أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي عواد - الخروج من الذات قصة قصيرة















المزيد.....


الخروج من الذات قصة قصيرة


علي عواد

الحوار المتمدن-العدد: 3934 - 2012 / 12 / 7 - 16:14
المحور: الادب والفن
    


" الخروج من الذات "

فكّر كثيراً قبل أنْ يقدمَ على اتخاذِ ذلك القرار، لكنه في نهاية الأمر عزم وتوكّل، بسط حقيبته على الأرض دار ببصره داخل حجرته البائسة كأنه يدخلها للمرة الأولى، جدرانها التي رقص فوقها الشقاء وظلت تعاني من القشور والتصدعات، صورُ العظماء التي تآكلت تحت زحف الرطوبة، أريكتُه الحديدية البسيطة المقابلة لباب الخروج، دس في حقيبته بعض ملابسه وقارورة عطر ومشط ونصف مرآة، ثم زمّ الحقيبة لكنه ما لبثَ أن بسطها ثانية فتح الدرج الذي على يمينه وتناول ديواني شعر الأول لشاعره المفضل إبراهيم ناجي والثاني لأحد أقربائه ثم أخذ يتصفح سجلا خاصا كتب على غلافه الخارجي بخط جميل "مذكراتي" اعتاد منذ زمن بعيد أن يدوّن فيه أبرز مذكرات الأحداث التي يعيشها أو يعيش عليها، علّق الحقيبة على كتفه الأيمن وشرع يمشط الحجرة بنظرة وداعية كئيبة.
هناك في حيّ شعبي على أطراف مدينة بغداد يقيم بلال وحيداً في حجرة بائسة بعد ذلك الرحيل الجماعي الذي فقد فيه عائلته كلها أثناء القصف الذي طال منزلهم الواقع على مقربة من ثكنة عسكرية للجيش على أطراف المدينة، يعمل بلال في مصنع للأدوية الأولية موظفاً بسيطاً بمرتب أبسط، كانت حادثة الرحيل تلك نقطة تحول في حياته الخاصة، في تلك الليلة المظلمة كان لا يزال في المصنع قبل الساعة العاشرة ناب عنه رفيقه سعد في العمل ليتسنى له الذهاب إلى البيت، لكن العويل المحزن انطلق في الأرجاء كلها ودوت صفّارة الإنذار، لم يكن بلال ممن يقيم لذلك العويل ما يلزم فلا تبدو عليه ملامح الخوف أو التحفظ، قال لسعد وهو يهم بالخروج:
- سأذهب إلى البيت لا أريد أن أضيّع ليلتي هذه بين صراخ الأجهزة.
قال سعد وهو يشيعه باستخفاف:
- وهل تظن بأنك ناجٍ من صراخ المدينة؟ الحرب والرعب قوانين تنظم جزءا مهماً من حياتنا
- صراخ المدينة...؟ ، أصدقك القول لم أعد أخشى شيئا.
شيعه سعد بنظرة إنكار وهو يغرق في العتمة بينما تتسابق النجوم في الأفق والرصاص ينتشر في كل مكان، لم ينفقِ الكثير من الوقت قبل أن يصل المحلة، هالهُ الأمر لم يستطع أن يصدق ما يراه للوهلة الأولى، رأى وهو لا يزال يجرجر خطاه المتثاقلة نخلته الباسقة وهي تصارع تنيناً من اللهب المروّع، أعمدة الدخان تسافر نحو الأفق فوق بيته الراضخ لهول ما حل به، توقف فجأة لم يتمكن من مواصلة المغامرة، رَقِبَ جمهرةً من الأشباح عند باحة البيت تعكس وجوههم المذهولة شراسة النار والاحتراق يتجمهرون حول شيء ما، صاح أحدهم وهو يلتفت إلى الخلف "بلال" فأفسحوا له المجال بعد لحظات كشفوا له عن أربع جثث سابحة في نومٍ أبدي، الأب والأم والأختين الصغيرتين قضوا جميعاً اختناقاً، عندما حاصرتهم النار قبل أن يتمكن الجيران من انتشالهم جثثاً هامدة، جَثَا على ركبتيه حاول جاهداً أن يصدق ما حدث لكنه اعتقد جازماً في نفسه أن ما يراه إنما هو كابوس يفسد عليه نومه الهادئ، لم تسعفه الدموع ظل واجماً لم يحرك ساكنا كأنه يحملق في فراغ، بادر أحد الحاضرين الذين تحنّطوا بالصمت والخشوع أمام جلال الموقف وحاول أن ينتشله من صومعته الباهرة لكنه انكمش حول نفسه وأجهش في بكاء مر ، بكاء يرتل أحرف الموت والعذاب، بكاء أقرب ما يكون إلى قهقهة الناي وتنهّد العود، رحل عنه الجميع تحول كل شيء إلى رماد شاحب الأهل البيت النخلة العظيمة لم ينجُ من هول الفاجعة سوى رحيق الذكريات الميتة التي كان قد دونها قبل الحادثة في سجل مذكراته الذي عثر عليه داخل صندوق معدني، ربما كان وراء نجاة ذلك السجل العتيق حكمة ما، فقد تلوح في الأفق ذكريات جديدة جديرة بالاحتفاظ والتحنيط.
