أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - الكتب معرفة ومتعة - الجزء الثانى















المزيد.....



الكتب معرفة ومتعة - الجزء الثانى


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3929 - 2012 / 12 / 2 - 14:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


 
 
الكتب معرفة ومتعة
(مقدمات وعروض لكتبى المترجمة
ومقدمات وعروض ومقالات مترجمة لكتب أخرى)
(كتاب إلكترونى، 2012)
 
الجزء الثانى
خليل كلفت
 
 
 
 
المحتويات
 
الجزء الأول
 
أولا: عروض مترجمة لكتب غير مترجمة أو من ترجمة آخرين
سياسة وفكر:
1: الشرف والغضب لا يكفيان عن كتاب: Deterring Democracy [الحيلولة دون الديموقراطية] تأليف: نعوم تشومسكى Noam Chomsky،1991 (عرض: جاريث چنكنز Gareth Jenkins).
2: الحروب الوشيكة The Next War [الحرب القادمة]، تأليف: كاسپر واينبرجر Caspar Weinberger  و پيتر شڤايتسر Peter Schweizer، 1997  (عرض: إينياسيو رامونيه Ignacio Ramonet).
أدب:
3: زيارة جديدة إلى مزرعة الحيوانات، عن رواية "مزرعة الحيوانات"، Animal Farm، چورچ أورويلJeorges Orwell ، 1945 (مقال: چون مولينو John Molyneux).
4: عوالم عديدة مفقودة، عن رواية "پيدرو پارامو" Pedro Páramo، خوان رولفو Juan rulfo، 1953 (عرض: مايك جونثالث Mike Gonzalez).
5: صوت ڤالزر، عن قصص مختارة Selected Stories، روبرت ڤالزر Robert Walser، 1983 سوزان سونتاج Susan Sontag، (مقدمة).
6: تذييل عن كتاب روبرت  ڤالزر بقلم: كريستوفر ميدلتون.
7: مارسيل پروست، عن رواية "البحث عن الزمن الضائع"، بقلم: أناتولى لوناتشارسكى (مقال)
8: پروست مؤرّخًا اجتماعيًّا بقلم: أندريه موروا (مقال)
9: حول الأسلوب فى السينما، عن فيلم "الأمل"، إخراج: أندريه مالرو، وهو مقتبس من روايته "الأمل"، فصل من كتاب أندريه بازان  Le Cinéma Français de Libération à la Nouvelle Vague (1945-1958) [السينما الفرنسيّة من التحرير إلى الموجة الجديدة (1945-1958)].
10: مقدمة جاستون ماسپيرو لكتابه الصادر بعنوان: الأغانى الشعبية فى صعيد مصر، جاستون ماسپيرو Gaston Maspero، إعداد د. أحمد مرسى و محمود الهندى، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000 (مقدمة).
  
ثانيا: مقدمتان لى لكتابيْن لمترجميْن آخريْن
سياسة وفكر:
11: ڤالتر بنيامين Walter Benjamin، هاوارد كايجل howard keigel وآخرون، 2000، ترجمة: وفاء عبد القادر مصطفى، المشروع القومى للترجمة، 2005 (مقدمة).
12: إشكالية مدرسة فرانكفورت (مقال لى ملحق بمقدمتى لكتاب ڤالتر بنيامين).
13: مصر وبلاد النوبة Egypt in Nubia، 1965، وولتر إمرى Walter Emery، ترجمة: تحفة حندوسة، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2005 (مقدمة). 
 
ثالثا: مقدماتى أو عروضى لكتب من ترجمتى
سياسة وفكر:
14: الأساطير والميثولوچيات السياسية Mythes et mythologies politiques، راؤول چيرارديه Raoul Girardet، 1986، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1995 (عرض)
15: مصير العالم الثالث Les destins du Tiers Monde, analyse, bilan et perspectives، 1993، توما كوترو Thomas Coutrot و ميشيل إسُّون Michel Husson، دار العالم الثالث، القاهرة، 1995 (عرض).
 
الجزء الثانى
 
16: النظام القديم والثورة الفرنسية L’Ancien Régime et La Révolution، أليكسى دو توكڤيل Alexis De Tocqueville، 1856، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2010 (مقدمة).
17: النظام القديم والثورة الفرنسية (عرض)
18: كيف نفهم سياسات العالم الثالث: نظريات التغيير السياسىّ والتنمية Understanding Third World Politics: Theoris of Political Change and Development,، ، بى سى سميث B. C. Smith، 2009، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2011 (مقدمة).
19: انهيار النموذج السوڤييتى: الأسباب والنتائج، كريس هارمان Chris Harman، الطبعة الأولى، دار النهر، 1995، الطبعة الثانية، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2010 (مقدمة).
20: انهيار النموذج السوڤييتى، كريس هارمان (تذييل).
21: انهيار النموذج السوڤييتى، كريس هارمان (تلخيص).
 
أدب:
22: طبيب الأمراض العقلية The Psychiatrist، 1882، ماشادو ده أسِّيس Machado de Assis، دار الياس للطباعة والنشر، الطبعة الأولى بعنوان: السراية الخضراء، القاهرة، 1991، (رواية قصيرة).
23: دون كازمورو Dom Casmurro، 1900، ماشادو ده أسيس Machado de Assis، الطبعة الأولى: دار الياس للطباعة والنشر، القاهرة، 1991، الطبعة الثانية، آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2012 (رواية).
24: حكاية سكندرية وقصص أخرى، ﻟ ماشادو ده أسيس، المجلس الأعلى للترجمة، القاهرة، 2009.
25: أساطير البحر Légendes de la mer، برنار كلاڤيل Bernard Clavel ، 2006، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2007 (أساطير للناشئة).
26: أساطير البحيرات والأنهار Légendes des lacs et rivières، برنار كلاڤيل Bernard Clavel، 2006، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2008 (أساطير للناشئة).
27: أساطير الجبال والغابات Légendes des Montagnes et Forêts، برنار كلاڤيل Bernard Clavel، 2006، برنار كلاڤيل، Bernard Clavel، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2007 (أساطير للناشئة).
28: مختارات الميتافيزيقا والفانتازيا، خورخه لويس بورخيس  Jorge Luis Borges، الطبعة الأولى، دار شرقيات، القاهرة، 2000؛ الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب(مكتبة الأسرة)، القاهرة، 2008 (قصص، مقالات، أشعار، حكاية رمزية).
29: عوالم بورخيس الخيالية، آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، نخبة، القاهرة، 1999 (مقالات مختارة).
30: رحلة فى عالم بورخيس، تقديمى لملفّ مجلة القاهرة العدد 137 أپريل 1994 (ملحق بالمقالين السابقين عن بورخيس).
 
 
الجزء الثالث
31: كيف كتب دوستويڤسكى رواية الجريمة والعقاب؟ فى كتاب "دوستويڤسكى.. إعادة قراءة"، تأليف: يورى كارياكين، كمبيونشر، بيروت، 1991.
 
رابعا: عرض مترجم لكتاب من ترجمتى
32: الترجمة فى سياق ما بعد كولونيالى- ترجمة الأدب الآيرلندى المبكر إلى الإنجليزية Translation in a Postcolonial Context - Early Irish Literature in English Translation، 1999، ماريا تيموسكو Maria Tymoczko، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2009 (عرض: پول سان-پيير Paul St-Pierre).
 
ملاحق
الملحق الأول
مقالات للدكتورة آمال فريد عن مجموعة قصص قصيرة
لكلٍّ من ادوار الخراط وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى     
33: ادوار الخراط: ساعات الكبرياء
34: إبراهيم أصلان - بحيرة المساء
35: جمال الغيطانى: أوراق شاب عاش منذ ألف عام
 
الملحق الثانى
التاريخ الذى أحمله فوق ظهرى: سيد عويس
36: سيرة ذاتية كدراسة حالة؛ عن كتاب سيد عويس: "التاريخ الذى أحمله على ظهرى، دراسة حالة"، بقلم: المستعرب الياپانى: إيچى ناجاساوا.
37: ثورة 1919 كما رآها طفل مصرى؛ عن كتاب سيد عويس: "التاريخ الذى أحمله على ظهرى، دراسة حالة"، بقلم: المستعرب الياپانى: إيچى ناجاساوا.
 
الملحق الثالث
فصل من كتاب "عالم جديد"
تأليف: فيديريكو مايور و چيروم بانديه.
38: أىّ مستقبل ينتظر الكِتاب والقراءة؟
 
الملحق الرابع
كلمة الغلاف لبعض ترجماتى
 
39: كلمة الغلاف لمجموعة من كتبى المترجمة
 
بيبليوجرافيا
 
 
 
16
بين الثورة السياسية والثورة الاجتماعية
 
مقدمتى لكتاب: النظام القديم والثورة الفرنسية L’Ancien Régime et La Révolution، 1856،
أليكسى دو توكڤيل Alexis De Tocqueville،
المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2010
 
يحدِّد أليكسى دو توكڤيل موضوع كتابه "النظام القديم والثورة" L Ancien Régime et la Révolution، منذ الجملة الأولى فى مقدمته، قائلا: "الكتاب الذى أقدِّمه الآن ليس أبدًا تاريخا للثورة الفرنسية، فذلك التاريخ مكتوب بصورة أروع من أنْ أفكر فى إعادة كتابته؛ إنه بالأحرى دراسة عن هذه الثورة". إنه ليس تاريخا بل دراسة! وإذا كان التاريخ يعنى هنا البحث المدقِّق للوقائع السياسية لتلك الثورة وتحليل العلاقات السببية المباشرة بينها، بعيدا عن موضوعات علوم أخرى قد تتناول نفس الفترة، مثل الاقتصاد أو السوسيولوچيا أو الأنثروپولوچيا أو غيرها، باعتبار هذا التاريخ مكتوبا بالفعل، فإن ما أراده بالدراسة هو ما يجذب اهتمامنا بقوة.
وفى نهاية مقدمتها لطبعة حديثة من هذا الكتاب نفسه (Flammarion, Paris, 1988)، تتساءل فرانسواز ميلونيو Françoise Mélonio: "ماذا يبقى اليوم من المحتوى التاريخىّ لهذا الكتاب؟"، وتردّ على سؤالها بأنه لا يبقى سوى القليل، غير أنها تستدرك قائلة إن المؤرخين ما يزالون يقولون اليوم: "منذ توكڤيل". وتضيف أن المفاهيم التفسيرية التى أدخلها توكڤيل إلى مناقشة هذه الظاهرة لم تفقد جدَّتها بعد أكثر من قرن من الزمان فى مواجهة "أسطورة ثورية" (pages 36-37)، ذلك أن توكڤيل كان يطيب له أنْ يحتفى بذكرى 1789 "العام السعيد الذى ’سعى فيه أجدادنا إلى تأسيس شيء أعظم من هذا الذى نراه اليوم‘ [أىْ: فى منتصف القرن التاسع عشر عندما كان توكڤيل يؤلف كتابه]"، وكان بالغ الإعجاب بما تجلَّى فى 1789 من "السخاء الاجتماعىّ واتحاد الجميع، النبلاء، ورجال الدين، وعامة الشعب، فى سبيل تأسيس الحرية"، غير أنه رفض كل ما أعقب ذلك: الإرهاب، والإمپراطورية، وثورتىْ 1830 و 1848 الصغيرتيْن اللتيْن كرَّرتا إخفاق الثورة الفرنسية الكبرى (page 7).
وبعيدا عن التاريخ الذى لا يسرد توكڤيل قدرا هائلا من تفاصيل وقائعه وأحداثه وأوضاعه إلا ليقدِّم من خلالها وعلى أساسها "دراسته" ونتائج تلك الدراسة، يبرز جوهرها الحقيقىّ الذى لا تقتصر أهميته على فَهْم الثورة الفرنسية بل تمتدّ لتشمل مفهوم الثورة الاجتماعية بوجه عام. وإذا كان لا مناص من إجراء هذه الدراسة (وأىّ دراسة) داخل نطاق الإطار المعرفىّ لعلم من العلوم أو لعدَّة علوم وباستخدام الأدوات البحثية لهذا العلم أو هذه العلوم، فإن من المنطقىّ إذن أنْ نتساءل عن العلم المعنىّ أو العلوم المعنيَّة هنا. والحقيقة أننا يمكن أنْ نتحدث عن علوم منها التاريخ والسياسة والسوسيولوچيا والأنثروپولوچيا وحتى الفلسفة وعلم النفس؛ فبفضل استخدامها واستكشافها جميعا باقتدار كان بوسع توكڤيل أنْ يرسم تلك اللوحة النابضة بالحياة لمجتمع يتحوَّل بعمق من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر، وأنْ يحدِّد بوضوح طابع هذا التحوُّل ومنطقه وديناميته ومغزاه.
وإذا كان لنا أنْ نُعَرِّف الثورة الاجتماعية باختصار بأنها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر، فإن الجوهر الحقيقىّ لبحث توكڤيل هو أن هذا الانتقال لا يتمثل فى ضربة عنيفة واحدة هائلة تفتح الباب أمام تحوُّلٍ تاريخىٍّ (مثلا: ثورة 1789 أو بالأحرى ثورة 1789-1794)، بقدر ما يتمثل فى عملية تاريخية كبرى تسبِق وتعقُب مثل هذه الضربة العنيفة الواحدة على مدى عقود وأجيال قبلها وبعدها (وربما بدونها أصلا). وربما كانت هذه الفكرة ليست بالجديدة تماما، بالإضافة إلى أنها صارت مقبولة "بعد توكڤيل"، وربما بصورة مستقلة عنه أحيانا، غير أن فضل مَفْصَلَتِها واكتشافها والبرهنة عليها وإثباتها من خلال دراسة تطبيقية شاملة (حالة الثورة الفرنسية) يعود دون شك إلى توكڤيل.
ونحن نعلم اليوم علم اليقين أن فرنسا قد انتقلت من الإقطاع إلى الرأسمالية، ولا شك فى أن هذا الانتقال حدث خلال عهد بالغ الطول عن طريق أداة اسمها الثورة أو بالأحرى فإن هذا الانتقال هو الثورة ذاتها؛ ولكنْ ما هى الثورة؟ هل هى "حدث" 1789؟ أو "حدث" 1789-1794؟ هنا يأتى توكڤيل بحدسه وعلمه ومنهجيته ومعرفته وعبقريته ليقول لنا إن الثورة الفرنسية هى ما قبل وما بعد حدث 1789 وتشمل كذلك هذا الحدث: الثورة هى النظام القديم كما أنها حدث 1789 كما أنها نتائج هذا الحدث على المدى الطويل؛ الثورة ثورتان ومرحلتان وطوران، أو بكلمات توكڤيل: "ذلك أن الثورة كان لها طوران متميزان تماما: الطور الأول الذى بدا خلاله أن الفرنسيِّين يريدون إلغاء الماضى تماما؛ والطور الثانى الذى اتجهوا فيه إلى محاولة أنْ يستعيدوا من الماضى جانبا مما كانوا قد تركوه فيه. ذلك أن هناك الكثير جدًا من قوانين النظام القديم وأعرافه السياسية التى تختفى هكذا دفعة واحدة فى 1789 والتى تعاود الظهور بعد ذلك بسنوات قليلة، تماما كما تغوص بعض الأنهار تحت الأرض لتعاود الظهور فى مكان أبعد قليلا، لتظهر نفس المياه على شواطئ جديدة".
وكان هذا المفكر السياسىّ المحافظ، كما يصفه ماركس، والمعادى للأفكار الاشتراكية، كما يؤكد هو ذاته كثيرا، ورجل الدولة، أعنى توكڤيل، يتخذ موقفا مزدوجا من النظام القديم وكذلك موقفا مزدوجا من ثورة 1789. وفيما يتعلَّق بالنظام القديم كان كتاب "النظام القديم والثورة" مخصَّصا بكامله لتشريح نظام استغلالىّ يقوم على الامتيازات والحقوق الإقطاعية والمَلَكِيَّة فى سياق دفاع عميق عن الشعب وحقوقه وحريته ورَصْد دقيق لواقع أننا لسنا إزاء مجتمع إقطاعىّ قروسطىّ بل إزاء مجتمع انتقالىّ تنمو البرچوازية والرأسمالية فى رحمه؛ وفيما يتعلَّق بحدث 1789، كان موقفه المزدوج يتمثل فى تقدير دوره فى إزالة العراقيل أمام اكتمال خروج مجتمع جديد عصرىّ من ذلك المجتمع القديم حيث عاش من جديد مع الفرنسيِّين تَوْقَهم إلى التحرُّر والحرية مع إدراكه فيما كان يكتب بعد ستين عاما أن وعود الحرية كانت قد تبخَّرَتْ ليحلّ محلها واقع الديكتاتورية والإمپراطورية وعهود جديدة من الاستبداد والاستعباد.
ويقول توكڤيل متحدِّثا عن الفرنسيِّين الذين عاصروا الثورة: "وسأعبُر معهم فى البداية هذه الفترة الأولى من ثورة 1789، عندما كان حب المساواة وحب الحرية يعمران قلوبهم؛ عندما كانوا يرغبون فى أنْ يقيموا ليس فقط مؤسسات ديمقراطية بل مؤسسات حرة؛ ليس فقط فى القضاء على امتيازات، بل فى إقرار وتكريس حقوق؛ زمن الشباب والحماس والشهامة والعواطف النبيلة الصادقة، ذلك الزمن الذى – رغم أخطائه – سوف يحتفظ الناس بذكراه إلى الأبد، والذى سوف يَقُضُّ – على امتداد وقت طويل قادم – مضاجع كل أولئك الذين سوف يسعون إلى إفساد هذه الأشياء أو كبحها".
وبعد أنْ تدهورتْ الثورة وانحطَّتْ جارفة معها المجتمع "الجديد" بأسره، يرصد توكڤيل هذا المسار: "وفيما أتتبَّع بسرعة مسار هذه الثورة ذاتها فإننى سأحاول أنْ أبيِّن ما هى التطورات والأخطاء وخيبات الأمل التى انتهت بهؤلاء الفرنسيِّين أنفسهم إلى التخلِّى عن هدفهم الأصلىّ فلم يعودوا يريدون، متنكِّرين للحرية، سوى أنْ يصبحوا العبيد المتساوين لسيِّد العالم؛ وكيف أن حكومة أقوى وأكثر أوتوقراطية بكثير من تلك التى كانت الثورة قد أطاحت بها تسلَّمتْ مقاليد الحكم عندئذ، وركزتْ كافة السلطات فى يدها، وألغتْ كافة هذه الحريات التى دُفِع ثمنها غاليا، وأحلَّتْ محلَّها مظاهرها الوهمية الخادعة؛ وهكذا أصبحتْ سيادة الشعب تعنى أصوات ناخبين لا يمكنهم أنْ يستفسروا، ولا أنْ يتداولوا، ولا أنْ يختاروا؛ كما أصبح التصويت الحرّ على الضرائب يعنى موافقة مجالس خرساء أو خانعة، ورغم تجريد الأمة تماما من حقها فى أنْ تحكم نفسها ومن الضمانات الرئيسية لهذا الحق، حرية التفكير والتعبير والكتابة، أىْ ما كان يمثِّل أثمن وأسمى مكاسب 1789، فإن حكومة الثورة ما تزال تتجمَّل بهذا الاسم الكبير".
والفكرة المهمة هنا هى أن الثورة الاجتماعية ليست عاصفة عاتية تنقضّ فجأة تحت سماء صافية، كما يُقال، وليست ضربتها العنيفة المفاجئة، حسب قول شهير ﻟ ماركس فى معرض حديثه عن "عملية تحويل أسلوب الإنتاج الإقطاعىّ إلى أسلوب إنتاج رأسمالىّ"، سوى "الدَّاية" (القابلة أو المولِّدة): "العنف داية كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد. وهو ذاته قوة اقتصادية" Karl Marx, Capital, Vol. I, Progress Publishers, Moscow, 703, 1974. ومن الجلىّ أن المقصود بالعنف هنا هو الثورة السياسية، وفى مدخل "ثورة" فى الترجمة العربية ﻟ "معجم الماركسية النقدى"، الصادر عن دار محمد على الحامى للنشر (صفاقس) ودار الفارابى (بيروت)، الطبعة الأولى، 2003، نقرأ، نقلا عن أعمال ماركس و إنجلس الكاملة: "كل ثورة تلغى المجتمع القديم [...] ثورة اجتماعية، وكل ثورة تلغى السلطة القديمة [...] ثورة سياسية". وإذا كان كل تشبيه أعرج، كما يُقال أيضا، فإن هذا المجتمع الجديد لا يكون فى رحم المجتمع القديم مجرد "جنين" ناضج ("ابن تسعة" ولكنْ كجنين فقط) بل يكون مخلوقا مكتمل التكوين إلى حد كبير ولا يحتاج إلى ضربة عنيفة أو "داية" أو إلى عملية "قيصرية" إلا عندما تكون هناك عقبات وعراقيل وحواجز لا مناص من إزالتها من أمامها عن طريق العنف. وإذا كان هناك طريقان ممكنان لحدوث انتقال، بمعنى ثورة اجتماعية، أحدهما تراكمىّ/تدريجىّ والآخر "ثورىّ" فالحقيقة أن كل طريق منهما ثورة بنفس القدر وعملية تدريجية بنفس القدر، ذلك أن لحظة الضربة لا تنفى وجود عمليات تاريخية تدريجية قبلها وبعدها مهما تنوَّعتْ المستويات والمعدلات والسرعات لأسباب بنيوية أو ظرفية، كما أن الثورة التراكمية/التدريجية لا تنفى احتمال حاجتها فى شروط خاصة إلى دَفْعَة أو ضربة، وربما كان الصواب أنْ نقول إن الثورة الاجتماعية هى مجموع العمليات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والأيديولوچية والتقنية والتحديثية العميقة الطويلة المدى والتى قد تشهد ثورات وانقلابات وتحوُّلات علمية أو سياسية أو فكرية أو أدبية أو فنية أو تكنولوچية، إلخ.، على حين أن الثورة السياسية بالمعنى المقصود عادةً بهذه العبارة إنما هى تلك اللحظة أو الضربة أو "الدَّاية" مهما جلبتْ معها من تطورات أو تدابير أو قوانين اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها، ذلك أن الثورة السياسية ليست مقطوعة الصلة بعمليات الثورة الاجتماعية التى تخدمها أو تناوئها أو تعاديها الثورة أو الثورات السياسية.
وإذا كانت الثورة السياسية العنيفة (حتى دون إراقة دماء فى التَّوِّ واللحظة) "داية" أو تحتاج إلى "داية" أو تحتاج بالأحرى إلى آلاف "الدَّايات" اللائى يُحَقِّقْنَ مختلف خطوات وتدابير هذه الثورة القصيرة الأمد والمرتبطة بالاستيلاء على السلطة السياسية وبكل ممارساتها وإجراءاتها وأعمالها وبهجومها ودفاعها ضد الحروب الداخلية والخارجية عليها، فإن الثورة الاجتماعية الطويلة الأمد بالضرورة تحتاج عبر عقودها الطويلة وربما قرونها إلى ملايين ومليارات "الدَّايات" لتحقيق مختلف خطوات مختلف جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والمقصود من وراء كل هذه المجازات باختصار هو أن الثورة الاجتماعية الطويلة العمر هى الأساس وأن الضربات واللحظات والأزمات العنيفة إنما تمثل بعض وسائلها وبعض نتائج تراكماتها وبعض أسباب نجاحاتها أو نكساتها. ولا يعنى نضج الثورة الاجتماعية فى رحم مجتمع قديم أنْ تكون قد حققتْ، قبل الثورة السياسية العنيفة أو قبل تحوُّلها الكامل إلى نظام اجتماعىّ، كل إمكاناتها الكامنة وكل ما هو موجود فيها بالقوة. ذلك أن الثورة الاجتماعية عملية متواصلة قبل وبعد لحظاتها "الثورية"، وحتى عندما تصير هذه الثورة نظاما اجتماعيا من حيث الكثير من عناصرها ومكوِّناتها قبل الثورة السياسية، أو من حيث كل عناصرها ومكوِّناتها بعد ذلك، فإننا لا نكون إزاء نظام اجتماعىّ مغلق إذ إن هذا النظام تتعدد وتتنوع مستوياته وفترات ومراحل تطوره وانتكاساته وأزماته وازدهاراته؛ إلى أنْ تُولَد بداخله وتتطور وتنضج ثورة اجتماعية لاحقة بكل حلقاتها الضرورية قبل الثورة السياسية الحاسمة والمزيد من نضج وتطوُّر الثورة الاجتماعية وبالتالى اكتمال تشكُّل وتكوين نظام اجتماعىّ جديد. وقد يحتاج الأمر إلى ثورة سياسية أو حتى ثورات سياسية عنيفة متعددة وقد لا يحتاج إليها أصلا كما تدلّ نماذج عديدة للانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية (ويتمثل النموذج الأصلى لهذا الانتقال ليس فى استيلاء برچوازية صاعدة على السلطة السياسية بعد تطور تراكمىّ للرأسمالية بقيادتها بل فى "تَبَرْچُز" الطبقة العليا الحاكمة اليونكرية الطراز أىّ فى تحوُّلها إلى برچوازية ورأسمالية كما حدث على سبيل المثال فى پروسيا والياپان).
ومن البديهىّ أن هذه العمليات لا تتمّ فى المختبر وأنها لا تتمّ فى عزلة بل تتشابك فيها شروط وأوضاع داخلية وخارجية، بنيوية وظرفية، لأنها تجرى فى هذا البلد أو ذاك وفى الوقت نفسه فى العالم وأيضا فى التاريخ بالمكوِّنات التزامنية والتعاقبية لهذا الأخير.
ومن الجلىّ هنا أنه لا يمكن لمفكر جادّ أنْ ينكر وجود الثورة الاجتماعية طوال تاريخ البشر؛ لأن مجرد التسليم بوجود نظم اجتماعية اقتصادية متعاقبة يعنى التسليم بالانتقالات التى أوجدتْها، فهذه الانتقالات إنما هى الثورات الاجتماعية ذاتها والتى قد تحتاج أو لا تحتاج إلى لحظات أو ضربات أو ثورات سياسية عنيفة. ولاجدال فى الوقت نفسه فى أن نماذج أو أنماط أو أنواع أو أشكال الثورات الاجتماعية بالغة التنوُّع فلا سبيل إلى إنكار اختلاف الثورات العبودية عن الثورات الإقطاعية عن الثورات الرأسمالية ولا إلى إنكار اختلاف الثورات العبودية فيما بينها والإقطاعية فيما بينها والرأسمالية فيما بينها. وصحيح أن أوجه تماثل الثورات الرأسمالية فيما بينها وحتى النظم الرأسمالية فيما بينها قائمة دون شك غير أن هذه الثورات الرأسمالية والنظم الرأسمالية (المتطوِّرة: أىْ التى تستحق هذه التسمية عن جدارة) تقدِّم لنا لوحة بالغة التنوع فى أشكال وألوان وخصوصيات تحقيقها ووجودها بعيدا عن كل تطابق ولكنْ بعيدا أيضا عن الاختلاف الجوهرىّ فى الخصائص الأساسية التى تجعلها ثورات رأسمالية ورأسماليات. ولا يتَّسع المجال هنا لمقارنات بين أشكال تحقيق ثورات اجتماعية تنتمى إلى نفس النظام الاجتماعىّ الواحد (مثلا: الإقطاع اللاتينىّ-الجرمانىّ والإقطاع الشرقىّ) أو إلى نُظُم اجتماعية مختلفة (مثلا: نظام العبودية المعمَّمة الفرعونىّ والنظام الرأسمالىّ الأمريكىّ).
ويركِّز المؤرخ الأمريكىّ للثورة الفرنسية كرين برينتون Crane Brenton فى كتابه المهم "تشريح الثورة" The Anatomy of Revolution, Vintage Books, New York, 1965، على التماثلات أو أوجه التماثل uniformities بين أربع ثورات كبرى فى العصر الحديث: الثورة الإنجليزية (1688)، والثورة الأمريكية (فى ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر)، والثورة الفرنسية (1789)، وثورة أكتوبر الروسية (1917). ولا يقول هذا المؤلف بوجود أىّ تطابق فما يطرحه هو التماثل مع أخذ التنوُّع فى الاعتبار، ومتأثرا بعمق بكتاب توكڤيل يجعل هذا المؤلف "الثورة" امتدادا لما قبلها على حين أن ما بعدها امتداد لها. ويقول برينتون: "منذ وقت طويل أوضح توكڤيل أن الثورة الفرنسية جاءت لتكمل عمل صف طويل من ملوك فرنسا، لجعل السلطة الممركزة [أو: المركزية] فى فرنسا فعالة ومكتملة" (page 239). ويجعل هذا المؤلف بعض التعابير التى نشأتْ فى سياق بعض الثورات قابلة للامتداد إلى ثورات أخرى (مثلا: تعبير "النظام القديم" و "التيرميدور")، وينقل تعبير "النظام القديم" من الثورة الفرنسية إلى غيرها من الثورات بلفظه ومحتواه: "من فرنسا جاءت عبارة ’النظام القديم‘. وهى تشير، عند تطبيقها على تاريخ فرنسا، إلى طريقة حياة ثلاثة أو أربعة أجيال سابقة لثورة 1789. ولعلّ مما يحقّ لنا أنْ نَمُدّ استعمالها لِنَصِفَ بها المجتمعات المتنوعة التى نشأتْ منها ثوراتنا" (page 27). على أن أىّ استعادة لاحقة للنظام الملكىّ لم تكن تعنى مطلقا استعادة ما دمرتْه ثورة 1789 من ذلك "النظام القديم" السابق عليها، ويستشهد بقول مأثور فرنسىّ: "Toute restauration est révolution" [كل استعادة ثورة]، (page 225).
وينتج عما سبق بصورة منطقية تماما أن الثورة الرأسمالية ليست شيئا آخر سوى تشكُّل ونموّ وتطوُّر وتكوُّن الرأسمالية فى رحم الإقطاع وداخل نطاق إطاره الاجتماعىّ وبالأخص فى أواخر عهده أولا ثم المزيد من هذه العمليات التطورية مع تفسُّخ النظام الإقطاعىّ والمزيد والمزيد من تفسُّخه أىْ دون أنْ تظلّ هذه الرأسمالية داخل محيط إقطاعىّ خالص بل فى إطار أوضاع انتقالية، وقد تأتى الضربات السياسية البرچوازية والشعبية مبكرا وقد تأتى بعد تقدُّم ونضج هذه العملية الرأسمالية وقد لا تأتى أبدا، وفى نهاية المطاف نجد أنفسنا وجها لوجه أمام نظام رأسمالىّ مستقر مهما اشتمل على بقايا للإقطاع أو لأشكال إنتاج سابقة للرأسمالية أو على تشكُّلات جنينية أو مكتملة نسبيا للنظام الاجتماعىّ اللاحق منطقيا أو تحليليا للرأسمالية ذاتها ألا وهو النظام الاشتراكىّ. على أن النظام الرأسمالىّ الذى كان محصلة لذلك التطور الطويل الأمد لا ينغلق باكتماله ونضجه واستقراره، ولا ينكفئ على نفسه، بل تتمّ داخل نطاقه تطورات وثورات علمية ومعرفية وتقنية وتحديثية وغيرها بكل نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبكل هذه الأشياء يعيش النظام الرأسمالى "حياته الطبيعية"، على أن تناقضاته لا تكفّ بدورها عن النموّ والتفاقم مما يقودها فى الأمد الطويل على طريق الركود المزمن والتفسُّخ والانهيار والموت أمام احتمالين كبيرين متناقضين: الاشتراكية أو البربرية. على أن تشكُّل وتكوين وتطوُّر النظام الاجتماعىّ الاشتراكىّ داخل نطاق هذه الرأسمالية هى الأشياء التى تنقذ البشر من الهلاك وتهزم البربرية وتفرض الاشتراكية وليس  أطيافها وأوهامها الجميلة كما فعلتْ الثورات "الاشتراكية" التى شهد القرن العشرون لحظة ميلاد ولحظة موت كل منها .
الثورة الرأسمالية إذن هى الرأسمالية منظورا إليها من زاوية عمليات تطورها قبل وبعد الثورة السياسية وإلى أنْ يتمّ استقرارها كمحصلة لهذه العمليات فى نظام اجتماعىّ؛ فهل حدث أن هذه العمليات المترابطة لتطور الرأسمالية كانت قد قطعتْ أشواطا طويلة بالفعل قبل ثورة 1789؟
الواقع أن توكڤيل يسرد فى حدود التفصيل الملائم لموضوع كتابه قدرا هائلا من الوقائع والتطورات التى تُثْبِت مسيرة فرنسا، مثل باقى أوروپا الغربية، فى طريق الحضارة الجديدة أىْ الرأسمالية، والتى تكشف واقع العقبات والعراقيل والحواجز والكوابح التى تعترض طريق تلك المسيرة والتى تتمثل فى بقايا الإقطاع بكل أعبائها على الشعب والنظام الملكىّ بكل فساده واستبداده واضطهاده لكل الطبقات. وهو لا يصف لنا نظاما إقطاعيا خالصا اندلعت ثورة 1789 للقضاء عليه وتسليم السلطة للبرچوازية، بل يصف لنا هذا النظام الانتقالىّ الذى يسميه "النظام القديم" ويعتبره الثورة الأولى ويخصص له كتابه تاركا مهمة مناقشة الثورة الثانية أىْ ثورة 1789، بمراحل نتائجها اللاحقة، لكتاب كان يتمنَّى أنْ يعيش ليكتبه ولكنْ وافتْه المنية قبل ذلك فلم يترك منه سوى قليل من الفصول المكتملة (فصليْن بالذات) وكثير من المخطوطات وهى كلها مطبوعة ومتاحة على كل حال.
ولا يتسع المجال هنا لسرد تفاصيل الوقائع التى تُثْبِت أن النظام القديم لم يكن نظاما إقطاعيا خالصا بل كان مجتمعا انتقاليا يتجه إلى الرأسمالية بخطى حثيثة، ولهذا سأكتفى ببعض الإشارات القليلة: كانت القنانة التى هى شكل الاستغلال الإقطاعىّ بامتياز قد اختفت تاركة مجرد بقايا وكان الفلاح كمالك عقارىّ صغير قد نشأ وصار واقعا أساسيا مع أن البقايا والحقوق والامتيازات الإقطاعية كانت ما تزال ثقيلة الوطأة على السكان فى الأرياف فى المحل الأول؛ وفى سياق مناقشته الرائعة لتماثل الفرنسيِّين من مختلف الطبقات باستثناء الفلاحين على وجه الخصوص يعود توكڤيل بهذه الظاهرة إلى أصلها الاجتماعىّ الاقتصادىّ: الإفقار المتواصل للنبلاء وهم كبار الملاك العقاريِّين والعمود الفقرىّ للإقطاع وبالتالى هبوطهم، من جهة، والثروة المتزايدة للبرچوازيِّين وبالتالى صعودهم، من الجهة الأخرى؛ وهناك تطور الصناعة والارتفاع المتواصل لعدد المصانع والمعامل والأفران العالية وكذلك اتساع نطاق التجارة والسوق والعلاقات السلعية النقدية فى المدن وتركُّزها فى پاريس، بالإضافة إلى الإصلاحات فى أساليب الزراعة والرىّ والنقل الواسع النطاق للسلع الزراعية؛ وبالتالى بروز طبقة واسعة من رجال الأعمال فى كافة القطاعات الاقتصادية، من جهة، وبروز طبقة واسعة من العمال، من الجهة الأخرى؛ وفى سياق مناقشته البالغة العمق لمسألة المؤسسات التى كان يُعْتَقَد خطا أنها من منجزات الثورة على حين أن الحقيقة أنها من منجزات النظام القديم حيث تتجلَّى بوضوح وجوه مختلفة لوجود هذه المؤسسات التى تحقِّق الأسس التشريعيَّة التى تلائم المجتمع الجديد بحكم تماثلها وتوحيدها بعيدا عن الامتيازات وتنوُّع القوانين العرفية، من جهة، والتى تقدِّم الجهاز القانونىّ للديكتاتوريات اللاحقة، من الجهة الأخرى، ... فى هذا السياق يركِّز توكڤيل على المركزة التى يصفها بأنها "ليست أبدا إنجازًا للثورة. وعلى العكس من ذلك فإنها نَتَاجٌ للنظام القديم وأضيف أنها الجانب الوحيد الذى بقى بعد الثورة من البناء السياسى للنظام القديم، لأنها كانت الجانب الوحيد الذى استطاع أنْ يتوافق مع الوضع الاجتماعىّ الجديد الذى خلقتْه الثورة". كما يؤكد أن الثورة الأولى التى أنجبتْ كل الثورات الأخرى إنما تتمثل فى المركزة الإدارية والسلطان المطلق ﻟ پاريس (التى كانت عاصمة فرنسا ثم صارت سيِّدة فرنسا ثم انتهت إلى أنْ تكون فرنسا ذاتها).
والحقيقة أن كون "النظام القديم" (أو: العهد البائد) يمثل الثورة الأولى على حين تمثل ثورة 1789 الثورة الثانية لا يعنى أن هذا المفكر السياسىّ يقلِّل من أهمية هذه الثورة الثانية، فقد قامت بالفعل باعتبارها ثورة جذرية بدور كبير بجوانبه المجيدة والسلبية: "ورغم أن النظام القديم لا يزال قريبا جدا منَّا، إذْ إننا نلتقى كل يوم برجال مولودين فى ظل قوانينه، فإنه يبدو الآن أنه غرق فى ليل العصور. والحقيقة أن الثورة الجذرية التى تفصلنا عنه قد أحدثت تأثير قرون: لقد حجبتْ كل ما لم تدمره". وكما يعلم الجميع فقد أزالت هذه الثورة عقبات كبرى من طريق التطور الرأسمالىّ، ومن ذلك تحرير الفلاحين من الالتزامات الإقطاعية (مراسيم أغسطس 1789)، وإلغاء الحقوق والالتزامات الإقطاعية دون تعويض (مايو-يونيو 1794)، ومصادرة أراضى الكنيسة (مرسوم نوڤمبر 1789)، والإطاحة بالملكية (10 أغسطس 1792)، وإعلان الجمهورية (21 سپتمبر 1792). ولسنا هنا بالطبع إزاء تأميم الأرض وتوزيعها على مَنْ يُفلحونها بل نحن إزاء بيع أراضٍ جرتْ مصادرتها ولكن الفلاحين الشارين لم يكونوا يملكون الأرض للمرة الأولى فالملكية العقارية الصغيرة للفلاح كانت ظاهرة قديمة فى فرنسا كما سبق أن رأينا، ويقول توكڤيل: "الثورة باعت كافة أراضى الكنيسة وجانبا كبيرا من أراضى النبلاء؛ غير [....] أن أغلب هذه الأراضى قام بشرائها أناس كانوا يمتلكون أراضى أخرى بالفعل". ولأن الثورة الفرنسية قضَّتْ مضاجع ملوك أوروپا فقد فُرِضَتْ على فرنسا حروب متواصلة شنتْها ائتلافات أوروپية عديدة (الأول فى 1791: النمسا وپروسيا؛ الثانى فى 1798-1802: إنجلترا، ومملكة ناپولى، والنمسا، وروسيا، وتركيا؛ الثالث فى 1805: بريطانيا، وروسيا، والنمسا؛ الرابع فى 1806: بريطانيا، وپروسيا، وروسيا، وساكسونيا، والسويد؛ الخامس فى 1809: النمسا وبريطانيا؛ وفى 1814: دخلتْ الجيوش المتحالفة پاريس؛ وبعد أسبوع: استعادتْ أسرة البوربون عرش فرنسا؛ وفى 1815: هُزِمَ ناپليون فى واترلو وخسر رهانه الأخير على النصر)، وكل هذا بالإضافة إلى الحروب الناپليونية الشهيرة خارج فرنسا ومنها غزوه لروسيا فى 1812 والأسماء التى لا تُنْسَى لمعاركه الشهيرة وفتوحاته ومنها الحملة الفرنسية على مصر، وبالإضافة إلى قمع الانتفاضات المسلَّحة الداخلية. ورغم أنه قد يكون من المضجر أنْ نسرد أسماء حروب ومعارك وفتوحات معروفة وشهيرة، فقد أردتُ فقط أن أضع جنبا إلى جنب عناوين تكشف مدى العنف الداخلىّ والخارجىّ، الدفاعىّ والهجومىّ، الذى كانت تنطوى عليه الثورة الفرنسية، تلك "الدَّاية" الجبارة التى مارستْ مهنتها المعروفة فى فرنسا وأوروپا والعالم.
ويطرح توكڤيل أسئلة ملحَّة متكررة متواصلة تناولها فى القسم الأول من الكتاب بفصوله الخمسة، وهذه الأسئلة هى: "ماذا كان الموضوع الحقيقى للثورة؟ وما هى طبيعتها الخاصة فى نهاية المطاف؟ ولماذا على وجه التحديد تم القيام بها؟ وماذا حققتْ؟". وهو يفنِّد الأحكام المتناقضة عن الثورة مُبَيِّنًا أن موضوعها لم يكن تدمير السلطة الدينية المسيحية ولا إضعاف السلطة السياسية وأنها كانت ثورة سياسية وإنما اتخذتْ مظهر الثورات الدينية بحكم طابعها الفكرىّ العالمىّ وتبشيرها بمبادئ تنسجم مع روح العصر، أما ما حققتْه الثورة الفرنسية بالفعل فقد تمثل فى كونها تكملة لعمل طويل سابق عليها وبدونها كان يمكن أنْ يتحقق هذا العمل ذاته بصورة تراكمية تدريجية طويلة لاحقة لما كان النظام القديم قد أنجزه بالفعل: "ومهما كانت الثورة جذرية فإنها مع ذلك جدَّدَتْ أقلّ كثيرا مما يُفترض عادة: سأوضح هذا فيما بعد. وما يصحّ قوله عنها هو أنها دمَّرتْ بالكامل أو بسبيلها إلى أنْ تدمِّر (ذلك أنها ما زالت مستمرة) كل ما كان يتفرَّع، فى النظام القديم، عن المؤسسات الأريستقراطية والإقطاعية، كل ما كان يرتبط بها بطريقة ما، كل ما كان يحمل منها، بأية درجة كانت، أدنى سمة. وهى لم تحتفظ من العالم القديم إلا بكل ما كان دائما غريبا على هذه المؤسسات أو استطاع أنْ يوجد بدونها. والحقيقة أن الثورة لا يمكن وصفها أبدا بأنها حدث عرضىّ. وصحيح أن الثورة أخذتْ العالم على غِرَّة ومع ذلك فإنها لم تكن سوى تكملة لعمل أطول، النهاية المفاجئة والعنيفة لعمل ظلت تمارسه قبل ذلك على مدى عشرة أجيال من البشر. ولو لم تقع الثورة ما كان لذلك أنْ يمنع انهيار النظام الاجتماعى الهَرِم، هنا أسرع، وهنا أبطأ؛ كل ما فى الأمر أنه كان سيواصل الانهيار قطعة قطعة بدلا من التداعى دفعة واحدة. والحقيقة أن الثورة حققت على نحو مباغت، عن طريق محاولة مفاجئة ومؤلمة، وبدون انتقال، وبدون تحفُّظ، وبدون احتياط، ماكان سيتحقق قليلا قليلا من تلقاء نفسه فى الأمد الطويل. وكان ذلك هو العمل الذى حققتْه".
وهنا تبرز مسألة بالغة الأهمية يدَّخرها توكڤيل للقسم الثالث بفصوله الثمانية: لماذا إذن سارت فرنسا فى طريق الثورة العنيفة؟ ولماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية التى كانت تشترك معها فى نفس مسيرة الحضارة الرأسمالية الحديثة، من جهة، والتى كانت شعوب بلدان منها (ألمانيا بالذات) تعانى معوقات الامتيازات والحقوق الإقطاعية والمَلَكِيَّة وبقايا القرون الوسطى بصورة أشدّ وطأة بما لا يُقاس؟
ولعلّ من الجلىّ أن التقاطع بين مجموعة من الشروط الموضوعية والذاتية هو الذى رشَّحَ فرنسا لذلك الحدث الكبير، لاندلاع ثورة 1789 منها: ضعف الإقطاع، ضعف القنانة، إفقار وتدهوُر النبلاء، تطوُّر المِلْكِيَّة العقارية الفلاحية، نموّ الصناعة والزراعة والعلاقات السلعية النقدية، تبلوُر طبقة برچوازية من رجال المال والأعمال، تبلوُر طبقة عمالية واسعة، الثورة الفكرية والأدبية وبروز الفلاسفة والمفكرين والأدباء كقيادة سياسية للشعب، ازدياد الشعور بوطأة الامتيازات والحقوق الإقطاعية والنفور الشديد منها ومن الإقطاع الدينىّ بحكم هذه التطورات التقدمية ذاتها، التهاب كراهية اللامساواة والرغبة فى الحرية، الاندفاع الثورىّ الناتج عن كل هذا، ونستطيع أنْ نقرأ توكڤيل مباشرة وهو يبسط تقاطع واندماج هذه الشروط:
"وإذا أخذنا فى الاعتبار أنه إنما حدث بيننا نحن [الفرنسيِّين] أن النظام الإقطاعىّ كان قد فقد كل ما كان يمكن أنْ يحميه أو يخدمه، دون أنْ يغيِّر ما كان يزعج أو يضايق فيه، سنكون أقل دهشة إزاء واقع أن الثورة – التى كان عليها أن تُلغى بعنف هذا التكوين العتيق لأوروپا – انفجرتْ فى فرنسا وليس فى أىّ مكان آخر.
"وإذا نحن التفتنا إلى واقع أن النبلاء، بعد أنْ فقدوا حقوقهم السياسية القديمة، وكفُّوا، أكثر مما شهد أىّ بلد آخر فى أوروپا الإقطاعية، عن أنْ يديروا ويقودوا السكان، كانوا مع ذلك لم يحافظوا فقط على (بل زادوا كثيرا من) امتيازاتهم المالية ومغانمهم التى تمتَّع بها أعضاء هذه الطبقة بصفة فردية؛ وإذا التفتنا إلى واقع أنهم مع تحوّلهم إلى طبقة ثانوية ظلوا يشكلون طبقة ثرية ومغلقة: بصورة أقل فأقل أريستقراطية، كما سبق أنْ قلتُ فى موضع آخر، وبصورة أكثر فأكثر طبقة مغلقة، فإنه لن يدهشنا بعد ذلك واقع أن امتيازاتهم تبدو غير قابلة للتفسير وبغيضة بالنسبة للفرنسيِّين، وواقع أنه فى مواجهة هذه الامتيازات تأجَّج الميْل الديمقراطىّ فى قلوبهم إلى حد أنه ما يزال يشتعل فيها.
"وأخيرا، إذا أخذنا فى الاعتبار واقع أن هؤلاء النبلاء، منفصلين عن الطبقات المتوسطة، التى كانوا قد طردوها من بينهم، ومن الشعب الذى  كانوا قد خسروا قلبه، صاروا معزولين تماما عن بيئة الأمة، فكانوا فى الظاهر طليعة جيش، وفى الواقع هيئة من الضباط بلا جنود، فإننا نفهم كيف أنه، بعد أنْ كانوا متماسكين على مدى ألف عام، صار من الممكن الإطاحة بهم خلال ليلة واحدة".
ويشير إلى الميْليْن الكبيريْن اللذين كانا يدفعان الرِّياح بقوة لتملأ أشرعة الثورة فى ذلك المكان (فرنسا) وفى ذلك الزمان (1789): الرغبة فى المساواة والرغبة فى الحرية، ويقول:
"وقُرْبَ نهاية النظام القديم، كان هذان الميْلان خالصيْن بنفس القدر وكانا يبدوان مُفْعَمَيْن بنفس القدر. وفى بداية الثورة، تلاقيا؛ واختلطا عندئذ وامتزجا للحظة، وأجَّج كل منهما الآخر بالاحتكاك، وأخيرا ألْهَبا فى آنٍ واحد معا كل قلب فرنسا. ولاشك فى أن عام 1789 كان زمن انعدام الخبرة، ولكنْ زمن السخاء، والحماس، والرجولة، والعظمة: زمن الذكرى الخالدة، التى سوف تستدير إليها بإعجاب وباحترام أنظار البشر، عندما سيكون قد اختفى منذ وقت طويل أولئك الذين شهدوها ونحن أنفسنا. عندئذ كان الفرنسيون فخورين بقضيتهم وبأنفسهم بما يكفى لاعتقادهم بأنه كان بمستطاعهم أنْ يكونوا متساوين ومتمتعين بالحرية. ووسط المؤسسات الديمقراطية، أقاموا مؤسسات حرة فى كل مكان. ولم يقوموا فقط بهدم هذا التشريع البالى الذى كان يقسِّم البشر إلى فئات مغلقة، وإلى طوائف، وإلى طبقات، والذى كان يجعل حقوقهم أكثر لامساواة أيضا من أوضاعهم، بل قاموا أيضا بضربة واحدة بتدمير كل القوانين الأخرى، الأعمال الأحدث للسلطة الملكية، التى جرَّدتْ الأمة من التمتُّع الحرّ بحياتها، ووضعتْ الحكومة إلى جانب كل فرنسىّ، لتكون معلِّمه، والوصىّ عليه و،عند الضرورة، مُضْطَهِدَهُ. ومع الحكومة المطلقة، سقطتْ المركزة".
وهناك مسألة دقيقة يطرحها توكڤيل ويعيد طرحها المرة تلو المرة: المفارقة المتمثلة فى التناقض بين ما أراد الفرنسيون أنْ يحققوه عندما قاموا بثورة 1789 وما حققوه بالفعل، بين الهدف المنشود والمحصلة. وبكلمات توكڤيل: "قام الفرنسيون، فى 1789، بأكبر محاولة كرَّس لها شعب نفسه فى يوم من الأيام، ليُحْدثوا، إنْ جاز القول، انقطاعا فى خط مصيرهم، وليحفروا هوة يفصلون بها بين ما كانوه إلى ذلك الحين وما أرادوا أنْ يكونوه منذ ذلك الحين فصاعدًا. وبهذا الهدف، اتخذوا كافة أنواع الاحتياطات لئلا ينقلوا شيئا من الماضى إلى وضعهم الجديد: لقد فرضوا على أنفسهم قيودا من كل نوع لكىْ يعيدوا تشكيل أنفسهم بصورة تختلف عما كان عليه أجدادهم؛ وباختصار فإنهم لم ينسوا شيئا من شأنه محو سماتهم المميزة السابقة"، ويعلِّق على هذا بقوله: "وقد اعتقدتُ دائما أنهم كانوا أقل نجاحا بكثير فى هذا المشروع الفريد مما كان يُفترض فى الخارج ومما افترضوه هم أنفسهم فى بداية الأمر. وكنت مقتنعا بأنهم، دون أنْ يدروا، احتفظوا من النظام القديم بأغلب ميوله، وعاداته، وحتى بالأفكار التى قادوا بها الثورة التى دمرته، كما كنت مقتنعا بأنهم، دون رغبة منهم استخدموا هذه الأنقاض لتشييد صرح المجتمع الجديد".
ومن الجلىّ أن طرح المسألة بهذه الطريقة يكشف عن تناقض عميق للغاية ومنطقىّ للغاية بين الحلم الذى يُلْهِب الشعوب إبان الثورات وفى فترات الإعداد لها وفى فترات أولى تالية لانتصارها، من ناحية، والإدراك الواعى للمحتوى الحقيقىّ لهذه الثورات، من الناحية الأخرى. وكانت ثورة 1789، كما رأينا، رأسمالية من حيث محتواها، وبالتالى رأسمالية من حيث قيادتها وأهدافها ورسالتها التاريخية وأداة كبرى لتحقيق النظام الاجتماعىّ الاقتصادىّ الرأسمالىّ، والمجتمع الرأسمالىّ، والاستغلال الرأسمالىّ، والاستبداد الرأسمالىّ، فلا عجب إذن فى أنْ يعانى الفرنسيون فى نهاية المطاف استغلاله وقهره بعيدا عن الحرية والمساواة والإخاء التى كانت شعارات تعبئة البشر الذين كانوا وقود الثورة، ولا عجب إذن فى أنْ يصطدم الحلم القائم على الأوهام بالواقع العينىّ الوحشىّ الذى يتحقق بتراكم "طبيعىّ" فى غاية "البراءة"! ولا يعنى هذا أبدا التقليل مما حققتْه الثورة بالفعل، فقد كانت من الأدوات التاريخية الكبرى لرفع الشعب الفرنسىّ إلى مستوى الحضارة الرأسمالية، فهذه الحضارة مرحلة كبرى للصيرورة التاريخية المتصاعدة إلى الأمام مهما بلغتْ وحشيتها ضدّ "مواطنينها" وضد "الآخرين" جميعا، فهى لا تملك بحكم طبيعتها إلا أنْ تكون وحشية، وهل يملك البشر طريقا آخر إلى تحقيق إنسانيتهم الكاملة سوى طرق الآلام والوحشية؟
و توكڤيل، الذى يرثى بكل هذا الحنين زمن الثورة وأحلام وسخاء وتضحيات مَنْ قاموا بها، لا تساوره هو نفسه أىّ أوهام فهو يعلم جيدا (بل هو المكتشف لواقع) أن الفرنسيِّين إنما قاموا بتشييد صرح مجتمعهم الجديد باستخدام أنقاض "الثورة الأولى" أىْ "النظام القديم"، وإذا كانت ثورة 1789 ما تزال مستمرة فى زمنه، كما يقول، فإن تلك "الثورة الأولى" (أىْ "النظام القديم") هى التى كانت مستمرة إذن. وقبل أنْ أستأنف مناقشة هذه النقطة من حيث أبعادها وبالأخص من حيث مغزاها الراهن، أودّ أنْ أشير إلى أننى، خشية الإطالة فى هذا التقديم، تفاديتُ الوقوف عند القسم الثانى من الأقسام الثلاثة لهذا الكتاب، وهو القسم الأكبر بفصوله الاثنى عشر وهو بالذات المخصَّص لدراسة الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، وسيجد القارئ فى تلك الفصول شرحا معمَّقا لطبيعة "النظام القديم" الذى تمثلتْ الرسالة التاريخية للثورة فى تحريره من القيود والأغلال المَلَكِيَّة والإقطاعية والقروسطية لكىْ يندفع كمجتمع رأسمالىّ، بلا نعوت أخرى، كما يُقال، إلى الأمام. كما أن القارئ سيجد عونا حقيقيا فى استيعاب المحتوى البالغ الخصوبة لهذا الكتاب بكل أقسامه وكذلك هذا القسم الثانى من التحليل العميق الذى يقدِّمه فرانسوا فيريه François Furet و فرانسواز ميلونيو Françoise Mélonio، وهما حُجّتان فى الدراسات التوكڤيلية، فى مقدمتهما لترجمة إنجليزية حديثة لكتاب توكڤيل هى ترجمة آلان س. كاهان Alan S. Kahan طبعة The University of Chicago Press, London, 1998، وهى بالمناسبة ترجمة دقيقة وممتازة لنصّ توكڤيل، بالمقارنة مع ترجمات إنجليزية أخرى مثل ترجمة ستيوارت جيلبيرت Stuart Gilbert، البليغة ولكنْ التفسيرية وبالتالى غير الدقيقة تماما (1955)، وترجمة چون بونَّر John Bonner (نيويورك، 1856، أىْ فى نفس عام ظهور الأصل الفرنسىّ). ويوضح فيريه و ميلونيو أن القسم الثانى والرئيسىّ من كتاب توكڤيل يركز على المجتمع الفرنسىّ الأقدم فى سبيل استكشاف الاختلاف بين الأحداث فى فرنسا والتطور العام لأوروپا، ويبحث أصول الثورة الفرنسية خاصة فى أوروپا، ويؤكدان أن الفصول الاثنى عشر للقسم الثانى تشتمل على 6 فصول (2-7) تركِّز على تحليل المركزة الإدارية باعتبارها السمة المميِّزة للنظام القديم، و 4 فصول (8-11) تركِّز على نتائج هذه الظاهرة على حالة المجتمع، على حين يبحث الفصل الأول الحقوق الإقطاعية فى فرنسا فى ذلك الزمن، ويبحث الفصل الأخير (12) تدهور حالة الفلاحين خلال القرن الثامن عشر كاشفا مدى التَّوْق إلى الخروج من هذا البؤس إلى العدالة والمساواة والحرية. ويؤكد هذان الكاتبان أن النظام القديم، عند توكڤيل، لا يعنى حالة اجتماعية بل أزمة حالة اجتماعية، ليس المجتمع الإقطاعىّ أو الأريستقراطىّ القديم بل فترة متأخرة لهذا المجتمع عندما صار ممزَّقا بالمبادئ المتناقضة، وانفصال النظام المدنىّ عن النظام السياسىّ، واللامساواة المدنية (بقايا الإقطاع أو ما أعادت الأريستقراطية اختراعه)، والمساواة السياسية (تَساوِى الجميع فى الخضوع للملك). ويؤكدان على هذا الأساس أن فرنسا هى التى اندلعتْ فيها الثورة لأنها كانت قد بدأتْ فيها بالفعل، مختفية وراء اسم "النظام القديم"، أىْ أن "النظام القديم" كان يمثل الثورة الأولى قبل الثورة، كما يؤكدان أن توكڤيل يطبق تسمية "النظام القديم" على فترة الحكم المطلق أىْ المركزة الإدارية، وأن هذا يعنى أن الصيغة الثورية كان لها واقع تاريخىّ على مدى فترة قصيرة نسبيا فقط، تمتدّ من عهد لويس الثالث عشر (ملك فرنسا: 1610-1643) إلى عهد لويس السادس عشر (ملك فرنسا: 1774-1791)، أىْ على مدى أكثر من قرن.
ولكىْ نستأنف فإنه لا مناص من أنْ نكرِّر باختصار: الثورة هى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر وقد تحتاج فى فترة من فترات تطوُّرها إلى ثورة سياسية عنيفة بطبعها فى مواجهة المقاومة الداخلية (الحروب الأهلية) والخارجية (الحروب الدفاعية والهجومية)، ويجب أنْ يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من الحروب الداخلية والخارجية قد تجلبها تطورات بنيوية وظرفية، داخلية وخارجية، عسكرية واقتصادية، قانونية وپوليسية، ويكفى التوقف قليلا عند بعض التراكمات البدائية لنرى مدى وحشيتها داخل وخارج الحدود بل إن الحرب تكاد تكون شكلا نموذجيا كشرط من الشروط الموضوعية للانتقال مثلا من العبودية إلى الإقطاع وهل يمكن فصل الغزوات الشمالية البربرية للإمپراطورية الرومانية كشرط حاسم من الشروط الموضوعية لانتقال أوروپا من العبودية إلى الإقطاع جنبا إلى جنب مع عناصر للمجتمع الإقطاعىّ الجديد كانت قد نمتْ فى قلب المجتمع العبودىّ وخلال عمليات تفسُّخه؟ وهل كانت الفتوحات المتواصلة فى شرقنا بعيدة عن الانتقال من النظم القديمة إلى الإقطاع (مثلا فى مصر)؟ وناهيك بالتراكم البدائىّ للرأسمالية فى إنجلترا أو روسيا! والعنف ضرورىّ بنفس القدر للنظام الاجتماعىّ الراسخ المستقرّ: أليست حوليات تاريخ العالم مكتوبة بالدم والحديد والنار وفقا لقول شهير؟!
وهنا نصل إلى نقطة حسَّاسة بالغة الحساسية من الناحية السياسية بالنسبة للماركسيِّين بالذات بكل أنواع ماركسياتهم، ويمكن تلخيصها فى هذا السؤال: إذا طبَّقنا فكرة أن الثورة هى "الدَّاية" التى تساعد بمهنتها المجيدة كل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد على الثورات المسماة بالاشتراكية خلال القرن العشرين، والتى تكشَّفتْ فى النهاية طبيعتها الرأسمالية وأحيانا ما قبل الرأسمالية، فماذا يمكن أنْ نستنتج عن طبيعة تلك الثورات وعن رسالاتها التاريخية وعن "النظام القديم" لكل ثورة منها، وعن طبيعة المجتمع الجديد الذى كان كل مجتمع قديم من تلك المجتمعات حاملا به؟
وهذا السؤال مهمّ لفَهْم حقائق الماضى من أجل استكشاف وُعَود المستقبل. وهناك ردّ سريع ممكن وهو أن المجتمع الروسى القديم مثلا كان حاملا بحفار قبره غير التقليدىّ أىْ الپروليتارىّ وليس الرأسمالىّ أىْ أنه كان حاملا بالأحزاب الشيوعية والمنظمات العمالية والمجالس السوڤييتية. ولا شك فى أن هذا جانب من الحقيقة ولا يستطيع أحد أنْ ينكر هذا الجانب. غير أن المجتمع الروسىّ القديم كان حاملا أيضا بمجتمع جديد مختلف هو المجتمع الرأسمالىّ. وكان هذا أيضا جانبا من الحقيقة لا يمكن أيضا إنكاره، ويكفى الاطلاع على كتاب شهير ﻟ لينين ("تطوُّر الرأسمالية فى روسيا") للتحقُّق منه. وتؤدى المقارنة الموضوعية المتأنية (بعيدا عن الحساسيات الشعبوية والديماجوچية الرخيصة التى لم يَعُدْ لها مبرِّر لأننا لا نقوم بتمزيق جسم حىّ بل نقوم بتشريح جثة) إلى أن الوزن النسبىّ للمكوِّن الرأسمالىّ كان يفوق بلا جدال الوزن النسبىّ للمكوِّن الشيوعىّ أىْ أن حجم التطوُّر الرأسمالىّ كان يفوق بما لا يُقاس حجم النضج الشيوعىّ رغم واقع أن الشيوعيِّين هم الذين استولوا على سلطة الدولة، وهذا أمر لا تستبعده بل تؤكده التطورات المماثلة الكثيرة طوال القرن العشرين. وإذا كنا نجد أمامنا واقع أن المجتمع الروسىّ القديم كان حاملا بجنينيْن لأبويْن مختلفين، بمجتمعيْن جديديْن محتمليْن، وبوزنيْن متباينيْن، فإن هذا من طبيعة الأشياء، وهل كانت الثورة الفرنسية خالية تماما من جنين آخر لا يتمثل فقط فى الجنين الذى كان يمثله الوجود "الموضوعىّ" للطبقة العاملة، بل كذلك فى مستوى بعينه من انتشار الأفكار الاشتراكية التى يُهاجمها توكڤيل بلا هوادة؟ ألم تكن فرنسا بلد المفكر الاشتراكىّ موريللى Morelly (1717-؟) مؤلف كتاب le Code de la Nature [قانون الطبيعة] المطبوع فى 1755؟ خاصة وأن ديدرو و موريللى كانا، فيما يُقال، هما نفس الشخص وأن الكتاب المذكور كان يُنْسَب إلى ديدرو حتى بداية القرن العشرين: ديدرو Diderot (1713-1784) المحرِّر الرئيسىّ للموسوعة (الإنسيكلوپيديا) الشهيرة فى عصر التنوير بكل نفوذه الفكرىّ؟ ألم تكن فرنسا بلد البابوڤية Babouvisme، بلد الثورىّ اليعقوبىّ الجبلىّ جراكوس بابوڤ Gracchus Babeuv (1760-1797) الذى تحولتْ شيوعيته البدائية إلى الممارسة العملية الثورية والذى وضعه ماركس و إنجلس إلى جانب أولئك الذين انطلقوا من "الثورات الحديثة الكبرى"، واهتدوا إلى "صياغة مطالب پروليتارية" (معجم الماركسية النقدى، المذكور أعلاه) (مدخل: "بابوڤية").
وقد اندلعتْ الثورة البلشڤية وسط الدمار الذى أحدثتْه الحرب العالمية الأولى فى روسيا ثم هُوجمتْ من الداخل (الحرب الأهلية) ومن الخارج (التدخل الأجنبىّ) وبالطبع فإن كل هذا أضعف المكوِّن الشيوعىّ والپروليتارىّ الأضعف أصلا فى مواجهة المكوِّن الرأسمالىّ، وعمل لصالح تحقيق المجتمع الرأسمالىّ الذى كان يحمل به المجتمع القيصرىّ، مُضْفِيًا الطابع الرأسمالىّ من الناحية الجوهرية على الدولة والحزب وعلاقات الإنتاج البيروقراطية. وإذا كان من المنطقىّ أنْ نحكم بالنتائج البعيدة المدى لتطوُّر المجتمع السوڤييتىّ فلا مناص من التسليم بأن رأسمالية الدولة هى المحصلة المنطقية للثورة البلشڤية الرأسمالية من الناحية الجوهرية رغم الأفكار والأحلام والمشاعر الاشتراكية والشيوعية التى ناضل بها، وقاتل بها، وتفانَى بها، وضحَّى من أجلها بالأرواح، جيل مجيد من المناضلين الماركسيِّين الثوريِّين.
وقد لحقت بالثورة الروسية ثورات "اشتراكية" أخرى فى أوروپا الشرقية وينطبق على بعضها تقريبا ما ينطبق على الثورة الروسية بفضل تطور حقيقىّ للرأسمالية فيها قبل الثورات، كما لحقت بها ثورات "اشتراكية" فى آسيا وقد كشفت كل محاولات تطبيق نظرية الثورة الدائمة عليها حقيقة أن هذه النظرية أخفقتْ هناك تماما كما أخفقتْ توقعات تروتسكى ولينين وماركس وإنجلس فيما يتعلق بروسيا وبالأخص فيما يتعلق بتفادى بعض مراحل الرأسمالية فيها من خلال استيعاب منجزات الرأسمالية دون مكابدة ويلاتها، كما كان يقول ماركس نفسه.
ولا جدال فى أن التحليل الموضوعىّ للانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ لاحق على مستوى العالم وطوال التاريخ يمكن أنْ يطرح علينا ألغازا كثيرة، نتيجة تشابُكات وتقاطعات وتفاعلات وتناقضات الشروط البنيوية والظرفية، الداخلية والخارجية، لهذه الثورات بصورة بالغة التعقيد، وبالأخص فيما يتعلَّق بتكوين نظام اجتماعىّ جديد فى قلب نظام اجتماعىّ قديم، ولا شك فى أن نشأة وتطور رأسمالية جبارة (بقيادة الحزب الشيوعىّ أيضا) رغم عدم وجود نواة رأسمالية متماسكة سابقة، ورغم وجود حروب داخلية طويلة الأمد وغزوات خارجية شرسة ولكنْ مع وجود تحالف خارجىّ قوىّ كما حدث فى الصين بوقائع عنيدة مثل النواة الرأسمالية المتواضعة، وحرب الأفيون، ووضع شبه المستعمرة، والمسيرة الطويلة، والغزو الياپانىّ، وخاتمة الحرب الأهلية، ولكنْ مع التحالف والتعاون الواسع النطاق لفترة قصيرة نسبيًّا مع الاتحاد السوڤييتىّ السابق، وبالانفتاح الحالىّ على الرأسمالية العالمية، .... لا شك فى أن الحالة الصينية تطرح علينا، على المستوى النظرىّ، مشكلة بالغة التعقيد تتمثل فى تنظيم تشييد الرأسمالية من موادّ وأنقاض قد تبدو عاجزة عن خلق كيان جديد متماسك، من الناحية المنطقية، ولكنْ الذى يتجه إلى قمة الرأسمالية العالمية، من الناحية التاريخية. وياله من دحض (قبل حلّ هذه المشكلة) لمقولة أن ما هو عقلىّ واقعىّ وما هو واقعىّ عقلىّ، أو لمقولة أن ما هو منطقىّ تاريخىّ وماهو تاريخىّ منطقىّ!
فماذا عن مستقبل الثورات الاشتراكية ذات الغاية الشيوعية فى المستقبل؟ هذا هو السؤال الذى يُؤرِّق الماركسيِّين بعد انهيار وتفكك وتهاوى "الاشتراكيات" فى كل مكان وبعد انكشاف طبيعتها الحقيقية الرأسمالية (وما قبل الرأسمالية) بما فى ذلك انكشاف الطبيعة الرأسمالية للصين بقيادة الحزب الشيوعىّ الصينىّ، وهو يطرح نفسه هنا من منظور يحاول استشراف إمكان خلق نظام اشتراكىّ داخل الرأسماليات القائمة الآن فى العالم. غير أن هذا النوع من التفكير قد يبدو، للوهلة الأولى على الأقلّ، غير معقول، بل أقرب إلى الجنون!
ذلك أنه يبدو إلى الآن أن التفكير العقلانىّ يتمثل فى اعتبار المجتمع الاشتراكىّ الذى يُولَد وينشأ ويتطوَّر وينضج فى رحم المجتمع الرأسمالىّ ليس سوى الطبقة العاملة الثورية ونضالاتها النقابية والسياسية بقيادة الحزب الشيوعىّ الثورىّ ونضالها الطويل وتحالفها الطبقىّ فى سبيل انتصار الثورة الاشتراكية والشروع فى بناء الاشتراكية والشيوعية. ويعنى هذا أنْ نكتفى بالوصفة القديمة رغم النتائج الكارثية التى تمخَّضتْ عنها تجارب هائلة استرشدتْ بتلك الوصفة؟
وحتى مع كل التطوير المطلوب لتلك الوصفة التى صارت قديمة فإنها لم تَعُدْ كافية، ويمكن أنْ يؤدِّى النقد العميق لتلك الوصفة إلى إنقاذ جوهرها بدلا من النضالات السيزيفية التى يمكن أنْ يؤدِّى إليها مجرد تكرارها. وقد تشمل اتجاهات تطويرها على التخلِّى عن مجموعة مترابطة من الأفكار والممارسات وإحلالها بأفكار وممارسات أخرى جديدة؛ ومن ذلك ضرورة التخلِّى عن أفكار ثورات أضعف حلقات السلسلة، وبناء الاشتراكية فى بلد واحد بعيدا عن الأممية، ونظريات حَرْق المراحل والثورة الدائمة، والمبالغة فى أهمية الاستيلاء العاجل على السلطة السياسية على أساس إدراك واضح بأن مثل هذه السلطة لا يمكن أنْ تكون أداة حقيقية لبناء الاشتراكية وتحقيق الشيوعية ما لم تكن ثمرة نضال شامل وعميق وطويل فى سبيل انتصار الثورة الاشتراكية، وكذلك التخلِّى عن مجموعة من مبادئ تنظيم الحزب الشيوعىّ مثل المركزية الديمقراطية وخضوع الأقلية للأغلبية والمستوى الأدنى للمستوى الأعلى بالإضافة إلى الابتعاد عن تقديس التنظيم السرى والاستفادة بالوسائل التى يوفِّرها العصر (مثل وسائل الاتصال الجديدة وبالأخص الإنترنت بكل تسهيلاته) وبعض التطورات (مثلا: حزب كذا تحت التأسيس حاليا فى مصر). على أن كل هذا لا يكفى لجعل المجتمع الرأسمالى "القديم" حاملا بمجتمع اشتراكىّ جديد. وهناك فيما أعتقد مجال واسع للاجتهاد الفكرى والممارسة العملية لبناء اشتراكية جديدة وتربية سياسية وفكرية: انطلاقا من القواعد بالاستفادة من الهيمنة بكل أطوارها على الطبقات التابعة والثانوية وإستراتيچية حرب المواقع التى تلائم الغرب فى مقابل إستراتيچية حرب الحركة التى كانت ملائمة لروسيا وفقا لفكر جرامشى؟ بالاستفادة من بناء سلطات اشتراكية محلية من داخل اللعبة الديمقراطية البرچوازية ذاتها مثلما يجرى انتزاع سلطات المحليات ليس فقط فى بعض بلدان أوروپا بل حتى فى البرازيل وغيرها؟ بالاستفادة من تجارب التسيير الذاتى والمناطق المحررة ولكنْ خارج إطارها الأصلىّ أىْ بدون وجود أوضاع مثل أوضاع يوجوسلاڤيا السابقة وبدون وجود مناطق محرَّرة كتلك التى عرفتْها الحروب الشعبية؟ وغير ذلك مما يحتاج إلى اجتهاد ماركسىّ جسور واسع النطاق بعد الشلل الذى أصاب الجميع فى أربعة أركان الأرض، كما يُقال، نتيجة للزلزال السوڤييتىّ وتوابعه؟ وباختصار: هل هناك احتمال لأن "تتخندق" الاشتراكية بالوسائل القانونية من خلال حرب "مواقع" فى قلب المجتمع الرأسمالىّ أم أن موضوع مجتمع رأسمالىّ حامل بمجتمع اشتراكىّ يطرح إطارا معرفيًّا "پارادايم" مختلفا تماما كشرط حاسم للثورة الاشتراكية على كل حال؟ وفى القسم الأول من كتابه الشهير "الثامن عشر من پرومير لويس بوناپرت (Project Gutenberg s The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte, by Karl Marx) يقارن ماركس من زاوية ما بين الثورات البرچوازية والثورات الپروليتارية فيقول: "الثورات البرچوازية، مثل ثورات القرن الثامن عشر، تندفع بسرعة إلى الأمام من نجاح إلى نجاح، وتفوق تأثيراتها المسرحية بعضها البعض، ويبدو فيها الأشخاص والأشياء محاطين بوهج الماس المتألِّق، وتكون النشوة هى المسيطرة؛ غير أن هذه الثورات قصيرة العمر، فهى تصل إلى ذروتها بسرعة، وعندئذ يغرق المجتمع فى نوبة من ردّ الفعل العصيب قبل أنْ يتعلَّم كيف يتكيَّف مع فترة الإثارة المحمومة التى مرَّ بها. أما الثورات الاشتراكية، مثل ثورات القرن التاسع عشر، فإنها على العكس، تنتقد نفسها بصورة متواصلة؛ وتقطع بصورة متواصلة العمل فى مجراها نفسه؛ وتعود إلى ما يبدو أنه تمّ إنجازه، لكىْ تبدأ العمل فيه من جديد؛ وتزدرى بقسوة تامة نصف تدابير، ونواقص، وحقارات محاولاتها الأولى؛ ويبدو لها أنها تصرع خصومها فقط لتجدهم قادرين على أن يستمدُّوا قوة جديدة من الأرض، وينهضوا ضدها من جديد بقامة أضخم؛ وتتراجع خائفة بصورة متواصلة أمام الحجم البالغ الضخامة وغير المحدود لأهدافها هى - إلى أنْ يتحقق فى النهاية خلق ذلك الموقف الذى يجعل كل تراجُعٍ مستحيلا، وتصرخ الأوضاع ذاتها: Hic Rhodus, hic salta [هنا رودس، اقفزْ هنا: صيغة لا تينية مستمدة من الصيغة اليونانية الأصلية الواردة فى إحدى خرافات إيسوپ Aesop؛ وقد شاعت بفضل هيجل و ماركس اللذيْن استشهدا بها بترجمة خاطئة ﻟ "رودس" إلى "الوردة"]".
وكما يؤكد الماركسىّ الفرنسىّ ألبير سوبول Albert Soboul فى محاضرته الواردة فى الكتاب الذى أعدَّه مركز الدراسات والأبحاث الماركسية ﺒ پاريس: Sur le féodalisme, Éditions Sociales, Paris,1974 فإن "توكڤيل لم يُخطئ [باستعمال لفظة féodalité = إقطاع] ولا يمكن الطعن فى شهادة هذا المراقب الثاقب الفكر [...] وبالنسبة له كانت الثورة معادية للإقطاع من الناحية الجوهرية. ولم تتمثل نتيجتها ’إلا فى إلغاء هذه المؤسسات السياسية التى سادت بلا منازع، خلال قرون عديدة، عند أغلب الشعوب الأوروپية، والتى نشير إليها عادة باسم مؤسسات إقطاعية‘، وقد تمثل عملها فى ’تدمير [...] كل ما كان يتفرَّع، فى المجتمع القديم، عن المؤسسات الأريستقراطية، [...] كل ما كان يحمل منها، بأية درجة كانت، أدنى سمة‘".
لقد أغرتنى خصوبة فكر توكڤيل بالتطفُّل على الموضوع المحدَّد لهذا الكتاب، كما يوضِّح سوبول، ولم يكن بوسعى أنْ أتفادى الانجراف بعيدا مع المحتوى الأوسع للكتاب، داعيا إلى استكشاف دروس الكابوس الذى عبر: قيام وانهيار الثورات المسماة بالاشتراكية وإلى استشراف المستقبل بالاستفادة من فكرة توكڤيلية لا تتناقض مع الماركسية، رغم معاداة هذا المفكر السياسىّ العبقرىّ للاشتراكية، بل تتكامل معها، كما رأينا من نصوص ماركس بهذا الشأن. على أن كل هذا لا يستنفد ما يقدِّمه عمل توكڤيل فى هذا الكتاب وفى كتابه المهم السابق "عن الديمقراطية فى أمريكا" De la Démocratie en Amérique، والحقيقة أن تكامل توكڤيل مع الماركسية يتجلَّى فى تحليله الريادىّ لدور الفكر والأيديولوچية والأبنية الفوقية فى المجتمع وبالتالى فى الثورة، هذا الدور الذى سوف يركِّز عليه فلاسفة مدرسة فرانكفورت فى فترتهم الماركسية على حين لم يركِّز عليها ماركس و إنجلس بحكم أولويات بحثهما. ويذكِّرنا هذا بموقف پول سويزى Paul Sweezy، فى كتابه "نظرية التطوُّر الرأسمالىّ" The Theory of Capitalist Development, Modern Reader Paperbacks, New York and London, 1974 إزاء ناقد بارزا ﻟ ماركس وهو لاديسلاوس فون بورتكييفيتش Ladislaus von Bortkievicz (اقتصادىّ روسىّ وإحصائىّ من أصل پولندىّ: 1868-1931) الذى أدرك كامل مغزى قانون القيمة واستخداماته وأرسى الأساس لبرهنة لا سبيل إلى الاعتراض عليها بصورة منطقية على صِحَّة منهج ماركس، مما يجعل من حقه أنْ يُعْتَبَر ليس فقط ناقدا للماركسية بل أيضا مساهما مهمًّا فى النظرية الماركسية (pages 70-71)، بالإضافة إلى تصحيحه لخطأ منهج ماركس  فيما يتعلَّق بتحوُّل القِيَم إلى أسعار، كما يوضِّح سويزى،  (page 115). ويمكن قول الشيء ذاته عن الصلة الوثيقة بين ماركسية جرامشى والفيلسوف المثالىّ والسياسىّ الليبرالىّ الإيطالىّ بينيدتو كروتشه Benedetto Croce  (1866-1952). وناهيك بالعلاقة الوثيقة بين مادية ماركس ومثالية هيجل. فلا غرابة إذن فى أنْ نلاحظ الالتقاء الجوهرىّ بين مفهوم توكڤيل عن الثورة السياسية البرچوازية فى علاقتها بالثورة الاجتماعية البرچوازية، والتصوُّر الماركسىّ عن هاتين الثورتين المترابطتين، ولا غرابة فى محاولة تطبيق نظرية الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر عند ماركس و توكڤيل فى "تكاملهما" المعقَّد بطبيعة الحال على الثورات الاشتراكية الحقيقية والمزعومة.
على أن الاستفادة الكاملة من بصيرة توكڤيل النافذة فى فَهْم الانتقال والنظام السابق واللاحق لا تكتمل إلا ببحث كل أبعاد دراسته النادرة المثال عن الأبنية الفوقية للمجتمعيْن الانتقالىّ والبرچوازىّ وعن دور الفلسفة والفكر والأدب فى الثورة الاجتماعية وعن الطبقات الاجتماعية قبل وأثناء وبعد الثورة من حيث فكرها وتكوينها النفسىّ ومشاعرها وأحلامها ومخاوفها. ويقول توكڤيل إنه لا يتحدث عن أفراد بل عن "طبقات، فهى وحدها يجب أنْ تكون الشغل الشاغل للتاريخ"، كما يؤكد، وهو لا يبحث هذه الطبقات من حيث تكوينها الاقتصادىّ والاجتماعىّ والقانونىّ فحسب، بل يتجاوز كل ذلك إلى علم النفس الجمعىّ من خلال لوحة غنية الألوان والظلال تقدِّم بحثا بالغ الدقة والخصوبة معا عن أفراد ومجموعات مختلف الطبقات حيث يغوص فى أعماق القلوب وأدقّ الميول والأمزجة والمشاعر والأحلام والأوهام والخوف والذعر والخشية والتمنِّى والرغبة والقسوة والوحشية وانعدام الشفقة والحسد والغيرة وروح الانتقام والتضامن الحقيقىّ والكراهية والتربُّص والوشاية، وكل ما يملأ عقول وقلوب ونفوس وصدور البشر الأحياء من لحم ودم فى مباهجهم ومآسيهم الاجتماعية والنفسية، التاريخية واليومية.
وكتاب توكڤيل ليس مديحا للنظام القديم الذى يقوم بتشريحه بمشرط الجرَّاح حيث يفرز بداخله الوعود التقدُّمية الحقيقية للمستقبل والمعوقات التى تتمثل فى البقايا الإقطاعية والقروسطية فى آن معا، كما أنه ليس انتقاما من ثورة 1789 التى يمجِّدها ويحتفى بها ويُقَدِّر مغزاها التاريخىّ التقدُّمىّ ويسجِّل إخفاقاتها وشرورها ومآسيها على المدى الطويل. وبهذا يتجاوز توكڤيل فى وقت واحد إطاره الفكرىّ والسياسىّ المحافظ، من جهة، ومحنته العائليّة مع الثورة، من الجهة الأخرى، إلى أفق أرحب. ذلك أنه، كما نقرأ فى مقدمة ميلونيو لطبعة Flammarion السابقة الذكر لهذا الكتاب، "بالنسبة ﻟ توكڤيل، باعتباره أريستقراطيًّا مناصرا للديمقراطية، لم تكن الثورة الفرنسية ثورة الآخرين، كما أنها لم تكن ثورته هو. كان ما يزال متعلِّقا بالنظام القديم، وكان يريد القبول بالحداثة: موقف حَرِج بين الأمريْن" (page 7). كان توكڤيل أريستقراطيًّا ومرتبطا بإرثه العائلىّ لأنه كان قبل كل شيء "الوريث لاسم، ولدور اجتماعىّ مهيمن، وكان بوجه خاص الوريث لسؤال عن مصير النبلاء فى المجتمع الحديث. وعلى هذا السؤال العائلىّ، الحائر بين الحنين إلى الماضى وقبول الصيرورة التاريخية، لم يقدِّم ردًّا أحادىّ المعنى". وكان والد جده من ناحية الأم، الشهير مالزيرب Malesherbes، صديق الفلاسفة [أُعْدِمَ بالمقصلة فى 1794]، "بعد أنْ دافع عن الشعب أمام الملك لويس السادس عشر، دافع عن الملك لويس السادس عشر أمام الشعب ... مثال مزدوج". كما أن والده إيرڤيه Hervé "كان يشارك فى هذا الولاء المزدوج للشعب والملك، ورغم أنه كان الخادم المتفانى للاستعادة [البوربونية] التى جعلته واليًا préfet ثم نبيل فرنسا pair de france، فقد نشر فى 1847-1850 دراستيْن بروح مونتيسكييه Montesquieu حول أسباب الثورة. واتَّهَمَ فيهما صَمَمَ الملوك إزاء ’روح العصر‘، وتشبُّث طبقة النبلاء بامتيازاتها. ولن يقول الابن شيئا مختلفا". كما أن "العائلة التى عانت بقسوة من عهد الإرهاب، لم تعتنق جميعا ليبرالية التنوير. وكانت أمُّ توكڤيل، التى أنقذها [صعود] التيرميدور Thermidor [وسقوط روبسپيير Robespierre وعهد الإرهاب] من المقصلة، قد أصابها فى هذه المحنة [...] بالتعلُّق، المرضىّ إلى حدٍّ ما، بنظام قديم خيالىّ إلى حدٍّ كبير [...] وكانت تُغَنِّى ﻟ أليكسى الصغير أغانى مأساوية عن موت الملك" (pages 8-9).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
17
النظام القديم والثورة الفرنسية
 
