فاحشة. ووفقا لبحث أجرته اليونسكو(4)، فإنه فى 22 بلدا من أصل 93 بلدا أجابت على الاستبيان، لم يكن لدى حوالى 60% من تلاميذ المرحلة الابتدائية كتب مدرسية بالعدد الكافى.
ويُنشر حوالى 900000 عنوان كل عام فى العالم. غير أن الإنتاج موزع بصورة غير متكافئة مطلقا: ثلاثة أرباعها (73.6%) ما تزال فى البلدان المتقدمة(5). وبطبيعة الحال فإننا قد نعتقد أننا إزاء تطور مشجع، إذ أن هذه النسبة كانت 86.6% فى 1970. غير أن التفاوت، فى علاقته بالسكان، بين عدد العناوين المنشورة فى البلدان الصناعية وفى البلدان النامية مذهل أكثر بكثير: إنه يصل إلى حوالى 10 - 1 على الترتيب(6). وبعض المناطق محرومة بصورة خاصة: وفقا لأحدث الأبحاث المتوفرة، نشرت أفريقيا 1.5% من العناوين التى ظهرت فى العالم مقابل 12.3% من سكان العالم، ونشرت منها آسيا 24.9% من العناوين مقابل 58.9% من السكان. وفى تناقض صارخ مع هذا فإن أوروبا بنسبة 9.3% من السكان نشرت 46.7 من العناوين، وأمريكا الشمالية بنسبة 5.2 من السكان نشرت 11.8% من العناوين(7). وأخيرا فإن توزيع المكتبات - القومية، وغير المتخصصة، والعامة، والجامعية، والمدرسية - فى العالم يثبت ويكثف هذا الاتجاه العام: نقص التجهيز فى البلدان الفقيرة والوفرة فى البلدان الغنية. وبطريقة مماثلة، يتباين عدد المجلدات المتوفرة فى المكتبات العامة بصورة كبيرة حسب البلد: 7 لكل 1000 نسمة فى بنين مقابل 7226 لكل 1000 فى فنلندا(8).
ويكشف حجم المشتريات السنوية للمكتبات العامة، بدقة أكثر أيضا، الفوارق الإقليمية الهائلة فيما يتعلق بالوصول إلى الكتاب، ويرسم الحدود الجغرافية "للجوع للكتب". وفى حين أن المشتريات تُعدّ بالملايين فى البلدان المتقدمة، فإنها تصل، فى أفضل الأحوال، إلى بضع عشرات الآلاف فى البلدان النامية(9). وفى غالبية من البلدان عبر العالم، وبصورة أساسية فى أفريقيا، وأمريكا اللاتينية والجنوبية، وجنوب آسيا، والعالم العربى، تشترى المكتبات العامة كتبا أقل من عدد الأطفال الذين يولدون فيها. وبعبارة أخرى فإن الاستثمارات العامة فى مشتريات الكتب فى تلك البلدان تقل عن مجلد واحد لكل طفل جديد فى السنة! ويجب مضاعفة هذه الاستثمارات على الأقل من الآن وحتى عام 2010، لكى ينخفض، نوعا ما، عدم المساواة الهائل الذى يؤثر فى الوصول إلى الكتاب وفقا لمستوى تنمية البلدان. وهذه الاستثمارات أساسية للتنمية، ولكن أيضا للسلام والديمقراطية. ومن المؤسف أن جمود الميزانيات القومية وضخامة النفقات العسكرية - التى تبدأ من جديد فى الارتفاع هنا وهناك - يشكلان قيدا على مثل تلك الاستثمارات التى يمكن أن تتيح لسكان البلدان النامية القيام ببداية جديدة، إذا أدرك أصحاب القرار وإنْ قليلا، فى البلدان الأكثر غنى كم يمكن أن تكون مساعدة حتى متواضعة فى هذا المجال حاسمة بالنسبة للتقدم فى البلدان المعنية.
والرهان ليس كميا فحسب. وعلى سبيل المثال فإن عدد العناوين الجديدة المنشورة فى 1995 تحت فئة "التاريخ - الجغرافيا" تباين تباينا مذهلا وفقا للبلدان بتفاوت يتراوح بين 1 و 11493(10)! وبوضع هذه الأرقام فى علاقاتها بالسكان فإنها تكشف عن وجود شبه احتكار للبلدان المتقدمة على إنتاج كتاب التاريخ والجغرافيا. ومثل هذه الاختلالات (التى نلاحظها، ببعض التباينات، فى كل فروع المعرفة) لا مناص من أن تكون لها تأثيرات على العلاقة التى تحتفظ بها شعوب العالم بثقافاتها الخاصة وبالثقافات الأخرى، وعلى قدرة البلدان النامية على المحافظة على تراثها الثقافى.
ويمكن الاعتراض على هذا، وليس بدون حق، بأن التراث الشفاهى، فى المجتمعات التقليدية، قد تدارك وعالج مثل هذه الاختلالات منذ عهد بعيد عن طريق تأمين نقل المعارف والخبرات التقنية التى لا غنى عنها، مثل التراث الثقافى اللامادى أو الرمزى، من جيل إلى جيل. ولا شك فى أن الكلمة المكتوبة ليست الوسيلة الوحيدة للمعرفة أو الوسيلة الوحيدة لنقلها؛ غير أن الكتاب يدوم وقتا أطول من الكلام، كما تدل العبارة الشهيرة ﻟ أمادو هامپاتيه با Amadou Hampâté Bâ: "فى أفريقيا، عندما يموت رجل مسنّ، تحترق مكتبة!". وعلاوة على هذا، يمثل الكتاب نمطا مفضلا ولا يمكن تفاديه للوصول إلى المعرفة الحديثة. ولهذا فإنه لا غنى عن توزيعه الواسع النطاق لتأمين أن يتمتع الجميع بالحق الذى يكفله الإعلان العالمى لحقوق الإنسان (المادة 27) "فى المشاركة فى التقدم العلمى وفى الخيرات التى تنتج عنه". فكيف يمكن، بدون الوصول إلى الكلمة المكتوبة، تطوير التعليم والتدريب؟ وكيف يمكن تأمين تدريب المهندسين والباحثين هناك حيث تخلو المكتبات الجامعية من أحدث المجلات العلمية أو التقنية؟ ويشكل هذا النقص عقبة رئيسية أمام التنمية، إذ أنه يشجع على "نزوح الأدمغة" من البلدان المحرومة إلى البلدان الغنية، حيث يتيسر الحصول على المراجع وحيث يمكن أن يتم الحوار العلمى من الآن فصاعدا بصورة فورية. ولهذا يمثل الوصول الشامل إلى الكلمة المكتوبة أولوية من أولويات التنمية، إذ أنه، فيما وراء التعليم الأساسى، يتيح شكلا للتدريب ما بعد تعليم القراءة والكتابة، ويشكل جسرا نحو معارف أخرى. وهو أيضا أولوية من أولويات اليونسكو، التى تتمثل إحدى مهامها الرئيسية على وجه التحديد فى المساعدة على نشر المعرفة "بتيسير وصول كل الشعوب إلى ما يطبعه كل شعب منها، عن طريق أساليب دولية ملائمة للتعاون"(11).
وتتيح القراءة، حالما يتم إتقانها، بشكل من التثقيف الذاتى يتواصل طوال الحياة ويحول القارئ إلى مؤلف لتثقيفه الخاص. وعندئذ ينشأ حوار بين المؤلف والقارئ. ويصير القارئ، إن جاز القول، مؤلفا مشاركا. وبدون تشجيع للقراءة، لن يوجد تعليم للقراءة والكتابة أو التدريب بصورة دائمة للسكان. فالقراءة هى الوسيلة التى لا غنى عنها "للتعليم للجميع مدى الحياة"، الذى وضعته اليونسكو فى مركز استراتيجيتها التى حددتها فى 1995. وأنا ألحّ على هذه النقطة لأن القراءة، للأسف، ليست قدرة يمكن اكتسابها مرة لتستمر مدى الحياة. ومنذ تنفيذ البرنامج التجريبى العالمى لتعليم القراءة والكتابة، الذى تم طرحه فى 1967، ظهر تدريب ما بعد تعليم القراءة والكتابة كضرورة حقيقية. وهو يقوم على وصول كل فرد، فى كل لحظة من حياته، إلى مواد القراءة(12). ومن هذا المنظور، يجب تنفيذ سياسة أصيلة للقراءة فى كل مستويات التعليم، وفى كل مراحل حياة الأفراد، بما فى ذلك المجال المهنى: بهذا الخصوص، يجب التشديد على أهمية مكتبات العاملين فى الشركات والمؤسسات. ومن الأساسى علاوة على هذا إعادة الوصول إلى الكلمة المكتوبة إلى مركز كل إصلاح لنظم التعليم وكذلك إعطاء الأولوية فى خطط العمل الدولية والقومية للأطفال، والنساء، والبلدان الأقل نموا.
ولكن فيم يفيد الوصول إلى الكتاب بدون القراءة، بدون معرفة القراءة والكتابة التى تشكل أساس القراءة؟ ولا جدال فى أنه تحققت إنجازات كبيرة فى هذا المجال. وتقدر اليونسكو أن أربعة من كل خمسة من البالغين صاروا الآن قادرين على القراءة والكتاب(13). غير أن فوارق خطيرة ما تزال مستمرة: حوالى ثلثى الأميين بين البالغين من النساء، وهذه نسبة ناتجة عن عقود من إهمال تعليم البنات(14). ويمثل معدل الأمية الوظيفية موضوعا آخر خطيرا مثيرا للقلق، يقتضى أن نأخذ بشيء من الاحتياط الإحصائيات الرسمية لمعرفة القراءة والكتابة. وتؤكد حكومات عدد من البلدان الصناعية أن معدلات معرفة القراءة والكتابة لسكانها البالغين تصل إلى 99%. فهل تعكس هذه الأرقام الواقع؟ والحقيقة أن خبراء التعليم يشكون فى هذا ويشددون على استمرار، بل حتى اتساع نطاق، شبه أمية وظيفية تصيب الصغار والكبار على السواء. ويبدو أن ضخامة هذه الظاهرة، التى لا تظهر فى الإحصائيات إلا بصورة ناقصة، صارت الآن مفهومة بصورة أفضل: تؤكد التقديرات، على سبيل المثال، أن حوالى 20% من السكان البالغين فى الولايات المتحدة يعانون من شبه الأمية الوظيفية؛ ووفقا لعدد كبير من الخبراء فإن ما يتراوح بين عُشْر وخُمْس السكان البالغين تشملهم هذه الظاهرة فى غالبية البلدان الصناعية.
والحقيقة أن النضال من أجل تعليم القراءة والكتابة، وهو حجر الزاوية فى التنمية، يمكن أن تستفيد بصورة كبيرة من السياسات التعليمية والثقافية التى تكفل وصول الجميع إلى الكلمة المكتوبة، وبصورة خاصة إلى الكلمة المطبوعة فى اللغة الأم للقارئ. ولكن ما هى الوسائل التى ينبغى استعمالها للاستجابة لنقص الكتب وإشباع الجوع للقراءة والمعرفة الذى يعانى منه الشباب فى عدد كبير جدا من البلدان النامية؟ وهل يمكن استخدام القدرات الكامنة للتكنولوچيات الجديدة لتعزيز الكتاب؟ دعونا نبدد فى الحال كل غموض: ليس من الوارد المناداة بعودة إلى الطرق التعليمية للأكاديمية الكلاسيكية العتيقة، التى تقوم على هيمنة الكلمة المكتوبة والمطبوعة. إذ أن مبدأ التعددية الثقافية وكذلك التطور الذى لا مناص منه للتكنولوچيات يقوم باستبعاده. ولم يعد من الوارد أيضا أن نشجع، باسم ثقافة أحادية للكلمة المكتوبة، التخلى عن أشكال أخرى للتعبير الثقافى، وبصورة خاصة الأشكال الشفاهية أو الفنية. كما أنه لم يعد من الوارد من باب أولى أن نحاول الإثناء عن المساعدة التى ينبغى توفيرها لتنمية تكنولوچيات جديدة للاتصالات.
والهدف جلى: يجب تضييق الفجوات المستمرة الباقية، باستعمال كل الوسائل التى تتيحها الشبكات القائمة والتكنولوچيات الجديدة. ويجب أن نبدأ بعلاج الاختلالات الكمية الكبرى: سوف ينبغى تغيير حجم إنتاج الكتب فى البلدان النامية وتحسين طرق توزيعها. وهناك منطلقان عمليان يستحقان البحث بعناية. ويتمثل الأول فى تشجيع وتوزيع كتب معتدلة السعر جدا. وهو يستند إلى حقيقة بسيطة: أسعار الكتب ما تزال مرتفعة جدا بالنسبة لشرائح السكان الفقيرة أو المتواضعة. والواقع أن تكاليف صناعة الكتب تحدد بصورة كبيرة مدى اتساع نطاق توزيعها. وعلى العكس فإنه يمكن تأمين توزيع أوسع كثيرا للمراجع عن طريق نشرها فى طبعات "جيب" بأسعار منخفضة جدا، وهذا ما جعلته التجديدات التقنية العديدة ممكنا. ومن جهة أخرى فإن هذه الصيغة، التى تعطى انطلاقة جديدة لطبعات الجيب، حقق بالفعل نجاحا كبيرا فى البلدان الصناعية(15). ويتمثل حل آخر فى تشجيع طبع أعمال فى شكل حلقات دورية مسلسلة فى الصحافة، بالاقتداء بمبادرة مشروع Périolibros "كتاب فى جريدة" الذى بدأ بمساعدة اليونسكو، مما يتيح لشبكة من الصحف الكبرى أن توزع فى أمريكا اللاتينية أعمالا ذات نوعية عالية بملايين النسخ(16).
ومن وجهة نظر أكثر نوعية، ينبغى تشجيع القراءة بين الأطفال والصغار. وفى البلدان الغنية، تبين الدراسات والأبحاث الدورية تراجُعا تدريجيا فى القراءة، مصحوبا، بصورة خاصة بين الصغار، بالولع المتزايد بوسائل الإعلام الجديدة. ولا مناص من الإقرار بأن إنجازات التعليم وزيادة وقت الفراغ لا تتم ترجمتها إلى تعميق عادات القراءة. ولهذا فإنه يبدو لى من الضرورى بصورة ملحة أن نقوم، فى الوقت الذى نشجع فيه تطوير تكنولوچيات جديدة، باستعادة مكان الصدارة للكتاب والقراءة، وبإبراز الثروة الهائلة التى تنطوى عليها القراءة: القراءة فى آن معا وسيلة أساسية للتعليم، ومتعة، وتزجية لوقت الفراغ، ومصدر للمعلومات العامة والمتخصصة، السياسية والعملية، ووسيلة للتدريب المهنى وكذلك للازدهار الشخصى والفنى والروحى(17)، وأداة للتعلم الدائم للحرية والمواطنة والفكر النقدى - وهى جميعا أحجار زاوية للديمقراطية. ولهذا فإننى حريص على تحية العمل النموذجى للمنظمات غير الحكومية التى تدعم إنتاج الكتب للأطفال أو تعمل بصورة أعم على نشر القراءة عن طريق مشروعات مكتبات ريفية أو متنقلة. ومن الطبيعى تماما أن تتمثل إحدى مهام اليونسكو فى دعم هذه الجهود.
 