وصل المحطة قبل الموعد بنصف ساعة، نظر إلى الوجوه فرآها مكبلة بالأسئلة التي ليس لها أجوبة، تُرى هل يبحث هؤلاء الناس المزدحمون في المحطة عن ذواتهم المفقودة أيضا؟ هل يمكن أن يكون هذا الذعر الذي يعايشونه قبل السفر وبعده علامة قارّة تكشف عن خباياهم المدفونة في ظهور الأدمغة؟ جلس في باحة الانتظار استل السجل كَتَبَ:
(م 9127): عندما لا أجد أحداً يكون بانتظاري فإن من الواجب عليّ انتظار أحدٍ ما، فإن طال ذلك الانتظار يكون الرحيل حينئذٍ أمراً حتمياً، اليوم أترك بغداد دون أن أضع في حسباني أنني عاق لقمرها و شمسها.

تسلق الوجوم إلى وجهه الشاحب عندما شملَ المذكرة السابقة بنظرة خاطفة:
(م 9126 ): على أيةِ حال ... علينا أن نكون دوماً على درجة عالية من الحذر، فلا ينبغي أن ندمن شيئاً حتى وإن كان ذلك الشيء أمراً حسناً، ليس ثمة داء أضر علينا من الإدمان، فكل إدمان مقرون بانتهاء حلمٍ وصورة شهيد.

أعاد السجل إلى الحقيبة دون أن يعيد ذكرياتِهِ الأليمة كاد أن يبيع آخر دمعة في تلك اللحظة لكن القطار زمجر إذاناً بالتهيؤ للانطلاق، احتشد المهاجرون وتدافعوا إلى فوهة العربة ، اتخذ مكانه بالقرب من النافذة وضع الحقيبة بين قدميه وتكوّر حول نفسه يهم بالانتظار لحين دخول جميع المسافرين، لم يغب عنه ذلك المشهد المروع صور الجثث الصامتة احتراق النخلة ، وأخيراً رسمها الأبدي المنقوش بحبر الدم وعنفوان الروح على صفحات قلب طاعنٍ بالحب، سيغادر المكان علّه يقوى على مغادرة ذاته التي ما انفكت تصنع منه محوراً مشوقاً لليأس، بعد لحظات قرأ رجل أنيق وسيم عليه التحية استأذنه ثم جلس إلى جانبه كان رجلا مزدان بلباس رسمي فاخر يعلق في يده اليمنى حقيبة صغيرة، لم يستطع بلال أن يربط ما بين أناقة جليسه والجحيم الذي يصطلي الركاب في القطار، فلم يستسغ ركوب غير البسطاء في القطار.
