أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سرفراز علي نقشبندي - المندیل الأبیض















المزيد.....



المندیل الأبیض


سرفراز علي نقشبندي

الحوار المتمدن-العدد: 3933 - 2012 / 12 / 6 - 07:33
المحور: الادب والفن
    


إهداء الی التجمع النسوي السنوي لمحاربة العنف ضد المرأة المقام في أربیل


المندیل الأبیض
‏ ‏
حین فتح (وەیسي‎(‎‏ باب الدار سمع صوت حوار مشوب بالبکاء بین ‏ابنتیە (نارین) و (هدار) أتبعە صمت مصطنع بعد دخولە.‏
جلس في مکانە المعتاد متخلصا من حزامە القماشي الطویل ‏قائلا:‏
‏-‏ ماذا حدث و ما هذا الصمت المشحون ،هل حدث ما لا أعرفە ‏؟!‏
قالت نارین :‏
‏-‏ لا لم یحدث شیئا ، حفظک اللە لنا .. لا تقلق نفسک بنا نحن ‏بخیر، سأجلب لک العشاء .‏
تخرج نارین الی الباحة الصغیرة حیث الموقد والأواني المصفوفة ‏فوق بعضها في أحد الأرکان ، تمسح دمعها المنهار بطرف کمها ‏الطویل ، تختلط آهتها بزعیق الطماطە المقلیة علی النار.‏
استدار وەیسي الی هدار لیعید علیها السٶال:‏
‏-‏ ‏ ماذا حدث فأنتما لستا علی ما یرام ؟!‏
‏-‏ لا تهتم یا أبي ، حدیثنا یکرر نفسە ، کنا نتحدث عن إخواني ‏وأمي وأبن عمي شیرکو ، تری ماذا حدث لهم کل هذە ‏السنین في السجن.؟!!‏
‏-‏ ‏ لیس لنا حول و لا قوة أمام ظلم الدولة ، نحن و أولاد ( ‏جەتو) الناجین الوحیدین من القریة، وهم قد بقوا بلا أب و لا ‏أم.‏
دخلت نارین أثناء الحوار وهي تقول لأختها:‏
‏-‏ وأخیرا لم تمسکي لسانک الطویل ، أنت تهوین إزعاج أبي ؟!‏
‏-‏ لا و لکن یجب التحدث عن الأمور التي تعذب الأنسان ، فأنت ‏متخمة بالعذاب صامتة . ‏
قال وەیسي :‏
‏-‏ لم یبقی لي في الدنیا سواکما ، أشکر اللە بأنکما في ذلک ‏الیوم الأسود لم تکونا في القریة .‏
قالت هدار:‏
‏-‏ آە کم ت توسلت من أمي أن تأتي معنا لزیارة عمتي في ‏المدینة ، لکنها أصرت علی البقاء لأطعام أخي والأهتمام ‏بالبقر .!! ‏
طفرت دمعتها التي باتت تعرف طریق الأنسیاب دون دلیل ، ‏واستدارت نحو نارین المنتحبة بصمت وهي تقول:‏
‏-‏ سامحیني یا أختي ، أعرف بأن جرحک عمیق ،لکن عذابي ‏هو الأکثف، أنا أشتاق لأمي.‏
قالت نارین :‏
‏-‏ لیتني بقیت في القریة ، السجن أهون من هذا العذاب‎.‎
‏-‏ أشکرا ربکما ، هذا ما کتبە اللە لهم .‏
نظرت هدار الی أبیها قائلة :‏
‏-‏ یا أبي علي أن أشکر اللە لأننا نجونا ، لکن ألعن من وقد ‏أخذوا أهلي ، ماذا أقول ، فهم کانوا أبریاء أیضا ؟!!‏
‏-‏ أصبري یا أبنتي و أستغفري فأنت بدأت تکفرین .‏
‏-‏ أمرک ، لکن لماذا تکون الحقیقة کفرا ، کیف یکتب اللە لهم ‏هذا وهم أبریاء؟!!‏
‏ یصمت الجمیع ، یحتسون الشاي ویبدأ ویسي ککل مساء ‏بمراسیم فتح جهاز الرادیو العتیق، الذي اشتراە من الدلالخانة ‏بثمن بخس ، یبحث عن آخر الأخبار و مستجداتها ، ینصبها علی ‏صوت أمریکا ویقول لهدار :‏
‏-‏ تعالي یا ابنتي ، أستمعي معي فأنت تفهمین اللغة العربیة ‏أفضل مني ،ربما نسمع شیئا عن مصیر الکورد المرحلین.!!‏
تهز هدار رأسها متأففة من هذە العملیة المملة والمتکررة کل ‏مساء ، تترجم کالببغاء قائلة :‏
‏-‏ تزداد ضحایا إنفجار الألغام التي زرعها الاتحاد السوڤیتي ‏في أفغانستان .. هناک عاصفة قویة تجتاح جنوب شرق ‏أمریکا .. لقد انتشر وباء الکولیرا في الهند .. ولدت امرأة في ‏کوریا خمسة أطفال معا من حملها الأول ووووو انتهت الأخبار ‏‏.‏
یقول :‏
‏-‏ هذا یکفي ، لا أحد یذکرنا ،کأننا لا وجود لنا علی الأرض !!‏
‏-‏ قلتها لک یا أبي ، لا اللە ولا العباد ولا الدول ولا الأسلام تهتم ‏بمصیرنا فکف عن الأستماع .‏
تقول نارین:‏
‏-‏ جرحنا نحملە في أعماقنا ، نطوف بە أینما کنا، والعالم سائر ‏في طریقە.‏
‏-‏ لاتیأسا من رحمة اللە فهو لن یخیبنا ، لا تکفرا .‏
‏ أدار وەیسي زر المذیاع علی إذاعة کردیة تصدح منها أغنیة ‏جعلت صمتهم یتحول الی کلام غیر مباح ، تهدهد أحزانهم الکهلة ‏الطازجة.‏
غار ویسي في حنایا ذلک الیوم الأسود ، لا یدري هل کان قدرا أم ‏تقدیر،ینتابە شعور غامض بین الذنب والتقدیر الصحیح ، أکان علیە ‏أن یخرج من بین الأحراش ویسلم نفسە لیلحق بزوجتە وأبنیە ،أم ‏بقاءە کان الأفضل من أجل أبنتیە.؟!!‏
هو یتذکر صورة قریتە المفقودة في تلک الظهیرة ،حین أحاط بها ‏جیش النظام العراقي بشکل مفاجیء و جمعوا أهلها ، أرکبوهم ‏الزیلات العسکریة ، کل من حاول الهرب أردوە قتیلا ، وظل هو بین ‏الأحراش بعیدا عن القریة لیومین متتالیتین ثم سار علی الأقدام ‏یوما کاملا حتی وصل الی ناحیة صغیرة ،ثم الی المدینة .‏
همد ویسي في فراشە وفرشتا هدار ونارین فراشهما بقربە في ‏الغرفة الوحیدة التي یسکنونها وأطفأوا الضوء.‏
‏***‏
تجلس نارین أمام ماکینة الخیاطة ، تصلح ملابس زبونتین من ‏زبائنها وتتعامل معهن وطلبت من هدار أن تذهب الی دکان أبیها ‏لتجلب بعض الخضراوات.‏
إنشغل وەیسي بوضع الخضار في الکیس تنتظرە هدار، فجأة دوت ‏صوت طلقتین ناریتین خلف دکان وەیسي ، تلتها العویل وتجمع ‏الناس حول المکان وهم یقولون ( لقد قتلت زیرین) .. فتحت هدار ‏فمها هلعا وسارت خطوات الی حیث یرکض الناس ثم عادت ‏مسرعة وهي ترتجف :‏
‏-‏ أبي جاء صوت الطلقات من دار خودیدا .‏
ترک وەیسي ما في یدە راکضا وهو یقول :‏
‏-‏ أقفلي الدکان و عودي الی البیت.‏
جاء صوت ویسي وهو یصرخ ویحشر نفسە للوصول الی داخل دار ‏خودیدا:‏
‏-‏ خودیدا ،هل هدمت بیتک بیدک ، هل قتلتها یا حمار ؟
‏ جاء صوت خودیدا کالعویل:‏
‏-‏ وحق اللە یا عم ویسي زیرین هدمت بیتنا ، لقد أطلقت النار ‏علی نفسها ..قالها وأخذ یلطم علی رأسە في بکاء.‏
جاء عویل أم خودیدا وأختە وهجما علیە بالضرب صارخات :‏
‏-‏ أنت السبب أیها الوغد ، أنت من أشعل نار هذە المصیبة، ‏جعلت زیرین قربانا لرغبتک ..الویل لک الویل.‏
قال وەیسي :‏
‏-‏ توقفي یا أختي ،لنفهم ماذا حدث ، وأذکري اللە.‏
‏-‏ لا ..لا إذا ماتت أبنتي سأقتل هذا الکلب القذر بیدی .‏
أمسکت الأم خودیدا بکلتا یدیها تهزە قائلة:‏
ألف لعنة علیک و علی زواجک ، أنت الحقیر ترکض وراء قضیبک.‏
أمسکوا الرجال بأم خودیدا وأختە وأدخلوهما الی الدار، سأل ‏وەیسي :‏
‏-‏ خودیدا أخبرني هل قتلتها أنت؟!‏
‏-‏ لا وحق اللە یاعم ویسي ، منذ أسبوع وأنا أبحث عنها کما ‏تعلم ، أخیرا وجدتها مختفیة عند دار أحد معارفنا ،جلبتها الی ‏البیت ونصحتها ، الیوم ذهبت الی الغرفة وأخرجت مسدسي ‏المختبئ و أطلقت علی نفسها النار.‏
‏-‏ أسکت وجود المسدس في البیت بحد ذاتە مشکلة ، فأنت ‏تعرف الحکومة .‏
لا حول ولا قوة إلا اللە ، هذە الفتاة قد صارت عدوة نفسها ، ‏ذنبها عند اللە کبیر .‏
‏-‏ نعم یا عم ، قتل النفس حرام .‏
‏-‏ عندما أعدتها للبیت ، هل ضربتها ؟
‏-‏ لا ولکني جلبتها بالقوة ، کانت تقاوم فضربتها ضربتین فقط.!!‏
‏-‏ کان علیک أن تکون حدیا ، تضربها جیدا حتی تهلع و تتوب ، أو ‏لا تضربها أصلا .‏
‏-‏ لم أفعل ، أمي تدافع عنها کالنمرة الجریحة ، ألم ترها ‏بنفسک ؟!‏
‏-‏ أتعجب لأمرها ، کیف ترضی أن تهرب ابنتها من البیت و لا ‏ترضی بضربها ؟!‏
‏-‏ انهن نساء ، عاطفیات .. قلیلات العقل .‏
‏-‏ نعم کما یقول المثل "عقل المرأة في ذیل فستانها "ما أن ‏تقوم حتی یقع علی الأرض.‏
‏-‏ وهو کذلک ، لکني لو کنت أعرف بأن الأمر سیتحول الی هذە ‏الفضیحة لما زوجتها ولا أنا تزوجت.‏
‏-‏ من أین لک أن تعرف ، في الیوم مئات زیجات البدائل ( رأس ‏برأس) تتم ، بنات هذا الزمان وقحات یا خودیدا.‏
‏-‏ والأمهات أیضا .!! النتیجة زیرین کانت الضحیة ، بدلا من أن ‏تنصحها أمي تدافع عنها.‏
‏-‏ ضحیة غبائها ، أنت لست مذنبا .‏
‏-‏ واللە أنا لم أمسک المسدس أصلا ، لکني أشعر بأني الذي ‏قتلتها ، أنا السبب.!!‏
‏-‏ لا تیأس من رحمة اللە ، ربما ینقذها اللە ویغفر لها ذنبها ، ‏أدعي لها بالخیر.‏
رفع خودیدا رأسە ووجهە المبلل بالدمع الی السماء :‏
‏-‏ یارب أنت الکبیر ..ساعدها وأشفیها یارب، أشفق علیها ‏وسامحني یا رب.‏
جاء صوت زعیق صفارة الأسعاف ، حملوا جثة زیرین الملفوفة ‏ببطانیة علیها آثار دماء طریة ، تراکضت العائلة الی داخل الأسعاف ‏، نهض خودیدا مقتربا بخطوات مرتبکة من باب الأسعاف الخلفي ، ‏نهرتە أمە و أتفلت في وجهە قائلة :‏
‏-‏ أبتعد یا عدیم الوجدان ، لن تأتي معها ..!! وأنطلقت السیارة ‏في عویلها المعتاد.‏
قفلت هدار الدکان وعادت مرتعبة الی البیت و هي تقول :‏
لقد قتلوا زیرین .. قتلوها یا نارین .!!‏
‏***‏
جلس خودیدا وسط مجموعة من الرجال بینهم ویسي و ماموستا ‏خورشید المعلم .. قال خودیدا :‏
‏-‏ هل رأیت یاعم ویسي ماذا فعلت بي أمي ، کأني أنا ‏القاتل؟!‏
‏-‏ لا تهتم یا أبني ، انها أم وقلبها مجروح ..أحمد ربک ،کان قدرا ‏لیس إلا.‏
‏-‏ لکن أنا السبب یا عم ، لو اني لم أجبرها علی الزواج لما ‏حدث کل هذا ..غطی خودیدا وجهە بیدیە وأخذ یئن باکیا.‏
کان بین الجالسین أحد الرجال من المحلة ، مسح شاربە بیدە ‏وقال:‏
‏-‏ من العار أن تبکي یا رجل ، أفرض انک الفاعل وماذا یعني ، ‏هي أختک وعلیک تأدیبها ، لماذا هربت من البیت ؟!‏
أجاب ماموستا خورشید بهدوء :‏
‏-‏ یا أخوان الأمر لیس سهلا ، هي أختە ومن دمە ، من ‏الطبیعي أن یحترق قلبە ، ثم یا اخوان لیس من حق أحد أن ‏یقتلها ، ماذا فعلت هذە المسکینة الضعیفة. ؟!!‏
قال الرجل :‏
‏-‏ ماموستا خورشید العار علی الرجل ثقیل .‏
‏-‏ أي عار یا أخ .. ماذا فعلت ، هربت لأنها لا ترید الزواج ،دافعت ‏عن حقها.‏
أضاف الرجل بسخریة ظاهرة :‏
‏-‏ ماموستا خورشید المسألة لیست کما أفهموک هٶلاء.‏
رد وەیسي :‏
‏-‏ کیف هي المسألة إذا یا ذکي ، هل ترید أن تقول بأن خودیدا ‏قد قتلها أم ماذا.؟ !!‏
قال الرجل :‏
‏-‏ لا واللە ، أعرف بأن خودیدا لیس بذلک الرجل الشجاع ، لکن ‏الناس تقول بأن أختە لم تقبل الزواج لأنها کانت تحب شابا ‏آخر، لماذا تتسترون علی هذە الحقیقة ، کما یقول المثل لا ‏یخفی المیت تحت الغطاء.‏
نهض خودیدا یزمجر :‏
‏-‏ یا عدیم الشرف ، کیف تتجرأ علی قول هذا ، سوف أبتر ‏لسانک یاکلب أبن الکلب .. !! هاجم الرجل ولکمە علی فمە ‏وأرداە أرضا .. أمسک الرجال ب خودیدا وأدخلوە الدار.‏

