أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة المانع - العاقلة جدا















المزيد.....

العاقلة جدا


سميرة المانع

الحوار المتمدن-العدد: 3929 - 2012 / 12 / 2 - 01:54
المحور: الادب والفن
    


العاقلة جدا
دخل مكتبه في الصحيفة التي يعمل بها مكتئباً، وجدها هناك، ضخمة الجسم، شعرا منفوشا، عمرها يناهز الاربعين، قابعة على كرسي وكأنها طامسة في حوض ماء. اخبرته انها في انتظار زميله عصام المقنيطي وقد خرج توا من الغرفة لحاجة ما. تساءل ليشبع فضوله الدائم : - مَن حضرتك ؟ ردتْ : - أنا نبيلة بقلاوي، اصلي من الخليج، اسكن حاليا في لوس انجلوس، مررتُ على لندن الآن اثناء طريقي إلى أهلي.
اجابته باريحية من يتوقع السؤال، ردّ مجاريا عفويتها: - "اهلا وسهلا". شعر أنها لم تكتفِ بذلك، بل تريد الاستمرار في الحديث معه : " أسكن وحدي هناك في لوس انجلوس". " وحدكِ؟! " بوغت لاستغرابه ثم خجل من تدخله بشيء لا يعنيه . " نعم أنا وحدي، أسكن وحدي، أنا حرة ، شقتي هناك اسكن فيها" اقتنع بمنطقها وصراحتها متعاطفا، اكتفى ليكفر عن ذنبه وجهله بمجرد كلمة : "لطيف". لا زالت نبيلة، على ما يبدو، راغبة في اتمام الحديث : " اهلي ما زالوا بالخليج، والدي متوفي، الغريب أن علاقتي به ما زالت علاقة حب| كره، انتحرتُ مرة بسببه ، بلعت 48 حبة اسبرين ، نقلوني إلى المستشفى، وهناك جاء كل من أعرفه إلا هو، بينما انتحاري كان بسببه ".
جاء عصام في تلك اللحظة مستعجلا، وجدها منسجمة في بالجلسة فامتعض، كيف يغلق حديثهما؟! يوجهه إلى دفة أخرى . لم يعجبه تطرقها لامور شخصية مع زميله القريب، حياة الانسان، بنظره، يجب أن تبقى سرية . بكل الاحوال يعطي من حوله امورا سطحية، أو على الهامش هكذا تمشي.. لاشيء عميق، يستملح ما يردده بين حين وآخر على أنه حديث نبوي شريف لا يحتمل التأويل : ( اذا بليتم فاستتروا) وهوصحيح يفسره بالطريقة التي ترضيه وتحقق مرامه.
هذه المرأة يجب ايقافها. صاح على زميله الصحفي مطنبا، مفخما لا في لفت الانظار إليه وإعلاء شأنه، بل من أجل أن يُلهيها، يخدعها، وفي نفس الوقت يخفيها عنه، يهربها بالعباءة، إذا أمكن، يحتفظ بها لنفسه فقط بأقل الخسائر المادية والروحية الممكنة معا.
صاح على زميله كمن يشير إليه باصبع الاتهام، واصفا قدراته، يمدحه ويثني عليه كمن يوبخه لاساءة دوره ، قائلا:
- هذا أحسن شخص بالصحيفة خبير بالموسيقى.
بمجرد أن سمعتْ نبيلة بقلاوي الكلمة الآخيرة حتى عقبتْ :
- أنا أحب الموسيقى.
الله اكبر، كم من اشياء تحبين ! سكتَ على مضض ، لكن الزميل الممدوح فاته أن الكلام عنه لمجرد ذر الرماد في العيون، امتطى صهوة الفرح، أقبل عليها بكل أجراسه وخلاخيله، سألها وكله عيون:
- صحيح؟!
- طبعا احبها.
يا للمصيبة! فتحتُ لهما بابا جديدا عليّ أن اسدّه بسرعة. الزميل منتعش الان بمجرد ذكر هوايته الوحيدة، تهيأ كمن يُريد أن يُمسك قطة، يلاطفها ، يمسح فروها الناعم، قبل ان تهرب منه ضجرة، يائسا من أن يقيدها بين احضانه. وجه السؤال للمرأة الجالسة مكتظا بالبهجة:
- أي نوع من الموسيقى تحبين؟
- أحب الاوبرا.
لا بأس، تفرغ لها كلية، تصور أنها ستقول إنها تحب مقطوعة شهرزاد أو الدانوب الازرق او ما شاكل ، تحب الجاز أو الاغاني الشبابية او حتى أغاني عبد الحليم حافظ. مع هذا لا باس. احس بحاجته القصوى للمزاح لسبب مجهول، دهش متفاجئا من قدرته على ثرد خبز في قصعة الحياة البوهيمية. البناية التي يعمل فيها عابسة متجهمة، دائما مهمومة، نادرا ما تمر بها نسمة هواء من الفضاء الطلق او يفتح بها باب من دون يقظة الحراس المنتبهين خوفا من القاء قنبلة في هذه الايام أو من حامل متفجرات يجازف بحياته ايضا. الكل خائف على عمره عندما تُذكر هذه الاشياء. الصحفيون مرهقون متضايقون من بعضهم البعض، قسم منهم محشور في مهنة الصحافة لا عن رغبة او تأهيل وإنما لعدم وجود وظائف اخرى، او لاجل خاطر فلان أو علان الذي توسط له لاشغال الوظيفة الصحفية حبا بالارتزاق إذا كان رجلا، أو لبعض الكفاءت الجسدية المحرمة إذا كانت امراة. سقطت نبيلة بينهم كهدية من السماء للتخفيف من شقائهم. عاد لاسئلته الملحة متلهفا وكأنه يقرب كرسيه منها لشدة الازدحام :