تحولات الكتابة والقراءة:
الرقمية، النص الفائق، الوثيقة الفائقة
 
لكنْ أليس موقفا عتيقا أن نظل ندافع عن الكتاب فى عصر التكنولوچيات الجديدة للاتصالات؟ إن المفارقة ظاهرية ليس إلا. ويعلمنا تاريخ البشرية أن الأنماط القديمة والجديدة للاتصالات تتراكب فوق بعضها، وتكمل بعضها، وتجتمع معا دون أن يلغى بعضها البعض، بل إنها أيضا مصدر للإثراء المتبادل فيما بينها. وعلى سبيل المثال فإن النقل الشفاهى للمعرفة لم يختف بظهور غوتنبرج Gutenberg، ولا اختفت الصحف اليومية للمعلومات مع ظهور التليفزيون. كما أن الفاكس والبريد الإلكترونى لم يقضيا على المراسلة المكتوبة (أو المطبوعة)، بل يوجهان المراسلة وجهات جديدة، ويعطيان فى حد ذاتهما انطلاقة جديدة لتبادل الرسائل، بل إنها فى كثير من الأحيان مكتوبة بخط اليد فى حالة النقل بالفاكس، بعد أن كان تبادل الرسائل قد تراجع أمام اتساع انتشار التليفون.
فماذا يعنى بالنسبة للكتاب والقراءة ظهور تكنولوچيات جديدة للاتصالات؟ وهل ستؤدى إلى اختفاء تدريجى للكتاب، وإلى تضاؤل للدور الفردى للمؤلف، وإلى تحول جذرى فى أنماطنا للقراءة (والكتابة)، والمعلومات، والاتصالات؟ وبالفعل فإن الأشكال الجديدة لإنتاج وتوزيع الكتاب تعتمد بصورة أقل على أدوات النقل التقليدية، والمادية، كالكتاب والمكتبة، وبصورة أكبر على الوسائل المعلوماتية informatiques التى تفتح طرقا جديدة أمام نقل وتوزيع المعلومات والمعرفة.
وتقدم هذه الثورات آفاقا لم يتم استكشافها بعد أمام تقدم المعرفة ونقلها. والواقع أن الحملة من أجل القراءة، وبالتالى من أجل تعليم القراءة والكتابة، والتعليم، تمتد من الآن إلى مناطق أخرى صارت اليونسكو مدعوة فيها إلى أن تلعب دورا رئيسيا. والحقيقة أن حوسبة المعلومات لا تحل محل التعليم: إنها ببساطة تغير حقل تطبيقه. كما أنها لا تلغى اللغة، التى تحول وجهتها نحو أشكال أخرى للتعبير والتمثيل. غير أن هذه الفرص تنطوى أيضا على مخاطر: أولا وقبل كل شيء، لأن الوصول إلى هذه الوسائط الجديدة يكشف عن فوارق مثيرة للقلق، كما أوضحنا فى الفصل الخاص بالتكنولوچيات الجديدة للمعلومات والاتصالات. ومن جهة أخرى، هناك اختلاف جوهرى، وربما غير قابل للتوفيق بين استهلاك المعلومات، من ناحية، والقراءة من ناحية أخرى(18). والحقيقة أن اليوتوبيا الآلية الحديثة، فى شكلها الأكثر تطرفا، لا يمكن إلا أن تنتهى إلى شراهة لا يمكن إشباعها للمعلومات التى يُستبعد منها الفكر النقدى، والحكم (الرأى) البشرى، والذاكرة. فهى تقضى على أشكال التوصيل الشفاهى للمعرفة والحكمة، الأساسيتين لتنمية الكائن البشرى، ولا غنى عنهما للعلاقة التربوية، والحيويتين للمحافظة على تنوع الثقافات.
والواقع أن ظهور "حضارة اللامادى" الذى أشرتُ إليه فى الفصل السابق، أحدث تحويلا جذريا فى علاقتنا بالكلمة المكتوبة، كما غير بصورة كبيرة طرق إنتاجها وتوزيعها واستهلاكها. كذلك فإن الإضفاء المتزايد للطابع الرقمى على الكلمة المكتوبة وظهور وسائل جديدة (بنوك البيانات الإلكترونية، البريد الإلكترونى، برامج النشر، إلخ.) صارا بالفعل مصدرا لنشوء أشكال جديدة من الكتابة والقراءة، ولكنْ أيضا من طباعة وتوزيع النصوص. وصارت أعداد متزايدة من الصحف اليومية للمعلومات متوفرة الآن على الإنترنت حتى قبل طبعها؛ أما الرسالة المكتوبة فقد صار من الممكن اليوم تحريرها وإرسالها وقراءتها على الفور عن طريق البريد الإلكترونى؛ وانخفضت بشدة تكلفة إرسال الوثائق عن طريق تحويل ملفات الكمپيوتر أو نقل أقراص الكمپيوتر؛ ويغدو إنتاج المطبوعات معالجا آليا بصورة متزايدة؛ ويصير الكتاب مادة أولية قابلة للمعالجة بصورة لانهائية.
ويتوقع بعض الخبراء بالفعل "إضفاء الطابع اللامادى" على الكتاب ويعلنون أنه سرعان ما سيكون من الممكن الوصول إلى كل المكتبات على شبكة عالمية مُحوسبة. ويتم الآن بنجاح تطوير "القراءة بمساعدة الكمپيوتر" وهى تبشر الباحثين بفرص هائلة للوصول إلى المصادر وتحديد ومعالجة النصوص(19). وهناك من يتوقعون الآن ظهور "الكتاب الوحيد" الذى تُعاد كتابته: ستكون صفحاته، التى تتألف من خلايا صغيرة، قابلة للحذف وإعادة الكتابة كما يشاء المرء. وسيكون بوسع قارئ ضعيف النظر حتى أن يقرر تكبير حروفه؛ وسيكون بوسع شخص يريد أن يسجل ملاحظات توسيع هامشه، والكتابة على نفس الصفحة باستعمال قلم مدبب صغير، واسترجاع ملاحظاته على الكمپيوتر. وسوف يصير كل قارئ محررا لنفسه وسوف يؤلف الكتب لنفسه حسب الطلب، انطلاقا من نصوص متناثرة على شبكة الإنترنت(20).
ويشير بعض الخبراء بالفعل فى هذا الصدد إلى ظهور أنماط جديدة من القراءة، و"مزاوجة جديدة" (بين الآلة والفكر وليس بين الكتاب والفكر)، ونشأة "نسق قراءة" يربط الإنسان والشبكة، نظام "أكثر اجتماعية، وأكثر عالمية، وأقوى ذاكرة، وأكثر سياسية بالتأكيد"(21). ويشدد خبراء آخرون على أن التكنولوچيات الجديدة سوف تقود إلى "ثورة كوبرنيقية" حقيقية تجعل الكتاب يدور حول القارئ والمعرفة حول الناس، فيما كان الكتاب التقليدى يجعل القارئ يدور حول النص والناس حول المعرفة.
وعن طريق التفاعلية، سيكون لدى القارئ من الآن فصاعدا، فيما يتعلق بالنص، فرصة لانهائية تقريبا من الخيارات. وعلى هذا النحو، سوف تصير القراءة جمعية وتعددية حقا. وكما يتصور ريچيس دوبراى Régis Debray فإنه "من المحتمل أن يصير النص الفائق [نظام الإحالة الإلكترونية من داخل نصوص مترابطة إلى معلوماتها المشتركة] hypertexte نصًّا فوق ديمقراطى، لا أب له ولا صاحب، بدون حدود أو جمارك، يمكن أن يعالجه الجميع وأن يتم نشره فى كل مكان"(22). وسوف يجلب انطلاق الإنترنت معه انطلاق "الأدب الرمادى"، تلك "الكتابات التى ليس لها إلى الآن مكانة المطبوعة"، "الأعمال التلقائية"(23)، التى لا يعرف أحد منشأها، ولا صفات مؤلفها. ونحن نشهد بالفعل ظهور "وسائل" تربوية جديدة تربط النص برسوم بيانية أو صور، أصوات أو متتابعات موسيقية، وتعرض مراجعه أو تعمق معالجته. وفى نهاية المطاف فإن طبيعة ومكانة ومورفولوچيا النص هى بالتالى التى سوف تتعرض للانقلاب.
وعلاوة على هذا فإن التكنولوچيات الجديدة سوف تؤدى إلى تغيرات ملموسة فى تكوين ونقل المعرفة. وعن طريق إتاحة الحوار بين مختلف أشكال التعبير وبين فروع مختلف المعارف، سيكون على إضفاء الطابع الرقمى الإسهام فى فتح منطلقات جديدة للبحث العلمى وفى الإثراء المتبادل لمختلف أشكال التراث الثقافى، الملموس وغير الملموس. أما الكتب المدرسية للقرن الحادى والعشرين، والأعمال ذات الطابع التعليمى بصورة أعم، فإنه ينبغى تصميمها من منظور تفاعلية أوسع بين مختلف حقول المعرفة للتلاؤم مع التلميذ وميوله الخاصة، ولتشجيع ازدهار التربية الذاتية والتعليم الذاتى. وفيما يتعلق بالصور الافتراضية التى لم يعد يتم استنساخها بل يقوم المستعملون بخلقها بصورة كاملة، فإن لها بالفعل استعمالات عملية أو شخصية أو تجارية. والواقع أن عرض الكتب الإلكترونية والوسائط المتعددة التفاعلية "للوثيقة الفائقة" [نظام للتعاون الواسع المتواصل لتطوير وتدقيق الوثيقة الإلكترونية] hyperdocument يمكن أن يبدو، بتغير مفاجئ فريد لما بعد الحداثة، أنه يقوم بإحياء تقاليد الكلمة المنطوقة والحوار فيما قبل تعلم القراءة والكتابة، ويؤكد حدس پول كلوديل Paul Claudel عندما كتب: "العين تُصغى".
وبصورة مماثلة، وفقا لتأكيد يانيك مانيان Yannick Magnien، فإنه فى نفس الوقت الذى تتغير فيه طبيعة النص، "ينشأ نمط جديد من القارئ. فهو يمكن أن يستكشف بسرعة الطابع الخطى للمكتبات ولكنْ أيضا العمق الافتراضى الذى فتحته الارتباطات المتعددة التى تتصل بمحتوى وطبيعة الوثيقة. ولا شك فى أننا هنا بالفعل إزاء ممارسة جديدة للقراءة بمعنى أنه تبعا للاهتمامات المبينة أو المتبعة (من ألعاب الكمپيوتر إلى البحث الموسوعى، مرورا بمتابعة اتجاهات السوق على الشاشة)، يكون القارئ هو الذى "يوجه" عن طريق التفاعل مسار أبحاثه، وهذا داخل عالم خيالى منطلق من القيود المادية المرتبطة تقليديا بالكلمة المطبوعة(24). وعلى هذا النحو يظهر نمط جديد للقراءة، لم يعد مساره خطيا بل صار متعرجا ويمكن وصفه على أنه ملاحة Navigation، "بكل ما تقتضيه من المرور الحر - العشوائى أو الموجه - ضمن حيز يشترط وجود أدوات تحديد الموقع، وعرض المنظورات، والتذكير بكل حيز تم المرور به بالفعل"(25).
غير أنه إذا تغيرت أنماط القراءة، تغيرت بدورها مؤسسات القراءة. وسرعان ما سوف نشهد تطور مكتبات "الوسائط المتعددة" على أساس تكاملية أكبر بين مجموعة أنظمة المعلومات المتوفرة، ودمج للخدمات المنعزلة تقليديا (المكتبات والشبكات الإلكترونية). وعلى هذا النحو فإن المكتبات التقليدية سوف تتحول إلى "مراكز معرفة" مفتوحة أمام كل المصادر الرقمية للمعلومات والأبحاث. وعندما يتم جمعها فى شبكات فإنها ستقوم بتأمين إعداد ثقافى أفضل للأرض. وسيكون التزام الدول حاسما فى هذا الخصوص، غير أنه سيتعين أيضا على المكتبات الكبرى فى البلدان الغنية أن تسهم، من خلال مشاركات، فى تطوير مكتبات البلدان النامية. إنها يمكن، على سبيل المثال، أن تخصص جانبا من ميزانية مشترياتها لتبرعات بالكتب، ومواد القراءة، وأنظمة الوصول إلى الشبكات الإلكترونية المتخصصة. وأخيرا فإنه سيكون من الضرورى العمل على تأسيس مكتبة رقمية على نطاق الكوكب. وتجعل التكنولوچيا الآن من الممكن ربط المكتبات القومية الرئيسية وإنشاء مجموعات عالمية ضخمة على أقراص الكمپيوتر البصرية العالية الكثافة(26). وسوف يتعين على هذه المكتبة الرقمية على نطاق الكوكب أن تقدم للطلاب والباحثين فى العالم أجمع، ولكن أيضا إلى السكان، فرصة الوصول إلى المصادر الرقمية للمعلومات التى لا غنى عنها لتقدم المعرفة، والتعليم، والديمقراطية. ولهذا يجب أن يدعم التعاون الدولى هذا الجهد؛ كما يجب أن نساعد البلدان النامية التى تفتقر إلى مقار ملائمة ومرافق تدريب متخصصة فى إنشاء مجموعاتها الخاصة من المحفوظات بالاستعانة بأحدث التقنيات اللازمة لحفظ المخطوطات والكتب القديمة. والواقع أن حفظ الوثائق المكتوبة ضد الرطوبة والحشرات والتحمض باهظ التكلفة ويحتاج إلى الاستعانة بتقنيات متزايدة التعقيد(27).
فهل سيقود إضفاء الطابع الرقمى على النصوص، بصورة أعمق، إلى حوار أفضل بين فروع المعرفة، وإلى الإقرار بتنوع طرق التعبير عن الفكر الإنسانى، وإلى تقدير متبادل أفضل بين الثقافات؟ على أن هذا السيناريو المتفائل بعيد عن أن يكون مستبعدا. إذ أن الكلمة المكتوبة يمكن أن تفتح الباب على هذا النحو إلى "قراءة العالم" هذه التى أشار إليها پاولو فريرى Paulo Freire، وبكلمات أخرى إلى صرح للمعرفة دائم التجدد والحركة. ذلك أن المعرفة لا تقوم على اليقين بل على التساؤل، على ما يسميه إرنستو ساباتو Ernesto Sábato "فضيلة التعجب"(28). وكما قال فيلسوف من اليونان القديمة فإن العلم هو ابن الدهشة.
وتفتح هذه الثورات آفاقا لم يتم بعد استكشافها أمام ازدهار المعرفة وتقدم نشرها. ونتيجة لها فإن حملة القراءة، وبالتالى تعليم القراءة والكتابة، والتعليم، سوف تمتد إلى حقول جديدة يجب أن توجه إليها اليونسكو عملها من الآن. وعلى كل حال فإن هذه الوعود لا تستبعد أيضا مخاطر حقيقية تماما. فمن جهة يقترن الوصول إلى وسائل الإعلام الجديدة ﺑ، وحتى يُفاقم، الفوارق الإقليمية والاجتماعية - الاقتصادية التى أشرنا إليها من قبل فيما يتعلق بالكتاب. ومن جهة أخرى فإن هذه الأدوات الجديدة للمعلومات تنطوى على عيوب مثيرة للقلق. وفى حين أن الكتب حافظت على المعرفة الإنسانية سليمة على مدى قرون عديدة فإن من المقدر أن "عمر الوسائط البصرية المنتمية إلى أسرة أقراص الليزر (سى دى روم) CD-ROM يصل إلى ثلاثين عاما على الأكثر". وعلاوة على هذا فإن "الإجراءات الراهنة للسيطرة الإلكترونية على الصور الثابتة والمتحركة لا تتيح الحصول على وضوح للصورة فى التوعية يضارع وضوح الفيلم أو الميكروفيلم"(29).
فماذا، على وجه الخصوص، ستكون نتائج تحولات الكلمة المكتوبة على أنماط الفكر وعلى النشاط المعرفى ذاته. وكما أوضح مارشال ماكلوهان فإن استقبال وفهم رسالة يتوقفان إلى حد كبير على الوسيلة التى تنقلها. والواقع أن الوسيلة، التى تبدو محايدة، تفرض نسق قيمها وإطار تفكيرها على المتلقى، مهما كان محتوى الرسالة. وإذا اختفت الكلمة المكتوبة والوسيلة - الكتاب، ألن يكون هناك تهديد بالغ الخطورة بأن يحل محل القراءة العقلانية المتسلسلة شكل سلبى وعفوى من استهلاك المعلومات(30)؟ والواقع أن عددا كبيرا من المثقفين عبروا عن قلقهم من أن يروا الذاكرة البشرية، هذا الركن من الأركان الأساسية للعقل والحكم (الرأى)، تضمر فى عصر الوسائط المتعددة. وهم يخشون أيضا أن يضعف التفكير النقدى والحكم (الرأى) المنطقى مع تزايد اعتمادنا إزاء أجهزة الكمپيوتر: الحقيقة أن اليوتوبيا الآلية الحديثة، فى شكلها الأكثر تطرفا، لا يمكن إلا أن تقود، إذا وقفنا مكتوفى الأيدى، إلى شراهة لا سبيل إلى إشباعها إلى البيانات التى تستبعد التأمل النقدى والحكم (الرأى) البشرى، والذاكرة. وسوف يكون علينا أيضا أن نحرص على أن لا تؤدى إنجازات المعالجة الآلية للمعلومات إلى تقلص أشكال التوصيل الشفاهى للمعرفة والحكمة، اللتين ما تزالان وسوف تظلان لا غنى عنهما بالنسبة للعلاقة التربوية وبالنسبة للمحافظة على تنوع الثقافات.
 