‏***‏
قبل أن تدخل هدار الدار، کان ثمة مناقشة حادة دائرة في الداخل، ‏فتحت أذنیها ، جاء صوت أختها نارین تقول:‏
‏-‏ یا أبي وهل قصرنا في خدمتک ، کي تفکر بهذا الشئ ؟!‏
‏-‏ لا یا أبنتي نارین ، لا ینقصني شیئ ، لکني أفکر في ‏المستقبل إذا جاءکما نصیب سأبقی وحدي ، منذ أن تم ‏ترحیلنا وأنا أعتني بکما ، علی أمل عودة بقیة الأسرة من ، ‏لکني قد یأست یا أبنتي وعلینا أن نقبل الواقع مهما کان مرا.‏
‏-‏ ماذا تقصد ؟!!‏
‏-‏ نعم لم أکن أفکر ، لکن الملا في الجامع أکثر من مرة قد قال ‏لي خفف حملک یا رجل ، سألتە : ماذا تعني بکلامک یاسیدنا ‏فقال لي ، إذا لم تتزوج أنت سوف لن ینفتح باب النصیب ‏أمام بناتک ، ثم لا تنسی الرهبنة حرام !!‏
‏-‏ ما شأن الملا بنا ، ألیس لە عمل سوی المداخلة في شۆون ‏الناس
نحن راضین بحالنا و بأبینا و سنخدمە الی الأبد.‏
‏-‏ انە یطبق الشریعة ویعرف الخیر و الشر ، یقولها لمصلحتنا ، ‏ماذا دهاک.؟!!‏
‏-‏ هل کانت نصیحتە لخودیدا خیرا، حین قال لە أخرج زیرین عن ‏المدرسة أولا .ثم علمها الطاعة ؟!‏
‏-‏ کان لخیرها لکنها ضربت نصیبها .‏
حین دخلت هدار ، ساد صمت فوري غیر أن آثار النقاش کان تملأ ‏الهواء وتلون وجە نارین بقلق غاضب وتطل من تحت إبتسامة ‏وەیسي بشکل مخیف.‏
سأل وەیسي بهدوء مفتعل :‏
‏-‏ أین کنت الی الآن ؟! أجابت بسرعة:‏
‏-‏ في بیت عمتي ، وهي تبلغک السلام .‏
‏-‏ خیرا ، ما سبب زیارتک لها .؟! ردت نارین هذە المرة :‏
‏-‏ وهل یحتاج زیارة العمة الی سبب یا أبي،لیس لدینا سوی ‏هذە العمة .!! ثم شڤان یساعدها في الدراسة ویوصلها الی ‏البیت.‏
سألت هدار :‏
‏-‏ ماذا بک یا نارین ، تبدین قلقة و حزینة ؟! رد علیها الأب :‏
‏-‏ أختک وحیدة وتعمل في الخیاطة و تتحمل مسٶولیة البیت ‏وأنت تتجولین هنا و هناک ، لقد کبرت ولا زالت تصرفاتک مثل ‏الأطفال.‏
‏-‏ یا أبي لا أقدر أن أدرس هنا ، صوت ماکنة الخیاطة و ثرثرة ‏النساء طوال النهار..!! ردت نارین بحزن :‏
‏-‏ ماذا أفعل ،یجب أن أعمل .‏
استغل وەیسی الفرصة قائلا :‏
‏-‏ نعم ، هذا ما یجعلني أن أبحث لکما عن مکان مریح ،ألیس ‏کذلک یا نارین ؟! ردت نارین بغضب :‏
‏-‏ تبحث لنا عن مکان مریح أم ترید تشتیتنا ؟!‏
‏-‏ أغلقي هذا الموضوع الآن ، لقد أشتریت لکما قماشا جمیلا ‏وأصلیا.‏
فتح ربطة القماش الملفوفة بورق بني و وضعها أمامهن ، قالت ‏هدار :‏
‏-‏ واو یا یا.. انە جمیل جدا یا أبي .‏
أمسکت نارین بالقماش تتفحصە ، فهي کخیاطة خبیرة بأنواع ‏الأقمشة ، قالت:‏
‏-‏ أبي هذا القماش غالي الثمن. لماذا أشتریتە!!‏
‏-‏ أعجبني یا أبنتي ، وهو یلیق بکما.‏
‏-‏ هل حقا أنت قد أشتریتە ؟! قالت هذا بلهجة الشک
‏-‏ ماذا دهاک یا نارین ، هل سرقتە أم ماذا ؟!!‏
‏-‏ حشاک یا أبي أنا لم أقصد هذا ،لکن ،،،!‏‎!‎‏ تدخلت هدار:‏
‏-‏ أحیانا أسألتک بلا معنی یا نارین.‏
نظرت الیها نارین نظرة تتراکم فیها الحزن والشفقة والغضب ‏والحنین لشئ مفقود یطفو علی سحنة وجهها، لم تقدر هدار أن ‏تفهم هذا الکوکتیل المطل علی وجە أختها ، لکن الأمر أرعبها.‏
‏***‏
وەیسي منشغل ببیع الفواکە والخضراوات في دکانە ویکرر کآلة ‏التسجیل :‏
‏-‏ طازجة .. رخیصة ، لها ألف طعم و ألف فائدة.‏
یقولها الیوم بنبرة مختلفة ، صوتە یبدو أقل من عمرە ، حدیث ملا ‏الجامع یدور في رأسە ( الرهبنة حرام في الأسلام،یجب أن تکمل ‏دینک وتفتح طریق الرزق لبناتک).‏
جاء خودیدا یشکرە ،لأنە لم یقطع یومیتە رغم مرور شهرین علی ‏غیابە ، قال لە وەیسي :‏
‏-‏ لا تشکرني یا بني ، کارثتک کانت کبیرة والناس لبعضها ، ‏کیف حال زیرین ؟
‏-‏ أحسن ، لقد فکوا خیوط جراحها ،لکن وجهها مشوە یاعم ‏،حتی یکاد المرء لا یتعرف علیها .‏
‏-‏ هذا نتیجة حماقتها ، ربما فیە خیرک فترضی بالزواج من أخو ‏زوجتک‎.‎
وصل ماموستا خورشید وجلس علی مکان الجلوس المعتاد ، ‏صندوق فارغ مغطی بقطعة سجاد قدیم ، قال لە وەیسي :‏
‏-‏ تفضل لأخدمک . شکرە الآخر ، وبدأ الحدیث ، سألە وەیسي :‏
‏-‏ هل من أخبار جدیدة یا ماموستا ؟
‏-‏ لیست مفرحة یا وەیسي .. خفض صوتە و تلفت حولە ‏وأضاف:‏
‏-‏ ‏- الحکومة قد احتلت (گلی علي بگ ) بجیش جرار و أقامت ‏نقاط التفتیش في کل مکان ، حتی العصفور لا یقدر أن یطیر ‏فوق المنطقة . ‏
أضاف خودیدا قائلا :‏
‏-‏ في الأمس أتی قریبي من دهوک وکان یقول (گەلي دهوک) ‏أیضا محصور بالجیش.. همس وەیسي :‏
‏-‏ یبدو بأنهم یتحضرون لهجوم قوي ؟ أضاف خورشید :‏
‏-‏ نعم ، قبل أیام حدثت معرکة قویة في ( گەلي مزورکا) وقد ‏قتل عدد کبیر من الجیش ، هل هناک أخبار جدیدة عن أهلک ‏المسجونین؟
‏-‏ لا واللە و کأن البحر قد ابتلعتهم.. لقد یأست من عودتهم .!‏
‏-‏ في الماضي کان مکان المسجونین معروف و یمکن زیارتهم ‏علی الأقل .‏
‏****‏

