أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - التيار السلفي في مصر ( 2 )















المزيد.....



التيار السلفي في مصر ( 2 )


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 3927 - 2012 / 11 / 30 - 14:10
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


بداية تجب الاشارة الى ان المقصود بالتيار السلفي في مصر اضافة الى الحركة السلفية الاخوانية ، ذاك الاتجاه الفكري السياسي الاسلاموي المنظم الذي يسعى عن طريق العنف السياسي والمادي الى تقويض الوضع القائم في مصر من اجل فتح السبيل امام تغيير شامل للفرد والمجتمع وفقا لمنظور مستمد اساسا من عهد الاسلام الاول ( عهد النبي والخلفاء الراشدين )، او من التصور الاسلامي السائد عموما عن ذلك العهد . وهنا يستوي العنف السياسي الذي يأخذ له العنف الايديولوجي في مرحلة اولى ويعقبه العنف المادي في المرحلة الثانية ، سواء ضد الخصوم السياسيين من ماركسيين اولينينيين او قوميين او ليبراليين عصريين او ضد الدولة الموصوفة مرة بالكافرة ومرة بالمارقة ، او العنف السياسي التنظيمي والمادي الذي تمارسه بعض الجماعات في القطاعات المتنوعة بالدولة والمجتمع مثل قتل المثقفين العلمانيين واشباه العلمانيين الى قتل الخصوم الايديولوجيين . تعبر حركة الاخوان المسلمين عن الحالة الاولى ، فيما تعبر منظمات السلفية النصية والجهادية عن الحالة الثانية ، وان كان ذلك بدرجات متفاوتة بسبب الظرف الذي يجتازه البلد . ومما لا جدال حوله ان هذا التنظيمات من اخوانية وسلفية كلها مطبوعة بطابع الانقلابات والغدر والتحرك من وراء الستار ، والخطورة حين يؤسسون للنزاع السياسي على اساس ديني مذهبي وليس على اساس حقوقي ، وهو ما يترتب عنه تقسيم المجتمع الى قسمين ، مجتمع المؤمنين الذي يمثلونه هم وحدهم بشعودات الفتوى المختلفة ، ومجتمع الكفار والمارقين الذي يضم كل من لا ينتسب الى هذه الجماعات الضالة . لقد وصل التصلب والتطرف لدى بعض هذه الجماعات درجة قصوى لم يعودوا فيها يكتفون بتكفير الخارجين عن الصفوف الاسلاموية ، بل وصل التطرف ببعضهم ان كفّر حتى جماعات تشتغل بالدين ، مثل تكفير الجهاديين للاخوان ، وتكفير التيار السلفي المغربي لجماعة العدل والإحسان ولحزب العدالة والتنمية بسبب قبولهم بالديمقراطية الانتخابية عبر صناديق الاقتراع التي يعتبرونها شركا ما بعدها شرك .
وبالرجوع الى الحالة المصرية بعد سقوط الرئيس المنبوذ والبعض من زمرته وليس كل الزمرة ، وبعد تمكن الاخوان ممثلين بحزب العدالة والحرية ، والحركة السلفية المتزمتة ممثلة بحزب النور ، وبالعديد من التنظيمات الاسلاموية التي تسير على نفس الخط والمنوال ، اتضحت الغاية المقصودة من الممارسة السياسية لهذه الزمر، و ذلك حين اصدر محمد مرسي اعلانه الدستوري الذي يؤسس لدولة فاشية اكثر قبحا من دولة مبارك البوليسية . واذا كان الشعب المصري الذي انجز انتفاضته وليس ثورته التي سرقت من قبل الاسلاميين ، ومن خلال قواه الثورية التقدمية الحقيقية ، استطاع الوقوف حجرة صلبة في وجه الطموحات الفاشية للدكتاتورية الاخوانية والسلفية التي تعمل على ترسيخ مجتمع ونظام الخلافة الذي كان صالحا في يوم من الايام ولم يعد صالحا في هذه الايام ، فان افلاس المشروع الاخواني السلفي في ايجاد الحلول التي وعدوا بها قبل مهزلة سرقة الانتفاضة التي لم ترق الى ثورة لا تزال في طور الانجاز طالما ان الحراك الشعبي الرافض للفاشية لا يزال يحتل الشارع ، ينبئ بالعودة الى لغة العنف المادي والتنظيمي المصاحب للعنف الايديولوجي الذي ساد مصر خلال السبعينات و الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ، قبل المراجعات التي حصلت من بعض القياديين في السجن ومن خارجه ، وربما وكما ’تبشر الى ذلك الاوضاع المتأزمة ، العودة الى الحالة الجزائرية بعد الانقلاب الذي نظمه الجيش ضد فوز جبهة الإنقاد الجزائرية بالانتخابات في بداية ثمانينات القرن الماضي . ان مؤشرات العودة الى لغة العنف السياسي والمادي من قبل جماعات الاسلام السياسي المختلفة بما فيها هذه المرة الفلول المتطرفة من بين حركة الاخوان ، تبقى الخيار المرشح للساحة المصرية ، ولما ينتظر المجتمع المصري . هكذا سيظهر هذه المرة مئات الظواهري ومئات