- ولماذا تفضلين موسيقى الاوبرا؟!
- أحب أبكي.
الحمد لله والشكر، ما اجمل السبب! امرأة ثرية، حرة ، تعيش في لوس انجلوس تمر على لندن مرة بالسنة في طريقها لزيارة اهلها في الخليج تبكي عند سماع موسيقى وغناء الاوبرا، شيء منعش ، دليل الاحساس. ولزيادة التوضيح قالت نبيلة بدورها ولاعطائه فكرة كافية لاشباع فضوله وزيادة معلوماته اللاضرورية:
- حجز لنا عصام هذه الليلة للذهاب إلى دار الاوبرا لسماع اوبرا (لاترافياتا).
مطتْ الكلمة الاخيرة مطاً حتى صار الالف الأخير فيها ألفا ثم ألفا ثم ألفا. عصام منهمك مشغول بتهيئة نفسه للخروج معها من بناية الصحيفة كلية، مستعجلا كي ينهي علاقتها بزميله الفضولي المتحشّر. يرتب حاجياته ومقالاته في الملف، يضع قسما منها في الادراج. تحرك أخيرا قائما من على الكرسي مشيرا لها بانفراج، آن الأوان لخروجنا تحركي، هيا قومي لنقلع. في آخر لحظة تذكر زميله المهمل مفكرا في مستقبله معه غدا، في الغرفة وحدهما . انتبه للامر فتريث قربه لتطييب خاطره، لاعطائه حصة لذيذة ولو ضئيلة من المتعة التي سيهرع لها، ناوشه نتفة حاسبا حساب انتقامه منه، انتقام المحروم لا شك. اقترب منه غارفا بيده لتسليته، شيئا منها أثناء النظر إليها ، أعطاه له لتبرئة ذمته:
- نبيلة رسامة وكاتبة قصة.
- صحيح!؟
أعاد الزميل هذه اللفظة التي لم يعد لها معنى وكأن لا توجد في قاموسه كله كلمة مناسبة. اثناء ذلك شعر الزميل ان قدميه تقفان للقيام معهما أيضا، استسلم للوداع المرتقب الذي يوشك أن يحصل الآن. مدّ يده لمصافختها ممتننا لهذا اللقاء السريع البهيج مسرورا من حسن العشرة. قبل الخروج النهائي، اتمت نبيلة لبس معطفها الواقي خوفا من برد لندن، حسب تعليقها، مستكملة تعديل نفسها للذهاب بعيدا عن مكان لا يشبه الجنة الموعودة، ناهيك عن جنة عدن الموصوفة بالاديان. شرعت تسير أمام عصام متأنية، بتثن وتكسّر متمايلة، الخوجلى. لوت رقبتها قبل أن تغيب، موضحة اهتماماتها بالمختصر المفيد :
- أنا أرسم سريالي ، أعمل كولاج أيضاً، فن حديث.
يا ساتر، خرجت هذه الكلمة دون وعي من شفتي الزميل الواقف للوداع ، ضغط على شفته بقسوة بين اسنانه، مستاء من أن اللفظة قاسية كحد منشار.
+++++
في اليوم التالي جاء عصام للدائرة متأخرا، تلقاه زميله دون الاحضان متلهفا ليعرف ما جرى له الليلة الماضية. ما أخباره وكيف كانت ليلة أمس مع نبيلة في حفلة الاوبرا. ينبش بفضول رجل مهمل ملقى في الشارع بينما يرى غيره قد تمتع بالرقص في أرقى الصالات. عصام يراوغ يمارس سلوكه السهل الممتنع معه، المتبطر كالمليونير ( أوناسيس) عندما يأتيه محاسبه بعشرة ملايين دولار ، متسائلا أين يضعها، فيضجر الاول منه مؤنبا منزعجا: " ضعها في أي مكان تشاء، في مصرف ( باركليس) أو ( ويستمنستر) أو ( لويد ) أو اي المصارف، ضعها في اي حساب لي فيها ولا تضايقني."
عصام اليوم منزعج من نبيلة ليلة الاوبرا، لماذا بالله عليك ؟ّ! أوه، لقد جلستْ قربه محتكة به طيلة الوقت، خداً على خد، يدها امتدت تريد أن تمسك يده، تعصرها بين حين وآخر. همس عصام في اذنها مؤنبا: " نبيلة عل مهلك، عيب، الدار ليست كباريه ، إنها ( كوفنت كاردن)"