إضفاء الطابع الرقمى على الكلمة المكتوبة:
التحديات الثقافية
 
من الجلى أنه سيكون من الضرورى إعداد السياسات المستقبلية للكتاب والقراءة فى إطار تفكير شامل - ما يزال اليوم فى مرحلة جنينية - حول الأبعاد الثقافية للعولمة والانتشار الواسع للتكنولوچيات الجديدة. ويشكل الظهور السريع لهويات ثقافية ما بعد حداثية ذات طابع عبر إقليمى تحدّيا لم يسبق له مثيل لكل الثقافات، وبصورة خاصة للثقافات الشفاهية، خاصة وأن الوصول إلى نقل المعرفة عن طريق وسائل جديدة موزع بطريقة غير متكافئة على الإطلاق. وفى وقت يتعرض فيه أكثر من نصف حوالى 6000 لغة فى العالم لخطر الاختفاء، يغدو مثل هذا التفكير لا غنى عنه وبالغ الإلحاح. وسوف يتعين أن يقوم على فكرة النشر العالمى للمعرفة ومشاركة الجميع فى تلك المعرفة.
وبين التحديات التقنية المباشرة التى تفرض نفسها علينا، يفترض إضفاء الطابع الرقمى على الكلمة المكتوبة تحديد معايير عالمية تتيح استعمال كل أنظمة الكتابة على الإنترنت. والواقع أن إعداد شفرة رموز عالمية Unicode [شفرة رموز موحدة] يشكل بالفعل خطوة أولى هامة لأن هذه الشفرة تتيح تمثيل غالبية أنظمة الكتابة هذه (بما فى ذلك صور ورموز الكتابة الصينية). ولهذه النقطة أهمية استراتيجية، لأنه فقط منذ اللحظة التى يوجد فيها اتفاق على شفرة رموز مشتركة يمكن أن تعبر كل اللغات عن نفسها بدون إبهام، وبفرص متكافئة على الشبكة العالمية. وإذا لم يكن هذا هو الحال فإن أنظمة كتابات الأقليات سوف تكون مجبرة على اختراع تشفيرات رموز محلية لا يمكن التعرف عليها فى أى مكان آخر.
وما ينطبق على نظام الكتابة ينطبق على تشفير الصورة (خاصة الألوان)، والأصوات، وطرق الطباعة (لغة بوستسكرپت فى الطباعة langage postscript). وينطبق الشيء نفسه على ما يتصل بالنقل بين الآلات، وتخزين البيانات، والتليفزيون الفائق الوضوح. وتشكل هذه المسائل الآن موضوعا لمعارك هائلة تتعلق بالمعايير - التى تُحسب رهاناتها بمليارات الدولارات - بين مصممى البرامج وشركات صناعتها. وتؤخر هذه الصراعات وصول الجمهور إلى الأدوات الجديدة للثقافة وتجعله أكثر تكلفة. ولهذا فإن من المهم العمل، فى إطار مفاوضات واسعة النطاق، على إنشاء معايير عالمية يتم تحديدها بالإجماع(31).
 
النشر وحق المؤلف
 
أحدثت التكنولوچيات الجديدة أيضا انقلابا عميقا فى القنوات التقليدية لتوزيع الكتاب. فقد أدت إلى ظهور "النشر الإلكترونى" كمهنة وأتاحت إضفاء الطابع الرقمى على الصور والنص باستعمال الوسائل الاستاتيكية أو الديناميكية. والواقع أن استعمال "النشر المكتبى" desk-top publishing، و"المحول الرقمى" scanner (محول رقمى موصل بجهاز كمپيوتر) [للإدخال والتخزين]، ومعالجة الألوان بمساعدة الكمپيوتر، والتحكم فى مراحل النسخ عن طريق البرامج، قد قامت جميعا بتثوير الطباعة وأتاحت تحقيق خفض فى تكلفة إنتاج الكتب. ويفتح هذا الانقلاب التكنولوجى آفاقا اقتصادية جديدة: على سبيل المثال، تطوير العمل من المنزل télétravail فى مجال النشر(32).
على أن الكتاب سوف يتعرض، فى الوقت نفسه، لخطر داهم إذا فقد شكله التقليدى نتيجة تكنولوچيات الجيل الأخير: بنوك المعلومات المؤتمتة، والأقراص المضغوطة التفاعلية، وتطبيقات الوسائل المتعددة. والآن تقدم بعض المكتبات، بالإضافة إلى المراجع الببليوغرافية، النص الكامل لبعض الأعمال. ويمكن استشارتها على الشاشة أو على الورق (باستعمال طابعة)، ما لم يفضل المرء تسجيلها على قرص كمپيوتر مرن خفيف. وعلاوة على هذا، فنظرا لأن من السهل من الآن فصاعدا أن تترابط المكتبات من خلال شبكات قومية أو دولية، فإنه لا مناص من أن يرتفع بصورة كبيرة وسريعة عدد العناوين المتوفرة فى شكل المعلومات المعالجة آليا. وفى هذا السياق، يتعرض الكتاب للتغير فى طبيعته ذاتها: بعد أن كان من قبل منتجا نهائيا، يصير منتجا أوليا لبنوك البيانات. كما أن مكانته الصناعية مهددة أيضا. والواقع أن الاستعمال الواسع النطاق للنسخ الضوئى كان قد ألحق الأضرار بشدة، منذ وقت طويل، بتجارة الكتاب، عن طريق تسهيل النسخ غير المشروع للنصوص وأضعف القدرة على رقابة تداوله. غير أن تطور قدرات شبكة الإنترنت يجعل هذه المشكلات تكتسب مزيدا من الحدة. فالعمل المحظور طبعه فى بلد، يمكن نسخه إلكترونيا وتداوله فى العالم كله عن طريق قناة الإنترنت؛ ومثل هذا المصدر للمعلومات المكتوبة الذى كان من الصعب الوصول إليه حتى الآن صار من الآن فصاعدا متوفرا عن طريق وحدة كمپيوتر طرفية بسيطة. وقد وصفت المحكمة العليا للولايات المتحدة الإنترنت بأنه "محادثة عالمية لا تنقطع". ومهما يكن من شيء فإنه يشكل أيضا مجالا جديدا لقراءة عالمية لا تنقطع.
فماذا سيكون مصير حقوق المؤلفين والناشرين؟ وبطبيعة الحال فإنه قبل "النص الفائق" hypertexte يوجد النص texte، وقبل القارئ يوجد المؤلف. وتبذل اليونسكو جهودا متواصلة من أجل حماية الملكية الأدبية والفنية فى كل أنحاء العالم فى تعاون وثيق مع المنظمة العالمية للملكية الفكرية ومؤسسات وتجمعات أخرى مثل الرابطة الأدبية والفنية الدولية؛ وقد أسهم هذا الجهد فى عرض وتوضيح مختلف التقاليد القانونية التى تنظم حق المؤلف وفى توفيق هذا الحق بصورة أفضل مع مقتضيات الحياة الاجتماعية المعاصرة، وفى إطلاق حركة تشريعية كبرى لحماية حق المؤلف والحقوق الوثيقة الارتباط به فى العالم(33). وتفكر اليونسكو فى توفيق هذه الحقوق مع المقتضيات الجديدة للتكنولوچيا الرقمية لكى يتم، فى السياق الجديد للإنتاج والتخزين والتداول الناشئة عن هذه التكنولوچيات، تأمين تحديد الحقوق المشروعة للمؤلفين وغيرهم من حائزى الحقوق. وهذا بهدف بلورة القواعد التى تنظم علاقات المؤلف مع عمله ومع الأطراف المسئولة عن إنتاج وتوزيع هذا العمل. ويمثل حق المؤلف فى آن معا حقا من حقوق الإنسان وعاملا من عوامل التنمية الثقافية؛ ولهذين السببين فإنه يشكل جانبا من الشواغل الرئيسية لليونسكو، التى يقع عليها واجب أن تخلق، بما يتفق مع الحقائق الجديدة لعصرنا، أفضل الشروط ملاءمة لأن تمارس أعمال العقل كامل تأثيرها. ومن المهم بصورة خاصة حماية مبدأ "الاستعمال النزيه" fair use، وهو مبدأ جوهرى إذا أردنا أن تكون المكتبات وخدمات المحفوظات قادرة على أن تلعب دورها وعلى أن تكفل للجمهور الوصول المنصف إلى المعلومات فى مجتمع حديث، فى الوقت الذى تتفادى فيه تجاوزات سوق حرة يمكن أن تفضى إلى إلغاء كل فكرة عن حقوق الملكية الفكرية فى الفضاء الإلكترونى. وتلعب حماية هذه الحقوق دورا مهما فى ازدهار روح الإبداع، تماما كما أن التداول الحر للآراء أمر أساسى لنشأة مجتمع ديمقراطى ومتعلم(34). ولهذا فإنه سوف يتعين تصميم حلول تجديدية لكى يتم التوفيق بين حماية حق المؤلف ووصول الجميع إلى المعلومات وإلى الثقافة فى الفضاء الإلكترونى: يجب أن نتذكر أن الشبكة العالمية للمعلومات كان قد قام أصلا بتطويرها تيم بيرنرز-لى Tim Berners-Lee لتسهيل تبادل المعلومات والبيانات بين الباحثين. ويجب تعزيز هذه الوظيفة: ينبغى تسهيل وضع كل النصوص والوثائق والمخطوطات المنتمية إلى المجال العام على الإنترنت. وعبر خلق مجال للخدمة العامة فى الفضاء الإلكترونى، "سوف يتسع نطاق وصول كل الشعوب إلى ما ينشره كل فرد من أفرادها" و"التداول الحر للأفكار بالكلمة والصورة" كما تطالب اليونسكو فى قانونها الأساسى.
 