بنلادن ومئات التنظيمات القاعدية . ان فشل الاخوان والسلفية في حل المشكلات العويصة التي تعاني منها مصر بسبب افتقادهم الى البرنامج العملي في الميدان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، وتعويضه بالتركيز على الحلول الدينية التي تبقى مشكوك في صحة تطبيقها بسبب الاركاييكية والقروسطوية ، والتفسير الحرفي والضيق للآيات والنصوص والأحاديث بما ينسجم مع اهوائهم وأطماعهم ، اي الفشل في خلق التغيير الايجابي ، لا يمكن تفسيره بعد خروج الاخوان والسلفيين وإبعادهم من قبل الشعب عن الحكم ، سوى بالأزمة العامة او النفق الذي ستدخل فيه مصر ، اي تقسيم المجتمع بين اكثرية رافضة لحجر وإرهاب الفاشيين بواسطة القرآن ، وبين جماعات لا ترى مخرجا آخرا يسمح لها بالانقضاض على السلطة سوى بالرجوع الى لغة الارهاب والعنف بشكليه المادي التنظيمي والإيديولوجي ، سيما وان من مراميهم الاساسية استنزاف الجيش وإرهاقه في مشكلات لا علاقة لها بالحدود وسياسة الدفاع عن الامن القومي . واذا كانت السلفية والاخوانية من انتاج الغرب الاستعماري ، فان التقاء المصلحة بينهما خاصة الخادمة لمصالح الدولة الصهيونية ، قد يخلق من سيناء المصرية وطنا بديلا لانقلابيي حماس وسكان القطاع . اي ان الامن القومي المصري مهدد بفعل التكالب الاخواني السلفي الذي يجر مصر الى ان تصبح مع جيشها في وضع العراق وسورية واليمن . ان عودة بعض الجماعات السلفية من امثال " شباب محمد " ( جماعة الفنية العسكرية ) و " جماعة المسلمين " (جماعة التكفير والهجرة ) و ( جماعة الجهاد ) رغم ما بينها من اختلافات في الايديولوجية والإستراتيجية والتكتيك والبناء التنظيمي تبقى جد محتملة اذا فشل الاخوان والسلفيون وهم فاشلون في الانقضاض على الدولة التي يدافع عنها الشعب والقوى الحية .
1 ) ازمة الايديولوجية السائدة وصعود التيار السلفي الراهن في مصر : لقد ارتبط صعود التيار السلفي في التاريخ المصري المعاصر بأزمة الايديولوجية السائدة . هكذا كان الحال في اواخر الثلاثينات وأوائل الاربعينات مع ( الاخوان المسلمين ) التي كانت هذه الفترة فترة تحول هام في مصائرهم السياسية ، والتي شهدت على حدثين مهمين ساعدا على اشهار افلاس معاهدة 1936 وحادث 4 فبراير 1942 المشهور في التاريخ المصري .
لقد اخذت النزعة القومية اللبرالية في الهيمنة على الفكر السياسي لقطاعات واسعة من المصريين مع نشوب ثورة 1919 . وأصبحت منذ ذلك الحين قوة ضخمة لا منازع لها من حيث جوهر الامر بين صفوف الجماهير ، خاصة بعد اندثار الحزب الشيوعي المصري الاول ، خصوصا في سنواته الاولى ، وقبل ستلنة ( ستالين ) الكومنترن التي بدأت مع المؤتمر العالمي الخامس ( يونيو 1924 ) ، الذي حاول التصدي لهذه النزعة القومية الليبرالية من خلال جهود عدد من قادة الحزب حتى قبل صعود حزب الوفد الى الحكم في اول مرة . وقد ادت توصية الاجتماع الموسع الخامس للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية ( مارس—ابريل 1925 ) بالشيوعيين المصريين الى اضعاف كفاحهم المعادي للنزعة القومية الليبرالية البرجوازية . ثم ادى انعطاف الكمنترن اليميني الرئيسي في عام 1935 ( المؤتمر العالمي السابع والأخير ) ، والذي استمر حتى حل الكمنترن نفسه في عام 1943 ، الى ابتعاد الحركة الستالينية المصرية طوال تلك الفترة عن النضال ضد النزعة القومية اللبرالية البرجوازية ، بل والى مهادنتها ومغازلة القوى التي تمثلها ، ودعمها في ذات الوقت الذي تكشّف فيه افلاسها السافر ( 1942 ) ، وذلك لاعتبارات تتمثل بدعم انجلترا ، حليفة روسيا في الحرب العالمية الثانية ، وهو موقف كانت موسكو تدافع عنه حتى قبل تفسخ الاتحاد السوفيتي المنحل ، كما يظهر من كتاب مستشرق سوفيتي تحت عنوان " مصر قبل العلمين " . والحال ان هذا الموقف قد ترك المجال واسعا امام الاخوان المسلمين لكي يحققوا توسعا سريعا لم يستطيع احد ايقافه غير جمال عبد الناصر ( 1954 – 1955 ) بعد حادث المنشية من ناحية ، واتساع نفوذ الناصرية السياسي بين الجماهير على اسس قومية ( خاصة بعد تأميم قناة السويس والانكسار العدواني الثلاثي عام 1956 ) من ناحية اخرى ، ثم اتساع هامش المناورة الاجتماعية والسياسية امام البونابارتية الناصرية من ناحية ثالثة .