جلس وەیسي في مکانە المعتاد وطلب من نارین أن ترتب الغرفة ‏للمساء وتذهب هي الی زیارة ما ،سوف یجتمع الرجال لبحث ‏مشکلة خودیدا و زوجتە..قالت نارین:‏
‏-‏ سأذهب لزیارة زیرین ،لقد أعادوها من المستشفی.‏
‏-‏ یا نارین ..أنت أبنتي الکبیرة ، حاولي أن تلمي أختک لقد ‏کبرت .. أمسکي بلجامها ، سیلومنا الناس .‏
‏-‏ یا أبي هدار تذهب الی دار صدیقتها وهم ناس محترمون ‏وتذهب أحیانا الی بیت عمتي لا غیر.‏
‏-‏ لیس الأمر أین تذهب ، أنا أعرف ذلک ولکن یجب أن تعودینها ‏علی الجلوس في البیت وأن تتعلم الخدمة والطبخ .‏
‏-‏ أعرف ما ترمي إلیە یا أبي ، فلا تکمل أرجوک.. أختي لازالت ‏صغیرة ، لماذا لاتعتبر من کارثة خودیدا .؟!!‏
أفتحي أذنیک جیدا وتصرفي کالکبار ، هذا الموصوع شیئ ‏آخر.. أختک قد بلغت الرابعة عشر ، یجب أن تکوني لي عونا ‏ولیس فرعونا ،هل فهمت ؟!‏
‏-‏ أنت تعلم بأنني في موقع أمها ،لن أرضی بتدمیرها وحرمانها ‏من الدراسة ، لقد أنحرمت أنا و ها أنت تراني لقد لوي التعب ‏ظهري ، أرحمها یا أبي .‏

