أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد القبانجي - الفلسفة الوجودية















المزيد.....



الفلسفة الوجودية


أحمد القبانجي

الحوار المتمدن-العدد: 3927 - 2012 / 11 / 30 - 17:25
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


بقلم: مصطفى ملكيان

ترجمة: أحمد القبانجي


سلامي وتحياتي إلى الأخوات والإخوة الحضور وأتمنى أن تكون هذه الساعة التي أقضيها معكم ساعة مفيدة ونافعة، وبما أنّ الفرصة ضيقة فأجد نفسي مضطراً لحذف بعض المقدمات وأحياناً أكتفي بطرح ذي المقدمة بشكل إجمالي، وإحدى النقاط التي يعرفها جميع الأشخاص المطلعين على تاريخ الفلسفة الغربية وبخاصة في القرن الأخير هي وجود اتجاهين أو مدرستين فلسفيتين مهمتين من بين المدارس الفلسفية الكثيرة في الغرب، وهاتان المدرستان مشهورتان أكثر من المدارس الأخرى وتترتب عليهما آثار ومعطيات كثيرة، أحدهما الفلسفة الوضعية المنطقية، وتشمل فلسفة التحليل اللساني، التي تتبناها ثلّة من الفلاسفة الذين اتجهوا نحو المنطق الصوري الجديد، والأخرى الفلسفة الوجودية، ولا أروم في هذا البحث طرح مقارنة بين هاتين المدرستين، وكما تعلمون توجد نقاط خلاف كثيرة بين هاتين المدرستين وكل واحدة منهما تحاول بشكل جاد نقد الأخرى وتخطئتها مع أنّ كل واحدة من هاتين المدرستين تملكان نقاط قوة وامتيازات مهمة.

وموضوعنا في هذا البحث هو الفلسفة الوجودية، وينبغي القول إجمالاً بأنّ الفلسفة الوجودية لا تتضمن تعاليم معينة ومشخصة بحيث يتفق عليها جميع فلاسفة هذه المدرسة، ومن هذه الجهة فإنّ بعض مؤرخي الفلسفة قالوا إنّ الفلسفة الوجودية تعتبر في الغالب «اتجاهاً» لا «معرفة»، بمعنى أنّ هذه الفلسفة تتحرك في إطار إتجاه خاص للمسائل الفلسفية وترصد الهواجس والحالات النفسية والعاطفية التي يعيشها الإنسان في حركة الحياة، مثلاً لو كنت أشعر بعقدة الذنب أو أخاف من الموت، أو أعيش حالات اليأس والاحباط، أو أي مشكلة من المشكلات الروحية والعاطفية التي يعيشها الإنسان في الحياته، فعندما أدخل صف الفلسفة وأخرج منه أرى أنّ مشكلتي باقية كما كانت ولم تنحل، فالفلسفة حالها حال الرياضيات والفيزياء والكيمياء حيث يكتسب الطالب في الصف معلومات كثيرة ولكنّه عندما يخرج من درس الرياضيات مثلاً يجد أنّ حالة اليأس التي كان يعيشها لم ترتفع أو أنّه لم يتمكن من التخلص من عقدة الذنب، ومع الأسف فإنّ دروس الفلسفة أضحت مثل هذا الدروس بحيث إنّ الإنسان عندما يدخل إلى الصف في درس الفلسفة ويخرج منه يرى أنّ مشكلاته المحسوسة في الحياة اليومية لازالت باقية، وبتعبير آخر ينبغي القول إنّ الفلسفة فقدت تواصلها مع حياتنا اليومية، أي أنّها باتت بالنسبة لي ولك كدرس الكيمياء مثلاً، فالطالب في دروس الفلسفة حاله حال الطالب في دروس الكيمياء والميكانيك أو علم الأحياء، والفرق الوحيد بينهما أنّ الطلاب لا يهدف من دراسة الكيمياء والفيزياء والأحياء حل مشاكل حياته، ولكن الأشخاص الذين يتوجهون لدراسة الفلسفة فإنّ إحدى غاياتهم من هذا الدرس حل مشاكلهم اليومية في واقع الحياة الاجتماعية والفردية، والمفارقة أنّ دروس الفلسفة تعدنا بالكثير من الحلول لمشاكلنا المعاصرة، والحال أننا ندخل لدروس الفلسفة ونخرج منها دون أن نشعر بتغيير ملموس في حالاتنا، سوى أننا نكتسب معلومات كثيرة ونشعر أنّ أذهاننا قد امتلأت.

الفلسفة الوجودية، حالة من الميل للخلاص من هذه التوترات النفسانية والأزمات الفكرية، وبعبارة أخرى، إنّها بمثابة توجه وميل للأشخاص الذين يرومون العثور على أجوبة للمسائل والمشكلات التي يعيشونها في واقع الحياة، وعلى هذا الأساس فإنّ الفلسفة ينبغي أن تتواصل مع مشاكلنا اليومية في الحياة من موقع العمق، لا المشكلات الانتزاعية التي لا تمثّل بالنسبة لي ولك أية مشكلة، وهي المشكلات التي طرحها الفلاسفة أنفسهم وتحركوا من موقع الجواب عنها، فإذا كان الحال كذلك، فينبغي القول إنّ الفلسفة الوجودية هي الفلسفة التي تدفع الإنسان بإتجاه هذه الغاية وتهدف للبحث في حالات الهم والغم وأشكال القلق والاضطراب، وحالات اليأس والاخفاق، العقد النفسانية، حالات الخوف والتشويش التي نعيشها في هذه الحياة، والعلاقات غير المتجانسة مع الآخرين، هذه كلها من المواضيع التي تريد الفلسفة الوجودية حلّها في حياة الأشخاص، وبذلك تتواصل هذه الفلسفة مع الحياة الشخصية لي ولك.

وعلى ضوء ذلك لو قلنا إنّ الفلسفة الوجودية تتضمن هذا الاتجاه، أي الاتجاه الذي يعمل على جعل الفلسفة تعيش العمق الإنساني في خصائصه الذاتية، ففي مثل هذه الحالة لابدّ من القول بأنّ الفلسفة الوجودية تملك سابقة تاريخية ممتدة في عمق مطاوي التاريخ، وبهذا المعنى ينبغي القول إنّ أهم الفلاسفة الوجوديين في العالم القديم هو سقراط، فسقراط بهذا المعنى كان وجودياً بالمعنى الدقيق للكلمة، وكذلك أجوستين القديس العارف والمتكلّم والفيلسوف المسيحي المعروف في القرن الرابع للميلاد، كان وجودياً أيضاً بهذا المعنى، وهكذا الحال في ابيكتاتوس، وماكوس اورليوس، وهما من فلاسفة المدرسة الرواقية، فيلسوفان وجوديان بهذا المعنى، ويكفي مطالعة أفكار ماركوس اورليوس لنرى أنّه لم يطرح أية مسألة من المسائل الفلسفية المتعارفة، ونقرأ في كتاباته أنّك عندما تشعر بحالة اليأس فما هو العامل الذي جعلك تشعر بهذه الحالة، وما هو السبب؟ وإذا كنت تشعر بالكآبة فما هو العامل لهذا الشعور؟ وإذا كنت تشعر بالألم، بأنّ الآخرين لا يفهمونك فلماذا تشعر بهذا الألم وكيف يمكنك التخلص منه؟ والشخص الذي يتولى الإجابة عن هذه الأسئلة هو فيلسوف وجودي، ومن هذه الجهة أيضاً فإنّ باسكال فيلسوف وجودي أيضاً، حتى الأشخاص الذين لم يكونوا من زمرة الفلاسفة، مثل دوستافيسكي الكاتب الروسي المعروف هو وجودي بهذا المعنى، وهكذا الحال في نيتشه وآلبر كامو، والسيدة سيمون وي، هؤلاء تناولوا في كتاباتهم وآرائهم الفلسفية العقد والمآزق النفسية التي نعيشها أنا وأنت، وبهذه الصورة لا معنى للقول بأنّ كي يركجورد، هو نقطة البداية للفلسفة الوجودية، غاية الأمر أنّ كي يركجورد في الواقع أصحر بهذه المسائل التي كانت مذكورة في مطاوي كلمات القدماء بشكل تاريخي وضمني، وعندما يقال إنّ العارف الدانماركي «كي يركجورد» الذي عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر هو المؤسس للوجودية، فالصحيح إنّه أول من صرّح في كتاباته بالفلسفة الوجودية لا أنّه أول من طرح المسائل النفسانية والمشكلات الروحية التي نعيشها، ومن جهة أخرى بما أنّ غالبية المشكلات التي نعيشها ونواجهها في واقع الحياة تنبعث من روح الإنسان ونفسه، فيمكن القول بهذا المعنى أنّ الوجودية هي فلسفة روح الإنسان، وفي الواقع أنّ هذه الفلسفة تعمد إلى اختراق روح الإنسان واستشراف نوازعه وحالاته النفسانية.

والآن قد نجد من اللازم طرح هذا السؤال، وهو هل يوجد عنصر مشترك بين كل هؤلاء الفلاسفة الوجوديين الرسميين وغير الرسميين، أم لا؟ وكما ألمحنا آنفاً لا توجد نقطة مشتركة يتفق عليها كل هؤلاء الفلاسفة، ولكنّهم بحثوا في مدوّناتهم وآرائهم مسائل مشتركة، وطبعاً ثمة فرق كبير بين «البحث في المسائل المشتركة» و«بين اعطاء أجوبة مشتركة»، فالوجوديون لم يطرحوا أي جواب مشترك لأي مسألة، لكنّهم بحثوا مسائل مشتركة، ودار سجال ونقاش في هذه المسائل فيما بينهم، ويلخصها المؤرخون لهذه الفلسفة بعدّة مسائل، وأجد نفسي مضطراً لطرح هذه المسائل بشكل اجمالي، ولا يسعني المجال للبحث فيها من موقع النقد والمناقشة، إلاّ عندما أجد نفسي ملزماً لابداء رأي معين تجاه هذه المسائل.



1. مسألة «فردانية الإنسان»

إنّ أوّل مسألة مورد بحث واهتمام جميع الفلاسفة الوجوديين، هي مسألة الفرد، أي الإنسان المتفرد، فالفلاسفة الوجوديون يقولون بأجمعهم أننا يجب أن ندرس قضية الإنسان كفرد في إطاره الطبيعي، وعندما يقولون بلزوم البحث في الإنسان الفرد، فإنّهم في الواقع ينفون أمرين: أحدهما النظم الفلسفية التي كانت سائدة ومتداولة قبلهم، والآخر، حالة إنصهار وغرق الإنسان الفرد في الجمهور، وهنا أقوم بتوضيح هذين الأمرين.