L’Ancien Régime et La Révolution
(عرض للكتاب بمناسبة حفل توقيع بمعرض الكتاب فى 16 أغسطس 2011)
تأليف: أليكسى دو توكڤيل Alexis De Tocqueville
المركز القومى للترجمة  (المشروع القومى للترجمة)، الطبعة الأولى 2010
*****
هذا الكتاب مُترجَم ومنشور قبيل الثورة الشعبية السياسية فى مصر منذ 25 يناير 2011. ولهذا تخلو مقدمتى للكتاب من أىّ إشارة إلى ثورتنا التى جعلت الكتاب مع ذلك كتابا يأتى فى وقته، حيث تثور فى سياق ثورتنا أسئلة ملحة عن الثورة ومفهومها وسياقاتها والنتائج الكبرى للثورات بوجه عام. وهو منشور بعد انقلاب 1952 الشهير بثورة يوليو بقرابة ستين سنة وكان توكڤيل يؤلف كتابه هذا بعد ثورة 1789 الفرنسية الكبرى، بقرابة ستين سنة كذلك. ولم يكن من الممكن أن يتنبأ أحد بهذه الثورة أو تلك حيث يستحيل التنبؤ بالثورات بوجه عام مهما قال قائل أو آخر إن حالة اجتماعية سياسية ما تتجه بأمة أو دولة إلى ثورة لا يعرف موعدها أحد. وكما كان على توكڤيل أن يدرس ويحلل ثورة بلاده بعد ستين سنة علينا أن ندرس ونحلل ثورتنا الآن. والفرق هو أنه كان يقوم بتشريح جثة مهما قال إن تلك الثورة كانت ما تزال مستمرة على حين أن علينا أن نقوم هنا والآن بدراسة ثورتنا فى خضم تطوراتها لكى نسير بها إلى الأمام فى مواجهة أخطار كبرى تتهددها وربما كان الخطر الأكبر يتمثل فى سياقها التاريخى ذاته وفى طبيعتها وفى نتائج الثورات فى العالم الثالث بوجه عام. وأعتقد أن كتاب توكڤيل يقدِّم لنا عونا كبيرا فى هذا المجال رغم أن السياق التاريخى لثورته تختلف جذريا عن السياق التاريخى لثورتنا.
على أن علينا أن نركز هنا على الكتاب نفسه. ويحدد توكڤيل منذ الجملة الأولى فى مقدمته لكتابه طبيعة هذا الكتاب قائلا: "الكتاب الذى أقدمه الآن ليس أبدًا تاريخا للثورة الفرنسية، فذلك التاريخ مكتوب بصورة أروع من أنْ أفكر فى إعادة كتابته؛ إنه بالأحرى دراسة عن هذه الثورة". والحقيقة أن الكتاب دراسة للنظام القديم وليس دراسة للثورة، وكان توكڤيل يخطط للجزء الثانى للكتاب الذى كان عليه أن يدرس الثورة وتطوراتها ونتائجها، غير أن المنية وافته قبل إنجاز هذا المشروع تماما كما توجَّس فى سياق مقدمته قائلا: "وقد تمّ إعداد مسوَّدات لقسم من هذا الكتاب الثانى، غير أنه لا يزال غير جاهز للنشر. فهل سأوفَّق إلى إتمامه؟ ومَنْ ذا الذى يَسَعُه أنْ يعرف ؟ إن أقدار الأفراد تظل أكثر إبهاما بكثير من أقدار الشعوب".
ويتألف الكتاب من ثلاثة أقسام: يتناول القسم الأول طبيعة الثورة، ويدرس القسم الثانى بفصوله الاثنى عشر الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، على حين يبحث القسم الثالث مسألة لماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية.
ويطرح توكڤيل أسئلة ملحَّة متكررة متواصلة تناولها فى القسم الأول من الكتاب بفصوله القصيرة الخمسة، وهذه الأسئلة هى: "ماذا كان الموضوع الحقيقى للثورة؟ وما هى طبيعتها الخاصة فى نهاية المطاف؟ ولماذا على وجه التحديد تم القيام بها؟ وماذا حققتْ؟". وهو يفنِّد الأحكام المتناقضة عن الثورة مُبَيِّنًا أن موضوعها لم يكن تدمير السلطة الدينية المسيحية ولا إضعاف السلطة السياسية وأنها كانت ثورة سياسية وإنما اتخذتْ مظهر الثورات الدينية بحكم طابعها الفكرىّ العالمىّ وتبشيرها بمبادئ تنسجم مع روح العصر، أما ما حققتْه الثورة الفرنسية بالفعل فقد تمثل فى كونها تكملة لعمل طويل سابق عليها وبدونها كان يمكن أنْ يتحقق هذا العمل ذاته بصورة تراكمية تدريجية طويلة لاحقة لما كان النظام القديم قد أنجزه بالفعل: "ومهما كانت الثورة جذرية فإنها مع ذلك جدَّدَتْ أقلّ كثيرا مما يُفترض عادة: [......]. وما يصحّ قوله عنها هو أنها دمَّرتْ بالكامل أو بسبيلها إلى أنْ تدمِّر (ذلك أنها ما زالت مستمرة) كل ما كان يتفرَّع، فى النظام القديم، عن المؤسسات الأريستقراطية والإقطاعية، كل ما كان يرتبط بها بطريقة ما، كل ما كان يحمل منها، بأية درجة كانت، أدنى سمة. وهى لم تحتفظ من العالم القديم إلا بكل ما كان دائما غريبا على هذه المؤسسات أو استطاع أنْ يوجد بدونها. والحقيقة أن الثورة لا يمكن وصفها أبدا بأنها حدث عرضىّ. وصحيح أن الثورة أخذتْ العالم على غِرَّة ومع ذلك فإنها لم تكن سوى تكملة لعمل أطول، النهاية المفاجئة والعنيفة لعمل ظلت تمارسه قبل ذلك على مدى عشرة أجيال من البشر. ولو لم تقع الثورة ما كان لذلك أنْ يمنع انهيار النظام الاجتماعى الهَرِم، هنا أسرع، وهنا أبطأ؛ كل ما فى الأمر أنه كان سيواصل الانهيار قطعة قطعة بدلا من التداعى دفعة واحدة. والحقيقة أن الثورة حققت على نحو مباغت، عن طريق محاولة مفاجئة ومؤلمة، وبدون انتقال، وبدون تحفُّظ، وبدون احتياط، ماكان سيتحقق قليلا قليلا من تلقاء نفسه فى الأمد الطويل. وكان ذلك هو العمل الذى حققتْه".
ويدرس القسم الثانى من الأقسام الثلاثة لهذا الكتاب، وهو القسم الأكبر بفصوله الاثنى عشر وهو بالذات المخصَّص لدراسة الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، وسيجد القارئ فى تلك الفصول شرحا معمَّقا لطبيعة "النظام القديم" الذى تمثلتْ الرسالة التاريخية للثورة فى تحريره من القيود والأغلال المَلَكِيَّة والإقطاعية والقروسطية لكىْ يندفع كمجتمع رأسمالىّ، بلا نعوت أخرى، كما يُقال، إلى الأمام. ويركز هذا القسم الثانى والرئيسىّ من كتاب توكڤيل على المجتمع الفرنسىّ الأقدم فى سبيل استكشاف الاختلاف بين الأحداث فى فرنسا والتطور العام لأوروپا، ويبحث أصول الثورة الفرنسية خاصة فى أوروپا، وتشتمل الفصول الاثنى عشر للقسم الثانى على 6 فصول (2-7) تركِّز على تحليل المركزة الإدارية باعتبارها السمة المميِّزة للنظام القديم، و 4 فصول (8-11) تركِّز على نتائج هذه الظاهرة على حالة المجتمع، على حين يبحث الفصل الأول الحقوق الإقطاعية فى فرنسا فى ذلك الزمن، ويبحث الفصل الأخير (12) تدهور حالة الفلاحين خلال القرن الثامن عشر كاشفا مدى التَّوْق إلى الخروج من هذا البؤس إلى العدالة والمساواة والحرية. والحقيقة أن النظام القديم، عند توكڤيل، لا يعنى حالة اجتماعية بل أزمة حالة اجتماعية، ليس المجتمع الإقطاعىّ أو الأريستقراطىّ القديم بل فترة متأخرة لهذا المجتمع عندما صار ممزَّقا بالمبادئ المتناقضة، وانفصال النظام المدنىّ عن النظام السياسىّ، واللامساواة المدنية (بقايا الإقطاع أو ما أعادت الأريستقراطية اختراعه)، والمساواة السياسية (تَساوِى الجميع فى الخضوع للملك). وعلى هذا الأساس كانت فرنسا هى التى اندلعتْ فيها الثورة لأنها كانت قد بدأتْ فيها بالفعل، مختفية وراء اسم "النظام القديم"، أىْ أن "النظام القديم" كان يمثل الثورة الأولى قبل الثورة، ويطبق توكڤيل تسمية "النظام القديم" على فترة الحكم المطلق أىْ المركزة الإدارية، ويعنى هذا أن الصيغة الثورية كان لها واقع تاريخىّ على مدى فترة قصيرة نسبيا فقط، تمتدّ من عهد لويس الثالث عشر (ملك فرنسا: 1610-1643) إلى عهد لويس السادس عشر (ملك فرنسا: 1774-1791)، أىْ على مدى أكثر من قرن.
الثورة الاجتماعية إذن هى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر وقد تحتاج فى فترة من فترات تطوُّرها إلى ثورة سياسية عنيفة بطبعها فى مواجهة المقاومة الداخلية (الحروب الأهلية) والخارجية (الحروب الدفاعية والهجومية)، ويجب أنْ يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من الحروب الداخلية والخارجية قد تجلبها تطورات بنيوية وظرفية، داخلية وخارجية، عسكرية واقتصادية، قانونية وپوليسية، ويكفى التوقف قليلا عند بعض التراكمات البدائية لنرى مدى وحشيتها داخل وخارج الحدود بل إن الحرب تكاد تكون شكلا نموذجيا كشرط من الشروط الموضوعية للانتقال مثلا من العبودية إلى الإقطاع وهل يمكن فصل الغزوات الشمالية البربرية للإمپراطورية الرومانية كشرط حاسم من الشروط الموضوعية لانتقال أوروپا من العبودية إلى الإقطاع جنبا إلى جنب مع عناصر للمجتمع الإقطاعىّ الجديد كانت قد نمتْ فى قلب المجتمع العبودىّ وخلال عمليات تفسُّخه؟ وهل كانت الفتوحات المتواصلة فى شرقنا بعيدة عن الانتقال من النظم القديمة إلى الإقطاع (مثلا فى مصر)؟ وناهيك بالتراكم البدائىّ للرأسمالية فى إنجلترا أو روسيا السوڤييتية! والعنف ضرورىّ بنفس القدر للنظام الاجتماعىّ الراسخ المستقرّ: أليست حوليات تاريخ العالم مكتوبة بالدم والحديد والنار وفقا لقول شهير؟!
وهنا تبرز مسألة بالغة الأهمية يدَّخرها توكڤيل للقسم الثالث بفصوله الثمانية: لماذا إذن سارت فرنسا فى طريق الثورة العنيفة؟ ولماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية التى كانت تشترك معها فى نفس مسيرة الحضارة الرأسمالية الحديثة، من جهة، والتى كانت شعوب بلدان منها (ألمانيا بالذات) تعانى معوقات الامتيازات والحقوق الإقطاعية والمَلَكِيَّة وبقايا القرون الوسطى بصورة أشدّ وطأة بما لا يُقاس؟
ولعلّ من الجلىّ أن التقاطع بين مجموعة من الشروط الموضوعية والذاتية هو الذى رشَّحَ فرنسا لذلك الحدث الكبير، لاندلاع ثورة 1789 منها: ضعف الإقطاع، ضعف القنانة، إفقار وتدهوُر النبلاء، تطوُّر المِلْكِيَّة العقارية الفلاحية، نموّ الصناعة والزراعة والعلاقات السلعية النقدية، تبلوُر طبقة برچوازية من رجال المال والأعمال، تبلوُر طبقة عمالية واسعة، الثورة الفكرية والأدبية وبروز الفلاسفة والمفكرين والأدباء كقيادة سياسية للشعب، ازدياد الشعور بوطأة الامتيازات والحقوق الإقطاعية والنفور الشديد منها ومن الإقطاع الدينىّ بحكم هذه التطورات التقدمية ذاتها، التهاب كراهية اللامساواة والرغبة فى الحرية، الاندفاع الثورىّ الناتج عن كل هذا، ونستطيع أنْ نقرأ توكڤيل مباشرة وهو يبسط تقاطع واندماج هذه الشروط:
"وإذا أخذنا فى الاعتبار أنه إنما حدث بيننا نحن [الفرنسيِّين] أن النظام الإقطاعىّ كان قد فقد كل ما كان يمكن أنْ يحميه أو يخدمه، دون أنْ يغيِّر ما كان يزعج أو يضايق فيه، سنكون أقل دهشة إزاء واقع أن الثورة – التى كان عليها أن تُلغى بعنف هذا التكوين العتيق لأوروپا – انفجرتْ فى فرنسا وليس فى أىّ مكان آخر.
"وإذا نحن التفتنا إلى واقع أن النبلاء، بعد أنْ فقدوا حقوقهم السياسية القديمة، وكفُّوا، أكثر مما شهد أىّ بلد آخر فى أوروپا الإقطاعية، عن أنْ يديروا ويقودوا السكان، كانوا مع ذلك لم يحافظوا فقط على (بل زادوا كثيرا من) امتيازاتهم المالية ومغانمهم التى تمتَّع بها أعضاء هذه الطبقة بصفة فردية؛ وإذا التفتنا إلى واقع أنهم مع تحوّلهم إلى طبقة ثانوية ظلوا يشكلون طبقة ثرية ومغلقة: بصورة أقل فأقل أريستقراطية، كما سبق أنْ قلتُ فى موضع آخر، وبصورة أكثر فأكثر طبقة مغلقة، فإنه لن يدهشنا بعد ذلك واقع أن امتيازاتهم تبدو غير قابلة للتفسير وبغيضة بالنسبة للفرنسيِّين، وواقع أنه فى مواجهة هذه الامتيازات تأجَّج الميْل الديمقراطىّ فى قلوبهم إلى حد أنه ما يزال يشتعل فيها.
"وأخيرا، إذا أخذنا فى الاعتبار واقع أن هؤلاء النبلاء، منفصلين عن الطبقات المتوسطة، التى كانوا قد طردوها من بينهم، ومن الشعب الذى  كانوا قد خسروا قلبه، صاروا معزولين تماما عن بيئة الأمة، فكانوا فى الظاهر طليعة جيش، وفى الواقع هيئة من الضباط بلا جنود، فإننا نفهم كيف أنه، بعد أنْ كانوا متماسكين على مدى ألف عام، صار من الممكن الإطاحة بهم خلال ليلة واحدة".
ويشير إلى الميْليْن الكبيريْن اللذين كانا يدفعان الرِّياح بقوة لتملأ أشرعة الثورة فى ذلك المكان (فرنسا) وفى ذلك الزمان (1789): الرغبة فى المساواة والرغبة فى الحرية، ويقول:
"وقُرْبَ نهاية النظام القديم، كان هذان الميْلان خالصيْن بنفس القدر وكانا يبدوان مُفْعَمَيْن بنفس القدر. وفى بداية الثورة، تلاقيا؛ واختلطا عندئذ وامتزجا للحظة، وأجَّج كل منهما الآخر بالاحتكاك، وأخيرا ألْهَبا فى آنٍ واحد معا كل قلب فرنسا. ولاشك فى أن عام 1789 كان زمن انعدام الخبرة، ولكنْ زمن السخاء، والحماس، والرجولة، والعظمة: زمن الذكرى الخالدة، التى سوف تستدير إليها بإعجاب وباحترام أنظار البشر، عندما سيكون قد اختفى منذ وقت طويل أولئك الذين شهدوها ونحن أنفسنا. عندئذ كان الفرنسيون فخورين بقضيتهم وبأنفسهم بما يكفى لاعتقادهم بأنه كان بمستطاعهم أنْ يكونوا متساوين ومتمتعين بالحرية. ووسط المؤسسات الديمقراطية، أقاموا مؤسسات حرة فى كل مكان. ولم يقوموا فقط بهدم هذا التشريع البالى الذى كان يقسِّم البشر إلى فئات مغلقة، وإلى طوائف، وإلى طبقات، والذى كان يجعل حقوقهم أكثر لامساواة أيضا من أوضاعهم، بل قاموا أيضا بضربة واحدة بتدمير كل القوانين الأخرى، الأعمال الأحدث للسلطة الملكية، التى جرَّدتْ الأمة من التمتُّع الحرّ بحياتها، ووضعتْ الحكومة إلى جانب كل فرنسىّ، لتكون معلِّمه، والوصىّ عليه و،عند الضرورة، مُضْطَهِدَهُ. ومع الحكومة المطلقة، سقطتْ المركزة".
وهناك مسألة دقيقة يطرحها توكڤيل ويعيد طرحها المرة تلو المرة: المفارقة المتمثلة فى التناقض بين ما أراد الفرنسيون أنْ يحققوه عندما قاموا بثورة 1789 وما حققوه بالفعل، بين الهدف المنشود والمحصلة. وبكلمات توكڤيل: "قام الفرنسيون، فى 1789، بأكبر محاولة كرَّس لها شعب نفسه فى يوم من الأيام، ليُحْدثوا، إنْ جاز القول، انقطاعا فى خط مصيرهم، وليحفروا هوة يفصلون بها بين ما كانوه إلى ذلك الحين وما أرادوا أنْ يكونوه منذ ذلك الحين فصاعدًا. وبهذا الهدف، اتخذوا كافة أنواع الاحتياطات لئلا ينقلوا شيئا من الماضى إلى وضعهم الجديد: لقد فرضوا على أنفسهم قيودا من كل نوع لكىْ يعيدوا تشكيل أنفسهم بصورة تختلف عما كان عليه أجدادهم؛ وباختصار فإنهم لم ينسوا شيئا من شأنه محو سماتهم المميزة السابقة"، ويعلِّق على هذا بقوله: "وقد اعتقدتُ دائما أنهم كانوا أقل نجاحا بكثير فى هذا المشروع الفريد مما كان يُفترض فى الخارج ومما افترضوه هم أنفسهم فى بداية الأمر. وكنت مقتنعا بأنهم، دون أنْ يدروا، احتفظوا من النظام القديم بأغلب ميوله، وعاداته، وحتى بالأفكار التى قادوا بها الثورة التى دمرته، كما كنت مقتنعا بأنهم، دون رغبة منهم استخدموا هذه الأنقاض لتشييد صرح المجتمع الجديد".
ومن الجلىّ أن طرح المسألة بهذه الطريقة يكشف عن تناقض عميق للغاية ومنطقىّ للغاية بين الحلم الذى يُلْهِب الشعوب إبان الثورات وفى فترات الإعداد لها وفى فترات أولى تالية لانتصارها، من ناحية، والإدراك الواعى للمحتوى الحقيقى لهذه الثورات، من الناحية الأخرى. وكانت ثورة 1789، كما رأينا، رأسمالية من حيث محتواها، وبالتالى رأسمالية من حيث قيادتها وأهدافها ورسالتها التاريخية وأداة كبرى لتحقيق النظام الاجتماعىّ الاقتصادىّ الرأسمالىّ، والمجتمع الرأسمالىّ، والاستغلال الرأسمالىّ، والاستبداد الرأسمالىّ، فلا عجب إذن فى أنْ يعانى الفرنسيون فى نهاية المطاف استغلاله وقهره بعيدا عن الحرية والمساواة والإخاء التى كانت شعارات تعبئة البشر الذين كانوا وقود الثورة، ولا عجب إذن فى أنْ يصطدم الحلم القائم على الأوهام بالواقع العينىّ الوحشىّ الذى يتحقق بتراكم "طبيعىّ" فى غاية "البراءة"! ولا يعنى هذا أبدا التقليل مما حققتْه الثورة بالفعل، فقد كانت من الأدوات التاريخية الكبرى لرفع الشعب الفرنسىّ إلى مستوى الحضارة الرأسمالية، فهذه الحضارة مرحلة كبرى للصيرورة التاريخية المتصاعدة إلى الأمام مهما بلغتْ وحشيتها ضدّ "مواطنينها" وضد "الآخرين" جميعا، فهى لا تملك بحكم طبيعتها إلا أنْ تكون وحشية، وهل يملك البشر طريقا آخر إلى تحقيق إنسانيتهم الكاملة سوى طريق الآلام والوحشية؟
و توكڤيل، الذى يرثى بكل هذا الحنين زمن الثورة وأحلام وسخاء وتضحيات مَنْ قاموا بها، لا تساوره هو نفسه أىّ أوهام فهو يعلم جيدا (بل هو المكتشف لواقع) أن الفرنسيِّين إنما قاموا بتشييد صرح مجتمعهم الجديد باستخدام أنقاض "الثورة الأولى" أىْ "النظام القديم"، وإذا كانت ثورة 1789 ما تزال مستمرة فى زمنه، كما يقول، فإن تلك "الثورة الأولى" (أىْ "النظام القديم") هى التى كانت مستمرة إذن.
وينقلنا هذا إلى مقارنة لا مناص منها بين السياق التاريخى للثورة السياسية الفرنسية (1789، 1830، 1848) والسياق التاريخى لثورتنا السياسية المصرية. كانت الثورة أو الثورات السياسية فى البلدان التى صارت بلدانا رأسمالية متقدمة تجرى فى السياق التاريخى للثورة الاجتماعية التى تتمثل فى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر: التحول من الإقطاع إلى الرأسمالية فى حالة فرنسا وغيرها من البلدان المتقدمة. ويمكن أن نرصد بوجه خاص ثلاث نتائج كبرى للثورة السياسية فى سياق الثورة الاجتماعية، رغم كل خصوصية ورغم كل تنوُّع: النتيجة الأولى إزالة العراقيل والمعوقات والحواجز أمام التحول الرأسمالى؛ أىْ فتح أىّ أبواب مغلقة أمام تطور ورسوخ الحضارة الرأسمالية، وهذه نتيجة تقدمية وثورية تاريخية كبرى؛ والنتيجة الثانية قيام ديكتاتورية من أعلى: عهد الإرهاب وغزو الشعوب الأخرى والإمپراطورية والاستبداد والفساد والاستغلال وانقشاع أوهام المساواة والحرية والإخاء وباختصار قيام شكل أو آخر من أشكال ديكتاتورية البرﭼوازية. وهناك مَنْ يُدينون الثورات بصورة مطلقة كالفيلسوفة السياسية حنة أرندت لأنها لا تحقق الحرية ولا تمحو الفقر والعنصرية فيما يمجِّد ماركس الثورة الاجتماعية ويُدين العبوديات الاستغلالية المتعاقبة الناشئة عنها كما يدين الاستبداد الناشئ عن ثوراتها السياسية، وإذا كانت حنة أرندت تستثنى الثورة الأمريكية من هذا المصير المعادى للحرية كنتيجة للثورات فالحقيقة أن الديمقراطية الأمريكية تمثل ديكتاتورية برﭼوازية لا جدال فيها ولا تمثل الحرية؛ والنتيجة الثالثة هى الديمقراطية من أسفل التى نشأت وترسخت فى فرنسا خلال القرن التاسع عشر.
أما السياق التاريخى لثورتنا السياسية المصرية فإنه بعيد تماما، شأنه شأن السياق التاريخى لثورات العالم الثالث أو انقلاباته التى أيدها الشعب، عن سياق الثورة الاجتماعية. ذلك أن مصر وأغلب بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة قد أدخلتها الإمپريالية منذ البداية فى القفص الحديدى للثورة السكانية بدون ثورة صناعية، فلم تتحول إلى بلدان رأسمالية بل صارت حظائر أو أفنية أو زرائب خلفية للرأسمالية العالمية، وصار سياقها التاريخى هو سياق التبعية الاستعمارية، بعيدةً تماما عن الاستقلال الحقيقى رغم الاستقلال الشكلى من وجهة نظر القانون الدولى. فالثورة المصرية، وكذلك باقى الثورات العربية، تجرى إذن فى سياق التبعية الاستعمارية، ويدور الصراع إذن بين هذه الثورة الشعبية السياسية من جهة وهذه التبعية الاستعمارية بملحقاتها المحلية من جهة أخرى، أىْ بين هذه الثورة بكل قواها الحية الديمقراطية والعلمانية والمدنية وبطبقاتها الشعبية المقهورة وبين الثورة المضادة المتمثلة فى مؤسسات الدولة بلا استثناء والإسلام السياسى والطبقات المالكة والرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والرجعية العربية بقيادة المملكة العربية السعودية وقوى الإسلام السياسى الإخوانى والسلفى والصوفى محليا وعربيا وعالميا. وعلى هذه الثورة بالتالى أن تخوض معركة طويلة معقدة ربما لم تتهيأ لها وربما واتتها الفرصة للنمو فى سياقها. وإذا كان الدور التقدمى المتمثل فى فتح الأبواب أمام تطورات تاريخية من استقلال حقيقى ولحاق بالحضارة الرأسمالية غير وارد فى سياق ثورتنا لأن سياق الثورة الاجتماعية غائب عندنا فلا مناص من أن تتجه الآمال نحو الديمقراطية من أسفل التى أخذت تنمو بسرعة والتى تستطيع أن تناضل فى سياق معركة كر وفر فى سبيل حقوق وحريات الشعب، والتى تستطيع وحدها أن تنقذ البلاد من المصير المشئوم للعالم الثالث عن طريق التنمية، ولا مناص كذلك من أن تتجه المخاوف نحو الديكتاتورية واستعادة النظام السابق بدون مبارك ورجاله المباشرين، وبين الآمال والمخاوف يقع الظل. وأعتقد أن مفتاح تطور الثورة يتمثل فى العمل بلا هوادة على تطوير الديمقراطية من أسفل ولن يتحقق هذا إلا من خلال النضال بكل الوسائل التى تقدمها الشرعية الثورية ضد الثورة المضادة بكل قطاعاتها ومؤسساتها. (مكتوب فى 12 أغسطس 2011).
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
18
"كيف نفهم سياسات العالم الثالث
(نظريات التغيير السياسى والتنمية)
 