لكن الناصرية نفسها بوصفها الايديولوجية السائدة حتى اواخر الستينات ، قد عرفت مصيرا مماثلا لمصير النزعة القومية الليبرالية البرجوازية . فبعد ربع قرن من الافلاس المدوي على جميع الاوجه لتلك الاخيرة ، جاءت هزيمة يونيو 1967 لتعلن احتضار الناصرية ، بعد ان كان انفصال سورية عن مصر في سبتمبر 1961 قد سدد ضربة لآمال الناصرية التوحيدية ، وبعد ان كانت مشروعات التنمية الرأسمالية المصرية خلال النصف الاول من الستينات قد وصلت الى طريق مسدود .
وعلى خلفية ازمة الناصرية العميقة هذه ، بدا صعود الاتجاه السلفي الراهن في مصر خلال حقبة السادات التي كان من الطبيعي ان تعجز عن استشارة حماس احد غير الطغمة العسكرية الساداتية التي دافعت بحماس عن مصالحها ورعاتها الامبرياليين .
والوقع ان البحث عن مخرج حاسم من مجمل الاوضاع السائدة كان قد اخد يستقطب قوى اجتماعية عديدة وفصائل متباينة من الانتلجانسيا المصرية ، وهذا هو السبب في تزامن صعود التيارات اليسارية الجديدة ، بعد هزيمة يونيو 1967 ، مع صعود الاتجاه السلفي الجديد ، وان كان التطور التالي لكل من الحركتين قد اثرت عليه اعتبارات شديدة التباين . لقد كان افلاس الناصرية سافرا ، وكان مخرج السادات المسدود النفق واضحا كل الوضوح ، وكانت قطاعات عريضة من الشعب تتساءل عن البديل وتبحث فعلا عن مخرج .
2 )العلمنة المشوهة والعودة الى ( الدين ) : رغم استمرارية الاتجاه الشبه العلماني في الفكر السياسي والاجتماعي المصري ، خاصة منذ ثورة 1919 وحتى حرب يونيو 1967 ، فان العلمنة ظلت مبتورة بوجه عام ، اذ لم يتم في الواقع اي فصل بين الدين من ناحية والدولة والتعليم العمومي من ناحية اخرى ، وان كان التيار العلماني قد انعكس واضحا في عدد من التيارات الثقافية . وبالنسبة الى مختلف القوى الاجتماعية المحرومة ظل الدين هو آهة الخليقة المضطهدة ، وقلب عالم لا قلب له ، وروح وضع دون روح .
والواقع ان هزيمة نكسة يونيو 1967 قد حفزت العودة الى الدين ، وزكتها القوى السائدة باعتبار ان الصراع ليس بين محتل يحتل الارض ، ولكنه صراع بين اليهود وبين المسلمين ، وان صح القول انه صراع بين اليهودية وبين الاسلام . هكذا بدأ المجتمع المصري يشهد تجارب صوفية بسيكولوجية جماعية رجعية شملت الاقباط و المسلمين كما حدث في تجربة ( ظهور العذراء ) بعد عشرة اشهر من الهزيمة العسكرية والطبقية البرجوازية المدوية ، وهو حادث فسره رجال الدين الرسميون بانه دليل على ان الربّ لم ينس الشعب ، وانه يقف الى جانبه في محنته ويشد ازره .
لم تكن العلمانية قد احتلت بعد مواقع راسخة ، وجاءت الهزيمة النكسة لكي تحفز الهجوم الثيوقراطي الاسلامي القبطي على العلمانية والفكر التقدمي المستنير الحر ، فأخذ سيل الادبيات الغيبية في التدفق ’مجتذبا جمهورا واسعا من القراء المتزمتين التقليديين ، وزاعما هذه المرة الاستناد الى ( حقائق علمية ) ، بعد ان اظهرت الهزيمة ، ان العرب لم يأخذوا من المدنية غير قشرتها مثلما هو عليه الحال اليوم ، فظهر تفسير مصطفى محمود ( العصري ) للقرآن ، الذي لم ’ينشر تفنيد علمي له إلا خارج مصر. هكذا بدأت تظهر كتابات غريبة مثل كتابات انيس منصور عن ( الذين هبطوا من السماء ) لكي تقف ضد اي رؤية تقدمية وعقلانية للتاريخ وللحياة الانسانية ولأصل الصراع بالمنطقة . وعلى امتداد السبعينات وحتى اوائل الثمانينات استمر العزف على نغمة ( العودة الى الدين ) ، مترافقا مع الهجوم على الناصرية والماركسية والاتحاد السوفيتي الملحد ، ورفع السادات شعار ديماغوجي لاستقطاب الحركات الرجعية الاخوانية والسلفية الى جانب مشروعه الذي بدا يخطط له تحت مسميات يتيمة وعاجزة ، تثبت الافلاس التاريخي للمشروعات المسوّقة بالمنطقة لصالح الدولة العبرية ، والامبريالية الامريكية ، وضد الشعوب وتاريخ المنطقة . لقد رفع السادات شعاره الرجعي ( دولة العلم والإيمان ) ، وأصبحت الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع في الدستور ، وتزايدت اعتمادات الموازنة العامة للمؤسسات الدينية ، كما تزايد التركيز على برنامج ( التربية الدينية ) في مؤسسات العليم العمومي لتضبيع ابناء الجماهير وخلق جيل خنوع تقليدي ضد العقل والتجديد . وجنبا الى جنب مع هذه التطورات ، انتشرت سنن وتقاليد قروسطوية مثل اطلاق اللحي وتحليق الشّارب وارتداء الحجاب و( الزي الاسلامي ) ، وتزايد عدد المترددين على المساجد ، خاصة من الشبان ، واتسعت حملات جمع التبرعات لبناء مساجد جديدة ، وراجت شرائط تسجيل خطب المشعوذين المخبولين ( الوعاظ ) الاسلاميين جنبا الى جنب مع المجلات وكتب التراث الاسلامي ، والخطابات الاسلامية المعاصرة على حد سواء .