فرصة للصحافة المكتوبة
 
الواقع أن الاختلافات هائلة بين الوضع السائد فى البلدان الصناعية، حيث تحفز وفرة الصحافة الدورية (اليومية، الأسبوعية، الشهرية) إلى الممارسة اليومية للقراءة، والوضع السائد فى البلدان النامية، حيث تكون الصحافة أقل حضورا فى حياة كل يوم، وإذا كان لنا أن نحكم بمعدلات توزيع الصحف اليومية لكل 1000 نسمة، فقد تم تسجيل فجوة بنسبة 1 إلى 6.5 فى 1994 بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية، أى بنفس نسبة 1980(35). وإذا كان ينبغى الحكم باستهلاك الصحف الورقية، وهو ضخم بصورة خاصة فى البلدان الغنية، فإن الفجوة تزداد اتساعا: إلى 14.4 فى 1995 لصالح البلدان المتقدمة، وهى فجوة لم تتغير كثيرا (1 إلى 20.3 فى 1970)(36). وصحيح أن أنماط القراءة تتباين من بلد إلى آخر: القراءة المشتركة [قراءة عدة أشخاص لصحيفة واحدة] للصحف اليومية، وهى ممارسة واسعة الانتشار فى مناطق مثل أفريقيا، تكفل للصحف توزيعا حقيقيا أعلى بكثير مما توحى به أرقام التوزيع. ويبقى أن وصول الأفراد إلى صحافة مكتوبة يشكل فعل اعتياد على الكلمة المكتوبة يصعب إحلاله. وهو أيضا العنصر المؤسس للحياة الديمقراطية. وقد أشار إليه توماس چيفرسون بهذه الكلمات "لأن حكومتنا تقوم على أساس رأى الشعب فإن أول هدف يجب أن يتمثل فى المحافظة على هذا الأساس. ولو كان لا مناص لى من أن أفصل فى مسألة أن تكون لنا حكومة بدون صحف أم صحف بدون حكومة، فإننى لم أكن لأتردد للحظة واحدة فى اختيار الأمر الثانى".
وإذا كانت الصحافة مدعوة إلى أن تلعب هذا الدور التحررى، فإننا يجب إذن أن نجد الوسائل اللازمة لاستعمال وسائل الإعلام الجديدة لكى نكفل لها، خاصة فى البلدان النامية، توزيعا أوسع. ويبدو أن العملية قد انطلقت بالفعل. وكما يشدد چيرار تيرى Gérard Théry، فإن "الشبكات الإلكترونية الجديدة وسيلة ناجحة للصحافة". فهذه الأخيرة سوف تستخدم الشبكات الجديدة بصورة متزايدة حالما يتم إضفاء الطابع الرقمى بصورة كاملة على عملية إنتاجها، وسرعان ما سيحدث هذا"(37). والواقع أن التكنولوچيات الجديدة تتيح الوصول إلى الصحافة الدولية والقومية على الإنترنت، وأحيانا حتى قبل ظهورها فى مراكز التوزيع. ويتسع الآن بصورة كبيرة نطاق الصحف المتاحة كما أن سُكّانا كانوا معزولين من قبل يمكن من الآن فصاعدا أن يعتادوا أساليب جديدة للتحقيقات والتعليقات الصحفية، والحصول، بشأن بلدهم أو قارتهم، على وجهات نظر خارجية، والممارسة بنشاط للمناقشات التى تدور حول الأحداث الجارية. وبهذا الخصوص، هناك مبادرات أصيلة تستحق التحية، مثل إنشاء الوكالة الإعلامية لكل أفريقيا (پانا) فى 1997، التى بدأت نشاطها فى 1983 وتلقت دعم اليونسكو؛ وتقدم هذه الوكالة فرص الوصول على موقعها على الإنترنت إلى الجانب الأكبر من مراجع الصحافة الأفريقية الرئيسية.
 
نهاية الكتاب
أم تحول الكتابة؟
 
على مدى قرن ونصف، كم من المرات تنبأ المتنبئون بموت الكتاب؟ وقد أعلنوا علينا من قبل اضمحلاله المحتوم عند ظهور الصحافة الكبرى إلى الوجود؛ ثم السينما والإذاعة والتليفزيون. غير أن الكتاب بقى بعد كل أولئك الذين ظلوا يتنبأون بموته. وأنا على اقتناع بأن الكتب كما نعرفها سوف تستمر فى الوجود طوال القرن الحادى والعشرين. غير أننى مقتنع أيضا بأن الكلمة المكتوبة توشك على تحول حقيقى: إنها سوف تصير هجينة، سوف تقيم علاقة تكافلية مع التقنيات المسموعة والمرئية وسوف يحدث انقلاب فى توزيعها فى نهاية المطاف نتيجة للطبع الإلكترونى. وبطريقة غير مباشرة، ستتم إعادة تشكيل شاملة لبنية الكتاب، وسوف يتطور معها محتوى الكتب وطبيعة القراءة ذاتها.
وهذا هو السبب، حتى لا نتجمد فى نزعة ماضوية عقيمة، فى أننا ينبغى أن نواكب بحزم تنويع وسائل الكلمة المكتوبة وأن نستفيد على أفضل نحو من التكنولوچيات الجديدة للاتصالات. واليوم، فى عصر الإنترنت والقمر الصناعى، صار من الممكن من الناحية التقنية أن نتطلع إلى الطباعة أو إعادة الطباعة محليا لصحف يومية أو أعمال تم إنتاجها فى مكان بعيد، وبالتالى أن نخفض، بصورة كبيرة، فى نهاية المطاف، تكلفة ومدة النقل. والواقع أن مدة النقل ما تزال أطول مما ينبغى ويؤدى إلى تأخيرات فى توزيع الدوريات والأعمال، التى تعانى بصورة متزايدة من التقادم السريع للمعرفة والمعلومات. ولأن النقل السريع للكلمة المكتوبة يقدم منطلقات واعدة للتنمية التعليمية والاقتصادية والثقافية فإنه يجب بالتالى أن يشغل مكان الصدارة فى السياسات الحكومية. وكما سبق لى أن أوضحت فإن إمكانات البحث عن بعد فى الكتب والمجلات عن طريق ربط المكتبات بشبكات، تقدم آفاقا جديدة للتعليم عن بعد، و- على نطاق أوسع - لتبادل المعرفة بين البلدان الصناعية والنامية. ولا شك فى أن جيلا جديدا من التجهيزات الثقافية مدعو إلى أن يحل محل مكتباتنا العتيقة نتيجة للإمكانات المستحدثة التى تفتحها الوسائط المتعددة والأنماط الجديدة للاطلاع على الكلمة المكتوبة: ستكون مثل هذه التجهيزات، لأنها متعددة الإمكانات، منظمة فى شبكات أو مجمّعة معا داخل مراكز متعددة المعارف للنشاط الثقافى. وفى البلدان الأكثر حرمانا يمكن أن تكون هذه التجهيزات خفيفة ومتنقلة لكى تخدم مجموع المنطقة كما ينبغى(38). وسيكون من المفيد هنا أن نستلهم تجارب مشجعة فى التعليم غير الرسمى تجرى فى الوقت الحالى فى مناطق عديدة من العالم: إننى أفكر على وجه الخصوص فى برنامج "المدرسة الجديدة" Escuela Nueva فى كولومبيا الذى اعتمده مدرسو نصف المدارس الريفية هناك(39).
وكنت قد شددت من قبل على واجبنا الخاص المتمثل فى أن نرحب بدون آراء مسبقة بالتغيرات التكنولوچية المعاصرة للاستفادة منها بأفضل صورة. غير أن روح الانفتاح لا يجب أن يتحول إلى جنون التكنولوچيا؛ كما أنه لا يجب من باب أولى أن يمنعنا، فى سياق نشوة تجارية مفرطة، من إدراك حدود التقدم السيبرنطيقى. والحقيقة أن أقلية صغيرة فقط هى التى تستفيد منه فى الوقت الراهن، ومن الصعب أن نرى كيف يمكن أن يتمتع الثلاثة مليارات من الفقراء - أى نصف البشرية - الذين يعيشون على أقل من دولارين فى اليوم، أو الأربعة مليارات ونصف من البشر الذين لا يملكون وسائل للاتصالات السلكية واللاسلكية الأساسية، بالوصول إلى التقدم السيبرنطيقى فى الأجل القصير أو المتوسط. وسيكون من الضرورى، فى هذا المجال، بذل جهد كبير وطويل النَّفَس - على مدى جيل أو جيلين - يتسم ببعد النظر وبالإرادة السياسية، لجعل هذا الشعار الدعائى - عالم مترابط - حقيقة واقعة عالمية.
وعلى هذا النحو فإنه فى مواجهة التكنولوچيات الجديدة للاتصالات، سوف يكون من الضرورى أن تشجع المؤسسات القومية والدولية تدريب السكان على الجسور الجديدة، والتكامليات، والتفاعليات، التى أدخلتها وسائل الإعلام الجديدة. ولو كان لا مناص من أن يفضى تطور التكنولوچيا الجديدة إلى إهمال العمل التعليمى الأساسى، لانتصر العالم "الافتراضى" بالتالى حقا على "العالم الواقعى"، ولصارت "حضارة اللامادى" ليس فقط غير مجدية بل محالة. وسيكون التغلب على هذا التناقض الكامن أحد التحديات الرئيسية التى سيكون علينا جميعا أن نواجهها فى القرن الحادى والعشرين.
غير أننا نظل واثقين. فإذا كان الكتاب، الذى ظل على مدى قرون أداة الأفكار والمعارف، يواجه الآن منافسة، بين الأجيال الشابة، من الكتابة الإلكترونية فإنها تمثل، أكثر مما قد نعتقد، دوافع جديرة بالثناء. إذ أنه جنبا إلى جنب مع التجاوزات التى تفسح هذه الوسيلة الجديدة المجال أمامها أحيانا (مواقع تثير الكراهية العنصرية أو الدينية، وكراهية الأجانب ومعاداة السامية، واستغلال الأطفال فى أغراض إباحية، إلخ)، هذه التجاوزات التى يجب العقاب عليها فى ظل سيادة القانون والقوانين المعمول بها، أودّ التذكير بصورة أولئك الشباب الصربى والكرواتى الذين يتصلون ببعضهم البعض عن طريق البريد الإلكترونى ويتخلصون، عن طريقه، من طائفية المجتمع الذى يحيط بهم. وأنا لا أعتقد أنه يوجد حقا تنافس بين الوسيلتين (الكتاب والكتابة الإلكترونية) بل أعتقد أنه يوجد بالأحرى شكلان من الاتصالات فى وقت واحد، حيث يكون أحدهما، فى ظروف خاصة، ملائما أكثر من الآخر للتعبير الحر عن الفكر. فلنرحب، إذن، بهذه الأشكال الجديدة للتعبير كمرحلة جديدة فى مسيرة تقدم الاتصال البشرى وأداة إضافية للمعرفة والبحث. والحقيقة أن التكنولوچيا ليست إلا ما سوف نصنعه بها ويمكن تشبيهها بلغة جديدة يتعين علينا اكتشاف، أو بالأحرى، اختراع، نحوها وقواعدها ومفرداتها.
ويقول بعضهم إننا نعيش فى عصر "المعلومات". غير أن هذه "المعلومات" التى تكون فى كثير من الأحيان، أولية وغازية، لن تكون مفيدة لنا مطلقا ما لم يتم تحويلها إلى معرفة. والكتاب والقراءة أساسيان للتطور الفكرى: ليس هناك أدنى شك فى أن المعرفة يتم اكتسابها و"الكتاب فى اليد"، من خلال القراءة وإعادة القراءة، اللتين تتيحان لنا أن "نتناقش" مع النص، وأن نعيد كتابته ذهنيا. ولن يختفى الكتاب أبدا. بل على العكس، ستصير أهميته محورية بصورة متزايدة فى عالم (فضاء) إلكترونى ستصير فيه كل وسائل الإعلام فى حالة انقلاب. وإذا نجحنا فى السيطرة على الأدوات الجديدة للاتصالات دون أن تتلاعب هى بنا فإنها سوف تساعدنا فى صياغة ثقافة الديمقراطية والحرية والسلام والتسامح التى تمثل أسمى أمانينا للقرن الحادى والعشرين. وبطبيعة الحال فإن الاستثمار فى القراءة استثمار فى إذكاء التفكير وروح المواطنة: إنه بالتالى استثمار فى توطيد الديمقراطية فى القرن الحادى والعشرين. وعندئذ ستكون الاتصالات قادرة أخيرا على تحقيق المثل العليا "لحرية الفكر والضمير والدين" و"حرية الرأى والتعبير"، التى نادى بها الإعلان العالمى فى 1948 والمواثيق الدولية بشأن حقوق الإنسان.
 