الأمر الأوّل: نفي النظم الفلسفية المتقدمة

وفيه مقدّمتان:

المقدمة الاُولى: تقول الفلسفة الوجودية: إذا أراد المرء معرفة ظاهرة معينة يجب أن يتوغل بنفسه في تلك الظاهرة تماماً، مثلاً، إذا شاركت في مراسيم العشاء الإلهي للمسيحيين، فبما أنّك غير مسيحي حسب الفرض فعندماترى هذه المراسم، لا يمكنك أبداً أن تستوحي المقصود منها بشكل صحيح، لأنّك فارغ القلب منها، فأنت لست متوغلاً فيها بشكل عميق، والإنسان المسيحي الذي يشارك في مراسم العشاء الإلهي فإنّه يعيش هذه المراسم بوضوح تام، لأنّه يعيش هذه التجربة من موقع العمق، مثلاً عندما يسكت فإنّه سكوته يملك معنى مفهوماً، وعندما يبكي فإنّ بكاءه قابل للفهم، وعندما يتناول من الخبز والشراب فإنّ هذه الحركة مفهومة بالنسبة له، ولكنّها بالنسبة للشخص المسلم لا تملك معنى، وعلى ضوء ذلك فالشخص المسيحي إذا اشترك في مراسيم عاشوراء ومارس الشعائر الحسينية، فربّما لا يفهم ما نقوم به من بكاء ولطم على الصدور، لأنّه فارغ الذهن عن مضمونها ولأنّه غير متوغل فيها وغير متورط في ملابساتها، ومن هذه الجهة فلو أردنا معرفة ظاهرة معينة يجب أن نكون «عاملين» لا «ناظرين»، يجب أن نتوغل في عمق هذه الظاهرة ونبتلي بها، مثلاً الشخص الذي يعيش مصيبة فقدان ولده، فإنّه يدرك من موقع العمق معنى ألم المصاب بفقدان الولد، فمهما حاولت إظهار مواساتك له ومهما سعيت للوصول إلى اُفق هذه المحنة للشخص المصاب، فلا تستطيع ذلك، يجب أن نبتلي أولاً بهذه المصيبة لكي نفهم ما يعيشه الآخرون من ألم ومعاناة في هذه المحنة، إذاً يجب أن نكون «عاملين» لا «ناظرين»، فلا ينبغي أن أكون «خالي القلب» بل يجب «نبتلي» بتلك الظاهرة.

المقدمة الثانية: إنّ جميع النظم الفلسفية تنظر للإنسان من موقع «فراغ القلب»، وأساساً فإنّ خلق وصياغة نظام فلسفي يعني التعامل مع الإنسان من موقع «فراغ القلب والذهن»، فالنظام الفلسفي لا يعني أنّ بعض هذه النظم صحيح وبعضهم غير صحيح، فبمجرّد أن تتحرك على صعيد صياغة نظام فلسفي فأنت في تلك اللحظة «فارغ القلب والذهن» وبمحض أن تكون فارغ القلب فأنت لا تعرف الإنسان، وجميع النظم الفلسفية تبتلي بهذه المشكلة من افلاطون إلى هيجل، وعلى هذا الأساس فإنّ أول خطوة في هذا الإتجاه، ترك جميع النظم الفلسفية والتوجه لما يصطلح عليه «الإنسان بلحمه ودمه»، إنّ النظم الفلسفية لا تدرس في مطالعتها الإنسان الموجود بلحمه ودمه، بل تبحث عن الإنسان الانتزاعي الموجود في أذهان الفلاسفة، ومن الطبيعي أن يطرح الفلاسفة مسائل فيما يتصل بهذا الإنسان الانتزاعي والذهني.



الأمر الثاني: نفي ذوبان الفرد في الجمهور

والتقابل الثاني، تقابل الفرد مع «الجمهور» أو «تهميش الفرد لصالح الجمهور، وفيه أيضاً مقدمتان.

المقدمة الاُولى: ماذا تعني حالة ذوبان الفرد في الجمهور أو تهميش الفرد؟ أنا وأنتم نعيش في حياتنا وفي كل موقع بما نستوحيه من واقع الحياة وبشكل معلوم لنا، أي نحن نعيش مفهوماً معيناً ونتحرك بمقتضى ذلك المفهوم والمعنى، مثلاً عندما أكون في البيت أقول: أنا أب، ومن هذه الجهة يجب أن أتعامل بوصفي أباً، وعندما أكون في المدرسة والصف أقول أنا معلم، ويجب أن أتحرك من موقع المعلم، أي أتعامل مع الآخرين بما يتوقع من المعلمين، وعندما اُريد شراء شيء من السوق يجب أن أتعامل كمشتري، وعندما اُريد بيع جنس معين، يجب أن أتعامل كبائع، مثلاً هل ذهبتم يوماً للضيافة وتعاملتم مع الآخرين بصفتكم صاحب الدار؟ عندما تكون ضيفاً فينبغي أن تتعامل بما يتوقع من الضيف، إنّ أي جندي لا يتعامل مع الآخرين كمعلم، ولا يتعامل المعلم في الصف كجندي، ومن هذا المنطلق فعندما نعيش أوضاع وحالات معينة فإننا نختزن حمولة معينة، وبعد ذلك نتعامل بمقتضى من يحمل هذه الحمولة والمضمون، فلا يمكنني إطلاقاً كمعلم أن أتحرك في تعاملي مع الطلاب من غير موقع المعلم، نحن لا نتعامل أبداً مع الآخرين بدون مقتضيات هذه الحمولة، أي لا نكون فارغي القلب من مقتضيات الحالة التي نعيشها مع الآخرين، وهذا يعني أننا نعيش دوماً حالة التهميش والشكلية في سلوكياتنا، أي نلصق بأنفسنا عنواناً أو صفة معينة ونتحرك في سلوكياتنا وفق هذا العنوان وتلك الصفة كما هو المتوقع لأصحاب هذا العنوان والصفة، وهذه الحالة في نظر الوجوديين حالة سلبية وسلوك غير صحيح، وهذا يعني تماماً أننا أعرضنا عن ذواتنا وتحركنا لتحقيق شيء لا يمثّلنا ولا ينطلق من ذواتنا الحقيقية، وبعبارة أخرى أننا لا نعيش كما هو حال «ذاتنا» بل نعيش كما يريد منّا الآخرون.

المقدمة الثانية: أننا تدريجياً نتحول إلى جمهور وتذوب ذواتنا في الجماعة، فماذا يعني ذوبان الشخص في الجماعة؟ لنفترض أننا وضعنا على المائدة عدّة أنواع من الأطعمة ولكل واحد منها رائحة خاصة، فبعد مدّة تتلاحم هذه الروائح ويملك كل طعام منها رائحة الجميع ويفقد رائحته الخاصة، وبهذه الصورة يقل اختلاف روائح هذه الأطعمة، ونحن عندما نعيش في حياتنا وبمقتضى العناوين الشكلية، وشيئاً فشيئاً نتخذ صفة تلك العناوين ونبتعد عن ذواتنا، مع أننا عندما جئنا إلى هذه الدنيا في اليوم الأول كنّا نملك رائحة خاصة بنا، والتعبير الادق أنّ كل واحد منّا يملك خصوصية معينة، ولكن تدريجياً ومن خلال الاختلاط مع الآخرين نكتسب لونهم ورائحتهم ونفقد بذلك خصوصياتنا الذاتية، ونصبح بالتالي مجمعاً لألوان شتى فيما ينتقل إلينا منهم، ويطلق على هذه الحالة «الحالة الوسطية»، وبذلك نعيش الحد الوسط لجميع أفراد المجتمع الذي نعيش فيه، وتدريجياً نفقد حالة «التفرد» ونبتلي بالانخراط في حركة التيار والانصهار بالجو العام الذي يحيل الفرد ظلاًّ باهتاً للجماعة، وهو حالة تهميش الذات التي يرفضها الوجوديون.

وعلى ضوء ذلك فعندما يقول الوجوديون: يجب أن تهتم بذاتك كفرد، فهذا يعني أولاً أنّ الفلاسفة لا يمنحونك معرفة صحيحة عن ذاتك وإنسانيتك، وينبغي عليك أن تتعرف على نفسك بنفسك، الثاني: يجب عليك أن تتحرك لتكون ذاتك وأن تصوغ شخصيتك، لا كما يريد منك الآخرون، لأنّ شخصيتك في هذه الحالة ستكون شخصيتك تابعة لهم وتصطبغ بلونهم، وبهذه المضمون نرى من الحق والانصاف أن نعد الكاتب الروسي المعروف «داستيوفسكي» من الفلاسفة الوجوديين رغم أنّه ليس من الوجوديين رسمياً، حيث يؤكد في كتاباته وبخاصة في قصصه التي دوّنها في مرحلة الاختفاء، ويشير فيها إلى هذه النقطة الأساسية وهي لزوم حفظ فرديتك وشخصيتك وعدم الذوبان في الآخرين.

أمّا فيما يقال إنّ الفلاسفة الوجوديين يخطئون النظم الفلسفية لإستخدامها مقاييس العقل في محاكمة الأفكار وعدم الامتداد في العمق الإنساني كما يدعي بذلك بعض أنصار الوجوديين وبالتالي ينتقدون الفلسفة الوجودية من هذه الجهة، فأنا لا أرى ذلك صحيحاً، فالوجوديون لا يقولون لا ينبغي الاستفادة من العقل بل يقولون يجب معرفة حدود العقل، والكثير من الفلاسفة الوجوديين، وعلى رأسهم كارل ياسبرس الفيلسوف الألماني، يؤكدون أننا يجب استخدام عقولنا وأذهاننا في الرياضيات والعلوم التجريبية وفي مجال الاستدلال، ولكن الكلام في أنّ استخدام مقاييس العقل قد لا يكون مجدياً في بعض الحالات ولا ينبغي أن نتحرك في جميع المجالات كما هو الحال في الرياضيات والعلوم التجريبية، فإذا أردنا البحث في المسائل الوجودية للإنسان على غرار مسائل الرياضيات فسوف لا نصل إلى نتيجة ولا نحصل على ثمرة.



2. الاستبطان

المسألة الأخرى المشتركة بين الوجوديين، بحث «الاستبطان»، وفي هذه المسألة يقترب الوجوديون من الفلسفة الظاهراتية لـ «ادموند هوسرل وبرنتانو» وأمثالهما، فالمدرسة الظاهراتية، وإن امتدت بجذورها إلى آراء ونظريات ديكارت الفيلسوف الفرنسي المعروف، ولكنّ هذه الفلسفة تعود إلى ابداع فيلسوفين كبيرين أحدهما «فرانس برنتانو» والآخر «ادموند هوسرل» وكليهما ألمانيان، والمذهب الظاهراتي في الواقع من ابداع هذين الفيلسوفين، ولا أستطيع أن أتحدث هنا بشكل تفصيلي عن المذهب الظاهراتي ولكن اقدّم بعض الأمثلة لبيان التقارب والارتباط بين هذا المذهب والفلسفة الوجودية، وأيضاً من جهة أنّ جميع الفلاسفة بعد كي ير كجورد ـ الذي لا يرتبط بالظاهراتية أبداً، استخدموا المنهج الظاهراتي في اُطروحاتهم وآرائهم.