تهادى القطار ببطء لكنه ما لبث أن زاد من سرعته في حثيث متواصل، لكن بلال ظل يسلي نفسه بذلك الوابل المتدفق من الذكريات الذي تضاءل حتى انقطع عندما تابع بلال شلال الصور عبر النافذة التي بجواره تتابعت أشجار النخيل المتلاحقة البساتين الفتية الجداول التي لا تزال تحتفظ ببكارتِها، استبشر للمشهد الجديد فتحرر نسبياً من إخطبوط الوجوم الذي خيّم عليه عندما كان في المحطة ينتظر إقلاع القطار، شعر بنشوة مفاجِئة استهوته تلك المناظر الجميلة ربما لأنه لم يكد يرى مثلها من قبل فهو أضاء وانطفأ في بغداد ولم يتسنَ له الخروج منها إلا اليوم، داهمه استرخاء مفاجئ ما لبث أن تحول إلى نعاس ورغبة ملحة بالنوم دون أن يكون لضوضاء المعادن عائق في ذلك، زحف الوسن الآسر فوق عينيه فأسدل جفنيه بحركة استعراضية مغرية، غاب في عالم الانتهاء.
انطلق بهما القارب العبّار يشطر دجلة على شطرين متوازيين أقعدها إلى جانبه في المقدمة عند خيشوم القارب بينما يجلس رجل أشيب قصير القامة في المؤخرة يسافر بهما إلى عالم حافل بالدهشة، استنشقا الهواء معا هواءً ممزوجاً برائحة الحرية وطعم الخلود، غيرَ آبهين بما يدور خارج حدود العالم الخاص أومأ إليها برأسه بحركة فنية كشفتْ عن مهارة فريدة في الولوج إلى القلوب، أطلقت بصرها على امتداد النهر الذي يزاوج بين جانبي بغداد، النهر يتدفق وينساب بهلامية هادئة، قالت بصوت متهدج بعد أن سافرت مع سفر النهر:
- أنا خائفة بلال .. لا زلت خائفة
حدق في وجهها كأنه يبحث عن شيء ما:
- خائفة؟ ! وهل يجدرُ بنا أن نخاف ونحن نحلقُ معاً فوق نهر من الأمان؟
اقتربت منه دون أن يكون لسكينته الموعودة أثرٌ فيها، تلفع وجهها الوضّاء بالوجوم، عيناها المشرقتان خبا فيهما بريق الروح:
- أخشى من السقوط في النهر، أنا أخشى الماء كثيراً
قهقه بصوت عالٍ فأجابه النهر بقهقهة مشابهة:
- لو كان النهر مخيفاً إلى هذا الحد ما بنيت حوله القصور، والمتنزهات التي يقصدها الناس بحثاً عن الأمان المفقود، عليكِ أن تطردي شبح الخوف فأنتِ بمعيتي الآن.
سرق نظرة إلى وجهها فألفاها تصارع شعوراً باليأس، همت بالصمت كانت واجمة وهي تتشبث بالألواح الخشبية، قبل أن يضيفَ بذكاء:
- رأيتُك في منامي ليلة أمس كنتِ في غاية البهاء والجمال
- .....
- كنتِ ترتدين زيَّاً شعبياً مذهلاً، وبين يديك فسيلة صغيرة، لا أعرف لماذا كنت تصرين على غرسها فوق خيمة الوبر!
نظرت في عينه كأنها تهم بالتحرر من وجومها المر، قالت كأنها تريد تفنيد زعمه وافترّ ثغرها عن ابتسامة مشرقة:
- فوق الخيمة؟
- نعم .. هكذا خلتُك تفعلين على ما أذكر ... لكنك كنتِ مدهشة حقاً ... والغريب في الأمر أنني لم أستطع التحدث إليك مطلقاً كنتِ تقرأين كل ما يجول في خاطري بمجرد أن تلتقي عيني بعينك
- ربما حال بينك وبين الكلام أمر ما .. البرد مثلا أو الشعور بالجوع أو رغبتك عني
تفاعل مع دعابتها، وأحس بنشوة الانتصار:
- ربما .. ! وربما يكون الجمال الآسر سبباً في ذلك
لامس ذقنها بلطف ونصَّ رأسها فتقابل الوجهان، قال بصوت خافت كأنه يخشى على حروفه من الهرب "أحِبُّكِ" تلقى وجهها البهي الكلمة باستحياء مبهم احمرت وجنتاها طفح على عينيها بريق الروح، بعد لحظة من ذلك القدر تغيرت ملامحها غارت عيناها في محجريهما وقفز الرعب في قلبها أخذت ترتجف، تيبست الحروف على شفتيها، قال وهو لا يكاد يصدق تغير حالها:
- ما بك ؟ !