Understanding Third World Politics:
Theoris of Political Change and Development،
تأليف: بى سى سميث B. C. Smith ، 2009،
المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2011 (مقدمة)
 (مقدمة)
 
هذا كتاب بمثابة موسوعة مصغرة عن العالم الثالث اليوم، عن نظريات التفسير والتغيير المتعلقة به وكذلك عن التطورات الأساسية الجارية فيه.
وهو بمثابة موسوعة غير أنه لا ينظم مادة موضوعه فى مداخل مرتَّبة ألفبائيا، وما يجعله أقرب ما يكون إلى الموسوعة هو أنه يشمل بالبحث التفصيلىّ الجوانب الأكثر أساسية فى نظريات وممارسات واتجاهات وأقدار البلدان النامية أو الأقل نموا أو المتخلفة وفقا لتسميات متعددة لنظريات متعددة لنفس العالم.
وبين سؤالىْ ما المقصود بالعالم الثالث؟ وما فُرَص التغيير أمامه؟ لا يكاد الكتاب يترك أىّ ظاهرة مهمة خارج بحثه. وتتقاطع هذه الظواهر وتتداخل. أىْ أن الكتاب عندما يبحث ظاهرة من ظواهر بلدان العالم الثالث إنما يبحثها من كل أبعادها وبالأخص فى علاقاتها العميقة والمتنوعة مع كل الظواهر الأخرى.
وعلى سبيل المثال فإنه يجرى بحث البيروقراطية بمختلف أبعادها: البيروقراطية بوصفها جهاز الدولة الإدارىّ، البيروقراطية كطبقة حاكمة، البيروقراطية والديمقراطية. وعندما يبحث التفريعات والتنويعات المتعددة لهذه الجوانب فى علاقاتها المعقدة مع مختلف جوانب كل ظاهرة أخرى سنجد أن الهدف يتمثل دائما فى الإلمام الواضح بعلاقة أساسيات وتفاصيل كل ظاهرة بأساسيات وتفاصيل كل ظاهرة أخرى.
ما العالم الثالث؟ ما النظريات التى تفسر واقعه الراهن وتطوراته؟ ما التحديث؟ ما التنمية؟ وحقائق دولة العالم الثالث فى علاقاته بمجتمع العالم الثالث وفى أشكال التحقيق البالغة التعقيد لكل من هذه الدولة وهذا المجتمع؟ ولكى نفهم العالم الثالث المعاصر يجرى بحث الاستعمار الجديد والتبعية، بالنظريات والوقائع والتطورات المعنية. وتتداخل مع كل هذا الأحزاب وطبيعتها وأوضاعها والأنظمة السياسية التى ترتبط بها، وتشابكات ولاءاتها مع الولاء القومىّ العام، والولاء الإثنىّ أو الفئوىّ وغير ذلك. ويجرى بحث كافة أبعاد القوات المسلحة والتدخلات العسكرية وعلاقاتها بالطبقة الوسطى ودورها فى السياسة الداخلية والخارجية كما يجرى بحث علاقاتها بالبيروقراطية والديمقراطية وأشكال الحكم. وتبرز قضايا الانفصال عن الدولة-الأمة أو الدولة القومية على أُسُس إثنية أو دينية أو غير ذلك. كما يجرى بحث "الدَّقْرَطة" democratization(1) فى علاقاتها بكل هذه الظواهر والتطورات وبالأخص بقضية التغيير. ويصل بنا كل هذا إلى المحصلة العامة لكل هذه الظواهر بكل تداخلاتها: أعنى التغيير باعتباره الثورة التى هى بدورها محصلة جدل الاستقرار وعدم الاستقرار فى بلدان العالم الثالث. والصراع محتدم بين القوى التى تدفعها المصالح الداخلية والخارجية إلى المحافظة على الاستقرار أو استعادته وبين القوى الداخلية العمالية والديمقراطية والاستقلالية المدفوعة بمصالحها إلى عدم النظر إلى الاستقرار على أنه بقرة مقدسة كما تؤدى فاعليتها السياسية إلى زعزعة الاستقرار القائم أو تعميق وتوسيع نطاق عدم الاستقرار عندما تحتدم صراعاته الاجتماعية والسياسية. وتمثل محصلة هذه الصراعات آفاق أو معوقات التغيير وبالأخص فى صورة عملية الدَّقْرَطة.
ومن هنا فإن هذا الكتاب سيكون بالغ الفائدة للدارس الأكاديمىّ للعلوم السياسية، ولكنْ أيضا للسياسيِّين والنشطاء ومناضلى مختلف الأحزاب والحركات والمنظمات الطامحة إلى التغيير. وبدلا من ضيق الأفق القومىّ الذى يحصر أصحابه فى النظر من الزاوية المصرية أو العربية لكل ظاهرة سياسية يضع الكتاب أمام القارئ المصرىّ أو العربىّ تجربة أوسع. ذلك أن العالم العربى أو الشرق الأوسط جزء لا يتجزء، كما يقال، من العالم الثالث، مهما تعددت خصوصياته. وبدلا من الشوڤينية المنكرة التى قد تقدَّم لنا تصورات وردية عن أنفسنا تتناقض تماما مع أوضاعنا الحقيقية، وكذلك بدلا من جلد الذات باعتبار أن العرب هبطوا إلى الحضيض بسبب خصائص ملازمة لهم قوميا أو ثقافيا، وكذلك بدلا من التصورات الساذجة التى مؤداها أن العرب والمسلمين مستهدفون بوصفهم كذلك، أىْ بدلا من عنصرية تمجيد الذات برفعها فوق كل الأمم الأخرى أو عنصرية احتقار الذات (ذلك أن كلا من تمجيد الذات واحتقار الذات عنصرية مقيتة)، بدلا من كل هذا وبدلا من سلبيات فكرية أخرى يجذبنا الكتاب إلى تجربة أوسع ونظرة أوسع إلى كلٍّ من التفسير والتغيير فى عالم أوسع ينتمى إليه العرب والمسلمون، أىْ العالم الثالث الذى تتعدد خصوصياته ذات الكثرة الهائلة ولكنْ تشترك كل بلدانه فى تجربة الاستعمار الكولونيالىّ والاستعمار الجديد والإمپريالية، مع أن هذه العلاقة الاستعمارية والإمپريالية، رغم أنها واحدة فى جوهرها، تمثل كثرة هائلة بدورها من الخصوصيات التى هى محصلة لطبيعة وخصائص ونظريات البلد الاستعمارىّ (إنجلترا، فرنسا، إسبانيا، الپرتغال، هولندا، بلچيكا، إيطاليا، ألمانيا، إلخ.، فى المرحلة الكولونيالية، مع إضافة الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتىّ السابق فى مرحلة الاستعمار الجديد) وطبيعة وخصائص وثقافة كل بلد من بلدان العالم الثالث خضع للاستعمار أو شبه الاستعمار، عندما كان البلد المعنىّ مستعمَرة، وللاستعمار الجديد عندما صار البلد المعنى مستقلا بالمعنى القانونىّ الدولىّ، وبالمعنى الدستورىّ، بعيدا عن الاستقلال الحقيقىّ الاقتصادىّ والسياسىّ.
وينطلق الكتاب من النظر إلى الأساس السوسيولوچىّ للنظرية السياسية الوظيفية والأساس الاقتصادىّ لنظرية التبعية على أنها مُعْطًى، كما يقول. وتكون المحصلة وضع بلدان العالم الثالث على أرضية ذات خصائص سياسية واقتصادية عريضة تشترك فيها هذه البلدان مع أخذ التنوع الواسع النطاق فى الاعتبار. ويجرى إيضاح ما هو مشترك بين بلدان العالم الثالث بأمثلة مباشرة من كل قارات وبلدان ودول ومناطق وأقاليم هذا العالم كما يجرى إيضاح التنوع من خلال أمثلة من بلدان متنوعة فى كل قارة من القارات الثلاث.
والصورة الكاملة المجمَّعة من هذه الأمثلة وسياقاتها وتفسيراتها وحدود تغييراتها صورة قاتمة بل مأساوية فى حقيقة الأمر: هزال الإنتاج والاقتصاد، هزال التجارة مع العالم، تدهور كافة الخدمات على كل المستويات، وباء الانقلابات العسكرية فى الحياة السياسية، وباء الفساد المنفلت، الفقر والجوع والمرض والأمية والأوبئة، الحقائق الديموجرافية المفزعة، التدخل الأجنبىّ الواسع النطاق فى كل المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية لهذه البلدان بما فى ذلك التدخلات العسكرية المباشرة من خلال الغزو المباشر كما كان الحال بالأمس فى جنوب شرق آسيا وكما هو الحال اليوم فى منطقتنا فى أفغانستان والعراق ولبنان وفى البلدان المرشحة الأخرى فى عالمنا العربى (وبالأخص الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان وسوريا) والشرق الأوسط (وبالأخص إيران وپاكستان).
والمحصلة باختصار هى "متلازمة" الاستقلال السياسىّ الدستورىّ والتبعية الاقتصادية اللذين صارا قَدَر العالم الثالث ومصيره فى غياب مخرج حقيقىّ من هذا المأزق التاريخىّ.
ومآسى هذه "المتلازمة" مفزعة بأبعادها التى تتجسد فى سوء التغذية والجوع والفقر وتدهور الأحوال الصحية والتعرض لأهوال القمع والحروب الأهلية والغزوات والتدخلات الخارجية وأهوال الأوبئة المتفشية. والمنطق الطبيعىّ لهذه السيرورة المأساوية مخيف، ببساطة لأنه لا يوجد فى الحركة الموَّارة لحياة البشر بكل تطوراتها الراهنة شيء من قبيل "مَحَلَّك سِرْ". وإذا كان الملايين وعشرات الملايين من البشر يموتون اليوم كل عام من الجوع والأمراض والأوبئة، وإذا كان المليارات من البشر يحيون اليوم فى معاناة متواصلة لهذه المآسى، فإن الاستنتاج المنطقىّ الوحيد هو أن مليارات البشر فى العالم الثالث يتعرضون على المدى القريب والمتوسط للفناء والانقراض. وفى أزمنة سابقة كنا نقرأ كُتُبًا بعناوين من قبيل "العالم الثالث فى معركة البقاء"، وفى غياب مخرج من هذه الأوضاع تغدو معركة البقاء مهددة بأنْ تغدو دروب الفناء والانقراض، وعلى هذه الدروب ينطلق قطار العالم الثالث بسرعة مُدَوِّخة، وبالأخص بلا سائق، كما قال جورباتشوف ذات يوم عن الاتحاد السوڤييتى الذى صار سابقا، ذلك أن الأنظمة الحاكمة فى العالم الثالث ليست جزءًا من الحل، بل ليست مجرد جزء من المشكلة، إنها فى الحقيقة فى علاقاتها الوثيقة بالقوى الاستعمارية الخارجية المشكلة بشحمها ولحمها، ولا أمل فى أنْ يأتى أىّ حل منها.
فمن أين يأتى الحل؟ وما المخرج من هذا المأزق التاريخىّ؟
ولا شك فى أن بلدان العالم الثالث تضم بين طبقاتها طبقات مدفوعة بحكم مصالحها التاريخية إلى التغيير والثورة، ولا شك فى أن لهذه الطبقات حركات سياسية واقتصادية واجتماعية وأحزاب سياسية ومنظمات متنوعة لا تُحْصَى ولا تُعَدّ، ولا شك فى أننا إزاء حراك كبير موّار فى كل مكان فى العالم الثالث، تحت رايات تمثل أيديولوچيات متنوعة عديدة تترواح بين الأفق العمالىّ الاقتصادىّ الإضرابىّ والأفق الاشتراكىّ الماركسىّ وغير الماركسىّ والأفق الديمقراطىّ العام والأفق الإثنىّ الانفصالىّ وأفق الأصوليات المتنوعة العديدة. وتقدم كل أيديولوچيا نفسها على أنها هى دون غيرها "الحلّ"، فالشيوعية هى "الحل"، والإسلام هو "الحل"، والديمقراطية هى "الحلّ".
غير أننا لا نرى أمامنا أىّ حل، رغم مزاعم كل هذه الأيديولوچيات. لماذا؟ لأن الواقع الاجتماعىّ-الاقتصادىّ-الثقافىّ هو صانع الأيديولوچيات وليس العكس. لأن الأيديولوچيات لا تصنع الواقع بل هى من صُنْعه. كذلك فإن الأيديولوچيات هى نظريات التغيير وليست التغيير ذاته. فقط عندما ينطلق التغيير التاريخىّ من عقاله تأتى النظريات والأيديولوچيات والأفكار لإرشاده. على أننا لسنا إزاء مرحلة زمنية للتغيير من تحت تأتى عند اكتمال عناصرها مرحلة النظرية المرشدة. والحقيقة أن النظرية الثورية تأتى من المثقفين وتتطور خطوة خطوة غير أنها تنتقل إلى مرحلة النظرية المرشدة لثورة عندما تلتقى بهذه الثورة فى سياق تطورها التاريخىّ، خطوة خطوة، وصولا إلى لحظة جديدة تنتقل فيها النضالات الاقتصادية الجماهيرية الواسعة إلى نضالات سياسية تاريخية مباشرة فى سبيل سلطة الدولة وتنتقل فيها النظرية إلى نظرية مرشدة لهذه الثورة لأنها صارت المكوِّن الرئيسىّ لوعى مناضليها، قياداتها وجماهيرها، حيث يصير الفكر سلاحا فكريا "ماديا" بمعنى أن الجماهير الواسعة صارت مسلَّحة به.
"الحلّ" إذن هو الثورة.
وكان رد "أوديب" عند سوفوكليس على لغز الإسفنكس هو أن حل اللغز هو الإنسان لأنه يحبو على أربع أرجل ثم يمشى على رجلين وأخيرا على ثلاث أرجل، حسب مراحل عمره، وكان رد "أوديب" أندريه چيد بأن حلّ اللغز هو الإنسان لأنه هو الحل لكل الألغاز. وبعيدا عن الكثرة الكاثرة من الأيديولوچيات المعاصرة من الفاشيات المزدهرة فى الغرب والأصوليات المزدهرة عندنا والتى تعلن كل أيديولوچيا وأىّ أيديولوچيا منها أنها هى الحل؛ يتمثل الحل التاريخىّ الحقيقىّ فى الثورة. لأن التغيير الذى تنشده الطبقات المستغَلَّة المقهورة التى تعتمد كل نظرة إلى التغيير على حركتها النضالية وحدها مهما كانت الثورة فاشية أو إسلامية أو شيوعية تقود بحكم منطقها الاجتماعىّ-الاقتصادىّ-السياسىّ-الثقافىّ إلى الثورة الاجتماعية معتمدة على الأيديولوچيا الوحيدة التى ترشدها بوصفها كذلك.
غير أن أوضاع العالم الثالث فى حد ذاتها وفى علاقاتها مع أوضاع العالم اليوم لا تترك فسحة للأمل فى الثورة مفسحة المجال واسعا أمام البربرية المتفشية الآن فى العالم الثالث وفى العالم كله.
وإذا كانت الثورة، قد بدت منذ لحظة بوصفها حلّ اللغز، فإنها تبدو الآن بوصفها اللغز الذى يحتاج إلى حلّ، لأن حالة العالم لا تُنْبئ بثورة فى المدى القريب والمتوسط، لا فى الغرب ولا فى الشرق، لا فى الشمال ولا فى الجنوب. ورغم أن الثورة ليست محالة إلى التقاعد الأبدىّ، فإنها ليست واردة على جدول العمل السياسىّ فى أىّ وقت قريب، ولا أعنى النضال الثورىّ الوارد دائما بل أعنى الثورة الاجتماعية الشاملة التى تشترط الشروط الموضوعية والذاتية. وإذا صحَّ أن الثورة ليست محالة إلى التقاعد وليست واردة فى مستقبل قريب أو متوسط أو منظور، فلا مناص من أنْ تنفتح هنا فجوة زمنية هائلة تمثل الخطر كله على شعوب العالم الثالث بالذات.
وهنا بطبيعة الحال أوهام هى بمثابة تعويذات متنوعة ضد الأخطار المحدقة. هناك مَنْ يتوهمون أن الإمپريالية العالمية لن تسمح بانقراض العالم الثالث فى سبيل الاحتفاظ به كشريك تجارىّ. غير أن مثل هذه الأوهام إنما تنبع من الجهل الفادح بأن التبادل التجارىّ العالمىّ صار يتركز فى التبادل بين الشمال والشمال حيث يتضاءل نصيب الجنوب أو العالم الثالث بصورة متواصلة.
والأخطر تلك الأوهام التى تنبع من الأيديولوچيات. فالكثير جدا من الماركسيِّين ينطلقون من تأكيدات نظرية عامة دون أنْ يكلفوا أنفسهم عناء النظر نحو الواقع الاجتماعىّ-الاقتصادىّ-السياسىّ-الثقافىّ الفعلىّ فى العالم الثالث. فَهُمْ يرون الثورة كما تؤكد النظرية وينسون شروطها التاريخية كما تؤكد النظرية أيضا ويتجاهلون الواقع الفعلىّ، ويواصلون بالتالى تفاؤلهم الساذج وحديثهم الساذج عن الثورة فى العالم الثالث متجاهلين الفجوة الزمنية الفاغرة فاها والتى تبدو بمثابة ثُقْب اجتماعى أسود يهدد بابتلاع العالم الثالث بأكمله. والثورة المنشودة لن تحدث إلا عند تواصُل بقاء البشر، وهذا البقاء ذاته هو الذى تهدده الأوضاع الراهنة.
وللأصوليات ومنها الأصولية الإسلامية أوهامها الواسعة. وإذا كان الإسلام هو الحل، فإن هذه الأصولية تتطلع أيضا إلى الثورة التى هى الحل. ولكن هل تستطيع الأيديولوچيا السياسية الإسلامية أنْ تقفز فوق الأوضاع الاجتماعية-الاقتصادية التاريخية فى سبيل إحداث ثورتها. وماذا عسى أنْ تكون الثورة الإسلامية؟ هل هى ثورة تغيِّر ضمير الإنسان المسلم بفضل الدعوة الدينية فتبقى فى الإطار الدينىّ الدعوىّ أم هى ثورة اجتماعية تتمثل أسلحتها المادية فى الحركة النضالية للطبقات العمالية والشعبية، وهى الثورة التى رأينا بوضوح عقبات عدم توفر الشروط الموضوعية والذاتية الضرورية لاندلاعها وانتصارها؟ وإذا كانت الأيديولوچيا السياسية الإسلامية تصلح كنظرية مرشدة لثورة سياسية، كما كان الحال فى ثورة الإمام الخمينى فى إيران منذ أكثر من ثلاثة عقود، فهل تصلح أيضا كنظرية مرشدة لثورة اجتماعية شاملة وليس لمجرد ثورة سياسية ضمن نفس النظام الاجتماعىّ الواحد فى نهاية المطاف؟
وهنا يظهر تناقض كبير بين الدين والسياسية.
الأديان فى جانب مهم من جوانبها بطبيعة الحال حامل للفضائل المنشودة فى حياة البشر، وهى بطبيعة الحال الفضائل التى بلورتها التجربة البشرية فى مسيرتها الطويلة. ومن هنا فإنه لا يمكن إنكار وجود دور لها فى الحياة الأخلاقية للبشر مع الاعتراف بأن البشر يظلون دائما قاصرين عن تحقيق تلك الفضائل فى سلوكهم فى الحياة. ولكنْ لماذا لا يتطابق هؤلاء البشر مع الفضائل التى تنطوى عليها تجربتهم البشرية وأديانهم ووثنياتهم؟ لسبب بسيط: لأن الأخلاق الفعلية فى الحياة رغم تأثرها بالفضائل الدينية (وهى نفس الفضائل البشرية التى انتقلت إلى الوثنيات والأديان والقوانين الوضعية) تنبع من منابع أخرى للسلوك: تتناقض الأخلاق الفعلية دائما مع فضائل الأخلاق المثالية لأنها تنبع من حياة البشر، من الحياة الاجتماعية الاقتصادية الثقافية التى تنعكس فيها مستويات التقدم التقنى والاجتماعىّ للبشر، وتنعكس فيها علاقات الاستعباد والاستغلال والقهر بين البشر، حيث يتوزع ضمير البشر بين القمع المادى والأيديولوچىّ والتمرد والمقاومة أو الاستكانة والخضوع. وقد أثبت تاريخ كل الأديان وكل الوثنيات وكل الحياة البشرية بكل الفضائل التى تدعو إليها أن الأخلاق الفعلية بخيرها وشرها لم تتطابق مطلقا مع المثل العليا للفضائل والأخلاق الدينية، وكان الانتصار دائما للأخلاق الفعلية التى لا شك فى أنها تنطوى على مبادئ لا تقوم بدونها حياة اجتماعية للبشر، وهذه المبادئ الأخلاقية البشرية ذاتها إنما هى بدورها مثل عليا لا يمكن أنْ تتطابق معها الأخلاق الفعلية للبشر.
وإذا كانت الأديان (وكذلك الفلسفات والقوانين) تقدم لنا، فى جانب من جوانبها، فضائل كبرى فى السلوك فى كل مناحى حياتنا، فى معاملاتنا الحياتية الأخلاقية والاقتصادية، فإن السياسة شيء آخر. السياسة هى علاقات الاستغلال والقهر المتواصلة كما تسجلها حوليات التاريخ البشرى بمداد من الدم والحديد والنار. فكيف يمكن أنْ نتصور أىّ توافق بين هذين النقيضيْن: الدين من جانب كونه دعوة إلى الفضائل ومكارم الأخلاق والسياسة كعلاقات استغلال وقهر بين الطبقات؟!
وإذا كانت السياسة هى العلاقات بين الطبقات الاجتماعية فإن الدولة هى الأداة التى تدير بها طبقة من هذه الطبقات تلك العلاقات، وهذه الأداة بحكم طبيعتها تحمى مصالح الطبقة الحاكمة وهى بطبيعتها مصالح استغلالية وقمعية وبالتالى فإن الدولة تقوم على إدارة العلاقات بين الطبقات لحماية الاستغلال وتكون أداتها فى ذلك هى القمع المنهجىّ، من خلال الأجهزة الإدارية والقضائية والپوليسية والتمثيلية والأيديولوچية للدولة.
إن استيلاء الأيديولوچيا السياسية الدينية على الدولة فى بلد من البلدان إنما يعنى أنْ تحلّ طبيعة الدولة محل طبيعة الدين، أىْ أنْ تسلك الأيديولوچيا الدينية كدولة فى يد الطبقة الحاكمة تحمى مصالحها وتقمع معارضيها الذين تعتبرهم أعداءها. ذلك أن ما يستولى على الدولة ليس الدين فى سماواته بل البشر على الأرض المنتمون إلى طبقات ومصالح الطامحون لإدارة الدولة لتحقيق مصالحها رغم المشاعر والرغبات والتصورات التى تملأ عقول وقلوب قواعد الحركات التى تتبنَّى هذه الأيديولوچيا الدينية السياسية والتى تتطلع إلى إقامة حياة عادلة على الأرض.
ولكنْ ألا يصدق الشيء ذاته على الثورة الاشتراكية أو الشيوعية والدولة النابعة منها؟ ألا يقوم نفس التناقض بين الأيديولوچيا والمثل العليا الشيوعية من جانب والدولة الاشتراكية التى تتأثر إلى حد ما بهذه الأيديولوچيا غير أنها تتأثر أكثر بالواقع الاقتصادىّ والطبقىّ التاريخىّ الموروث والقائم وبالصراع الطبقىّ المحتدم رغم مزاعم الانسجام؟
والحقيقة، كما أثبت تاريخ الدولة الإسلامية فى أزهى عصورها، عصور الحضارة العربية الإسلامية، وكذلك تاريخ الخلافة العثمانية، وفى العصر الحديث (إيران)، هى أن الأيديولوچيا السياسية الإسلامية، السنية أو الشيعية، يحوّلها الواقع الاجتماعىّ-الاقتصادىّ إلى عامل من عوامله، أىْ إلى التعبير عن سيطرة وتسلط طبقة حاكمة على بقية الطبقات، وعلى البلدان المجاورة من خلال الفتوحات. ولم نر أىّ نتيجة أخرى تتمثل فى تحرير حياة الإنسان المسلم الذى تواصلت معاناته وتواصل شقاؤه فى سياق علاقات القهر والاستغلال.
ويمكن القول إن الشيء ذاته أثبته (فى حدود تجارب القرن العشرين فقط بطبيعة الحال) تاريخ العلاقة بين الأيديولوچيا الشيوعية والدولة الناشئة عن الثورة البلشڤية. وعندما انقلب العالم الذى ظل يُعْتَبَر عالم الاشتراكية (الاتحاد السوڤييتى وأوروپا الشرقية والصين وبلدان أخرى فى آسيا وأمريكا اللاتينية) واتضحتْ بجلاء الحقيقة الرأسمالية-البيروقراطية لذلك العالم الشيوعىّ أو الاشتراكىّ صار من السخف ألا نعترف بأن التناقض بين المثل العليا للأيديولوچيا الشيوعية والواقع التاريخىّ للدولة التى تنشأ عما سُمِّىَ بالثورة الاشتراكية. فهل كانت تلك ثورات اشتراكية؟ وهل تحققت فيها شروط الثورات الاشتراكية عند اندلاعها أصلا؟ وهل تحققت السيرورة الاشتراكية بعد انتصار الثورة؟
وها هى الثورة الاشتراكية تتحول إلى لغز! وها هى دولتها تتحول إلى لغز!
ونعلم جميعا أن الفوضوية، أو اللاسلطوية كما يفضل تسميتها بعض مناضليها، تقف موقف الرفض من دولة يفوضها التاريخ بالقيام بمهمة تحويل المجتمع الرأسمالىّ إلى مجتمع شيوعىّ. وفى منافشة دارت بينى وبين عدد من المناضلين الفوضويِّين أو اللاسلطويِّين بمدينة پيزا، إيطاليا، منذ أكثر من عام ونصف، فى مكتبة عامرة بالمؤلفات الفوضوية وغيرها وتضم مخطوطات أصلية لكبار مفكريهم، وجدتُ منهم الرفض الكامل لفكرة حزب سياسىّ يعمل فى سبيل قيادة ثورة يتم تنظيمها فى دولة لتحقيق الشيوعية. وقلت لهم إنه ينبغى النظر إلى المستقبل بقدر ما يتعلق الأمر بالفوضويِّين والماركسيِّين على أنه مستقبل يختلف عن الماضى. فالفوضوية شيوعية والماركسية شيوعية وتدور نقطة الاختلاف الكبرى حول فكرة الدولة، وسيكون من الخطأ بعد تجربة الثورات المسماة بالاشتراكية خلال القرن العشرين والدول التى نشأت عنها وإعادة إنتاجها للرأسمالية من خلال سيطرة الدولة والبيروقراطية أنْ نتصور أن الماركسية سوف تحتفظ بنظرياتها عن الدولة والثورة كما هى، فالنضال فى سبيل الثورة سيكون نضالا طويلا ناضجا على العكس من الثورة البلشڤية وبالتالى ستكون الثورة أعمق وجماهيرها أوسع وأنضج وعيا وبالتالى فإنها لن تعتمد على دولة بنفس المواصفات اللينينية أو الستالينية أو الماوية، وستغدو العلاقة بين الدولة والديمقراطية مختلفة تماما عن كل شيء تحدث عنه الماركسيون أو توقعوه أو حققوه. ورغم أننا لا نعلم المدى الذى سيصل إليه هذا التطور فإننا على كل حال إزاء خطوة مهمة للغاية سوف تقطعها الماركسية بعيدا عن الدولة، الأمر الذى ينطوى على احتمال تقارُب من نوع مّا بين الماركسية والفوضوية، ولعل مما يدل على هذا التقارب الآن تلك الأشكال الهَجينة التى تجمع بين الماركسية والفوضوية. وأعتقد أن على الماركسيِّين أنْ يبدأوا مناقشة معمقة تاريخية بمعنى الكلمة حول الثورة والدولة، حول كل منهما وحول علاقاتهما حتى يكون السير إلى الأمام ممكنا.
وإذا عدنا إلى الكتاب الذى أقدمه للقارئ فإن إحدى حسناته الكثيرة تتمثل فى أنه بعيدا عن الأمانىّ والأوهام والتفاؤلات الساذجة، يلفت نظرنا إلى أهمية الحساب. ولم يتناول الكتاب ظاهرة إلا واستغرق فى حساب مختلف احتمالات متغيراته، على سبيل المثال: الإثنية والانفصال؛ فمتى تندفع إثنية أو حركة إثنية فى طريق الانفصال، ومتى تكون محاولتها ناجحة ومتى تفشل، وما علاقة هذا بوضع يتميز بعدد قليل من الإثنيات المتناظرة القوة أو بوضع يتميز بكثرة من الإثنيات مع إثنية مسيطرة أو إثنيتين مسيطرتين، وكيف يكون حساب ميزان الأفضلية/المزايا، فى المفاضلة بين البقاء ضمن إطار دولة قومية متعددة الإثنيات أو الانفصال عنها، وما علاقة المساواة أو اللامساواة الاقتصادية بذلك، ومتى تكون أشكال من النضال المسلح واردة ومتى تكون غير واردة؟ كذلك فإن جدل الاستقرار وعدم الاستقرار وشروط حظوظ كل منهما قضايا تخضع للحساب الدقيق، مثل كل القضايا والظواهر والتطورات الأخرى التى يبحثها الكتاب، ولهذا يكون تقييم مختلف نظريات العالم الثالث من حيث مزاياها ونقاط ضعفها على أساس مثل هذه الحسابات الدقيقة لمعطيات الواقع ومتغيراته بالمقارنة مع تفسيراتها، ولهذا أيضا فإن الديمقراطية، أو التبعية، أو الاستغلال، أو التدخل العسكرىّ الداخلىّ أو الأجنبىّ وكل عنوان آخر (عشرات العناوين فى الواقع) لا يرد العنوان الواحد منها فى مكان واحد أو فصل واحد عند تناول موضوعه بل يتكرر كل عنوان عند تناول كل عنوان آخر، لأن كل هذه الظواهر المتعددة إنما هى تجليات وعوامل ومتغيرات الكل الواحد المتمثل فى الحياة الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية-الثقافية للبشر على الأرض، حيث تؤثر كل ظاهرة فى كل ظاهرة أخرى وتتأثر بها، وحيث يكون المركز فى كل نقطة كما يمرّ المحيط من كل نقطة على العالم ككل وعلى كل ظاهرة فى سياق تطورها. إن هذا الحساب الدقيق للعوامل والمتغيرات عند بحث كل تطور اجتماعىّ-اقتصادىّ يختلف تماما عن عالم الأوهام الذى يعيش فيه كثير من مثقفينا الذين اعتادوا تسجيل المبادئ والمواقف والشعارات متجاهلين ضرورة بحث المسار الفعلىّ للتطورات. وما يميز حسنين هيكل بالذات عن كل مثقفينا اليساريِّين جميعا تقريبا، رغم تكوينه الفكرىّ الغربىّ، هو أنه ينكبّ على تحليل الواقع العينىّ ومساره العينىّ منتهيا بثقة إلى تنبؤات تصيب كثيرا وتخيب قليلا، على حين لا يقوم يساريونا إلا بالشجب والإدانة وإعلان المبادئ وترديد الشعارات دون أدنى اجتهاد.
ويذكر المؤلف فى مقدمته، كما سنرى بعد قليل، أنه فى هذه الطبعة الثالثة من طبعات كتابه (طبعة 2009)، حذف الفصل الخاص (فى طبعتيْه السابقتين) بنظريات الإمپريالية والكولونيالية الذى حلَّل تفسيرات العلاقات بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة التى صارت حاليا ذات أهمية تاريخية، إلى حد كبير، إذْ حلت محلها أشكال الاستعمار الجديد، موضوع الفصل الجديد (الفصل 3). والحقيقة أن الكتاب لا يتجاهل الشروط التاريخية لنشأة العالم الثالث تماما غير أنه لا يبحثها كما ينبغى للسبب الذى ذكره، أىْ لأن تلك الشروط لم تَعُدْ لها سوى أهمية تاريخية، فى نظره، أو لأنه لا يمكن القول إن الحالة الراهنة للعالم الثالث تفسِّرها الكولونيالية التى سيطرت على أراضيها وشعوبها فى مرحلة تاريخية سابقة فى نظر المؤلف أيضا.
على أن بحث التاريخ لا يمكن أنْ يصير "ذا أهمية تاريخية"، خاصةً إذا كان تاريخا كبيرا إلى هذا الحدّ وقريبا إلى هذا الحدّ. ومن بين الاحتمالات النظرية والتاريخية أنْ يكون ذلك التاريخ قد وضع العالم الثالث داخل شروط موضوعية لا مخرج جذرىّ منها إلا على سبيل الاستثناء القابل للتفسير بشروط جديدة تقوم بتحييد تلك الشروط الموضوعية التاريخية الموروثة.
والقصة باختصار شديد هى أن الدول الاستعمارية الأوروپية مع بداية دخولها المرحلة الرأسمالية قامت بفتح أراضى وشعوب ما يسمى الآن ببلدان العالم الثالث (فى القارات الثلاث) والتى كانت قد تأخرت عن الوصول إلى المرحلة الرأسمالية. وفى هذه الحالة نجد دولا (خاصةً إنجلترا وفرنسا وقبلهما إسپانيا والبرتغال وهولندا) تسير بخطى حثيثة على طريق الثورة الصناعية والرأسمالية والإمپريالية استعمرتْ بلدانا متأخرة أىْ قبل-رأسمالية وحوّلتها إلى مستعمرات وأشباه مستعرات وأخضعتها لعلاقات الاستغلال والنهب والقهر والاستعباد. كانت الدول أو البلدان الأخرى قابلة لأنْ يتمّ غزوها وفتحها واستعمارها فصارت مستعمرات، بسبب التقدم الرأسمالىّ المتواصل فى البلدان الاستعماريّة والوضع قبل-الرأسمالىّ الذى تواصل ترديّه وتدهوره فى ظل السيطرة الاستعمارية. ولا شك فى أن الدول الاستعمارية تقوم من خلال سيطرتها بإدخال أشكال وأنواع من التقدم فى أوضاع المستعمرات. ذلك أن السيطرة الاستعمارية كانت تعنى فى حد ذاتها قيام الدول الاستعمارية والرأسمالية بوجه عام بتصدير السلع الصناعية إلى المستعمرات واستيراد المواد الأولية منها وتصدير رؤوس الأموال إليها (لاستثمارها فى شروط تحقق أقصى الربح فى المستعمرات) وكذلك البشر (سواء بصورة مستديمة من خلال الاستعمار الاستيطانىّ أو بصورة مؤقتة بالأعداد الكافية للإدارة الاستعمارية والنشاط الاقتصادىّ والغزو الثقافىّ فى كل مستعمرة). وهكذا يأتى الاستعمار الكولونيالىّ ثم الإمپريالىّ (منذ بداية القرن العشرين) إلى المستعمرات بالحضرنة والمدن الحديثة والمواصلات الحديثة والكهرباء والأجهزة والمعدات الحديثة الصناعية والزراعية والخدمية وغير ذلك. ولا يمكن تصوُّر الجوانب الحديثة للحياة فى العالم الثالث بدون صعود الحضارة الرأسمالية فى الغرب بكل منجزاتها ومخترعاتها وكذلك بكل توسُّعها. ونكون هنا إزاء علاقة فاعلية ومفعولية بصورة بالغة النقاء فى المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهنا نرى بوضوح كيف يُعيد الغرب الرأسمالىّ خلق باقى العالم على صورته، وليس المقصود بحال من الأحوال تحويل باقى العالم إلى الرأسمالية بل فرض علاقات السيطرة والخضوع والتبعية على باقى العالم وتعنى إعادة خلقه على صورة الغرب إعادة خلقه بما يتلاءم مع سيطرة الغرب ومصالحه وأهدافه، مع الاحتفاظ به بكل الوسائل فى إطار التبعية ومنعه من التقدم الرأسمالىّ الشامل لأن تخلفه شرط لاستمرار السيطرة عليه واستغلاله ونهبه. وهنا يحدث تطور بالغ الأهمية فيما سُمِّى فى مرحلة تالية بالعالم الثالث (أىْ عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات فى السابق): ثورة سكانية بدون ثورة صناعية وتستفحل هذه الظاهرة التى تكون فى مرحلة أولى نعمة (بالقياس إلى تكوين شعوب كبيرة نسبيا فى المستعمرات مع حياة حديثة أو شبه حديثة) وتنقلب فى مرحلة تالية إلى نقمة حقيقة (حيث يعيش مليارات البشر بدون اقتصاد حقيقىّ تقريبا فى ظروف من سوء التغذية والجوع والمجاعات والفقر والحروب الأهلية والتدخلات الإمپريالية).
وهكذا تنغلق الآفاق أمام حاضر ومستقبل هذه البلدان. ولم تمثل الاستقلالات والتنميات مخرجا جذريا من هذه الحالة، الحالة العالم-الثالثية. فالتنميات لم تكن تنميات اقتصادية واجتماعية وثقافية شاملة تقوم على الصناعة وثمارها على الزراعة والمجتمع والتحديث الثقافىّ. والنتيجة إخفاق التنميات والدخول فى مرحلة من التراجع التاريخىّ على كافة المستويات الاجتماعية-الاقتصادية-الثقافية. ومع هزال التنميات وإخفاقها تستمر وتتواصل وتتفاقم وتستفحل التبعية الاستعمارية لهذه البلدان التى يبقى استقلالها مجرد استقلال قانونىّ ودستورىّ إذْ تظل سياستها أيضا تابعة.
وتتواصل هذه الثمرة الخبيثة التى كانت محصلة للتفاعل بين عمليتين متزامنتين هما عملية وصول بلدان غربية إلى الرأسمالية أولا وبالتالى سيطرتها على باقى العالم، وعملية استمرار المجتمعات والاقتصادات والتكوينات السياسية والثقافية قبل-الرأسمالية، وهى عملية إعادة إنتاج للتخلف والتدهور، فى باقى العالم، الذى يصير موضوعا للفتح والغزو والسيطرة.
ومن الخطأ اعتقاد أن هذا التاريخ غير البعيد ليس له سوى أهمية تاريخية، لسبب بسيط هو أن الوضع الناشئ عن الفتوحات الاستعمارية لا يكاد يترك منفذا للخروج منه، والدليل الدامغ هو إخفاق الاستقلالات والتنميات واستمرار التبعية الاستعمارية فى العالم الثالث.
على أن انقسام العالم خلال أكثر من نصف قرن فى القرن العشرين إلى غرب رأسمالىّ وشرق شيوعىّ كما تصوره الغرب وكما تصوره العالم الثالث أيضا فتح فى الواقع الفعلىّ حينا وفى عالم الأحلام الوردية أحيانا إمكانات وفُرَصًا أمام بلدان العالم الثالث، ليس فقط فى حدود اللعب على الحبال دون إحداث قطيعة مع علاقات التبعية، بل أيضا فى الأفق الأوسع للتحول الاجتماعىّ التاريخىّ فى بعض البلدان بعيدا عن التبعية أو تحسينا لشروط التبعية.
وهنا قصور فادح فى الكتاب الذى أقدمه إلى القارئ. فرغم تركيزه العميق للغاية على التنوُّع البالغ القائم بين بلدان العالم الثالث فإنه يحاول الابتعاد عن تمزيقها إلى مجموعات أبعد من مجموعات الدخل ومعدل النمو ونصيب الفرد كما تقدمها المؤسسات الاقتصادية الدولية. ويؤدى به هذا إلى تجاهل بلوغ التنوع فى بعض الحالات إلى الاختلاف العميق الذى قد يفتح الباب للخروج من خصائص وسمات مصير العالم الثالث بالنسبة لبعض البلدان. ورغم الاختلاف المعترف به بين بلدان أفريقيا جنوب الصحراء من ناحية والنمور الآسيوية القديمة والجديدة من ناحية أخرى، يتجاهل المؤلف أهمية بحث المصائر المحتملة لهذه النمور أو التنانين بعيدا عن قَدَر العالم الثالث ومصيره.
ويبدو الوضع الخاص للنمور، بانفلاته المتحقق أو المحتمل من مأزق الحالة العالم-الثالثية مناقضا تماما للقفص الحديدىّ الذى وضع فيه الاستعمار الكولونيالىّ والإمپريالىّ العالم الثالث بلا مخرج محتمل منه. غير أننى أشرتُ فيما سبق إلى الاستثناء. ذلك أن أوضاعا تاريخية خاصة ترتبط بالأزمات الكبرى للرأسمالية العالمية من جانب وبظروف خاصة فى بعض مناطق العالم من جانب آخر، يمكن أنْ تؤدِّى إلى سير بلدان تنتمى تاريخيا إلى عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات أو حتى العالم الثالث نحو الرأسمالية بلا نعوت من خلال دروب خاصة.
وإذا كانت بلدان عديدة قد تأخرت عن رأسمالية أوروپا الغربية ثم لحقت بها مثل ألمانيا وروسيا وإيطاليا والياپان وغيرها، وهى بلدان لم تكن من مستعمرات الغرب الرأسمالىّ، فإن النمور القديمة والجديدة تمثل مجموعة جديدة تسير فى نفس الطريق رغم أنها لم تَعْبُرْ بَعْدُ بصورة حاسمة كل الحواجز والعقبات التى تعترض سبيل صيرورتها الرأسمالية، ولم تكن هذه البلدان، مستعمرات وإنْ كانت فى وقت ما أشباه مستعمرات، بأغلبيتها أىْ واقعة بوجه عام تحت التأثير الاقتصادىّ والسياسىّ والثقافىّ العميق للكولونيالية والإمپريالية دون احتلال عسكرىّ مباشر أو إدارة استعمارية مباشرة.
وتمثل التجربة الصينية الماوية الكبرى، أىْ الثورة الفلاحية بقيادة ماركسية تهدف إلى الاشتراكية والشيوعية، التقاءً فريدا بين هذا الظرف التاريخىّ فى تلك المنطقة من العالم والظرف التاريخىّ الدولىّ المتمثل فى وجود الاتحاد السوڤييتىّ وقوته الاقتصادية والسياسية والعسكرية وتحت نفس الرايات الماركسية والشيوعية. ومن الناحية الموضوعية فإن بلدا رأسماليًّا كبيرا وقويًّا وجديدا على المسرح الدولىّ، وجديدا فى كونه تكوينا رأسماليا ناشئا عن ثورة رأسمالية ذات قيادة ماركسية وشيوعية ساعد الصين الشبيهة بروسيا من نواح عديدة وبالأخص من حيث الثورة الشعبية ذات المحتوى الرأسمالى والقيادة الشيوعية على تفادى الوقوع تحت السيطرة أو التبعية الاستعمارية الجديدة، وبناء دولة رأسمالية عملاقة توشك على إعادة صياغة العلاقات الاقتصادية والسياسية الأساسية فى العالم، وتوشك على الدخول كقوة حاسمة فى عالم متعدد القطبية.
وبطبيعة الحال فإن الأراضى الصينية الأخرى مثل تايوان وهونج كونج وكذلك كوريا الجنوبية سارت فى طريق التطور الرأسمالىّ من دَرْب آخر هو درب الالتقاء بين ظروف هذه البلدان التى كان يلقيها الخوف من الصين وروسيا والشيوعية فى أحضان الولايات المتحدة الأمريكية التى كانت تتلمظ على إدخالها فى برنامجها لتطويق وحصار الصين والاتحاد السوڤييتى ليس فقط عسكريا، بل أيضا من خلال خلق واجهات أو "ڤتارين" رأسمالية متقدمة ومتوهجة (رغم الديكتاتوريات التابعة فى هذه البلدان)؛ وذلك على العكس من التوجه الرأسمالىّ العالمىّ العام: عدم السماح (بكل الوسائل) لباقى العالم بالتحول إلى الرأسمالية الحقيقية أو إلى الاشتراكية والشيوعية. وإذا كان الغرب الرأسمالىّ قد ساعد بقوة على انهيار كل تطور محتمل نحو الاشتراكية والشيوعية، ونجح أيضا فى منع تطور باقى العالم إلى الرأسمالية، فقد فشل فى منع تحول الصين إلى الرأسمالية، وساعد بنفسه فى تطور رأسماليات أخرى ابتلعتْها الصين (هونج كونج) أو ستبتلعها (تايوان)، بالإضافة إلى كوريا الجنوبية.
وبدلا من هذا نجد الصين فى هذا الكتاب فى قائمة واحدة مع السعودية، ومع زامبيا، ومع السودان، وغيرها، تحت عنوان واحد مضلِّل هو العالم الثالث.
وتبقى ملاحظة أخيرة على الكتاب.
فى سياق بحثه العميق للعالم الثالث من حيث التفسير والتغيير، والاستقرار وعدم الاستقرار، والعوامل المتنوعة المؤدية إلى حفز أو تثبيط الثورة، لا يجد المؤلف، محقا فى ذلك كل الحق، أفقا قابلا لمجرد النقاش سوى عملية الدَّقْرَطة فى العالم الثالث، على أن هذا النقاش بدوره سلبىّ ففى عالم الاستغلال، واللامساوة الاقتصادية، والقمع، والانقلابات والتدخلات العسكرية الداخلية والخارجية، والبيروقراطيات والدول المفرطة النمو، والحروب الأهلية، والحركات الانفصالية، والأصوليات والإثنيات المتناحرة، والثقافات قبل-الرأسمالية، وغير ذلك، لا تستطيع الدَّقْرَطة أنْ تكون عملية عميقة ناجحة.
وهنا لا تبقى سوى الأخطار الكئيبة التى تُحْدِق بالعالم الثالث، ولا يتجاهل المؤلف تلك الأخطار التى يدركها جيدا ويتناولها كتابه دون مواربة.
غير أن هذا لا يكفى. لا يكفى أنْ نتحدث عن الأخطار البيئية والأوبئة والمجاعات والحروب الأهلية واستفحال الفساد وتدهور الرعاية الصحية وتفشى الفقر والجهل والمرض. لا يكفى الحديث عن هذه الأخطار وكأنها وضع فظيع دائم وثابت يسبب المعاناة والشقاء فى عالمنا الثالث. فالوضع الراهن ينبغى النظر إليه من زاوية تغيُّره ومستقبله، فإذا كان هذا الوضع لا يتحسن ولا يتطور ولا يتقدم فإنه لا يظل على حاله. إن عدم السير إلى الأمام يعنى التراجع إلى الوراء. وعندما نتحدث عن التهميش طوال عقود طويلة فإن الاستمرار فى الحديث عن التهميش يصير مضلِّلا للغاية. وإنما يقود المزيد من التهميش المتواصل إلى أشكال قصوى من التدهور والانهيار. وهنا تندمج الأخطار المتنوعة التى نتحدث عنها خطرا خطرا فى خطر كبير واحد مؤداه الانهيار والانقراض.
والحقيقة أنه قد يكون من الأدب والتهذيب أنْ نكفّ عن إيلام الناس بالحديث عن الأخطار القصوى، غير أن الحديث عنها بكامل أبعادها هو الذى يمكن أنْ ينقذ منها، وإنْ بصفة جزئية، وبدلا من دفن رؤوسنا تحت الرمال ينبغى أنْ نَنْتَبه ونُنَبِّه إلى الأخطار القصوى المُسْلَطة فوق رؤوسنا مثل سيف ديموقليس. ولعل هذا أنْ يدفعنا إلى التفكير العميق، والبحث العميق، على كافة المستويات للتوصُّل إلى مخرج حقيقىّ، قبل أنْ نصل إلى نقطة اللاعودة. وينبغى أنْ ندرك جيدا أنه يوجد شيء اسمه نقطة اللاعودة.
وأنا شخصيا لا أعرف مَخْرَجا حقيقيا مما نحن فيه! وأعتقد أن ما يواجهنا فى عالمنا الثالث هو هذا التحّدى: التحديث الشامل السريع، الصناعىّ والثقافىّ، فى سباق مع الزمن، أو الانقراض، فهل نكون على مستوى التحدِّى؟! ولكنْ مَنْ المفوَّض تاريخيا بتحقيق هذا التحديث الشامل: الطبقات الاستغلالية التى تقهر الشعوب أم الطبقات العاملة المضطهدة والمقموعة والمقهورة وبالأخص غير المسيَّسة وغير الواعية فكريًّا؟! والطبقات من النوع الأول تدفعها مصالحها وبالأحرى جهلها حتى بمصلحتها فى الاستمرار بعيدا عن التحديث الرأسمالىّ الشامل والطبقات من النوع الثانى مقهورة ومقموعة رغم حركاتها الاقتصادية والإضرابية مع أن مصالحها التاريخية تتمثل فى الاشتراكية فيما تتمثل مصلحتها المباشرة على الأقل فى مجرد البقاء فى سياق أىّ تقدم منقذ حتى وإنْ كان فى إطار نظام رأسمالىّ حقيقىّ. ذلك أن ما ينقذ العالم الرأسمالىّ فى الغرب أو الشمال ليس سوى الرأسماليّة المتقدمة رغم استغلالها وقهرها لشعوب الغرب مهما كان ما ينقذ مستقبل شعوبها يتمثل فى الاشتراكية والشيوعية.
شرم الشيخ، 27 أكتوبر 2010                       
إشارة
1: أعتقد أن لفظة "دَقْرَطة" أفضل من لفظة "مَقْرَطة" لابتدائها بالحرف الأول من لفظة "ديمقراطية"؛ أىْ الحرف الأول من لفظة "ديموس" dēmos أىْ "شعب" باليونانية، كما تتفق مع الصرف العربىّ فى الرباعىّ المجرَّد وخُماسيِّه واشتقاقاتهما مثل "مَقْرَطة" أيضا فى هذا الجانب؛ كما أن "دَقْرَطة" أفضل من "دَمَقْرَطة" التى صارت شهيرة أيضا فمع أن لهذه اللفظة الأخيرة ميزة أنها تأخذ حرْفيْن من بداية الأصل اليونانىّ بترتيبهما إلا أنها تدخل فى مشكلة مع قواعد وأصول النحت والاشتقاق لأنها لا تتفق مع الميزان الصرفىّ العربىّ فى أىّ وزن من أوزانه مما يخلق مشكلة اشتقاقية حقيقية – المترجم.
 