لقد شهدت هذه الفترة ارتدادا ضد العلمانية من قومية وماركسية وليبرالية ، التي لم تكن قد عمّقت جذورها في المجتمع التحتي ، وجاء استيلاء الخميني على الحكم في ايران وإعلان (الجمهورية الاسلامية ) في ربيع عام 1979 ليعمق هذا الارتداد . وجنبا الى جنب مع كتاب ابي الاعلى المودودي عن ( الحكومة الاسلامية ) الذي ترجم الى العربية . ففي تلك الاثناء ، ظهرت محاضرات الخميني عن ( ولاية الفقيه ) القاهرة ، ثم ظهر كتاب خالد محمد خالد ( الدولة في الاسلام ) في اوائل عام 1981 ، وهو كتاب يمثل بحق اكبر ردة حقيقية على النقد الذي كان الكاتب قد وجهه في عام 1950 في كتاب ( من هنا نبدأ ) الى حكومة دينية مسيحية كانت ام اسلامية .
والواقع ان هذا الهجوم على العلمانية وروادها من القوميين والماركسيين والاشتراكيين والليبراليين والمدنيين لم يجد اي رد يذكر في الساحة السياسية والثقافية المصرية . فقد تمسكت المعارضة الاصلاحية العلنية البرجوازية الصغيرة الممثلة في حزب التجمع ، بالدستور الذي يمنحها شرعيتها ، والذي يعتبر الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ، بينما تخاذلت كل الفصائل الستالينية المصرية ، حتى على صعيد برنامجها ، عن طرح شعار الفصل بين الدين والدولة باعتبار ان المجتمع المصري يتكون من اثنيات وطوائف دينية ابرزها الاقباط والمسلمون . هكذا اعتبر الدين مسألة خاصة ، ليس بالنسبة الى الفرد وحسب ، وإنما بالنسبة اليهم . ولم يتمسك بهذا الشعار ، على صعيد برنامجي وفي النشاط الدعائي ، غير الماركسيين الثوريين ( التروتسكيون ) الذين ظلت دعايتهم محدودة النطاق بحكم ظروف تطور حركتهم في مجتمع تسيطر عليه الغيبية والشعوذة والأفكار البالية .
هكذا ففي غياب علمنة حقيقية وجذرية ، ومع الارتداد ضد العلمانية والهجوم عليها وضعف الدفاع عنها ، وفي مجتمع تقليدي تحكمه التقاليد ، توفر احد الاسباب الرئيسية لاتساع البيئة الحاضنة والمواتية لنمو واتساع التيارات الاسلامية من سلفية واخوانية ، التي سعت في اواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي الى بعث المعايير القروسطوية الاسلاموية لتنظيم الدولة والمجتمع ( محمد مرسي اليوم ) .
3 ) احباط البرجوازية الصغيرة وفقدان املها : على امتداد فترة غير قصيرة من عهد البونابارتية الناصرية ، تمتعت البرجوازية الصغيرة المصرية بمستوى من الاستقرار والحراك الاجتماعي الثقافي لم يسبق لها نظير في مجمل تاريخ مصر المعاصر ، وقد نجحت البونابارتية الناصرية عبر القمع والمناورة السياسية والاجتماعية ، في تصفية الاشكال الحادة للنضال الطبقي داخل المجتمع المصري ، والتي ميزت الفترة التالية مباشرة لانتهاء الحرب العالمية الثانية ، مما خلف مناخا من الاستقرار النسبي منح البرجوازية الصغيرة الاستقرار . والواقع ان جمال عبد الناصر ، تلك الشخصية التي كرست كل جهودها للدفاع عن المصالح التاريخية والإستراتيجية للرأسمالية المصرية ، قد تحول في سياق المناورة السياسية والاجتماعية الخاصة التي تطلبها الدفاع عن ذاك البرنامج ، الى معبود للجماهير البرجوازية الصغيرة التي رأت فيه منقذا من ( الفوضى الاجتماعية ) ، من ناحية ، ومن الآثار المدمرة لتعزيز المصالح المباشرة للبرجوازية على حياتها ، من ناحية اخرى ، هكذا صورت هذه المناورات الناصرية للبرجوازية الصغيرة اوهاما ، انها قد اصبحت تملك زمام مصائرها ، في الوقت الذي لم تكن فيه غير لعبة في مناورة بونابارتية برجوازية كبرى .