لنفترض وجود حبل على مقربة منك ولكنك تصورت في لحظة أنّ هذا الحبل ثعبان، ألا تشعر بالخوف حينئذ، طبعاً ستشعر بالخوف وتقوم من مكانك لتهرب وتبتعد عنه، وهكذا تهرب من الحبل الذي تتصور أنّه ثعبان، ولو انعكست الحالة وشاهدت ثعباناً على مقربة منك ولكنك توهمت أنّه قطعة من الحبل، فمن الطبيعي أن لا تشعر بالخوف منه، وهذا يبيّن أننا لا نخاف من الأشياء في واقعها، بل بما يبدو لنا ولأذهاننا من الموجود الخارجي، أي أننا نخاف من كل ما يبدو لنا أنّه ثعبان، وهكذا الحال في جميع الأمور والموارد، فلو كانت القضية صادقة ولكنك تصورت أنّها كاذبة فإنّك لا تصدق بها، والعكس صحيح، فلو كانت القضية كاذبة ولكنك تصورت أنّها صادقة فسوف تصدق بها، إذاً التصديق لا يتعلق واقعاً بالقضية «الصادقة»، بل بالقضية التي يبدو لنا أنّها صادقة.

مثال آخر: لو كان الشخص مخلصاً لوطنه ولكنّك تصورت أنّه خائن للوطن، فسوف تعاديه وتغضب منه، وإذا كان الشخص في الواقع خائناً لوطنه ولكنك تصورت أنّه مخلص وخادم للوطنه فإنك تعتبره صديقاً وتحبّه، إذاً فنحن لا نتواصل ولا نتعامل مع المخلص والخادم الواقعي بل نتعامل مع ما نتصور أنّه خادم ومخلص، وهذا يعني أنّه ربّما يكون الإنسان مخلصاً في الواقع ولكنّنا نبغضه لأنّنا نتصور أنّه خائن، وكم من الخائنين في الواقع يكونون محبوبين في نظر الناس لأنّهم يتصورون أنّهم مخلصين، فالظاهراتية بلغة بسيطة تعني أنّ حالات الحبّ والبغض والأمل والخوف التي نعيشها في واقعنا النفساني لا تتعلق بالأمور الواقعية أساساً، بل بما يبدو لنا من الأشياء وما يظهر لنا منها، فلو ظننت أنك فقدت مالك، ولكنك في الواقع لم تفقدها، فسوف تتألم من ذلك، ولو أنّك فقدت مالك واقعاً ولكنّك لم تكن تعلم بأنّك فقدت مالك فسوف لا تتألم، ومن هذه المنطلق فإنّ الفقدان الواقعي للمال لا يؤلمك بقدر ما يؤلمك شعورك وتصورك بفقدان المال، وتؤكد ظاهراتية برنتانو وهوسرل على هذا الأمر، وهو أنّ جميع الأمور تحدث بهذه الصورة، وأنّه لا يوجد شيء في واقعه يتسبب في حالات الحب، والبغض، والأمل، والخوف، والقلق وما إلى ذلك، بل من جهة ما يبدو لنا من الأشياء، إذاً فنحن في الواقع لا نعرف الآخرين بما هم عليه، بل بما يظهر لنا منهم، فلكل موجود، وجود «واقعي» لا يتعلق به علمنا، وله «ظاهر» وهو المتعلق لعلمنا ومعرفتنا، ولكن علمي بذاتي ليس كذلك، لأنّ «الوجود» و«الظاهر» يتطابقان تماماً، إذاً تعاملي مع ذاتي يختلف عن تعاملي مع الآخرين، لأنني لا أعرف الآخرين إلاّ من خلال «ما يظهر لي منهم»، ولكن علمي بذاتي يتعلق بوجودي الواقعي.

ومن هذه الجهة فإنني أملك نوعاً من المعرفة بذاتي، ونوعاً آخر من المعرفة بالآخرين، وذلك يستلزم أولاً: أنّ هذه الرؤية مؤثرة في مجال الحكم على الآخرين وتقييمهم، وثانياً: مؤثرة في باب كيفية إيجاد علاقة وارتباط مع الآخرين، فمثل هذه الرؤية موثرة في كلا الموردين، بحيث نرى أنّ الفلاسفة الوجوديين بعد كي ير كجورد وبخاصة الفيلسوف الألماني هيدجر، استفاد بشكل واسع من هذا المفهوم، والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر وصديقته السيدة سيمون دوبوار استفادا من هذا المعنى في كتاباتهم وأعمالهم الأدبية، ولاسيما في مجال بيان مفهوم «العشق» و«الكراهية»، ففي الواقع أنّ العاشق، ليس عاشقاً للمعشوق بل عاشقاً لرؤية خاصة عن معشوقه، والشخص الذي يبغض شخصاً آخر فإنّه لا يبغضه في واقع الأمر بل يبغض رؤية خاصة عنه، وبما صاغه في ذهنه من الطرف الآخر، وقد تعمق جان بول سارتر، وأكثر منه السيدة سيمون دوبوار في هذين المفهومين.

أمّا كي ير كجورد فلم يبحث في مجال الظاهراتية، ولكنّه في الواقع توصل إليها من طريق آخر، وذلك أولاً: من طريقة نقده للفيلسوف الألماني المعروف هيجل، وثانياً: من خلال ميله للمذهب البروتستانتي، لأنّ المذهب البروتستانتي يؤكد على فردية الإنسان وعدم إمكانية معرفة الناس، ومن هذا الطريق توصل كي ير كجورد إلى هذا المعنى، ولكن الآخرين استفادوا من آليات الفلسفة الظاهراتية في تشخيصهم لهذه الحقيقة.

وهنا أود أن أُشير إلى هذه النقطة، وهي إمكانية نقد هذه الرؤية، فجميع هذه الأمثلة صحيحة، ولكن مع ذلك لم يثبت المطلوب لحدّ الآن بسبب أنّنا ربّما لا نخاف من الحية الواقعية بل نخاف ممّا ظهر لنا بشكل حية، ولكن هل هذا الكلام يصدق أيضاً في مورد العطش؟ هل أنني أرتوي من الماء الواقعي أو ما يبدو لي أنّه ماء؟ ولو أردنا التحدّث بلسان العرف فسوف نواجه مشكلة في هذا المورد، ولا اُريد القول إنّ كلام المذهب الظاهراتي باطل، ولكن على الأقل لا يمكن إثباته بيسر وسهولة، وعلى أية حال فالفلاسفة الوجوديون استفادوا بشكل واسع من هذه الرؤية الظاهراتية والتي يعبّر عنها بالاستبطان([1])، أي أنّ الإنسان يبقى في إطار ذاته ولا أحد بإمكانه اخراجه من هذا الإطار وكشفه على الملأ، فكل إنسان يبقى خافياً عن الآخرين في إطار ذاته.



3. عبثية العالم

الأمر الآخر الذي يؤكد عليه الوجوديون، أنّ «العالم عبثي»، وقد طرح هيدجر ذات السؤال الذي طرحه الفيلسوف الألماني «لايب نيتس» سابقاً، وأدخله في ميدان الفلسفة الوجودية، وهو: لماذا يوجد الشيء؟ لماذا لم يكن ذلك الشيء أو الأشياء غير موجودة؟ لابدّ من وجود سبب لـ «وجود» الأشياء وخروجها من «العدم»، أي لماذا الآن توجد حالة بأن تكون الأشياء موجودة؟ «وربّما يقول شخص برؤية عرفانية أنّ «الشيء» موجود، وربّما يقول شخص آخر: كلا، فثمة «أشياء» موجودة، وقد طرح لايب نيتس أول مرّة هذا السؤال، وهو: ما هو المرجح ليكون الوجود غالباً على العدم؟ وبما أنّ لايب نيتس كان موحداً فكان يجيب عن هذا السؤال أنّ الشي موجود مسبقاً، وهذا هو البرهان المعروف في مجال إثبات وجود الله من خلال وجود العالم ومعرفته، فيقال: بما أنّ الله موجود، وعندما يكون موجوداً لا يمكن أن يكون العالم عدماً في عدم، ومن الطبيعي أن توجد «الأشياء»، ولكن بما أنّ هيدجر كان ملحداً، فإنّه لا يستطيع قبول هذا الجواب، ولم يكن هناك جواب آخر أيضاً، ومن هذه الجهة طرح مفهوم «Absurdity» بمعنى خواء العالم وعبثيته، فلا يوجد أي دليل على أنّ العالم موجود، ولا يمكن إقامة دليل على وجود العالم، والقول بأنّ العالم موجود، .مضافاً إلى عدم إمكانية إقامة الدليل على أصل وجود العالم، لا يمكن إقامة الدليل على كيفية وجوده، فمرّة نتحدّث عن لماذا الشيء موجود، ومرّة أخرى نتحدّث عن لماذا توجد الأشياء بالكيفية الموجودة الآن؟ ولماذا لم توجد بشكل آخر؟ وهذا السؤال لم يكن مطروحاً بالنسبة لكي ير كجورد، إن هيدجر هو الذي طرح هذا السؤال وقال: إنّ الأشياء لا تملك أي دليل على أصل وجودها ولا على الكيفية التي توجد فيها، والآن إذا أراد شخص أن يواجه العالم بمثل هذه الرؤية التي طرحها هيدجر، فمن الطبيعي أن يشعر بحالات روحية خاصة، وعلى حد قول هيدجر حالة «الحيرة» أو «الضياع»، والحالة الأخرى، «القلق»، وكل إنسان يدرك عبثية العالم يصاب بهاتين الحالتين.

ولكن النقطة المهمة هي، بالرغم من أنّ عبثية العالم بالنسبة لهيدجر والوجوديين تبعث على الحيرة والقلق، ولكن مع ذلك فعبثية العالم أمر مطلوب، وذلك لأنّه لو كان لوجود العالم أو كيفية وجوده دليل، فسوف نفقد «حريتنا» واختيارنا، ومن هذا المنطلق فرغم عبثية العالم وما يتسبب ذلك من حالات الحيرة والقلق في نفوسنا، ولكن هذا المعنى يمنحنا الاختيار والحرية، ويعتقد هؤلاء الوجوديون أنّ كل شيء عندما يملك دليلاً على وجوده أو على كيفية وجوده فسوف يسلب منّا الحرية والاختيار، ولكن العالم عندما يكون عبثياً وبدون دليل، فذلك يفسح لنا المجال والميدان بأن نتحرك بحرية وتنفتح على الحياة بعيداً عن المفاهيم الميتافيزيقية التي تكبل الإنسان وتشل فيه إرادة المواجهة.

وهذه المقولة في نظري غير صحيحة، ليست فقط في نظري بل في نظر الكثير من المنتقدين للفلسفة الوجودية، فوجود سبب وعلة للأشياء لا يؤدي لجبر الإنسان أبداً، ولكن هذا ما يعتقده هؤلاء الوجوديون، وبما أنّهم يعتقدون بهذا المفهوم فهم من جهة يعيشون الحيوية والنشاط بما يتصورونه من عبثية العالم وجميع الموجودات.

وهذا التصور لدى الوجوديين، كما ذكر ذلك أحد شرّاح هذه الفلسفة، يبتني على هذا الأصل، وهو عندما يدخل الإنسان حانوتاً ويجد فيه كل شيء مرتباً ومنظماً ومحسوباً، فهذا يعني تكبيل الحركة والقدرة على التصرف، ولكن إذا دخل حانوتاً لا يوجد من يسأل منه ماذا أخذت بيدك من بضاعة، هل دفعت ثمنها أم لا؟ فإنّه حرّ، ومن هذه الجهة فالعالم إذا كان عبثياً، فأنا حرّ، ولكن إذا كانت لكل شيء علة وسبب فسوف أكون منفعلاً وأفقد بذلك حريتي واختياري.