 
 
 
 
19
انهيار النموذج السوڤييتى: الأسباب والنتائج
 
الطبعة الأولى بعنوان العاصفة تهبّ، دار النهر، 1995،
الطبعة الثانية، المركز القومى للترجمة بالعنوان الجديد، القاهرة، 2010
 تأليف: كريس هارمان Chris Harman
(مقدمة)
 
بانهيار النموذج السوڤييتى فى كل مكان (حيث يبدو أنّ انهياره فى بقية بلدانه لم يعد سوى مسألة وقت) تكتمل دورة كبرى من دورات التاريخ الحديث تميزت بوجود هذا النموذج وبانقسام العالم، بالتالى، إلى غرب (رأسمالى) وشرق (سوڤييتى) وعالم ثالث (تابع للغرب أخفقت كافة محاولاته للفكاك من إسار هذه التبعية بالاستفادة من وضع دولى تميَّز بالتناقض والحرب الباردة بين المعسكرين: الغرب والشرق).
والصورة المستقبلية العامة التى يرسمها انهيار واختفاء هذا النموذج وتبنِّى بلدانه للنموذج الرأسمالى الغربى، هى صورة شمال اتحد بشرقه وغربه فتضاعفت قوته وتضاعف جبروته، وجنوب يتمثل فى عالم ثالث متخلف تضاعف ضعفه وتضاعف انهيار مقاومته. إنها صورة تحتل صدارتها رأسمالية عالمية متحدة موحدة عاتية رمزها الموحى هو حلول ألمانيا الموحدة محل ألمانيا (الاتحادية) وألمانيا (الديمقراطية) المتنافستين السابقتين، ولا يخفى أنها صورة تحيط الثورات الاشتراكية، وحتى كل استقلال وطنى، بإطار كئيب من الشروط غير المواتية. وكل ما يبدو فى الأفق هو أنّ التحولات الجارية فى بلدان النموذج السوڤييتى، وهى بلدان ذات مستويات متباينة فى التطور، تبايُن كوبا والاتحاد السوڤييتى، ستضاعف ببعض هذه البلدان قوة الشمال وببعضها الآخر بؤس الجنوب.
التاريخ والأسطورة
بديهى بطبيعة الحال أنّ مفتاح فهم المغزى الحقيقى لهذه التحولات الجارية فى بلدان الشرق، وبالتالى فى كل العالم، يتمثل فى فهم الطبيعة الاجتماعية للنموذج السوڤييتى، هذا النموذج الاقتصادى والسياسى والأيديولوچى الذى ساد طوال العقود السابقة فى بلدان ما كان يسمَّى بالمنظومة الاشتراكية العالمية فى أعقاب ثورات أو نتيجة لزحف الجيش الأحمر.
غير أنّ الطبيعة الاجتماعية للنموذج السوڤييتى ظلت، على مدى العقود التى عاش فيها هذا النموذج، عقدة مستعصية فلم ينعقد عليها أى إجماع من أى نوع، بل تمايزت وتبلورت ماركسيات متعددة متباينة انطلقت من الاختلافات حول هذه المسألة المحورية.
وهناك بوجه خاص الماركسية السوڤييتية التى رأت أنّ هذا النموذج يساوى الاشتراكية والتطبيق الخلاق للماركسية-اللينينية، ونقيضها المباشر، وهو الاتجاه الذى ينتمى إليه مؤلف هذا الكتاب، وهو اتجاه حزب العمال الاشتراكى فى بريطانيا بزعامة تونى كليف Tony Cliff، الذى رأى منذ أواخر الأربعينيات، وليس الآن، أنّ هذا النموذج ليس سوى النموذج الشرقى لنفس الرأسمالية الواحدة، نموذج رأسمالية الدولة البيروقراطية، كما رأى أنّ ثورة أكتوبر هُزمت، وأنّ "شيوعيتها" انهارت منذ أواخر العشرينيات من هذا القرن، وليس الآن.
وإذا صحت هذه النظرية الأخيرة فإنّ الموقف الراهن سيبدو أشبه بمشهد سوريالى: مآتم فى كل مكان على ظهر الكرة الأرضية يقيمها -الآن- الشيوعيون للشيوعية التى انهارت منذ أكثر من ستين سنة، وأفراح فى كل مكان على ظهر الكرة الأرضية يقيمها -الآن- أعداء الشيوعية لانهيار الشيوعية منذ أكثر من ستين سنة. ولسنا إزاء ذكرى حزينة أو سعيدة من أواخر العشرينيات، فالشيوعيون وأعداء الشيوعية على السواء يعتقدون أنّ الانهيار حدث أو يحدث الآن. ويعتقد الشيوعيون أنّ مؤامرة أعداء الشيوعية كانت عاملا حاسما وراء انهيار الشيوعية، رغم أنه لا مانع لديهم من الحديث عن "أخطاء وسلبيات" للتجربة، جعلت نجاح المؤامرة (الأمريكية بوجه خاص) ممكنا، أما أعداء الشيوعية فيهنئون أنفسهم مرتين، مرة لأنّ الشيوعية انهارت من الداخل لأنها ضد الطبيعة البشرية، ومرة أخرى لأنها انهارت تحت ضغطهم الطويل المظفر.
ولن يصدّق الشيوعيون أبدا أنّ شيوعيتهم كما تحققت فى الواقع والتاريخ لم تكن سوى رأسمالية دولة بيروقراطية، كما أنّ أعداء الشيوعية لن يصدقوا إلا أنّ الشيوعية تعنى فى الواقع البيروقراطية والامتيازات والاستبداد والشمولية حيث لا يمكن الزعم أنّ هذه الشرور "الشيوعية" اختفت منذ أكثر من ستين سنة فهى، بالأحرى، استفحلت وتفاقمت ولم تأخذ فى التداعى والانهيار إلا الآن.
وبعيدا عن مآتم الشيوعيين من الطراز السوڤييتى وأفراح أعداء الشيوعية من كل طراز، ينبغى أنْ نلاحظ أنّ هذا المشهد السوريالى ليس سوى المشهد الأخير من ملحمة سوريالية عاشتها البشرية قاطبة طوال عقود طويلة: ينقلب الحلم الشيوعى إلى كابوس يراه الشيوعيون فى منامهم ويقظتهم، خاصة خارج بلدان النموذج، أسطورة وردية أو الفردوس تحقق على الأرض، ولهذا يراه الرأسماليون فى كل مكان كابوسا ينبغى التخلص منه، وفى الحالين تتمثل الصياغة العقلانية لهذا الحلم الكابوس فى فكرة أنّ النموذج السوڤييتى هو نموذج الاشتراكية، وتغدو هذه الفكرة أسطورة تستحوذ على عقل وسلوك العالم بأسره، بشعوبه وحكوماته. ولا جدال فى أنّ هذه الأسطورة ليست الأسطورة الوحيدة التى سيطرت على الشعوب أو الحكومات فى القرن العشرين، ويكفى أنّ نتذكر أساطير أخرى بدت للشعوب أو الحكومات سُبُل خلاص فى فترة أو أخرى، فى كل أو بعض مناطق العالم كالفاشية أو تصفية الاستعمار أو التنمية. على أنّ هذه الأسطورة تبدو لى أشد هذه الأساطير شمولا، وأطولها أمدا، وأكثرها خصوبة، أى قدرة على توليد أساطير جديدة نعيش كثيرا منها الآن، فهى جديرة بالتالى بدراسات ريادية معمقة لفهم الإطار الثقافى، العقلى والأسطورى، الذى تعيش البشرية فى سياقه الآن.
ولكى نفهم عددا من تلك الأساطير المتولدة عن الأسطورة الأصلية، مثل الأسطورة القائلة بأنّ هذه النهاية للشيوعية أو نهاية هذه الشيوعية هى النهاية لكل شيوعية وبأنها بالتالى نهاية التاريخ، أو الأسطورة القائلة بأنّ انهيار النموذج السوڤييتى انقلاب فى اتجاه مجرى التاريخ الحديث، أو غيرهما من الأساطير، سيكون من الملائم أنْ نبتعد، وإنْ قليلا، عن الأساطير لنركز، وإنْ بسرعة، على الطبيعة الاجتماعية لهذا النموذج والتى يمثل فهمها كما سبق القول المفتاح الحقيقى لفهم مغزى وأبعاد ونتائج انهيار هذا النموذج.
الطبيعة الاجتماعية للنموذج السوڤييتى
يتوقف، إذن، مغزى وجود أو اختفاء هذا النموذج على حقيقة طبيعته؛ فهل كان ذلك النموذج اشتراكيا (كما زعم الخط السوڤييتى)، أم انتقاليا بين الرأسمالية والاشتراكية فى عهد ستالين (كما زعم تروتسكى Leon Trotsky) وكذلك فى عهود خلفائه (كما زعمت الأممية الرابعة)، أم جماعيا بيروقراطيا أى مجتمعا بعد رأسمالى لكنْ استغلاليا (كما زعم شاختمان Max Schachtman) أم رأسمالية دولة بيروقراطية (كما زعم تونى كليف)، أم اشتراكيا فى عهد ستالين انقلب رأسماليا وإمپرياليا اشتراكيا فى عهود خلفائه فيما يتعلق بالاتحاد السوڤييتى (كما زعمت الماوية)، أم اشتراكيا فى عهد ستالين ثم مهددا بعودة الرأسمالية من خلال التحريفية أو المراجعة (كما كان يؤكد الخط الماوى قبل المؤتمر التاسع للحزب الشيوعى الصينى الذى تحدث عن الإمپريالية الاشتراكية فى 1969، ويجدر بالذكر أنّ كاتب هذه السطور ظل منذ أواخر الستينيات وطوال السبعينيات وحتى بداية الثمانينيات من أنصار هذا "الطريق الثالث" الذى كان له حظ من الانتشار فى الهند ومصر، والذى لا يعدو أنْ يكون مرحلة من مراحل الفكر الماوى، الذى تتمثل نقطة ضعفه الرئيسية فيما يتعلق بهذه المسألة فى نظره إلى عهد ستالين على أنه عهد اشتراكى، وكان من المنطقى أنْ أتخلى خلال الثمانينيات عن هذا الموقف غير المتماسك وأنْ أنتقل إلى الفكرة القائلة بأنّ النموذج السوڤييتى ليس سوى رأسمالية دولة، وإذا كانت هذه الفكرة مشتركة لدى اتجاهات وشخصيات عديدة فإنه يبدو لى أنها تصل إلى أقصى تماسكها لدى  اتجاه "تونى كليف" وحزب العمال الاشتراكى البريطانى، وهو اتجاه أتفق معه فى هذه الفكرة بالذات، فى حين أتحفظ على، أو أختلف مع، بل حتى أجهل جهلا مباشرا، فى كثير من الأحوال، كثيرا من أفكاره وتوجهاته ونظرياته الأخرى) -أم ماذا؟
وليس من الوارد بطبيعة الحال، فى سياق مثل هذا التناول الموجز، أنْ أحاول مناقشة هذه النظريات والمذاهب، فلا مناص إذن من أنْ أكتفى بإشارات سريعة يمكن الارتكاز عليها، بعيدا عن أى عرض منهجى منتظم، إلى طبيعة وخصائص النموذج السوڤييتى.
فكيف أمكن أنْ تتحول ثورة أكتوبر إلى رأسمالية دولة، وأنْ ينقلب الحلم إلى كابوس؟
وبطبيعة الحال، لم يكن المجتمع الذى أعقب ثورة أكتوبر فى روسيا مجتمعا اشتراكيا. وإذا كان من المنطقى أنّ المجتمع التالى حتى لثورة اشتراكية لا جدال فى طبيعتها، حتى فى بلد رأسمالى غاية فى التطور، لن ينقلب إلى مجتمع اشتراكى فى غمضة عين، فإنّ المجتمع التالى لثورة أكتوبر لم يكن انتقاليا وحسب، بل كان كذلك مطبوعا بطابع تخلف روسيا القيصرية، وبالتالى بطابع خصائص ثورة أكتوبر وعدد من الأوضاع والظروف العالمية والمحلية البالغة التأثير.
وكان على ذلك المجتمع الانتقالى أنْ يتصدى لمهامه الجبارة، الدفاعية والهجومية، الحربية والمدنية، الاقتصادية والسياسية، الديمقراطية والاشتراكية، فى سياق شروط وأوضاع وظروف موضوعية وذاتية وثيقة الصلة بخصائص كل من روسيا القيصرية وثورة أكتوبر والحركة الشيوعية العالمية فى ذلك الحين.
فرغم التطور السريع العاصف للرأسمالية فى روسيا القيصرية فى العقود السابقة لثورة أكتوبر، ورثت الثورة والمجتمع الانتقالى التخلف الاقتصادى الذى ضاعفه الدمار الناتج عن الحرب العالمية الأولى وحرب التدخل من جانب 14 دولة والحرب الأهلية. وكان كل هذا التخلف الاقتصادى وثيق الارتباط بطبيعة الحال بالطابع غير الحديث للتركيب الطبقى والديموجرافى. وهكذا كانت روسيا بلد القنانة والفلاحين ولم تكن بلد الپروليتاريا التى كانت ضئيلة الحجم بالمعنى المطلق والنسبى. ولم يكن من شأن هذه القاعدة الاجتماعية الضيقة للثورة أنْ تؤمِّن هذه الأخيرة اجتماعيًّا وكان التحالف الثورى بين العمال والفلاحين تحالف جماهير متأخرة ثقافيّا وسياسيّا.
وفى سياق هذا التخلف الاقتصادى والاجتماعى للبلاد والتأخر الثقافى والسياسى للجماهير، أى قوى الثورة، جاءت ثورة أكتوبر ليس كثورة اشتراكية بلا نعوت أخرى، بل كثورة تنبع خصائصها وطبيعتها من كافة الشروط الموضوعية (المحلية والعالمية) والذاتية (الخاصة بقوى الثورة وقيادتها).
والحقيقة أنّ ثورة أكتوبر لا يمكن أنْ تكون مجرد موضوع للبحث الأكاديمى، بل ينبغى النظر إليها أولا ثم إلى الثورات التالية باعتبار الدروس المستفادة من فشلها فى الحساب الأخير دروس نجاح ثورات المستقبل. إنّ ثورة أكتوبر ليست مجرد تاريخ للبحث الأكاديمى وليست بالأخص تاريخا مقدسا قال فيه كرادلة البلشڤية كلمتهم الأخيرة. إنها، على العكس من ذلك، بحث مفتوح مادامت قضيتها قضية مستقبل وليست رمز حنين إلى ماض أسطورى.
ولم تكن ثورة أكتوبر ثورة أقوى حلقات السلسلة بل ثورة أضعف حلقات السلسلة. ولم تكن الأزمة التى فجرتها أزمة اكتمال نمو مجتمع جديد (الاشتراكية) فى رحم مجتمع قديم (الرأسمالية). ذلك أنّ المجتمع القديم ذاته (الرأسمالية) كان لا يزال جديدا لم يكتمل نضجه فى رحم مجتمع أقدم (الإقطاع). كما أنها لم تكن تعبيرا عن النمو الطبيعى لنضال أضداد التكوين البنيوى للمجتمع القديم بل كانت تلك الأزمة ترجع بصفة مباشرة إلى تأثير الحرب العالمية الأولى حيث خلفت الجيوش الألمانية فى سياقها فراغا هائلا فى روسيا عن طريق تدميرها اقتصاديا وعسكريا، فتفاقمت بالتالى أوضاع وأزمات جماهيرها إلى حدّ يستحيل معه العيش على المنوال نفسه. وكان ذلك التدافع المفزع من جانب طبقات المجتمع كافة ومن جانب قواه السياسية كافة لملء أو استغلال ذلك الفراغ هو المجرى الفعلى للثورة والثورة المضادة فى روسيا.
لسنا إذن إزاء اكتمال نضج مجتمع برچوازى من ناحية واكتمال نضج النضال من أجل انتصار الثورة الاشتراكية من ناحية أخرى. بل إنّ طبيعة الثورة ذاتها لم تحسم إلا فى معمعان معارك الثورة (أبريل 1917). ولهذا فإنّ مدى عمق الطابع الاشتراكى لثورة أكتوبر يغدو موضع شك، ويغدو من الواجب بحث هذه المسألة، بعيدا عن الخطب الرنانة، من أجل ثورات المستقبل.
على أنّ ثورة أكتوبر التى كانت تنتقم منها أوحال التخلف اقتصاديا واجتماعيا، كانت تعانى كذلك من ظرف عالمى غير موات. فالأزمة الحادة التى دفعت إلى الثورات فى أوروپا فى أعقاب الحرب العالمية الأولى كانت مرتبطة بدورها بتلك الحرب. وكانت رغم نضج التكوين الاجتماعي-الاقتصادى الرأسمالى فى الغرب تعبيرا عن تأثير الحرب وليس عن نضج وعمق النضال الپروليتارى فى سبيل انتصار الثورة الاشتراكية على مدى العقود السابقة لتلك الحرب. ولهذا فإنّ الأزمة لم تكن أزمة ثورية شاملة ولم تكن بالأخص أزمة ثورة اشتراكية. ذلك أنّ هذه الأزمة الأخيرة كانت تفترض من جانب نضج نمو التكوين الرأسمالى (الشرط الموضوعى الحاسم للثورة الاشتراكية) ومن الجانب الآخر نضج نمو النضال الاشتراكى (الشرط الثانى الحاسم للثورة الاشتراكية). وهذه هى الثورة الاشتراكية التى توقعها ماركس فى بداية الأمر: فى قلاع الرأسمالية. غير أنّ التاريخ كان يدّخر لكامل تاريخ الحركة الشيوعية العالمية مفاجأة غير متوقعة ولم تتضح أبعادها إلا على المدى الطويل: نضج التكوين الرأسمالى بوصفه عقبة فى سبيل نضج النضال الشيوعى طالما كانت الرأسمالية تمتلك ديناميات وآليات تجعلها قادرة على حفز واستيعاب ثورات تقنية جديدة من ناحية وعلى السيطرة الإمپريالية على العالم وعلى مقدراته الاقتصادية من ناحية أخرى، وعلى احتواء النضالات والأزمات وعرقلة نموها بالقدر المطلوب لثورات اشتراكية وخلق واستغلال الأرستقراطية العمالية والشوڤينية من ناحية ثالثة، كنتيجة للناحيتين الأولى والثانية. إنّ الشرط الموضوعى لا يسير هنا يدا فى يدٍ مع شرط ذاتى مناظر، فالتناظر ذاته غير وارد، حيث يستبعد الشرط الموضوعى الشرط الثانى فى مرحلة طويلة من التاريخ لا تزال مستمرة إلى الآن بصورة عامة، وإنْ كانت مقدمات نهايتها تتراكم باطراد خلال العقود الأخيرة. والحقيقة أنّ البلاشڤة كانوا يعلمون أنّ ثورة أكتوبر (وقبلها ثورة 1905) ثورة فى أضعف حلقات السلسلة، وليست ثورة فى أقوى حلقات السلسلة، فى قلاع الرأسمالية، كما تنبأ ماركس. ولكنهم كانوا يؤمنون مع ذلك بنبوءة ماركس بدليل أنّ أملهم الوحيد فى الانتصار الكامل للثورة فى روسيا كان يتمثل فى ثورة الپروليتاريا الأوروپية، فى قلاع الرأسمالية. ولَئِنْ كانت نبوءة ماركس صحيحة فإنّ توقع تحققها الوشيك أو القريب كان يعنى عدم إدراكه، وعدم إدراك لينين والبلاشڤة، لحقيقة أنّ الشرط الموضوعى للثورة فى الرأسمالية المتطورة يستبعد الشرط الذاتى طوال مرحلة تاريخية طويلة تتميز بأنّ تناقضات الرأسمالية لم تنمُ بعد إلى الحد الذى يفتح الباب أمام تكامل وليس تعارض الشرط الموضوعى والذاتى للثورة.
ورغم أننى أطلت فى هذه النقطة فقد يكون من المفيد أنْ أضيف أنّ ماركس ذاته لم يستبعد الثورة الاشتراكية فى بلدان متأخرة رأسماليا، وكان رأيه عن روسيا بالذات أنها يمكن أنْ تنتقل من المشاعة الريفية إلى الاشتراكية دون أنْ تمرّ حتما بكل مراحل الرأسمالية التى كانت قد بدأت تنمو فى روسيا بالفعل، بشرط أنْ تمتلك إنجازات الرأسمالية مع تفادى ويلاتها. ومن الجلى أنّ هذا الشرط الذى يعتبر بمثابة قانون عن تخطى المراحل لا يمكن أنْ يتحقق إلا بافتراض عملية ثورية عالمية أممية تشمل بلدانا متأخرة أو متخلفة وأخرى متطورة للغاية (أو على الأقل بلدين أحدهما متأخر والآخر متطور) حيث تقدم البلدان المتطورة العون المنهجى الشامل للبلدان المتخلفة فى مجال التحديث الجذرى لقواها الإنتاجية ولأسلوب حياتها. وهنا تتضح نقطة بالغة الأهمية فيما يتعلق بقضية طبيعة الثورة فهذه الطبيعة لا تتحدد بشكل إرادى داخل حدود بلد واحد مهما كان متخلفا فهى بالأحرى قضية أممية، بمعنى أنّ بلدا متخلفا يمكن أنْ يسير فى طريق ثورة اشتراكية تتجاوز شروطها الداخلية بشرط أنْ تكون هذه العملية ضمن عملية أوسع تشمل بلدا متطورا أو بلدانا متطورة بافتراض الإخاء الأممى والتعاون الأممى بلا حدود. والواقع أنّ هذا الشرط بالذات كان ينقص ثورة أكتوبر التى انتظرت سُدًى وبلا جدوًى نجدة الثورة الپروليتارية الأوروپية، وبدلا من النجدة الأممية سيكون هناك التطويق الإمپريالى وبناء الاشتراكية فى بلد واحد، كعقيدة أو فضيلة وليس كمجرد واقع أو اضطرار أو ضرورة.
وهكذا كان على ثورة أكتوبر أنْ تعانى محليا من التخلف الروسى؛ الذى كان من شأنه أنْ يقود إلى نشوء أزمة ثورية بتأثير حرب عالمية أو غير عالمية أو بدون حرب على الإطلاق، لكنْ دون أنْ يتأخر هذا التخلف عن فرض شروطه كافة، وأنْ تعانى أمميا من التقدم الأوروپى الذى كان من شأنه أنْ يَحُول دون نشوء أزمة ثورية عميقة وشاملة، وأنْ يساعد على استيعابها حربيا ومدنيا إذا نشأت مراحل منها بتأثير الحرب. وهكذا كانت الأزمة الثورية المحلية والعالمية بالتأثير المباشر للحرب غير أنه لم يكن بوسع مآثر الحرب أنْ تتجاوز خلق أو تعميق الأزمة، لا إلى إنقاذ الثورة الروسية من تخلف الأوضاع الروسية الأصلية، وبالتالى الحكم على الثورة بطبيعة محددة مهما كانت التصورات البلشڤية الذاتية عنها (مادامت هذه الثورة معزولة ومحاصرة)، ولا إلى نجدتها بثورة اشتراكية أوروپية اتضح فيما بعد أنْ توقُّعها وعقد الآمال عليها لم يكن لهما مبرر حقيقى.
على أنّ هناك شرطا ذاتيا قد يبدو أكثر رهافة؛ غير أنه حاسم مع ذلك فى المسار الفعلى لتطور الثورة، وكان هذا الشرط الذاتى غائبا. فرغم أنّ البناء الاشتراكى ينطوى على جدل الموضوعى والذاتى الذى لا يمكن التنبؤ سلفا بتفاصيله، إلا أنّ برنامج البناء الاشتراكى بخطوطه العريضة لكنْ الحاسمة ينبغى أنْ يكون موجودا ومستوعبا ومهضوما سلفا على أوسع نطاق من جانب قيادة وطليعة وجماهير الثورة، وإلا فكيف يمكننا أنْ نتصور قيام ديمقراطية مباشرة تمارس الجماهير من خلالها مهام الحكم وتخطيط الاقتصاد ممارسة فعلية، وليس فى الكتابات الإنشائية والخطب الطنانة قبل أو بعد الثورة، وكان تعليق البرنامج الذى تضمَّنه كتاب الدولة والثورة للينين رمز وعنوان هذا الغياب لبرنامج البناء الاشتراكى.
وهكذا وُلدَ المجتمع الانتقالى التالى لثورة أكتوبر محاصرا من كل جانب، وكان عليه أنْ يتصدى للقيام بمهامه الجبارة وأنْ يخوض معاركه الطاحنة، ببطولة الشعب وبحكمة القيادة، لكنْ أيضا مثقلا بقدر هائل من نقاط الضعف والشروط الموضوعية والذاتية غير المواتية.
والواقع أنْ ذلك المجتمع الانتقالى كان لا يملك ترف الشروع فى تحقيق التحول الاشتراكى المستهدف بالشروع على الفور فى تطوير القوى المنتجة ورفع مستوى معيشة الجماهير العاملة بصورة مطردة ومتوازنة، بل كان عليه، بدلا من البناء، أنْ يخوض الحرب سنوات (مع الاكتفاء بتدابير شيوعية الحرب)، وكان عليه أنْ ينطلق فى تطوير الاقتصاد والقوى المنتجة (بعد انتصار الثورة فى الحرب الأهلية) ليس فقط من مستوى تخلُّف سنة 1913 أو 1914 (أى مستوى ما قبل بداية الحرب) بل مضافا إليه دمار ست أو سبع سنوات من الحروب المتنوعة المتواصلة.
على أنّ الحرب الأهلية الطاحنة على مدى سنوات لم تدمر الاقتصاد وحسب، بل أنهكت الثورة والمجتمع الانتقالى بوجه عام ودمرت وأفنت الطبقة العاملة وبالأخص ومن باب أولى طليعتها البلشڤية. وكان هذا يعنى أنّ يغرق الحزب البلشڤى فى بحار من الجماهير غير الپروليتارية وغير المسيَّسة وغير المندمجة مع الفكر الثورى، وكان كل هذا يعنى بالتالى أنّ الاشتراكية المعلنة والمستهدفة ستُبْنَى بدون اشتراكيين، بدون ماركسيين، وإنْ تضخم الحزب باعتباره حزب السلطة.
وإذا كان الطموح الهائل الكامن فى ذلك المجتمع (التطور العاصف للرأسمالية فى روسيا قبل الثورة) وبالأخص فى البرنامج البلشڤى إلى تطوير جذرى للقوى المنتجة قد تلقَّى دفعة كبيرة من مجرد الإطاحة بالطبقات المالكة القديمة لكى ينفتح له الباب أمام تطور جبار عاصف، فإنّ انطلاق هذا التطور من عقاله فى ظل كل ذلك التخلف الاقتصادى والتقنى والثقافى، كان ينطوى على مشروع يعوض عن التخلف بأساليب التراكم البدائى ("الاشتراكى") الوحشية التى لا حاجة إليها بطبيعة الحال عندما تكون نقطة انطلاق التحول الاشتراكى رأسمالية متطورة.
وتفشل الثورة فى إقامة مؤسسات صحيحة للديمقراطية المباشرة للطبقة العاملة وجماهير العاملين، وينشأ نظام الحزب الواحد، وتفقد السوڤييتات والنقابات ديناميتها بصورة تدريجية فتنحط وتتدهور.
ورغم تحوُّل الماركسية إلى مذهب للدولة، فى التعليم والإعلام والدعاية والحزب والعمل السياسى والجماهيرى والأبحاث والعلوم والآداب والفنون، فإن هؤلاء الأنصار الجدد لدين الدولة لن يعوّضوا عن دمار المناضلين البلاشڤة فى الحروب حتى قبل التصفيات الستالينية، وبصورة تدريجية يتبلور مشهد عملية بناء جبارة لكن بلا شيوعيين حقيقيين، وبلا مؤسسات عمالية ديمقراطية من أى نوع.
ورغم المذهب القائل بأن الاشتراكية لا يمكن أن تكون إلا من صُنْع الجماهير، تصبح الاشتراكية وكل شيء آخر من اقتصاد أو تخطيط أو سياسة أو تنفيذ أو رقابة من صُنْع (ووظائف) بيروقراطية وأجهزة الدولة التى أصبح الحزب والسوڤييت والنقابة فى عداد أجهزتها من الناحية الفعلية.
ويندفع المجتمع السوڤييتى فى تحقيق مشروع بناء مجتمع حديث يمتلك قوى منتجة متطورة على حساب استهلاك الجماهير العاملة، وبقيادة وسلطة وامتيازات البيروقراطية وبالاعتماد على الأجهزة والأساليب الپوليسية مع دور الحزب والسوڤييتات والنقابات فى القمع الأيديولوچى والسيطرة على الجماهير، ومثل هذا المشروع لا يمكن إلا أن يكون مشروعا رأسماليا مهما كان نوعيا (رأسمالية الدولة البيروقراطية) ومهما استند على ملكية الدولة أو التخطيط أو الماركسية-اللينينية.
وإذا كان صعود الستالينية فى أواخر العشرينيات حركة كبرى من التراكم البدائى ("الاشتراكى")، والعصف ببقايا الديمقراطية فى كافة المؤسسات، وإرساء أسس النظام الشمولى، وصعود البيروقراطية إلى مركز طبقة حاكمة فى طور التكوين، فإن المجرى العام لثورة أكتوبر وللمجتمع الانتقالى المبكر، بكافة شروطه الموضوعية والذاتية غير المواتية، سهّل مهمة العصف بثورة أكتوبر باسمها وتبلوُر النموذج السوڤييتى الذى تم فيما بعد تصديره واستيراده، والذى تمثلت خصائصه الرئيسية فى اقتصاد الدولة ملكية وإنتاجا وتوزيعا وتخطيطا وسلطة بيروقراطية الدولة، التى اتخذت أشكالا ديكتاتورية پوليسية لا مثيل لها فى التاريخ الحديث، والعلاقات الاستغلالية البيروقراطية، والماركسية-اللينينية التى تسبِّح بحمد النظام الاشتراكى المزعوم القائم ولا تجرؤ على نقده، والأممية اللفظية فى السياسة الخارجية التى قامت فى واقع الأمر على المصالح السياسية والاقتصادية الإستراتيچية.
إن النموذج السوڤييتى الذى لا يمكننا هنا أن نتابع كافة نواحى نشأته ورسوخه ومراحله، وناهيك بتصديره واستيراده وغرسه فى بيئات أخرى ليس سوى رأسمالية دولة شمولية.
الانهيار ومغزاه
من الجلى أن هذا النموذج ينطوى فى داخله على جرثومة انهياره الأكيدة، ليس الانهيار الذى ينتظر كل "نموذج" رأسمالى وحسب، بل الانهيار المرتبط بخصوصيته النوعية، بوصفه رأسمالية دولة شاملة تحظر الاستثمار الرأسمالى الخاص.
ولعل من أبرز نقاط ضعف نظرية رأسمالية الدولة فى روسيا عند تونى كليف وكريس هارمان Chris Harman وغيرهما من قادة حزب العمال الاشتراكى فى بريطانيا، هذا العجز العقائدى عن استشراف هذا الانهيار. وأعتقد أن هذا العجز ينبع من الإحجام عن تحليل تناقضات رأسمالية الدولة حتى النهاية، وكأن إثبات أن الاشتراكية المزعومة فى بلدان النموذج السوڤييتى لم تكن فى واقع الأمر سوى رأسمالية دولة، يقتضى التعامى عن تناقضاها وأزماتها وعن المسار المحتمل لتطور تلك التناقضات والأزمات! 
والواقع أن كل أو تقريبا كل محاولات تفسير انهيار النموذج السوڤييتى تركز على فكرة "ردّة" رأسمالية راهنة (الخط السوڤييتى، الأممية الرابعة، الجماعية البيروقراطية) أو قريبة العهد أى بعد ستالين والمؤتمر العشرين (الخط الماوى وكذلك "الطريق الثالث" المشار إليه سابقا بالتبعية). ولكن هذه النظريات جميعا تواجه مآزق نظرية بالغة الصعوبة، فكيف يمكن تصديق حدوث ردة رأسمالية عن اشتراكية عالية التطور (الخط السوڤييتى) أو حتى اشتراكية عهد ستالين (الخط الصينى) أو عن اقتصاد انتقالى يُفترض فيه نمو الجديد الاشتراكى على حساب القديم الرأسمالى على مدى عقود طويلة (ماندل والأممية الرابعة) أو عن تكوين اجتماعي-اقتصادى بعد-رأسمالى جديد (شاختمان ونظرية الجماعية البيروقراطية)؟
أما نظرية رأسمالية الدولة (تونى كليف) فلا مكان فيها للحديث عن ردّة رأسمالية راهنة مع الپيريسترويكا أو قريبة العهد مع المؤتمر العشرين. والردة الوحيدة الواردة عند هذا الاتجاه هى الردة الرأسمالية البيروقراطية الستالينية فى أواخر العشرينيات عن ثورة أكتوبر وعن المجتمع الانتقالى الذى ازدوجت فيه بقايا التكوينات الموروثة عن روسيا القيصرية ومحاولات البناء الاشتراكى الأولى خلال قرابة العقد بعد الثورة. وإذا كانت هناك ردة راهنة فهى فى نظر هذا الاتجاه ردة عن شكل للرأسمالية (رأسمالية الدولة) إلى شكل آخر للرأسمالية الواحدة نفسها (الرأسمالية عبْر القومية). وإذا كان هذا الاتجاه يقدم بالفعل نظرية متسقة مع الطبيعة الرأسمالية البيروقراطية للنموذج السوڤييتى، ويقدم بالتالى تفسيرا عاما سليما لمغزى التحولات الراهنة باعتبارها حركة، ليس إلى الأمام وليس إلى الوراء، بل فى نفس المكان من حيث التكوين الاجتماعي-الاقتصادى الرأسمالى الواحد المستمر، فإن مسألة ما إذا كان تفسيره للأبعاد الهائلة والمفاجئة التى اتخذها انهيار النموذج السوڤييتى مقنعا وكافيا تظل مفتوحة للجدال.
لقد عاشت رأسمالية الدولة الشمولية، رغم تناقضاتها وأزماتها، عقودا طويلة. وفى هذا الزمن الطويل نسبيا أمكن لرأسمالية الدولة أن تعطى أروع ثمارها التى تتمثل فى تطوير القوى المنتجة بمعدلات نمو لا تفوقها سوى معدلات نمو الياپان، فحققت فى عقود معدودة ما احتاجت الرأسمالية فى الغرب لتحقيقه إلى مئات السنين. وفى هذا الزمن الطويل نسبيا أمكن لتناقضات وأزمات رأسمالية الدولة أن تتفاقم وتستفحل وتنضج لتعطى بدورها أروع ثمارها التى تمثلت فى كسر إطار الشمولية، وفتح الأبواب والنوافذ أمام نضال الجماهير العاملة فى سبيل حرياتها وحقوقها ومستويات معيشتها ونقاباتها وأحزابها وثوراتها.
فهل هناك ما يدعو للعجب فى أن تعيش رأسمالية الدولة الشمولية، رغم تناقضها وأزماتها، كل هذا الزمن الطويل؟
والواقع أن التناقض الجوهرى الذى ينطوى عليه هذا التكوين الاقتصادي-السياسى الشمولى، والذى يحتاج إلى زمن طويل لإنضاج تفاعلاته المؤدية إلى تفتيت وتفجير هذا التكوين الذى يتغلب عليه مع ذلك لزمن طويل بفضل العوامل البنيوية والظرفية المؤدية إلى تأكيد وإطالة أمد دور الدولة، فالبيروقراطية الرأسمالية لا يمكن إلا أن تطمح إلى التحول إلى طبقة رأسمالية عادية تفتح أمامها أبواب الاستثمار الخاص مهما كان حجم ووزن اقتصاد الدولة والاستبداد الشمولى. وهذا عامل تفتيت لهذا التكوين على المدى البعيد. وليس صحيحا أن البيروقراطية العليا لا يمكن أن تنتحر بالتخلى عن امتيازاتها الهائلة، فهى لا تتخلَّى عنها فى الحقيقة إلا لتضيف إليها، أو لتكسب بدلا منها، كافة مزايا التحول إلى طبقة مالكة وحاكمة بلا قيود دولوية. كما أن الجماهير العاملة المستغلة والمضطهدة أكثر مما فى أى بلد رأسمالى ليبرالى لا تملك كطبقة أو طبقات سوى الثورة ضد الإفقار والاضطهاد فى ظل الحكم الشمولى. وهذا عامل تفتيت آخر لهذه الرأسمالية الشمولية، لكنْ على المدى الطويل أيضا.
فما هى عوامل التماسك البنيوية والظرفية التى تتغلب، ولزمن طويل، على عوامل تفتيت هذا التكوين الشمولي؟
هناك، أولا، ذلك المشروع الهائل لتطوير القوى المنتجة والذى كان المزيد من إنجازاته وقفزاته بالمجتمع يؤكد دور ملكية وتخطيط وبيروقراطية وأشكال حكم الدولة. وطالما ظلت دينامية ذلك المشروع مستمرة وأهدافه الإستراتيچية غير متحققة بصورة كاملة، كان ذلك المشروع مفخرة الدولة الشمولية ومحور عملها وأساس تماسكها. وتتمثل مصالح البيروقراطية كطبقة، أو بالأحرى كطبقة فى دور التكوين، فى نجاح هذا المشروع، ويجرى تغليب المصالح الإستراتيچية للبيروقراطية فى الاستحواذ على اقتصاد متطور بالغ التعقيد والحداثة على مصالحها المؤقتة المتمثلة فى مزايا التحول السريع إلى طبقة رأسمالية تستثمر وتستخدم العمل المأجور فى مشروعات خاصة.
على أن هذا المشروع التحديثى العملاق لم يكن محور وجود ونجاح ومستقبل البيروقراطية وحدها؛ بل كان كذلك محور واقع وأساطير حياة الجماهير العاملة التى كانت واقعة فى إسار أوهام وعوده، والتى كان الحكام يخشون غضبها ومقاومتها لأى "ردّة" عن دور الدولة التى كانت تعمل على قدم وساق على تحقيقه. كما أن الشرعية التى اغتصبتها البيروقراطية، شرعية ثورة أكتوبر وديكتاتورية الپروليتاريا، كانت تكرس ملكية الدولة وتخطيط الاقتصاد والأيديولوچية الماركسية-اللينينية التبريرية الملفقة، ولم يكن التحدى المباشر لتلك الشرعية مأمون العواقب. وهكذا كانت تلك الشرعية بدورها من عوامل تأكيد وتأبيد دور رأسمالية الدولة الشمولية.
على أن الوضع الدولى، بثوابته ومتغيراته، كان لا يتأخر عن استفزاز وتحدى النموذج السوڤييتى بأسباب متزايدة لاستمرار وتماسك دور الدولة.
ومنذ البداية، كما سبق أنْ رأينا، كان الغرب الرأسمالى الإمپريالى يتحدى ثورة أكتوبر، بعيدا عن آمال أو أوهام وأساطير نجدة الثورة الپروليتارية العالمية، بشروط الصلح مع ألمانيا، وبالتدخل الأجنبى المسلح، ثم بالتطويق الرأسمالى العالمى بعد ذلك. وكان على الدولة الجديدة ليس فقط أنْ تطور القوى المنتجة بسرعة مذهلة بل أن تطور كذلك وبالسرعة نفسها قوى الدمار دفاعا عن النفس. ولم تتأخر الفاشية الهتلرية عن الهجوم. وكان من المنطقى أن تؤكد الحرب العالمية الثانية، بالدمار المفزع الذى حلّ بالاتحاد السوڤييتى، دور رأسمالية الدولة من خلال ضرورات إعادة التعمير واستئناف مشروع التحديث العملاق والتحول إلى قوة عسكرية من الطراز الأول، دفاعا عن النفس أمام أخطار مفزعة تأكدت بصعود وتفوق وعدوانية إمپريالية الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك دفاعًا عن الإمپراطورية السوڤييتية، وكذلك للتنافس العالمى على مناطق النفوذ. وأخذت تحديات سباق التسلح والحرب الباردة والثورات العلمية والتقنية فى الغرب تؤكد وتطيل أمد دور رأسمالية الدولة.
على أن هذه المجابهات والحروب الساخنة والباردة وأعباء الدفاع وأعباء الدولة العظمى وأعباء امتلاك وتطوير ترسانة أسلحة تعادل الترسانة الأمريكية بالاستناد إلى اقتصاد لا يتجاوز نصف الاقتصاد الأمريكى، كان لابد أنْ تنتهى تراكميا إلى إنهاك الاتحاد السوڤييتى وإلى تفاقم تناقضاته واستفحال أزماته.
وفى عصر لم يعد ممكنا فيه حكم الشعب السوڤييتى بالحديد والنار ومعسكرات العمل، خاصة فى ظل تراجع الاقتصاد ومستويات المعيشة، وفى عالم يتميز بأنه صار قرية إعلامية واحدة بإغراءات حقائق وأساطير مستويات المعيشة فى الغرب، كان لا مناص من بروز تناقض بعينه. ذلك أن الاقتصاد المنظم على الأساس الجماعى يدخل فى تناقض صارخ مع مجتمع تسوده القيم الفردية بعيدا عن ادعاءات القيم الجماعية والشيوعية. وفى غياب المبادرة الجماعية (كتلك التى سادت أيام القيم والمبادرات الجماعية الشيوعية التى أطلقتها ثورة أكتوبر) والتى لا تنسجم إلا مع المبدأ الجماعى حقا، شكلا ومحتوى، فى تنظيم الاقتصاد ومع سيادة القيم الجماعية والشيوعية، وفى غياب المبدأ الفردى فى تنظيم الاقتصاد والذى من شأنه أن يصيب الطبقات المالكة بحُمَّى التراكم الخاص، وأنْ يقدم الأساس لرقابة فعالة على عملية العمل، وكذلك فى غياب الإكراه الشمولى الصارم الذى يمكنه أنْ يملأ الفجوة بين ضرورات التراكم الجماعى البيروقراطى (الرأسمالى بالطبع) من ناحية، وغياب الحوافز والمصالح الفردية والخاصة لدى طبقات المجتمع كافة من الناحية الأخرى، غدا من المستحيل تفادى ترهل المجتمع وتدنى الأداء الاقتصادى وانهيار كل مسئولية إزاء اقتصاد وموارد البلاد أو الدولة وفقدان الاتجاه العام (وكابوس القطار المندفع بأقصى سرعة بلا سائق كما رآه جورباتشوڤ Gorbachev فى يقظته)، فلا مناص إذن من أن يجدّ البحث عن الاتجاه الصحيح والأداء الاقتصادى الفعال وسبل تفادى التخلف النهائى عن الغرب وتردّى وانهيار وانفجار الوضع برمته. وإذا كانت المبادرة قد جاءت فى الاتحاد السوڤييتى من أعلى (من جورباتشوڤ والپيريسترويكا والجلاسنوست) فهى لم تأت إلا فى مناخ يتميز بالانفجارات المتكررة فى بلدان "المنظومة" وبعد سنوات من احتدام الصراعات الحاسمة فى پولندا )التضامن وليخ ڤاونسا)، ولم تكتسب مبادرة جورباتشوڤ ديناميتها المدمرة والمحررة إلا من عوامل التفتيت الاقتصادى والقومى والأيديولوچى التى كانت تختفى تحت السطح الجرانيتى اللامع، فإذا بنا أمام معارك إعادة هيكلة الاقتصاد فى اتجاه الجمع بين الأشكال المتنوعة للملكية الرأسمالية، والصراعات الطاحنة بين القوميات بعد عقود طويلة من الحل اللينينى المزعوم فى بلدان المنظومة، والتنصل من الاشتراكية والشيوعية والماركسية واللينينية وثورة أكتوبر والثورات اللاحقة وكل ثورة بعد عقود طويلة من الرفع المنافق عاليا لتلك الرايات الزائفة. 
على أن انهيار النموذج السوڤييتى لا يعنى انهيار بلدانه كبلدان أو شعوب أو اقتصادات. وإذا ركزنا على روسيا، يمكن القول إن إنجازاتها فى مجال تحديث وتطوير قواها المنتجة (البشرية والمادية والعلمية والتقنية) تؤهلها للتغلب على الأزمة التى رافقت انهيار النموذج وللخروج منها قوة اقتصادية ضخمة (وبالأخص قادرة على اللحاق بالغرب والتنافس معه على قدم المساواة)، تتبوأ مكانتها فى صدارة نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب إلى جانب الولايات المتحدة وأوروپا الموحدة والياپان، أى كعضو أصيل فى نادى الشمال الرأسمالى المتقدم.
وإذا كانت المصائر النظرية العامة لبلدان النموذج لا تخرج عن: أ: استمرار النموذج السوڤييتى، ب: الثورة الليبرالية، ج: الثورة الاشتراكية، فإن الانهيار الراهن للنموذج، وعلى أوسع نطاق، يدعو إلى التساؤل عن احتمالات المصائر الفعلية وهل من الوارد بينها إحياء هذا النموذج من جديد بعد هدوء العاصفة.
لقد رأينا كيف كان مشروع تحديث القوى المنتجة هو القوة الدينامية الدافعة، قبل وبعد وإلى جانب الدوافع الأيديولوچية والظرفية، وراء قيام واستمرار ورسوخ النموذج السوڤييتى فى مسقط رأسه بالذات. فما هى تناقضات هذا الارتباط بين المشروع والنموذج؟ وما هى علاقة هذه التناقضات بمصائر اقتصادات ونظم بلدان النموذج؟