وقد ارتبطت البرجوازية الصغرى المصرية بمشروعات وشعار العهد الناصري . وعندما تهاوت هذه المشروعات وتكشف افلاس هذه الشعارات ، وتجددت الاشكال الحادة للنضال الطبقي داخل المجتمع غداة هزيمة نكسة 1967 ، تكشّفت في الوقت نفسه زيف الاوهام البرجوازية الصغيرة ، فوجدت نفسها في خضم توتر اجتماعي حاد ، يهدد احساسها الزائف بالاستقلال . فساد الاحباط وخيبة الامل ، وامتد سخط البرجوازية الصغيرة الى الناصرية المحتضرة التى اوصلتها الى هذا المأزق . وخلال انتفاضة نوفمبر الشهيرة عام 1968 بوجع خاص ، رغم توجهها القومي الديمقراطي الثوري العام ، ظهرت اشكال اسلامية رجعية لردة الفعل البرجوازية الصغيرة هذه ، خاصة بالمناطق التي كانت مؤهلة لاحتواء وتقبل مثل هذه التيارات القروسطوية . لكن ورغم ذلك فقد ظل الاتجاه الديمقراطي القومي والثوري العلماني هو المسيطر والمهيمن على الساحة الثقافية والسياسية رغم انحصار نفوذه وسط الفئات الفقيرة والأمية ، وقد اكتسب هذا الاتجاه قوة جديدة بعد منعطف 1971 ، وغداة انتهاء ( عام الحسم ) دون حسم ، على نحو ما تمثل في تفجير النضالات القومية والديمقراطية الثورية لشبيبة الجامعات والكليات والمعاهد العليا والانتلجانسيا الراديكالية بين عامي 1972 و 1973 ، وهي نضالات قادها الشيوعيون والماركسيون والاشتراكيون المصريون والقوميون والليبراليون ، رغم ان غالبية فصائلهم قد حرصت على حصرها داخل الاطار القومي الديمقراطي العام ، وقد جرى تسريح هذه الحركة بعد حرب اكتوبر 1973 وتم عزل قيادتها عمليا .
والواقع ان دعم الرجعية الساداتية للجماعات الاسلامية البرجوازية الصغيرة المعادية للشيوعية والعلمانية والقومية والاتحاد السوفيتي ، قد بدأ عشية انتفاضة يناير الشهيرة عام 1972 وكجزء لا يتجزأ من الردة التي عرفتها الساحة المصرية . هكذا اعتمد السادات على هذه التيارات الاسلامية الرجعية لمحاربة الحركة القومية الديمقراطية الثورية العلمانية ، وقد استأثرت الجماعات الاسلامية في الجامعات والمعاهد العليا بهذا الدعم ، وسرعان ما تحولت هذه القوى الفاشية الى احدى البيئات المناسبة لتجنيد عناصر المنظمات الاسلامية السرية السلفية التي اتخذت من تقويض النظام القائم واستعادت ( فردوس ) الاسلام المبكر الاوّلي المفقود ، هدفا لها ، ومشرعا للاغتيالات والقتل وممارسة كل اشكال وأنواع العنف المادي والتنظيمي والإيديولوجي والسياسي ضد مثقفي الاتجاه العلماني ( فرج فودة ) .
4 ) السادات وصعود السلفية في مصر : لقد كان حصاد عقد السادات مرّا بالنسبة الى اوسع قطاعات الشعب . ففضلا عن المصالح القومية والديمقراطية لهذه القطاعات التي اهدرها السادات – ولم يكن من المفروض ان يكون وصيا عليها – رمز هذا العقد الى سيطرة طغمة برجوازية تؤكد على مصالحها المباشرة ، حتى وان ادى ذلك الى تعميق العداء الشعبي لها . فقد آمنت ايمانا اعمى بجبروت جهاز دولتها البوليسي الرجعي ، وقدرته على سحق التمردات والانتفاضات الشعبية ، رغم اللحظات العصيبة والخطرة التي مر بها هذا الجهاز في مواجهة النضالات الطبقية الحادة التي شهدتها البلاد .
لقد اصبحت الازمة الاجتماعية الاقتصادية اكثر حدّة ، وأصبح النظام السياسي اكثر هراء وفقدانا لاعتبار وعزلة عن الجماهير العريضة ، فتزايدت حدّة العداء للولايات المتحدة الامريكية ، حليفة الطغمة المصرية وراعيتها ، ولشريكتها الاصغر اسرائيل التي تصالحت معها بمقتضى اتفاقية كامب دايفد المذلة للسيادة المصرية . والواقع ان صعود السلفية ، في ظروف ضعف الحركة اليسارية والقوى القومية والديمقراطية الثورية والعلمانية ، بعد الضربات العديدة والمتواصلة التي نزلت بها ، انما يرتبط ارتباطا وثيقا بكل هذه المعطيات المميزة لعقد السادات الاسود .
لقد كانت السلفية صيغة خاصة من صيغ رد الفعل البرجوازي الصغير ، في مثل هذه الظروف النوعية ، على عهر الطغمة البرجوازية السائدة الاجتماعي والمعنوي ، وقهر واهتراء نظامها السياسي ، وخضوعها خضوعا منقطع النظير للغرب وللإرادة الصهيونية . ان تجربة ( الاشتراكية الناصرية ) المؤيدة من موسكو ومن الستالينيين المصريين ، قد عزز افلاسها ، سخط ومعاداة التيارات الاسلامية السلفية للناصرية وللاتحاد السوفيتي وللشيوعية ، بعد ان كانت ’منطلقاتها الايديولوجية قد كرست عداءها للماركسية والعلمانية . وجنبا الى جنب مع هؤلاء الاعداء ، اصبح نظام السادات المهترئ وراعيته الولايات المتحدة الامريكية الصليبية المسيحية ، وحليفته الجديدة اسرائيل اليهودية ، اعداء الدّاء ’يعد الجهاد ضدهم فريضة على كل مسلم صادق العقيدة .