4. الحرية واختيار الإنسان

وهذه النقطة تقودنا إلى مسألة رابعة، ولعلها من أهم المسائل التي يتفق عليها الوجوديون، وهي مسألة حرية الإنسان واختياره، فلا يوجد مذهب وفلسفة تؤكد وتهتم على حرية الإنسان واختياره كالفلسفة الوجودية، وينقل عن سارتر أنّ الشخص الذي يولد مشلولاً، ولم يكسب السباق في مسابقة العَدو فهو مقصر، وهذا في الواقع يبيّن الحرية اللامتناهية التي يعتقد بها سارتر للإنسان، أي أنّ الإنسان يستطيع في الواقع أن يوفّر مقتضيات الإزدهار في حياته أعلى ممّا هو متوفّر له ويستطيع أن يعمل أعمالاً يسحق فيها قوانين الطبيعة الثابتة ولا يعتني بها، وبالنسبة لحرية الإنسان واختياره ثمة ثلاث نقاط أساسية مشتركة بين الفلاسفة الوجوديين، وهذه النقاط الثلاثة مترابطة، وخاصة النقطة الاُولى والثانية:



أ) إنّ جميع أفراد البشر مجبورون على الحرية

أول نقطة هي أنّ أي إنسان لا مفرّ أمامه سوى «الاختيار»، فعقلي وعقلك يحكمان بأننا أحياناً لا نملك الحرية والاختيار، ولكن الوجوديين يؤكدون أننا عندما لا نختار فإنّ هذا بذاته يعدّ اختياراً، فعندما نقرر عدم اختيار هذا المورد أو ذاك فحسب الظاهر إننا لم نختر أيّاً منهما، وهذا بدوره اختيار أيضاً، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نختار أي شيء سوى عدم الاختيار، وبإمكاننا التملص من كل شيء سوى الاختيار، ونحن بإمكاننا عمل أي شيء ولكننا في مجال الاختيار لا نستطيع شيئاً، ومن هذه الجهة فالاختيار في واقع الأمر «لابدّ منه» ولا أحد من أفراد البشر وفي أي لحظة من عمره يستطيع القول إنني في هذه اللحظة لا أملك اختياراً، فالإنسان يتحرك دائماً في خط الاختيار، أي أنّ الاختيار موجود في كل مورد حتى في أصغر الأعمال.



ب) لا يوجد أي اختيار يبتني على دليل وأساس عقلي

النقطة الثانية، أننا في ذات الوقت الذي نختار فيه أي شيء فلا ينبغي أن نتصور أنّ هذا الاختيار ينطلق من خلفيات عقلية وبرهانية، إذن فاختيارنا لا يملك دليلاً عقلياً، وفي نظرنا أنّ أي شخص يقوم باختيار أي شيء، سواءً في اختياره لنوع الحذاء أوالشغل أو الدين و... الخ، فإنّه يملك ملاكات وعوامل، ولكن الوجوديين يقولون إنّ تلك الملاكات تقع في دائرة اختيارنا، فنحن نقوم باختيار تلك الملاكات والمعايير، فلو قلتم إنّ اختيارنا لتلك الملاكات يقوم على أساس معين، فيقولون إنّ ذلك الأساس للملاكات بدوره يقع في دائرة الاختيار، وفي الواقع أنّ جميع أعمالنا تتم من خلال اختيارنا، فلو قال أحد: إنني أتناول هذا القدح من الماء لأروي عطشي، فنفس هذا الارواء للعطش هو اختيار لك، رغم أنّه يبدو بحسب الظاهر أمراً تكوينياً، وعلى هذا الأساس لا يوجد أي مبني عقلي لأعمال الإنسان وسلوكياته، وبعبارة أخرى إذا قال شخص: إنني اُقدم الدليل على عملي، فإنّ دليله هذا هو ما اختاره لنفسه من دليل، وبالتالي فإنّ الملاك والدليل أيضاً اختياري، ولا يمكنك القول إنني أنظر للعالم بشكل حيادي وأستوحي الملاكات وأقوم على أساسها بعملية الاختيار.

وفي الواقع إنّ الوجوديين يعتقدون بأنّك لم تعرف شيئاً، وأنّك تختار ما يرغب فيه قلبك، وحتى الملاكات والأدلة تختارها أنت، وعلى أساسها تقوم باختيار أمور أخرى، وهنا تختلف مقولات جان بول سارتر، عن كي ير كجورد، فكي ير كجورد يقول إنّ أي لحظة من لحظات حياتنا لا تخلو من اختيار، وهذا الاختيار الرئيسي يمهد الأرضية لكافة الاختيارات الأخرى، ولكن سارتر لا يقول بذلك، بل يقول إنّك في كل رمشة عين تقوم باختيار مستقل، وهذان الأمران مختلفان كثيراً، حيث يعتقد كي ير كجورد أنّ كل إنسان يمكنه أن يعيش في ثلاث مراحل:

1. المرحلة الاُولى: العلم «الجمالي»، والأشخاص الذين يعيشون هذه المرحلة هم الأشخاص الذين يتحركون في كل عمل لغرض كسب اللذة منه، ومن هذه الجهة فإنّ أي عمل من أعمالهم غير قابل للاستدلال إلاّ من خلال إعادته إلى أصل اللذة، فلو أنّه تحرك لكسب المال، فمن أجل أنّ المال يمنحه اللذة، وهكذا إذا تحرك نحو الشهرة وكسب المحبوبية، والقدرة وما إلى ذلك، فكلها تهدف لكسب اللذة.

2. المرحلة الثانية: يطلق عليها بـ «المرحلة الأخلاقية» وفيها لا يعيش الإنسان على أساس كسب اللذة، بل يختار أصلاً أو عدة أصول أخلاقية ويقول: ينبغي أنّ أعيش بشكل أحترم فيه هذه الأصول ولا أسحقها، وبالتالي يشعر أنّ حياته تمثّل مجموعة من هذه الأصول المترابطة، وطبعاً فإنّه يعيش الاحترام لهذه الأصول، سواءً اكتسب اللذة أم لا، وسواءً حصل على السرور أو الحزن، فليس مهماً له، والآن ربّما يختار شخص هذا الأصل وهو «أن أعيش وأسلك في حياتي بحيث أرغب في أن يتعامل معي الآخرون بهذه الصورة» أو «أن أعيش بحيث اُخرج جميع قابلياتي وملكاتي الباطنية» وفي نظر كي ير كجورد إذا عاش الشخص هذه الحالة فربّما لا يشعر بالآلام البدنية التي يعيشها الآخرون، يعني إذا أصابني الألم الذي أصاب الآخرين فمع ذلك أشعر بأنني عندما أتحمل هذا الألم فإنني أحفظ تلك الأصول الأخلاقية ولا أقوم بسحقها، فنفس هذا الألم لا يمثّل مصدر ألم لي أبداً، أو هو ألم قليل، فالشخص الذي يعيش ألم عدم النوم، فإنّه يتألم بسبب أنّ عدم النوم لا معنى له، ولكن إذا كان الشخص يدرك معنى لعدم نومه، أي يقول إنني لا أنام لكي أصل إلى الهدف الفلاني، فهذا المعنى لعدم النوم يقلل من ألم السهر، والشخص الذي يتلقى صفعات وركلات، ولكن يشعر أنّ هذه الصفعات والركلات من أجل حفظ أحد أصوله الأخلاقية فإنّه يشعر بالألم أقل من الشخص الذي يتلقى الضرب بدون معنى، هذه الأصول يضعها الشخص بنفسه لنفسه ولا أحد غيره يستطيع وضع هذه الأصول الأخلاقية له إلاّ فيما لو كانت هذه الأصول مترسخة في روحه وواقعه النفساني، وإلاّ فإنّ الشخص الذي لا يعتقد بأصل أخلاقي لا يضحي بنفسه لأي أصل أخلاقي يتلقاه من الآخرين.

3. المرحلة الثالثة: «المرحلة الدينية» والإنسان في هذه المرحلة لا يتحرك على صعيد مراعاة القوانين الأخلاقية، بل يعيش الامتثال لأوامر الله، وهنا يوجد شيء يمنح لحياة الإنسان معنى، لأنّ ذلك الموجود الذي يطلق عليه اسم «الله» يشعر بالرضا من حياتنا ويشعر بالغبطة لما نعيشه في حياتنا.

إنّ الحياة الدينية «المرحلة الثالثة»، تختلف من جهات مع الحياة الأخلاقية «المرحلة الثانية»، أحدها: عندما نعيش الالتزم بالأصول الأخلاقية، وأنّ الإنسان نفسه هو الذي وضع تلك الأصول: فهو في الواقع يأمر نفسه على نفسه، أمّا في المرحلة الدينية فلسنا نحن الحاكمين على أنفسنا، بل هناك موجود آخر يسمى «الله» أو «الروح الكونية» أو ما أشبه ذلك، هو الذي يحكم علينا.

والتفاوت الآخر: إننا عندما نعيش المرحلة الدينية فلا يبعد أنّ الله يأمرنا أن نسلك خلاف الأخلاق، ولكن في المرحلة الأخلاقية لا يمكن أن نقبل بأي أمر يخالف أصولنا الأخلاقية، وفي المرحلة الدينية ربّما نستقبل الحكم المخالف للأخلاق بانفتاح وانشراح، مثلاً في قصة النبي إبراهيم(عليه السلام) والتضحية بابنه إسماعيل(عليه السلام) فالنبي إبراهيم كان يعيش المرحلة الدينية، لأنّ الأمر الإلهي في قتل اسماعيل مخالف للأخلاق، سواءً من جهة الأب أو من جهة الابن، فمن جهة فإنّ النبي إبراهيم(عليه السلام) كان بإمكانه القول: ألا يوجد طريق آخر للوصول إلى الله إلاّ من خلال سحق أشدّ العواطف الإنسانية، وهي الحبّ والعاطفة الشديدة للابن؟ وثانياً: أنني اُريد أن اتقرب منك «الله» فلماذا أقتل شخصاً آخر؟ فلو قلت: اُقتل نفسك، فربّما كان ذلك معقولاً «مع غض النظر عن الإشكال الأوّل» ولكن أن أقوم بقتل شخص آخر فهو خلاف الأخلاق، ومن جهة الابن فإنّ هذا العمل مخالف للأخلاق أيضاً، أي أنّ اسماعيل أو اسحاق «حسب الخلاف بين تراث اليهود والإسلام» بإمكانه أن يعترض ويقول: إلهي، بأي ذنب تأمر بقتلي؟ فأنا بريء وذنبي فقط يتمثّل في أنّ أبي يطلب لقاء الله، فلو كان لدي أب لا يعيش هذه الرغبة بلقاء الله فسوف أبقى حياً، ومن هذه الجهة فهذا العمل خلاف الأخلاق، يقول كي ير كجورد، لا إبراهيم ولا إسماعيل اعترض على الله، لأنّ أي واحد منهما لا يعيش المرحلة الأخلاقية، كلاهما يعيشان المرحلة الدينية، والشخص الذي يعيش المرحلة الدينية فإنّ المهم لديه رضا الله سواءً اقترن ذلك بحفظ الأصول الأخلاقية أم سحقها.