وقد رأينا أن مشروع التحديث كان يؤكد دوما دور نموذج رأسمالية الدولة. غير أن ضرورات السير بمشروع التحديث إلى نهايته المنطقية، إلى اللحاق الأكيد بالغرب، أخذت تتناقض مع استفحال تناقضات وأزمات النموذج وترهل النظام وتدهور الأداء الاقتصادى، مؤذنة بضرورة إرسال النموذج إلى متحف التاريخ بعد أن وصل بالتحديث إلى مستوى يسهل تحقيق قفزات كبرى انطلاقا منه بشرط التحرر من البيروقراطية الشمولية التى انقلبت إلى عائق كئيب. والحقيقة أن معدلات النمو المتفوقة لهذا النموذج لا تعكس التفوق الاشتراكى على الرأسمالية فهذا ليس واردا بالنسبة لهذا النموذج، الرأسمالى بدوره. بل إن مقارنة هذه المعدلات مع المعدلات الرأسمالية الغربية المتواضعة مقارنة مضللة وخادعة يجرى الإلحاح عليها لتكريس أسطورة التفوق السوڤييتى الاشتراكى المزعوم. فالرأسمالية الغربية التى شبعت تحديثا للقوى المنتجة ليست بحاجة إلى مثل هذه المعدلات فى النمو ولا تنوى الدخول فى سباق عليها مع أحد. والواقع أن نظامها الاجتماعي-الاقتصادى القائم على مبدأ الربح، وليس على التنمية الشاملة لمقدرات ومستويات معيشة الجماهير، يستبعد النمو بمثل هذه المعدلات التى تعنى فى نهاية المطاف أزمة فيض الإنتاج، نتيجة لأزمة نقص الطلب "الفعال"، بل أصبحت المهمة الاقتصادية الأولى لهذا النظام تتمثل فى كبح نمو القوى المنتجة ومواد الاستهلاك وليس فى إطلاقه، اللهم إلا فى حدود ومجالات بعينها، الأمر الذى يعنى أن الرأسمالية الغربية المتطورة دخلت مرحلة الركود المزمن الذى لا فكاك منه. أما معدلات النمو الياپانية التى تتفوق على المعدلات السوڤييتية ذاتها فتدل بصورة قاطعة على أن تفوق المعدلات لا يرجع إلى تفوق رأسمالى أو تفوق اشتراكى بل يرجع على العكس من ذلك إلى ضرورات ملء فجوة التخلف الروسى والياپانى عن الغرب، وينطبق الشيء نفسه على معدلات نمو الرأسمالية فى روسيا القيصرية فى العقود السابقة للثورة. وإنما يكمن المغزى الحقيقى لكل مقارنة فى مدى ملء فجوة التخلف، فى مدى اللحاق بالغرب. وفى حين تتخلف روسيا الاشتراكية المزعومة عن الغرب تخلفا مفزعا من حيث إنتاجية العمل، تتجه الياپان إلى تفوق حاسم، وإنْ كانت الياپان بدورها لا يمكنها بطبيعة الحال أنْ تفلت من النتائج الكئيبة لنمو تناقضات الرأسمالية على المدى الطويل.
وبديهى أن بلدان النموذج متفاوتة من حيث التحديث ومنها بلدان لم ترتبط بالنموذج إلا عبر الارتباط بالاتحاد السوڤييتى السابق أو بروسيا ضمن هذا الأخير، بمعنى تبنِّى أسوأ ما فى النموذج (الحكم الشمولى) دون تحديث، اعتمادا على ما سماه السوڤييت ذات يوم بالتقسيم الدولى الاشتراكى للعمل، فليس أمام هذه البلدان سوى اللحاق بالعالم الثالث.
وإذا ركزنا على أكثر هذه البلدان تحديثا، لم يعد واردا استمرار أو إحياء النموذج، ليس فقط لأن الوصول بالتحديث إلى مستوى التنافس مع الغرب على قدم المساواة أصبح يشترط التخلص من هذا النموذج، بل كذلك لأن تحول البيروقراطية إلى طبقة رأسمالية يشترط الشيء نفسه.
والحقيقة أن البيروقراطية مصابة فى الصميم بتناقض جوهرى بين المبدأ الفردى والخاص والعائلى كمثل أعلى للعلاقات الاستغلالية والمجتمع الاستغلالى من ناحية والتنظيم الجماعى لاقتصاد الدولة من الناحية الأخرى. ولا يمكن لهذه البيروقراطية أن تصبح طبقة رأسمالية، ولا حتى طبقة رأسمالية بيروقراطية، بالمعنى الصحيح للعبارة، إلا عندما تكون العملية الرأسمالية سلسلة واحدة من الحلقات المتماسكة والمتوازنة بحيث لا تطغى المصلحة الجماعية للطبقة فى التراكم الرأسمالى البيروقراطى الدولوى، بل توجد إلى جانبها مصالح التراكم الرأسمالى الفردى والخاص، التى لا ينبغى أبدا التقليل من شأنها والتى لا يمكن تأمينها على الإطلاق من خلال رأسمالية الدولة الشمولية التى يمكن لمنطقها دائما وكلما اقتضى الأمر أنْ يعصف بموظفيها "المماليك" مهما كانوا كبارا أو قططا سمانا أو نخبة بيروقراطية عليا. إن البيروقراطى الفرد مدفوع دوما إلى تأمين سيادته للمجتمع من خلال إحلال أسس المبدأ الطبقى الفردى (الملكية الرأسمالية الخاصة وهى المحيط الطبيعى لازدهاره) محل المبدأ الطبقى الجماعى (ملكية وتخطيط الدولة وينطوى هذا المبدأ دوما على إمكانيات العصف بالبيروقراطى الفرد)، على أن هذا المبدأ الفردى ليس أبدا مصلحة فردية منعزلة أو مصلحة أفراد منعزلين بل مصلحة طبقية جماعية لأفراد الطبقة الذين لا يمكن تأمين فرديتهم إلا بجماعيتهم كطبقة ولا يمكن تأمين تماسك جماعيتهم إلا بالحفاظ على مصالحهم الطبقية كأفراد.
وكانت الثورة الليبرالية الراهنة التى هى محتوى أزمة وانهيار واختفاء النموذج السوڤييتى هى الحل السعيد لتناقض هذا النموذج مع المزيد من سير هذه البلدان بالتحديث إلى الأمام وكذلك لتناقضه مع مصالح البيروقراطية فى التحول إلى طبقة رأسمالية كاملة الأهلية. على أن الليبرالية الاقتصادية لن تفترض بالضرورة وفى كافة الأحوال ليبرالية فى السياسة والحكم فلا جدال إذن فى أن التحولات الجارية تكتنفها مخاوف تحوُّل بعض هذه البلدان إلى بلدان فاشية باقتصاد رأسمالى خاص لتتجه حسب تكوينها الاجتماعي-الاقتصادى الحقيقى إلى الانضمام إلى العالم الثالث أو البقاء فى ذيل قائمة بلدان الشمال الرأسمالى.
ولم يكن من الوارد، بطبيعة الحال، أن تندلع ثورات اشتراكية بدلا من هذه الثورات الليبرالية، ذلك أن أحد مجالات نجاح النموذج السوڤييتى كان يتمثل فى كافة بلدانه فى تصفية الحياة السياسية وتفريغ الأشكال الحزبية والسوڤييتية والنقابية من محتواها، باستثناء محتواها التفريغى ذاته، على أن فك الارتباط بين هذه الدول من جانب والشيوعية من جانب آخر حدث تاريخى بكل معنى الكلمة، وهو يصدم غير أنه يحرّر وبالتالى يدفع إلى الاتجاه الصحيح، اتجاه ثورات اشتراكية من طراز جديد.
والواقع أن التعبئات الجماهيرية الضخمة التى تدشن بها الجماهير العاملة فى هذه البلدان انتقالها من معاناة مزمنة إلى معاناة حادة مفزعة إنما هى تعبئات الثورات الجماهيرية الليبرالية، فلا مجال إذن لأوهام انقلابها فجأة إلى مقدمات ثورات اشتراكية.
نحو عالم بلا أساطير
يتبين من الصفحات السابقة، فى ضوء حقيقة أن النموذج السوڤييتى لم يكن من حيث طبيعته الاجتماعية سوى رأسمالية دولة بيروقراطية، أن المغزى الحقيقى لانهيار واختفاء هذا النموذج من بلدانه ومن العالم يتمثل فى اختفاء وتلاشى تناقض رئيسى فى صفوف الرأسمالية العالمية، بالنتيجة المنطقية الجوهرية التالية: استعادة وحدة الرأسمالية العالمية لنكون إزاء شمال رأسمالى واحد موحَّد بشرقه وغربه، فى مواجهة شعوب الشمال من ناحية وشعوب الجنوب التابع (العالم الثالث) من ناحية أخرى.
وبديهى أن مغزى وجود أو اختفاء هذا التناقض لا يختلف فى جوهره وليس فى أبعاده بالضرورة، عن مغزى وجود أو اختفاء كل تناقض رئيسى فى صفوف الرأسمالية العالمية. إنه ليس أكثر لكنه ليس أقل من ذلك أيضا.
ومن الجلى بطبيعة الحال أن التناقض الرئيسى فى صفوف الرأسمالية العالمية قد يقود إلى أزمات مدمرة كالحرب العالمية الأولى أو الثانية؛ وكانت كل منهما انفجارا لتناقض رئيسى فى صفوف الرأسمالية العالمية، بين مصالح الرأسماليات الإمپريالية الجديدة المحرومة من المستعمرات، خاصة ألمانيا فى كل من الحربين العالميتين، وبين مصالح بقية الرأسماليات الإمپريالية التى كانت قد أكملت اقتسام العالم من قبل، خاصة إنجلترا وفرنسا وروسيا (فيما يسمَّى بالاستعمار الداخلى).
على أن استعادة الوحدة فى صفوف الرأسمالية العالمية، حربًا أو سلمًا، لا تعنى بالضرورة أن الوحدة صارت أبدية أو أنها غير قابلة للفقدان نتيجة لإعادة تكوين التناقض من جديد بين نفس المصالح الرأسمالية التى تناقضت من قبل (ألمانيا والحربان العالميتان) أو بين مصالح رأسمالية أخرى تتناقض حول محاور أخرى متوقعة أو مفاجئة (مثل نشوء النموذج السوڤييتى).
وتتجلَّى خطورة المرحلة التى يتجه إليها العالم الآن عندما ندرك حق الإدراك أن الرأسمالية الإمپريالية العالمية حبلى بالكوارث فى الأحوال كافة، فى أحوال وجود أو احتدام أو انفجار تناقضات كبرى فى صفوفها، لكن أيضا فى أحوال اختفاء هذه التناقضات الكبرى واستعادة الوحدة.
ورغم الكوارث التى يمكن للتناقضات الكبرى أن تقود إليها العالم، وقد كانت الشعوب وقودًا لحربين عالميتيْن مدمرتين تفصل بين نهاية الأولى وبداية الثانية قرابة عشرين سنة وحسب، يمكن القول بوجه عام إن هناك إمكانية لاستغلال الثغرات التى قد تفتحها تلك التناقضات لصالح الشعوب.
أما فترات اختفاء التناقضات الكبرى، واستعادة الوحدة، فلا يمكن إلا أن تكون وبالا على الشعوب، خاصة فى البلدان التابعة.
وإذا كان اختفاء النموذج السوڤييتى ينذر بكوارث تنطوى عليها قدرات استعادة الوحدة الرأسمالية العالمية، فإن وجود هذا النموذج (فى نشوئه وانتشاره ونموه واستقراره وانهياره ذاته) كان دائما فى بؤرة الكوارث التى تقود إليها فترات احتدام التناقضات الكبرى فى صفوف الرأسمالية. وكان نشوء هذا النموذج وثيق الصلة بالتأثير المباشر لتلك التناقضات وكذلك باستغلال الثغرات التى تفتحها. وإذا كان نشوء هذه الأنظمة مرتبطا مباشرة باستغلال الثغرات (الحرب العالمية الأولى وثورة أكتوبر، الحرب العالمية الثانية وأوروپا الشرقية والصين وكوريا وڤيتنام) فإن الوجود المستقر للنموذج كتناقض فى صفوف الرأسمالية العالمية قد تداخل مع تناقض الفاشية مع بقية الرأسمالية الاستعمارية (هجوم هتلر على الاتحاد السوڤييتى) واستقل بكوارثه التى اتخذت صورة الحرب الباردة والحروب الساخنة بالوكالة تنافسًا على مناطق النفوذ ولم تتخذ هذا الشكل "الرحيم" من الكوارث إلا بفضل تطور القدرة العسكرية السوڤييتية التى كان يمكن على الأرجح لولاها أن يتعرض الاتحاد السوڤييتى للهجوم النووى الذى يبدو أن خططه كانت جاهزة. 
صحيح أن تطورات ومعارك التناقض مع النموذج السوڤييتى، والاتحاد السوڤييتى بالذات، كانت متداخلة مع حركات التحرر الوطنى الرامية إلى الاستقلال عن الاستعمار الغربى بالاستناد إلى تأييد وعون الاتحاد السوڤييتى (ومعسكره) استغلالا لتناقضه مع الغرب، وصحيح أن الغرب كان يمارس هذا التناقض من خلال الحرب الباردة والحروب المباشرة (كوريا وڤييتنام) وبالوكالة، أى بالوسائل العسكرية التى لا يبررها سلوك عدوانى من جانب الاتحاد السوڤييتى ومعسكره، وذلك لاعتقاده (الغرب) أن المعسكر السوڤييتى معسكر شيوعى، وليس منافسا رأسماليا مثل الفاشية الألمانية أو الإيطالية أو الياپانية فى الحرب العالمية الثانية. غير أنه صحيح أيضا أنه، رغم الدور الاستثنائى الهائل لسوء التفاهم والأسطورة، كانت هناك ممارسة على النطاق العالمى لتنافس إستراتيچى قائم على المصالح، وليس على أى سوء تفاهم، من جانب الاتحاد السوڤييتى بالذات.  
وصحيح أيضا أن الغرب لم يهادن الاتحاد السوڤييتى (وبقية بلدان النموذج) قط، بل ناصبه العداء وطوّقه وحاصره وهاجمه عسكريّا (الحرب العالمية الثانية بالذات) وتآمر ضده ووضع الخطط النووية لتدميره وشن ضده حربًا دعائية عالمية استمرت عدة عقود، وصحيح أن هذا الغرب هو الذى فرض، بخطه العدوانى، واعتقادا منه أنه يحارب الشيوعية الدولية، على الاتحاد السوڤييتى المسار الذى سلكه (تطوير القدرة العسكرية التقليدية والنووية، تأييد ومساعدة حركات التحرر الوطنى الرامية إلى الاستقلال عن الغرب، الاندفاع فى هجوم دعائى معاكس على النطاق العالمى بدوره). غير أنه صحيح أيضا أن سوء التفاهم الغربى وبالتالى سلوكه العدوانى المتطرف وحربه الصليبية ضد الاتحاد السوڤييتى والشيوعية السوڤييتية وواقع أن الغرب هو الذى "اخترع" الاتحاد السوڤييتى بالخصائص التى أجبره على اكتسابها بدلا من أنْ تبقى التناقضات السوڤييتية مع بقية الرأسمالية العالمية فى حدود أقل حدة بما لا يقاس، صحيح أن كل هذه الأشياء لا تغيّر واقع أن تناقضا كبيرا تم خلقه وتعهُّده بالرعاية والعناية والتطوير والحرب الصليبية المتعددة الوسائل والمراحل، بالخسائر التاريخية الفادحة التى جلبها هذا الصراع غير المبرر على الغرب والشرق فى آن معا.
وإذا كان كلامى هذا يصدمنى، أنا نفسى، قبل أن يصدم غيرى، لأننى تربيت كغيرى على فكرة أن الطبقات الحاكمة تحدد سلوكها بما يتفق ويتطابق وينسجم مع مصالحها الإستراتيچية، فقد فاتنى كما فات غيرى أن نتعلم أن الطبقات الحاكمة قد يفوتها إدراك مصالحها الإستراتيچية فتنخرط فى سلوك مدمر لمصالحها وربما أيضا لبقائها أصلا. وليتذكر القارئ الحرب العالمية الثانية، وليتأمل ما يلى: كيف حدث لعدد من الدول الرأسمالية العالية التطور، بزعامة ألمانيا بالذات، أنْ أصابها الغرور بقوتها الاقتصادية والحربية المتفوقة فعلا، فحسمت أنّ مصالحها تقتضى خوض الحرب مع الدول الأوروپية الاستعمارية الكبرى (ومع الاتحاد السوڤييتى)، وفى غضون سنوات معدودة من الحرب دمرت تلك الدول والطبقات الرأسمالية العالم لكنْ أيضا نفسها، ففقدت استقلالها الذى لم تستعدْه كاملا إلى يومنا هذا (ألمانيا والياپان). والحقيقة أن سوء التفاهم الذى جعل تلك الدول الرأسمالية المتطورة الفاشية، عاجزة عن إدراك مصالحها ووسائل ومراحل تحقيقها وعلى ذلك النحو المدمر ليس بلا سوابق فى التاريخ ولم يكن سوء التفاهم المدمر الوحيد فى التاريخ المعاصر.
ومن ناحية أخرى، يؤدى اختفاء النموذج السوڤييتى، وبالتالى اختفاء انقسام العالم إلى شرق وغرب، إلى نتائج يتوقف على فهمها واستيعابها تصوّر المستقبل القريب والبعيد للعالم بصورة موضوعية، كما هو فى الواقع، بلا أساطير، وبالتالى التعامل معه بهذه الصفة. على أن الوحدة المستعادة فى صفوف الرأسمالية العالمية ليست مستقرة بعد، فالعالم الآن فى فترة من السيولة والتفاعلات وإعادات الترتيب لاستيعاب الوحدة المستعادة مع تفادى انشقاقات من شأنها التطور فى اتجاه تناقضات كبرى جديدة تقود بدورها إلى كوارث جديدة.
ومن المنطقى بطبيعة الحال أن نتوقع فترة غير قصيرة من "توابع الزلزال السوڤييتى". ويزيد من حدة الزلزال وتوابعه واقع أن اختفاء النموذج لم يتخذ شكلا هادئا يحلّ فيه خيار أو نموذج محل خيار أو نموذج آخر، بل شكل الأزمة والزلزال والعاصفة والانهيار بما يؤدى إلى فترة من الأوقات الصعبة وفقدان التوازن لدى بلدان النموذج، على أنه كان لا مناص، فى كافة الأحوال، من السيولة والتفاعلات وإعادات الترتيب لأن التخلى المدوِّى عن الشيوعية من جانب بلدان النموذج جعل الغرب يفقد فجأة عدوه اللدود؛ فسقطت فجأة بالتالى أساطيره عن هذا العدو الشيوعى المزعوم، وبالأخص أسطورته عن التهديد أو الخطر أو الغزو السوڤييتى، هذه الأشياء التى كانت ترغم قوى رأسمالية كبرى على الاحتماء بالمظلة الأمريكية. وسوف يعنى المزيد من استقرار التطورات السوڤييتية والاطمئنان إلى هذا الاستقرار إعادات ترتيب فى أوضاع وتحالفات وسياسات القوى الرأسمالية الكبرى.
وإذا كانت التوازنات التى ظلت قائمة إلى عهد قريب قد فقدت استقرارها نتيجة للحركة الفجائية التى أصابت بعض عناصرها، أى نتيجة للانقلاب فى العلاقات مع بلدان النموذج السوڤييتى من ناحية ونتيجة لغيابها النسبى المفاجئ عن الحلبة الدولية لفترة من ناحية أخرى فإن التنبؤ بالصورة المستقبلية الدقيقة التى ستستقر عليها العلاقات والتحالفات والتناقضات بين القوى الرأسمالية الكبرى يغدو بالغ الصعوبة. فمتى يحلّ عالم متعدد الأقطاب الرأسمالية محل هذه الفترة المؤقتة من العالم الأحادى القطب كما يقال الآن؟ وما هى هذه الأقطاب وما وزن كل قطب منها فى ضوء تراجع القوة الاقتصادية الأمريكية مع بقاء قوتها العسكرية، وتداعى الاقتصاد الروسى مع بقاء القوة العسكرية الروسية، والقوة الاقتصادية الهائلة دون قوة عسكرية لكل من الياپان وألمانيا الموحدة أو أوروپا معاهدة ماستريخت الموحدة؟ وكيف سيتعامل هذا العالم مع أزمات واضطرابات وهجرات ومجاعات وكوارث وحروب العالم الثالث، بالإضافة إلى مغامرات قواه الإقليمية الطموحة التى تنفتح شهيتها مع التطورات الجديدة؟
والأسئلة التى من هذا القبيل لا نهاية لها من الناحية العملية، غير أن تحليلنا لمغزى وجود أو اختفاء النموذج السوڤييتى لا يضعنا إزاء اختفاء عامل ثورى أو اشتراكى فعال فى التوازن العالمى، بل إزاء استمرار القوى الرأسمالية الكبرى نفسها التى ظلت سائدة فى العقود السابقة على الحلبة الدولية بما فى ذلك روسيا، التى كانت حقيقتها الرأسمالية تختفى تحت الاسم الاشتراكى للاتحاد السوڤييتى السابق.
وإذا كان من الجلى أن عوامل انشقاقات وتناقضات جديدة فى صفوف هذه القوى ليست معدومة ("الحروب" التجارية الأمريكية مع الياپان وأوروپا الغربية) فإن عوامل وحدتها ليست معدومة أيضا (علاج جراحات الانشقاق المنتهى، الأخطار الإيكولوچية، اضطرابات العالم الثالث، إلخ.).
وبعيدًا عن محاولات التنبؤ وسط أجواء غائمة؛ يجمل بنا أن نلتفت إلى بعض خصائص عالم جرد الانهيار صراعاته من أسطورة الاشتراكية السوڤييتية وحررها من كثير من التناقضات الأسطورية والأساطير المتناقضة المتولدة عن تلك الأسطورة.
وبوجه خاص فإن انهيار هذا النموذج لا يقود إلى انقلاب فى اتجاه مجرى التاريخ المعاصر، اللهم إلا من وجهة نظر مَنْ يزعم أنه كان نموذجا اشتراكيا (الخط السوڤييتى) أو انتقاليا (ماندل). والواقع أن تأكيد أن اتجاه مجرى التاريخ المعاصر لم ينقلب لا يقدم عزاءً لأحد. ذلك أن القوى الرأسمالية الكبرى نفسها التى كانت تسوده طوال العقود السابقة ستظل تسوده فى المستقبل المنظور. مع إضافة ذات نتائج متمايزة ومتعارضة: إن اختفاء النموذج السوڤييتى يسهم فى خلق ظروف موضوعية غير مواتية لأنه عامل وحدة داخل صفوف الرأسمالية العالمية، لكنه يسهم أيضا فى خلق ظروف ذاتية مواتية لأنه يفك الارتباط بين الماركسية وبين قوى غريبة عليها ظلت تشوّهها وتضطهد الجماهير باسمها وتضلل الشيوعيين فى كل مكان فى العالم بنظريات تدَّعى تطويرها استنادا إليها.
فهل ما زال العالم، رغم تقلباته وانقلاباته وتكشُّف حقائقه، فى عصر الإمپريالية والثورة الپروليتارية؟
أعتقد أن الإجابة بالإيجاب، ولكنْ... بشرط فهْم موضوعى، ثورى حقا، بعيدا عن النزعة الإرادية الثوروية، فهْم لا يعتبر الثورات "الاشتراكية" طوال القرن العشرين ثورات پروليتارية كاملة الأهلية، يعنى إخفاقها وفشلها فى نهاية المطاف أن تشخيص طبيعة العصر كان خاطئا، بل ينطلق من الحدود الحقيقية لاشتراكية تلك الثورات، والشروط الموضوعية والذاتية التى تقتضيها الثورة الاشتراكية القابلة للحياة. وإذا كانت پروليتاريا البلدان الرأسمالية المتقدمة قادرة، بعد إغناء وتطوير ماركسيتها باستخلاص دروس التجارب المريرة، على إحياء واستئناف النضال الاشتراكى الثورى الأممى فإن قضية الثورة الاشتراكية والاستقلال الوطنى فى البلدان التابعة (العالم الثالث) تغدو بالضرورة قضية واحدة فى إطار ثورة اشتراكية أممية، حيث يستحيل على بلد أو أكثر من بلدان العالم الثالث القيام بالثورة الاشتراكية وتأمين البناء الاشتراكى إلا فى إطار الثورة الاشتراكية الأممية التى تشتمل على بلد أو أكثر من البلدان الرأسمالية المتطورة؛ لأن ثورات العالم الثالث عاجزة عن حماية نفسها ضد الحرب الصليبية التى ستشنها الرأسمالية العالمية الموحدة ضدها، بحكم بداهة ضعفها وتخلفها، كما أن ثوراتها عاجزة عن تحديث قواها المنتجة بلا عون بلا حدود من جانب بلدان اشتراكية متطورة.
والحقيقة أن الوضع الذى يجد الجنوب (العالم الثالث) فيه نفسه الآن، بعد عقود من محاولات الفكاك من التبعية أو تحسين شروطها باستغلال التناقضات بين المعسكرين، برهان ساطع على أن التناقض والصراع بين المعسكرين لم يكن فى الواقع سوى تناقض وصراع بين كتلتين رأسماليتين. وكانت الآفاق التى يفتحها ذلك التناقض أمام شعوب العالم الثالث آفاقا كاذبة، فالحقيقة التى تتضح الآن، بعد فوات الأوان، هى أنها لم تفتح أمام أى بلد أو شعب أو أمة فى العالم الثالث إمكانات لانتشار الثورة الاشتراكية والبناء الاشتراكى، ولم تساعد فى أفضل الأحوال إلا فى انتشار النموذج السوڤييتى نفسه فى طبعاته الأكثر تخلفا والأكثر بعدا عن تحديث حقيقى (استنادا إلى تقسيم العمل الدولى "الاشتراكى" المزعوم). وفى نهاية المطاف، تم إعلان رأسماليات الدول الديكتاتورية ذات الأيديولوچيات القومية والمعادية لأية ماركسية، بما فى ذلك الماركسية السوڤييتية، بشرط التعاون والصداقة مع الاتحاد السوڤييتى نظما اشتراكية أو ذات توجُّه اشتراكى، وكانت النتائج كارثية فى كل مكان.
والجنوب الآن هو مكان التخلف وزمانه ورمزه، وقد وصلت التبعية الاستعمارية بالجنوب، بعد فترات من المحاولات المخفقة للتحرّر منها، إلى نقطة مفزعة. وصل الجنوب إلى نقطة الانهيار. ولا يتمثل هذا الانهيار فى مجرد التأبيد النهائى، فى المدى المنظور، للتبعية بعد إخفاق حركة التحرر الوطنى وتراجع آفاق الثورة الاشتراكية أو حتى أوهامها الجميلة، بل هو الانهيار المباشر. فبعد أن وصل الجنوب إلى أقصى تطور ممكن فى إطار التبعية ما بعد الكولونيالية، بدأ اليوم، بل أمس، الهبوط على الجانب الآخر من التل، فى اتجاه المجاعات والحروب والحروب الأهلية والمغامرات والفوضى والهجرات، وربما لن تهدأ عواصف العالم الثالث قبل انخفاض جذرى فى سكانه يعيد توازن السكان والموارد فى ظل نظم اجتماعية-اقتصادية متخلفة، ربما لتهدأ المالتوسية فى قبرها.
ولم يستطع الشرق الأحمر، ولم يكن من شأنه ولم تكن قضيته، أن ينقذ الجنوب. أما الغرب (الشمال) فهو الذى قاد ويقود الجنوب إلى هذا المصير. و قد عجز الجنوب عن الإفلات منه لأنه لم يمتلك ولا يمتلك دينامية ذاتية منقذة.
على أن عجز العالم الثالث عن إنقاذ النفس، اعتمادا على النفس أو بعون من آخرين، لم يكن فقط عجزا عن تحقيق تحول اشتراكى، أى التحول إلى نظم اشتراكية حقيقية بعيدا عن ديكتاتوريات الاشتراكية القومية الفاشلة، بل كان كذلك عجزا عن التحول الرأسمالى، أى التحول إلى بلدان رأسمالية حقيقية ذات بنية اجتماعية اقتصادية حديثة.
وتنبع استحالة التحول الاشتراكى فى العالم الثالث من واقع أن العالم كان ولا يزال خاليا من الشرط الجوهرى لهذا التطور وهو وجود نظام اشتراكى عالمى أممى متطور أو عملية ثورية اشتراكية عالمية أممية. أما استحالة التحول الرأسمالى، فهى نابعة من واقع أن إنجازات الرأسمالية العالمية تسيطر عليها الرأسماليات الإمپريالية المتطورة وتسيطر بها على العالم الثالث ولا تسمح له بالوصول الحُرّ إلى الإنجازات، أى بالتحول إلى رأسمالية عالية التطور، حرة ومستقلة، تنافسها على قدم المساواة.
وهكذا فإن بلدان العالم الثالث لن تتحول إلى بلدان رأسمالية بالمعنى الصحيح إلا كاستثناءات سعيدة تثبت القاعدة. أما النظرية المناقضة، نظرية "نهاية العالم الثالث" عن طريق تحوله إلى رأسمالية كالنمور أو التنانين الآسيوية (نايچيل هاريس Nigel Harris) فتبدو نظرية خيالية إذا أدركنا حق الإدراك واقع سيطرة الشمال (الغرب) على العالم مستخدما إنجازاته التاريخية التى لا يريد أبدا الاكتفاء بتوزيعها هدايا على العالم الثالث، وكذلك العجز الكامن فى البنية الاجتماعية-الاقتصادية والثقافية للتبعية.
ومُحاصرا بين هاتين الاستحالتين، ليس أمام العالم الثالث (ومعه بطبيعة الحال عالمنا العربى ومصر) سوى التدهور والمزيد من التدهور. وفى سياق هذا التدهور الاقتصادى والاجتماعى والثقافى والروحى، تنفتح أبواب الجحيم ليس فقط أمام المجاعات والحروب الطاحنة (الأهلية والخارجية) بل كذلك أمام تجارب كارثية لا نهاية لها ترتدى أشكال الأصالة والأصولية والسلفية والحكم الدينى (وليس الإسلامى وحسب) ولن يكون هذا الحكم الدينى، أيا كان الدين الذى يُقام باسمه، سوى لفترات قصيرة، ولن يكون إنجازه الفعلى سوى المجازر التى ستقام لأية قوى مستنيرة أو علمانية أو ديمقراطية أو شيوعية أو لمعتنقى أديان أخرى، سماوية أو وثنية، ولن يكون كل هذا بعيدا عن مخططات الشمال أو تدخلاته أو مصالحه.
ومع انقسام العالم بصورة نقية واضحة، إلى شمال وجنوب، إمپريالية وتبعية، غنًى وفقر، واستحالة إنقاذ العالم الثالث من داخله من خطر نهاية أخرى مناقضة تماما لنهاية نايچيل هاريس التى أشرنا إليها منذ قليل، يبدو أن أى تفكير فى مخرج للجنوب لابد أن يتجه إلى العلاقة شمال-جنوب.
غير أن هذه العلاقة ليست علاقة تعاون متكافئ لتنقذ أو تساعد فى إنقاذ الجنوب، بل إن العلاقة إمپريالية-تبعية بين الشمال والجنوب لا تؤدى إلا إلى المزيد من تدهور الجنوب، حيث يزداد الغنى غنًى والفقير فقرا، ولهذا الترابط (الاستغلال) تأثيره المباشر المتواصل على هذا التدهور.
ولا شيء يدعو إلى الاعتقاد بأن الشمال سيحرك ساكنا. صحيح أنه لا يمكن استبعاد دموع التماسيح ولا إرسال أعداد من طائرات المساعدة الإنسانية إلى مناطق المجاعات والهجرات والحروب الطاحنة، غير أن من غير الوارد على الإطلاق أن يهرع الغرب (الشمال) إلى إنقاذ العالم الثالث كما هرع منذ عهد قريب إلى تحرير الكويت من الاحتلال العراقى، ولن تكون أعمال كحرب الخليج الأمريكية واردة بعد استنزاف ونضوب خامات العالم الثالث والتى سيفقد هذا الأخير بدونها نصف وربما كل أهميته للغرب، حيث إن ثورته السكانية سوف تحطم، فى غياب الخامات، كل أساس اقتصادى لتبادله التجارى مع الغرب أو لاستضافته لرساميله، ولن يأتى الشمال فى هذه الحالة إلا لاغتصاب أراض تخلو من سكانها فى الجنوب(1).
فهل هناك مخرج من نهاية العالم الثالث بالمعنى المناقض لمعنى نايچيل هاريس من خلال أزمة للشمال يستغلها الجنوب أو تكون لفائدته؟
من التفاؤل الساذج، بطبيعة الحال، تصوُّر ثورة اشتراكية وشيكة أو قريبة فى أوروپا أو الغرب أو الشمال، فهذه الثورة مرتبطة بصورة حاسمة بردّ اعتبار الماركسية وإغنائها بدروس التجارب القاسية وتطوير مفاهيمها عن الحزب والثورة والبناء الاشتراكى واندماجها فى حركات وثورات جماهيرية فعلية من طراز لم يسبق له مثيل فى التاريخ الحديث (ثورات أقوى لا أضعف حلقات السلسلة، ثورات جماهيرية عميقة لا ثورات أقليات اجتماعية أو سياسية، ثورات ضرورة لا ثورات مصادفة، ثورات قاعدة لا ثورات استثناء، إلخ.).
وفى الوقت الذى لا تزال مثل هذه الثورات بعيدة، وعلى الأقل غير منظورة، بدأ بالفعل منحدر تدهور الجنوب، فهذه الثورات لا تملك إذن منع أو عرقلة هذا التدهور، رغم أنه لا ينبغى استبعاد دور قد تقوم به شعوب الشمال وطبقته العاملة وحركته الشيوعية فى مجال عرقلة تدهور العالم الثالث، بافتراض وعيها بكارثته وتعاطفها معه. على أنه لا ينبغى، من جهة أخرى، المبالغة فى هذا الدور الذى يستحيل أن يتجاوز فى المدى المنظور قدرات هذه الشعوب إلى حدّ إجبار حكومات الشمال على منع تدهور العالم الثالث أو حتى منع أن يتخذ هذا التدهور تلك الأبعاد الكارثية المتوقعة.
وهناك افتراض لا ينبغى استبعاده تماما. إنه الزلزال الغربى. أى الفوضى الشاملة الناتجة عن الأزمة البنيوية الإستراتيچية للغرب، بالذات ضمن الشمال الرأسمالى، أو هذا الأخير -بشرقه الذى يعيش الآن فوضى انهياره، بأزماته الاقتصادية الطاحنة، وحروبه الأهلية، وتشريده للشعوب، وبغربه الذى لا يزال متماسكا، ربما فى ظاهر الأمر وحسب.
فما هو مبرر افتراض زلزال غربي؟ وما عسى أن تكون طبيعته أو خصائصه؟ وكيف يمكنه أن يؤثر فى مصائر الجنوب؟
هل ينبغى افتراض الزلزال الغربى لأن عالما رابعا نما وينمو داخل ذلك العالم الأول رغم بريق سطحه، ولأنه ليس هناك ما يمنع أن تتفاقم أزماته فتنفجر (لوس أنجلوس)؟ أم ينبغى افتراضه لأن انهيار الشرق الرأسمالى (بلدان النموذج السوڤييتى) يمكن أن يهزّ العالم كله بما فيه الغرب الرأسمالى، فيما يتحرك لاستيعاب الزلزال الشرقى وتوابعه؟ هل يتدخل وعى الشعوب الغربية، مهما كان بعيدا عن الوعى العلمى أو الشيوعى، بأن النظام الغربى يقيّد النمو الممكن لحياة هذه الشعوب، مكبّلا نمو القوى المنتجة، عاجزا عن التطبيق الإنتاجى الشامل للثورات العلمية التقنية، سالبا العلوم البحتة والتطبيقية إمكانات أى تطور جذرى عن طريق فصلها من الناحية الجوهرية عن الإنتاج، تاركا فى أجواء مدن الغرب وأريافه التى لم تعد أريافا الانطباع العام المرعب بأن النظام الغربى يهدر كافة الإمكانات التى يقدمها العصر لتقدم السوپرمان الغربى ذاته -وليس قطيع المتخلفين المنتكسين فى عوالم أخرى بعيدة- بحيث تغدو كل خطوة علمية تفتح آفاقا جبارة أمام الإنسانية السبب المباشر لخطوات أخرى إلى الوراء فى الحياة الفعلية، وباختصار: فاقدا بركوده المزمن المبرِّر لاستمرار أى نظام اجتماعى-اقتصادى (حيث يمثل هذا الركود المزمن بالذات ذروة التناقض بين طابع القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، تلك القوى والعلاقات التى تظل قبل ذلك متوافقة رغم التناقض)؟ ثم: كيف يمكن لفوضى الزلزال الغربى أن تؤثر فى مصائر العالم الثالث؟ برفض الحداثة؟ بالعودة إلى الأصالة؟ باستغلال أزمة الغرب وتراخى قبضته على إنجازاته التاريخية بما يسمح بالتحول إلى الرأسمالية بالمعنى الذى يبشر به نايچل هاريس؟ وكيف يكون ذلك؟ وهل من المحتمل أن يضرب الزلزال الغربى ضربته قبل أن يغرق العالم الثالث تماما فى نهايته بمعنى انهياره ودماره؟
ويالها من أسئلة تردّ على أسئلة!!!...
خرافة نهاية التاريخ
رغم أنّ انفصال النظرية (الماركسية) عن تطبيقها المزعوم فى بلدان النموذج السوڤييتى يمكن التوصل إليه بكل سهولة من أبسط مقارنة بين مبادئ تلك النظرية وأسس تلك الممارسة أى تطبيقها المزعوم، تنطلق وسائل الإعلام الغربية وكذلك أجهزة إعلام الحكام الجدد فى بلدان النموذج السوڤييتى سابقا من ادِّعاء أن النموذج السوڤييتى ليس من الناحية الجوهرية سوى الثمرة التاريخية الطبيعية للتطبيق الدقيق والأمين والصارم إلى حدّ الجمود العقائدى للنظرية الماركسية، وبقفزة واحدة يصل الفكر الغربى البرچوازى وتوابعه فى العالم الثالث إلى فكرة مؤداها أن انهيار النموذج السوڤييتى يساوى انهيار النموذج النظرى الماركسى واللينينى لبناء الاشتراكية والشيوعية، ولا تمثل نظرية نهاية التاريخ سوى صياغة مكثفة لهذه القفزة الواحدة السريعة المتسرعة. 
وبطبيعة الحال، لن تعنى نهاية التاريخ شيئا إنْ لم تكن تعنى نهاية الصراع التاريخى بين التكوينيْن الاجتماعيين-الاقتصاديين الأساسيين فى التاريخ الحديث والمعاصر أى الرأسمالية والاشتراكية.
ومن الجلى أن نموذج الصراع التاريخى كما تفهمه نظرية نهاية التاريخ يتمثل فى الصراع بين الرأسمالية والنموذج السوڤييتى. وقد بدا طوال عقود أن النموذج المذكور يمثل الاشتراكية والشيوعية والماركسية. وإذا كان "ما بدا" هو الحقيقة المطلقة، إذا كان النموذج السوڤييتى يساوى التجسيد الواقعى أو الثمرة الطبيعية للتطبيق الأرثوذكسى للنموذج النظرى الماركسى لبناء الاشتراكية أو الشيوعية، فلا مناص من التسليم بأن نهاية التاريخ قد حلت بالفعل. وهذا أمر بديهى فى نظر فوكوياما الذى لا شك عنده فى هذا التطابق الجوهرى بين النظرية الماركسية والتطبيق السوڤييتى.
ومن المفارقات أن الخط السوڤييتى الموسكوڤى، الذى يسلم بهذا التطابق الجوهرى بين النظرية الماركسية-اللينينية والتطبيق "الخلاق" فى بلدان "المنظومة" الاشتراكية، جدير بأن يقود إلى الاعتقاد بأن نهاية التاريخ حلت بالفعل لكن أنصاره يتشبثون بحل السهولة المتمثل فى الحديث الخادع عن "أخطاء وسلبيات" التطبيق بما يُبَرِّئ النظرية من مسئولية ما حدث، والتفاؤل التاريخى العميق بنجاح آخر لتطبيق هذه النظرية، ربما كما هى دون تطوير، مع تفادى "أخطاء وسلبيات" الماضى فى التطبيق الخلاق فى المستقبل.
على أنه لم يعد من المقبول أن نواصل تجاهلنا لماركسيات متعارضة مع الماركسية السوڤييتية ظلت تنظر إلى النموذج السوڤييتى على أنه لا يمثل الاشتراكية والشيوعية والماركسية. فليس من الوارد إذن أنْ ينظر الماركسيون الحقيقيون إلى الصراع بين الشرق والغرب، بين الرأسمالية والنموذج السوڤييتى، بين الرأسمالية والاشتراكية كما تحققت فى الواقع، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوڤييتى، بين حلف الأطلنطى وحلف وارسو، على أنه كان صراعا ينتهى التاريخ بنهايته، فهذا الصراع لم يكن بين التكوينين الاجتماعيين-الاقتصاديين المتصارعين تاريخيا فى العصر الحديث: الرأسمالية والاشتراكية.
ولا يعنى هذا إنكار أن صراعًا تاريخيّا دار ويدور منذ قرابة قرن ونصف قرن بين "التكوينيْن"، لا يعنى إنكار الحركة الشيوعية أو حركة الطبقة العاملة أو حركات التحرر الوطنى الشعبية، لكنه يعنى أن هذا الصراع التاريخى لم يكن يتمثل فى صراع النموذج السوڤييتى وبلدانه ضد الغرب وحلفائه، بل إن كل انتصار للنموذج السوڤييتى فى أى بلد (قيام النظام الستالينى فى روسيا على سبيل المثال) كان يعنى بالتحديد هزيمة الاشتراكية والشيوعية والماركسية لصالح طبقة استغلالية جديدة صاعدة ترفع مع ذلك رايات الطبقة العاملة والثورة والاشتراكية والشيوعية والماركسية-اللينينية. وإذا كانت الثورات "الاشتراكية" وكافة محاولات السنوات الأولى لبناء الاشتراكية تجسد ذروة الصراع بين "التكوينيْن" فإن تبنِّى النموذج السوڤييتى أو تطور الأحداث بحيث تؤدى إلى قيام هذا النموذج كان يعنى الجَزْر والانحسار والهزيمة. والحقيقة أن النضالات والثورات والمحاولات التى تنتمى إلى الصراع بين "التكوينيْن" لم تتجسد فى مجتمعات اشتراكية بل فقط فى مجتمعات انتقالية فى الفترات الأولى التالية للثورات سرعان ما كان يجرى تصفيتها فى كل مكان، تلك التصفية التى تجسدت فى التبلور النظرى والعملى للنموذج السوڤييتى الستالينى فى الاتحاد السوڤييتى ثم فى تطبيقه من الناحية الجوهرية، حتى رغم الصراعات الفكرية الصاخبة فى بعض الأحوال، فى التجارب اللاحقة. ورغم ما ظلّ يبدو على السطح عقودًا طويلة، لم يتخذ الصراع بين "التكوينيْن" صورة صراع بين معسكرين، اشتراكى ورأسمالى، بل قام فى واقع الأمر معسكران، شرقى وغربى، ينتميان إلى تكوين اجتماعى-اقتصادى واحد هو التكوين الرأسمالى واحتدمت بينهما تناقضات المصلحة وسوء التفاهم، كما سبق أن رأينا.
وإذا كان الصراع بين "التكوينيْن" لم يتخذ شكل الصراع بين بلدان رأسمالية وبلدان اشتراكية، وإذا كان هذا يعنى أن هذا الصراع التاريخى فشلت فيه الاشتراكية والشيوعية والماركسية، رغم نجاحاتها ونضالاتها وثوراتها، فى تأسيس مجتمع اشتراكى، فليس هناك بالمقابل ما يدعو إلى الاعتقاد بأن هذا الصراع التاريخى قد انتهى. والقول بأن هذا الصراع سوف يتواصل فى المستقبل كما ظل قائمًا فى الماضى، لا يساوى أكثر من القول بأن المجتمع الرأسمالى ينطوى بحكم طبيعته الطبقية الاستغلالية على ضرورة نضال الطبقة العاملة، ليس فقط دفاعيا فى إطار المجتمع الرأسمالى ذاته بل هجوميّا فى سبيل انتصار الثورة الاشتراكية لبناء الاشتراكية والشيوعية. كما أن الإخفاقات والهزائم المتكررة للماركسية والنضال الشيوعى لا تعنى أن هذا الفشل الطويل يساوى العجز الدائم فى المستقبل أيضا عن تطوير النظرية باستيعاب الدروس؛ بما يقود إلى قيام أحزاب وحركات وثورات شيوعية من طراز جديد بما ينقل الصراع التاريخى بين "التكوينيْن" إلى مستوى تاريخى أعلى.
فقط عند استنتاج مثل هذا العجز المستقبلى الدائم، أو عند ادّعاء أن المجتمعات التى انهارت كانت اشتراكية أو شيوعية، يمكن الحديث، دون تأنيب ضمير، عن نهاية التاريخ، لكنْ لا المجتمعات التى انهارت كانت اشتراكية ولا من الملائم الحديث عن عجز مستديم. إن مجرد الإيمان بوجود المجتمع الرأسمالى، بخصائصه التى أصبحت مفهومة بفضل النقد الماركسى لهذا المجتمع، يساوى الإيمان بأن الصراع قائم وإنْ كان فى بداياته، رغم التاريخ الطويل من النضالات والثورات والحركات والنجاحات والإنجازات والانحسارات والإخفاقات والهزائم والانهيارات، وبأنه سيتطور بالضرورة، لأن من خصائص المجتمع الرأسمالى أنه ينطوى فى داخله على طبقتين أساسيتين متعارضتين تعارضًا جوهريّا.
وعندما يحقق النضال ضد المجتمع الرأسمالى نقيضه أى المجتمع الاشتراكى، سيكون من الممكن الحديث عن أن الصراع التاريخى بين "التكوينيْن" تحقق فانتهى بذلك. ويمكن لِمَنْ يحلو له أن يتحدث عن نهاية التاريخ بوصفها التحقق الفعلى للتاريخ. كما يمكن لمن شاء أن يعتبر نهاية التاريخ بداية التاريخ الحقيقى للإنسان باعتبار أن ما سُمِّى دائما بالتاريخ ليس فى الحقيقة سوى ما قبل تاريخ الإنسان (كارل ماركس).
9 نوڤمبر 1992
 