أشارت بيدٍ مرتعشة إلى الأمام، استدار فأبصر قرشاً هائلاً يشمِّر بقرنه البارز فوق سطح البحر، التفت إلى السائق لكنه بُهِتَ عندما لم يجد له أثراً .. صرخت أسيل وسرعان ما تلاشت تلك الصرخة على سطح ذلك البحر العظيم الذي لا يعرف له حد تحول النهر العذب الآمن إلى بحر متلاطم اختفت شواطئ المدينة الراكدة، ثلاثة حيتان ضخمة تحوم حول القارب لا زالت أسيل ترتعد وتصرخ فقدت التوازن انهارت أسلمت روحها لذلك المد الأزرق الرهيب ، حاول أن يلحق بها لكن شيئا مجهولا شلّ حركته ولم يحرك ساكناً صاح بإثرها : أسيل ... أسيل ... أسيل.
تشبث بيدٍ ما سحبها بقوة لكنها كانت يد الدكتور علاء رحيم الذي يجلس إلى جانبه داخل القطار إذ أراد أن يخلصه من تدفق الهلوسات، انتفض من إغفاءته الغامضة حملق في المكان لا تزال الأنظار موجهةً إليه ولا تزال كف الدكتور علاء عالقة في حجره، قال الدكتور وهو ينتشل يده بهدوء:
- هل أنت بخير سيدي؟
- نعم نعم ... لا بأس، فقط أجهدني كابوس مزعج
- حسنا لا تقلق سآتي لك بماء بارد
كان الصهد يغلي وليس ثمة أشقى من حرارة الجو تحت رحمة هذا الصهريج المكتض بالنفوس، عاد الدكتور بعد لحظات وقدم له قدح الماء، شرب بنهم بينما كان جبينه يتفصد عرقاً، شكر علاء على جميل صنيعه فمدّ الدكتور يده :
- علاء رحيم أخصائي بأمراض الأطفال من سكنة البصرة
صافحه بلال الذي بدت على وجهه ملامح الاهتمام:
- أهلا بك سيدي تشرفت بمعرفتك، أنا بلال فوزي واحد من الناس
توقّف الدكتور علاء عند العبارة الأخيرة وتيقّن من شقاء الرجل، بادر بفضول:
- يبدو أنك كنت غارقاً في حلم عاطفي، تناهت إلى مسمعي بعض ألفاظِ الحبِّ لكن الكثير منها لم يكن مفهوماً
قال بلال وهو يعتدل بجلسته:
- هل كنت أهذي؟
- عفواً أستاذ بالعكس كنتَ تلحِّنُ اسماً ما
- اسم؟ ... أيُّ اسم؟
- أسيل ... لقد رددتْ شفتاك هذا الاسم مراراً ولم أعمد إلى إيقاظك فقد حدست بأنك هائم بفضاء امرأة ما
- آه ... أنا متأسف دكتور، أرجو المعذرة، لم أعش حلما منذ زمن بعيد لأنني تعودت على النوم المتقطع
أشفق الدكتور لأجله وأضمر له وداً عظيما:
- لا داعي للأسف ... ليس من اللائق جداً أن نحاسب أنفسنا على الأحلام أيضا، فالأحلام تعيشنا ونعيشها دون وعي منا
- صدقت
أحسّ الدكتور بعدم رغبة بلال في الكلام عندما لم يردف "صدقت" بحرف فصدّق على انتهاء الحوار، مرَّ وقت طويل ولا يزال بلال يتابع شلال الصور المنهمر عبر النافذة ولا يعرف ما سرُّ السعادة التي تجتاحه كلما أرسل عينه عبر الزجاج، أخرج السجل سَطَّرَ تحت (م9127):
(م9128): أشعر بسعادة غامضة وغامرة في الوقت ذاته، كلما نظرت إلى ذلك الشلال المتدفق أشعر باستكانة في الروح ولا أعلم فقد يكون السعي وراء المجهول يولد ذلك الشعور المفعم بالاتشاء.