هذه المراحل الثلاثة المذكورة أعلاه مترتبة حسب نظر كي يركجورد، فالأولى هي مرحلة العلم الجمالي، وبعدها المرحلة الأخلاقية، والمرحلة الثالثة هي المرحلة الدينية، وفي المرحلة الاُولى فإنّ «اللذة» هي الحاكمة، وفي المرحلة الثانية «الانضباط» والمرحلة الثالثة «العشق».

والآن أنا الذي «اختار» في أي مرحلة من هذه المراحل الثالث أعيش، وعندما أقبل بأي واحدة منها فإنني أرفض قبول الأعمال التي تنضوي في المرحلتين الاُولتين باختياري، بل إنني أختار أي عمل بنحو من الأنحاء، من هذه الجهة يختلف جان بول سارتر عن كي ير كجورد، فسارتر يقول: ليس فقط أننا نختار المرحلة، بل إنّ كل عمل نعمله ينطوي فيه عنصر الاختيار.



ج) أعمال الإنسان لا تخضع لنظام العليّة

النقطة الثالثة: والمشكوك فيها، هي أنّ الوجوديين يقولون إنّ أعمال الإنسان لا تخضع لأي علة ولا تنضوي تحت نظام العلّة والمعلول، لأنّه لو كانت ثمة علّة فلا معنى لاختيارنا، فإمّا نقبل بأصل العليّة، وفي هذه الصورة نفقد اختيارنا، أو نقبل بالاختيار وبالتالي نقول إنّ أصل العليّة على الأقل مستثنى في مورد الإنسان، ولا يسري على أفراد البشر، ومن هذه الجهة فإنّ جميع الوجوديين بعد كي ير كجورد يذهبون إلى أنّ أصل العليّة صادق في جميع الموارد باستثناء ما يتعلق بالإنسان، وفي الواقع ثمة مسبقة في هذا المورد وهي أنّ كل شخص يقبل أصل العليّة فإنّه يقول بالجبر في مورد الإنسان، في حين أنني أعتقد عدم وجود أي ملازمة بين هذين الأمرين، ويمكن القبول بأصل العلية في سلوكيات الإنسان وفي ذات الوقت لا يكون الإنسان مجبوراً، وهذه المسألة مورد اتفاق الوجوديين، رغم أنّهم يختلفون في تقريرها ورؤيتها.



5. الأوضاع والأحوال: حديّة أو استثنائية

المسألة التالية، ما يطلق عليه «الأوضاع والأحوال الحديّة» أو «الأوضاع والأحوال الاستثنائية» والتي يؤكد عليها الوجوديون، فهم يعتقدون بأنّ الإنسان عندما يعيش حياته في إطارها الطبيعي فهذا يعني عدم وجود أي أمر استثنائي في حياته، فنحن نأكل ونشرب وننام و... الخ ولا توجد أي حادثة استثنائية، وعدم وقوع حادثة استثنائية يعني أننا لا نعرف ذواتنا، ومن أجل أن نعرف ذواتنا يجب أن تقع في حياتنا حادثة استثنائية، وهذه الحوادث الاستثنائية هي التي تعرفنا على ذواتنا، وتوضيح ذلك أنّ الحياة اليومية ترسخ في ذواتنا ثلاث خصوصيات:

الاُولى: أننا في حياتنا اليومية نعيش حالة «الذوبان في الجماعة»، ونتلون بلون الجماعة، فنحن عادة نتزوج كما يتزوج الآخرون ونأكل وننام و... كالآخرين.

الخصوصية الثانية: نحن في حياتنا اليومية نشعر بالراحة في التلون بلون الجماعة، ومن هذه الجهة عندما يعيش الإنسان في حياته اليومية لوحده فإنّه يشعر بالقلق، وهذا الشعور بالقلق والاضطراب ناتج من عدم انخراطه في الجماعة، ومن هذه الجهة نشعر بالأمن عندما نعيش مع الآخرين ونكون مثلهم، فنحن نقوم بالأعمال التي يقوم بها الآخرون، لأننا نتصور أننا شركاء في المصير مع الآخرين، ولذلك نشعر بالأمن في أعمالنا المماثلة لأعمالهم.

الخصوصية الثالثة: بما أننا نعيش مثل الآخرين في حياتنا اليومية، فإننا لا نعرف ذواتنا أبداً، ونبتلي بخداع «الذات» لأنّ الإنسان إنّما يعرف نفسه فيما إذا اختلف عن الآخرين «تعرف الأشياء بأضدادها» أو «تعرف الأشياء بأغيارها» فأنت لا تتعرّف على كرسي معين إلاّ إذا كان يختلف عن الكراسي الأخرى، وبذلك ندرك أنّ هذا الكرسي أجمل، وأنّ الكرسي الآخر أقوى وأكثر دواماً، ولكن بما أنّ الحياة اليومية تستلزم أن نعيش بلون الجماعة، فتدريجياً سنكون مثلهم وبالتالي لا نعرف ذواتنا، نعم، ربّما تحصل لدينا معرفة معينة ولكنّها معرفة متوسطة، وفي الواقع أنّها معرفة لجميع الأفراد، وبالتالي فهي معرفة ناقصة، فنحن بداية جعلنا أنفسنا مثل سائر الأفراد ثم قمنا بمعرفة العنصر المشترك والمشاع بين جميع الأفراد.

ويعتقد الوجوديون أنّ الحياة اليومية تتسم بهذه الخصوصيات الثلاث، ولو أردنا معرفة ذواتنا فيجب أن تحدث لنا حادثة استثنائية في حياتنا، ومن خلال مواجهتنا لتلك الحادثة الاستثنائية نعرف ذواتنا فيما نراه من ردّة فعلنا، نحن نجلس في هذا المكان ويبدو أننا متماثلون، ولكن يكفي أن تحدث زلزلة مثلاً ليتبيّن الإنسان الجبان والإنسان الشجاع، والإنسان الذي يفكر بنفسه عن الإنسان الذي يفكر بغيره، ولكن في الحياة اليومية وبما أننا نعيش وضعية متماثلة فلا تتبيّن خصوصيات الأفراد.

إنّ الأوضاع الحدّية أو الاستثنائية، هي الأوضاع التي تعرفنا على ذواتنا، وتخرجنا عن سياق حياتنا اليومية، وهذه المسألة مورد قبول جميع الوجوديين، ولكنهم تحدّثوا عنها بتعابير مختلفة وقسموها إلى أقسام متنوعة:

يقول كي ير كجورد: إنّ أهم الأوضاع الاستثنائية، الشعور بالحزن الذي لا يعرف الإنسان سببه، نحن في حياتنا عندما نشعر بالحزن فعادة ندرك سببه، قليلاً أم كثيراً، يقول كي ير كجورد: أحياناً تعرض حالة في حياة الشخص يشعر فيها بالحزن ولا يدرك سببه مهما تمعن في ذلك، ويرى كي ير كجورد، أنّ هذا الحزن أو بتعبير الوجوديين «القلق» يمثّل «المعصية الاُولى»، ولا نبحث هنا في صحة أو سقم هذا الكلام، ولكن كي ير كجورد يقول: إنّ هذا الحزن هو أحد الأوضاع الحدّية والحالات الاستثنائية، وهيدجر يقبل بهذه الحالة من الحزن، ويقول: نحن نعيش بعض أشكال الحزن والغم بدون سبب حسب الظاهر، ولكن هذا لا يعني أنّ هذا الحزن بسبب المعصية الاُولى، بل إنّه مقتضى ماهية هذا العالم وهذه الحياة، فالعالم صنع بهذه الصورة بحيث إنّ الإنسان يستشعر بالحزن والغم، وكأنّ العالم لا يتسق مع وجودنا وليس من سنخنا، وبذلك يشعر كل شخص بالحزن في هذا العالم، أمّا جان بول سارتر فيرى أنّ هذا الحزن بسبب أننا لا نعلم بمستقبلنا ولا نعلم بما سيقع علينا.

ويطلق على مجموعة هذه الأوضاع والأحوال التي نتعرف فيها على أنفسنا، أنّها أوضاع وأحوال استثنائية أو حديّة، وفقط ياسبرس له تعبير خاص يختلف عن سائر الوجوديين، ويطلق عليها «المواقع الحدودية» ويعتقد أنّ هذه المواقع أربعة لا أكثر، أحدها «الشعور بالاقتراب من الموت» فعندما يشعر الإنسان بمثل هذه الحالة تتجلى ذاته لنفسه ويتعرّف عليها أفضل وكذلك يتعرف على الآخرين، والآخر «الشعور بالذنب»، فعندما يشعر الإنسان بهذه الحالة يتعرّف أكثر على ذاته الواقعية، والحالة الثالثة «الأمل» حيث يقول: إننا نتعرّف على ذواتنا في حال «اليأس» والاخفاق، وذلك من خلال ردّة الفعل التي نقوم بها في حالات اليأس، والرابعة يطلق عليها القلق.

ويقول هيدجر: إنّ المواقع الحدودية تقتصر فقط على حالة الاقتراب من الموت، فالأشخاص الذين لا يفكرون بموتهم، لا يعرفون ذواتهم أبداً، ولو أردتم معرفة ذواتكم فانظروا إلى الأوضاع والأحوال التي يعيشها الإنسان على مقربة من الموت.

ومن هذه الجهة يعتقد بعض الوجوديين مثل ياسبرس وهيدجر بأنّ الاشتراك في جبهات القتال نافع لمعرفة الإنسان لذاته، ففي تلك المواقع يرى الإنسان نفسه كالحلاج، وجاء في القرآن الكريم ما يؤيد هذا المعنى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ...)([2])، وهنا لا أروم نسبة هذا المعنى للقرآن ولكن القرآن يقول للمسلمين: لماذا لا تتوجهون لجبهات القتال لتتفقهوا في الدين، وقد بحث المفسّرون في هذا الآية ما يتصل بالتفقه في الدين من خلال المشاركة في جبهات القتال، وهذا المعنى يقترب كثيراً ممّا يقوله الوجوديون، فعندما يجد الإنسان نفسه على مقربة من الموت، فربّما يشعر بوجود الله أكثر، ويحس بضعفه وعجزه واعتصامه وتوكله على الله.

والكثير من الوجوديين يطلق مصطلح المواقع الحدودية على حالات أخرى، مثلاً «العشق» بوصفه أحد هذه المواقع، فالإنسان عندما يكون عاشقاً فإنّه يعرف الله بشكل أفضل ممّا لو كان خالي القلب، وبعضهم يؤكد على حالة «اليأس»، والفيلسوف الوجودي الاسباني «انامونو» يؤكد في مسألة المواقع الحدودية على على الموت أحياناً، وأحياناً أخرى على «العشق».