إشارة
 
1: جرى تدخل تحالف دولى بقيادة الولايات المتحدة بغطاء من الأمم المتحدة، ووُصف بأنه تدخل إنسانى لإنقاذ الصومال من المجاعة والحرب الأهلية، على أن مثل هذا التدخل مشكوك فيه من أكثر من ناحية:
1: غموض الأهداف الإستراتيچية الأمريكية.
2: لا يمكن تصوُّر تدخلات مماثلة فى أماكن أخرى من العالم الثالث فى حالة تزامن المجاعات والحروب الأهلية على نطاق واسع.
3: الشمال الإمپريالى قد يملك تلطيف هذه المجاعات فى المدى القريب غير أنه لا يملك قطعا (ولا يريد أصلا) إيقاف هذه الشعوب على أقدامها بحيث تنتقل إلى نظام اجتماعى اقتصادى حديث ومتطور يمكنه وحده منع مثل هذه الكوارث. وقد عبرت حتى صحافتنا "القومية" عن مثل هذه الشكوك والمخاوف والتحفظات.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
20
حول نظريات الطبيعة الاجتماعية
لبلدان النموذج السوڤييتى
 
(تذييل فى 1991 لكتاب كريس هارمان: انهيار النموذج السوڤييتى)
 
إلى أين تؤدى التطورات الجارية فى الاتحاد السوڤييتى (خاصة منذ 1986 والپيريسترويكا) وبلدان أوروپا الشرقية (خاصة بعد انهيار نظمها الحاكمة فى أواخر 1989)؟
هذا هو السؤال الذى يطحن ويعتصر عقول وقلوب الماركسيين (بالمعنى الواسع للكلمة) فى كل مكان فى العالم. وتتوالى الأسئلة القلقة المؤرقة: إلى اشتراكية ذات وجه إنسانى مهما يكن ظاهر مسار التطور الفعلى بعيدا تماما عن أن يكون مبشرا بها؟ إلى الرأسمالية؟ وما مصير حلمهم الذى اطمأنوا طويلا إلى أنه تحقق على الأرض؟ وما مصير البشرية ذاتها فى ظل مثل هذا الانقلاب فى اتجاه التاريخ؟ وما مصير الماركسية بدورها فى ضوء المحصلة التاريخية لتطبيقها طوال هذا القرن؟ ولابد أن تنتهى مثل هذه الأسئلة إلى سؤال جوهرى: ما طبيعة النظام الاجتماعي-الاقتصادى الذى كان قائما فى تلك البلدان؟ أكان اشتراكيا حقا؟ أكان رأسماليا رغم الشعارات؟ أم ماذا؟ ولا تنتهى الأسئلة: هل يمكن لمجتمع اشتراكى حقا أن يتحول إلى الرأسمالية؟ وبالمقابل: هل يحتاج مجتمع رأسمالى إلى كل هذه العواصف والأعاصير والزلازل والطوفان ليظل مع ذلك رأسماليا؟ ولا تنتهى الأسئلة بل تتواصل قلقة ومؤرقة، محيرة ومعذبة، حقيقية ومضللة، لكن مصيرية فى كل الأحوال، إلى ما لا نهاية.
على أى حال، هذا هو السؤال الجذرى الذى ألقى كريس هارمان، وهو من أبرز مفكرى حزب العمال الاشتراكى فى بريطانيا بزعامة تونى كليف، على عاتقه مهمة الإجابة عنه فى كتابه هذا "العاصفة تَهُبّ"، ولهذا العنوان صلة بكراس عنوانه "الجلاسنوست: قبل العاصفة" ألفه هارمان بالاشتراك مع آندى زيبروڤسكى، ونُشر فى عدد صيف 1988 -أى قبل الانهيار الأوروپى الشرقى (أواخر 1989) بأكثر من عام– من الاشتراكية الأممية (المجلة النظرية الفصلية لحزب العمال الاشتراكى) والتى نشرت هذا الكتاب أيضا فى عدد ربيع 1990.
ويقدم هارمان هنا استقصاءً شاملا مدققا لكل ما هو جوهرى، لكل ما له مغزى، فى مسار التطورات الجارية فى الاتحاد السوڤييتى منذ الپيريسترويكا، وفى مجرى الأحداث التى عصفت بالأحزاب الحاكمة فى أوروپا الشرقية. ورغم أن هذا الاستقصاء الشامل المعمق هو السمة المميزة لهذا الكتاب، الذى هو كتاب سياسى فى المحل الأول، لا يكتسب كتاب هارمان أهميته من مجرد الوصف الموضوعى والأمين والغنى بالتفاصيل التى تطمح إلى تقديم صورة ناطقة بالحياة، بل هناك دائما ما يعمق مغزى هذا الاستقصاء لما هو راهن من بحث عن جذور الأزمة الراهنة، وكشف للبنية الاجتماعية-الاقتصادية التى كانت هذه الأزمة ممكنة بل حتمية ضمن إطارها، واستكشاف لصورة المستقبل، للنتائج التى لابد أن تؤدى إليها هذه التطورات التاريخية فى نهاية الأمر. والحقيقة أن إجابة هارمان حاسمة: الانتقال من شكل للرأسمالية إلى شكل آخر لنفس الرأسمالية، الانتقال من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية المتعددة الجنسيات.
لا جدال بطبيعة الحال فى أن إجابة هارمان لن تكون مُرضية لجميع المعنيين، كما أنه لاشك فى أنها إجابة واحدة بين إجابات متعددة، موجودة أو محتملة، حاسمة أو مترددة. ذلك أن كافة محاولات تفسير (واتخاذ موقف إزاء) التحولات الجارية فى البلدان المعنية وغيرها من البلدان التى ظلت توصف بأنها بلدان اشتراكية (خاصة: الصين، ڤييتنام، كوريا الشمالية، كوبا، ألبانيا، يوغسلاڤيا -وقد امتدت العاصفة إلى البلدين الأخيرين بعد نشر هذا الكتاب) ليست مجرد استجابات وردود فعل تلقائية أو عارضة لهذه التحولات العاصفة، بل ترتبط ارتباطا وثيقا بالنظريات المتعددة الأقدم عهدا والتى لا يقل عمر أحدثها عن عدة عقود: نظريات الطبيعة الاجتماعية لهذه البلدان. بل يمكن القول إن كافة المحاولات والتفاسير والتحليلات والأحكام الجديدة ما هى إلا اجتهادات نظريات الطبيعة الاجتماعية، الأصلية القديمة، من خلال محاولات أنصارها ومفكريها فهم هذه التحولات الجديدة.
على أن إجابة هارمان تستمد مغزى خاصا من الظروف التى جاءت فيها، من واقع أنها جاءت "أثناء العاصفة". ظلت النظرية القائلة بأن البلدان المعنية رأسماليات دولة بيروقراطية، والتى تمثل إجابة هارمان إجابتها على السؤال الراهن، نظرية محدودة الشعبية فى ظل السيادة العالمية لماركسية الحزب الشيوعى السوڤييتى. والآن.. بعد اندلاع العاصفة التى ألقت بأنصار الخط السوڤييتى فى كل مكان إلى متاهات لا مخرج منها من الحيرة وفقدان الاتجاه والتشوش والإحباط والتى أدت ولا بد أن تؤدى بالكثيرين منهم إلى إعادة النظر فى الماركسية السوڤييتية برمتها، أصبح من المحتمل تماما أن تجد نظرية تونى كليف عن رأسمالية الدولة البيروقراطية وكذلك كل تحليل يرتكز عليها للتطورات الراهنة آذانا صاغية بصورة متزايدة. بل يمكن القول إن إفلاس جملة من النظريات "الماركسية" المتعددة والمتناقضة حول هذه القضية المحورية سيدفعنا من الآن فصاعدا إلى الإصغاء إلى هذه الإجابة وإلى هذه النظرية التى ترتكز عليها بعقول وقلوب مفتوحة.
وخلال قرابة ثلاثة أرباع القرن منذ ثورة 1917 وظهور الاتحاد السوڤييتى ثم بقية بلدان ما يسمَّى بالمنظومة الاشتراكية العالمية تبلورت عدة نظريات نكتفى بالإشارة إلى أبرزها حسب الترتيب الزمنى:
1 - نظرية أن هذه البلدان اشتراكية، وهى نظرية هذه البلدان عن نفسها، وهى أيضا النظرية التى ظلت سائدة فى الحركة الشيوعية العالمية، وهى النظرية الموسكوڤية المرتبطة بالنموذج السوڤييتى للاشتراكية.
2 - نظرية أن هذه البلدان لا هى اشتراكية ولا هى رأسمالية، بل هى فى مرحلة انتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية أمامها احتمالان: إلى الأمام نحو الاشتراكية عبر انتصار ثورة سياسية عمالية أو إلى الوراء نحو الرأسمالية عبر انتصار ثورة (اجتماعية) مضادة بيروقراطية-برچوازية تحطم مقاومة الپروليتاريا. وهذه نظرية التروتسكية والأممية الرابعة.
3 - نظرية أن هذه البلدان تمثل نظاما استغلاليا جديدا لكنه ليس رأسماليا هو نظام الجماعية البيروقراطية وهى نظرية ماكس شاختمان وچيمس بورنهام إلخ...
4 - نظرية أن هذه البلدان رأسمالية دولة منذ 1929 فى الاتحاد السوڤييتى ومنذ البداية فى غيره من البلدان المعنية. وهذه نظرية تونى كليف فى كتابه: رأسمالية الدولة فى روسيا (1948)، وهى نظرية حزب العمال الاشتراكى فى بريطانيا.
5 - نظرية أن الاتحاد السوڤييتى بلد رأسمالى، إمپريالى اشتراكى، يهيمن على توابعه الأوروپية الشرقية، إلخ.. وهذه هى النظرية الماوية الأحدث عهدا والتى سيطرت على الصين (وألبانيا) لفترة (فى الستينيات والسبعينيات) وكان لها صداها فى الحركة الشيوعية العالمية قبل أنْ تتلاشى تقريبا مع تصفية الماوية فى الصين فى أعقاب وفاة ماو تسى تونج (1976) واتجاه الصين إلى سياسة عملية لا جدال فيها.
لا يتسع المجال هنا بطبيعة الحال لأى مناقشة مستفيضة لهذه النظريات. وإنما يهمنا فى سياق هذه الإشارات إلى الإطار التاريخى النظرى العام لكل تحليل للتطورات الراهنة أن نؤكد ما يلى: لا يمكنك فى الواقع أن تبحث بجدية الطبيعة الاجتماعية للتطورات الراهنة دون أن تنطلق من إحدى هذه النظريات (أو غيرها). ينبغى بالتالى أن ينتبه كل المعنيين إلى أن البحث الأعمق المطلوب الآن يتعلق بالطبيعة الاجتماعية الأصلية لهذه البلدان وبالنظريات العديدة التى تبلورت على مدى عقود حول هذه المسألة، والتى فرضت نفسها أخيرا ساعة حسمها: أولا فى مجرى الواقع الفعلى للتطورات الجارية، ثم أثناء وبعد ذلك -حسب استعداد الماركسيين نظريا وسياسيا ونفسيا- على مستوى النظريات.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن نظريات الطبيعة الاجتماعية للبلدان المعنية هى بحكم طبيعتها نظريات "بعد التجربة"، فبعكس النظرية الماركسية الأصلية السابقة على الثورات والتجارب الاشتراكية عن الاشتراكية تتميز النظريات الجديدة بأنها تقييم وتنظير للتجربة، بأنها نظريات عن التجربة، عن واقع عينى، وليست نظريات عن مبادئ هدف ضرورى تاريخيا لم يوضع بعد موضع التطبيق.
وتنطوى كل نظرية عن الطبيعة الاجتماعية لهذه البلدان، بالضرورة، على نظرية خاصة بها عن الاشتراكية، وهى ليست بالضرورة النظرية الماركسية الأصلية عن الاشتراكية. فلا يمكن لنظريات متعارضة عن الواقع السوڤييتى المحدد مثلا أن تكون منطلقة من مفهوم واحد للاشتراكية هو مفهومها الماركسى. ولا يمكن أن تقول إحداها إن الواقع المعنى الواحد اشتراكى وتقول أخرى إنه رأسمالى وتقول ثالثة إنه انتقالى إلخ... دون أن نستنتج من هذا التعارض الجذرى أن هذه النظريات عن الطبيعة الاجتماعية تنطوى على نظريات متعارضة جذريا عن الاشتراكية بل كذلك عن الرأسمالية وعن الدولة وعن أساليب الإنتاج بوجه عام على المستوى النظرى. كما أنه لا يمكن لهذه النظريات المتعارضة عن الاشتراكية أن تكون ماركسية أو صحيحة فى آن معا. ولهذا فمن الواجب عندما نكون بصدد فحص نظرية من نظريات الطبيعة الاجتماعية أن نبحث نظريتها الخاصة عن الاشتراكية من حيث مدى اتفاقها مع أو اختلافها عن النظرية الماركسية عن الاشتراكية، رغم أن كل نظرية خاصة عن الاشتراكية تعلن نفسها ماركسية وتتخف وراء أقنعة ماركسية وتغرق مبادئها الخاصة بفيض من المصطلحات والعبارات الماركسية ومن الحق الذى أريد به الباطل.
تعلن النظرية السائدة والأقدم عهدا حول الطبيعة الاجتماعية للبلدان المعنية، أى النظرية السوڤييتية، أنها بلدان اشتراكية.
فإلى أى مدى تتطابق هذه النظرية عن الاشتراكية مع موضوعها، أى الواقع العينى للبلدان المعنية؟ وإلى أى مدى تتطابق هذه النظرية وموضوعها معا مع النظرية الماركسية عن الاشتراكية؟
الواقع أن التطابق بين نظرية الطبيعة الاشتراكية ومفهومها عن الاشتراكية وموضوعها التجريبى تطابق جوهرى، بل هو الاندماج بعينه، فهذه النظرية ليست فى واقع الأمر سوى تنظير لهذا الموضوع، وبعبارة أخرى فهى نظرية تم "تفصيلها" على "مقاس" التجربة، لكن بعبارات "ماركسية".
هذا الحكم الذى يبدو متسرعا للغاية وقاسيا للغاية يؤكده مع ذلك واقع أن المحتوى الفعلى لهذه النظرية لم يكن محتوى نقديا بل كان طوال تاريخها محتوى ذيليا: البحث من داخل حدود التجربة ودون لجوء إلى معايير من خارجها (من الماركسية بالذات) فى طبيعة ومشكلات وحلول هذه التجربة. ويعرف الجميع الظروف التى أحاطت بنشأة هذه النظرية وبتطور موضوعها ذاته: ظروف الديكتاتورية الستالينية التى لم تنجح ولم ترغب الإصلاحات الفوقية السابقة للپيريسترويكا فى أكثر من تصفية أساليبها الأشد وحشية وضراوة.
لكن حقيقة الطابع الزائف والملفق لهذه النظرية تتجلَّى بكل وضوح عند أدنى مقارنة لنظريتها عن الاشتراكية ولموضوع هذه النظرية مع النظرية الماركسية عن الاشتراكية. والواقع أن تلك النظرية لم يكن بمستطاعها أن تدّعى أن البلدان المعنية اشتراكية إلا بعد أن تسلحت بنظرية عن الاشتراكية تتعارض تعارضا جذريا مع الاشتراكية الماركسية. فالمسألة كما ترى ليست مسألة نظرية ماركسية (آن الأوان لبحث صحتها من بطلانها) وتطبيق (آن الأوان لبحث نجاحه من فشله) لنفس هذه النظرية، كما يحاول بعضهم طرح المسألة، بل هى مسألة خاصة بنظرية أفرزها واقع بعينه وقدّمها على أنها هى النظرية الماركسية عن الاشتراكية.
فبدلا من النظرية الماركسية عن الاشتراكية والتى تنظر إلى هذه الأخيرة على أنها تحرير الطبقة العاملة لنفسها بنفسها: بوصفها بقيادة حزبها الماركسى الثورى القوة الأساسية للثورة الاشتراكية وبوصف سلطتها والتى هى ديكتاتورية الپروليتاريا ديمقراطية مباشرة تسيطر من الناحية الفعلية وليس بالأقوال وحدها على الدولة والاقتصاد والتخطيط والسياسة الداخلية والخارجية الأممية، حيث لا تمثل ملكية الدولة إلا شكلا للملكية الفعلية والإدارة الفعلية لهذه الملكية من جانب الطبقة العاملة وبقية الجماهير العاملة، وحيث يكتسب التخطيط طابعه الاشتراكى من كونه تخطيطا للإنتاج والتوزيع تباشره الطبقة العاملة لمصلحتها ولمصلحة الاشتراكية والشيوعية إلخ إلخ إلخ.. -بدلا من هذا نجد أن ملكية الدولة هى قدس أقداس النظرية السوڤييتية فالدولة التى تقيمها اشتراكية والتخطيط القائم عليها اشتراكى وطابع قوى الإنتاج التى ترتكز عليها اشتراكى ومستويات المعيشة التى تنشأ فى ظلها مكاسب اشتراكية والأيديولوچية التى تنقشها على صدرها اشتراكية. كل هذا بفضل ملكية الدولة فى حد ذاتها أما كل تحليل ماركسى لملكية الدولة لفهم طابعها الاجتماعى الحقيقى فهرطقة لا معنًى لها.
وهذه النظرية غريبة على أى احتجاج نقدى بأن البيروقراطية الستالينية غدرت بثورة أكتوبر واغتصبت السلطة وأقامت ديكتاتورية معادية للطبقة العاملة واستندت إلى شرعية ثورة أكتوبر وتأميمها وملكيتها العامة وإلى أيديولوچية اشتراكية ماركسية مزيفة وإلى تحطيم كافة مؤسسات الديمقراطية الاشتراكية من سوڤييتات ونقابات ووسائل إعلام وإلى حزب مغانم شيوعى هو فى حقيقته جهاز نوعى من أجهزة الدولة لتقيم مشروعا للتصنيع وتطوير القوى المنتجة يحتل فيه التراكم مركز الصدارة على حساب حاجات الجماهير العاملة وتتضخم من خلاله امتيازات البيروقراطية وتغدو الطبقة العاملة فى مجراه محرومة من أى أسلحة للنضال. ومثل هذا المشروع لا يمكن أن يكون فى ظل الشروط التاريخية الراهنة شيئا آخر سوى مشروع رأسمالى لا بدّ له من أن يمرّ بمرحلة طويلة غير تقليدية لأنه نتاج ثورة مغدورة تقيّده مع ذلك ببعض خصائص نشأته التى يستمدّ منها شرعيته ذاتها. وعندما تصل التحولات الراهنة فى الاتحاد السوڤييتى وأوروپا الشرقية (ولا يعرف أحد متى يأتى الدور على الصين وڤييتنام وكوريا!) إلى نقطة الرأسمالية الصريحة السافرة (مهما يكن شكلها: رأسمالية دولة، رأسمالية خاصة، رأسمالية متعددة الجنسيات) التى لا يختلف اثنان حول طبيعتها، سيتجلَّى بوضوح أن ادّعاء أن الاشتراكية بعد أن توطدت وتطورت ونضجت يمكن أن تتحول إلى رأسمالية ادّعاء سخيف حقا وسيدفع ذلك دون شك إلى إعادة النظر فى الأسطورة التى سيطرت على الجميع (باستثناء أقليات من الماركسيين) من أوائل القرن إلى أواخره، أسطورة أن البلدان المعنية بلدان اشتراكية، هذه الأسطورة التى صدّقتها هذه البلدان عن نفسها، وصدّقها أنصار الاشتراكية خارجها، وصدّقها حتى أعداؤها الإمپرياليون والرجعيون فى كل مكان.
يبدو أن من العبث أن نتوقف هنا عند محاولات تفسير التطورات الجارية لدى أصحاب وأنصار هذه النظرية التى تعصف بها الآن هذه التطورات ذاتها فى البلدان المعنية، كما تدخل الأحزاب الشيوعية التى تبنتها تاريخيا فى متاهات لا فكاك منها وها هى الأحزاب الشيوعية الغربية تدخل فى عمليات لا تنتهى من تغيير الأسماء والبرامج والمبادئ، من الإحباط العام والإحساس بأنها فقدت مبرر وجودها إلخ إلخ.، على أن الميل المتزايد إلى التحرر من الأوهام فى صفوف مناضلى الأحزاب التى تتبنَّى هذه النظرية، تحت ضغط التحولات العاصفة، يدفع وسيدفع الكثيرين منهم إلى إعادة النظر فى نظرية الطبيعة الاشتراكية بعيدا عن الأوهام الجديدة التى أطلقتها هذه التحولات ذاتها عن زواج الاشتراكية والحرية، عن اشتراكية ذات وجه إنسانى، عن اشتراكية السوق، إلخ إلخ... هذه الأوهام التى لا تبدو بالغة الانسجام مع المجرى الفعلى للتطورات ومع تعبير البيروقراطية السوڤييتية عن أهدافها بتشريعات وبرامج وخطط وتدابير قاطعة التحدد وبلغة بالغة البلاغة ناهيك عن انهيار نظم أوروپا الشرقية التى تحكمها الآن أحزاب معادية للشيوعية والتى تراجعت الأحزاب الشيوعية فيها حتى بعد تغيير الأسماء والبرامج إلى موقع معارضة هزيلة.
سنكتفى بإشارة موجزة هنا، قبل الحديث عن تروتسكية الأممية الرابعة، إلى كل من نظرية الجماعية البيروقراطية ونظرية الإمپريالية الاشتراكية.
يعتقد كاتب هذه السطور أن المأثرة الحقيقية لنظرية الجماعية البيروقراطية هى اكتشافها المبكر لواقع أننا إزاء مجتمع استغلالى لكننى أعتقد أيضا أن مشكلاتها الجوهرية تتمثل فى أنها لم تتعرّف فى علاقات الإنتاج الاستغلالية على أساس قوى الإنتاج المناظرة لتلك التى تميز الرأسمالية على مجتمع رأسمالى بدلا من "اكتشاف" نظام استغلالى جديد بسبب نظرتها إلى ملكية الدولة بعكس نظرية تونى كليف التى ربطتها مباشرة برأسمالية الدولة البيروقراطية مبرهنة أن ملكية الدولة ليست مبررا حقيقيا لاكتشاف أسلوب إنتاج خاص.
أما نظرية الإمپريالية الاشتراكية (التى كانت قد حلّت فى أواخر الستينيات محل نظرية صينية سابقة قصيرة العمر هى نظرية التحريفية وخطر استعادة الرأسمالية) فقد تم إعدادها فى سياق ما سُمِّى بالنزاع السوڤييتى-الصينى كأداة من أدواته وليس كنظرية ماركسية أصيلة تطمح إلى التفسير والتغيير. وتتمثل مشكلتها الجوهرية فى انطلاقها من خرافة إمكانية الانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ذلك أن هذه النظرية نظرت إلى عهد ستالين على أنه كان قلعة للاشتراكية رغم أخطائه وسلبياته، ولم يبدأ الانحراف عن الاشتراكية والماركسية فى نظرها إلا بعد ذلك العهد من خلال الإصلاحات "التحريفية" اللاحقة.
والحقيقة أن كاتب هذه السطور يجهل أى تناول لأنصار نظرية الجماعية البيروقراطية للتطورات الراهنة ويرى فى تفسير بعض أنصارها المحليين لهذه التطورات بأنها تجرى فى إطار الانتقال من الجماعية البيوقراطية إلى الرأسمالية، انطلاقا من أن الجماعية البيروقراطية ذاتها لم تكن سوى أسلوب إنتاج "انتقالى" من الإقطاع إلى الرأسمالية، نفس الميل الأصلى إلى المبالغة فى شكل الملكية وإلى اكتشاف أساليب إنتاج انطلاقا من ملكية الدولة. كما أن من العبث أن نبحث اليوم عن تفسير ماوى محتمل للتطورات الراهنة بعد اختفاء الماوية من حكم الصين ومن التأثير القوى خارجها.
والآن، وسط نظرية الطبيعة الاشتراكية والنظرية التى تناقضها على طول الخط، نظرية رأسمالية الدولة البيروقراطية، تبرز نظرية الطبيعة الانتقالية للبلدان المعنية وهى نظرية تروتسكية الأممية الرابعة. وبحكم منطقها الداخلى (الطابع الانتقالى) تتضمن هذه النظرية احتمال أن تؤدى التحولات الراهنة إلى مصائر متعددة:
* استمرار المجتمع الانتقالى لفترة أخرى (فى حالتى نجاح أو فشل الإصلاح البيروقراطى الفوقى).
* الانتقال من المجتمع الانتقالى إلى الاشتراكية عن طريق ثورة سياسية عمالية (تفتح التحولات الراهنة سبيلا إليها).
* الانتقال من المجتمع الانتقالى إلى الرأسمالية عن طريق ثورة مضادة تحطم مقاومة الطبقة العاملة.
ونظرية المجتمع الانتقالى هى فى الأصل نظرية تروتسكى الذى كان ينظر منذ نصف قرن إلى حسم هذا التناقض بثورة سياسية عمالية (ذات نتائج اجتماعية عميقة) أو بثورة مضادة برچوازية تحطم مقاومة الطبقة العاملة على أنه مسألة سنوات قليلة أو حتى أشهر قليلة فقط. وإذا كانت تلك النبوءة لم تتحقق، بل حتى إذا كانت نظرية المجتمع الانتقالى قد فات أوانها فى ذلك الحين، فإن الروح الثورية لموقف تروتسكى كانت تتمثل فى هذا النداء: ثورة أكتوبر تجرى الآن تصفيتها على أيدى البيروقراطية الحاكمة باسم الطبقة العاملة ولكن ضدها فإما ثورة عمالية توقف هذا الانحدار وتستأنف السير فى اتجاه الاشتراكية وإما الرأسمالية عن طريق الثورة المضادة التى أضحت مستعدة تماما للانقضاض، وبعبارة أخرى: انقذوا ثورة أكتوبر من التصفية النهائية الوشيكة وإلا فعليها السلام.
وإذا كانت مأثرة تروتسكى الكبرى من الناحية النظرية وفيما يتعلق بالمسألة المطروحة هنا هى أنه وضع النظام السوڤييتى بين قوسين، وطرح طبيعته الاجتماعية-الاقتصادية للنقاش، وكشف طبيعة البيروقراطية المعادية للطبقة العاملة وللاشتراكية، وحذر من أن ذلك النظام كان يتجه بخطًى حثيثة نحو الرأسمالية، ودعا إلى الثورة ضدّه دون إبطاء، فقد تمثل الخطأ الكبير فى موقفه فى نظرية الطبيعة الانتقالية ذاتها والتى قاده إليها اعتقاده أن هناك تناقضا جوهريا بين ملكية الدولة لوسائل الإنتاج والتخطيط المركزى من ناحية وديكتاتورية البيروقراطية وامتيازاتها ومخططاتها وأهدافها الرأسمالية الأبعد مدى من ناحية أخرى، حيث تمثل ملكية الدولة هذه نقيضا مباشرا للرأسمالية. وكان هذا الخطأ الكبير هو الأب الشرعى من الناحية النظرية لتطور الفكر التروتسكى فى اتجاه مناقض لروح ومحتوى موقف تروتسكى فيما يتعلق بمسألة الطبيعة الاجتماعية-الاقتصادية للنموذج السوڤييتى.
ولا جدال فى نظر كاتب هذه السطور فى أن نظرية المجتمع الانتقالى تنطوى على مغالطة كبرى: فالانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية يفترض النمو المطرد للجديد الاشتراكى رغم بقاء عناصر من القديم الرأسمالى لفترة تطول أو تقصر، بينما يعانى هذا "الانتقال" من النمو المطرد إلى حدّ الأزمة للقديم الرأسمالى على حساب بدايات الجديد الاشتراكى التى تحققت قبل انفراد ستالين بالسلطة. ولولا التقييم الخاطئ لملكية الدولة والتخطيط المركزى لكانت هذه المغالطة التاريخية الكبرى مستحيلة تماما.
والحقيقة أن "التروتسكية" أو "تروتسكية" الأممية الرابعة وإرنست ماندل أو "الماندلية" (وهذه الأخيرة هى التسمية الملائمة فى رأى كاتب هذه السطور فيما يتعلق بالمسألة المطروحة هنا على وجه الحصر) احتفظت بالمعادلة الشكلية لنظرية الطبيعة الانتقالية عند تروتسكى: مجتمع انتقالى لا هو رأسمالى ولا هو اشتراكى يجمع عناصر من الماضى الرأسمالى مع عناصر من المستقبل الاشتراكى، أمامه احتمال الاشتراكية عبْر الثورة السياسية واحتمال الرأسمالية عبْر الثورة المضادة التى تحطم مقاومة الطبقة العاملة. وما طبقه تروتسكى على الاتحاد السوڤييتى جرى "تثبيته" عليه لكن بطريقة ملتوية ثم جرى مدّه بنفس الطريقة الملتوية إلى كافة البلدان التى سارت فى طريق النموذج السوڤييتى (بعد ثورات أو تدخلات سوڤييتية). ولا يملّ ماندل تكرار هذه المعادلة التى كان حسْمها مسألة سنوات قليلة أو حتى أشهر قليلة فقط منذ أكثر من نصف قرن فى نظر تروتسكى. بل تطور طرفا هذه المعادلة عند ماندل على نحو يتراجع فيه تدريجيا احتمال استعادة الرأسمالية إلى أن استبعدها نهائيا ووصفها بأنها فكرة مضحكة حتى بعد الپيريسترويكا بسنوات. ومن الجلى أن تروتسكية ماندل فيما يتعلق بمسألة طبيعة ومصائر النموذج السوڤييتى، تتعارض تعارضا جذريا مع تروتسكية تروتسكى رغم أنها تغذت نظريا وكنقطة انطلاق على نقاط الضعف فى تحليل تروتسكى لهذا النموذج.
سبق أن أشرنا إلى أن نظرية الطبيعة الانتقالية تتضمن احتمال أن تؤدى التطورات الراهنة إلى مصائر متعددة: استمرار المجتمع الانتقالى لفترة أخرى، الاشتراكية، الرأسمالية. وقبل أن نرى كيف يطرح ماندل الاحتماليْن الأوليْن مستبعدا الرأسمالية استبعادا قطعيا قاطعا ينبغى أن نشير إلى أن نظرية الطبيعة الانتقالية لا تستبعدها بل هى الفكرة الأساسية فى تروتسكية تروتسكى بهذا الخصوص، كما يتبنَّى اتجاه تروتسكى راهن (ديڤيد نورث) فكرة أن التحولات الراهنة تؤدى وستؤدى إلى الرأسمالية.
وفى القسم الأخير من مقدمته لكتابه: إلى أين يمضى الاتحاد السوڤييتى فى ظل جورباتشوڤ؟ (15 مارس 1989 صفحات 20-23 فى الطبعة الفرنسية)، يستبعد إرنست ماندل منذ البداية "احتمال حدوث استعادة للرأسمالية فى الاتحاد السوڤييتى، سواء أكانت "عفوية" أو من خلال مخطط خفى لدى جورباتشوڤ، أو بالإرادة الشعبية"، فالاستعادة "العفوية" للرأسمالية تعنى "التقليل على نحو غير مسموح به من شأن الدور المستقل للعامل السياسى، للدولة والقوى الاجتماعية، فى مجرى الثورات المضادة. وكما أن الرأسمالية لا يمكن القضاء عليها تدريجيا فإنه لا يمكن استعادتها تدريجيا"، أما تصوّر مخطط لدى جورباتشوڤ أو الجناح "الليبرالى" للبيروقراطية لاستعادة الرأسمالية فهو "يعنى أن نسيئ تماما فهم طبيعة وأسس ومدى امتيازاتهم وسلطتهم" بل يدّعى ماندل أن قبول استعادة الرأسمالية يساوى فى نظر هذه الشريحة قبول الانتحار الهاراكيرى الذى يمثله "قبول سلطة حقيقية للسوڤييتات، أى قبول إطاحة الپروليتاريا بها"، وأخيرا فإن الشغيلة "ثلاثة أرباع الشعب السوڤييتى" ليسوا مستعدين "لإعادة المصانع الكبرى، التى أقاموها بكثير من التضحيات، إلى مُلاك خاصين" فهذا لا يتفق مع "مصالحهم المادية الأكثر أولية". ثم يناقش إرنست ماندل أربعة احتمالات "أكثر واقعية لتجربة جورباتشوڤ":
1: نجاحها فى المقرطة ورفع مستوى حياة الجماهير فى حدودها الإصلاحية لكن هذا السيناريو هو الأقلّ احتمالا أمام مقاومة الفئات البيروقراطية الأكثر محافظة وجمودا وأمام "التناقضات الاجتماعية والسياسية التى تشكل عقبة أمام أى حل ‘إصلاحى‘ لهذه التناقضات".
2: تجاوزها من خلال التقاء تجذير قسم من الكادر القيادى للحزب الشيوعى السوڤييتى مع تعبئة جماهيرية معادية للبيروقراطية أوسع كثيرا من تلك الجارية حاليا وبالتالى "ربيع موسكو" على غرار ربيع پراغ. وهذا السيناريو بعيد الاحتمال أيضا "لكنْ أقلّ من الأول" لأنه "فى هذه الحالة ستعتبر قوى الجهاز جورباتشوڤ أهون الضرريْن بالنسبة إلى خطر ثورة من تحت".
3: إخفاقها وهو المآل "الأكثر مدعاة للتشاؤم": قيام القسم المحافظ من البيروقراطية العليا بوقف المقرطة وإلغاء الجلاسنوست على الفور فى حالة عدم اتساع التعبئة الجماهيرية وتدهور شروط حياة وعمل الطبقة العاملة والإخفاق الاقتصادى وسيكون ذلك بالتأكيد "بمثابة كارثة للاشتراكية، فى الاتحاد السوڤييتى وكذلك على المستوى العالمى" لكن الأمور لن تعود إلى وضعها السابق بعد كلّ هذه الحريات التى انتزعت والتى تجعل قمعا باتساع قمع الثلاثينيات أمرا لا يمكن تصوّره.
4: انفلاتها إلى ثورة سياسية: يتأخر تحسين شروط حياة وعمل الطبقة العاملة، ويزداد سخطها ويتحول إلى حركة جماهيرية مستقلة متزايدة الاتساع والتنظيم الذاتى متزايد التمركز من خلال استغلال الجلاسنوست:
وتعلن الجماهير ترشيح نفسها للممارسة المباشرة للسلطة. ويمتلئ شعار "كل السلطة للسوڤييتات!" بكل محتواه الكلاسيكى، فى سياق اجتماعي-اقتصادى أكثر مواتاة للغاية من نظيره فى 1917، أو 1923، أو 1927. وتنبثق من الپروليتاريا ومن الإنتليچنسيا الاشتراكية الراديكالية قيادة سياسية جديدة، شيوعية بالمعنى الأصيل والحقيقى للكلمة، لتساعد الجماهير فى تحقيق أهدافها الأساسية. وتنتصر الثورة السياسية بالمعنَى الماركسى لهذه العبارة.
والسيناريو الثالث (تدعيم الديكتاتورية) والسيناريو الرابع (الانفجار الثورى الجماهيرى والثورة السياسية) لا يستبعدان بعضهما البعض على المدى الطويل بل قد يؤدى الثالث إلى الرابع، وهما الاحتمالان الأكثر رجحانا "وإنْ من خلال اجتماعهما"، وهما "ينطلقان من تقييم أكثر واقعية لعمق التناقضات الاجتماعية التى تمزّق الاتحاد السوڤييتى".
فالاحتمالان الوحيدان عند إرنست ماندل هما باختصار:
* استمرار نفس النظام "الانتقالى" من خلال السيناريو الأول (نجاح التجربة) أو الثانى (تجاوز التجربة) أو الثالث (إخفاق التجربة).
* الثورة السياسية والاشتراكية (السيناريو الرابع).
جاءت تقديرات إرنست ماندل فى ربيع 1989 لكن خريف 1989 جاء بانهيار نظم أوروپا الشرقية وباتجاه الاتحاد السوڤييتى بمزيد من التصميم نحو الملكية الخاصة والسوق وتفاقم المسألة القومية، وبدت بوادر استجابة ماندل لهذه التطورات العاصفة فى بداية 1990 (فى حديثه فى مجلة إمپريكور) حيث سلّم بأن پولندا والمجر قد تستعيدان الرأسمالية لكنه قال أيضا إن المعركة لم تحسم بعد وإن حركة پروليتارية جماهيرية لم يشهد التاريخ لها مثيلا توشك على الاندلاع. وهذه النبوءة الأخيرة لم تؤكدها التطورات الأوروپية الشرقية والسوڤييتية حتى الآن، وإنما هى عقائدية تروتسكية حول ضرورة "مقاومة الطبقة العاملة" التى سيكون على ثورة مضادة بورچوازية أن تحطمها مع أن هذه "المقاومة" تم تحطيمها منذ عهد بعيد من خلال آليات النظام الستالينى والتى استمرت من الناحية الجوهرية بعد ستالين بدليل الحالة السياسية الراهنة للطبقة العاملة فى الاتحاد السوڤييتى وأوروپا الشرقية وبقية البلدان المعنية.
ومهما يكن من شيء فإن إفلاس ماندل والماندلية فيما يتعلق بهذه المسألة المحورية من المسائل النظرية والعملية للتروتسكية والذى يشمل فى آن واحد نظرية الطبيعة الاجتماعية ونظرية إعادة البناء يفتح الباب واسعا (مع التقدير الكامل للإنجازات الضخمة لماندل والأممية الرابعة فى بقية المسائل النظرية والعملية للماركسية الراهنة) أمام نظرية أخرى تنطلق من تبنِّى نقاط قوة نظرية تروتسكى والعمل على التغلب على نقاط ضعفها فى آن معا، وهى النظرية الأخيرة التى ننتقل إليها الآن.
هذه النظرية التى تحدد الطبيعة الاجتماعية للبلدان المعنية بأنها رأسمالية دولة وتنظر إلى إعادة البناء على أنها انتقال من شكل للرأسمالية إلى شكل آخر لنفس الرأسمالية الواحدة هى نظرية تونى كليف فى كتابه: رأسمالية الدولة فى روسيا (1948) وهى النظرية التى "طوّرها إلى مدى أبعد ودافع عنها، بين آخرين، كريس هارمان، نايچل هاريس، دنكان هالاس، پيتر بينس" كما يقول چون مولينو فى كتابه: نظرية الثورة عند ليون تروتسكى (1981، بالإنجليزية، الإشارة رقم 90، الفصل الرابع) وهى، كما سبق القول، نظرية حزب العمال الاشتراكى البريطانى.
ترى هذه النظرية أن النظام السوڤييتى الناشئ عن ثورة أكتوبر 1917 تحوَّل إلى رأسمالية دولة عبر مسار تبرز فيه حقائق أساسية: تخلُّف قوى الإنتاج، دمار الحرب الأهلية التى دمرت أيضا الطبقة الثورية ذاتها، صعود البيروقراطية الستالينية كطبقة رأسمالية حاكمة: تمثل سنة 1929 تاريخا حاسما فى هذا المسار. وفى مقاله المعنون: من تروتسكى إلى رأسمالية الدولة (إنترناشونال سوشاليزم، عدد صيف 1990)، يشير كريس هارمان إلى تغيرات كبرى تمت دفعة واحدة فى شتاء 28-1929، موجزا أفكار تونى كليف فى كتابه سالف الذكر:
فى شتاء 28-1929 قامت البيروقراطية، التى كانت تتذبذب من قبل بين الطبقة العاملة والفلاحين، بالهجوم الضارى عليهما معا. تمّ تحطيم العناصر الأخيرة من الرقابة العمالية فى المصانع؛ وتمّ القضاء تماما على الاستقلال النقابى؛ وهبطت الأجور الحقيقية بنسبة 30 أو 40 فى المائة؛ ومُنحت الشرطة السياسية حرية التصرف لمحو بقايا النقاش داخل الحزب، وأضحى النضال ضد "المساواتية" سياسة دولة فى حين أخذت التفاوتات بين البيروقراطية والعمال تزداد بصورة كبيرة؛ وتمّ طرد الفلاحين من الأرض من خلال ما يسمَّى "بالتجميع"؛ وتضاعف عدد المساجين فى معسكرات العمل 20 مرة فى غضون سنتين (ليتضاعف من جديد عشر مرات فى العقد التالى)؛ واستخدم الترويس لتحطيم استقلال الجمهوريات السوڤييتية غير الروسية.
ويقول چون مولينو فى كتابه سالف الذكر (ص 137) عن ذلك التحول:
وفى رأسمالية الدولة فى روسيا أثبت تونى كليف بالتحليل التفصيلى، أنه ابتداءً بالخطة الخمسية الأولى، تمّ إخضاع الاقتصاد السوڤييتى بكل قسوة للتراكم وإنتاج وسائل الإنتاج، كنقيض لاستهلاك العمال. وذلك فى تناقض صارخ مع فترة 21-1928 حيث كان هناك، رغم التشوّه البيروقراطى، نموّ متوازن إلى حدّ ما للإنتاج، والتراكم، والاستهلاك.
أى أن استعادة الرأسمالية فى الاتحاد السوڤييتى تاريخ قديم تحقق منذ أكثر من ستين سنة فلا مجال للحديث (منذ ذلك العهد القديم) عن مجتمع اشتراكى أو انتقالى كما تفعل النظرية السوڤييتية والنظرية التروتسكية على التوالى انطلاقا من ملكية الدولة والتخطيط المركزى الشامل اللذيْن ينظر إليهما كليف على أنهما الأداتان الضروريتان لرأسمالية الدولة البيروقراطية، واللذيْن يرتكز كليف على دراسة مستفيضة معمقة للاقتصاد السوڤييتى ولعلاقات الإنتاج والتوزيع فى المجتمع السوڤييتى للكشف عن طابعهما الطبقى الحقيقى الذى تخفيه النظريات التى لا تتصور الرأسمالية إلا فى شكل الرأسمالية الخاصة والملكية الخاصة والفردية.
ويودّ كاتب هذه السطور أن يشير هنا إلى تبنيه من الناحية الجوهرية لنظرية رأسمالية الدولة البيروقراطية فى السنوات الأخيرة. لكننى أودّ أيضا أن أؤكد أن هذا التبنى لا يمتدّ إلى كافة وجهات نظر هذا المذهب الماركسى: الفكرى السياسى التنظيمى، ولا يخلو من تحفظات هامة على بعض الأفكار المرتبطة بنظرية رأسمالية الدولة البيروقراطية. وسأشير فقط إلى نقطة واحدة: يبدو أن هجوم هذه النظرية على المبالغة فى دور ملكية الدولة فى نظريات أخرى قادها إلى المبالغة فى تصور أن رأسمالية الدولة الشاملة يمكن أن تكون نظاما "دائما" فى بلد واحد أو فى مجموعة من البلدان، ولهذا لم يكن باستطاعتها أن تتنبأ بانهيار محتمل لهذا الشكل من أشكال الرأسمالية ولهذا كان التهوين الدائم من إمكانية استعادة شكل الرأسمالية الخاصة رغم أن هذا الشكل لا يمكنه أن يحول فى الظروف المعاصرة دون أن تحتل رأسمالية الدولة دورا بالغ الأهمية فى الاقتصاد كما هو الحال فى قلاع الرأسمالية الغربية ذاتها. وهنا يمكن القول إن هذه النظرية سوف تجد، تحت ضغط التطورات الراهنة، ما تتعلمه من إلحاح تروتسكى على الرأسمالية الخاصة وعلى الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لكن ضمن إطار نظرى مختلف يعتقد أن رأسمالية الدولة الشاملة يمكن أن تكون، وكانت بالفعل، مرحلة خاصة وشكلا خاصا للرأسمالية، كما يعتقد أنها ستلعب دورا كبيرا فى اقتصاد البلدان المعنية فى المستقبل.
وإذا كان كريس هارمان يصف محصلة التحولات الراهنة بأنها ستكون انتقالا من شكل رأسمالية الدولة البيروقراطية إلى شكل الرأسمالية المتعددة الجنسيات، مقدِّرا للدور الذى تلعبه الإمپريالية العالمية فى هذه التحولات، ومتفاديا أى حديث عن رأسمالية خاصة بعقائدية نموذجية لدى هذا الاتجاه فى هذه النقطة بالذات، فإن أى تحليل ماركسى مدقق لن يعثر على سور صينى بين الرأسمالية المتعددة الجنسيات والرأسمالية الخاصة والفردية ولا بينهما وبين رأسمالية الدولة. وكريس هارمان لا يقيم مثل هذا السور بصورة مباشرة على أى حال وإنْ كان تفاديه العقائدى لكل حديث عن الرأسمالية الخاصة قد يوحى به عن حق أو عن غير حق.
20 يوليو 1991
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
21
ملخَّص كتاب
انهيار النموذج السوڤييتى: الأسباب والنتائج
وهو ترجمة لدراستين منشورتين فى الفصلية اللندنية
 International Socialism, London, Britain
الأولى بعنوان The Storm Breaks, Issue 46, Spring 1990
  والثانية بعنوان From Trotsky to State Capitalism, Issue 47, Summer 1990
تأليف: كريس هارمان
الناشر: المركز القومى للترجمة، المشروع القومى للترجمة، 2010، القاهرة.
(كما يشتمل الكتاب على مقدمة وتذييل لمترجم الكتاب)
 