5 ) عقيدة المنظمات السلفية الجهادية السرية : لا بد من التمييز بين عقيدة المنظمات السلفية السرية وغير السرية ، وعقيدة جمهرة المسلمين العاديين . فالواقع ان هذه العقيدة الاخيرة ليست كفاحية ، ولا تتجاوز عادة مراعاة الفروض التي تعدّ ( فريضة الجهاد غائبة عنها ) . ولعل ابرز ما يميزها هو جوهرها الاستسلامي الموروث من عهود الانحطاط القروسطوية المتأخرة ، خاصة بين صفوف غالبية الفلاحين المصريين . لقد شكلت عقيدة المنظمات السلفية السرية وغير السرية تحت تأثير المواجهة مع الواقع السياسي والاجتماعي – الاقتصادي ، خاصة في المدن الكبرى ، حيث تتركز وتتكثّف بشكل واضح كل التناقضات والأزمات الحادة ، وحيث تبرز الابعاد الرهيبة للازمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العامة بمصر .
ان تشخيص هذه العقيدة للهيكل السياسي الراهن للدولة في مصر بكل مؤسساته ، هو انه هيكل فاسد ومهترئ ، يقف على رأسه حكام فاسدون ومفسدون ، يستندون الى مؤسسات فاقدة للاعتبار الديني والفقهي . اما الهيكل الاجتماعي القائم ، فهو هيكل يعكس تسلط زمرة فاسدة من المترفين الذين لا يراعون حقوق ( المستضعفين في الارض ) ويجورون عليهم . و لا يرجع هذا الواقع السياسي – الاجتماعي المحدد إلا الى عدم تطبيق الشريعة الاسلامية تطبيقا ناجزا في كل اوجه الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية .
وهكذا يتحدد العدو الداخلي الرئيسي بالنسبة الى معظم المنظمات السلفية في الحكام والمؤسسات التي يستندون اليها ، بما فيها المؤسسة الدينية الرسمية ، وبعض الجماعات يضيف الى هؤلاء المجتمع الكافر ، كما يتحدد الهدف السياسي المنشود في اقامة هيكل دولة يستند الى الشريعة الاسلامية والى الشورى في المسائل التي لا يوجد قول فصل من الشريعة فيها .
اما الحل الاجتماعي المنشود فهو يستبعد – ذاتيا بالطبع – كلا من الرأسمالية والاشتراكية ، ويتمثل في بناء ما تسميه هذه المنظمات ب ( المجتمع الاسلامي ) الذي يستند الى ( العدالة ) و ( المساواة ) و ( الاخوة ) ..لخ ، ضمن اطار ( جامعة اسلامية ) -- تشمل كل الشعوب الاسلامية – تتطور تطورا متساويا .
وتستند هذه العقيدة السياسية – الاجتماعية الى آراء حسن البنا ، وسيد قطب وأبي الاعلى المودودي ، وعلي شريعاتي ، اعمال وتراث الخوارج وابن تيمية ، اضافة الى تراث محمد بن عبد الوهاب ..لخ . والواقع ان الشرور الاجتماعية والسياسية قد استفحلت ، حسب هذه العقيدة ، بسبب عدم تطبيق الشريعة الاسلامية في كل وجوه الحياة اليومية الفردية والاجتماعية والسياسية ، والتي تم عبر تغلغل الافكار والمعايير الغربية المادية التي ادت الى افساد بنيان المجتمع الاسلامي وتمزيق وحدة ( دار الاسلام ) من اجل اضعاف الاسلام والمسلمين والسيطرة عليهم وعلى اوطانهم . وينعكس في هذا التصور موقف " قومي – اسلامي " يتجه في آن واحد ضد الاستعمار الغربي والصهيوني ، وضد ما تسميه هذه العقيدة بالاستعمار الشيوعي الذي يحتل حسب هؤلاء اجزاء من دار الاسلام ( الشيشان ، غروزني و جمهوريات آسيا الوسطى ..)
هكذا يتحدد العدو الخارجي في نظر هذه العقيدة ، في الغرب المسيحي والصهيونية اليهودية والشيوعية الملحدة ، التي تسعى كلها الى محاربة الاسلام والمسلمين وسلب اوطانهم .
و لا يمكن تحرير ( دار الاسلام ) إلا عن طريق الجهاد بمختلف انواعه ضد هذه القوى ، وضد الحكام المسلمين الزائفين الخاضعين لها بهذه الدرجة او تلك . والهدف الثالث لهذا ( الجهاد ) هو انشاء جامعة اسلامية تشمل كل المسلمين الذين ’يعدّون ، خلافا للآخرين ، ( خير امة ’اخرجت للناس ) فهل حقا ان ( المسلمين هم خير امة اخرجت للناس ان لم يكن مثل هذا القول يمثل عنصرية مقيتة ضد غير المسلمين تنضاف الى عنصرية اليهود الذين يعتبرون انفسهم شعب الله المختار ) .
6 ) مسائل الاستراتيجية والتكتيك : على الرغم من المساندة التي حصلت عليها جماعات اسلامية سياسية علنية وشبه علنية من جانب نظام السادات في سياق صراعه ضد القوى الماركسية والديمقراطية والقومية العلمانية ، فان الهدف الثابت للمنظمات السلفية السرية وشبه السرية وحتى العلنية ( ليس في القنافيد املس ) ظل هو التخلص – عن طريق العنف بشكليه المادي والمعنوي – من نظام السادات من اجل تشييد نظام اسلامي في مصر ، لن يكون هو نفسه غير مرحلة على طريق تشييد مثل هذا النظام في مجمل العالم الاسلامي ( الخلافة الاسلامية ايام النبي والخلفاء الراشدين ) .