منطلقات وتوصيات
 
تأمين الوصول الشامل إلى الكتاب والقراءة عن طريق تنمية التعليم الأساسى، والنضال ضد الأمية الوظيفية، وإعلاء شأن التراث المكتوب والأدبى.
تشجيع ورفع شأن القراءة، وبصورة خاصة بين الأطفال والصغار، كعمل من أعمال الحرية، ومدخل إلى التفكير النقدى، ومعرفة الآخر.
تشجيع إنتاج وتوزيع الكتب المنخفضة الأسعار و"الكتب فى جريدة" periolibros (فى شكل حلقات مسلسلة فى الصحافة المكتوبة)؛ وتشجيع إنشاء مكتبات متنقلة ومراكز للقراءة تتلاءم مع حاجات السكان الريفيين أو المحرومين.
دعم استعمال التكنولوچيات الجديدة للاتصالات، كوسيلة للكلمة المكتوبة، وتخصيص قسم من مساعدة التنمية المخصصة للتكنولوچيات الجديدة للمحافظة على التراث المكتوب وتنميته.
تشجيع إنشاء مكتبة رقمية عالمية وتأمين تكاملية أكبر بين مجموع أنظمة المعلومات المتاحة، عن طريق دمج الخدمات المنفصلة تقليديا (المكتبات والشبكات الإلكترونية). وتشجيع استخدامها فى إطار الأنظمة التعليمية والثقافية.
تحويل المكتبات إلى "مراكز معرفة"، مفتوحة على كل المصادر الرقمية للمعلومات والبحث. ومساعدة البلدان النامية فى إنشاء مكتبات ومجموعات محفوظات وتمويل تدريب عاملين ذوى كفاءة. وتشجيع حماية وحفظ ومقرطة الوصول إلى مجموعات المحفوظات وإلى المكتبات.
تطوير أدوات معرفة وتعلم اللغات (المعاجم وكتب القواعد)، والبحث فى المجال اللغوى، وجمع التراث الشفاهى فى الشكل المكتوب، ومشروعات النشر التاريخى التى تلفت الأنظار إلى قيمة التراث المكتوب العالمى.
تشجيع تنقيح الكتب المدرسية، عن طريق المفاوضات الثنائية بين البلدان، أو عن طريق إجراءات متكاملة على المستوى الإقليمى تأخذ فى اعتبارها أحدث نتائج البحث التاريخى والتفكير فى مجال العلوم الاجتماعية، من أجل دعم ثقافة للسلام والتسامح والقضاء على التحيزات القائمة على "العرق"، أو الجنس، أو اللغة، أو الديانة، أو النظرات القومية الضيقة جدا إلى التاريخ.
تشجيع تطوير معايير عالمية محددة بالإجماع تتيح بصورة خاصة استخدام كل لغات العالم على الإنترنت.
دعم الإبداع الأدبى عن طريق إنشاء المزيد من المسابقات والجوائز على المستوى القومى والإقليمى والدولى وعن طريق الحفز إلى الكتابة، من التعليم الابتدائى إلى التعليم العالى؛ ومواصلة الجهود التى بدأت فيما يتعلق بحماية حقوق الملكية الفكرية، مع أخذ المشكلات المستحدثة التى تطرحها التكنولوچيات الجديدة للاتصالات فى الاعتبار.
إشارات
1: Alain Bentolila, De l illettrisme en général et de l école en particulier, Paris, Pion, 1996, p. 66
2:  Jacques Derrida, Le Droit à la philosophie du point de vue cosmopolitique, éditions UNESCO, 1997, p. 38.
3: اُنظرْ الفصل "تراث مهدد بالانقراض: اللغات".
4: “Special survey on primary education: school fees and school books in state schools” (UNESCO, Division des statistiques), novembre 1991.
5:   UNESCO, Annuaire statistique 1995: بلغ عدد عناوين الكتب المنشورة فى العالم 863000 فى عام 1991، مقابل 521000 فى عام 1970.
6: وصل المتوسط العالمى فى 1991 إلى 160 عنوانا لكل مليون نسمة. وكان هذا المتوسط فى التاريخ ذاته 513 فى البلدان المتقدمة، و55 فى البلدان النامية، و20 فى أفريقيا، و802 فى أوروبا:  Source: ibid.
7: UNESCO, Annuaire statistique 1995. Chiffres pour 1991,
8: Rapport mondial sur l éducation 1998, UNESCO, Paris, 1998, Tableau 2.
9: Voir Rapport mondial sur l information 1997-1998, UNESCO, Paris, 1997, p. 78-90.
10: Source: Annuaire statistique 1998 de l UNESCO.
11: قانون تأسيس اليونسكو، المادة الأولى، الفقرة 2، الفقرة الفرعية ج.
12: Voir en particulier Ali Hamadache, Savoir lire, et après ? Produire les matériels de lecture pour la postalphabétisation: Guide pratique illustré, collection “La bibliothèque de formation professionnelle”, UNESCO et Agence de la francophonie, Paris, 1997.
13: Projections pour l an 2000. Source: Statistics on Adult Illiteracy: Preliminary Results of the 1994 Estimations and Projections (Division des statistiques de l UNESCO, octobre 1994).
14: Rapport mondial sur l éducation, 1995, UNESCO, Paris, 1995.
Voir “Books for a Buck”, Newsweek, 4 décembre 1995 :15: فى مصر، أتاح مشروع "القراءة للجميع" بدعم قوى من السيدة سوزان مبارك نشر كتب تعليمية بأسعار منخفضة جدا.
16: استؤنفت هذه المبادرة الآن فى البلدان العربية عن طريق تجربة "كتاب فى جريدة"، التى تشترك فيها 21 جريدة يومية كبرى، توزع مجانا فى شكل ملاحق شهرية الأعمال الأدبية لكبار المؤلفين فى العالم العربى.
17: Voir A. Hamadache, Savoir lire, et après ? Produire les matériels de lecture pour la postalphabétisation: Guide pratique illustré, op. cit. ; Alvaro Garzon, La politique nationale du livre: un guide pour le travail sur le terrain, The Professional Training Library/UNESCO Publishing, 1997; H. S. Bhola, A Source Book for Literacy Work Perspective from the Grassroots Paris, UNESCO/Jessica Kingsley Publishers, 1994; Ralph C. Staiger, Roads to Reading, UNESCO, 1979. Voir aussi le bulletin International Literacy and Education for All Watch.
18: Yannick Maignien, “Lector ex machina”, Le Débat, septembre-octobre 1995, n°86.  =
19: Voir à ce sujet André Zysberg, Yannick Maignien, Jean-Didier Wagneur, Bruno Blasselle, “La lecture assistée par ordinateur”, Le Débat, septembre-octobre 1995, n° 86, p. 152-164. La PLAO a été ainsi introduite à la Bibliothèque de France en 1989 (op. cit., André Zysberg, “Deux ou trois choses que je sais d elle”, p. 152-155.
20: “Le livre perpétuel”, Libération, 15 juillet 1998.
21: Y. Maignien, loc. cit.
22: Pierre Lévy, L Espace du savoir, éléments de cartographie anthropologique, Neuropelab, International Business Park, 1993 ; Michel Authier et Pierre Lévy, Les Arbres de la connaissance, Paris, La Découverte, 1992. Citation de Régis Debray, “Dématérialisation et désacralisation: le livre comme objet symbolique”, Le Débat, septembre-octobre 1995, n° 86, p. 27.
23: Blaise Cronin et Geoffrey McKim, “L Internet”, Rapport mondial sur la communication 1997-1998, UNESCO, Paris, 1997, p. 266.
24: Y. Maignien, loc. cit., p. 156,
25: Ibid.
26:Voir le Rapport mondial sur l information 1997-1998, UNESCO, Paris, 1997, p. 236 sq.
27: Voir Le. Monde., 3 mai 1998.
28: Voir Ernesto Sábato, Les entretiens du Courrier de l UNESCO, UNESCO, Paris, 1994, p. 235-236 (reproduction d un entretien publié dans le Courrier de l UNESCO d octobre 1990)
29: Rapport mondial sur l information 1997-1998, UNESCO, Paris, 1997, p. 235-236.
30: Yannick Maignien, op. cit.
31:Cf. “Projet d esquisse préliminaire du rapport mondial sur la culture et le développement”, Commission mondiale de la culture et du développement, document CCD-III/94/DOC.2, UNESCO, février 1994.
32: Voir Milagros del Corral et Alvaro Garzón, “L avenir du livre”, Commission mondiale de la culture et du développement, document CCD-III/94/SEC.l, 1994.
33: انتهى هذا التفكير الدولى إلى إضفاء انسجام أكبر على التشريعات القومية وإلى توسيع للإجماع الدولى الملحوظ عن طريق التزام عدد من الدول باتفاقية بيرن Berne والاتفاقية العالمية بشأن حق المؤلف.
34: Voir en particulier les conclusions du Congrès international sur les aspects éthiques, juridiques et sociétaux de l information numérique (INFOÉTHIQUE), organisé par l UNESCO à Monte-Carlo en mars 1997.
35: “Journaux quotidiens: nombre et tirage”, UNESCO, Annuaire statistique 1997. Publishing & Bernan Press: هذه النسبة تقترب بعض الشيء من النسبة التى تفصل بين هذه البلدان فيما يتعلق بالبث الإذاعى (فارق بالنسبة لعدد أجهزة استقبال البث الإذاعى الصوتى: 1 إلى 5.4)، أرقام خاصة بعام 1993.
36: Op. cit., “Production et consommation de papier journal".
37: Gérard Théry, Les Autoroutes de l Information, Rapport au Premier ministre, Paris, La Documentation française, 1994, p. 61-65.
38:  “Projet d esquisse préliminaire)..”, op. cit.
39: Emesto Schiefelbein, Redefining Basic Education for Latin America: Lessons to be Learned from the Colombien Escuela. Nueva, UNESCO, International Institute for Educational Planning, Paris, 1992.    
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
الملحق الرابع
 
39
كلمة الغلاف لبعض ترجماتى
 
دون كازمورو
(رواية: ماشادو ده أسيس)
رغم أن "دون كازمورو" رواية غنية الطبقات تعالج مسائل مثل الإيمان، والحقيقة، والفن، والدين، والسياسة، فهى فى المحل الأول قصة حب بين صبىّ "بنتو" وصبية "كاپيتو". وبعد أن يتغلب الحب على التحدى الكبير الأول (وكان نذرا نذرته أم الصبىّ بأن تجعل ابنها قسيسا [إذا عاش]، وكان هذا يتناقض مع تفتُّح وتحقق وانتصار قصة الحب)، يدمِّر التحدى الكبير الثانى (الشكّ فى إخلاص كاپيتو) ذلك الحب وكذلك طرفيْه، ويتحوَّل الصبىّ العاشق إلى دون كازمورو (المنسحب إلى داخل نفسه) الذى يروى قصة الحب بعد أربعين سنة.
هل كان هذا الشك فى محله أم كان مجرد أوهام؟ هل كانت "كاپيتو" خائنة أم كانت ديدمونة حقيقية؟ حول هذا يختلف النقاد بحدَّة بحيث تغدو حقيقة هذا الشك لغزا كبيرا. وعلى كل حال فإن هذا الشك هو الذى صنع المأساة.
[كلمة غلاف الطبعة العربية الثانية]
 
*****
الأسطورة والحداثة
(أحلام محالة إلى التقاعد)
(نقد أدبى: حول رواية ماشادو ده أسيس: دون كازمورو)
رغم أن "دون كازمورو" رواية غنية الطبقات تعاج مسائل مثل الإيمان، والحقيقة، والمعرفة، والفن، والدين، والسياسة، فهى فى المحل الأول قصة حب بين صبىّ (بنتو) وصبية (كاپيتو). وبعد أن يتغلب الحب على التحدى الكبير الأول (وكان نذرا دينيا نذرته أم الصبىّ، وكان يتناقض مع تفتُّح وتحقُّق وانتصار قصة الحب)، يدمره التحدى الكبير الثانى (الشك فى إخلاص كاپيتو)، ويتحول الصبى العاشق إلى دون كازمورو (المنسحب إلى داخل نفسه) الذى يروى قصة الحب بعد أربعين سنة.
وكتاب "الأسطورة والحداثة" بحث للأدب بوصفه تحويلا للأسطورة من حيث طبيعة هذا التحويل وتجلياته ووسائله وقواعده، من خلال تطبيق نقد الأسطورة على رواية دون كازمورو. والأسطورة قصة تتألف من موتيفات كلية عبر ثقافية تتمثل فى نماذج أصلية، وتتضمن حقائق أو معتقدات بشأن الحياة، والموت، والخير، والشر. وهكذا يغدو مفهوم الأسطورة، المرتكز على النماذج الأصلية، ومفهوم التعبير الأدبى، بوصفح تحويلا أو تحويرا للأسطورة، وسيلتين لدراسة كليات وجزئيات الأدب. ويساعد هذان المفهومان فى تحديد طبيعة الاهتمامات التى تشارك فيها رواية "دون كازمورو" الأدب العالمى العظيم، وفى تحديد كيف تكشف هذه الكليات عن نفسها بأسلوب قائم بذاته، وكذلك فى تفسير بعض الثنائيات المفاهيمية المهمة فى هذه الرواية: الجوهرى ضد النسبى، والبدائى ضد الحديث، وغير الواقعى ضد الواقعى، حيث يتطابق العنصر الأول فى كل ثنائية مع المكوِّن الأسطورى البدائى، والعنصر الثانى مع الواقع المعاصر الذى يجرى تصويره.
 
*****
طبيب الأمراض العقلية
(= السراية الخضراء)
(رواية قصيرة: ماشادو ده أسيس)
 
فى هذه الرواية القصيرة نلتقى بالجريمة النظرية كأساس لرواية وبالتالى لرؤية للحياة، ليس كما يطبقها سيمون باكامارته، طبيب الأمراض العقلية الرهيب، المؤيَّد من كل سلطة قائمة، ليمارس على البشر، كل البشر الواقعين داخل نطاق سلطاته، نظريته الأولى ثم نظريته الثانية المناقضة تمامًا للأولى عن الجنون، بكل إخلاص العالم لفكرته وباستبعاد أو سحق كلّ دور لهؤلاء البشر فى تقرير حياتهم ومصيرهم، والنتيجة: شقاء البشر فى ظلّ استبداد من نوع أو آخر. وطوال القرن العشرين، سيخرج سيمون باكامارته الرهيب، الذى أبدعه ماشادو فى 1882، من سجن الرواية القصيرة إلى العالم الحقيقى، عالم البشر، ومن بلدة "إتاجواى" الصغيرة فى البرازيل إلى مساحات شاسعة فوق الكرة الأرضية ليحقق نظرية هنا من وراء قناع، ونظرية أخرى هناك من وراء قناع آخر، ونظريات عديدة فى مكان واحد مع تغيير الأقنعة، لتصل مأساة الجريمة النظرية، التى ربما كانت إطارًا عامًا لحياة الإنسان منذ فجر التاريخ (البشر بوصفهم موضوعًا للتاريخ وأيضًا: فئرانًا لتجاربه الجماعية)، إلى أبعاد ومستويات لم تخطر من قبل على بال بشر.
 