الاتحاد السوڤييتى: التحرُّر من الأوهام: أصبح من المألوف الآن أنْ يؤرَّخ لبدايات التغيير فى الاتحاد السوڤييتى بصعود جورباتشوڤ إلى السلطة فى 1985. ويدين جورباتشوڤ بهذا الصعود إلى القمة لرعاية أندروپوڤ، الأمين العام السابق للحزب الشيوعى السوڤييتى، والذى كان لفترة طويلة رئيس كى جى بى (المخابرات السوڤييتية).
وفى غضون سنة واحدة من مجيئه إلى السلطة، كان جورباتشوڤ يدفع بإلحاح فى اتجاه نَهْجٍ بالغ الاختلاف عن النهج الذى كان متَّبَعا فى العقدين السابقين. ففى المؤتمر السابع والعشرين للحزب فى 1986 أطلق شعارى پيريسترويكا [إعادة البناء أو إعادة الهيكلة] وجلاسنوست [العلانية]، وشنّ حملة فى سبيل التغييرات المنشودة فى جلسة كاملة هامة للجنة المركزية للحزب فى يناير 1987 وبالدعوة إلى انعقاد أوّل كونفرنس خاصّ للحزب الحاكم طوال قرابة نصف قرن فى يونيو 1988. وقد مهّد ذلك للانتخابات التى أُجْرِيَتْ دون تزوير فى ربيع 1989.
ومع وعد جورباتشوڤ "بثورة سلمية" سُمِح للصحفيين، لأول مرة منذ منتصف العشرينيات، بالقيام بكشف الحياة فى الاتحاد السوڤييتى كما يعيشها الناس. وظهرتْ تقارير عن الفساد الواسع الانتشار، وسيطرة المافيا، وحجم الفقر والبغاء، وتدهور الخدمة الصحية، والتلوّث المفزع، والمشكلات البيئية الهائلة والامتيازات الضخمة لقمة البيروقراطية.
وامتدّ "الانفتاح" إلى الحياة الثقافية: بدأت الروايات الممنوعة فى الظهور مطبوعة وبدأتْ اللوحات الممنوعة تحلّ محلّ فظاعات الواقعية الاشتراكية فى معارض الفن. وبدأ المؤرخون يكشفون الحقائق عن عهد ستالين وتمّ "رَدّ اعتبار" أعضاء الحزب الذين قام ستالين بتصفيتهم فى الثلاثينيات. وأشادتْ مقالات قليلة بالدور التاريخى ﻟ تروتسكى. وبدا الأمر وكأن الأيديولوچية التى حاولت خنْق عقول الناس على مدى ستة عقود من الزمان قد انهارت بين عشية وضحاها.
وتمثلتْ الاستجابة  السائدة خلال الأعوام الثلاثة الأولى ﻟ جورباتشوڤ فى النظر إليه على أنه الرجل الذى يواصل بكل عزم تغييرات عظيمة وتقدّمية. كان هذا يصحّ على اليسار تماما كما كان يصحّ على اليمين. وكان أشخاص قليلون للغاية [الإشارة هنا إلى الاتجاه الذى ينتمى إليه المؤلف] يحاولون إثبات أن اليسار لا ينبغى أنْ يضع ثقته فى جورباتشوڤ، على أن التحرّر من الأوهام كان قادما دون إبطاء.
الاتحاد السوڤييتى: الأزمة فى الاقتصاد: كان الوضع الاقتصادى يزداد سوءًا بدلا من أنْ يتحسَّن مع الپيريسترويكا. ففى النصف الثانى من 1987 وبوجه خاص فى 1988 بدأ إمداد السوق الاستهلاكية بالسلع فجأة فى التدهور بحدّة، جالبًا معه الاستياء الشعبى المتنامى. فقد اجتاحت موجة من الإضرابات مناجم الفحم فى البلاد، ومرَّر جورباتشوڤ قانونا ضد الإضراب مؤكدا: "بدأنا فعلا نفقد السيطرة على الاقتصاد" واعترف ريچكوف، رئيس الوزراء: "الموقف فى الاقتصاد [...] انعطف انعطافة حادة إلى الأسوأ. وفى سپتمبر حدث هبوط خطير فى النشاط الاقتصادى"، وأعلن ريچكوف سلسة من تدابير الطوارئ تخلَّصت على نحو فعّال من الابتعاد عن اقتصاد الأوامر الممركز الذى كان يُفترض أنْ يكون محور الپيريسترويكا. وعبَّر يلتسين عن التشكك الشعبى الواسع الانتشار قائلا إن المحاولة الجديدة (بعد إصلاحات 1956  و 1966 و 1979 و 1983 "لم تؤدِّ بنا إلى شيء على مدى خمس سنوات إلى الآن".
الاتحاد السوڤييتى: المساألة القومية: أخذ  السخط الجماهيرى يتنامى مع تفاهم الأزمة الاقتصادية. وخلال 1988 و 1989  ظهر عامل أخير شكّل أساس التحرُّر المتنامى من الأوهام إزاء جورباتشوڤ. فقد ألقى انفجار قومى بين الجماعات الإثنية غير الرسمية التى كانت تشكل نصف سكان الاتحاد السوڤييتى بظلاله على التعبيرات المباشرة عن النضال الطبقى. ولم يدرك جورباتشوف وأنصاره اليساريون على المستوى العالمى حقيقة أن بذور السخط القومى كانت ماثلة وملموسة منذ عهد بعيد فى الاتحاد السوڤييتى. واستمرّ العَمَى العام عن المسألة القومية حتى بعد أنْ تمّ إرسال القوات إلى آلما آتا (كازاخستان) فى أواخر 1986 للتعامل مع الاحتجاجات القومية. وفى فبراير 1988 اكتسحت يريڤان، عاصمة أرمينيا، فجأة، أضخم المظاهرات التى شهدها الاتحاد السوڤييتى منذ 1927، وكانت حول مطالبة سكان إقليم آذربيچانى (ناجورنو كاراباخ) بتوحيده مع جمهورية أرمينيا. وفى سُومجايت (آذربيچان) حدثت مذبحة آذيرية للسكان الأرمن. وشهد سپتمبر مزيدًا من الإضرابات فى كل من إقليم كاراباخ وأرمينيا رغم أن المدن الرئيسية كانت تحت الاحتلال العسكرى، وفى نهاية الأمر فرض جورباتشوف فى أوائل 1989 الحكم المباشر من موسكو على إقليم كاراباخ.
ولم تكن النزاعات فى أرمينيا وآذربيچان سوى أولى حركات قومية عديدة تُسَبَّب لجورباتشوف مشكلات. وقد شهد صيف 1988 الظهور المفاجئ لحركات فى جمهوريات البلطيق الثلاث (لاتڤيا، إستونيا، ليتوانيا) التى كان ستالين قد ألحقها بعد معاهدة ستالين–هتلر فى 1939. ومع نهاية 1989 كانت الجبهات الشعبية فى الجمهوريات الثلاث ملتزمة علنا بالاستقلال التام عن الاتحاد السوڤييتى، وكانت تجبر قيادات الأحزاب الشيوعية المحلية على التحرك فى نفس الاتجاه.
وسرعان ما توطدت حركات قومية تضارع فى قوتها تلك التى كانت فى دول البلطيق فى چورچيا ومولداڤيا، وكذلك فى أرمينيا وآذربيچان، بحلول منتصف 1989. كما أن التحريض القومى كان يلقى صدًى قويا فى بيلوروسيا وأوكرانيا الغربية. وفى الوقت نفسه، كانت أعداد لا حصر لها من الحركات الأخرى تنشأ فى صفوف الأوزبك، والطاچيك، والكازاخيين، والأتراك المسكيتيِّين، والأبخازيِّين وكثير من التجمعات الآخرى.
وبدأت بيروقراطيات الجمهوريات المحلية تلعب الورقة القومية، وبوجه خاص ورقة اللغة، لتعزيز شعبيتها ومكانتها.
الاتحاد السوڤييتى: الإحساس بالقلق: كانت الأقليات القومية تعبِّر عن مظالمها من أقصى الاتحاد السوڤييتى إلى أقصاه. كانت هناك إضرابات فى لاتڤيا، وإستونيا، ومولداڤيا، وچورچيا. وكانت لتوانيا تطالب بالاستقلال. وكان السخط الشعبى يتزايد فى أوكرانيا.
أما المؤسسات الجديدة التى كان يُفترض فيها أنْ تجمع كلمة البلاد – مؤتمر النواب ومجلس السوڤييت الأعلى – فكانت تعكس ببساطة الانقسامات فى المجتمع ككلّ.
امتدّ القلق إلى الحزب الحاكم الذى كان قد فرض على مدى أكثر من 60 عاما انضباطا حديديا على المصالح المختلفة داخل البيروقراطيَّتَيْن الاقتصادية والحكومية وكان يجمعها فى هيراركية واحدة تحت قيادة الأمين العام والمكتب السياسى. أما الآن فكان الحزب ذاته يكفّ عن أنْ يعمل بطريقة موحَّدة. وهذا ما تبيَّن فى اجتماعات اللجنة المركزية، التى تجمع معًا أولئك الذين يمدُّون بالرجال جهاز الحزب ذاته، والمشروعات والوزرات الرئيسية، وقادة الشرطة والجيش. ولم تكن القوات المسلحة محصَّنة ضد الإحساس بتفسُّخ المجتمع ككل. ففى القاعدة كان الجنود العاديون منخرطين فى مختلف الجبهات الشعبية. وعلى أعلى مستوى كانت هناك تقسيمات واضحة بين الضباط المتعاطفين مع الإصلاح والضباط المستائين منه. وكان الأفراد العسكريون فى الپرلمان نشيطين بوجه خاص ... وكان الصَّدْع بين المحافظين والوسط باديا بشأن كافة المسائل، لكنْ بوجه خاص بشأن المسائل العسكرية – حتى بين النواب العسكريين أنفسهم.
وبعد أنْ كان سيدّ الأحداث فى 1987 و 1988، بدا جورباتشوف على نحو متزايد وكأنه أسيرها. أحال إلى التقاعد قِسْمًا بكامله من اللجنة المركزية وقام بتعديل المكتب السياسى، وجاء بأشخاص يدينون له بترقيتهم وفصل محافظين قدامى، لكن قدرته على توجيه الأحداث تضاءلت مع ذلك. أصدر مرسوما بحظر "المظاهرات غير المصرّح بها"؛ واندلعت المظاهرات على نطاق أوسع. قام بحظر الأعمال التى تهدف إلى إثارة العداء أو الشقاق القومى أو العرقى، وتعاظم الشقاق القومى. مرَّر قانونا بشأن الإضرابات؛ وأضرب الناس رغم أنفه. وصدّق على رسالة إلى قيادات جمهوريات البلطيق محذرا إياها من الاستسلام للضغوط القومية فى تهديد مبطَّن بإرسال قوات روسية إلى هناك ولكنه وُوجِه بإعلان الحزب الليتوانى استقلاله عن الحزب الشيوعى السوڤييتى؛ ولم يكن قادرا إلا على مناشدة القادة الليتوانيِّين أنْ يعيدوا النظر.
ولم تتجاهل القيادة الحزبية والقيادة العسكرية ببساطة القلق المتنامى من تحت، بل اتخذت تدابير قاسية جدا فى محاولة لسحق الحركات. وساد غليان متزايد من أقصى الاتحاد السوڤييتى إلى أدناه، وأدَّى عدم النجاح فى ترميم الشروخ التى أحدثها هذا الغليان فى الصرح السياسى إلى تفاقم المشكلات الطويلة الأمد لهذا النظام.
السياسية العالمية: سلاح ذو حَدَّيْن: حقق جورباتشوف نجاحا واحد حتى خريف 1989 مكان فى سياسته الدولية: إخراج القوات السوڤييتية الأخيرة من أفغانستان فى فبراير 1989 دون أنْ تنهار حكومة كابول فى الحال؛ القيام بأول زيارة لزعيم روسى منذ أيام خروشوف إلى الصين؛ صياغة صلات جديدة مع النظام الإيرانى، وقبل كل شيء، تهدئة الحرب الباردة الجديدة عن طريق سلسة من اتفاقيات الحد من الأسلحة مع الولايات المتحدة الأمر الذى سمح له بخفض العبء العسكرى الواقع على اقتصاد الاتحاد السوڤييتى كما كان قد استطاع، عن طريق سياسة جديدة للتعاون مع الولايات المتحدة، أنْ يقلِّل المواجهات المحلية فى أفريقيا الجنوبية وأمريكا الوسطى. وكانت شعبيته فى الخارج تدعم مركزه فى بلاده، لأن أىّ إطاحة به كانت مخاطرة بانفراط عقد ما بدا أنه إستراتيچية دولية بالغة النجاح. وبطبيعة الحال فقد كان هناك ثمن لا بد من دفعه مقابل هذه الإستراتيچة: امتناع الاتحاد السوڤييتى عن التدخل فى شئون الفناء الخلفى للولايات المتحدة فى أمريكا الوسطى، مساعدة القوى الغربية على تحقيق الاستقرار فى أفريقيا الجنوبية، الحذر الشديد فى الإجراءات الى اتخذها للدفاع عن مجال نفوذه الخاص (أوروپا الشرقية)، والواقع أن الأنظمة التى جسَّدتْ النفوذ الروسى على أوروپا الشرقية كانت قد بدأت تتداعى. ورغم مواصلة الخارجية الروسية الحديث عن قدسية حدود ما بعد الحرب فى أوروپا فإنه كان لا مناص من أنْ يخسر الاتحاد السوڤييتى أغلب المكاسب الإستراتيچية التى تمّ إحرازها فى الحرب العالمية الثانية؛ خاصة عندما قام بتحوُّل دپلوماسى مفاجئ فى أواخر يناير 1990 بالحديث عن حتمية إعادة توحيد ألمانيا. وإلى جانب خسارة الاتحاد السوڤييتى لأوروپا الشرقية خوفا من إثارة الحساسيات الغربية، قادت سياسة جورباتشوف أيضا إلى خسارة دول البلطيق، وخسارة الإمپراطورية الداخلية بالإضافة إلى الخارجية.
أوروپا الشرقية: انهيار تراكمى: بدأ مسار التغيير فى پولندا والمجر.
فى پولندا كان هناك نهوض ضخم للمواجهة الاجتماعية فى 1980–1981 شلّ نشاط الدولة، غير أن الانقلاب العسكرى فى ديسمبر 1981 قصم ظهر نقابة التضامن المستقلة، وإنْ كان لم ينجح فى تحطيم نفوذ المعارضة السرية للنظام. ثم وقعت فى ربيع وصيف 1988 موجتان من الإضرابات. ولا شك فى أن الإضرابات لم تكن بالحجم الضرورى لتحطيم سلطة الطبقة الحاكمة وتثوير المجتمع غير أنها أدت إلى إثارة مناقشة مريرة داخل الشرائح الحاكمة فى المجتمع الپولندى حول الطريقة التى يمكنها أنْ تحمى بها مستقبلها هى. ومن خلال مائدة مستديرة تمّ الاتفاق مع المعارضة ومع المستقلين على انتخابات شبه حرّة تمخضت عنها حكومة ملتزمة بإعادة البناء والاتفاق مع صندوق النقد الدولى، والخصخصة الواسعة النطاق برئاسة أحد مستشارى منظمة تضامن. وظلّ نفس الأشخاص مسئولين عن المشروعات والسلطة والقوات المسلحة. وفى الوقت نفسه أخذ المديرون الذين كانوا قد صعدوا إلى مراكزهم كجزء من البيروقراطية العليا القديمة يستخدمون نفوذهم وثروتهم لشراء أقسام من الصناعة بالجملة وأنشأوا ما يقدَّر بحوالى 15 ألف تعاونية.
وفى المجر: حيث مضت التغيرات الاقتصادية إلى نفس المدى الذى بلغتْه فى پولندا على الأقل. كانت المواجهة الاجتماعية محدودة وكانت المعارضة المنظمة صغيرة ولم تتجاوز القوة العددية لمظاهراتها الأولى فى 1987-1988 أكثر من آلاف قليلة وكانت تتألف أساسا من الطلبة. ولم يأت الانفتاح على "الديمقراطية" نتيجة للضغط من تحت، بل لأن الاسستدانة الدولية المتعاظمة والمخاوف من الأزمة الاقتصادية خلقت انقسامات بين كبار زعماء الحزب. واتفقوا جميعا على دفع الإصلاح الاقتصادى فى اتجاه "سياسات ثاتشرية" كما كانوا يقولون بصراحة. وفى هذا المناخ السياسى الجديد اندفع الناس إلى الانضمام إلى المعارضة وفجأة كانت قوة المظاهرات السياسية للمعارضة بمئات الآلاف، وانضمّ إليها حتى وزراء، وتكوَّنتْ أحزاب جديدة، وانقسم الحزب الحاكم إلى حزبيْن.
وفى ألمانيا الشرقية، كانت التغيرات فى المجر بمثابة العامل المساعد للتغيرات فيها، فالمجر لم تكن فى وضع يسمح لها بمنع الألمان الشرقيين من العبور إلى ألمانيا الغربية. وبدأت ألمانيا الشرقية تعانى استنزافًا فى العمل الماهر لأول مرة منذ بناء سور برلين فى 1961. ومنح الضعف المفاجئ لحكومة ألمانيا الشرقية عزما جديدا لجماعات المعارضة التى كانت صغيرة لا تزيد القوة العددية لمظاهراتها عن عدة آلاف، وجذب عنف القمع الپوليسى آلافا أخرى إلى الشارع، وفجأة صارت قيادة الحزب الحاكم معزولة ويائسة. ولم يكن بوسع هذا الحزب أنْ يتوقع المساعدة من جورباتشوف الذى كان هناك ما يدعوه إلى كراهية نظام يتخذ موقفا نقديا صريحا إزاء سياسته، كما أن القمع الواسع النطاق كان من شأنه أنْ يُفْسد تماما العلاقات مع ألمانيا الغربية التى كان يعتمد عليها النظام اقتصاديا اعتمادا متزايدا. وأدّى انقلاب داخل المكتب السياسى إلى طرد هونيكر، وحلّ محله كرنتس الذى طرده بدوره مودروڤ. وانضمتْ أعداد واسعة من الناس إلى الاحتجاج الذى صار آمنا لا ينطوى على مخاطرة. وكانت تلك التغيرات كافية لدفع المشروعات الضخمة التى تملكها الدولة فى ألمانيا الشرقية إلى مضاعفة محاولاتها لإقامة صلات مع الشركات الألمانية الغربية. وفى اجتماع مشترك أبلغ رؤساء اتحاد الصناعات الألمانى الشرقى نظراءهم الألمان الغربيِّين نظرتهم إلى السوق الاجتماعية الألمانية الغربية على أنها نموذج رائع. وضاعف قادة الحزب الحاكم اتصالاتهم على المستوى القومى والمحلى مع الساسة ورجال الأعمال الألمان الغربيِّين، وبحلول نهاية يناير 1990 كانوا يقدِّمون خطتهم الخاصة للوحدة الألمانية.
وفى تشيكوسلوڤكيا كانت دينامية التغيُّر شبيهة جدا، فى البداية على الأقل، بتلك الخاصة بألمانيا الشرقية. وبعد مسيرات احتجاج صغيرة نسبيا (عدة آلاف) فى أغسطس1989  لإحياء ذكرى الغزو الروسى فى 1968، خطط الطلبة متشجعين بالأحداث الجارية فى أماكن أخرى لمظاهرة فى 17 نوڤمبر لإحياء ذكرى استيلاء النازى على البلاد منذ 50 سنة. وكانت المظاهرة أضخم من توقعات الحكومة والمعارضة، وأرسلت الحكومة "قوات مكافحة الإرهاب" لتهاجم وتسحق المتظاهرين فيما عرف ﺒ "مذبحة 17 نوڤمبر". ورغم أنه لم يمت أحد فإن مشهد الانقضاض كان كافيا لحفز عدد أوسع كثيرا من الناس. وبدأ الطلبة إضرابا فى كل أنحاء تشيكوسلوڤكيا وانضم إليهم طلبة المسرح والممثلون والمخرجون وفجأة تحوَّل كل مسرح فى پراغ إلى مركز للمناقشة والنشاط المعارض. وانضمّ مئات الآلاف إلى المظاهرات. وفجأة أصبحت الجماعة المعارضة، (المنتدى المدنى) حركة جماهيرية نجحت فى تنظيم إضراب لمدة ساعتين فى كل أنحاء البلاد. وكان قادة الحزب والوزراء يأتون ويدهبون بسرعة مذهلة قبل أنْ يتمّ تشكيل حكومة ائتلافية ضمت معارضين ومستقلين وتمّ انتخاب هاڤيل (السجين السياسى السابق) رئيسا للجمهورية.
وفى بلغاريا كان التغيرات التى جرت فى الأشهر الأخيرة من 1989 أقرب إلى أحداث المجر منها إلى أحداث ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوڤكيا. فقد أزيح من السلطة فجأة چيڤكوڤ زعيم الحزب على مدى ثلاثين عاما سابقة حيث كشف منافسون فى المكتب السياسى أنه هو وابنه كانا ينهبان من البلاد ملايين الدولارات، وتطورت المعارضة بسرعة.
وكانت رومانيا البلد الوحيد الذى ارتبطت فيه التغييرات السياسية بصراع مسلَّح، وقعتْ من خلاله ثورة عنيفة. وكانت السلطة مركَّزة فى يد شاوشيسكو وكان يستخدمها ليسحق بصورة وحشية أىّ عنصر مقاومة. غير أن القمع فى هذه المرة لم يسحق الحركة فى الحال. واندلعت مظاهرات ضمت مئات الآلاف من الناس واستولت على أسلحة شرطة الأمن وهرب شاوشيسكو وزوجته بطائرة هليكوپتر تاركيْن المركز الرسمى للسلطة فى أيدى الشعب. وأعلن قادة القوات المسلحة تأييدهم للثورة وبدأ الجيش ينتزع السيطرة من أيدى الشعب. وأثبت ما حدث فى رومانيا بوضوح الكثير من السمات الكلاسيكية لثورة ولكنها كانت لا تزال ثورة سياسية أكثر منها اجتماعية.
إفلاس نظريتين: لكى نفهم ما حدث فى أوروپا الشرقية يحتاج الأمر إلى نظرية يمكنها أنْ تفسِّر فى آن واحد حجم الأزمة التى أصابت مجتمعات أوروپا الشرقية والسهولة التى استطاعت بها هذه المجتمعات التحول على نحو مكشوف إلى أساليب الرأسمالية الغربية. ولا شك فى أن النظريات التى هيمنت تقليديا على اليسار والتى وصفتْ هذه المجتمعات بأنها اشتراكية" (الخط السوڤييتى) أو "بعد-راسمالية" (نظرية الطبقة الجديدة الاستغلالية ولكن غير الرأسمالية: الجماعية البيروقراطية عند شاختماتمان إلخ..)، أو "دولا عمالية متدهورة" (التروتسكية وبالأخص طبعة إرنست ماندل من التفسير التروتسكى). والحقيقة أن التحليلات التى تؤكد أن اقتصاد الدول الشرقية كانت دائما فى أزمة ليس من شأنها أنْ تفسر لماذا أخذ الوضع يزداد سوءًا فجأة فى السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى أن هذه التحليلات تنكر الواقع التاريخى البسيط المتمثل فى أن هذه المجتمعات عرفتْ عقودا من النمو الاقتصادى.
الأرثوذكسية الجديدة: تتمثل هذه الأرثوذكسية فى المزاعم الواسعة الرواج القائلة بأن دول أوروپا الشرقية تختلف عن أوروپا الغربية لأنها لم تتَّبع سياسات السوق المفتوحة طوال اﻟ 40 سنة الأخيرة، وكان هذا بسبب" العقيدة الماركسية" (وجهة نظر الجناح اليمينى) أو بسبب "عقلانية البيروقراطية"(وجهة نظر تيكتين، وفوريدى، وآخرين). غير أن الاقتصاد السوڤييتى كان ينمو إلى وقت قريب بسرعة تضارع سرعة نمو اقتصاد كثير من دول غرب أوروپا، كما تخبرنا وكالة المخابرات المركزية (الأمريكية)، وكذلك الأمر بالنسبة لأوروپا الشرقية. والخلاصة أن النظام الشرقى لم يكن شكلا لا عقلانيا تماما للتنظيم الاقتصادى بل كان شكلا استطاع أنْ يكون حافزا لنمو اقتصادى هائل حتى نقطة بعينها، لكنه وقع فى أزمة.
رأسمالية الدولة: هناك تفسير ماركسى واحد لدول أوروپا الشرقية يمكنه انْ ينسجم مع هذا التطور المتناقض. والمقصود نظرية رأسمالية الدولة، وهى نظرية تمّ تطويرها أصلا لتفسير طبيعة المجتمع الذى كان يحكمه ستالين فى الاتحاد السوڤييتى ثم تمّ استخدامها فى وقت لاحق لتفسير التطورات فى أوروپا الشرقية، والصين، وبلدان عديدة فى العالم الثالث.
ركزت هذه النظرية على مظهريْن مترابطيْن للدول الشرقية. وقد تمثَّل المظهر الأول فى الدور الرئيسى الذى لعبه التراكم الإكراهى لوسائل الإنتاج فى تطوراته الاقتصادية، وهذا التراكم الإكراهى سمة للرأسمالية وليس لأىّ شكل سابق للمجتمع. وهذا ما يثبته هبوط النسبة المئوية للسلع الاستهلاكية فى الاتحاد السوڤييتى من إجمالى الناتج من حوالى 60 فى المائة فى عام 1928 إلى حوالى 25 فى المائة فى عام 1958. فيما كانت نسبة التراكم فى أوروپا الشرقية تصل إلى 40 فى المائة من الناتج.
ويتمثل المظهر الثنى فى الطريقة التى يرتبط بها تطور الاقتصادات الشرقية بتطور النظام العالمى الأوسع من حولها. وهكذا حلت محل المنافسة الداخلية بين المشروعات منافسة على نطاق عالمى.
وكان للمستوى المرتفع من التجارة الخارجية لهذه الاقتصادات بالضرورة تأثير هائل على التوجه الداخلى للاقتصاد. غير أن المنافسة على الأسواق الأجنبية لم يكن لها وحدها أثر عميق على السير الداخلى للدول الشرقية. كان هناك أيضا أثر مشاركة هذه الدول فى المنافسة العسكرية بين الكتلة الشرقية والغرب والصين. وكان هذا هو الأهم فى حالة الاتحاد السوڤييتى الذى بلغ إنفاقه على الأسلحة ما بين 12 فى المائة (التقدير السوڤييتى قبل الجلاسنوست) و 16 فى المائة (تقدير وكالة المخابرات المركزية) من الدخل القومى. ويشكل هذا حوالى ضعف المستوى الأمريكى، وحوالى أربعة أضعاف متوسط المستوى الأوروپى الغربى، وحوالى 14 ضعف المستوى الياپانى. وهذا هو ما يفسر المستويات المرتفعة جدا للتراكم فى الاقتصاد الروسى. وقد نظرت البيروقراطية الروسية إلى التراكم على أنه الطريقة الوحيدة لإرساء قاعدة الصناعة الثقيلة اللازمة من أجل الاستعداد العسكرى. وهو يفسر أيضا أوجه التشابه فى نموذج التنمية الصناعية فى فترة ما بعد الحرب فى ألمانيا الشرقية، أو المجر، أو تشيكوسلوڤاكيا، مع نموذج سنوات الحرب عندما كانت هذه البلدان جزءًا من اقتصاد الحرب النازى. والحرب والاستعداد للحرب – المنافسة العسكرية – تجبر الطبقات الحاكمة الحديثة على أنْ تفرض على اقتصادها نفس دينامية التراكم الرأسمالى كما تفعل منافسة السوق.
رأسمالية الدولة كمرحلة فى التطور الرأسمالى: تساعدنا نظرية رأسمالية الدولة (نظرية تونى كليف منذ عام 1948) على فهم فترة ستالين والسنوات الأولى من الحكم الستالينى فى أوروپا الشرقية، فالطبقة الحاكمة لدولة متأخرة اقتصاديا والتى كانت عاقدة العزم على الانخراط فى منافسة عسكرية–اقتصادية مع دولة أكثر تقدما حاولت أنْ تقوم بذلك عن طريق نسخ الأساليب التى كان قد تمّ بها تصنيع الرأسماليات المتقدمة: أسيجة طرد الفلاحين من الأرض فى إنجلترا والعبودية فى الأمريكتين إلخ.. وسارت الطبقات الستالينية الحاكمة على نفس الدرب مع "التجميع" و"الجولاج" و"الشرطة السرية المنتشرة فى كل مكان. وكانت هذه الطبقات راغبة فى أنْ تحقق خلال عقدين اثنين ما استغرق من الرأسمالية البريطانية ثلاثة قرون. وكانت البربرية الستالينية بربرية أكثر تركيزا حيث أدت إلى  10، أو 20، أو حتى 30 من ملايين الوفيات (حسب تقديراتمختلفة) فى آواخر العشرينيات. ولم يكن الميل إلى سيطرة الدولة على الاقتصاد كله شيئا انفردت به الستالينية، بل حدث ذلك بدرجات متفاوتة فى كل مكان فى العالم الرأسمالى فى الفترة الممتدة من الحرب العالمية الأولى وأزمة 1929-1930  حتى السبعينيات، فى سياق إقامة صناعات جديدة فى بلدان كانت الرأسمالية فيها متأخرة فى نموها، باعتبار أن الطريقة الوحيدة التى يمكن بها مواجهة المنافسة من جانب القوى الرأسمالية الراسخة تتمثل فى استخدام قوى الدولة لتركيز الموارد المتاحة، وقد لعبت الدولة فعلا فى منعطف القرن العشرين دورا رئيسيا فى نمو الصناعة الكبيرة فى الياپان وروسيا القيصرية، وقادت الحربان العالميتان وأزمة الثلاثينيات إلى درجة هائلة من الاندماج بين الدولة والمشروعات العملاقة فى الرأسماليات المتقدمة، وكنت هذه هى النقطة الرئيسية التى لاحظها منذ 1916 بوخارين ولينين فى دراساتهما عن الإمپريالية. وكانت رأسمالية الدولة منسجمة مع مرحلة تطور قوى الإنتاج التى كان ذلك يمثل فيها هدفا يمكن التفكير فيه.
   أصول رأسمالية الدولة فى أوروپا الشرقية: بعد أزمة 1929–1934 العالمية التى كانت لها نتائج مدمرة فى كل مكان، اتجهت حكومات أوروپا الشرقية إلى استخدام أشكال من تدخل الدول مباشرة للسيطرة على التجارة الخارجية وتنظيم الصفقات التجارية مع الدول الأخرى (خاصة ألمانيا النازية) وخفض الواردات وتحديد أسعار صرف تفاضلية لمختلف المعاملات التجارية والسيطرة على البنوك والمؤسسات الصناعية المتجهة إلى الإفلاس. وقد زادت الحرب العالمية الثانية من الميل إلى سيطرة الدولة على الاقتصاد زيادة هائلة، أولا: من خلال إدماج اقتصاد أوروپا الشرقية فى اقتصاد الحرب الألمانى، ثانيا: دمرت "الألمنة" القاعدة الاقتصادية لكثير من الطبقات الرأسمالية المحلية القديمة، ثالثا: شوَّهت الحرب تماما التطور الاقتصادى لكل بلد، وتمّ نقل موارد هائلة إلى الآلة الحربية الألمانية على حساب مستويات المعيشة والاستثمار الأساسى. وازداد المأزق الاقتصادى لمعظم البلدان سوءًا بسياسات المنتصرين فى الحرب. فقد تمّ إجبار تلك البلدان التى كان حكامها القدامى يؤيدون هتلر (ألمانيا الشرقية، رومانيا؛ المجر) على دفع تعويضات (أساسا للاتحاد السوڤييتى)، وفى ألمانيا الشرقية استنفدت تلك التعويضات ما يقرب من نفس مقدار الموارد التى دمرتها الحرب الشاملة، بالإضافة إلى خسارة اقتصادية كبيرة لألمانيا الشرقية حيث صارت صناعتها مقطوعة عن المصادر التقليدية لوقودها – فحم الأنتراست – نتيجة لتسليم سيليزيا إلى پولندا وتأسيس دولة ألمانية غريبة منفصلة. وكانت الأحداث قد منحت الدولة فى أوروپا الشرقية سلطة إدارة تنظيم الإنتاج دون عرقلة تُذْكَر من جانب المصالح الرأسمالية الخاصة، وجرى التسليم بأن الطريقة الوحيدة للسير إلى الأمام بالنسبة الاقتصاد كانت تتمثل فى استخدام قوة الدولة. وهكذا فإن ما حدث فى أوروپا الشرقية لم يختلف اختلافا كيفيا عما حدث فى غيرها، لكنه كان ببساطة التعبير الأكثر تطرفا من الناحية الكمية عن اتجاه عام. ومن هنا سهولة الانتقال من التنظيم الاقتصادى لما قبل الحرب ولزمن الحرب، ومن هنا أيضا سهولة هذا الانتقال اللاحق.
تناقضات الرأسمالية: الحقيقة أن الرأسمالية الحاكمة، المجبرة على التراكم مهما كان الثمن، لا يمكنها أنْ تتفادى تقويض أساس حكمها هى، وكان هذا صحيحا فيما يتعلق بالطبقات الحاكمة الشرقية: أولا: خلقتْ حفّار قبرها المتمثل فى الطبقة العاملة السوڤييتية، وثانيا: اتجهت أشكال الاستغلال القديمة إلى الزوال. وبعد النموّ فى السنوات المبكرة بمعدّل أعلى من الاقتصادات الغربية بدأتْ رأسماليات الدول الشرقية تنمو بنفس السرعة فقط (أو حتى أبطأ)، كما بدأتْ تعانى أزمات حادة فى الوفاء بمجموعات بكاملها من السلع الاستهلاكية، وثالثا: كان من المنطقى أنْ يؤدى التركيب العضوى المتعاظم لرأس المال إلى ميل متوسط العائد على الاستثمار إلى الهبوط، ورابعا: هناك أيضا التناقض بين الإنتاج الاجتماعى واستحواذ الدولة القومية، فالنمو المتواصل لقوى الإنتاج فى مرحلة يجعل رأسمالية الدولة تبدو عقبة أمام الكفاءة الاقتصادية فى مرحلة تالية. وقد بدأت الرأسمالية المتعددة الجنسيات فى غرس رأسمالية الدولة كطليعة للنظام. أما الطبقات الحاكمة القومية التى حاولت الاحتفاظ بالسوق المحلية للسلع التى فى أيدى الشركات المؤسسة قوميا فقد بدأت تكتشف أن هذه الشركات عاجزة عن تعبئة الموارد اللازمة لمباراة المشروعات الأكثر تقدما فى الاقتصاد العالمى. والانتقال من الرأسمالية القومية إلى الرأسمالية المتعددة الجنسيات لا يلغى الدور الاقتصادى للدولة القومية فى دعم الشركات القومية. لقد كبرت الرأسمالية العالمية على مرحلة رأسمالية الدولة غير أن ما حل محلها ليس "رأسمالية خاصة" ولا "رأسمالية سوق" وكأن دور الدولة قد اختفى. ذلك أن الرأسمالية الجديدة تجمع بين رأسمالية الدولة والرأسمالية المتعددة الجنسيات، فهى بالتالى الرأسمالية المتعددة الجنسيات التى تتطور مكوِّناتها من أسس رأسمالية الدولة القومية ولا تنفصل عنها بصورة كاملة أبدا.
أزمة رأسمالية الدولة: كان للتخلف المتزايد فى التكنولوچيا آثار هامة فى ثلاثة مجالات، أولا: حدث تخلف فى أكثر وسائل الإنتاج تقدما ولم يعد من الممكن الحصول على أجهزة الكمپيوتر والمعدات الهندسية المتقدمة إلا بشرائها من الغرب وبالتالى المزيد من الاحتياج إلى العملة الأجنبية، وثانيا: صعوبة متزايدة فى تحمُّل عبء إنتاج الأسلحة المتقدمة، ولم يكن نجاح الاتحاد السوڤييتى فى هذا المجال إلا عن طريق استنزاف الموارد الضرورية لتنمية ناتج عالى الجودة فى بقية الاقتصاد، وثالثا: حيثما تحقق النجاح فى إشباع الحاجات المادية الأساسية للعمال، كما فى ألمانيا الشرقية وتشيكوسلوڤكيا، لم تستطع الأنظمة أنْ تمنع الاستياء المتعاظم بشأن تكلفة وجود السلع الاستهلاكية المعمرة.
وقد جعلت نظرية رأسمالية الدولة من الممكن أنْ نفهم، حتى منذ منتصف السبعينيات، أنه لا الانفتاح على الغرب ولا محاولة تقييد هذا الانفتاح بوسعهما منع انزلاق الدول الشرقية نحو الركود الاقتصادى والأزمة السياسية.
"ما قبل-الأزمة" والپيريسترويكا: عندما مات بريچينڤ فى 1982 كان الاقتصاد فى حالة "ما قبل-أزمة"، وقد هبط التقدير الرسمى لمعدل النمو من 5.7 فى المائة فى النصف الأول من السبعينيات إلى 3.6 فى المائة فى بداية الثمانينيات. ولم تكن أعراض "ما قبل-الأزمة" فى الاقتصاد فحسب. كان الجيش قد غاص عميقا فى مستنقع حرب فى أفغانستان لم يكن بمستطاعه أنْ يكسبها، وانتشر الفساد داخل البيروقراطية وتلاشت بقايا ذلك الالتزام الريادى ببنية رأسمالية الدولة، وقد اعترف أندروپوف الذى تولى السلطة بعد بريچينڤ بالأخطار التى ينطوى عليها هذا الوضع الذى كان قد تفاقم عندما تولى جورباتشوڤ السلطة فى 1985 واشتمل البرنامج الاقتصادى للپيريسترويكا، كبداية، على ثلاثة اتجاهات مترابطة للتغيير: أولا: إعادة بناء الإنتاج بعيدا عن التجهيزات والآلات القديمة لإحلال تجهيزات وآلات جديدة محلها، ثانيا: الخفض التدريجى لحجم الجهاز البيروقراطى الذى يسيطر على الصناعة وإبدال البيروقراطية والمديرين غير الملائمين أو غير الأكفاء أو الفاسدين، ثالثا: إحلال الجهود القائمة على قوى السوق محل الجهود البيروقراطية لرفع كفاءة الصناعة.
التفتُّت الداخلى: فعلت النزعة القومية أكثر من مجرد توفير وسيلة للناس للاحتجاج على الاضطهاد القومى. فقد أدت أيضا إلى تعمبق مشاعرهم بالاغتراب عن أولئك الذين كانوا يديرون الدولة المركزية والمشروعات العملاقة: وكانت سياسة الترويس قد أدت إلى أنْ تكون المؤسسات المهيمنة على الاتحاد السوڤييتى تتكون بأغلبيتها الساحقة من روس أو – إلى مدى أقلّ – من بقية السلاڤيِّين. وبدا أن المشكلات والمظالم الاجتماعية ناتجة عن التمييز القومى. وكان ستالين قد وطَّد سلطته بسياسة فرِّقْ تَسُدْ التى سمحت للقومية السائدة فى كل جمهورية باضطهاد قوميات الأقليات فى الوقت الذى تعانى فيه هذه القومية السائدة ذاتها الاضطهاد على أيدى البيروقراطية المركزية الناطقة بالروسية.
لماذا تتجه الپيريسترويكا إلى الفشل: من الناحية السياسية ارتكزت الپيريسترويكا على تناقض. كان لا بد من إعادة تنظيم جذرية لأضخم بيروقراطية فى العالم، ولم يكن من الممكن أنْ يحدث ذلك دون السماح بالضغط عليها من خارج صفوفها. غير أن هذه البيروقراطية كان لا يزال من المنتظر منها أنْ تفرض مطالب الحكومة المركزية على بقية السكان. وكان جورباتشوف يحذو حذو نموذج الحكومات الإصلاحية فى أوروپا الشرقية فى الخمسينيات والستينيات. غير أن موقفه كان أسوأ من موقف أسلافه الأوروپيِّين الشرقيِّين من ناحيتيْن، فمن ناحية كل هؤلاء يعتمدون آنذاك على السلاح الخارجى الجبار المتمثل فى القوة الضخمة للقوات المسلحة للاتحاد السوڤييتى، غير أن الحدّ القاطع لهذا السلاح كان قد تآكل بالهزيمة فى أفغانستان وبالجلاسنوت بين بعض صفوف هذه القوات، وعلى كل حال لم يكن من الممكن استخدام هذا السلاح بصورة شاملة لإعادة فرض النظام فى كل أنحاء الاتحاد السو ڤييتى؛ ومن ناحية أخرى، لم يكن فشل الإصلاح الاقتصادى مجرد فشل فى التنفيذ، بل كان هناك خطأ فى صميم فكرة الإصلاح ذاتها. فالهدف هو إعادة بناء الاقتصاد السوڤييتى بحيث تتوسع أقسامه القادرة على تكييف نفسها مع المستوى العالمى الراهن لقوى الإنتاج فى حين تتوقف أقسام أخرى. غير أن هذا كان مشروعا مؤلما للغاية ليس للعمال ومعاناتهم فى هذا السياق فحسب بل كذلك فيما يتعلق بأغلب الأعضاء الأفراد فى البيروقراطية.
المراوحة فى نفس المكان فى أوروپا الشرقية: كنا فى 1956 إزاء إصلاح معتدل فى الاتحاد السوڤييتى أفسح المجال لثورة مسلحة فى المجر. وفى 1990–1989 كانت الاضطرابات المريرة فى كل أنحاء الاتحاد السوڤييتى، والتى خلَّفتْ مئات القتلى مصحوبة بإصلاح سلمى فى پولندا، والمجر وألمانيا الشرقية، وتشيكوسلوڤاكيا. وحالما نفهم طابع رأسمالية الدولة لهذه المجتمعات، يصبح من الممكن أنْ نفهم سهولة الانتقال السياسى فى كثير من أنحاء أوروپا الشرقية، حيث إن الأمر لم يكن بحاجة إلى أكثر من ضغط خارجى ضئيل للغاية لينهار صرح "الشيوعية" الأوروپية الشرقية. وفى الوقت الذى شهد الانهيار التراكمى للأحزاب الحاكمة القديمة، ظل رؤساء المشروعات، وموظفو الوزارات، والچنرالات، وحتى معظم قيادات الشرطة، فى مكانهم، محاولين تأمين حصولهم على حكومات جديدة لمواصلة نماذجهم الجديدة للتراكم الرأسمالى.
الرأسمالية المتعدة الجنسيات والمعارضة الأوروپية الشرقية: الانتقال السلس من شكل للحكم إلى شكل آخر لا يتوقف أبدا بصورة كلية على موقف الطبقة الحاكمة، فهناك السخط الشعبى الهائل الناتج عن أزمة أشكال الحكم القديمة ويؤدى إلى ضغط من أجل هذا الانتقال. والواقع أن أغلب المعارضات كانت مدفوعة بكراهية عميقة لنظام الحزب الواحد القمعى وتتطلع إلى أسهل بديل له، وقد تمثل هذا البديل فى اقتصاد السوق وتحوُّل رأسمالية البيروقراطية العليا إلى ملحق للرأسمالية التمعدة الجنسيات.
احتمالات للتسعينيات: تداعتْ رأسماليات الدولة القزمية فى أوروپا الشرقية أمام المنافسة القادمة من العمالقة الجدد للنظام العالمى، غير أن هذا لا يعنى أنها قادرة على تحويل نفسها بنجاح إلى عمالقة أو حتى على تكييف نفسها بنجاح للخدمة عند أقدم العمالقة. والواقع أن الفجوة واسعة بين ما تتوقعه الغالبية العظمى من العمال من التغيُّرات وما يُرجَّح أنْ يحصلوا عليه فعلا. وتتاخم بلدان أوروپا الشرقية أكثر الدول الأوروپية الغربية رخاءً. وقد انتهى الناس إلى مطابقة الشكل الغربى للرأسمالية مع مستويات المعيشة الإسكندناڤية أو الألمانية الغربية، غير أن مثل هذه المستويات المعيشية غير واردة أبدا، هناك صدام حتمى، عند نقطة ما، بين التوقعات المنتعشة والواقع القاسى.
بناء معاضات اشتراكية: فى كل مكان فى الدول الشرقية جعلت المطابقة الشعبية بين الستالينية والاشتراكية من الصعوبة بمكان على الاشتراكيِّين الحقيقيِّين أنْ يجدوا آذانا صاغية. ورغم أن جماعات الاشتراكيين الحقيقيِّين موجودة تظل أعدادهم صغيرة ويظل تأثيرهم صغيرا فى اللحظة الحاضرة. على أن مقاومة اندماج رأسمالية الدولة والرأسمالية المتعددة الجنسيات أمر لا مفرّ منه فى كل مكان. ولا شك فى أن حتمية النضالات العمالية هى التى تقدم أعظم الأمل للاشتراكيِّين فى الدول الشرقية.
ملحق: من تروتسكى إلى رأسمالية الدولة: يمثل هذا الملحق مراجعة نقدية لكتاب المفكر التروتسكى الشهير إرنست مانديل: إلى أين يمضى الاتحاد السوڤييتى فى ظل جورباتشوف؟ يحتوى على مناقشة نظرية معمَّقة لآراء إرنست مانديل. ولأن أفكار مانديل إنما هى امتداد لنظرية تروتسكى ولكنْ بعد قرابة نصف قرن من الزمان كان لا بد من التمييز بين الموقفين رغم انطلاقهما من فكرة تروتسكى القائلة بأن الاتحاد السوڤييتى ليس رأسماليا وليس اشتراكيا بل دولة عمالية انتقالية أمامها احتمالان: إلى الأمام نحو الاشتراكية عبر انتصار ثورة سياسية عمالية أو إلى الوراء نحو الرأسمالية عبر انتصار ثورة (اجتماعية) مضادة بيروقراطية–برچوازية تُحطِّم مقاومة الپروليتاريا. ويرتكز ردّ المؤلف على النظرية القائلة بأن هذه البلدان رأسمالية دولة منذ 1929 فى الاتحاد السوڤييتى ومنذ البداية فى غيره من البلدان المعنية، وهى نظرية تونى كليف فى كتابه: رأسمالية الدولة فى روسيا (1948)، وهى نظرية حزب العمال الاشتراكى فى بريطانيا.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
22
طبيب الأمراض العقلية
(رواية قصيرة)
طبيب الأمراض العقلية The Psychiatrist، 1882،
ماشادو ده أسِّيس Machado de Assis،
دار الياس للطباعة والنشر، الطبعة الأولى بعنوان: السراية الخضراء، القاهرة، 1991،
(دار الياس للطباعة والنشر، القاهرة، 1991، بعنوان: السراية الخضراء)
(تذييل)
 
رغم مكانته العالية فى الأدب البرازيلى الحديث وآداب اللغة الپرتغالية الحديثة بوجه عام، ورغم أهميته التى لا جدال فيها كروائى عالمى، ظلّ ماشادو ده أسيس (1839-1908) شبه مجهول فى عالمنا العربى. ولم تعرف العربية حتى الآن، على حدّ علمى، سوى واحدة من روائعه الروائية هى كونكاس بوربا التى نقلها المرحوم سامى الدروبى إلى اللغة العربية فى 1963.
ولد چواكيم ماريا ماشادو ده أسيس فى 1839 فى مدينة ريو دى چانيرو، التى لم يغادرها قط، لأسرة فقيرة ملونة. كان أبوه نقّاشًا متواضعًا، وكان خلاسيًا ("مولّاتو": أحد الأبوين أبيض والآخر أسود). وكانت أمه برتغالية متواضعة عملت خادمة عند بعض الأسر الغنية. ماتت أمه وهو طفل وتزوج أبوه من أخرى كانت خلاسية مثله وكانت أمًّا ثانية للطفل. وبعد أن توفّى أبوه ظلّت ترعاه رعاية الأم إلى أن انفصل هو عنها. عمل صبيًّا فى مطبعة (وعمره 15 سنة)، ومصحّح پروڤات فى مكتبة خاصة، ومحررًا فى جريدة مرموقة، ومندوبًا لها فى مجلس الشيوخ (فى الحادية والعشرين). وفى الخامسة والعشرين بدأ يحقق شهرة فى ريو بمسرحياته ومراجعاته الأدبية وأعمدته السياسية. عمل موظفًا حكوميًّا وظل كذلك إلى آخر حياته فتقلّب فى وظائف عديدة وشغل أرفع المناصب الحكومية. فى الثلاثين من عمره (1869) تزوج من برتغالية مثقفة كانت تكبره بخمس سنوات هى كارولينا أوجوستا خافيير دى نوڤايس التى كانت سليلة أسرة نبيلة من البارونات، بعد مقاومة من بعض أهلها، لأسباب واضحة، وتأييد من أمها، وكانت حياتهما الزوجية سعادة متصلة على مدى 35 سنة (ولم يرزقا بأولاد) إلى أن توفيت فى 1904 فكان "كأنه هو الذى مات" قبل أن يلحق بها فى 1908 مصابًا بسرطان فى الفم بعد أن عاش حياة كافح فيها الفقر والأصل الخلاسى ثم نوبات الصرع والخوف الدائم من الجنون، هذا الجنون الذى حوّل عددًا من رواياته إلى "معرض للجنون" (كونكاس بوربا، طبيب الأمراض العقلية، إلخ.).
ابتعد ماشادو بنفسه عن الصراعات السياسية. ورغم أنه كان خلاسيًّا، لم يشارك فى الحملة المناهضة للرقّ، وإنْ كان قد احتفل بإلغاء الرق (1888)، ولم يحفل بالتطورات السياسية التى انتهت إلى سقوط الإمپراطورية (1889)، غير أن ماشادو ركز جهده فى خدمة اللغة كأساس للوحدة الثقافية لبلاده التى منحها آثارًا أدبية خالدة وفى إنشاء الأكاديمية البرازيلية للآداب التى أصبح رئيسًا لها كما أصبح العميد المعترف به لأدباء البرازيل.
أحبّ ماشادو أعمال سويفت، ستيرن، مارك توين، وقبل كل شيء تريسترام شاندى (رواية ستيرن)، وكان يمقت الطبيعيِّين و إميل زولا النجم الصاعد فى سماء الأدب آنذاك.
تقع أعمال ماشادو ده أسيس فى 31 مجلدًا غير أن شهرته تقوم على رواياته الثلاث: مذكرات براس كوباس بعد وفاته (1880)، كونكاس بوربا (1891)، دون كازمورّو (1900). وبهذه الروايات وبأعمال نثرية وشعرية أخرى حقق ماشادو مكانته المرموقة فى الأدب البرازيلى والعالمى، ويصفه خوسيه لويس مارتنيث، الناقد المكسيكى، بأنه "الشخصية البارزة للآداب البرازيلية" ويعده "واحدًا من كبار القصاصين العالميِّين"، ويقول عنه دَدْلى فيتس: "كان ماشادو ده أسيس قوة أدبية تتجاوز القومية واللغة، تضارع دون شك فلوبير، أو هاردى، أو چيمس"، ويصفه د. شاكر مصطفى بأنه: "رأس الكلاسيكيِّين الخالدين فى أدب البرازيل" ويضيف: "وكما يرتبط اسم "غوته" فى أذهاننا بالقمم التى تسنّمها الأدب الألمانى على جبل الأولمپ، وكما يثير فى أذهاننا اسم "شكسبير" روائع الأدب الإنجليزى، يرتبط الأدب البرازيلى، فى تاريخ انبثاقه وقوته، باسم ده أسيس"، ويقول عنه روچيه باستيد فى مقدمته لرواية كينكاس بوربا: "ليس فى الأدب البرازيلى، بين الاتجاه الباروكى فى القرن السابع عشر والاتجاه الحديث فى القرن العشرين، فترة كلاسيكية كما فى معظم الآداب الأوروپية. غير أن هناك كاتبًا كلاسيكيًا شاءت المعجزة أن يكون واحدًا لا ثانى له" ويضيف مشيرًا إلى تعريف ﻟ أندريه چيد للكلاسيكية: "ما من كاتب يمكن أن يُعَدّ كلاسيكيًا أكثر من ماشادو ده أسيس"، ويقول عنه وليم ﻟ. جروسمان أحد مترجميه إلى الإنجليزية: "ربما كان الكاتب المتحرر من الأوهام بصورة كاملة فى الأدب الغربى"، ويؤكّد والْدو فرانك فى مقدمته للترجمة الإنجليزية لرواية دون كازمورّو، رائعة ماشادو ده أسيس، أنه كان رائدًا للعالم الروائى الذى ألفناه عند مارسيل بروست و فرانتس كافكا: "الإبهام كجوهر للحياة الإنسانية".
هذه الرواية القصيرة التى رأينا أن ننشرها الآن بالاسم الأصلى: "طبيب الأمراض العقلية"، بعد أن سبق أن نشرناها باسم "السراية الخضراء"، نُشرت بالپرتغالية لأول مرة ضمن مجموعة قصصية فى 1882. وفى هذه الرواية (هذه الأنتى-يوتوپيا أو الديستوپيا) القصيرة نلتقى بالجريمة النظرية كأساس لرواية وبالتالى لرؤية للحياة، ليس كما يطبقها شاب صغير لا حول له ولا قوة يريد أن ينقذ بجريمة واحدة وحيدة هى قتل مرابية عجوز ("إذا جاز أن تُسمَّى جريمة!") حياة إنسان عظيم فى تقديره لنفسه لا ينقصه سوى أن يتخطى عقبة بؤسه الراهن بثروة يحصل عليها فى الحال (راسكولنيوكوڤ)، بل كما يطبقها سيمون باكامارته، طبيب الأمراض العقلية الرهيب، المؤيَّد من كل سلطة قائمة، ليمارس على البشر، كل البشر الواقعين داخل نطاق سلطاته، نظريته الأولى ثم نظريته الثانية المناقضة تمامًا للأولى عن الجنون، بكل إخلاص العالم لفكرته وباستبعاد أو سحق كلّ دور لهؤلاء البشر فى تقرير حياتهم ومصيرهم، والنتيجة: شقاء البشر فى ظلّ استبداد من نوع أو آخر. وطوال القرن العشرين، سيخرج سيمون باكامارته الرهيب، الذى أبدعه ماشادو فى 1882، من سجن الرواية القصيرة إلى العالم الحقيقى، عالم البشر، ومن بلدة "إتاجواى" الصغيرة فى البرازيل إلى مساحات شاسعة فوق الكرة الأرضية ليحقق نظرية هنا من وراء قناع، ونظرية أخرى هناك من وراء قناع آخر، ونظريات عديدة فى مكان واحد مع تغيير الأقنعة، لتصل مأساة الجريمة النظرية، التى ربما كانت إطارًا عامًا لحياة الإنسان منذ فجر التاريخ (البشر بوصفهم موضوعًا للتاريخ وأيضًا: فئرانًا لتجاربه الجماعية)، إلى أبعاد ومستويات لم تخطر من قبل على بال بشر.
المصادر:
* مقدمة والْدو فرانك للترجمة الإنجليزية لرواية دون كازمورّو، نيويورك، 1953.
* مجموعة قصص قصيرة (بالإنجليزية) من أمريكا اللاتينية بعنوان "عين القلب" نيويورك، 1974.
* مقدمة روچيه باستيد لرواية كونكاس بوربا، ترجمة سامى الدروبى، دار دمشق للطباعة والنشر، 1963 (العدد 6 من سلسلة روائع الأدب الغربى).
* أدب البرازيل للدكتور شاكر مصطفى؛ سلسلة عالم المعرفة الكويتية "101 (1986)".
* أدب أمريكا اللاتينية؛ جزءان، ترجمة أحمد حسان عبد الواحد؛ سلسلة عالم المعرفة الكويتية "116 (1987)، 122 (1988)".
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
23
دون كازمورو
دون كازمورو Dom Casmurro، 1900،
رواية: ماشادو ده أسيس Machado de Assis،
الطبعة الأولى: دار الياس للطباعة والنشر، القاهرة، 1991،
الطبعة الثانية، آفاق عالمية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2012
(تذييل)
بعد بداية أحداث الرواية بقرابة أربعين سنة يعود بطل وبالأحرى لابطل الرواية إلى تلك الأحداث ليحكى، نافخا الحياة فى "الأيام الخوالى"، قصة تحوُّله من الصبىّ العاشق: بنتو، إلى الكهل المعتزل، المنسحب المنزوى: دون كازمورو. هى رواية تراچيكوميدية.. التراچيدى هو هذا التحول ذاته، هذا الموت فى الحياة، هذا الموت المعنوى الذى هو فجيعة أكبر من الموت البيولوچى الذى هو رحمة وخلاص فى عين عاشق للحياة تحالف ضده الحب فى شخص محبوبته والصداقة فى شخص أعز أصدقائه. وهنا ينبغى أن نقرر أن دون كازمورو ربما كان ضحية أوهام. ويختلف النقاد بحدة حول هذه النقطة. وعلى كل حال فإن تصوراته، وهما كانت أم حقيقة، هى التى حركت الأحداث المأساوية ودمرت الأسرة جميعا: المحبّ والمحبوبة والابن. وكان قد انتصر من قبل على تحالف أكثر رسوخا، بين سلطة الأسرة وسلطة أيديولوچيا الدين، أراد أن يفرض على الصبىّ العاشق طريقا فى الحياة كما يفهمها عاشق بسيط للحياة لا دور له فيها أبعد من أن يعيشها كما أحبها. لكن التحالف الجديد ضده، الهش هشاشة أبطاله، لكنْ القوىّ كقدر إغريقىّ، لأنه تحالف بين حليفيْه السابقيْن ضد التحالف القديم. ولأنه تحالف "قدرىّ" بين حبيبيْه لكونهما حبيبيْه، كان أقوى منه وكان لا بد له أن ينتصر، أن يحوِّل بنتو إلى كازمورو أو دون كازمورو، وعاشق الحياة إلى الحىّ الميت رغم أن المنتصريْن السابقيْن سبقاه إلى العالم الآخر... فأنت تقرأ ملهاة تستدرجك شيئا فشيئا إلى أن تجد نفسك فى قلب المأساة. وعندما تصل إلى هناك لا تكتفى الملهاة بحقيقة أن خديعتها انطلت عليك وأدت دورها بل تظل معك طوال الرحلة، وربما حتى النهاية. ورغم أن المأساة ستبقى فى صميم قلبك، ستضحك من كل قلبك. ولكن هناك أيضا التجديد والإحياء والاستباق... فهذه الرواية الصادرة فى 1900 أىْ منذ قرابة نصف قرن نقرأها الآن فتصدمنا بحداثتها، بعصريتها، كشكل لرواية... هى رواية ذكرى استباقا ﻟ پروست الذى ظهرت روايته الضخمة: البحث عن الزمن الضائع، بين 1913 و 1927... وهى رواية ساخرة، مقسَّمة إلى فصول قصيرة للغاية، ومن خلال حديث متصل مع القارئ. ومن هنا يقارنها نقادٌ مع رواية: حياة وآراء تريسترام شاندى (1759-1767) للكتب الإنجليزى لورنس ستيرن (1713-1768) فهى إحياء ولكنْ تجديد لشكل روائى من القرن الثامن عشر... وأخيرا: هل لهذا التغريب الماثل فى صميم الشكل الروائى والمتعدد الوسائل والأساليب و(الحِيَل) علاقة بالتغريب أو التبعيد البريشتى فى زمن لاحق؟... ويرى والدو فرانك (فى مقدمة الطبعة الإنجليزية لرواية دون كازمورو) أن كلًّا من پروست و ماشادو غنَّى ترنيمة لإبهام الحياة: الأول فى رواية ضخمة والآخر فى أخرى قصيرة. ولهذا السبب بالذات يتوقع أن يقرأ الناس دون كازمورو زمنا أطول... وهو يشبِّه هذا بتفوُّق إيجاز حوليات وتاريخ تاكيتوس (55-120م) على إسهاب مذكرات الدوق سان سيمون (وهى مذكرات عظيمة وضخمة تُغطِّى فترة 1694-1723 فى فرنسا لكنها لن تجد اليوم مَنْ يقرأ حتى مقتطفات منها كما يقول). فهل لنا أن نأمل أن تحتل شخصية أدبية تحمل اسم دون كازمورو المكان الذى يليق بها فى لغتنا إلى جانب شخصيات أدبية لامعة تحمل نفس اللقب: دون خوان (= دون چوان)، دون كيخوتة (= دون كيشوت)!
 
 
 
 
 
 
 
 
 
24
ماشادو ده أسيس
والقصة القصيرة البرازيلية
 
 (مقدمة حكاية سكندرية وقصص أخرى)
قصص مختارة من ماشادو ده أسيس Machado de Assis
 فى الفترة من 1882 إلى 1905
المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2009
(بقلم: چاك شميت و لورى إيتشيماتسو  Jack Schmitt  and Lorie Ichimatso)
 
تبدأ القصة القصيرة البرازيلية الحديثة بالأعمال الناضجة لچواكين ماريا ماشادو ده أسيس (1839-1908)، المحتفى به بالإجماع تقريبا على أنه أعظم كاتب فى البرازيل. وبين 1858 و 1906، كتب ماشادو أكثر من مائتى قصة، وما من كاتب آخر فى البرازيل وصل إلى مستوى تمكنه التكنيكى الفائق فى شكل القصة قبل ثلاثينات القرن العشرين.
وإلى سنوات قريبة، لم تكن شهرة ماشادو فى الخارج على مستوى جودة قصصه ورواياته الرائعة أو مكانته العالية فى الآداب الغربية. واعتبر الناقد البرازيلى أنطونيو كانديدو أن من المفارقات أن يبقى كاتب ذو قامة عالمية، يتسم أسلوبه وموضوعاته بالسمات المميزة للقرن العشرين، مجهولا نسبيا خارج البرازيل. ويرتبط عدم شهرة أعمال ماشادو فى الولايات المتحدة ارتباطا وثيقا بواقع أن اللغة البرتغالية لم تكن معروفة على نطاق واسع فى هذه البلاد، ولم تتوفر ترجمات لرواياته وقصصه إلى اللغة الإنجليزية إلا فى السنوات الأخيرة، بصفة خاصة بفضل الترجمات الممتازة لهيلين كالدويل وويليام ل. جروسمان.
              