‎***‎
حان المساء ، توافد الرجال الی دار وەیسي ، جلسوا مسندین ‏بظهورهم علی أطراف الجدار ،مشکلین حلقة ملتویة من الرٶوس ‏،بین الطویل والقصیر .. بدأ وەیسي بالحدیث :‏
‏-‏ علینا أن نحاول حل مشکلة خودیدا بما یرضي الطرفین ، ‏سنبدأ من خودیدا نفسە لیتحدث عما لدیە.‏
‏-‏ ‏- کما تعلمون بأني اتفقت مع هسو بزواج تبادلي ، أشار بیدە ‏الی رجل حامض الوجە .. وحدث‎ ‎‏ ماحدث ولم یکن بیدي حیلة . !!‏
‏ قاطعە هسو بغضب :‏
‏-‏ لقد غدر بي ، رضیت أن یتزوج أختي أولا ،لأنە قال یحتاج الی ‏وقت لأقناع أختە ،لکن أختە هربت فأخذت أختي معي الی ‏البیت ، انە رجل کاذب.‏
‏-‏ تکلم بأدب ،أنا لست بکاذب ‏‎ ‎
‏ تدخل وەیسي قائلا:‏
‏_ توقفا لا تتشاجرا ، یا هسو الآن أختک زوجتە وحلالە ، کیف ‏ترضی أن تجعلها مطلقة بعد شهر من زواجها ، حرام علیک یا ‏رجل.‏
‏_ ماذا أفعل یا خال وەیسي ، أزوجە أختي وأخرج من الموضوع ‏کالحمار ، هل ترضی بذلک ؟!‏
‏_ لا و لکن یجب أن تتفقا علی شیئ .. أدار برأسە نحو رجل کهل ‏یسألە :‏
‏_ ماذا تقول یا حاج ؟ تحدث الحاج دون أن یحرک جسمە قائلا:‏
‏_ المسألة محلولة ، لقد تعافت أخت خودیدا ، یتزوجها هسو ‏حسب الأتفاق.‏
ارتبک خودیدا من هذا الطرح وقال بصوت قلق :‏
‏_ حسنا ،لکني لا أدري کیف سیکون الوضع مع أختي فهي لاتزال ‏مریضة ، أخشی أن نبتلي بکارثة جدیدة.‏
قال الحاج رافعا قامتە هذە المرة:‏
‏_ ما هذا الکلام یا خودیدا ، ألست رجلا کیف لا تقدر أن تٶدب أختک ‏وتفهمها بأن لحسو حق فیها ، أضربها بالعصی تأدیبا .. عصی ‏الأدب وارد یا بني ..وأرسلها الی بیت زوجها لیعقد علیها ، ما هذە ‏المهزلة ؟!! هز الحاج رأسە یسبح وهو یقول :‏
‏_ أرحم العباد یا رب ، بنات هذا الزمان لا یعرفن الطاعة ، أستغفر ‏اللە ، انها نهایة الدنیا. !! قال هسو :‏
‏_ هل سمعت یا حاج ، أي نوع من الرجال هو ، هکذا خدعني منذ ‏البدایة ؟!‏
قال خودیدا بعد وضعوە في زاویة حرجة :‏
‏_ یا جماعة ، أعاهدە بأني سأرسل لە أختي و یعید هو زوجتي ‏وأنتهی .‏
قال وەیسي :‏
‏-‏ أحسنت قولا ، هیا تصافحا و علی برکة اللە .‏
‏-‏ هنا رفع هسو صوتە قائلا :‏
‏-‏ ‏- لا لست راضیا یا خال وەیسي ، أختە بعد الحادثة قد ‏تشوهت ، هي الآن شبە انسان أنا لا أریدها ، أرید زوجة ‏أتفاخر بها لا أن أخجل من شکلها..أنا لا أربي المعوقین.‏
قال خودیدا :‏
‏-‏ ‏ لکنها تشوهت بسببک یا عدیم الأنسانیة ، ماذا کان ینقصها ‏،کانت کالبدر!!‏
‏-‏ فلیکن ،لکني بصورتها الحالیة لا أریدها .. یجب أن تدفع مهر ‏أختي لأتزوج من أخری .. هذا قولي .‏
قال وەیسي :‏
‏-‏ لکنک تعرف بأن خودیدا لا یملک ما یدفعە لک ، یجب أن ‏ترحمە.‏
‏-‏ لا وحق اللە لن أتنازل ، سأنتظر لمدة شهر إن لم یدفع مهر ‏أختي سأجبرە بأن یطلقها . قالها حسو وخرج من المجلس ‏غاضبا .‏

‏***‏
نارین وعمتها ینتظران عودة وەیسي ، تقول العمة :‏
‏-‏ هل تعرف هدار بالأمر ؟
‏-‏ لا ،لم أقدر أن أقول لها بأن أبوها قد حفر قبرها وجهز کفنها ، ‏مسکینة هذە الطفلة.‏
‏-‏ أصبري یا نارین ، سأکلمە بهدوء..هاهو عائد.‏
دخل وەیسي و نظر الی أختە متعجبا و قال :‏
‏-‏ ما هذە الزیارة المفاجأة یا عیشە .. ثم توجە بالحدیث الی ‏نارین:‏
‏-‏ أنت قد جلبت عمتک یا ماکرة .‏
قالت عیشی:‏
‏-‏ ‏- تعال یا أخي ، ما هذا الذي أسمعە ، هل جننت ؟!‏
‏-‏ ماذا سمعت ، أنا أرید أن أتزوج ، ألم تقولي لي بنفسک أکثر ‏من مرة ، تزوج یا أخي .‏
‏-‏ قلتها، لکني لم أقل أن تبیع ابنتک الصغیرة لتتزوج.‏
‏-‏ أنت تدرین یا أختي أنا لا أملک مالا لأدفع مهر الزواج ، نارین ‏مرتبطة وتنتظر عودة خطیبها ، فماذا أفعل؟!‏
‏-‏ لماذا لم تخبرني منذ البدایة ، لوجدت لک حلا؟
‏-‏ ماذا کنت ستفعلین ؟
‏-‏ أخطب هدار لأبني شڤان وأدفع المهر.‏
‏-‏ ‏- الوقت متأخر لهذا الکلام ، لقد اتفقت مع الرجل ،وأخذت ‏المهر ،وعقدت قرانها وکالة فأنا ولي أمرها.!!!‏
‏-‏ أبني یحبها ، سأدفع مهرها وأفسخ العقد .. لن أدعک تحطم ‏قلب أبني.‏
‏-‏ أبنک !! کیف سیصرف علیها وهو یشحذ ؟
‏-‏ لا تقلل من قیمتە ،سیتخرج من الجامعة ککل الناس .‏
تدخلت نارین تقول:‏
‏-‏ سأعمل لیلا ونهارا وأجمع مهر زوجتک یا أبي ،فقط أترک ‏أختي في حالها.‏
‏-‏ أسکتي أنت رأس البلاء ،لو کنت حقا تریدین مساعدتي ‏لأقنعت أختک .‏
‏-‏ ‏ اللە یعمي ذلک الملا الذي نصحک..!! ‏
یا عمتي الملا قد قال لە الرهبنة حرام .‏
‏-‏ ما شأن الملا بهذە الأمور لا أصدق أن یکون واعظا جیدا ، کل ‏من قرأ عدة سطور نصب نفسە واعظا و فاهما في الشریعة ‏، لعن اللە أنصاف الفاهمین.‏
قال وەیسي غاضبا:‏
‏-‏ سیغضب علیکم الرحمان، لم یبقی من تصبون علیە نعلتکم ‏حتی واعظ الجامع.!!‏
‏-‏ ماتفعلە لا یرضي اللە یا وەیسي ، سینجن أبني و تتحطم ‏ابنتک ، کیف ستزوجها لرجل یکبرها ولە طفلین ؟!‏
الدین لیس صلاة و صوما فحسب ، انما الضمیر الحي ‏والأستقامة والعدل من أهم الأرکان .‏
‏-‏ لست معدوم الضمیر یا عیشی ،هذا الرجل انسان طیب ‏ومقتدر ، سیسعد ابنتي وتعیش في رفاهیة.‏
‏-‏ هل سألتها یا وەیسي في تخطیط مصیرها .؟
‏-‏ ‏ کلام فارغ ومتی تعرف هذە الطفلة مصلحتها؟!!‏
‏-‏ ها أنت تقول بنفسک طفلة !!‏
‏-‏ یا عیشە ، لقد أکلت المدینة عقلک ، من سألک حین زوجوک ‏من شینو ، أم نسیت بأنک لم ترینە قبل الزواج؟
‏-‏ حفظک اللە ، کان ذلک قبل أربعین عام ، لقد تغیرت الدنیا یا ‏أخي.!!‏
‏-‏ هکذا إذا ، تغییر الدنیا تجلب قلة الأدب ، لن أزوجها لأبنک و ‏أنتهی ، لقد عقد علیها الرجل بحضور الملا .‏
‏***‏