6. انتقال الخطاب للآخرين

أمّا النقطة الأخرى التي وقعت مورد تأكيد الوجوديين، هي: كيف نوصل خطابنا للآخرين؟ والإنسان لو لم يكن وجودياً فربّما يستطيع تأليف كتاب ويبيّن آراءه فيه، حاله حال سائر الفلاسفة في المدارس الفلسفية الأخرى الذين يؤلفون الكتب ويستدلون على آرائهم لاقناع الآخرين، والوجوديون الذين لا يعتقدون بالاستدلال الفلسفي «وهيدجر فقط من بين الوجوديين أوجد نظاماً فلسفياً» فيواجهون مشكلة في هذا المورد، والآن عندما يقول الوجوديون أنّ كل شخص يجب أن يعرف نفسه، فما هو الخطاب الذي يمكنك أن تقول له؟ وعلى حدّ تعبير كي ير كجورد لو أتيت بدليل وأردت من المخاطب أن يقبل بدليلك، فما هو السبب الذي يقوده للقبول بدليلك؟ عندما يقبل بالدليل فإنّه يقبل الصغرى والكبرى في عملية الاستدلال، وهذا القبول بالصغرى والكبرى كما يعتقد كي ير كجورد يمثّل بذاته نوعاً من «الاختيار»، فيمكنه أن يختاره أو يتركه، وعلى هذا الأساس كيف يمكنك أن تطرح دليلاً لإقناع الآخرين؟ لأنّه بإمكانه أن لا يقبل الدليل، وبما أنّك وجودي فأنت تقول له: إنّ قبولك بالدليل تابع لاختيارك، ومن هذه الجهة فالطريق للاستدلال موصد حسب الظاهر، وهنا «باستثناء هيدجر» يقترح الوجوديون منهجين أو طريقين وبضميمة منهج هيدجر تكون لدينا ثلاثة مناهج مقترحة:

الطريقة الاُولى: وهي الطريقة التي اختارها كي ير كجورد وتبعه على ذلك آخرون، وهي أننا نستدل للآخرين بهذه الصورة، وهي أنّك أيّها المخاطب إذا قبلت بهذه المقدمة وتلك المقدمة، فينبغي أن تعلم بأنّ قبولك هذه المقدمة ينتج النتيجة الفلانية، فعملنا هو الاشارة والتنبيه إلى أنّ الشخص إذا قبل بتلك المقدمات فسوف تنتج هذه النتيجة، ولكن بما أنّ قبوله للمقدمات تابع لاختياره، فلا يمكن القول إننا قد أثبتنا لك النتيجة الفلانية، لأنّ الطرف الآخر يقول: إنّما يمكن إثبات المسألة الفلانية فيما لو قبلت بالمقدمات، والحال أنني لا أقبل مثلاً بالمقدمة الاُولى، ومن هذه الجهة يقول كي ير كجورد في كتبه أنّ هذه النقطة تمثّل نقطة البداية في حركتنا لإفهام الآخرين، بمعنى أنّ عملنا هو عرض مقدمات الدليل، فكل من يقبل بهذه المقدمات فإنّها تنتج النتيجة الفلانية، والشخص الذي لا يقبل بتلك المقدمات فعدم قبوله لا يؤدي إلى مشكلة، وقد سلك كي ير كجورد طريقاً آخر مختصاً به، وذلك أنّه كان لا يكتب اسمه في حياته على كتبه حتى لا يقول شخص أنّك متناقض، فأنت تقول في كتابك الفلاني بكذا وكذا، وبينما تقول في كتابك الآخر رأياً مخالفاً، ولذلك كان يكتب كتبه بأسماء مختلفة، وطبعاً كان يعرض آراء مختلفة كثيرة في كتبه، والشخص الذي يقبل بالمقدمات المذكورة فإنّه يحصل على نتائج معينة، وإذا قبل بالمقدمات الأخرى المذكورة في كتاب آخر فيحصل على نتائج أخرى، ولا أحد غير كي ير كجورد سلك هذا المسلك.

الطريقة الثانية: والتي سلكها غالبية الوجوديين الفرنسيين، وهي أننا أساساً لا نقوم بعملية استدلال، بل نبيّن آراءنا من خلال القصة والمسرحية وغيرها، وخصوصية القصّة أنّها لا تتضمن عملية استدلال، ولكن المؤلف يجعل من بطل القصّة في حالة بحيث يشعر القارىء أنّ كل شخص يواجه مثل هذه الحالة فإنّه سيسلك هذه الطريقة ويقوم بذلك العمل، والأشخاص من قبيل سيمون دوبوار أو جان بول سارتر كانوا مجدين في مسألة تأليف القصص والمسرحيات لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ كل شخص وجودي يجب أن يتحرك على هذا المستوى ويوحون للطرف المقابل أنّك ربّما واجهت في حياتك هذه الحالة، وعندما تواجه هذه الحالة فسوف تختار ما يختاره أبطال هذه القصّة، أي أنّ الشخصيات في القصّة ليسوا على خطأ في عملهم، وبالتالي يمكننا أن لا نقبل بعملهم، ولكن عندما أحصل على تصوير وتمثيل للواقعة فذلك من شأنه أن يكون نافعاً أكثر.

الطريقة الثالثة: وليس هناك طريقة أخرى سوى طريقة هيدجر، وهيدجر لا يرى نفسه من الفلاسفة الوجوديين بمعنى من المعاني، من جهة أنّه يقبل ما رفضه سائر الفلاسفة الوجوديين، وهو: بناء نظام فلسفي.



توصيات الفلسفة الوجودية

وإذا أردنا الحديث عن الوجودية بشكل عام، فيمكن القول إنّ الفلسفة الوجودية، اتجاه يتضمن ثلاث توصيات مهمة:

1. «كن ذاتك».

2. «اهتم بذاتك».

3. «اعرف ذاتك».

وكل شخص يجد في نفسه هذه الميول الثلاثة فيمكن القول بأنّة وجودي.

أمّا «كن ذاتك» يعني لنفترض أننا نعيش في فراغ وخلأ، فهناك لا تأكل الطعام الذي لا تحبّه، ولا تذهب إلى المكان الذي لا ترغب فيه، فعلينا واقعاً أن نعيش كذلك، أي إذا لم نرغب في طعام فلا نأكله، ولا نقول بما أنني كنت في ضيافة أحد الأشخاص فأنا مضطر إلى تناول ذلك الطعام، أو أنني كنت لا أعتقد بالرأي الفلاني، ولكن رأيت أنّ الشخص الفلاني يستاء من ذلك، فلماذا نتحرك على مستوى ارضاء الآخرين بمثل هذه الأعمال ولكننا في ذات الوقت لا نرضي أنفسنا، فمثل هذا العمل عبثي، والنقطة الاُولى في هذا المورد أنّ تحصيل رضا الآخرين غير ممكن، وكما يقول أميرالمؤمنين علي(عليه السلام): «رضى الناس غاية لا تدرك»، فتحقيق رضا الناس غاية لا تدرك، وعندما لا نتمكن من ارضاء جميع الناس عنّا، فيجب أن نختار، فنرضي البعض ولا نهتم لعدم رضا البعض الآخر، وعندما تصل النوبة للاختيار فالواحب ارضاء أنفسنا أولاً وأنّ ذواتنا أجدر من الآخرين لإرضائها، ومن هذه الجهة ينبغي أن نتحرك في حياتنا وسلوكياتنا بحيث لا يختلف حالنا عند وجود الآخرين أو عدم وجودهم هذه هي الرسالة الاُولى للوجوديين.

النقطة الثانية: «إهتم بذاتك» أي ينبغي أن ترى في كل لحظة ما هو نفعك؟ وهذا المعنى لا يعني فقط النفع المادي، بل النفع بمعناه العام، فلو أنّك قصرت النظر على نفعك ومصلحتك، فحينئذ يقال عنك أنّك وجودي.

أمّا النقطة الثالثة: «اعرف ذاتك» لأنّ معرفة النفس لا تتحقق في ظل الذوبان في الجماعة أو التلون بلونهم، تعال وفكر في نفسك بعيداً عن أقوال الفلاسفة وبعيداً عن الحياة اليومية لتقف على مكامن وأبعاد نفسك بشكل كامل، ومن هذه الجهة لا ينبغي أن تتهرب من المواقع الحدودية، بل ينبغي أن تستغلها وتستثمرها لمعرفة ذاتك، فأنّك لو فررت من مواجهة الحالات الاستثنائية والمواقع الحدودية فسوف تعيش الغربة عن ذاتك.

وهذه الموارد المذكورة تمثّل خصوصيات الفلسفة الوجودية، بمعنى أنّ الشخص الذي يجد في نفسه هذه العناصر يمكن أن يقال عنه إنّه وجودي.

وثمة تياران بين الفلاسفة الوجوديين: إلحادي، وإلهي، وأكتفي هنا بالإشارة فقط، أمّا وجود مدرسة فلسفية تستوعب الإلحاد والإيمان فمن جهة عدم وجود آراء ونظريات مشتركة بين هؤلاء الفلاسفة، وإلاّ فلو كانت ثمة آراء ونظريات مشتركة فلا يمكن تصور وجود هذين الشقين في مذهب واحد بل يتمّ البحث في المسائل المشتركة فقط، ومن بين الفلاسفة الوجوديين الإلهيين يعتبر كي ير كجورد الأب الروحي والعارف والمتكلّم في أجواء هذه الفلسفة، وهو فيلسوف بمعنى من المعاني، ويعتبر من الوجوديين المتطرفين، وفي القرن العشرين يعتبر الفيلسوف الألماني «ياسبرس» من جملة الفلاسفة الوجوديين الإلهيين، وخصوصية ياسبرس هي أنّه استخدم الفكر الوجودي في علاج الأمراض النفسانية، أمّا جابريل مارسل فيعتبر أيضاً من المفكرين الإلهيين في الفلسفة الوجودية، وقد اشتهر مارسل بانتقاداته اللاذعة لالحاد فيلسوفين وجوديين آخرين: أحدهما جان بول سارتر، والآخر، آلبركامو، فقد وجّه مارسل انتقادات قوية إلى هذين الفيلسوفين الوجوديين، وأيضاً من الفلاسفة الوجوديين المتألهين السيدة سيمون وي، فهذه السيدة فارقت الحياة في شبابها في حكومة النازيين والحقيقة أنّها انتحرت اعتراضاً على أعمال النازيين، وتعتبر من الفلاسفة والعرفاء الوجوديين المهمين.

ومن الفلاسفة الإلهيين غير الرسميين للفلسفة الوجودية «دوستايفسكي، باسكال، وأجوستين القديس، وسقراط» هؤلاء من الفلاسفة المتألهين الوجوديين بمعنى من المعاني.

ومن بين الفلاسفة الوجوديين الملحدين: آلبر كامو، وبعده جان بول سارتر، وسيمون دوبوار، وطبعاً فجان بول سارتر أكثر اصالة من سيمون دوبوار، وكما تقدم أنّ جابريل مارسل انتقد بشدّة هذين المفكرين.

وبالنسبة لهيدجر فإنّ فكره يقتضي الالحاد، ولكنه قال مرّة لا ينبغي اعتباري ملحداً، وقال بأنني أعتقد بإله غير إله الأديان والملائكة، ولكن هيدجر يعتبر عادة في كتب تاريخ الفلسفة من رموز الفرقة الالحادية للفلسفة الوجودية.

وآخر نقطة نحب إثارتها في هذا الباب هو أنني أعتقد أنّ طرح مسائل الفلسفة الوجودية في غاية الأهمية والقيمة ولكن أجوبتهم عن هذه المسائل مختلفة جدّاً فيما بينهم، وكذلك يمكن مناقشة هذه الأجوبة ونقدها، والمسألة المهمة هي قولهم إنّنا يجب علينا معرفة ذواتنا أولاً بدلاً من التعرف على العالم والغفلة عن أنفسنا، وهذه هي مقولة سقراط الذي قال: «إعرف نفسك»، فما قيمة أن تعرف العالم ولا تعرف نفسك، وهذا هو الخطاب الأصلي للوجوديين، والذي يمنح القوّة والمكانة لبحوث الوجوديين.