زعلتْ نبيلة منه زعلا شديدا : " تقول أنا من الكباريه " أكلتْ رأسه بعدئذ تعيد وتصقل احتجاجها :
" قلت الكباريه" مستمرة : " تقول أنا من الكباريه، أهذا رأيك فيّ ؟! أنا فاتحة شقتي في لوس اجلوس، أنتَ شفتها، أنا أدعو، أُكرم، أُضّيف، أأنا من الكباريه ّ؟" وعصام يتوسل بها كي تسكت، يرجوها :
" الله يخليك، نبيلة، اسكتي ، دعينا نسمع" وهي تريد افحامه : " لا ، لا ، أنت قلتها ، الحين قلتها " وعصام مضطر للرد عليها لتهدئتها : " يا بنت الحلال ، أنا لم أقصد شيئا، لمَ تتأثرين " ونبيلة تلح : " لا أنتَ قلتها ، التو قلتها" وعصام يكرر اعتذاره : " لا حول ولا قوة إلا بالله، والله العظيم لم أقصد شيئا، أنا أعتذر، الله يهديك" وهي : " لا، لا ، أنت قلتها، الحين قلتها" والموسيقى تعزف، والغناء يصدح خارجا من القلب المملوء بالحب والغضب والمغفرة ، يُسمع باذنيهما وكأنه طنين زنبور.
+++++
أين أجد مزهرية للورود في هذه الدائرة الناشفة إلا من الاوراق والاقلام ؟! عصام يبحث متسائلا في انحاء دائرته مستاء ذلك النهار. يداه تحضنان باقة ورود يانعة ملونة، عطرها يضوع في الانحاء. أخيرا عثر على إناء قبيح الشكل منسي مرمي في زاوية على احد الرفوف. أخذه مدردماً وملأه بالماء إلى نصفه من حنفية في داخل مكان يسمونه مخزن الحوائج وفيه زاوية لتحضير الشاي. خرج منه موبخا نفسه على هذا الاختيار الرديء لهكذا إناء قبيح مهجور بدل أن يكون مزهرية رشيقة تُليق بالورود المتمايلة على بعضها بعضا من شدة الالطاف. اشار لزميله بالغرفة :
- أنظر بالله عليك، أنظر لهذا الاناء. لم أجد سوى هذا الوعاء الكريه مثل الطيط، ما العمل ؟!
أراه الورود المحمولة على ساعديه، فضّ بكارة السلفون والشريط الساتان الملفوفة بهما، قرا بطاقة الأهداء المرسلة بواسطة بريد خاص إليه في الدائرة. قرأها بصوت عالٍ ، بعد أن نزعها من باقة الزهور المسكرة :
زهور من مخزن هارود
من نبيلة إلى عصام
- " المجنونة !! تصور المجنونة ، هل تستطيع أن تفهمها ؟!" وضع باقة الزهور في الاناء البشع، منزعجاَ متكدرا مرة أخرى، كأوناسيس المليونير، من نقوده الفائضة المتكدسة في المصارف قبل أن يموت، شاتما لائما مَن ذكّره بها : - " المجنونة بعثتْ لي ورودا من أغلى محل في لندن، من مخزن ( هارودز ) على عنواني بالدائرة، يا أخي ماذا أفعل ، ماذا أفعل ؟! مجنونة "
كان زميله الذي تسربت له معابثات الزوبعة، وشاركه في حصة لذيذة منها، يتسلى بالمنظر كله، متمالكا نفسه من الضحك، يخالس النظر للورود الرائعة قائلا بينه وبين نفسه : " يا أخي المجنونة عاقلة ، فهي لا تبعث الورود لك على عنوان بيتك، فأنت متزوج ولديك أطفال، تخاف من زوجتك " لكنه أجبر نفسه على السكوت، لا فض فوه، هبط رأسه منكبا على الصحيفة أمامه، مفتشا عن فضائح ولو بالورق، ممارساً مهنته الصحفية بالتمام والكمال.
بقيت الورود هادئة زاهية بالغرفة ، منتظرة لعدة أيام قبل أن تذبل وتتفتت ككل شيء بهذا الوجود، لم تنفعها وسائل دفاعها الصامتة الناعمة المفعمة بالعطور، دون حول او قوة، مثل التأوهات.




#سميرة_المانع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بداية حملة السرقة
- الخال
- ها....ها...ها
- ألا ابشروا بالاعمال الخلاقة
- ثمة اسرار
- من مفكرة امرأة مغتربة
- أجوبة أسئلة تخطر بالبال
- مَن دفع للمزمرين
- خصائص رواية منفى
- هي بقيت علي ، يعني!
- التوحّش
- احتضان غير مرئي
- الطريق إلى دهوك
- هزّة ارضية
- إفرحْ يا قلبي
- درب الصدّ ما ردّ
- والنتيجة ؟!
- ربحتْ الجائزة
- وزّة في الخليج *
- القارات المنسية


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سميرة المانع - العاقلة جدا