تتلفت نارین حولها ثم تحني رأسها وتغمض عینیها برهة ، تعود ‏الی الإلتفاف مرکزة علی وجە أختها ، تحاول فتح فمها المغلق ‏تضغط علی شفتیها،لقد ضیعت الزر الذي یحرک فمها ، لا تدري من ‏أي زغب یخرج الکلام و بأي وتر یصدح اللسان لیعلن عن تلک ‏الفجیعة الفجة التي تتستر علیها.‏
‏ لا وقت لسترها ، فالأعصار قادم لا محال ،ستغرق فیها أختها في ‏غفلة. أبوها قد أستلم المهر و الرجل قد عقد علیها و لا یتراجع ، ‏صدرت منها آهة لم تقدر علی ابتلاعها، جلبت انتباە گەوهەر ‏فسألتها :‏
‏-‏ ماذا بک یا أختي ، کأنک في جوف البئر؟
‏-‏ لا شیئ ،فقط ارهاق وتعب.‏
‏-‏ أصبري الی أن أصبح معلمة، ولن أدعک بعدها تتعبین.‏
هذا الکلام أصابها بمغص في رأسها ، تشجعت و قالت :‏
‏-‏ حسنا ، هل ترغبین الزواج الآن؟
‏-‏ لا تغضبي، لکن أسألتک أحیانا غبیة ، أنا أتزوج ..!! هل حلمت ‏؟
‏-‏ أجیبی بلا شروحات، اذا کان الرجل طیبا و ثریا هل تقبلین ؟
‏-‏ لا أجیب علی سٶال لیس لە مکان ووجود ، أنت مجنونة.‏
‏-‏ لست مجنونة و السٶال لە وجود ، أجبیني فأنا مسٶولة ‏عنک.‏
نفخت نارین کلامها الأخیر بغضب ، اندهشت هدار من هذا الموقف ‏الجامد ، تغیر لونها أمسکت بید نارین الباردة وقالت بشفاە ‏مرتجفة:‏
‏-‏ ‏ تکلمي بوضوح ..أرجوک.‏
‏-‏ أبي .. أبي لقد .... وأجهشت بالبکاء بصوت عال دون توقف.‏
‏-‏ ماذا جری لأبي ،تکلمي ؟!!‏
‏-‏ لقد زوجک یا هدار زوجک ،هل تفهمین ؟!!!‏
‏-‏ أنت مخطئة ، لا یفعل هذا .‏
‏-‏ انها الحقیقة التي تعذبني ولا أدري کیف أحمیک من هذا ‏الإعصار القاتل... أماە أین أنت أنقذینا .‏
تثور هدار صارخة :‏
‏-‏ ‏ أخبریني من هو الکلب الذي زوجني منە ، سأقطعە أربا أربا.‏
‏-‏ أنا أیضا لا أعرفە ، یقول رجل طیب و ثري .. ماتت زوجتە ولە ‏طفلان.‏
وقد أستلم مهرک وعقد قرانک یا مسکینة .‏
أرتمت هدار في حضنها کقطة تبحث عن الدفء ، وضعت ‏کفیها فوق فتحتي أذنیها لا ترید سماع المزید وهي تردد ‏کالهذیان:‏
‏-‏ ماذا فعلت یا أبي لتعاقبني هکذا ؟.‏
‏-‏ أبي یرید أن یتزوج ولا یملک المال.‏
و لم ینفع معە کلام عمتي و لا رجائي .‏
طفرت هدار من حضن أختها کالأرنب البري قائلة:‏
‏-‏ ‏ عمتي أیضا تعرف ، ولم تخبرني ولم تخبر شڤان ،هل تخلوا ‏عني وترکوني أسیر الی حتفي ؟!!‏
‏-‏ توسلت ، لا نفع کان معە.‏
‏-‏ ماذا أفعل الآن یجب أن أری شڤان لأعرف موقفە ، إدا تخلی ‏عني سأهرب الی نهایة الدنیا ولا أتزوج هذا الحمار.‏
نهضت بسرعة تتعثر بالأشیاء حولها وتترنح کالذي خدر الخمر ‏خلایاە ، خرجت و صفقت الباب وراءها راکضة دون اتجاە ، توقفت ‏تفکر ..أتجهت نحو الجامعة عدة خطوات ثم أتجهت نحو بیت عمتها ، ‏مشت وتوقفت حائرة :‏
‏-‏ أقرب مکان أتصل بە .. ودون توقف وصلت الی بیت صدیقتها ‏لتتصل ببیت عمتها .‏
‏***‏
‏ ‏
في رکن دکان ویسي مجلسە قائم کالعادة ، بین حین وآخر یبیع ‏بعض الخضراوات بحیویة غیر معتادة ،و یعود للجلوس في مکانە ‏ولکن بأستقامة غیر معهودة ،یمسح شاربیە المغبرتین بأصابعە ‏کأنە یقول لمن حولە ( ها أنا لا أزال شابا ) .. یعطي تعلیماتە ‏لخودیدا لیرش الخضراوات کي تبقی طریة ، ثم یسألە :‏
‏-‏ أین وصلت مفاوضاتک مع حسو ؟
‏-‏ یاعم وەیسي عرضت قطعة الأرض التي أملکها للبیع ، ‏سوف أدفع بها مهر زوجتي وأعیدها.‏
تدخل ماموستا خورشید الجالس :‏
‏-‏ لماذا لم تفعل ذلک منذ البدء یا خودیدا ، کنت تقطع الطریق ‏علی المصیبة التي حلت بأختک ؟!!‏
‏-‏ ماموستا هذە الأرض هي کل ما أملک ، ترکتها للیوم الأسود ‏‏.. قلت البنات للزواج وملکا للغیر ، لم أعرف بأن کل هذا ‏سیحدث .‏
‏-‏ هل هناک یوما أشد سوادا من حیاة أختک ؟!!‏
یقول وەیسي :‏
‏-‏ ما موستا ، خودیدا یقول الحق ، البنات للزواج آجلا أم عاجلا.. ‏خیر البر عاجلە یا عزیزي.!! یرد ماموستا خورشید:‏
‏-‏ صحیح ولکن لیس بالأجبار والقوة والظلم ..‏
‏ یرد وەیسي:‏
‏-‏ واللە یا ماموستا إنها نهایة الدنیا ، في زماننا متی کانت ‏الفتاة تقف في وجە الأهل أو ترد رغبة ولي أمرها.؟!!!‏
‏-‏ یا خال وەیسي الظلم غیر مقبول بکل أنواعە ، نحن کأمة لم ‏نقبل الظلم ولا زلنا ندفع قرابین حریتنا من دمنا ، فلماذا ‏نظلم بناتنا بنفس العنف؟!!‏
‏-‏ ظلم العدو شیء آخر ،فهو یحتل أرضنا ، أما زواج البنت ففیە ‏مصلحتها لتبقی مستورة في بیت زوجها.!!‏
فجأة ظهر شڤان یحیي المجلس بأدب ورقة ،یعرفە وەیسي ‏بالجالسین :‏
‏-‏ هذا أبن أختي ، طالبا في کلیة القانون، ولو إني لا أظن بأن ‏الدراسة ستجلب لە الخبز . !! قال ماموستا خورشید :‏
‏-‏ أحسنت یا محامي المستقبل ستدافع عن المظلومین ألیس ‏کذلک؟. أجابە شڤان :‏
‏-‏ شکرا یا خال بدون شک سأفعل.‏
یهز ویسي رأسە في سخریة وهو یقول :‏
‏-‏ خیرا یا شڤان ، من أین نبعت في هذا الوقت ، ألم تذهب الی ‏الکلیة الیوم ؟!!‏
‏-‏ یا خالي أردت التحدث معک علی إنفراد
‏-‏ یا روح خالک هل الآن وقت الحدیث ، ألا تری بأني مشغول ‏بالدکان ولدي ضیوف ؟!!‏
‏-‏ کلام قصیر یا خالي ، جملة واحدة غیر قابلة للتأجیل.!! ‏
یقول خودیدا:‏
‏-‏ یاعم أذهب أنا هنا .‏
‏-‏ لا لا یجوز ماموستا خورشید جالس ،کیف سأترکە ، ماهو ‏الکلام المهم الذي لا یتأجل ، خربطة لاغیر.!!‏
‏ قال شڤان بجد وإصرار :‏
‏-‏ یا خالي ، إن أردت سأقول جملتي هنا أمامک .. أنا لا ‏یهمني.؟!‏
قال ماموستا خورشید :‏
‏-‏ أنا لست بضیف ، أذهب لتری ماذا وراء الشاب؟!!‏
ارتبک ویسي ونهض یقول :‏
‏-‏ أنت لحوح و لا تقدر الظروف ، ماذا أستفدت منک ومن أمک ‏سوی المشاکل .؟
سارا کندین مدججین بسلاح الصمت حتی وصلا طرف الشارع ‏المقابل ، قال شڤان:‏
‏-‏ أخبروني بنیاتک ، لن أرضی أن تبیع هدار کسلعة .‏
‏-‏ تأدب یا ولد ، هدار أبنتي و أرید مصلحتها .!!‏
‏-‏ أیة مصلحة ،أنت تقتلها من أجل مصلحتک .؟!‏
‏-‏ لا تتدخل فیما لا یعنیک ،أذهب وأهتم بدراستک .‏
‏-‏ کیف لا أتدخل وأنا أحبها یا خالي ومستعد للزواج منها .؟!!‏
‏-‏ یا قلیل الأدب ، ألا تخجل أن تتحدث معي هکذا ، حب و ‏زقنبوت یا سرسري ؟
‏-‏ ماقلتە أنا مصر علیە، ولما الخجل من الحب الصادق .؟!!‏
‏-‏ أغرب عن وجهي حالا وإلا سأشبعک ضربا یا عدیم التربیة.‏
‏-‏ أنا ذاهب ولکن ان لم توقف هذ المهزلة سأجعلک تندم الی ‏الأبد.‏
‏***‏