—–

2. الأسئلة والأجوبة



س / يتحدّث البعض عن الفلسفة الوجودية بأنّها فلسفة ميتة، ويبدو أنّ فلسفة هذا العصر هي الفلسفة البراجماتية أو «النفعية»، وفي مثل هذه الحالة، أيّها المطروح في هذه الأيّام على المستوى العالمي؟

ج / بالنسبة إلى الفلسفة الفاعلة والسائدة في هذه الأيّام، يمكن القول إنّ الفلسفة الوجودية هي إحدى هذه الفلسفات الأكثر انتشاراً، وليست فلسفة ميتة وبخاصة أنّها ترتبط بشكل وثيق بـ «فلسفة الإنسان الجديد» في حال التكون والصيرورة والتي تمتد بجذورها إلى الفلسفة الوجودية، فما يقال من أنّ الفلسفة الوجودية فلسفة ميتة، لا يخضع للتقييم الدقيق في نظري.

س / يقول آلبركامو: «أنا لا أشعر باليأس ولكنني محروم من الأمل»، ويقول سارتر: «إنّ الحرية غير محدودة اطلاقاً، إمّا الحرمان من الأمل أو الحرية، فكيف يمكن حلّ هذا التناقض؟ وهل أنّهما يشتركان في العقيدة؟».

ج / بالنسبة لكلام البركامو: يبدو أنّه دقيق جدّاً، يقول كامو: لا تتصوروا أنّ الأمل حاله حال العلم، فالعلم موجود في الجامعات، والشخص بإمكانه أن يتوجه إلى الجامعة ليحصل على العلم، والشخص الذي لا يذهب للجامعة فلا يحصل على العلم، ويقصد إنّكم لا ينبغي أن تتصوروا أنّ الأمل ينبعث من مكان خاص وأنّ بعض الناس ذهبوا إلى هناك واقتبسوا الأمل وبعضهم لم يذهبوا ولم يحصلوا على الأمل، الأشخاص الذين يعيشون حالات اليأس لم يوفقوا للحصول على الأمل لا أنّهم جاءوا ولم يحصلوا عليه، والحقيقة كذلك، وقد قلت في مناسبات أخرى أننا لا ينبغي أن نذمّ الشخص الذي ينتحر، نعم، قد يحسب هذا العمل من وجهة نظر دينية ومذهبية أنّه ذنب وإثم، ولكن ينبغي الالتفات إلى أنّ الشخص الذي يقتل نفسه فإنّه لا يجد الأمل في حياته، فالانتحار يعني عدم وجود الأمل بالحياة، ولا ينبغي القول إنّه يجب عليه أن يتوجه للحصول على الأمل، فالأمل ليس سلعة يشتريها الإنسان، وبما أنّه ليس كذلك فالشخص الذي لا يملك الأمل فإنّه لم يعثر عليه، وبذلك يكون كلام كامو صادقاً، وقد يتصور البعض أحياناً أنّ الأمل والعشق وأمثال ذلك من قبيل البضاعة والسلعة التي يشتريها الإنسان من الحانوت، والشخص الذي لا يشتريها ولا يحصل عليها وينتحر فنقول إنّه يجب عليه أن يحصل عليها ويشتريها ولا ينتحر.

وما ينقل عن سارتر صحيح أيضاً، ولكن العجيب أنّ السؤال المذكور يفترض وجود تناقض، أي أنّه يتصور أنّ مقولة سارتر في أنّ الحرية مطلقة وغير محدودة أبداً، تتعارض مع مقولة كامو الذي يقول: «أنا لا أعيش اليأس ولكنني محروم من الأمل»، وفي الواقع عندما نتحدّث عن «الحرية» فهذه الحرية ناظرة إلى العمل لا «النتيجة» فأنا حر أن أتناول هذا الماء أو لا أتناوله، فهل أنا حرّ في الشعور بالارتواء أم لا؟ هنا لست حرّاً، ومن هذا المنطلق لا يوجد تناقض بين هاتين المقولتين، فمقصودهم من الحرية، فيما يخص موقفنا من العالم لا ما يلقي العالم إلينا ويؤثر فينا، فما يؤثر فينا هو من قبيل المعطيات وهي ليست باختيارنا.

س / لو فرض أنّ بعض المفكّرين لا يعتقدون بواجب الوجود، فهل يمكن عدّهم من الملحدين؟

ج / الملحد يقصد به معنيان، فتارة نقصد بالملحد الشخص الذي لا يقبل بوجود إله المذاهب والأديان التقليدية، مثلاً لا يقبل بإله الإسلام أو الهندوسية، والمعنى الآخر للالحاد، هو أنّ الشخص لا يقبل بوجود الله أساساً، ولا يقبل بوجود قوّة ما وراء عالم الطبيعة، وبالنسبة لهيدجر فهو يقول: إنني أنكر إله الأديان والمذاهب تماماً، ولكنّه يقول أيضاً: لا تعتبروني ملحداً، أي أنني أعتقد بإله آخر، وأعتقد بموجود متعال، ومن هذه الجهة فهو ملحد بالمعنى الأوّل، وليس ملحداً بالمعنى الثاني.

س / ما هي حقيقة الاختلاف بين أفراد البشر في هذه الفلسفة؟ فالوجوديون الذين يصرّون على لزوم معرفة الإنسان لنفسه بشكل مستقل عن المجتمع، ماذا يقولون عن التفاوت بين أفراد البشر في الفطرة والأصل؟ ألا يوجد عنصر مشترك بين البشر، بحيث يؤدي في النهاية إلى حالة الذوبان في الجماعة؟

ج / كلاّ، ربّما سمعتم بسبب تسمية الوجوديين بهذا الإسم، فهم يقولون: «إنّ وجود الإنسان متقدم على ماهيته، وفي سائر الموجودات فإنّ الماهية متقدمة على الوجود» يقول الوجوديون: إنّ النجّار قبل صناعته للكرسي يملك تصوراً دقيقاً في ذهنه عن شكل الكرسي وماهيته، ومن هذه الجهة يقول مثلاً بعد صناعته للكرسي: إنّ هذا الكرسي لم يصنع بشكل جيد، أي إنّه غير مطابق لتلك الصورة الذهنية المسبقة، أو يقول: إنّ هذا الكرسي هو ما كنت اُريد صناعته، أي أنّه مطابق للصورة الذهنية للكرسي في ذهني، فبالنسبة لسائر الموجودات غير الإنسان فإنّ الماهية متقدّمة على وجودها، أي أنّ كيفية وجودها متقدم على وجودها، يقول الوجوديون: ولكن هذه المسألة بالنسبة للإنسان على العكس من ذلك، وهذا يعني أنّه لا شيء متقدم على وجود الإنسان، أي لا يوجد أي تصور قبل وجود الإنسان كما هو الحال في تصور وجود الكرسي في ذهن النجّار، فقبل وجود الإنسان لا توجد أي صورة ذهنية في مكان معين له بحيث يتمّ تحقيقها في الواقع الخارجي بعد ذلك، وهكذا ينكر الوجوديون طبيعة الإنسان بشكل عام، فكل شيء غير الإنسان يملك طبيعة، ولكن الإنسان لا يملك طبيعة وماهية خاصة، والإنسان يستطيع بناء ذاته كيفما أراد، ولو أنّ الوجوديين ذهبوا إلى وجود طبيعة للإنسان، فسوف يختل نظامهم في مورد الحرية والاختيار، لأنّه إذا كنّا نملك طبيعة ثابتة… فإنّ تلك الطبيعة الثابتة تحدد من حريتنا، وتقلص من اختياراتنا، وتحديد الحرية والاختيار مخالف لما يذهب إليه الوجوديون في مورد الإنسان وحريته، ومن أجل أن تكون حريتنا غير محدودة، وكذلك لا تكون اختيارات معينة مسبقاً، فنحن مضطرون إلى إنكار القول بوجود طبيعة للإنسان، فكل شخص يخلق عالمه الخاص به.

س / إنّ جان بول سارتر يقبل بآراء ماركس، ومع الالتفات إلى هذه المسألة كيف ينكر سارتر أصل العليّة؟

ج / إنّ سارتر يعدّ ماركسياً من حيث التوجه السياسي، وثمة ثلاثة اتجاهات أساسية بين الوجوديين في المجال السياسي:

1. الاتجاه الليبرالي المطالب بالحرية، ويمثّل ياسبرس هذا الاتجاه بين الوجوديين.

2. الاتجاه الماركسي والذي يمثّله جان بول سارتر وسيمون دوبوار.

3. الاتجاه الشعبي، وهذا الاتجاه في الواقع يتحرك على مستوى ذوق العامة من الناس، ويمثّل هيدجر المصداق البارز لهذا الاتجاه.

أمّا بالنسبة للسؤال المطروح في هذا المورد، وهو أنّ الشخص إذا اعتقد بمدرسة الماركسية، فكيف يرفض قبول أصل العليّة كما هو الحال في مقولات سارتر؟ أولاً: أنّ سارتر لم يكن ماركسياً في جميع مراحل حياته، فسارتر مرّ بمرحلة قبل الماركسية، ومنذ الحرب العالمية الثانية فصاعداً مرّ بمرحلة أخرى، وفي العقد السادس تقريباً مرّ سارتر بمرحلة ثالثة، وفي هذه المرحلة كان ماركسياً وفي ذات والوقت كان مادياً «المادية الماركسية»، وهذه المرحلة تمثّل المرحلة الوسطى في حياته.

أمّا بالنسبة للسؤال عن وجود تناقض في قبول الماركسية ونفي أصل العليّة، فأنتم تتصورون أنّ كل من يقبل ماركس فإنّه يقبل المنهج الماركسي، ولكن يمكن قبول الماركسية مع عدم قبول المنهج الماركسي، إنّ قبول الماركسية لا يعني لزوم قبول المنهج الماركسي، فالإنسان بإمكانه أن يقبل مناهج مختلفة للوصول إلى النتائج التي توصل إليها ماركس، ومن هذه الجهة فكل شخص توصل إلى ما توصل إليه ماركس من نتائج لا يعني بالضرورة أنّه يقبل منهجية ماركس.

وأساساً ثمة تناقض في آثار وأعمال سارتر وكذلك في أعمال الآخرين أيضاً، فربّما كان ذلك من جملة هذه التناقضات في كلامه.

س / هل ثمة نقطة مشتركة أساسية بين الإسلام والوجودية؟

ج / أرى وجود نقاط مشتركة ويمكن اختزالها في ثلاث نقاط:

الاُولى: إنّ الإسلام بدوره يؤكد على «معرفة الذات» وبذلك يشترك مع الوجودية في هذا الشأن، وقد ورد في النصوص الدينية أنّ «معرفة النفس أنفع المعارف» ولكن للأسف لم نطرح رؤية صحيحة في هذا الشأن، والكثير ممّا ورد في الوجودية في باب معرفة الإنسان ورد كذلك في الإسلام، ولكنّها لم تظهر بالشكل المطلوب.