والواقع ان هذه المنظمات لم تنخدع قط بمختلف اشكال استغلال السادات للإسلام ، ولم تخلط بينها وبين المنظور الذي تتبناه عن تطبيق الشريعة الاسلامية في كل وجوه الحياة الفردية والجماعية والاجتماعية والسياسية ، الامر الذي حافظ على موقفها الكفاحي غير المساوم ضد النظام ، بل وضد مجمل ( المجتمع الكافر ) . وعلى الرغم من ان النظام قد استفاد من مواقف الجماعات السلفية السياسية العلنية ، ودعايات الاخوان المسلمين المضادة للشيوعية وللقومية وللاتحاد السوفيتي السابق وللناصرية ، فان مواقف هذه الجماعات العلنية نفسها ضد معاهدة الصلح المصرية الاسرائيلية من منطلقات قومية اسلامية ، وضد تغلغل النفوذ الغربي وفساد مؤسسات الدولة القائمة واهتراءها ، قد حفزت السادات الى تحذير هذه ، من التدخل في السياسة والشأن العام .
وقد ادت هذه المواقف الاخيرة الى توسيع المجال امام تغلغل نفوذ التيارات الاسلامية السياسية المعارضة للنظام في حركة المعارضة ، خاصة وان قوى اليسار السرية كانت تمر بأزمة تفسخ حادة عقب سحق انتفاضة 18 و 19 يناير 1977 ، وكانت في حالة من الضعف والتفتت لم تغب عن بال الجميع .
والواقع ان عزم المنظمات السرية وشبه السرية والعلنية على القضاء على النظام الساداتي كان واضحا منذ وقت مبكر ، وكانت مؤامرة ( شباب محمد ) الانقلابية في ابريل 1974 اول محاولة في هذا الاتجاه . لقد استند تكتيك المؤامرة الانقلابية على فكرة ان كل ما هو لازم للتغيير ، هو استيلاء نفر قليل – دون تعبئة سياسية شعبية ودون تنظيم ذاتي للجماهير – على مجمل روافع السلطة ، من خلال عمل جسور جيد الانضباط ، سوف يقابل في حالة انتصاره ، بالترحيب والتأييد من الشعب وجمهور المسلمين ، وسوف يعتبر في حالة فشله غضبة الله .
وقد طبقت منظمة ( الجهاد ) تكتيكا مماثلا في حادثة اغتيال السادات ، واضطرابات اسيوط التي اعقبت الحادث ، وتمت في غيبة اي مشاركة عملية من قبل السكان . والواقع ان هذا التكتيك الانقلابي يشهد على زيف الادعاء الرسمي ، بان منظمة الجهاد كانت تسعى من وراء حادثة الاغتيال والاضطرابات التي وقعت في اسيوط ، الى تفجير ثورة اسلامية على غرار الثورة الايرانية ، لان هاته قد اعتمدت على تعبئة شعبية واسعة لم تحاول المنظمات السلفية السرية وشبه السرية والعلنية في مصر الاقدام على حفز مثيل لها ، كما تشهد على ذلك ممارساتها ومحاولاتها الانقلابية المعزولة عن تحرك شعبي ايجابي .
اما جماعة المسلمين ، فقد تبنّت تكتيكا مختلفا بحكم انها تكفّر المجتمع لا مجرد الحكام . وهذا التشكيك مستمد اساسا من تجربة هجرة النبي الى المدينة ، ثم عودته الى المظفرة الى مكة . ورغم ذلك ، فان هذه الجماعة تقبل وتنفذ تكتيك الارهاب الفردي من اجل اهداف مباشرة محددة ، كما يشهد على ذلك حادث اختطاف وقتل الشيخ الذهبي في يوليو 1977 . ويكشف تكتيك المؤامرة الانقلابية والهجرة الاختبارية من اجل الاستعداد لغزو المجتمع الكافر والإرهاب الفردي ، يكشف عن ذهنية سياسية برجوازية صغيرة مغامرة ويائسة ، تنسجم تماما مع المأزق الحالي الذي تجد البرجوازية الصغيرة المصرية نفسها فيه ، خاصة في ظروف غياب احزاب ثورية واثقة من نفسها ، وقادرة على بث الثقة في امكانياتها بين صفوف الشرائح الفقيرة من البرجوازية الصغيرة . فالواقع ان ظاهرة التيار السلفي الراهن في مصر وفي العديد من البلاد العربية من بينها المغرب ليست غير احد وجوه ازمة الحركة اليسارية بشقيها القومي والماركسي والاشتراكي الديمقراطي . ان وصول حزب العدالة والتنمية المغربي الى مشاركة بعض قياديه كموظفين سامين في الحكومة ، وان سيطرة جماعة العدل والإحسان على الشارع ، وان ظهور الحركة السلفية بوجه سافر مع محاولة في توسيع قاعدتها التي تتحرك كل يوم ، رغم الضربات التي توجهها لها الدولة ، ليس له من تفسير غير افلاس الاحزاب اليسارية وعجز اليسار عن خلق البديل الحضاري المدغدغ لشعور الاميين والبسطاء وللطبقة البرجوازية الصغيرة التي كانت معروفة تاريخيا باصطفافها الى جانب اليسار بمختلف عناوينه التنظيمية والإيديولوجية . وان المحاولات التي تقوم بها بعض الاحزاب الفاشلة كمحاولة لإحياء اليسار السبعيني المرتبط مع اليسار التقليدي ، هي بمن يحاول ان يبعث الروح في الجسد الميت ، اي مات اليسار بسبب اخطاء اصحابه الذي تاجروا به .