أعاد السجل إلى الحقيبة، أحس برغبة عميقة في قراءة الشعر تناول ديوان الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي، لَحِظَ الدكتور علاء تأنق جليسه عندما اختلس نظرة خاطفة إلى قلب المذكرة (م 9128)، فأقام له حفاوة عالية تليق بذوقه الرفيع، فتح الديوان قرأ بصوت لا يكاد يسمع ضاعت حروفه بين ضوضاء الحديد المصطك، لكن الدكتور علاء تابع بفضول وقرأ هو أيضا دون أن يكشف ذلك لبلال:
حان حرماني وناداني النذيرْ ما الذي أعددتُ لي قبل المسيرْ
زمنـي ضـاع ومـا أنـصفـتــني زاديَ الأولُ كــــــالـــــزاد الأخـــيـــرْ
*****
حان حرماني فدعني يا حبيبي هذه الـــجنـة ليـسـت مــن نـصيبي
آه مــن دار نــعـيــمٍ كــلــمـا جـئـتـُها أجـتــاز جـســراً مـــن لـهـيبِ

هتف الدكتور "جميل ... جميل جداً"، التفت بلال ولم يتمكن من إخفاء انشراحه بانتفاضة جليسه، فبادر:
- هل أنت مهتم بالشعر والأدب؟
أجابه الدكتور بصوت بدت عليه ثقة طافحة:
- وهل ثمة ما يفصل بين الطب والشعر؟
أجاب وسأل دون أن ينتظر من بلال جواباً، أضاف:
- إن ما يربط الأطباء بالشعر أمر فطري، ثمة كثير من الشعراء المحدثين هم في الأساس أطباء، ولعل الدكتور إبراهيم ناجي الذي بين يديك خير دليل على ذلك
- هذا صحيح، ربما يعود سبب هذه العلاقة بين الطب والشعر إلى كون الأول يضمّد الجروح بينما يجنح الشعر إلى فلقها !
- ربما ...
أضاف بعد أن لاذ بلال بالصمت:
- ولكن لماذا إبراهيم ناجي بالتحديد، هل لأن ديوانه عبارة عن قصيدة حب أم أنك ترى فيه بلالاً آخر بشكل أو بآخر؟
- ربما ...
أيقن الدكتور أن سيرة الحب تترك في نفس بلال أثراً حزيناً، فحرف مسار الحديث :
- طيّب بلال هل أنت من سكان البصرة ؟ هل لديك أقارب أو معارف فيها؟
- أبداً
- إذن ما الذي دفعك إلى السفر... ما دمت لا تملك شيئاً فيها؟
- في الحقيقة ينتابني في أحايين كثيرة شعور بأنني أملك البصرة كلها، على الرغم من أنني لم أزرها من قبل ولا أعرف فيها أحداً
تنهد بحرارة قبل أن يضيف:
- المهم أنني أردتُ أن أترك بغداد وأترك معها كلَّ ما يثير في داخلي شعوراً باليأس والألم، فخروجي منها أهم بكثير من دخولي أي مكان آخر
- عجيب
- أين العجيب في الأمر؟
- أن تذهب إلى مكانٍ ليس لك فيه إلا الهواء أمرٌ في غاية العجب
ضحك بلال للمرة الأولى بصوت خافت، كأنه يهزأ بما يقول الدكتور:
- ولماذا تستخف بالهواء هل صار الهواء النقي أمراً يسيراً إلى هذا الحد؟ ما فائدة أن تمتلك العالم دون أن تقوى على النوم للحظة واحدة، تحيط بك الهزائم من كل جانب، ساعات ميتة ودقائق لا تكاد تفصح عن فرج
نظر الدكتور إلى بلال نظرة تعجب ممزوجة بالشفقة، قال بعد لحظة صمت:
- هل تركت شيئا في بغداد؟
- لم أترك سوى العذاب
استحث الدكتورُ بلالَ على الحديث فوجد الثاني في الأول إخلاصا في الإصغاء فقصّ عليه حادثة استشهاد أهله في ذلك القصف الذي طال بيته الهانئ بدعة السماء، ولم يخفِ عنه اشتغاله في مصنع الأدوية الذي تركه دون أن يكتب طلبا باستقالته كان متلهفاً لمغادرة المكان، الدكتور علاء رحيم الذي ظلّ طوال الوقت يصغي لحديث بلال بشغف ولهفة طبيب يسكن مدينة البصرة اعتاد على زيارة العاصمة لدواعٍ خاصة وعامة لا يجد متعة في السفر إلا إذا سافر في القطار ذهاباً وإياباً، تعمد الدكتور أن يواصل الحديث مع بلال لاسيما فيما يتعلق بذلك الاسم الأسطوري "أسيل" سأله عنها ولم يكد ينطق باسمها حتى خيم الوجوم على وجه بلال، وتلاشت السعادة التي غمرته منذ أن ترك بغداد، أحس برغبة كبيرة في البكاء لكنه أحس برغبة أكبر في الحوار، واصل بانتقام:
- أسيل ... فتاة لا تختلف كثيراً عن بقية الفتيات لكنها لا تُشبه واحدةً منهن على أية حال، هكذا أراها دوماً عالم أنثوي خاص لا يمكن أن يضاهيه عالم ثانٍ
سكت .. تابع الشلال، استحثه الدكتور:
- أكملْ
قال دون أن يغير من وضعه وظلت عيناه مشدودتين إلى نافذة، بينما عمّرت تلك اللحظات الخانقة في داخله إحساساً معجوناً بالسعادة والحزن:
- التقت عيناي بعينيها داخل باص المصلحة عندما نهضت وتركت لها مكاني فارغا لتجلس وأقف أنا، كانت جميلة جداً وكنتُ مربَكاً جداً، ظل قلبي معلقاً بها طوال الوقت ولطالما تمنيتُ أن يمتدَّ بنا الطريق إلى الأبد، كانت في غاية الهدوء والسكينة ظلت ابتسامتها الآسرة تجول في المكان قبل أن تحط في مخيلتي، انتهى ذلك الجنون بعد لحظات خانتني الدقائق والساعات في ذلك الموقف لم أكن أتوقع أن الزمن يمر سريعاً إلى هذا الحد، هناك عند نقطة حي الجامعة توقف الباص ونهضت مع مجموعة من سكنة وزوار حي الجامعة رمقتني بابتسامة شكر وثناء ثم تهادت وتركتني وحيداً بين وجوه الناس الحيارى، لم أكن أعي حقيقة ما أمرُّ به في تلك اللحظة ... كل ما كنتُ أفكر فيه هو القفز من النافذة، لقد أحسست حينها بضعفي وجزعي أمام حسنها الساحر، أيقنت بأن لبعض النساء سحراً كفيلاً بتجميد العقول والقلوب ولا يمكن أن تصدق عليه تدابير معينة.
تولاه الوجوم تسلق الصداع إلى رأسه لكنه واصل:
- عانيت كثيراً قبل أن تُكْتَبَ لي رؤيتُها ثانيةً، لكنني لم أتمكن من الحديث معها، وتكررت المرات التي أراها فيها دون أن أجرؤ على خلق الحروف تمسح وجهي الخابي بنظرة من عينين فاتنتين ولا أطمع بغير هذا الرزق يومياً، كنت أحب ذلك الباص كثيراً، كأنني عشقتُه قبل عشقِها كنت أستمتع كثيراً عندما أكون داخله وأشعر بطمأنينة وسعادة، في إحدى المرات لم أعد أحتمل الصبر عند نقطة نزول حي الجامعة تهادت برقة بالغة لكنني تبعتها دون وعي مني مشيت خلفها منقاداً لسحرها، في تلك الأثناء راودني شعور بالذل والخجل فكّرتُ جدياً بالتراجع لكن شيئاً خفياً حاربَ الفكرة وطردها خارج حدودِ ذاتي، أسرعتُ في العدو وصلت استوقفتُها بإشارة خجولة من طرف السبابة، أوكلت مهمة الافتتاح إلى إصبعي وقفتْ قبالتُها وجهاً لوجه عندئذٍ تخلتْ عني حواسي لم أعد أشعر بشيء وقفت أمامها كالتمثال لم أتمكن من ولادة الجمل، لم أتمكن من النظر في وجهها، اكتشفت أن اللغة هي الخلُّ الخائن والبضاعة الكاسدة كنت أراهن دوما على بلاغتي وتفنني في سوق الكلمات أمامي، لكن الحال تغيرت في تلك اللحظة الرهيبة حاولت أن أستدرج بعض الحروف والكلمات لكن الأبواب كانت موصدة كأني بها تقول "اذهب أنت وربُّك فقاتلا" اللغة أول جندي يهرب من ساحة حرب الحب، خذلتني لغتي وتركتني أواجه مصيري وحيداً ازداد الموقف تأزماً وكلما مرت ثانية جديدة أتيقن من عدم جدوى المقاومة وأن لا سبيل إلى كسب ود الحروف، قالت بعد أن نفدَ صبرُها: "تفضّل" ولم يزدني ذلك الفعل الآمر إلى حيرة ويأساً فصدّقتْ على استشهادي في تلك اللحظة وأطلقت رصاصة الرحمة فمات فيَّ كلُّ شيء إلا إصبع وحيد ظل يعبثُ بطرف القميص طوال الوقت.