*****
حكاية سكندرية وقصص أخرى
(ماشادو ده أسيس)
               فى هذه المجموعة المختارة من القصص القصيرة، يواصل ماشادو ألعابه الخيالية السحرية التى جعلت منه، بحكم طبيعة الموضوعات وأساليب المعالجة الفنية، رائدا مباشرا للحداثة: من الهند الصينية فى القرن السادس عشر حيث نشهد ظهور كثرة من الفرق الدينية البوذية ”سرّ البونزو“؛ إلى الإسكندرية الپطلمية حيث يطبق فيلسوفان قبرصيان نظرية عن تحويل صفات الإنسان بمواد مستخلصة من حيوانات وطيور لتنتهى الأحداث إلى جريمة نظرية يكون ضحيتها الإنسان ”حكاية سكندرية“؛ إلى إصرار الشيطان على تأسيس كنيسة للشر يناطح بها كنيسة الرب بدلا من مجرد تضليل المؤمنين ”كنيسة الشيطان“؛ إلى ”الفاصل الأخير“ لمنتحر؛ إلى ”الحياة الثانية“ التى يعيشها مجنون بها ؛ إلى ”دونا پاولا“ التى تثير نزوة ابنة أختها ذكرى أيامها الخوالى؛ إلى ”الممرض“ الذى يقتل رغم أنفه مريضه؛ إلى نجم موسيقى الپولكا الذى يدمره طموح مستحيل إلى تأليف الموسيقى الكلاسيكية ”رجل شهير“؛ إلى مُولع بعلم الطيور يعيش جنونه مع نظريات و ”أفكار عصفور كناريا“؛ إلى ليلة يقضيها نائب برلمانى متمنيا موتا فجائيا ينقذه من موت يعض ويمضغ ويحطم ويطحن ضحيته مات به ليلتها أحد أعدائه ولكنه يموت بعد سنين طويلة حيث يطلب وينال موتا طويلا متريثا تسربت خلاله عصارة حياته قطرة قطرة من قنينة إلى أخرى فلم يبق سوى الشوائب وعندئذ أدرك الفلسفة الكامنة وراء الموت الطويل المتريث: الرواسب وحدها ستذهب إلى القبر ”مارش جنائزى“.
 
*****
قصص برازيلية
(مترجَم بالاشتراك مع سحر توفيق)
 
فى هذا المشوار الطويل حقا للقصة القصيرة البرازيلية الحديثة، من النصف الثانى للقرن التاسع عشر إلى أواخر القرن العشرين، نعيش مع "دونا پاولا" التى تثير نزوة ابنة أختها ذكرى أيامها الخوالى، ولكنها تعجز بصورة مأساوية عن نفخ الحياة فى شبابها الذى ولَّى (ماشادو ده أسيس)، ومع عائلة أوليڤيرا التى تضطر أمام ضغوط ومقتضيات حياة جافة إلى التخلص من الپيانو بكل تلك الموسيقى فى تاريخ العائلة، بإغراقه فى المحيط الأطلنطى (أنيبال مونتيرو ماشادو)، ومع الصبىّ الذى عاش أسطورة انتقال أبيه إلى الشاطئ الثالث لنهر حياتنا وموتنا إلى أن يشيخ ويوشك ذلك الشاطئ ذاته على ابتلاعه (روزا)، ومع تارسيزو (ده كيروس)، ومع برسيونكولا الخلاسىّ الذى يحقق لماريا ذات الطرحة، بعد موتها، حلم حيانها وموتها بأن تُزَفَّ عروسا إلى إنسان يحبها (چورچ أمادو)، ومع ساحر مطعم مينيوتا، الساحر الخال رغم أنفه (موريلو روبياون)، ومع الپروفيسور ألبرتو الذى يرتكب جريمة نظرية مدمرة مسخِّرا زوجته الشابة الحسناء هيلينا وصديقه الشاب ليعيش الثلاثة فى جحيم الجنون (پاولو جوميس)، ومع امرأة أفريقية من قبائل الأقزام تفجِّر بداخلنا ينابيع الحب للإنسان فى كل تجلياته (كلاريس ليسپكتور)، ومع عذابات قلوب محطمو (روبن فونسيكا)، ومع الفراشة البيضاء (دالتون تريڤيزان)، ومع طاقة "جرأة" يعجز البشر فى آنٍ معا عن فتحها أو إغلاقها (لويس ڤيليلا).
 
*****
 
آدم وحواء
وقصص أخرى من أمريكا اللاتينية
(قصص قصيرة: نخبة)
 
فى هذه المجموعة المختارة من القصص القصيرة نعيش مع عدد من كبار كتاب أمريكا اللاتينية، بادئين مع ماشادو ده أسيس، رائد الحداثة الأمريكية اللاتينية، وقصة "المرآة – مسوّدة لنظرية جديدة عن روح الإنسان" وقصة "آدم وحواء" فى زيارة جديدة أيضا لقصتهما. ونواصل الرحلة الطويلة منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى الآن مع تسع عشرة قصة لثلاثة عشر كاتبا من خمسة بلدان أمريكية لاتينية: مع مارتن فييرو النموذج الأصلى البطولى للجاوتشو الأرجنتينى فى قصة لبورخيس، إلى هزيمة ثورة حمقاء تقوم بها النباتات فى قصة لجابرييلا ميسترال (الحاصلة على جائزة نوبل عام 1945 قبل أىّ كاتب أمريكى لاتينى آخر)، إلى الصبى الذى عاش أسطورة انتقال أبيه إلى الشاطئ الثالث لنهر حياتنا وموتنا (روزا)، إلى "كوابيس" خوليو كورتاثر، إلى ساحر مطعم منيوتا، الساحر الخالد رغم أنفه (موريلو روبياون)، إلى امرأة أفريقية من قبائل الأقزام تفجر بداخلنا ينابيع الحب للإنسان فى كل تجلياته (كلاريس ليسپكتور)، مع كتاب كثيرين آخرين فى قصص الفانتازيا والميتافيزيقا والواقعية السحرية التى هى سمات أدب أمريكا اللاتينية.
 
*****
بيتنا فى شارع المانجو
(رواية: ساندرا سيسنيروس)
رواية "بيتنا فى شارع المانجو" التى يجرى سردها فى إطار مجموعة من الصور القلمية (vignettes) تذهل ببراعتها هى قصة إسپيرانثا كورديرو، فتاة صغيرة تنمو فى الحى الهيسپانى بشيكاجو. وبالنسبة ﻠ إسپيرانثا، يمثل شارع المانجو مشهدا بائسا من الخرسانة المسلحة والمبانى السكنية المتهدمة، حيث تكتشف الحقائق القاسية للحياة – أغلال الطبقة والجنس، وشبح العداء العنصرى، وخفايا الدافع الجنسى، وأكثر. وبفضل سيطرتها على أفكارها وانفعالاتها فى القصائد والقصص، كانت إسپيرانثا قادرة على أن ترتفع فوق العجز، وهى تخلق لنفسها "بيتا يخصُّنى وحدى ... هادئ كالثلج، به حَيِّزٌ أتحرك فيه"، وسط بيئتها القمعية.
وكانت رواية "بيتنا فى شارع المانجو" (1984) المثيرة للمشاعر بألمعية، والغنائية بصورة متواصلة، والمقنعة بقوة، والتى تُرْجِمَتْ على النطاق العالمىّ وتُدَرَّس فى الفصول الدراسية باعتبارها رواية قرن قادم، علامة على ظهور موهبة أدبية كبيرة. وقد تلقت جوائز عديدة، ويُنظر إليها على أنها شخصية رئيسية فى أدب التشيكانو. ويتناول إنتاج سيسنيروس تكون هوية التشيكانو، مستكشفةً تحديات كونها محصورة بين الثقافتين المكسيكية والأنجلوأمريكية، فى مواجهة مواقف الكراهية الهائلة للنساء فى كلٍّ من هاتين الثقافتين، وفى مواجهة الفقر.
 
 
*****
 
أساطير البحر
(برنار كلاڤيل)
 
فى بلاد الأساطير، يسافر الملك سوران بالغوص فى البحر داخل صندوق زجاجى، ويلعب سمك قرش جميل مع الأطفال، والرجال يتزوجون من بنات البحر.
لكن احترس من جنيات البحر الغيورة، ومن عجول البحر التى تنتقم لنفسها، ومن أشباح المدن التى طواها جوف البحر، ومن الحوت الجنرال بجيشه من الأسماك.
 
*****
أساطير البحيرات والأنهار
(برنار كلاڤيل)
هل تعرفون خمس طرق لعبور النهر؟ هل تعلمون أن بيضة يمكن أن تفقس ثورا؟ وأن ملك السلمون له شعر أشقر؟ وكيف يطبخ وحش نهر "أويو" طعامه؟
المياه الجارية، المياه الغامضة تخبِّئ سكانا غريبين... يلعب بعضهم، ويبكى آخرون... ويمكن أن يرقدوا هناك إلى الأبد. 
*****
    أساطير الجبال والغابات
(برنار كلاڤيل)
فى بلد الأساطير، تحت غطاء الجبال والغابات، يغدو الشيطان والقرد الأبيض الضخم ملكين. ولا تمثل الفتيات المسحورات والأشجار التى تتكلم سوى أدنى رموز هذا العالم الملئ بالسحر و الحلم.
 
*****
بورخيس كاتب على الحافة
(نقد أدبى: بياتريث سارلو)
 
يدور هذا الكتاب حول فكرة مؤداها أن أدب بورخيس أدب عالمى وفى الوقت نفسه أدب قومى أرچنتينى، من داخل وضد التراث الأرچنتينى والثقافة الأرچنتينية. وهو بهذا يتحدى الطريقة التى يجرى بها تقديم بورخيس فى المناخ الأوروبى الراهن، أى بورخيس الذى تفسره الثقافة الغربية (ويفسرها فى الوقت نفسه) وكذلك التفاسير التى تقدمها هذه الثقافة أيضا للشرق، وليس أيضا بورخيس الذى تفسره الثقافة الأرچنتينية (ويفسرها)، وبصورة خاصة ثقافة بوينوس آيرس. وعلى هذا النحو فإن هذه القراءات "العالمية الطابع" تدع جانبا مظاهر حيوية لكتابات بورخيس، خاصة صلات إنتاجه بالتاريخ الأرچنتينى فى القرن التاسع عشر وبتطور الحداثة الثقافية فى الأرچنتين فى العقود الأولى من القرن العشرين. والحقيقة أن بورخيس يكتب عند مفترق الطرق الذى تلتقى عنده الثقافة الأوروبية والثقافة الأرچنتينية. ويثبت إنتاجه مدى عظمة الأدب الذى يمكن إنتاجه فى أمة طرفية هامشية ثقافيا، على حافة الثقافة الغربية. غير أن هدف سارلو لا يتمثل فى تفضيل قراءة واحدة ﻟ بورخيس بل كان هدفها تقديم طرق مختلفة لقراءته تأخذ فى الحسبان الطبيعة المزدوجة والمتناقضة دوما لإنتاجه الأدبى، بعيدا عن كل تبسيط. فهو فى الحقيقة كاتب عالمى وفى الوقت نفسه قومى بعمق، طرفى فى المركز، كوزموﭙوليتانى فى الحافة.
 
*****
الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالى
(الأدب الآيرلندى المبكِّر فى الترجمة الإنجليزية)
(نقد أدبى (دراسات الترجمة): ماريا تيموسكو)
 
من خلال دراسات حالة مكثفة لترجمة الأدب الآيرلندى المبكِّر إلى الإنجليزية، تقوم ماريا تيموسكو بفحص معمِّق لممارسات الترجمة أثناء النضال الآيرلندى فى سبيل الاستقلال،وتوضِّح الطُّرُق المتنوعة التى يربط بها المترجمون بين المقاومة ضد الاستعمار الكولونيالى البريطانى والاضطهاد الثقافى فى ترجماتهم للتراث الأدبى القومى لآيرلندا. ويشكل هذا التحليل الريادى للمسار الثقافى للمستعمرة الأولى لإنجلترا؛ إسهاما رئيسيا فى الدراسات ما بعد الكولونيالية، وإطارا وثيق الصلة بمعظم الثقافات الناشئة عن الاستعمار الكولونيالى. وفى الوقت نفسه، تغدو دراسات الحالة الآيرلندية هذه الوسيلة الملائمة لمساءلة النظريات المعاصرة بشأن الترجمة. ومن خلال الحركة بين النظرية الأدبية وعلم اللغة، الفلسفة والدراسات الثقافية، الأنثروپولوچيا ونظرية الأنساق، تقدِّم المؤلفة نموذجا لمقاربة متكاملة لنظرية وممارسة الترجمة. كما تقوم المؤلفة بتفحُّص إنتاج عدد من كبار المترجمين الأدبيِّين يشمل أعمال شخصيات بارزة مثل ستانديش أوجريدى، و أوجوستا جريجورى، و توماس كينسيلا، بالإضافة إلى عدد من كبار كتّاب آيرلندا فى القرن العشرين منهم ييتس و چويس.
وكتاب الترجمة فى سياق كولونيالى مفيد للغاية لكل المهتمين بنظرية وممارسة الترجمة، ودراسات ما بعد الكولونيالية، والأدب الآيرلندى خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
 
*****
دوستويڤسكى.. إعادة قراءة
(نقد أدبى: يورى كارياكين)
"وربما كانت أفضل طريقة لفهم أهمية دوستويڤسكى فى الأدب العالمى، لفهم ما يعنيه بالنسبة لنا هى أن نتخيل للحظة واحدة أنه لم يوجد مطلقا – ومعه كلّ بحثه واكتشافاته، خوفه وشجاعته، آماله ويأسه، ’بطاقته‘ وحبُّه ’للحياة المملوءة بالحياة‘ وأخيرا سؤاله الذى أربك منذ طرحه كثيا من الآخرين: ’ربما كان هذا الحوذىّ سيصير شكسپبيرا، وذلك الحداد رافائيلا، وذلك الفلاح ممثلا. وهل يكون المرء دائما أن مجموعة صغيرة فى القمة هى فقط التى تُظْهِر نفسها، بينما يجب أن يهلك الباقى؟....‘".
 