هدار مرتبکە ، تخرج من البیت ، وتعود ثانیة الی الداخل ..تجمع ‏کتبها وأغراضها بسرعة ، تحتضن نارین و تشم مندیل رأسها باکیة ، ‏تظل نارین جامدة کأنها فقدت الروح وتهمس:‏
‏-‏ ‏ أذهبي وأعتصمي في بیت عمتک .. سأدعي لأجلک ، ‏سأتحمل کل شیء لا تهتمي .‏
تسیر هدار کالمجانین ، یعصرها البکاء کقطعة الغسیل المبللة ‏،فیهطل دمعا دون توقف ..تسیر تارکة أختها في نحیبها الذي ‏یطرق جدار الغرفة العتیقة یطالبها لیفسح الطریق لشیء من ‏الحریة المنهوبة . ‏
‏*** ‏
تدخل بیت صدیقتها ذائبة في دمعها ، یتجالسان بشعور أعمق من ‏الحزن ذاتە ،تقول :‏
‏ - هل أقدر أن أبقی هنا الی الصباح ؟!‏
‏ - وکیف لا.. أنت أعز صدیقاتي یا هدار ، البارحة لم أفهم منک شیء ، ‏هل تشاجرت مع نارین ؟
‏- لا ، إنما مسألة سخیفة و محزنة ولا حل لها .!!‏
‏ - أقلقتني تکلمي.!!‏
‏ - لقد زوجني أبي .‏
‏. هذا ما کنت تحلمین بە.‏‎ .‎والعریس شڤان ‏‎ ‎عروسة‎ ‎اهاههاهاه‎ - - ‎
‏-‏ لا یا عزیزتي ،حمار لا أعرفە .‏

‏***‏
یسأل وەیسي :‏
‏-‏ أین هدار ها قد حل الظلام ولم تعد بعد ، سأربیها یبدو إن ‏الکلام الطیب لا ینفع ..!!‏
‏ لم ترفع نارین رأسها من فوق رکبتیها المطویتین فوق صدرها ، ‏متکورة کتمثال من الشمع قد تعرض للذوبان ، لا شیء یبان منها ‏سوی کومة من ملابسها ..أضاف :‏
‏-‏ ‏ أتاني ذلک الکلب الی الدکان ، أغضبني حتی کدت أن أکسر ‏أسنانە ، یقول لي دون خجل أنا أحبها ..!! لعنک اللە علی ‏حماقتک.‏
رفعت نارین رأسها المطمور في همها وقالت:‏
‏-‏ أتقصد شڤان ، هو رجل وقد قال لک الحقیقة.‏
‏-‏ کلب أبن الکلب ، ما شأنە لمن أزوج أبنتي .؟
‏-‏ شأنە انە یحبها ، ثم هو أبن عمتها ولا یرضی أن تظلمها.‏
‏-‏ لا تتکلمي أکثر، قولي لي أین هي الآن ، أم أنت الأخری لا ‏تعرفین في أي شارع تتسکع.!!!‏
‏-‏ لا أعرف و لا أرید أن أعرف.‏
‏-‏ سأقوم بجریمة ، ها أنا أحذرک.‏
‏-‏ لقد فعلتها ، الجریمة هي جریمة سواء بالسلاح أو بالظلم.‏
قام وەیسي و صفعها بقوة وهو یقول :‏
‏-‏ لسانک طویل ، ماذا ستتعلم منک ، وماذا أنتظر منکما سوی ‏البلاء ؟!! ‏
خرج الی باحة الدار یتمشی بقلق ویفکر ماذا سیفعل لو لم تعود ‏هدار..؟!! أخذ یشعر بأن عظامە تتجمد من تحت سروالە الداخلي ‏الأبیض الطویل ثم عاد الی الداخل بظهر مقوس ، کانت نارین قد ‏همدت في مکانها نائمة ، شعر بألم لرٶیتها ، أخذ یغطیها باللحاف ‏وهو یتمتم :‏
‏-‏ اللعنة علیکما ، تجبرانني علی تصرفات مٶلمة ، کم تعبت ‏في تربیتکما ، وأنتما تجدان زواجي کارثة ، اللعنة علی الذریة ‏‏.‏