النقطة الثانية: «تأثير العمل في بناء شخصية الإنسان» وهذا المعنى ورد التأكيد عليه في الإسلام، وأنّ جوهر شخصية الإنسان تكمن في عمله، والعمل لا يعد أمراً فرعياً وهامشياً وتبعياً، بل يمثّل الأصل والجوهر، ومن هذه الجهة نرى أنّ الإسلام يولي أهمية بالغة للعمل في بناء شخصية الإنسان كما ورد في النصوص الدينية.

النقطة الثالثة: «الالتفات إلى تفرد الإنسان بين الناس» يقول الإمام الفخر الرازي: لو لم ترد في القرآن سوى هذه الآية (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة...)([3])، لكفى، ويقول: إنّ رسالة القرآن تتضمن هذا المعنى وأنّ أفراد البشر يأتون فردى، وعلى هذا الأساس لا ينبغي اتخاذ موقف فيما يتصل بأي إنسان، واللازم أن نضع أنفسنا موضع ذلك الشخص، وأعتقد أنّ الالتفات لفردانيتنا في دائرة المفاهيم الإسلامية وأننا نحاسب كفرد، يعني أننا يجب أن نعمل كفرد، وهذه النقطة مشتركة، وطبعاً فثمة اختلاف كبير في طرح الحلول بين الوجودية والإسلام.

س / هل يمكن الاستفادة من الفلسفة الوجودية في تفسير النصوص الإسلامية؟

ج / نعم.

س / بالنسبة لفلسفة السيدة سيمون وي نرجو تقديم توضيحات أكثر وبخاصة فيما يتصل بأساس فكرها وفلسفتها وفيما يتعلق بـ «الأوضاع الحديّة»؟

ج / بالنسبة للسيدة سيمون وي للأسف لم يترجم لها أي شيء من أعمالها إلى الفارسية، وفي العقد السابع من القرن العشرين ترجمت بعض أعمالها إلى اللغة الانجليزية، وبالنسبة لفلسفتها لا أستطيع بيانها بشكل تفصيلي، ولكن بالنسبة للأوضاع الحدودية في نظر السيدة سيمون وي فإنّها تعتقد بوجود ثلاثة أوضاع حدودية: «العشق، الموت، واليأس» ومن هذه الجهة تقترب من آراء ياسبرس، والنقطة التي أود الفات النظر إليها فيما يتصل بالسيدّة سيمون وي هي أنّ فلسفتها تميل إلى العرفان أكثر من الفلسفة، ومن هذه الجهة لا تعد فيلسوفاً رسمياً وتقليدياً، وقد ذكر أخوها في مقابلة مع أحد علماء الغرب فيما يتصل باُخته أنّه قال: إنّ اُخته لم تكن تهتم كثيراً لقراءة الكتب الفلسفية، ولكنّها في نظري تملك فكراً ثاقباً وتهتم بالمسائل من موقع العمق والتمعن، وأنا رأيت كتبها المهمة وخاصة كتاب «نافذة إلى الله» وأعتقد أنّ السيدة وي تعد أحد أكثر المفكرين المتعمقين في القرن العشرين، لكن عمرها كان قصيراً (1909 ـ 1943) ولم تسنح لها الفرصة لتقديم أعمالها الفلسفية، وخاصة أنّها كانت تشترك في الأمور السياسية وتشترك في جميع المحافل الإنسانوية ضد الحرب والاحتلال في أسبانيا في زمان فرانكو، في ايطاليا في عهد موسوليني، وفي ألمانيا في عهد هيتلر.

س / إذا كان التلون بلون الجماعة يتسبب في حالات الأمن وتسلية الخاطر للإنسان، إذاً لماذا تكون هذه الحالة ذميمة؟ ألا يدل ذلك أنّ الإنسان لا يتحمل القلق الناشىء من الفردية والوحدة؟

ج / إحدى النقاط التي يؤكد عليها الوجوديون، وخاصة كي ير كجورد، هي أنّه يقول: نحن حمقى وكذلك جبناء، أمّا كوننا حمقى فمن جهة أننا لا نعرف أنفسنا، وأمّا من جهة كوننا جبناء فذلك بسبب أننا لا نملك الشجاعة اللازمة لمعرفة أنفسنا، يقول كي ير كجورد: لا أحد يملك الشجاعة الكافية لمواجهة نفسه، وهذا هو أحد الإشكالات التي تؤخذ على سقراط، ونعلم أنّ كي ير كجورد منجذب بشدّة لسقراط ويقول إنّ قدوتي سقراط، وأحياناً يعبّر عنه «شيخي» وذلك أنّ سقراط يظنّ أننا نحن البشر لا نعرف أنفسنا، ومن هذه الجهة كان سقراط يسعى دوماً لتعريف الإنسان بنفسه، ولكنه لا يعلم أنّنا ليس فقط لا نعرف أنفسنا، بل لا نملك الشجاعة على معرفة أنفسنا، وأساساً فإنّ البشر فقدوا الشجاعة الكافية لمعرفة أنفسهم، والسؤال المطروح آنفاً: «إنّ الإنسان لا يتحمل حالات القلق والاضطراب الناشئة من الفردية» وهذه هي رؤية الوجوديين، أمّا قولك: «إذا كانت حالة التلون بلون الجماعة موجبة لتسلي الخاطر فلماذا تكون مذمومة؟» فينبغي الالتفات إلى أنّ «الإنسان في المجتمع ومع الناس» يختلف في نظر الوجوديين عن «الفرد في الخلوه»، فالشعور بالأمن إنّما يحصل للإنسان فيما إذا كان مع الناس، ولكنه يفقد استقلاله من خلال انصهاره بالجو العام ممّا يحيله شبحاً للمجموع، وفي المقابل عندما يشعر بالوحدة فإنّه يشعر بفقدانه الغاية والهدف.

س / ذكرتم أنّ «التفرّد» إذا كان يعني «الجرأة على النقد والاعتراض» فهو مذموم في الإسلام، من جهة أنّ تعاليم الأديان تطرح مفهوم «الوجود لله»...

ج / نعم، نستطيع أن نكون مسلمين، ولكن بشرط أنّ إسلامنا على حدّ تعبير كي ير كجورد يصل للمرحلة الثالثة «المرحلة الدينية»، وأمّا سائر الناس فهم متدينون بالهوية فقط، والشخص الذي يصل إلى المرحلة الدينية فهو في نظر كي ير كجورد يتحرك في حياته من أجل الله، ولكن «من أجل الله» يعود لنفعه في نهاية المطاف، لأنّ رضا السيّد يعني أنّ هذا السيّد لا يريد الأذى والضرر بالإنسان، ولكن هذا الإنسان لا يكتسب رضا المعشوق من جهة أنّه لا يؤذيه، وفي القسم الأوّل فالظاهر أنّ المراد من كون هذه الحالة مذمومة، من الجهة الحقوقية، ولكن ما يترتب على الجهة الحقوقية يختلف عمّا يترتب عليها من الجهة النفسانية، ولا ينبغي توهم توحدهما، فالاُمّة التي تضع لنفسها قواعد ومقررات لتحفظ تكاتف أفرادها وانشداد أبنائها، فبهذا المعنى يكون الاعتراض مذموماً في الإسلام، ولكن إذا ارتد شخص عن الإسلام وقام الحاكم الإسلامي بقتله فهذا لا يعني أنّ هذا الشخص مذموم ومنبوذ من الناحية الفردية، فالشخص الذي يتحرك من خط الالحاد عن جهالة، فربّما يصدر عليه الحكم بالإعدام، ولكن هل يسقط بذلك في جهة المقام المعنوي؟ إنّ المباني العقائدية غير واضحة لهذا الشخص، وفي الواقع أنّ الشخص الملحد هو الذي يتحرك في خط الاعتراض والانكار مع وضوح المباني والحق لديه وفي ذات الوقت ينكر هذا الحق، أي الجاحد للحق، ومن هذه الجهة يجب التمييز بين الآثار والتداعيات الحقوقية لأعمالنا، والآثار والتداعيات المترتبة على شخصياتنا.

س / إذا كان الشخص معتقداً بالله والمعاد فقط وتنزل من المرحلة الدينية إلى الالتزام بالمرحلة الأخلاقية فهل يبقى متديناً ويكون مورد رضا الله أم لا؟

ج / إذا كان هذا السؤال عن دين الإسلام فالجواب بالإيجاب، أمّا إذا كان الكلام عن عقيدة ونظر كي ير كجورد فكلا، فالمتدين عاشق، وليس ملتزماً بالأخلاق، فهو يتحرك وفق نظر المعشوق ويعمل كلما أراد منه المعشوق ولا يبالي هل أنّ أوامر المعشوق تتوافق مع القوانين الأخلاقية أم لا.

س / يقول الوجوديون «كن ذاتك» و«إهتم بذاتك» و«اعرف ذاتك» فلو أنّ الإنسان توصل إلى هذه النتيجة وهي أنّه إذا كان ذاته فسوف يحصل على السعادة المادية والمعنوية، إذن فما الحاجة للأديان السماوية التي تقرر أنّ الله غالب على كل شيء، وكيف يستطيع الإنسان أن يكون وجودياً ومتديناً في ذات الوقت، هل يستطيع الوجودي أن يكون رجلاً إلهياً؟

ج / إنّ الوجودية المؤمنة تعتقد بوجود الله، أمّا بالنسبة للقسم الأول من السؤال فالسؤال عن كيفية أن يكون الإنسان ذاته وفي الوقت عينه مطيعاً لأوامر الله، فأعتقد أنّ هذا الأمر ممكن، ولكن فيما إذا وصل الإنسان إلى المرحلة الدينية، أي يصل إلى مرحلة يقول فيها إنّ رضا الله فقط هو غايتي وما يفرحني فقط هو تحقيق رضا الله، فبهذا المعنى يكون الشخص وجودياً وفي ذات الوقت مطيعاً لأوامر الله ونواهيه، وبعبارة أخرى إذا كان المراد من «اطاعة الله» الطاعة التعبدية، فهذه الحالة لا تنسجم مع المفاهيم الوجودية، ولكن إذا كان المراد الاطاعة «العاشقية» فهذه الحالة تنسجم مع الوجودية، أي أنّ ارتباط الإنسان بالله لا يكون من قبيل الارتباط السيد والعبد، ولا تكون رؤية الإنسان لنفسه أنّه عبد، فذلك لا يتسق مع الوجودية، لأنّ هذا يعني أنني مثلاً أحب أن أتعامل بالربا ولكن أمتنع منه لأنّ الله نهى عن الربا، وهذا لا يتفق مع الوجودية، ولكن إذا كان المقصود العبادة من موقع العشق، أي أنّ الفرد يتحرك في حياته من مواقع «ما يريده المعشوق» وهدفه فقط تحقيق رضا المعشوق، ومن هذه الجهة يطيع أوامره، ففي هذه الصورة يمكن أن يكون الإنسان متديناً وفي ذات الوقت وجودياً.




[1] ـ الاستيطان بالمفهوم الفلسفي لا بالمفهوم السايكولوجي، م.

[2] ـ سورة التوبة، الآية 122.

[3] ـ سورة الأنعام، الآية 94.



#أحمد_القبانجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد القبانجي - الفلسفة الوجودية