*****
عالم جديد
(فكر: فيديريكو مايور و چيروم بانديه)
(هذا الكتاب مترجَم بالاشتراك مع على كلفت)
هل تنجو البشرية وتبقى بعد القرن الجديد؟ وهل تهددها "قنبلة ديموجرافية بالأخطار؟ وهل سيكون الطعام كافيا للجميع؟ وهل سيكون بالإمكان استئصال الفقر؟ وهل نتجه إلى أپارتهيد حضرى شامل؟ وهل تحفر التكنولوچيات الجديدة هوة بين الأغنياء والفقراء؟ وهل ستتيح هذه التكنولوچيات التعليم للجميع عن بُعْد، مدى الحياة؟" وهل ستجد النساء مكانهن اللائق بهن؟ وكيف نناضل ضد ارتفاع درجة حرارة الكوكب وضد التصحُّر؟ وهل تندلع الحرب من أجل الماء؟ وهل سيكون فى الإمكان السيطرة على الطاقة الشمسية؟ وهل تحدث معجزة أفريقية؟
وفى عالم تتعولم فيه المشكلات، ما هى الحلول الشاملة التى يمكن اقتراحها؟ وكيف يمكن الانتقال من ثقافة عنف إلى ثقافة سلام، ومن طغيان إلحاح الطوارئ والفورية إلى أخلاق المستقبل. وهل سيكون للقرن الحادى والعشرين وجه إنسانى أم الوجه العابس ﻟ "أفضل العوالم"؟
هذا العمل يُلقى ضوءًا ساطعا على الرهانات الكبرى للمستقبل ويقترح "بداية جديدة"، تقوم على أربعة عقود: عقد اجتماعى، وعقد طبيعى، وعقد ثقافى، وعقد أخلاقى.
لا تتوقعوا شيئا من القرن الحادى والعشرين: إن القرن الحادى والعشرين هو الذى يتوقع منا كل شيء.
 
*****
حروب القرن الحادى والعشرين
(فكر: إينياسيو رامونيه)
من الآن فصاعدا صار شبح الكوارث يلاحق العالم من جديد. وتنتمى هذه الكوارث بصورة أساسية إلى مجموعتين. من جهة، أزمات جغرافية-سياسية من نوع جديد يفجرها الإرهاب الفائق، والنزعة القومية المتطرفة، والأصوليات. ومن جهة أخرى، التعديات على النظام الإيكولوچى وهى ماثلة فى صميم الكوارث الطبيعية أو الصناعية البالغة الضخامة. والسؤال: كيف نتفادى هذه الأخطار الجديدة التى تهدد، فى نهاية المطاف، بقاء البشرية؟
 
 
*****
كيف نفهم سياسات العالم الثالث
(فكر: بى. سى. سميث)
يقدم كتاب "كيف نفهم سياسات العالم الثالث" لمؤلفه الپروفيسور البريطانىّ بى. سى. سميث مدخلا شاملا ونقديا إلى النظريات الرئيسية للعلم السياسىّ المستخدَمة لفهم التغيير السياسىّ فى البلدان النامية.
ويُلْقِى الكتاب نظرة عامة على المجموعة المتنوعة من المؤسسات والعمليات فى العالم الثالث، كما يقدِّم تقييمًا نقديًّا للأُطُر التفسيرية الرئيسية التى يستخدمها العلماء السياسيون لفهمها. ويدعم المؤلف مناقشته على طول الكتاب بأمثلة معاصرة مختارة بعناية من مختلف أنحاء العالم.
وينتهى الكتاب إلى بحث عدم الاستقرار الذى يصيب البلدان الفقيرة بكوارثه، موضحا الشروط الاجتماعية والسياسية المطلوبة لاستقرار الديمقراطية فى بلدان العالم الثالث.
 
*****
النظام القديم والثورة الفرنسية
(فكر: أليكسى دو توكڤيل)
يرسم توكڤيل، فى هذا الكتاب الذى يُعَدُّ واحدا من كلاسيكيات الأدب السياسىّ، لوحة نابضة بالحياة للمجتمع الفرنسىّ، فى فترة النظام القديم أىْ السابق لثورة 1789 الفرنسية العظمى، فيما كان يتحوَّل بعمق من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر، وهو يحدِّد بوضوح طابع هذا التحوُّل ومنطقه وديناميته ومغزاه.
وكما هو معروف جيدا فإن المجتمع الفرنسىّ كان يتحوَّل فى ذلك الحين من الإقطاع إلى الرأسمالية من خلال ثورة سياسية برچوازية. ويتمثل الجديد فى كتاب توكڤيل، بين أشياء أخرى، فى إبراز أن هذا التحوُّل لا يجرى انطلاقا من نظام إقطاعىّ خالص، إذْ إن "النظام القديم" (أو: العهد البائد) كان قد خرج منذ وقت طويل قبل 1789 من القفص الحديدىّ للإقطاع والقرون الوسطى، وصار مجتمعا انتقاليًّا رغم بقايا الإقطاع التى كانت تكبح تطوُّر الرأسمالية وتجعل من إزالتها من طريقها ضرورة قصوى وملحَّة.
وهنا يُبَرْهِن توكڤيل أن ذلك "النظام القديم" (فترة الحكم الملكىّ المطلق بوجه عام) يمثل الثورة البرچوازية الأولى (الاجتماعية) التى كانت ستندفع تاريخيًّا فى طريق المستقبل الرأسمالىّ حتى بدون ثورة 1789. على أنه يبحث الشروط الاجتماعية-الاقتصادية لفرنسا وكذلك شروطها الفكرية والفلسفية والأدبية وأحلامها بالمساواة والحرية، تلك الشروط التى جعلتْ تلك الثورة السياسية تعصف بفرنسا والعالم والتاريخ، بدورها التقدُّمىّ المتمثل فى رفع فرنسا وأوروپا إلى الحضارة الرأسمالية، ولكنْ حطمتْ أحلام المساواة والحرية، وقادت فرنسا على طريق الإمپراطورية والاستبداد والاستعباد.
 
                 *****
انهيار النموذج السوڤييتى
(فكر: كريس هارمان)
 
يقدم كريس هارمان، وهو رئيس تحرير المجلة الفصلية اللندنية "إنترناشونال سوشاليزم" [الاشتراكية الأممية]، ومن كبار مفكِّرى حزب العمال الاشتراكى فى بريطانيا، فى هذا الكتاب استقصاءً شاملا مدقِّقا لمسار التطورات الكبرى التى جرت فى الاتحاد السوڤييتى السابق منذ الپيريسترويكا، وفى مجرى الأحداث التى عصفت بالأحزاب الحاكمة فى أوروپا الشرقية. ورغم أن هذا الاستقصاء الشامل المعمَّق هو السمة المميزة لهذا الكتاب، فهو كتاب سياسى فى المحل الأول، لا يكتسب كتاب هارمان أهميته من مجرد الوصف الموضوعى والأمين والغنى بالتفاصيل التى تطمح إلى تقديم صورة نابضة بالحياة، بل هناك دائما ما يعمِّق مغزى هذا الاستقصاء لما هو راهن من بحث عن جذور تلك الأزمة، وكشف البنية الاجتماعية-الاقتصادية التى كانت هذه الأزمة ممكنة بل حتمية ضمن إطارها، واستكشاف لصورة المستقبل، للنتائج التى كان لا بد من أن تؤدى إليها تلك التطورات التاريخية فى نهاية الأمر. والحقيقة أن إجابة هارمان حاسمة: الانتقال من شكل للرأسمالية إلى شكل آخر لنفس الرأسمالية، الانتقال من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية المتعددة الجنسيات.
 
*****
الأساطير والميثولوچيات السياسية
(فكر: راؤول چيرارديه)
يبيِّن لنا هذا البحث الريادى الذى يستكشف عالم الخيال السياسى خلال القرنين التاسع عشر والعشرين كيف توافقت دوما تلك اللحظات الكبرى للفوران الميثولوچى مع ظواهر الأزمة، أو التحوُّل، أو القطيعة.
وتدور الدراسة حول أربع مجموعات سياسيو ميثولوچية كبرى: المؤامرة، المخلِّص، العصر الذهبى، الوحدة. وهى تستلهم دروس باشلار و ليڤى-ستروس لتنطلق إلى وصف ثيمات هذه المجموعات وتحليل أبنيتها. على أن المؤلف يبذل أيضا قصارى جهده لتقديم أداة جديدة للتفسير والاستيعاب من خلال وضع هذه المجموعات السياسية الميثولوچية فى إطار التاريخ العام لمجتمع وثقافة.
 
*****
تغريب العالم
(بحث حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم)
(فكر: سيرچ لاتوش)
ليس التغريب، من زاوية ما، سوى "الحالة" الثقافية للتصنيع، غير أن تغريب العالم الثالث هو قبل كل شيء محو ثقافة، أىْ تدمير بحت للهياكل الاقتصادية والاجتماعية والعقلية التقليدية لكى لا يحل محلها فى نهاية المطاف سوى كومة ضخمة من الخردة مصيرها الصدأ. ويقود المأزق الصناعى مباشرة إلى المأزق المجتمعى. ولن يصنع الإخفاقان فوق ذلك سوى شيء واحد: رفض نقل وزرع "التغريب".
 
*****
مدرسة فرانكفورت
نشأتها ومغزاها.. وجهة نظر ماركسية
(فكر: فيل سليتر)
تُستخدَم عبارة "مدرسة فرانكفورت" على نطاق واسع، لكنْ بطريقة فضفاضة أحيانا، لتدلَّ فى آنٍ واحد على مجموعة من المفكرين وعلى نظرية اجتماعية بعينها. وتركِّز هذه الدراسة التى جعلت محورها سنوات تشكُّل مدرسة فرانكفورت وهى أكثر فتراتها راديكالية، طوال الثلاثينات، على الإسهامات الأكثر أصالة التى قدمتها مدرسة فرانكفورت إلى إعداد "نظرية نقدية للمجتمع" من جانب الفيلسوفين ماكس هوركهايمر و هربرت ماركيوز، وعالم النفس إيريك فرومّ، وعالم الجمال تيودور ڤ. أدورنو.
ويتتبَّع فيل سليتر المدى والحدود النهائية للعلاقة المعلنة لمدرسة فرانكفورت بالنقد الماركسى للاقتصاد السياسى. وخلال بحثه لمدى الصلة بالممارسة الثورية، يناقش سليتر التاريخ الاجتماعى-الاقتصادى والسياسى لألمانيا الڤايمارية فى فترة انحدارها نحو الفاشية، ويدرس إنتاج أشخاص مثل كارل كورش، ڤيلهلم رايش، ڤالتر بنيامين، برتولت بريشت، الأمر الذى يُلقى قدرا هائلا من الضوء النقدى على مدرسة فرانكفورت.
وفى الوقت الذى يحدد فيه بدقة النواقص الجوهرية للأساس النظرى لمدرسة فرانكفورت، يبحث فيل سليتر أيضا الدور الذى لعبه إنتاجهم (ضد رغباتهم إلى حد كبير) فى اندلاع الحركة الطلابية المناهضة للنزعة السلطوية فى الستينات. ويبيِّن سليتر أن تحليل التطويع النفسى والثقافى كان محوريا، بصفة خاصة، فيما يتعلق بالسلاح النظرى للمتمردين الشباب، ولكنه يبيِّن هنا أيضا أن الافتقار إلى التحليل الطبقى الاقتصادى يحُدّ بصورة جدية من الحدّة النقدية لنظرية مدرسة فرانكفورت. والاستناجالذى يستخلصه هو أن الطرى الوحيد إلى الأمام يتمثل فى إنقاذ الجذور الأكثر راديكالية لإنتاج مدرسة فرانكفورت، وفى إعادة صبِّها فى إطار نظرية عملية للتحرير الاقتصادى والسياسى.
 
*****
تجارة عادلة للجميع
(كيف يمكن للتجارة أن تعزز التنمية)
(فكر وسياسة: چوزيف ستيجليتز و أندرو تشارلتون)
عندما تأسس منظمة التجارة العالمية، أعلنت أها تسعى إلى دمج الدول النامية والمتقدمة فى نظام واحد يحقق الرفاهية بين الدول على حد سواء، ولتحقيق ذلك سعت إلى تحرير التجارة من قيود الجمارك وغيرها.
فهل تحقق على أرض الواقع ما كانت المنظمة تدعو إليه؟
هذا الكتاب يهدف إلى وصف الطريقة التى يمكن بها تصميم السياسات التجارية فى البلدان المتقدمة والنامية؛ لمساعدتها على الاستفادة من مشاركتها.
وحتى تكون لزيادة الفرص التجارية فائدة حقيقية للبلدان النامية؛ لا بد أن يدار تحرير التجارة بعناية شديدة، فلا يقتصر على مجرد وصفات بسيطة لإجماع واشنطن، الذى يحثّ البلدان النامية على تحرير أسواقها دون تمييز.
 