‏***‏

خرجت هدار مبکرا قبل أن یصحوا أهل الدار . الشوارع نصف نائمة ، ‏یهب نسیم صباحي بارد علی وجهها ، یوقضها بعنف ویعمق شعورها ‏المحبط .‏
تسیر ونظراتها علی الأرض وکأنها تعد خطواتها البطیئة، الوقت لیس مناسبا ‏، ربما لم تصحی عمتها من النوم ، أخذت تلف في طرق ملتویة لقتل الوقت.‏
أخیرا أتعبها السیر وفرقع الهواء في معدتها الفارغة ، أقتربت و دقت الباب ‏بخفة .. خرجت عمتها وأدخلتها بسرعة بعد أن نظرت الی الطریق یمینا و ‏یسارا وهي تقول مرتبکة :‏
‏-‏ قبل الفجر جاء أبوک کان یزأر ..وأنت أین کنت منذ البارحة ، ما هذە ‏المصائب التي حلت علي ، أنا أکاد أن أجن.‏
کان یقول بأني قد أخفیتک ، هدد وشتم بما یکفینا.. أین کنت منذ ‏البارحة تکلمي :‏
‏-‏ کنت في بیت سیسن و خرجت باکرا.‏
‏-‏ لا حول ولا قوة ، المصائب تشرق علینا مع شروق الشمس . هیا ‏أفطري معي !!‏
تبدو هدار وکأنها تعیش حلما مزعجا ، لا تکاد أن تصدق ما یجري حولها ، ‏صوت جرس خافت یرن في رأسها من جمیع جهاتە ، یشوە تسلسل ‏الأحداث السریعة التي جرت لها منذ البارحة ، لا تدري أي منها حدث ‏قبل الآخر ، وأي منها کان حلما ، بلعت لقمة الخبز في کسل ، تسألها ‏عمتها مرة أخری :‏
‏-‏ ماذا قلت لي ، أین کنت منذ البارحة ، أباک أخبرني بأنک لم تنامي ‏في البیت؟!‏
‏ أعادت هدار رشفة الشاي من فمها لیسیل علی ذقنها وملابسها ‏کالأطفال ، وأجهشت باکیة :‏
‏-‏ قلت لک یا عمتي کنت عند سیسن لماذا لا تصدقین ، أذهبي ‏وأسألي أمها ، اللعنة علی هذە الحیاة ،القدر متآمر علي ، لیتني ‏أموت .. لیتني کنت مع أمي في تلک الأمسیة الخرساء العدل، أخذت ‏تنتحب و تنادي أمها المفقودة .‏
‏-‏ لا یا إبنتي لا تقولي هذا ، أنا أصدقک لکن أبوک أقلقني ..قالت هذا ‏بصوت یخترقە الشفقة ، ومسحت دمعها بطرف کمها .‏
‏-‏ ماذا یرید أبي ، وهل یحزنە أین أکون و ماذا یحدث لي..لا أرید رٶیتە ‏بعد الآن.‏
‏-‏ ‏ لماذا هربت من البیت ؟
‏-‏ ماذا هل تریدینني أن أرضی بهذا الوضع المزري ،تتکلمین کأنک لا ‏تعرفین الموضوع؟!!‏
‏-‏ لا یا هدار أن أعرف کل شیئ وحاولت إنقذاک ، لکنە أولا وأخیرا ‏والدک ولیس في الید حیلة .!!‏
‏-‏ الی ماذا ترمین یا عمتي ، تتخلین عني لیدفنني حیة؟!!!‏
‏-‏ ‏...........................................!!‏
‏-‏ أرجوک یا عمتي ساعدیني.‏
ظلت عمتها في وجومها الصامت وسط نحیب هدار ، فهي حزینة من أجلها ‏ولکن حزنها هذا لا یمس أعماقها أمام مصلحة ابنها و مستقبلە وهو وحیدها ‏‏.‏
‏-‏ أرشدیني یا عمتي ماذا أفعل بحق اللە فأنا واقعة في جب البئر.؟!!‏
أخذت العمة تلطم علی رکبیتها و تصیح :‏
‏-‏ ویلي علی عذاب أبني ، آە یا ویسي ،لقد أرجعت خیوط کدي صوفا.. ‏فما بوسعي أن أعمل ، لقد عقد الرجل ودفع المهر و أنت ‏حلالە یا هدار ، أنا لا قوة لي أمام هذا ، سیقع أبني في ‏المصیبة.‏
‏-‏ أقتلني یا رب ، أنا لا أرید أن أکون مصیبة في حیاة شڤان یا ‏عمتي،!! أخذت هدار تلطم رأسها وتصرخ.‏
أفاق ضجیجهما شڤان و أختە من النوم ، عندما رأی شڤان هدار ‏بتلک الصورة جلس أمامها ممسکا بیدیها التي باتت مطارق فوق ‏رأسها وهو یقول :‏
‏-‏ کفی عن البکاء أنا لن أدعهم یبیعونک هکذا ،أنا لا أتخلی ‏عنک ألا تثقین بي؟
‏-‏ ماذا ستفعل ، أنت الآخر مثلي لا حول لک و لا قوة .‏
‏-‏ لست عدیم القوة حین یتعلق الأمر بحیاتنا، هیا أمسحي ‏دمعک.‏
قالت العمة :‏
‏-‏ لو رأیت أبوها هذا الصباح ،کیف کان الجمر یتطایر من عیونە.. ‏لقد عقد المهر وکالة .‏
‏-‏ الی جهنم ، لقد طردني أمس من الدکان .. کفي یا أمي انها ‏زیجة باطلة .‏
‏-‏ کیف وهو ولي أمرها وعقد الرجل علیها بحضور الملا و ‏شاهدین انها حلالە؟
رمق شڤان أمە بنظرة أبلغ من الحدیث ،أجبرها علی السکوت .‏
‏***‏

الیوم هناک شیء مختلف عن بقیة الأیام ، لا رواج في السوق وقد ‏تقلص عدد المارة في المنطقة والمقهي القریب بدا شبە فارغ.. ‏خودیدا یصفف صنادیق الفاهکه ویقول:‏
‏-‏ ماذا جری للناس الیوم، لا أحد یشتري منا شیئا .؟
‏-‏ یوم مشٶوم من بدایتە.‏
جاء عامل المقهی یحمل أقداح الشاي بید واحدة ، اقترب من ‏ویسي وهمس قائلا:‏
‏-‏ هل تعرف ماذا حدث لیلة أمس یا عم ؟
هلع ویسي کأنە ینتظر مصیبة ما وهو یقول:‏
‏-‏ تکلم بسرعة یا ولد ماذا حدث!!‏
‏-‏ لیلة أمس ألقت الحکومة القبض علی ماموستا خورشید.‏
‏-‏ کیف ولماذا؟!‏
‏-‏ کما قلت .. ألقوا علیە القبض في المقهی ، وضعوا یدیە في ‏الکلبچة!!‏
‏-‏ هل کانوا جنود ؟
‏-‏ لا کانوا من رجال الأمن ،أحزنني الأمر حین رأیتهم یضربون ‏هذا الرجل المحترم .. ویقولون لە أین رفاقک .. بعدها ‏سمعت بأنە کا یعمل في حزب کوردي؟!‏
‏-‏ أخفض صوتک یا ولد وإیاک أن تقول هذا.‏
‏-‏ وکیف عرفوا ذلک ؟ تدخل خودیدا الذي کان بقربهم یسمع ‏الحدیث
‏ رد وەیسي:‏
‏-‏ نعم لو لم یشي أحد من بیننا ، کیف لهٶلاء الغرباء أن ‏یعرفوا.!!‏
هنا ظهر رجل طویل ببدانة ظاهرة وأختلی بویسي قائلا :‏
‏-‏ یا عم متی سنحدد موعد الزفاف ،أنا و أطفالي نحتاج الی ‏رعایة وقد مر شهر علی عقد القران ودفعت المهر.؟!‏
‏-‏ یا بني أمهلني بعض الوقت سأرتب کل شیء.‏
‏ جلس وەیسي مهموما وهو یردد:‏
‏-‏ یا لە من یوم مشٶوم فعلا ، ماذا لو لم تعود هدار ؟!! یجیب ‏علی نفسە ( أین ستذهب ، ستهدأ وتعود ، هي عند عمتها ، ‏هذە المقاومة طبیعیة عند الفتیات).‏
‏***‏
لیس هناک من حل یا أماە سوی الهرب،لا مستقبل لي بدون هدار ‏،همس شڤان وهو ینظر الی قامة حبیبتە التي لوتها الألم وعینیها ‏السوداء قد طغی علیها الأحمرار ، عصفورة صغیرة دون ملاذ.‏
یذبل وجە الأم أمام هذا القرار القاسي ، کصفصافة غیر النهر ‏مسارە عنها.. وهي تقول بصوت مرتجف:‏
‏-‏ لا مفر لنا من الأقدار ،تهرب..؟!الی أین وتترکني أن أجني ‏الریح وأحتسي دمع فراقک. !!‏
‏ أما هدار فترفع رأسها من بین هالة الخجل المنقوش بخیط الخوف ‏والعدم ، تهمس :‏
‏-‏ أنە قدري ویجب أن أحمل بضاعتە القاسیة فوق ظهري ‏،دعوني أرحل الی حیث اللامکان دون أن تنغرس أشواکي ‏في غد شڤان.‏
‏-‏ لدینا خال لأبینا في ضاحیة قریبة من مدینة ( شنو) لە عائلة ‏کبیرة ، لکني لا أعرف کیف سأبعثک هناک یا أبنتي .. قالت ‏الأم دون أن تتجرأ النظر الی وجە أبنها ،إنما جازفت برمي ‏الصخرة في نهر الحدیث ربما تعثرت بها سمکة ما.. محاولة ‏عقیمة لأبعاد أبنها عن هذە المشکلة.‏
فقد شڤان لجام غضبە فصرخ :‏
‏-‏ هل جننت کأخوک یا أماە ، کیف سأبعث هدار وحیدة الی ‏إیران .. أقولها لک للمرة الأخیرة ، قدمي مربوط بقدمها ‏وروحي رهینة وجودها ، نبقی معا ، نرحل معا ، نموت معا ‏؟!!‏