ويمكن تقسيم قصص ماشادو على وجه التقريب إلى فترتين: تلك الأعمال المكتوبة قبل سنة 1880 وتلك المكتوبة بعدها. وماشادو السابق لتلك السنة رومانسى بصفة أساسية، فى حين أن أعماله اللاحقة مكتوبة بروح الواقعية السيكولوچية. ويؤيد الكاتب البرازيلى آوجوستو ميير هذا التقسيم، مشبها الانقطاع فى الاستمرار التطورى عند ماشادو بذلك الانقطاع بين أعمال هيرمان ميلڤيل المبكرة وموبى ديك. ولاشك فى أن تشبيه ميير سليم. ذلك أنه لايكاد يكون هناك فى روايات وقصص ماشادو المبكرة مايهيئ القارئ للتغيرات المفاجئة فى المحتوى والتكنيك الموجودين فى روايته العظيمة الأولى: مذكرات براس كوباس يكتبها بعد وفاته، 1880، و: أوراق متفرقة، أول مجلداته الخمسة التى تظهر فيها غالبية أفضل قصصه. والحقيقة أن الجودة العالية برسوخ للسرود القصصية الثلاثة والستين فى هذه المجلدات الخمسة تتحدى المقارنة مع أعمال كتاب القصة القصيرة البرازيليين الآخرين، السابقين أو الحاليين.
               وتشكل قصص ماشادو لوحة ساخرة رائعة لقيم الطبقة الوسطى والهياكل الاجتماعية فى البرازيل خلال عهد الإمبراطورية الثانية (1840-1890) والسنوات الأولى من الجمهورية. ولو استمر ماشادو فى نشر قصص الحب الأخلاقية الرقيقة ومكائد غرف الجلوس فى ستينات وسبعينات القرن التاسع عشر لتمثل التراث الذى يتركه للأجيال المقبلة فى لوحة تهكمية باعتدال ولكن ممتعة ومسلية للعهد الجميل فى صورة مصغرة فى بيئة برازيلية. غير أنه، فى أواخر السبعينات، يبدأ قصصه فى إظهارهجوم ساخر عميق النفاذ بصورة مدمرة على ذلك المجتمع بصفة خاصة وعلى البشرية بصفة عامة. وفى لحظة تخفيف من وطأة الحقيقة، قالت هيلين كالدويل إن ”المرء لايجد فى كتاباته قدرا كبيرا من الرضا المزهو بالقرن والبلد اللذين عاش فيهما“(1).
       وهناك فيض من النقد الاجتماعى الضمنى فى وصف ماشادو لأساليب الحياة والهياكل الأسرية لشخصيات الطبقة الوسطى فى قصصه. ونحاط دوما علما بأن أسباب الراحة المادية التى تتمتع بها شخصياته إما أنها ثمار نظام طبقى مغلق تجرى مراعاته بدقة وعناية أو أنها متحققة على حساب الآخرين: الصداقات والزيجات قائمة على المصلحة الشخصية، أو المركز المالى، أو الطبقة الاجتماعية؛ المناصب الحكومية والوظائف الحكومية الشكلية (ذات الرواتب بلا عمل تقريبا) يجرى ترتيبها من خلال روابط وثيقة ضمن الأسر الممتدة لأولئك المجبرين بالفعل على أن يعملوا من أجل كسب قوتهم؛ شخصيات الطبقة المتوسطة العليا تأتى بفراغها من خلال المواريث، أو الإيجارات، أو المخصصات، من الأملاك والعقارات الأسرية؛ خدم البيوت والأقارب المفقرون يقضون حياتهم كطفيليات أو كتابعين. ويغدو احتدام الغرائز السادية وتجنب العمل اليدوى نتيجتين ممكنتين للقوة المفسدة للعبودية. وتبدو شخصيات كثيرة لماشادو ذات موهبة فى تحاشى العمل النافع؛ إنها شخصيات كسولة، وضجرة، وسلبية، ولامبالية، وقليلة الحيلة، إلى حد أنها كثيرا ما تغدو مشلولة عندما تجد نفسها فى مواجهة صدمات الصراع الحقيقى. وتكون النساء فى قصصه عادة اجتماعيات أكثر منهن بيتيات؛ إنهن مزهوات، ومجردات من الغرائز الأمومية، وعقيمات جسمانيا، أو فكريا، أو عاطفيا.
               ويمكن أن نرى فى نقد ماشادو للمجتمع أنه يفضل أن يتناول بإسهاب الجوانب السلبية للسلوك البشرى: الغرور، والادعاء، والضحالة، والحسد والغيرة القارصين، والجبن، واللامبالاة الفكرية. أما الصفات المرغوب فيها أكثر، مثل التجرد والإيثار، فإنما تدفع إليها فى العادة تلك المرغوب فيها أقل.
               ومفعما بالشك فى أن نجاحات العلم فى القرن التاسع عشر يمكن أن تتكرر فى مجال قيم وسلوك البشر، يشك ماشادو أيضا فى أن المستقبل يدخر لنا أشياء أفضل من الماضى. وهو شديد القسوة فى نقده الساخر للمثقفين والعلماء الذين يقدمون بكل عقائدية أدوية محددة لكافة أدواء ونقائص البشرية.
               ونقد ماشادو للتقاليد الأدبية فى البرازيل قاطع أيضا. وفى مقالاته الأدبية المبكرة واسكتشاته الصحفية، يقدم نقدا بناءا، مجادلا بصورة مقنعة ضد الأهمية الزائدة التى يوليها الكتاب البرازيليون للطبيعة، والهنود [الحمر أو الأمريكيين]، والمغالاة المميزة للنزعة الإقليمية فى تصوير المشاهد البديعة والطرائف النادرة. وبعد منتصف السبعينات، يبدأ فى صب نقده للتقاليد الأدبية فى صميم نسيج قصصه، محقرا التوقعات القصصية التقليدية لقرائه، وساخرا من المعايير الأدبية الرومانسية، ومهاجما البلاغة الفارغة، والإطناب، والابتذال، من خلال اللغة المسطحة العديمة الخيال لشخصياته.
               ورغم أن أغلب نواحى الضعف البشرى التى يسخر منها ماشادو ليست مقتصرة على الزمان والمكان– وهى بالتالى عامة– فقد استاء كثير من البرازيليين من تعليقاته التهكمية اللاذعة، متهمين إياه بأنه رسم للمجتمع البرازيلى صورة متشائمة أكثر مما ينبغى، منكرين عليه حتى حق المواطنة الأدبية فى البرازيل.
               والحقيقة أن ماشادو يوحى بتعاطفه مع كثير من شخصياته، غير أنه تعاطف تهكمى. إنه ليس لا مباليا إزاء صراعات البشر، غير أنه يستخدم بالفعل الفكاهة والتهكم من أجل التشديد على عبث ولاجدوى تلك الصراعات عندما يجرى القيام بها على خلفية عالم ساكن. ذلك أن مثل هذا المشهد يخلق إحساسا بالعجز ولايمكن إلا أن يلهم بتسلية حزينة. والمجادلات والانقلابات المفعمة بالتهكم فى قصصه مقنعة عقليا ومسئولة تأمليا؛ وتدحض الأخلاقية الجمالية الصلبة التى تتجلى فى قصصه أولئك الذين ينظرون إلى شكه وتشاؤمه على أنهما عدميان أو عقيمان. فليس من المدمر تأكيد وجود الشر، أو الطابع الخادع للحقيقة والواقع، أو الأراضى السبخة التى يبنى عليها الناس أساسات قصورهم التأملية.
               وقد ألمح كثير من أفضل نقاد ماشادو إلى أن أعمق معانيه ماثلة فى تكنيكه. وزعم آوجوستو ميير أن تحليل الموضوعات نهج لاجدوى منه مع ماشادو وانتهى إلى أن الإبهام هو الموضوع المسيطر فى أعماله. وفى وقت مبكر، عام 1922، رأى الناقد الأمريكى إسحق جولدبيرج ”أننا لايجب أن نبحث بتلهف وتدقيق أكثر مما ينبغى عن الحدث فى قصص [ماشادو]“؛ إنه ”نسيج وحده، قانون أدبى قائم بذاته“، و”منهجه هو الأكثر ترويا فى عدم المباشرة“(2). وبعد ذلك بسنوات، فى 1948، اعترف صمويل پوتنام بالجاذبية والحداثة الشاملتين لماشادو وحدد قائمة أولويات للقراء والمترجمين المحتملين. كما عقد پوتنام بعض المقارنات الصحيحة بين ماشادو وهنرى جيمس: كلاهما ”يتناولان الأفكار“، وهما ”مهتمان بالتحليل السيكولوجى، بالحدث المبهم الذى يجرى خلف الوعى المحجوب للبشر“؛ وهما متشابهان فى ”الغياب النسبى للحبكة فى صفحاتهما“، كما نفهم هذه اللفظة عادة(3). ومنذ وقت قريب، طرحت كالدويل مشكلة الإبهام فى أعمال ماشادو عندما قالت إن تركه إصدار الحكم للقارئ ”ماثل فى صميم المنهج الفنى لماشادو“(4).
               ونتيجة لنفوره من سطحية تفسير معاصريه للواقع البرازيلى، يحاول ماشادو أن يقدّم تصورا أقل مثالية وأكثر تعقيدا للسلوك البشرى. ذلك أنه يجرّد شخصياته من سلوكها السطحى الخادع ويسبر أغوارها فيما وراء حياة الامتثال العام التى تعيشها. وبجعل هدفه الحقيقة السيكولوچية وتركيزه على اللحظات الحاسمة للتجربة فى حياة شخصياته، يقترب ماشادو من منهج أنصار الفن الحديث. إن إبهامه يُعَدّ جزئيا نتيجة لنظرته الذاتية النسبية إلى العالم، التى لايمكن فى إطارها إلا مقاربة الحقيقة والواقع، اللذين لايكونان مطلقلين أبدا؛ لاعلاقات لأىّ شخصية تظل مستقرة، ولا مسائل تكون قاطعة التحدد، وتغدو طبيعة كل شيء غامضة.
وباستكشاف التأملات الذاتية لشخصياته وكذلك أوهامها، لايترك لنا ماشادو أىّ معيار عقلانى يمكننا به تكوين حكمنا بشأن تدفق الزمن، وهو يمتد ويتقلص على هوى الوعى الفردى لشخصياته. ونحن نحاول أن نضفى معنى على تجربتنا، غير أن إحساسنا بالزمن يكون مرتبطا دوما بإدراكنا للزمن فى أية لحظة بالذات. وبكلمات أ. أ. مينديلو فإن الانفتاح والامتداد يتلقيان مزيدا من العون من واقع أن ” المشاعر والتداعيات لا تنتهى؛ إذ لا يجرى الإحساس بها مرة واحدة ثم يتم التخلى عنها، إنها ليست قابلة للترتيب فى أشكال“(5)، وهذه ”المشاعر والتداعيات“ كثيرا ماتكون العناصر الأكثر واقعية فى أفضل قصص ماشادو.
               ويبدى باريتو فيليو ملاحظة حادة عندما يلاحظ أنه فى سرود ماشادو ”هناك حكم نهائى بالعجز، وهذا هو السبب وراء واقع أن استدعاء الماضى تهكمى“(6). وهذا الاستدعاء للماضى تهكمى عند ماشادو لأنه رغم ميلنا إلى أن نطمح إلى الأبدية، وأن نمارس خداع النفس، وأن نلعب ألعابا ذهنية مع الزمن لنجعله يخدم أوهامنا السريعة الزوال، إلا أن الزمن فى الحقيقة صليب علينا أن نحمله؛ إنه يمضى بعناد وقسوة، مدمرا كل شيء بعده، ماعدا الفن وأعمال الفكر. ويظل تجريب ماشادو مع عنصر الزمن مظهرا آخر لقصته التى تعطى قراءه انطباعا جليا بالحداثة.
               وبتوصيل معانيه عبر استخدام الإيحاء والتضمين، طوّر ماشادو أسلوبا مختصرا سمح له بأن ينقل بالتدريج معلومات أكثر فى مساحات أصغر. ويؤكد شون أوفولين أن الكاتب الحديث يرمى إلى ”البوح العام عن طريق الإيحاء“ و”جَعْل جزء ضئيل جدا يخدم الكل“(7). وماشادو، مثل كاتب القصة الحديثة، ”لم يستغن عن الحدث أو الحكاية أو الحبكة وكل مايلازمها جميعا، غير أنه غيّر طبيعتها. وما تزال هناك مغامرة، غير أنها تشويق عاطفى أو فكرى أكثر منها تشويقا عصبيا“(8).
               وفى تمكنه التكنيكى الفائق من القصة القصيرة، كان ماشادو متقدما عقودا على معاصريه ومايزال يمكن اعتباره أكثر حداثة من معظم الحداثيين أنفسهم. وهو أيضا نقطة تحول إلزامية لكل شخص مهتم بتطور الأدب البرازيلى الحديث. وواقع أن أعماله تثير ردود فعل ووجهات نظر واسعة ومتبانية إنما هو رمز لتقدير ثراء تلك الأعمال وتعقيدها وأهميتها.
إشارات
1: Helen Caldwell, The Brazilian Othello  of  Machado de Assis [Berkeley & Los Angeles: University of California Press, 1960]
2: Isaac Goldberg, Brazilian Literature [New york: Alfred A.knopf, 1922].
3: Samuel Putnam, Marvelous Journey [New york: Farrar, Straus & Giroux, 1971].
4: Caldwell, The Brazilian Othello.
5: A . A . Mendilow, Time and the Novel  [Devnter: Isel Press, 1952].
6: Barreto Filho, Introduçâo a Machado de Assis [ Rio: Livraria Agir Editôra , 1947].
7: Sean O’Faolain, The Short Story [New york: Devin– Adair, 1964].
8: Ibid.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
25
أساطير البحر
 
Légendes de la mer،
برنار كلاڤيل Bernard Clavel ، 2006،
المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2007 (أساطير للناشئة)
(مقدمة برنار كلاڤيل)
    
     عندما قررت افتتاح هذه السلسة من الحكايات والأساطير بمجموعة مخصصة للأنهار والبحيرات فإنه لا شك فى أننى كنت بحاجة، فى سبيل أن ألمس شاطئ العجائب الخارقة، إلى أن أتمسك بحقائق طفولتى. ومنطقة جبال چورا Le Jura هى بلاد السيول، والمستنقعات، والبحيرات، وقد أشبعت، بالبدء من هناك، الحاجة التى بقيت بداخلى بأن أتعلق كليا بما يشكل أساس ثقافتى. 
     ولكن يبقى أننى، على هذه الأرض التى تقع بعيدا جدا عن البحار، عرفت أيضا الحلم وأنه فى هذا الحلم كان للبحر مكانه. وفى تلك الاوقات حيث لم تكن الذاكرة المنتعشة قد تقدمت بعد نحو القطع الأدبية والكتابة، كنت أقضى ساعات طويلة فى تخيل المحيطات التى لم يرها أحد مطلقا. وبعيدا عن البحر، خلال أعوام، حلمت بأمواج، بمدّ البحر وجزره، وبأشرعة، وبرحلات بحرية إلى جُزُر شبيهة برحلة الجمعة الحزينة. وكانت شجرة بلوط عجوز مقطوعة الفروع، فى أسفلها مياه سوداء آسنة فى حوض كبير فى غابة، هى بالتناوب غواصتى وسفينتى ذات الصوارى الثلاثة. ومن السطح الأعلى لسفينتى كنت أشرف على الحديقة التى كانت الرياح فيها تدفع أمواج أوراق الشجر. وفيما كان يتقاذفه هذا الخليط المشوش من الأمواج الصاخبة، ويستحوذ عليه مدّ الفاصوليا المدفوعة بالمجداف، كان أبى - دافعا عربته الصغيرة - صياد سمك آيسلندى يقاوم عناصر الطبيعة الجامحة على ظهر مركب مثير للسخرية.
     بعد ذلك بكثير، عندما اكتشفت البحر، قطع أنفاسى. كان أسطع وأضخم أيضا من عالم الأحلام، حتى إذا كان لا يعرض على الأنظار كل عناصر الدرما. واليوم كلما لقيته جذبنى وأخافنى. ومع أنه مُغو للغاية فإنه لا يظل أقل خطرا فى نظرى، وإذا لم تكن الأساطير قد دفعتنى إلى هناك وهى تطمئننى على دعمها فإننى لم أكن لأجرؤ مطلقا بالطبع على أن أخصص له سطرا.
     غير أن أسرار المحيطات تتحول عندما يكون أبطال الأساطير هم الذين يأخذونك من يدك لخدمتك كدليل.
     وبالتالى فإننى عندما أقترب مرة أخرى من الأطفال فإنما مع طفولتى نفسها أرتبط من جديد. لقد دفعنى عطشى للحلم ورغبتى فى الهرب نحو عرض البحر حيث ينفتح عالم خفىّ من القاع العميق. وتهب رياح المغامرة فى اتجاه الشواطئ من أجل أولئك الذين يقيمون فى البر، وأحلام اليقظة المبتهجة، مثل باخرة، هى الزورق الصغير الذى نركبه.
     وربما، عندما نكتشف عالم المياه هذا، يكون من الجدير بنا أن نتذكر أنه الوسط الأكثر اكتظاظا بالحياة ولكن أيضا تعرضا للأخطار. فالعلماء هم الذين يصيرون المستكشفين الحقيقيين، وأولئك الذين التقيت بهم فى مرصد البحر فى جزيرة أنبييه l Observatoire de la Mer l île des Embiez  تحدثوا معى فى كثير من الأحيان وكأنهم شعراء. إنهم أيضا يريدون أن يروا الشباب يقتربون من أسرار المحيط وأن يعملوا فى سبيل أن يظل هذا العالم مليئا بالحياة.
     والحقائق الكائنة تحت الماء، التى جرى منذ وقت طويل تخيلها قبل أن يتم اكتشافها، سوف تخبئ جانبا من السرّ بقدر ما يبقى البحر حيا. وينبغى أن نأمل أنه سيبقى حيا دائما لأسباب تتعلق بالتوازن البيولوچى، ولكن أيضا لأن هذا الواقع هو خبز أحلامنا.
     أضف إلى هذا أن الحلم يلد الحدث أو يحدد الفعل، وعندما يغوص علماء الأحياء ويعملون لإنقاذ نوع أحيائى فهذا لأنهم يحملون بداخلهم حب الحياة والإيمان الذى كان يحرك الجن الذين كانوا حماة الأسماك، والدرافيل، وعجول البحر، أبطال أساطيرنا.
 
 
 
26
أساطير البحيرات والأنهار
 
Légendes des lacs et rivières،
برنار كلاڤيل Bernard Clavel، 2006،
المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2008 (أساطير للناشئة)
 (مقدمة برنار كلاڤيل)
ربما اعتبر بعض القراء أن من غير المجدى مطلقا نشر رواية جديدة لأساطير رُوِىَ بعضها من قبل مرات عديدة. وأنا أعتقد، من ناحيتى، أن الطابع الفريد للأساطير يتمثل فى أنها تُرْوَى باستمرار على مر الزمن. وقبل أن تدخل فى الكتب، تطورت هذه الحكايات عبر القرون، من جيل إلى جيل، ورُوِيَتْ وأعيد تشكيلها على ضوء نيران الحطب على أيدى أولئك الذين كانوا يسمونهم رُواة السهرات. وبالتدريج قامت الطباعة ثم الوسائل السمعية البصرية بإسكات هؤلاء الرواة، غير أن روحهم بقى وهذا ما يجدر بنا الاستمرار به.
وعندما يعكف المرء على هذا الكنز الخرافى الذى ينتمى إلى العالم كله، فإنه يكتشف أن نفس الأسطورة الواحدة رحلت فى كثير من الأحيان من قارة إلى الأخرى؛ وأنها تحولت؛ وأنها غيرت من أسلوبها ومن طابعها حسب شخصية الراوى ووفقا لمزاجه. ويحررنا هذا الاكتشاف من كل إكراه. لأنه، بالفعل، يوجد مخزون غير قابل للنفاد من التيمات، والحكايات، والشخصيات التى يمكن أن يغترف منها المرء من أجل متعة أن يروى لنفسه قصة. واحتراما للروح، منح الراوى لنفسه دائما حرية أن يسلك طريقا تسير فيه حكايته، متغيرة ومجددة شبابها - وإنْ جاز لى القول - عند كل منعطف.
وأنا أعتبر بالتالى أن المرء يمكن أن يؤلف مجموعة شخصية يروى فيها أساطير. ومن أجل عمل هذا، أعرف أيضا أن المرء يمكن، حتى دون قارئ آخر سوى ورقة بيضاء، أن يجد فى هذا الكثير من المتعة.
وإذا كنت قد وضعت "الأفعى المجنحة" على رأس هذا الجزء الأول، فليس هذا فقط لأسباب عاطفية مرتبطة بذكرى أمى وبمسقط رأسى. كما أن هذا ليس فقط لأننى شديد الإعجاب ﺒ مارسيل إيميه Marcel Aymé. إنه لكل هذا، ولكنه بصورة خاصة لأن "الأفعى المجنحة" تبدو لى النموذج الأكمل للأسطورة التى اضطلع بتناولها كاتب عظيم، بكل حرية، ليصنع منها إحدى الروائع.
والواقع أن عبقرية مارسيل إيميه، ومزاجه، ومعرفته الواسعة بعالم الفلاحين سمحت له بإحياء الأفعى المجنحة، كشخصية أسطورية متجددة الشباب، بين بشر زماننا. فمن وحش، صنع فتاة ذات جمال غريب تجوب جبال "الچورا" حاملة فوق شعرها تاجا مزينا بياقوتة. وبالتأكيد فإن من الصعب تماما، بعده، تناول هذه الشخصية من جديد! ولا شك فى أن الصورة التى منحنا عنها هى التى تنتهى إلى فرض نفسها، وسوف تجعلنا الشابة الجميلة ننسى الوحش. ومع هذا بدا لى أن من المثير أن نستعيد الأفعى المجنحة كما كانت قبله، أىْ كما كانت ترويها لى أمى التى لم تقرأ، بالطبع، كتابه.
غير أن من الجلى أننى، مستعيدا بذاكرتى أحاديث أمى، قد قمت بالتأكيد بتعديلها، كما كانت هى نفسها قد قامت بتعديلها عن أمها، وأمها من قبلها. ذلك أننا لا نعيش نفس الزمن، وليس لنا نفس المزاج.
وقد امتنعت هنا عن عمد عن معالجة الأساطير الميثولوچية الكبرى. ذلك أنها تماثيل لم يعد من المسموح لنا أن نقوم بإعادة نحتها. وقد فضلت أن أنزوى لحظة فى صحبة أبطال أقل شهرة بكثير. ومعهم، أحس بأننى على راحتى. فَهُمْ يتحدثون بلغة ميسورة للجميع، وأعرف جيدا أنهم لن يلومونى على قيامى أحيانا بإدخال قليل من الجدة إلى وجودهم الطويل الذى قام بالفعل رواة، قبلى، بتشكيله.
ويستطيع القراء وحدهم أن يقولوا ما إذا كان الخبز جيدا، غير أن ما أريد تأكيده هو أن العجينة ذات ثراء لا نهاية له، وأن الخميرة ما يزال لها مفعولها، وأننى بتشكيلها على هذا النحو، بكل حرية، استعدْتُ عطر طفولتى ولون الحكايات التى خلقت أجمل أحلامى.
وبتأليف هذا الكتاب إنما استعدت إلى حد ما طفولتى الخاصة، سواء بالنسبة لما كان قريبا جدا منى فى المكان أو بالنسبة لما كان يشكل، على مسافة أبعد، جزءًا من عالم الهروب. وسأضيف أننى، فى كل مرة كان لى فيها الخيار بين أساطير عديدة من نفس العائلة الأسطورية، كنت أحتفظ دائما بتلك الأقل شهرة.
والآن، يبقى لى أن آمل أن يجد القراء الشباب متعة فى متابعة مغامرات أبطالنا بقدر المتعة التى أحسست بها فى اكتشافهم وإعادة خلقهم من أجل هؤلاء القراء.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
27
أساطير الجبال والغابات
 
Légendes des Montagnes et Forêts، 2006،
 برنار كلاڤيل، Bernard Clavel،
المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2007 (أساطير للناشئة)
(مقدمة: برنار كلاڤيل)
بعد البحيرات والأنهار، بعد المحيطات، والجزر والقيعان العميقة، ها هو عالم الجبال والغابات. عالم مليئ بالعجائب، بدوره، حيث نلتقى بوحوش، وعمالقة، وسحرة، ولكن أيضا برجال ونساء وأطفال لهم، فى كثير من الأحيان، نفس مزايا ونفس نقائص البشر اليوم.
وعلى هذا النحو فإن هذه القصص المتجددة الشباب تبدو لنا أحيانا بمثابة مرآة. فهل يعنى هذا أن البشر لم يتغيروا على كوكب الأرض التى تتطور فيها الحياة بسرعة بالغة؟ من المحتمل أنهم لم يتغيروا إلا فى ظاهر الأمر، فى سلوكهم اليومى، فى مآثرهم التى تشوهها الميكنة والأتمتة، ولكن تبقى فى أعمق أعماقهم المشاعر التى لا يغيّرها شيء حقا.
وهذا دون شك هو السبب فى أن هذه الأساطير تمثل أحيانا دروسا ممتازة. وهى دروس لا يبدو عليها أنها كذلك، غير أنها تقول أكثر كثيرا من المحاضرات الطويلة.
ذلك أننا سنلتقى هنا باندفاعات القلب، وبالقوانين الكبرى للعنف والضمير، تماما مثل هذه القوى المبهمة التى يتولد عنها القلق تارة والأمل تارة أخرى.
أجل، فكلما تقدمتُ أكثر فى عالم الأساطير بدا لى أكثر أن معرفتى بالبشر تزداد ثراءً، وهذه على كل حال طريقة ملائمة جدا للتعلم.
 
28
مختارات الميتافيزيقا والفانتازيا
(قصص، مقالات، أشعار، حكاية رمزية)
 
خورخه لويس بورخيس Jorge Luis Borges،
الطبعة الأولى، دار شرقيات، القاهرة، 2000،
الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب (مكتبة الأسرة)، القاهرة، 2008
 (تقديم)
 الكاتب الأرچنتينى العظيم خورخه لويس بورخيس (24 أغسطس 1899- 14 يونيو 1986) كاتب متعدد المواهب. هناك أولًا وقبل كل شيء بورخيس كاتب القصة القصيرة، لكنْ هناك أيضا بورخيس الشاعر، بورخيس الفيلسوف، بورخيس الناقد الأدبى.... إلخ.
ونحن نعرفه، أو بدأنا نعرفه، فى لغتنا العربية، ككاتب قصة قصيرة، ونعلم من كارلوس فوينتس أنه لولا نثر بورخيس، أىْ قصصه بالذات "لَمَا كانت هناك أصلا رواية أمريكية إسپانية" رغم أننا نعلم أيضا أن بورخيس لم يكتب الرواية. ومنذ ظهور "التاريخ العام للعار" فى عام 1935 والتى تضم محاولاته القصصية التجريبية الأولى، وحتى أوائل الخمسينات، أىْ على مدى قرابة عشرين عاما، سادت كتابة القصة القصيرة فى إنتاج بورخيس، ففى هذه الفترة ظهرت أشهر مجموعاته القصصية وهى مجموعة "قصص" (1944)، وكذلك مجموعة "الألف" (1949)، وفى السبعينات يعود بورخيس إلى القصة القصيرة، بعد انقطاع، فيكتب وينشر "تقرير برودى" (1970)، و "كتاب الرمل" (1975).
ونحن نعرف أيضا القليل من شعره المترجم إلى لغتنا، فى بعض الجرائد والمجلات، رغم أننا نعلم أن الشعر كان أول إنتاجه، وأن أول كتاب نشره بورخيس كان ديوان شعر صدر فى 1923. وكان الشعر وسيلته الإبداعية الرئيسية طوال العشرينات لكنه هجره إلى القصة والمقال إلى أن عاد إليه مع العمى المتزايد منذ منتصف الخمسينات، ذلك أن الشعر سهل التبلور فى الرأس وسهل الإملاء بخلاف فنون أدبية أخرى.
أما المقال بتنوع أشكاله وموضوعاته، فقد كان موجودا فى كافة مراحل إنتاج بورخيس. على أن أعظم مقالاته كانت فى مرحلة أعظم قصصه، أىْ فى أواخر الثلاثينات وطوال الأربعينات وأوائل الخمسينات. وكان كتابه الأول من المقالات هو: "استقصاءات" (1925)، أما أهم كتبه من المقالات فهو: "استقصاءات أخرى" (1952).
"بورخيس كاتب عظيم لم يؤلف سوى القليل من المقالات والقصص القصيرة".
هكذا يقدِّم أندريه موروا كاتبنا، بورخيس، إلى قرائه. والحقيقة أن هذا القليل من مقالات بورخيس إنما يقع فى مئات الصفحات. ويقول الناقد البريطانى چون كنج، فى مقال له عن بورخيس، إن هذا الأخير كان يعلن دائما أنه قارئ أكثر منه كاتبا. ويؤكد ذلك أندريه موروا قائلا: "قرأ بورخيس كل شيء، وخاصة ما لم يَعُدْ يقرأه أحد".
هذه القراءة الموسوعية هى التى تغذِّى مقالات بورخيس بموضوعاتها "الموسوعية". على أن أكثر مقالاته مقالات فى النقد الأدبى والفلسفة. وأنت تجده عادة يواصل "استقصاءاته" التى لا تنتهى، سواء أكان موضوع الاستقصاء كولريدچ، أم والت ويتمان، أم ثيربانتيس، أم پول ڤاليرى، أم چون كيتس، أم الآداب الجرمانية فى العصور الوسطى، أم شعر الجاوتشو الأرچنتينى، أم فلسفة بيركلى، أم، أم... إلخ إلخ إلخ.
والحقيقة أن أهمية المقال عند بورخيس بالذات تتجاوز المقال إلى القصة القصيرة ذاتها. أليس بورخيس هو صاحب شكل القصة-المقال، أو هذا النوع الأدبى الجديد الذى هو قصة ومقال فى وقت واحد، على حد تعبير بيوى كاساريس صديق بورخيس؟
وعندما نقرأ قصة "تيلون، أوكبار، أوربيس تيرتيوس" (أسماء لكوكب خيالى)، فنحن نجدها مثالا نموذجيا للقصة الميتافيزيقية الفانتازية من ناحية، ولشكل القصة-المقال من ناحية أخرى. وهذا المقال، بل هذا المقال المكتوب بوصفه مادة فى دائرة معارف، بكل ما يفترضه ذلك من تدقيق وتوثيق، هو السمة المميزة لهذا النهج فى الكتابة عند بورخيس.
ولهذا فنحن لا نبتعد كثيرا عندما ننتقل من مثل هذا المقال الزائف إلى المقال "الحقيقى". على أن هذه المتاهة البورخسية فى أشكال الكتابة تظل تراوغنا. فكما كانت القصة مقالا أو مقالا زائفا يبدو أن المقال بدوره قصة أو خيال أو مغامرة. والمقال حقا بحث لكنه بحث استكشاف وليس بحث الدرس والتدارس والدراسة الذى يكتبه الأكاديميون، وكذلك النقاد الذين يتشبهون بهم.
وإنما يبدو أن هذه السخرية البورخيسية الواحدة الوحيدة تتجلى تحت هذه الأسماء المتباينة. وهكذا بعد أن دحض بورخيس الزمن (من جديد)، استكمالا لدحض فلاسفة سابقين للمكان، وللوجود من أصله، يفاجئنا بورخيس فى النهاية، فى مقال فلسفى بالغ الرصانة، بانقلاب نموذجى من انقلاباته عندما يقول عن الزمن بعد أن دحض الزمن:
"والزمن هو المادة التى أنا مصنوع منها. والزمن نهر يجرفنى، لكنى أنا النهر؛ وهو نمر يفتك بى، لكنى أنا النمر؛ وهو نار تحرقنى؛ لكنى أنا النار. والعالم، لسوء الحظ واقعىّ، وأنا، لسوء الحظ، بورخيس".
وفى هذه المجموعة المختارة من القصص والمقالات والأشعار، يواصل بورخيس استقصاءاته. وهو يلقاك دائما أو غالبا ومعه كتاب أو كتب، نص أو نصوص، من الموسوعات وبقية المراجع فى "تيلون" إلى ترجمة پوپ للإلياذة وغير ذلك فى "الخالد"، إلى مكتبة كاملة هى الكون بكامله فى "مكتبة بابل"، إلى النص الإلهى على جلود النمور فى "كتابة الإله"، إلى مراجع الفلسفة المثالية فى "دحض جديد للزمن"، و "تجليات السلحفاة"، و "كرة پاسكال"، إلى "كيخوته" ثيربانتيس، إلى كتب أسلاف كافكا، إلى رباعيات الخيام، إلى جحيم دانتى، وغيرها وغيرها لغيرهم وغيرهم.
لكنْ حذار. إنه ليس بالمثقف الكتبى أو جامع الشذرات والمقتطفات. إنه يناقش الكون كله ويعايشه ويسافر فيه ويسبر أغواره من خلال استقصاءاته فى هذه الكتب.
ليس بورخيس من عَبَدَة الكتب، فهذه الأخيرة هى، بالأحرى، أدواته ووسائله ليفكر مع الجميع الذين فكروا ويفكرون وسيفكرون (من خلال هذه الكتب) فى الماضى، والحاضر، والمستقبل، والماضى من جديد.
وهذا الاتحاد بين ثلاث قوى جبارة: قوة الميتافيزيقا، وقوة الخيال والفانتازيا، وقوة الكتب والمجلدات والنصوص والمؤلفين فى كل العصور – ماثل دوما عند بورخيس من أقصى تجليات الميتافيزيقيا والفانتازيا فى كتاباته، إلى الكتابات الأكثر ميلا إلى الواقعية. وهذه القوى المتحالفة لا تحبس بورخيس داخل النطاق الكتبى لمثقف يجترّ الثقافة الراقية.
إنها بالأحرى تحرره، لأنه فى الحقيقة لم يكن مقيَّدا. فما قاده إلى كل هذه القراءات والموسوعات والمرايا سوى المتاهات الكبرى "للعائش فى الكون". إنه مهموم دوما بواقع وأساطير العناصر الكبرى فى الحياة، فى حياتنا، الميلاد والموت، الأزل والأبد، النهاية واللانهاية، القدم والحدوث، الحلم واليقظة، الخيال والواقع، الوهم والحقيقة، الليل والنهار، الظلام والنور، النظام والفوضى، والقبح والجمال، وكل ما تحفل به الحياة، وكل ما كان نسيج الأسطورة، وكل ما يضع الإنسان دوما على الحافة.
إنه إذن مسحور مثلنا، بهذا الكون وواقعه الأسطورى أو أسطورته كما تحققت فى الواقع الفعلى، ولكى نستوعب فكر وخيال هذا الكاتب العبقرى البالغ التعقيد علينا أن نُطْلِق من محبسها بداخلنا كل قوى الفكر والخيال المكبوتة والمقموعة، وأن نتركها تتفاعل مع كل هذه الميتافيزيقا البورخيسية بدلا من رفضها على أساس معتقدات أخرى متباينة ترفضها وتحرِّمها، ولن يكون هناك فى النهاية ما يحول دون أن يكون الواحد منا فى موقفه إزاء هذا العبقرى المختلف عنه فكرا وخيالا محاورا متفاعلا مع هذا الأستاذ الجبار. ذلك أن بورخيس يفجِّر (من موقع ما على الحافة) كل تناقضات هذه الميتافيزيقا محوِّلا نظامها إلى فوضى وفوضاها إلى نظام، وكل هذا بفضل صرامة منطقه، وقوة خياله، وعظمة فنه.
وفى سبيل هذا التفاعل الصحى، اخترتُ القليل المواتى من إنتاج الميتافيزيقا والفانتازيا عند بورخيس، بعضه مترجم هنا لأول مرة فى حدود علمى، وبعضه الآخر مترجم مرة ومرات، ولا عجب فى أن تتعدد الترجمات العربية لأعمال بورخيس كما تعددت فى لغات أخرى كثيرة(1).
إشارة
1: هذه المختارات مترجمة عن الإنجليزية - المترجم.
 
 
 
 
 
29
عوالم بورخيس الخيالية
 
آفاق الترجمة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، مقالات مختارة، نخبة، القاهرة، 1999
(تقديم مكتوب فى 2 مايو 1997)
ينظر كتَّاب أمريكا اللاتينية إلى بورخيس، كما سنقرأ فى مواضع عديدة من المقالات والأبحاث التى يضمها هذا الكتاب، على أنه الأديب الأمريكى اللاتينى الذى أحدث ثورة فى النثر الإسپانى وفى الأدب الأمريكى اللاتينى الإسپانى، وعلى أنه عامل أساسى فى تطور الرواية الأمريكية اللاتينية الإسپانية، رغم أنه لم يكتب الرواية. وعلى أنه لا يمكن تصوُّر هذه الرواية التى تلمع أسماء نجومها فى سماء الأدب العالمى اليوم بدون تلك القصص القصيرة التى كتبها بورخيس فى أواخر الثلاثينات وخلال الأربعينات (مجموعة "قصص" 1944 ومجموعة "الألف" 1949).
فليس هناك إذن ما يدعو إلى محاولة إبراز أهمية هذا الكاتب، تلك الأهمية التى أبرزتها – على كل حال – كتاباته التى "تغزو" اللغة العربية منذ فترة، من خلال الترجمات الجيدة والرديئة، من اللغة الأصلية (الإسپانية) أو من لغات أخرى (الإنجليزية فى المحل الأول) وفى حدود علمى بما هو منشور، فى لحظة كتابة هذا التقديم، يمكن القول إن هناك ترجمات عربية شملت أكثر من 20 قصة من أصل 34 قصة تضمها مجموعتاه المذكورتان من قبل، وهى القصص التى تقوم عليها فى المحل الأول شهرته العالمية، رغم أهمية ما نشره فى العشرينات والثلاثينات وبالأخص فى الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات من شعر وقصص ومقالات ودراسات.
وإذا أضفنا إلى هذا الرصيد من ترجمات بورخيس ترجمات أخرى هامة قيد النشر أمكننا القول إنه لن يمر وقت طويل قبل أن تكون القصص الأكثر أهمية ﻟ بورخيس ("قصص" و "الألف") متاحة باللغة العربية، مع توافر أكثر من ترجمة للقصة الواحدة فى كثير من الأحيان. وذلك بالإضافة إلى ترجمات عديدة لأعمال عديدة ﻟ بورخيس منشورة قبل وبعد الأربعينات.
وهذا يعنى أن هناك درجة من التراكم فى ترجمة إبداعات بورخيس تستدعى بالضرورة "ترجمة" أعمال نقدية عن إنتاجه هى أدوات لا غنًى عنها فى سبيل استيعاب خياله وأفكاره.
ورغم أن هناك كتبًا ودراساتٍ ومقالاتٍ لاحصر فى لغات أخرى عن إنتاج بورخيس، وعن أهمية وخصائص إنجازاته، وعن تأثيره، فقلَّما قرأنا مقالا مترجما، وناهيك بكتاب مترجم، عن بورخيس.
وكنتُ أفضِّل البداية بترجمة كتاب كامل عن بورخيس إلا أن هذه البداية بمجموعة مقالات لعدد من الكتاب خير من مجرد الانتظار، لا سيما وأننا سنكون هنا مع مقالات هامة بأقلام لامعة. وربما كان لمجموعة المقالات، بأقلام متعددة، ميزة هامة تتمثل فى أنها تجعلنا ننظر إلى بورخيس من أكثر من وجهة نظر ومن أكثر من اتجاه، حتى وإنْ كانت كافة وجهات النظر التى سنلتقى بها هنا تنطلق من إجماع على الأهمية الكبرى لقصص بورخيس.
وأول مقال فى هذا الكتاب بقلم الكاتب الفرنسى الأشهر أندريه موروا (1885-1967) – وهو مقال بورخيسىّ بامتياز كما يقولون. ففى صفحات قليلة جدا استطاع الكاتب أن يقدِّم، بحس مرهف، لوحة شاملة تعرض مصادر بورخيس وهمومه الجمالية والميتافيزيقية، وخياله وتقنياته، وباختصار: عالمه الذى ينطوى على كل تلك العوالم التى تنطوى عليه. وكل هذا من خلال إشارات ومقارنات واقتباسات كثيرة ومتنوعة لا تعرف كيف اتسع لها ذلك الحيِّز.
    وبعد ذلك، نقرأ چون كنج، الأستاذ البريطانى للتاريخ الثقافى لأمريكا اللاتينية، وصاحب كتب ودراسات عديدة عن ثقافتها وأدبها، وصاحب كتابات عديدة عن بورخيس. ويقدِّم المقال عرضا عاما مهما يُلقى أضواء قوية ليس فقط على الخلفية التاريخية والسياسية والشخصية لإنتاج بورخيس بل كذلك على مراحل وخصائص وإشكاليات هذا الإنتاج.
ثم نلتقى بمقال ماريو پارجاس يوسا، الروائى الپيروڤى (من پيرو بأمريكا اللاتينية) الشهير. ولأمرٍ ما أراد يوسا أن يكون هذا الحديث المعنون "دعوة إلى قصص بورخيس" الفصل الأول من كتابه A writer s Reality (واقعُ كاتب [مترجم الآن بعنوان "الكاتب وواقعه" للمترجمة بسمة محمد عبد الرحمن، المركز القومى للترجمة])، قبل أن ينتقل، فى الفصول التالية، إلى الحديث عن رواياته، رواية رواية، من حيث "الواقع" الذى تتصل به كل واحدة منها. ونحن هنا إزاء شهادة ونفاذ روائى أمريكى لاتينى كبير، وهو كاتب واقعى وليس كاتبا ميتافيزيقيًّا أو فانتازيًّا. وببراعة واقتدار يصوِّر يوسا الثورة التى أحدثها بورخيس فى أدب أمريكا اللاتينية وفى النثر الإسپانى بوجه عام، كما يروى لنا جانبا من تجربته الشخصية فى فترة سابقة من حياته مع قصص سارتر والأدب الملتزم بينما كان مسحورا بها "سرًّا" فى الوقت ذاته.
أما مقال چيمس آيربى (وهو مترجم رئيسى لإنتاج بورخيس إلى اللغة الإنجليزية وصاحب عدة كتب عن أدبه) والذى يحمل هنا عنوان "عالم قصص بورخيس" فإنه يُلِمّ إلماما سريعا بحياته ومراحل وأجناس إنتاجه لينتقل إلى بحث عميق لإشكاليات وإستراتيچيات قصص بورخيس.
ومن كتاب "السرد الفانتازى" Le récit Fantastique بقلم إيرين بيسيير نقرأ الصفحات القليلة لكنْ المفيدة المخصصة لإنتاج بورخيس، وهى تحاول وضعه فى مكانه المتميز من السرد الفانتازى من خلال التركيز على مناقشة قصصه: الخرائب الدائرية، اليانصيب فى بابل، مكتبة بابل، الجنوب.
وحتى يكتمل هذا البحث بأقلام متعددة، كان لا مناص من استعارة الفصل الخامس من كتاب بياتريث سارلو ("خ. ل. بورخيس: كاتب على الحافة") بعنوان: "عوالم بورخيس الخيالية". و بياتريث سارلو – الكاتبة الأرچنتينية اللامعة – هى أستاذة الأدب الأرچنتينى فى جامعة بوينوس آيرس وفى جامعات عديدة بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا. ومنذ 1978 تُدير بياتريث سارلو المجلة الثقافية Punto de Vista (وجهة نظر) وهى اليوم أهم مجلة للنظرية الاشتراكية فى الأرچنتين كما نعلم من مقدمة چون كنج لكتابها عن بورخيس، ولها كتب عديدة عن الثقافة الأرچنتينية والأدب الأرچنتينى. وفى سياق بحثها عن أبعاد إشكالية صلة قصص بورخيس بالواقع، تُركِّز بياتريث سارلو فى هذا الفصل على ثلاث قصص ميتافيزيقية وفانتازية ﻟ بورخيس. وكانت هذه الصفحات الرائعة ﻟ سارلو، التى يتضافر فيها الجمالى مع الفكرى مع الفلسفى مع السياسى، لإلقاء أضواء ساطعة على أفكار بورخيس وتقنياته وجمالياته، من خلال العرض التفصيلى المعمق لقصص بذاتها، نهاية ملائمة حقا لهذه المجموعة من الأبحاث والمقالات عن بورخيس.
وأرجو أن تكون مجموعة المقالات التى يضمها هذا الكتاب مساهمة أولى فى استيعاب أبعاد العظمة الحقيقية ﻟ بورخيس بعيدا عن تفاهة التظاهر فى "إطار الجنون ﺑ بورخيس" بمعرفة واستيعاب وهضم هذا الكاتب الأرچنتينى العظيم.
 
ملاحظة للمترجم:
الأعمال المترجمة هنا (بما فى ذلك مقال ماريو پارجاس و "فصل" بياتريث سارلو) مكتوبة أصلا بالإنجليزية ومترجمة عنها، باستثناء مقال أندريه موروا المترجم عن ترجمة إنجليزية، و "مقال" إيرين بيسيير المكتوبة بالفرنسية والمترجمة عنها.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
30
رحلة فى عالم بورخيس
(تقديمى لملفّ مجلة القاهرة العدد 137 أپريل 1994)
 
قرأتُ، منذ فترة، مقدمة لمترجم عربى لطائفة من قصص بورخيس، مختارة من عدد من مجموعاته القصصية. وأذهلتنى المقدمة. وجدتُ نفسى أمام ناقد أدبى لا يقلّ شأنا عن لويس عوض أو إبراهيم فتحى أو سوزان سونتاج. وفى أىّ مجال؟ فى مجال استيعاب بورخيس، الذى لا يزال مجالا جديدا بالنسبة للثقافة العربية. كانت هناك مفارقة مذهلة بدورها. كان التعبير عن كل ذلك النفاذ وعن كل ذلك العمق بلغة عربية فى غاية الرداءة والركاكة. وعجبتُ بطبيعة الحال لهذا الانفصال الذى يصعب تصوُّره بين المستوى الفكرى والأداء اللغوى. لكن ذهولى تبخَّر تماما عندما اكتشفتُ أن تلك المقدمة العربية، المنشورة فى 1987 باعتبارها من تأليف المترجم، ليست فى الحقيقة سوى انتحال لمقدمة چيمس ا. آيربى لكتاب يضم قصصا وكتابات أخرى ﻟ بورخيس بعنوان "متاهات"، صدر بالإنجليزية فى 1962، مع حذف الإشارات إلى أعمال يضمها الكتاب الإنجليزى دون الكتاب العربى، ومع إضافة إشارات فى الاتجاه المعاكس.
صحيح أن هذا الانتحال يمكن النظر إليه على أن إعادة تأليف فى ضوء قصة ﻟ بورخيس عن پيير مينار الذى ألَّف نسخة طبق الأصل من رواية "دون كيخوته" ﻟ ثيربانتيس دون أن يقرأها. لكنْ حتى مثل هذا التأليف عن بورخيس إنما يعكس (ليس أقل من الانتحال) هذا الإعجاب الجارف فى كل مكان فى العالم ﺑ بورخيس وبإنتاج بورخيس. فهذا الإعجاب هو الذى يُغرى الناس بالتأليف على طريقة پيير مينار أو بالانتحال على كل طريقة.
وربما كان من الأفضل أن نعترف بأن معرفتنا ﺑ بورخيس، وكذلك بكثيرين غيره، لا تزال فى طور البداية، وأن نبتعد عن إغراء التأليف أو الانتحال، وأن نؤجل الاستجابة لهذا الإغراء العنيف إلى أن يتحقق استيعابٌ أعمق.
وعلى هذا سيكون من الملائم أن أكتفى بملاحظات موجزة بشأن بعض نواحى إعداد هذا الملفّ.
أما مبرر الملف فبديهى... هذه المكانة التى أصبح يحتلُّها أدب بورخيس على المستوى العالمى. ويشير چون كنج فى المقال الوارد فى هذا الملف إلى "الاعتراف به على أوسع نطاق باعتباره أهم كاتب أمريكى لاتينى فى القرن العشرين" وهو اعتراف يشمل أيضا الكتّاب الآخرين جميعا ومن هؤلاء الكتاب الآخرين كارلوس فوينتوس الذى يؤكد (كما جاء فى المقال المذكور أيضا) أنه لولا نثر بورخيس "لما كانت هناك أصلا رواية أمريكية إسپانية".
ويرى رينيه إيتامبل و مارسيل بريون (كما تنتهى المقدمتان الإنجليزية والعربية المذكورتان آنفا) أن إنتاج بورخيس يمثل "أحد أروع التعبيرات فى كل الأدب الغربى عن معاناة الإنسان الحديث إزاء الزمان، والمكان، واللامتناهى".
وفى مقدمتها (يناير 1990) لطبعة جديدة من طبعات رواية "مذكرات براس كوباس يكتبها بعد وفاته" للكاتب البرازيلى العظيم ماشادو ده أسيس، تصف سوزان سونتاج، الناقدة والأديبة الذائعة الصيت، بورخيس بأنه ثانى أعظم كاتب أمريكى لا تينى بعد ماشادو ده أسيس. ويبدو أن هذا الربط بين الكاتبين العظيمين ليس عرضيا. فها هو الناقد البرازيلى أنتونيو كانديدو يتحدث عن تأثير الأدب الأمريكى اللاتينى خارج مسقط رأسه، فيؤكد مكانتهما التى لا تدانيها مكانة كاتب أمريكى لا تينى آخر، قائلا: "وهكذا يمكن القول إن بورخيس هو أول حالة لتأثير أصيل لا يقبل الشك، مارسه بصورة واسعة ومعترف بها على البلدان الأصلية عن طريق نوع جديد من فهم الكتابة. أما ماتشادو دو أسيس، الذى كان يمكن أن يفتح آفاقا جديدة عند نهايات القرن التاسع عشر، فقد ضاع فى رمال لغة مجهولة، فى بلد كان حينئذ دون شأن أو أهمية" (أدب أمريكا اللاتينية- القسم الثانى، عالم المعرفة، ترجمة: أحمد حسان، ص 204).
فالمقصود بهذا الملف، إذن، هو الإسهام فى محاولة استيعاب بورخيس، مع محاولة الابتعاد بهذا الإعجاب الجارف به عن السطحية التى تلازمه.
وتفرض نفسها مقارنة... هناك تعبير روسى يخصّ الحماس الجارف ﻟ دوستويڤسكى هو تعبير "دوستويڤشتشينا" ويمكن ترجمته إلى الدوستويڤسكية مع فهمها على أساس أنها "تتضمن التقليد السطحى للأفكار الأكثر غرابة والصفات الأكثر هامشية لرجل عظيم أكثر مما تتضمن إعجابا جارفا حقيقيا بعمله أو مذهبه" (اُنظرْ: دوستويڤسكى- إعادة قراءة، تأليف: كارياكين، ترجمة: خليل كلفت، كومبيونشر، بيروت، ص 7). فالمقصود بهذا الملف، إذن، هو الاقتراب من بورخيس، من عالمه، من محتواه الجمالى والفلسفى، مع الابتعاد بالتالى وفى الوقت ذاته عن كل "بورخيسشتشينا" أو البورخيسية بالتضمينات المقصودة فى التعبير الروسى.
ومن ناحية أخرى، تعددت وسائل بورخيس الإبداعية ومراحل إنتاجه طوال عمره المديد.. كان الشعر وسيلته الإبداعية الرئيسية قبل 1930. ومنذ ظهور مجموعة تضم تجاربه القصصية الأولى فى 1935 وحتى أوائل الخمسينات سادت كتابة القصة القصيرة وفى هذه الفترة ظهرت أعظم قصصه القصيرة (مجموعة "قصص" 1944، وكذلك مجموعة "الألف" 1949)... ومع العّمَى المتزايد كان لا مناص من عودة بورخيس إلى الشعر (هذا الشكل الذى يسهُل أن يتبلور فى الرأس دون ورق أو قلم كما يسهُل إملاؤه) فى الفترة التالية لمنتصف الخمسينات، مع العودة إلى القصة القصيرة فى السبعينات (تقرير برودى 1970، كتاب الرمل 1975). أما المقال فكان موجودا فى كافة المراحل وإنْ كانت أعظم مقالاته فى نفس فترة أعظم قصصه أىْ فى أواخر الثلاثينات وطوال الأربعينات وأوائل الخمسينات.
وأمام تعدُّد الوسائل والمراحل الإبداعية على هذا النحو، كان لا مناص من الاكتفاء بمجموعة متكاملة من المواد على أساس الوسائل دون المراحل وبقدر ما يسمح الحيز المتاح. وبالتالى فإلى جانب مقال الناقد البريطانى چون كنج عن بورخيس، وجدنا من الأوفق أن نمثِّل لكل شكل من أشكال إنتاجه الرئيسية بعمل. وهكذا اخترنا واحدا من أهم مقالاته ("دحض جديد للزمن") وإنْ كان يمثل المقال الفلسفى دون مقالات بورخيس فى النقد الأدبى أو فى المجالات المتنوعة الكثيرة الأخرى. واخترنا واحدة من أهم قصصه ("تيلون، أوكْبار، أوربيس تيرتيوس") وهى مثال نموذجى للقصة الميتافيزيقية من ناحية ومن ناحية أخرى لشكل القصة-المقال، أو المقال الزائف أىْ القصة التى تتخذ شكل المقال، أو هذا النوع الأدبى الجديد الذى هو مقال وقصة فى آنٍ واحد إذا أخذنا برأى بيوى كاساريس صديق بورخيس. كما اخترنا واحدة من أروع قصائده ("ليل العود الأبدىّ"). وكلك واحدة من أماثيله أو حكاياته الرمزية ("الجحيم، 1، 32").
وكلمة عن الترجمة.... فيما عدا مقال چون كنج والتسلسل الزمنى (البيو-بيبليوجرافى)، وهما مترجَمان عن أصلهما الإنجليزى، من الجلىّ أن بقية مواد الملف (أىْ أعمال بورخيس) مكتوبة بالإسپانية. وهى جميعا مترجمة هنا عن الإنجليزية لكنْ مع التدقيق على الأصل الإسپانى فى حدود معرفة متعلِّم مبتدئ هو كاتب هذه السطور للُّغة الإسپانية. وبطبيعة الحال، كان الاعتداد، عند الاختلاف، بالأصل الإسپانى (المتاح لى الآن)، وعلى سبيل المثال فعندما تقول الترجمة الإنجليزية ما ترجمتُه: "الفقيه اللغوى نيتشه عبَّر عن نفس هذا الرأى"، ويناظر هذا البيت فى الأصل الإسپانى المتاح لى الآن (أىْ المنتخبات التى أصدرها بورخيس من شعره فى 1980) ما ترجمتُه: "ديڤيد هيوم من إدنبره قال نفس الشيء"، فإننى أعتدّ بهذا الأخير، رغم أن الترجمة الإنجليزية لا بد أنها تمَّتْ على أساس طبعة سابقة أو حتى الطبعة الأصلية للقصيدة (قصيدة: "ليل العود الأبدىّ")، ورغم أن هذا التبديل لا بد من أنه يرجع إلى أن بورخيس أحبَّ أن يحتفظ للقصيدة بطابع متغيِّر بحيث يتواصل تأليفُها، فهى ذكرى– أو مشروع؟- قصيدة لا تنتهى، كما تقول القصيدة ذاتها.
وبهذه النظرة، الخاصة بقصيدةِ عودٍ أبدىٍّ، ليس فقط فى محتواها ورؤاها، ليس فقط فى دائريتها الميتافيزيقية حيث ذكرى الماضى هى مشروع الحاضر وهى نبوءة المستقبل، بل كذلك فى دائرية كتابتها، أىْ فى إمكانية إعادة كتابتها بصورة متواصلة – بهذه النظرة، أظن أننا اجتزنا بالفعل العتبة داخلين عالم بورخيس.
 
 



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتب معرفة ومتعة - كتاب إلكترونى 1
- ادوار الخراط وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى مقال عن مجموعة قص ...
- عملية -عَمُود السَّحَاب- وأقدار مصر وسيناء وغزة بقلم: خليل ك ...
- روبرت ڤالزر (مقالان: 1: سوزان سونتاج، 2: كريستوفر ميدل ...
- كتاب سيد عويس: التاريخ الذى أحمله على ظهرى
- غزة وما بعد غزة
- بعيدا عن تأسيسية الدستور ودستور التأسيسية ضرورة الإطاحة السل ...
- كيف كتب دوستويڤسكى رواية الجريمة والعقاب؟ -إعادة قراءة ...
- مارسيل پروست (مقالان: مقال: أناتولى لوناتشارسكى، ومقال: أندر ...
- مصر وبلاد النوبة تأليف: والتر إمرى، ترجمة: تحفة حندوسة مقدمة ...
- مصير العالم الثالث تحليل ونتائج وتوقعات توما كوترو و ميشيل إ ...
- الأساطير والميثولوچيات السياسية(1) راؤول چيرارديه عرض: خليل ...
- تفسير الرئيس المصرى الدكتور محمد مرسى لآية الله والعلماء
- زيارة جديدة إلى -مزرعة الحيوانات- رواية -مزرعة الحيوانات- چو ...
- عوالم عديدة مفقودة
- الشرف والغضب لا يكفيان [مراجعة لكتاب: نعوم تشومسكى:-الحيلولة ...
- الكتب معرفة ومتعة - الجزء الأول
- حول الأسلوب فى السينما - أندريه بازان
- جنوب أفريقيا عصر مابعد سياسة الفصل العنصرى (الأپارتهيد)
- إلا الرسول الكريم


المزيد.....




- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...
- زاخاروفا: إستونيا تتجه إلى-نظام شمولي-
- الإعلام الحربي في حزب الله اللبناني ينشر ملخص عملياته خلال ا ...
- الدرك المغربي يطلق النار على كلب لإنقاذ فتاة قاصر مختطفة
- تنديد فلسطيني بالفيتو الأمريكي
- أردوغان ينتقد الفيتو الأمريكي
- كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي
- تظاهرات بمحيط سفارة إسرائيل في عمان


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - الكتب معرفة ومتعة - الجزء الثانى