*****
إنجلس وأصل المجتمع البشرى
(فكر: كريس هارمان، ترجمة: هند خليل كلفت)
يتناول هذا الكتاب ثلاث قضايا كبرى تتعلق بالتاريخ البشرى: الجدل حول أصل الإنسان، وأصل الطبقات والدولة، وأصل اضطهاد النساء. ويشتمل الكتاب على مراجعة دقيقة لمعاجة فريدريك إنجلس لهذه القضايا فى كتابه الشهير أصل العائلة، والملكية الخاصة، والدولة، ومقاله المهم ولكنْ غير المكتمل: الدور الذى لعبه العمل فى الانتقال من القِرَدة العليا إلى الإنسان.
وهو يبدأ بهذا النص الأخير: الدور الذى لعبه العمل ليناقش قضية أصل الإنسان، ثم ينطلق من: أصل العائلة ليناقش القضيتين الأخريين. وبطبيعة الحال فقد اعتمد إنجلس، كما يقول كريس هارمان، على معلومات تجاوزها التقدم العلمى على مدى القرن السابق: كان إنجلس يكتب قبل اكتشاف نظرية مندل Mendelian theory عن الچينات، وقبل العثور على البقايا المبكرة للهومينيد hominid فى أفريقيا، وفى وقت كانت فيه دراسة مجتمعات ما قبل اللغات المكتوبة فى طفولتها. ويؤكد المؤلف أن كتابات إنجلس ما تزال تحتفظ، مع ذلك، بأهمية هائلة، إذ إنه يطبِّق منهجا يُعَدّ ماديا دون أن يكون ميكانيكيا، ويواصل تحدِّيه لكل من المثالية والتوأم المفزع المتمثل فى السلوكية والسوسيوبيولوچيا.
وهذا هو السبب، كما يقول المؤلف، فى أنه يجدر بنا أنْ نتفحص وجهات نظر إنجلس فى هذين العمليْن وأنْ ندافع عما هو صحيح فيهما وأن نغربلهما فى الوقت نفسه لنستبعد ما تم تجاوزه. وهذا ما يحاول القيام به، متفحصا أولا تفسيره للتطور البشرى فى الدور الذى لعبه العمل، ثم تفسيره لنشأة الطبقات والدولة فى أصل العائلة، ثم، أخيرا تفسير هذا العمل نفسه لاضطهاد النساء. وفى كل حالة يحاول المؤلف معالجة الثغرات والتفاوتات فى وجهات نظر إنجلس عن طريق مناقشة بعض أهم المعلومات وأكثرها حداثة حول هذه المسائل.
 
 
 
 
ببليوجرافيا خليل كلفت
 
تأليف
* نشر العديد من المقالات والكتب فى مجالات النقد الأدبى واللغة والسياسة والفكر وله الكتب التالية:
 
النقد الأدبى واللغة:
1: النموذج الثورى فى شعر عبد الوهاب البياتى، (بالاشتراك فى عمل جماعى) بغداد، الطبعة الأولى، 1972.
2: خطوات فى النقد الأدبى، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، القاهرة، 2005.
3: معجم تصريف الأفعال العربية، (بالاشتراك مع حسن بيومى وأحمد الشافعى) دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1989.
4: من أجل نحو عربى جديد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2009.
 
السياسة والفكر:
1: القرن الحادى والعشرون: حلم أم كابوس؟، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، القاهرة، 2007.
* نشر (باسم قلم: صالح محمد صالح) العديد من المقالات والكتب فى مجالات الاقتصاد والسياسة والفكر، ومن كتبه باسم القلم المذكور:
1: الإقطاع والرأسمالية الزراعية فى مصر - من عهد محمد على إلى عهد عبد الناصر [الاسم الأصلى للكتاب: تطور الرأسمالية الزراعية فى مصر قبل 1952]، دار ابن خلدون، بيروت، الطبعة الأولى، 1979.
2: حول أسلوب الإنتاج الآسيوى، سلسلة دليل المناضل فى النظرية، الطبعة الأولى، دار ابن خلدون، بيروت، 1978.
 
ترجمة:
 *  نشر فى الصحف والمجلات المصرية والعربية عشرات المواد المترجمة فى مجالات الأدب والنقد الأدبى والفكر والسياسة وقصص الأطفال، وله الكتب المترجمة التالية:
 
أدب:
1: ماشادو ده أسيس: السراية الخضراء (رواية قصيرة)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991، [عن الإنجليزية].
2: ماشادو ده أسيس: دون كازمورّو (رواية)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1991، [عن الإنجليزية].
3: خ. ل. بورخيس: مختارات الميتافيزيقا والفانتازيا (قصص، مقالات، أشعار، حكاية رمزية)، ا: الطبعة الأولى، دار شرقيات، القاهرة، 2000، [عن الإنجليزية].
ب: الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2008.
4: مجموعة من الكتاب البرازيليين: قصص برازيلية (بالاشتراك مع سحر توفيق)، إبداعات عالمية، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الطبعة الأولى، 2000، [عن الإنجليزية].
5: مجموعة من الكتاب: آدم وحواء وقصص أخرى من أمريكا اللاتينية، سلسلة آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2008، [عن الإنجليزية].
6: ماشادو ده أسيس: حكاية سكندرية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2009، [عن الإنجليزية].
 
أدب الأطفال والناشئة:
1: ريتا جولدن چيلمان: شخابيطو تشخبط (قصة مصورة)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006، [عن الإنجليزية].
2: آنا ماريا روميرو يبرا: دينو، الديناصور [Ufito, el dinosaurio]، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006، [عن الإسپانية]. 
3: ميكيل بالبيردى: ملك الغابة [El rey de la selva]، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006، [عن الإسپانية].
4: آنى جروڤى، تيمور والتعبيرات، (بالاشتراك مع هويدا نور الدين)، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، القاهرة، 2006، [عن الفرنسية].
5: برنار كلاڤيل: أساطير البحر، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007، [عن الفرنسية].
6: برنار كلاڤيل: أساطير الجبال والغابات، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007، [عن الفرنسية].
7: برنار كلاڤيل: أساطير البحيرات والأنهار، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2008، [عن الفرنسية].
 
نقد أدبى:
1: يورى كارياكين: دوستويڤسكى - إعادة قراءة، كومبيونشر للدراسات والإعلام والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1991، [عن الإنجليزية].
2: پول ب. ديكسون: الأسطورة والحداثة: حول رواية دون كازمورّو، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998، [عن الإنجليزية].
3: مجموعة من الكتاب: عوالم بورخيس الخيالية، آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1999، [عن الإنجليزية].
4: بياتريث سارلو: بورخيس: كاتب على الحافة، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2004، [عن الإنجليزية].
5: ماريا تيموسكو: الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالى: ترجمة الأدب الآيرلندى المبكر إلى الإنجليزية، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2009، الطبعة الأولى، [عن الإنجليزية].
                
فكر سياسى واقتصادى وفلسفى:
1: وثائق محكمة الشعوب الدائمة للرابطة الدولية لحقوق وتحرر الشعوب - جلسة بشأن أرتريا، ميلانو، إيطاليا، 24-26 مايو 1980: قضية أرتريا، الطبعة الأولى، پاريس، 1985، [عن الإنجليزية والفرنسية].
2: سيرچ لاتوش: تغريب العالم: دراسة حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم، الطبعة الأولى، دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، ا: الطبعة الأولى، 1992، [عن الفرنسية].
ب: (طبعة ثانية، المغرب، ؟!).
3: توما كوترو وميشيل إسّون: مصير العالم الثالث، دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، الطبعة الأولى، 1995، [عن الفرنسية].
4: راؤول چيرارديه: الأساطير والميثولوچيات السياسية، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، الطبعة الأولى، 1995، [عن الفرنسية]. 
5: كريس هارمان: العاصفة تهب (حول انهيار النموذج السوڤييتى)، دار النهر، القاهرة، ا: الطبعة الأولى، 1995، [عن الإنجليزية].
ب: الطبعة الثانية بعنوان: انهيار النموذج السوڤييتي- الأسباب والنتائج، المشروع القومى للثقافة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2010.  
6: فيل سليتر: مدرسة فرانكفورت: نشأتها ومغزاها - وجهة نظر ماركسية، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ا: الطبعة الأولى، 2000، [عن الإنجليزية].
ب: الطبعة الثانية، المشروع القومى للترجمة، 2004،. 
7: فيديريكو مايور و چيروم بانديه: عالم جديد (بالتعاون مع منظمة اليونسكو؛ بالاشتراك مع على كلفت)، دار النهار للنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2002، [عن الفرنسية].
8: ا: إينياسيو رامونيه: حروب القرن الحادى والعشرين : مخاوف وأخطار جديدة، الطبعة الأولى، دار العالم الثالث (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005 ، [عن الفرنسية].
ب: الطبعة الثانية، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2006.
9: إيڤ ميشو (إشراف) جامعة كل المعارف: ما الحياة؟ (بالاشتراك فى ترجمة جماعية) المجلس الأعلى للثقافة (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 2005، الطبعة الأولى، [عن الفرنسية].
10: إيڤ ميشو (إشراف) جامعة كل المعارف: ما الثقافة؟ (بالاشتراك فى ترجمة جماعية) المجلس الأعلى للثقافة (بالتعاون مع المركز الفرنسى للثقافة والتعاون بالقاهرة، قسم الترجمة)، القاهرة، 2005، الطبعة الأولى، [عن الفرنسية].
11: نخبة من المؤلفين: تحولات عالمية عند منعطف القرن: دراسات ومقالات سياسية واجتماعية واقتصادية، دار هفن، القاهرة، 2008، الطبعة الأولى، [عن الإنجليزية والفرنسية].
12: چوزيف ستيجليتز و أندرو تشارلتون: تجارة عادلة للجميع، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، (بالتعاون مع مشروع "كلمة")، القاهرة، 2009، الطبعة الأولى، [عن الإنجليزية].
13: ألكسى دو توكڤيل: النظام القديم والثورة الفرنسية، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2010، الطبعة الأولى، [عن الفرنسية].
14: بى. سى. سميث: كيف نفهم سياسات العالم الثالث، نظريات التغيير السياسىّ والتنمية، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2011، الطبعة الأولى، [عن الإنجليزية].
 
معاجم:
1: الياس–هاراب القاموس التجارى إنجليزى-عربى، دار الياس العصرية للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996، [عن الإنجليزية].
2: چيرار سوسان و چورچ لابيكا: معجم الماركسية النقدى (بالاشتراك فى ترجمة جماعية)، دار محمد على للنشر، صفاقس، تونس، و دار الفارابى ، بيروت (بالتعاون مع منظمة اليونسكو)، الطبعة الأولى، 2003، [عن الفرنسية].
 
مراجعة و/أو تقديم:
1: (مراجعة) تونى كليف: رأسمالية الدولة فى روسيا، ترجمة عمر الشافعى، مركز الدراسات الاشتراكية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998، [عن الإنجليزية]. 
2: (مراجعة وتقديم) هاوارد كايجل وآخرون: أقدم لك ... ڤالتر بنيامين، ترجمة: وفاء عبد القادر مصطفى، المشروع القومى للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005، [عن الإنجليزية].
3: (مراجعة) چن دى: الترجمة الأدبية - رحلة البحث عن الاتساق الفنى: ترجمة: محمد فتحى كلفت، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2009، [عن الإنجليزية].
4: (تقديم) وولتر إمرى: مصر وبلاد النوبة، ترجمة: تحفة حندوسة، مراجعة: عبد المنعم أبوبكر، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، سلسلة ميراث الترجمة، القاهرة، 2008، [عن الإنجليزية].
5: كريس هارمان: إنجلس وأصل المجتمع البشرى، ترجمة: هند خليل كلفت، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، [عن الإنجليزية].
 
يصدر له قريبا:
 
تأليف:
السياسة والفكر:
2: ثورة 25 يناير 2011 طبيعتها وآفاقها، دار ميريت، القاهرة،
3: الثورة والثورة المضادة فى مصر،
 
النقد الأدبى واللغة:
5: الازدواج اللغوى فى العالم العربى، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة.
 
السياسة والفكر
القرن الحادى والعشرون: حلم أم كابوس؟، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الثانية، القاهرة،
 
ترجمة:
فكر سياسى واقتصادى وفلسفى:
15: أندرو ڤنسنت: الأيديولوچيات السياسية الحديثة، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، [عن الإنجليزية].
 
أدب:
7: ساندرا سيسنيروس: بيتنا فى شارع المانجو، المشروع القومى للترجمة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، (رواية)، [عن الإنجليزية].
 



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلغاء الإعلان الدستورى إلغاء مشروع الدستور مقاطعة الاستفتاء. ...
- يسقط حكم المرشد.. والتراجع كارثة
- الكتب معرفة ومتعة - الجزء الثانى
- الكتب معرفة ومتعة - كتاب إلكترونى 1
- ادوار الخراط وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى مقال عن مجموعة قص ...
- عملية -عَمُود السَّحَاب- وأقدار مصر وسيناء وغزة بقلم: خليل ك ...
- روبرت ڤالزر (مقالان: 1: سوزان سونتاج، 2: كريستوفر ميدل ...
- كتاب سيد عويس: التاريخ الذى أحمله على ظهرى
- غزة وما بعد غزة
- بعيدا عن تأسيسية الدستور ودستور التأسيسية ضرورة الإطاحة السل ...
- كيف كتب دوستويڤسكى رواية الجريمة والعقاب؟ -إعادة قراءة ...
- مارسيل پروست (مقالان: مقال: أناتولى لوناتشارسكى، ومقال: أندر ...
- مصر وبلاد النوبة تأليف: والتر إمرى، ترجمة: تحفة حندوسة مقدمة ...
- مصير العالم الثالث تحليل ونتائج وتوقعات توما كوترو و ميشيل إ ...
- الأساطير والميثولوچيات السياسية(1) راؤول چيرارديه عرض: خليل ...
- تفسير الرئيس المصرى الدكتور محمد مرسى لآية الله والعلماء
- زيارة جديدة إلى -مزرعة الحيوانات- رواية -مزرعة الحيوانات- چو ...
- عوالم عديدة مفقودة
- الشرف والغضب لا يكفيان [مراجعة لكتاب: نعوم تشومسكى:-الحيلولة ...
- الكتب معرفة ومتعة - الجزء الأول


المزيد.....




- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة
- سيناريو هوليودي.. سرقة 60 ألف دولار ومصوغات ذهبية بسطو مسلح ...
- مصر.. تفاصيل جديدة في واقعة اتهام قاصر لرجل أعمال باستغلالها ...
- بعد نفي حصولها على جواز دبلوماسي.. القضاء العراقي يحكم بسجن ...
- قلق أمريكي من تكرار هجوم -كروكوس- الإرهابي في الولايات المتح ...
- البنتاغون: بناء ميناء عائم قبالة سواحل غزة سيبدأ قريبا جدا
- البنتاغون يؤكد عدم وجود مؤشرات على اجتياح رفح


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - الكتب معرفة ومتعة - الجزء الثالث