‏***‏
تنظر هدار الی وجوە الحاضرین التي تبدو موزائیکا مختلف ‏المشاعر ، لکنها علی الأقل باتت تعرف ألوانە ، وما یزیدها إطمئنانا ‏هو اللون الأحمر الذي یتمثل في موقف شڤان الحازم حیث یشکل ‏إطار الزخارف الأخری. وماذا عن لون مشاعرها هي ..!! رغم ‏معرفتها بأن الهرب هي الوسیلة الوحیدة لأنقاذها ، لکنە قرار ‏صعب في حد ذاتە .. فعلی وجە القرار تختلط جمیع الآراء ‏والمشاعر السلبیة منها والإیجابیة ، ترید أن تسأل أحدا لیس لە ‏صورة داخل لوحة الإعصار من حولها ، تری هل ماستقدم علیە هو ‏القرار الصحیح ..؟!! یجیبها صوت أعماقها ( لو کان هناک حلا آخرا ‏لکان أفضل) .. لکن الحلول کلها عقیمة وعلیها أن تکتم کل ‏الأصوات الأخری النابعة من وجدانها بدأ من حنینها لأختها و غدها ‏وغد شڤان الذي سیصبح أعورا و مشلولا ، وإنتهاء بکلام الناس ‏حین یعرفون بهروبها .!! تهمس لنفسها :‏
‏-‏ سنکون عکازة ، کل منا یحمل الآخر ، تنظر الی وجە شڤان ‏الذي تراە عکازة من نور.‏
انتهي الأمر وتلونت الوجوە جمیعها بألم السفر الذي لا یعرفون ‏نهایتە .!!‏
قبل الفجر وقفت سیارة أجرة عتیقة وملوثة حتی نصفها ببقایا ‏الطین المتجمد أمام الدار.. یتم الوداع وسط لطم عیشە ودموع ‏ابنتها وضمور وجە هدار الخالي من کل شیئ حتی الدمع لم یعد ‏یسعفها ..‏
یلم شڤان کل هذە المشاعر المٶلمة في إبتسامة صابرة و ‏متخمة بالدمع ، یهدء أمە قائلا :‏
‏-‏ ‏ ما بالک یا أمي ..في الیوم الواحد یهرب آلاف الشباب ‏لیلتحقوا بصفوف الپێشمەرگە ، لهم أمهاتا مثلک ؟!!‏
‏-‏ آە یا ولدي هٶلاء یذهبون من أجل الوطن ، أما أنت فتهرب من ‏أجل امرأة .!!‏
یمسک شڤان بأنامل هدار ویقول :‏
‏-‏ یا أمي الحریة أساس القضیة و ها نحن نهرب من العبودیة ، ‏فبارکینا أرجوک.. یقولها و یحتضن رأس أمهە و یقبل یدها .‏
تقترب الأم من هدار تقبل رأسها و تقلدها بقلادة ذهبیة منقوشة ‏باللٶلٶ الأبیض وهي تقول :‏
‏-‏ هذە قلادة عرسي أخبأتها لعروسة شڤان ، إنە لک . أنتبها ‏لنفسکما .‏

‏***‏
نفخت السیارة في نفسها وأطلقت زفیرا من الدخان الأسود وسط ‏ضجیجها المزعج لتنهي قصة لم تنتهي بعد.‏
سکبت عیشە إناء من الماء عند إنطلاق السیارة وهي ترفع رأسها ‏للدعاء لهما.. بکت هدار بحرقة وهي تهمس : (کنت أحبک یا أبي ‏لماذا جعلتني قطة بدون مأوی)..أمسک شڤان بیدها المرتجفة ‏وهو یهمس :‏
‏-‏ کفاک بکاء ، لاتحرقي قلبي .. هذا هو قدرنا و یجب أن نسیر ‏فیە لا شیء صعب ما دمنا معا .‏
رحلا کطیفین أذابهما شروق الشمس ، الطریق تحول من شوارع ‏مبلطة الی طرق ترابیة رطبة و غیر مستویة ، تهبط السیارة حینا و ‏تعلو أخری ، وما أن حل الظلام حتی کانت السیارة تأخذ طریقا بین ‏الأحراش البریة ،نامت هدار رغم الأهتزازات التي تحدث للسیارة و ‏أسندت برأسها علی کتف شڤان کطفلة .. بین حین و آخر یتحسس ‏شڤان جیبە لیتأکد من وجود الورقة التي کتب علیها عنوان أقرباء ‏أمە.‏
في الصباح کانا قد وصلا قریة نائمة بین الأشجار ، قال لهم السائق ‏أنتهت مهمتي ها أنتم في إیران .‏
جلسا علی طرف صخرة قائمة قرب الطریق ، تناولا ما جهزتها ‏عیشە للطریق من غذاء ، أجرا سیارة و سلموا الورقة للسائق ‏لیوصلهما الی ذلک العنوان ،قال سائق السیارة :‏
‏-‏ الطریق لیس قریبا ، یجب أن نذهب الی شنو و ثم الی هذە ‏الضاحیة ، ثم أشر بیدە نحو هدار قائلا :‏
‏-‏ یا أبنتي أربطي رأسک جیدا ، السفور ممنوع هنا وأضاف ‏هل لدیکم أورقا رسمیة أم لا ؟ رد شڤان لدینا بطاقة النفوس ‏، سنذهب لزیارة خال لنا .‏
عند دخولهم المدینة توقفت السیارة في نقطة التفتیش ، وبدأ ‏الپاسدار بتفتیش الهویات ، لیسأل :‏
‏-‏ من تکون هذە التي معک ؟! ارتبک شڤان لایدري ماذا یقول ‏؟!!‏
‏-‏ حسب البطاقة هي لیست أختک ، تکلم !!‏
‏-‏ إنها زوجتي یا سید .‏
‏-‏ وأین عقد الزواج ؟! لم یتوقعا هذا السٶال المفاجئ ، وتسمرا ‏في مکانهما ..!!صاح فیهما :‏
‏-‏ ‏ أنزلا أنتما فاسقان ،متهمان بالزنا .. ستجلدان بمئة جلدة ألا ‏تعرفان الحلال والحرام یا أوغاد .!!‏

‏ ***‏
فرشت هدار مندیلها المربع فوق الرصیف تشحذ من المارة ، ‏المندیل هو الشیئ الوحید الذي بقي معها ویذکرها بأیامها ‏الماضیة، لا قلادة عمتها ولا سوار أمها و لا النقود بقي لها أثر حین ‏أخرجوها من السجن.‏
حین دخلت المدرسة کانت في السابعة من عمرها فطرزت لها ‏أمها هذا المندیل الأبیض بزهرة حمراء.‏
علی المندیل باتت تقرأ قصتها المحزنة ،تری علی بیاضها وجە ‏شڤان الغائب .‏
کل صباح تجر أذیال ألمها لتقف عند باب السجن تنتظر أن یخرج ‏شڤان المفقود ، وکلما سألت عنە یصرخون في وجهها :‏

‏-‏ أغربي ، لم ینتهي التحقیق معە ، إنە سیاسي خطیر.‏



#سرفراز_علي_نقشبندي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ولیمة الفطر
- المکیال
- أأنت عارف بشیمة المطر
- لا لسنا سیان
- صباحیات أربیل
- مجنون عند عتبة لوزان
- حصیلة النداء
- من سیکون (فیلي براندت ) العراق


المزيد.....




- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سرفراز علي نقشبندي - المندیل الأبیض