انفجر الدكتور علاء بضحكة مدوية تدارك سياق الحال فبلع نصفها قال وهو لا يزال يكتم ضحكته اليتيمة منبهراً برشاقة بلال في الحديث:
- أعتقد أن ذلك الإصبع مثّل دور الجندي المجهول في تلك المعركة ويستحق تكريماً خاصا لقاء موقفه ذاك !
تلقى بلال الدعابة ببرود وألقى نظرة إلى الشلال، أحس الدكتور بالذنب، استدرك جاداً كأنه أعلن البراءة من النكتة:
- هل انتهى كل شيء عند ذلك الحد؟
- أبداً ... استفدت كثيراً من تلك المحاولة الفاشلة، عندما تابعتها واستوقفتها في المكان نفسه في المرة التالية وتمكنت من مصارحتها بحبي وإعجابي لكنها فاجأتني بصمتها المخيف ظلت واجمة ولم تنبس بحرف، نظرت إليَّ نظرة غامضة لم أدرك كنهها ثم واصلت سيرها، بينما شعرت أنا بخيبة شديدة وبرغبة عارمة في مواصلة الحب
زفر بحرارة وهو يسند رأسه إلى الخلف، حدس الدكتور علاء بأنه لم يفلح، فاستفهم:
- هل كان ذلك هو اللقاء الأخير؟
واصل بلال حديثه المشحون بالعذاب دون أن يلتفت لسؤال صاحبه:
- بعد ثلاثة أشهر من ذلك اللقاء الأبيض تمت الخطوبة.
هتفَ الدكتور كأنه فاز بجائزة:
- ممتاز !.
- لكن الله لم يكتب لتلك الفرحة العمر الطويل فلم يمضِ سوى شهر واحد على الخطوبة حتى فقدت كلَّ شيء في تلك الليلة المروعة
غرقت عيناه بماء دافئ شعر بالوجع والألم في صدره تزحلقت دمعة ثائرة فوق خده الندي، أشفق الدكتور لأجله وأحس بضرورة التدخل فربّتَ على ظهره بعطف:
- حسناً بلال ... دعك من هذا الحديث الآن لا ترهق نفسك في تنقيب الماضي ونبش الذكريات الأليمة
لم يعر بلال مواساة صاحبه اهتماماً، واصل:
- بعد حادث الرحيل الجماعي تغيّر كلُّ شيء إلا الحب، لم تزده قسوةُ الأيام وشراسةُ الأحداث إلا بريقاً وصدقاً، التقينا مراراً وتعاهدنا على الحب ذاته الذي بدأناه في اليوم الأول، بعد أن رحل عني الجميع كانت أسيل البلسم الوحيد الذي أتداوى به وأنا أصارع ألم الذكريات المرة، لذلك كنت أخشى عليها من الاندثار والفقدان لأنها آخرُ ما تبقى لي في بغداد الرشيد
- هل تزوجتما ؟
- للأسف لا ... لم يستطع أبوها التصديق على هذه الحكمة، فبادر إلى نفيها عن ناظري وإبعادها عني، ولم يكتفِ بهذا القدر وإنما عمل جاهداً على فكِّ الخطوبة وتمكن من ذلك بعد أن أجبرها على عدم الخروج من البيت خشية أن تلتقي بي وعندما تأكد من التدابير لا يمكن أن تضع حداً للحب الذي يجمعنا أجبرها على إكمال دراستها في تونس فأرسلها إلى هناك ليستقبلها عمها الذي كان يعمل هناك تدريسيا في إحدى الجامعات أُخذت إلى هناك مجبرةً مرغمةً لكنها في نهاية الأمر تركتني وحيداً، فما كان مني إلا أن أبحث عن وطن جديد يؤسس لي تاريخاً جديداً علّه ينسيني بعضاً من ذكرياتي القاحلة التي لا تزال تحتفظ بحرارتها داخل سجليَ الخاص
أبدى الدكتور علاء تعاطفاً جمّاً مع بلال بعد أن أنصت له واستمع إليه وهو يسترسل في الحديث الشجي، رأى فيه أخاً وصديقاً وإنساناً، فقال:
- لا بدّ أن تكون مؤمناً بهذه الحكمة ولا شكَّ أن الخير فيما اختاره الله ... وينبغي أن تجعل في تصورك أنك شاب في مقتبل عمرك وليس ثمة من شك في أن الله عز وجل قادر على أن يبدل أيامك تلك بأيام أبهى وأجمل، لكن يجدر بك أن تجدد الثقة بنفسك
- ...
- هل سترجع إلى بغداد مستقبلاً
- مطلقاً
- طيب ... أين ستذهب حال وصولنا البصرة
- لا أعرف ... ربما أقضي ليلتي الأولى في المحطة ثم أشرع في البحث عن فندق مناسب أو حجرة بسيطة أقضي فيها ما تبقى في محفظتي من نقود ريثما يتسنى لي إيجاد عمل ما
- لا ... لن تذهب إلى أي مكان سنذهب إلى البيت معاً وبعدها لكل حادث حديث
تركا المحطة واتجها إلى البيت كان بلال يطارح شعوراً بالطفولة، أثناء الطريق إلى البيت استعار بلال فضول الدكتور علاء أثناء رحلة القطار، وراح يسأله عن معالم البصرة وشوارعها وشواطئها يسأل بإلحاح طفل كأنه فاز بميلاد جديد، ولم يكن الدكتور أقل سعادة من بلال فقد التقيا على مودة وصفاء عظيمين، قضى بلال ليلته الأولى في بيت الدكتور أحس بميلاد جديد فعلاً اضطجع على السرير التقط أنفاسه حاول قراءة نفسه من جديد، فكّر باسترجاع الماضي والوقوف على بعض صوره لكن رغبة شديدة بالاهتمام بما سيحدث منعته من ذلك فتناول السجل، كتب:
(م 9129): الشعور بعدم الاكتراث بشيء ليس أقل جمالاً من كونك تعيش مصفرَ الذاكرة لأنك في كلا الحالتين ستفوز بقدر غير قليل من السعادة.

بعد مرور شهرين حصل بلال على عمل في إحدى مختبرات مستشفى الرازي التي يعمل الدكتور علاء فيها، ولم يكد يمرُّ زمن طويل على ذلك حتى وجد بلال نفسه في مواجهة امرأة جديدة لكنه كان ذا حظ عظيم هذه المرة فعقد قرانه على الدكتورة خلود الوائلي التي تعمل في المستشفى نفسها، بينما تم زواجه منها بعد ذلك بأيام لتحتفي بهما البصرة الفيحاء في عرس منمق بالسعادة، مر على زواجهما عامان قبل أن يبارك الله لهما فيه ويُرزق بلال طفلاً في غاية البهاء سمّاه "علاء" حباً لصديقه الذي آواه واحتضنه الدكتور علاء، لكن تلك الأحداث المثيرة لم تكن لتمر دون أن يستضيفها سجله الخاص، فيحاذر أثناء تسجيلها من أن يرى شيئاً من الماضي، ويستمرّ مسلسل المذكرات في هذا السجل المخضرم ليبقى زمان ومكان المذكرة الأخيرة مجهولاً لا يعلمه إلا الله.



#علي_عواد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي عواد - الخروج من الذات قصة قصيرة