ويمكن القول ، دون شك ، ان تكتيكات من هذا النوع ، لا يمكنها ان تحقق اي تغيير جوهري للنظام ، ايا كانت طبيعته ، رغم الارتباكات المؤقتة والعرضية التي قد تسببها للنظام القائم ، فضلا عن ان فرصها في النجاح تعد مشكوكا فيها بالنسبة الى بعضها ، وغير واردة بالنسبة الى بعضها الآخر .
7 ) مسائل الهيكل التنظيمي : لم ينجح اي تنظيم سلفي سري او شبه سلفي في مصر في خلق هيكل تنظيمي واسع وقوي قادر على التغلب على موجات القمع المتتالية والمتعاقبة ، مماثل للهيكل التنظيمي الذي خلقته منظمة مجاهدي خلق الايرانية خلال عهد الشاه ، هذا الى جانب ان البنية التحتية الشبه عسكرية لهذه المنظمات هي بنية ضعيفة كما اثبتت ذلك مؤامرة ابريل 1974 الانقلابية المشهورة ، واضطرابات اسيوط في اكتوبر 1981 . وتعتبر قيادة مختلف هذه المنظمات قيادة شخصية فردية ، تعتمد الى حد كبير على النفوذ الشخصي او الجاذبية الشخصية لمؤسس التنظيم او قائده . وينسجم هذا انسجاما تاما مع فكرة البعث الرسولية ( التي تحتاج الى زعيم يتمتع بقدر كبير من الاجلال ان لم نقل التقديس ) التي تلهم هذه المنظمات . اما تطبيق مبدأ الشورى في تسيير التنظيم ، فهو عموما امر نادر ، وربما لم تعرفه غير منظمة ( شباب محمد ) خاصة عند اتخاذ قرار شن المؤامرة الانقلابية في سنة 1974 ، والذي اعترض آمر سرية على توقيته المتعجل .
ومثل باقي المنظمات الاسلامية السياسية السرية وشبه السرية والعلنية في العالم العربي ، تتألف عضوية هذه المنظمات من شبان صغار نسبيا ، ذوي اصول برجوازية صغيرة في معظمهم ، يتلقى اغلبهم العلم في المعاهد العليا والجامعات حيث يتلقون ، غالبا ، تعليما عصريا بمدارس المهندسين والطب والعلوم . وتعتبر تجربتهم مع المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية او الدارالبيضاء والرباط قصيرة نسبيا ، وتربط بين اغلبهم روابط اقليمية او روابط الصداقة الشخصية . وتعد استجابة هؤلاء الشبان للاتجاه السلفي شكلا خاصا من اشكال استجابة الانتلجانسيا البرجوازية الصغيرة للازمة الاجتماعية – الاقتصادية والسياسية في البلاد .
وتعتمد هذه المنظمات على بيئة تجنيد واسعة نسبيا تشمل المساجد ، اوساط الحرفيين غير المنظمين ، والمهن غير القارة ، والجماعات الاسلامية السياسية العلنية وشبه العلنية ، وأنصار اتجاه الاخوان المسلمين الذين يتقاسمون مع هذه المنظمات عقيدتها الاساسية ، وان كانوا يختلفون معها في تكتيكاتها . والواقع ان هذه البيئة تسمح بفرص تجنيد واسعة للأعضاء والأنصار الحاليين والمحتملين . وقد استمدت هذه المنظمات معظم عناصرها من هذه البيئة بالتحديد ، وخصوصا من الجماعات الاسلامية العلنية في الجامعات والمعاهد العليا .
وينخرط اعضاء هذه المنظمات في نشاطات متعددة الوجوه ، تساعد على تحقيق اقصى درجة من درجات الانصهار في حياة التنظيم . ويصل هذا الانصهار الى اقصى درجة في تجربة جماعة المسلمين التي تعتبر نفسها مجتمعا قائما بذاته في حرب مع المجتمع الكافر . ان هذه المنظمات تغرس في نفوس اعضاءها روح الاستشهاد الذي يكاد يصل الى حد الانتحار – دون انصار – حيث يتحول موت الفرد في سبيل القضية ( المقدسة ) الى اعلى الاماني الفردية . وهذه الروح التي يتم التعويل عليها تعويلا خاصا ، لا بد منها لأجل تنفيذ التكتيكات القصوية التي تعتمد عليها هذه التنظيمات .
لقد خاض نظام الرئيس المقبور حسني مبارك حربا ضروسا مع هذه الجماعات السنية اضافة الى حربه الضروس مع حزب الاخوان المسلمين الذي كان يستغل الهامش الديمقراطي المزيف قصد التجدر وسط العديد من القطاعات التي اصبحت تشكل خلفية ثقيلة لقوته التنظيمية والسياسية في مواجهة نظام مبارك . واذا كانت العلاقة بين الطرفين تشهد حالات مد وجزر حسب الظروف التي كانت ترخي بظلالها في الساحة ، فان مبارك الذي استطاع الانتصار على الحركات الاسلامية المتطرفة من سرية وشبه سرية ، دفعت بالمنظرين لهذه التيارات الى تدشين مراجعات تنظيمية ومفاهيمية لأسلوب العمل السياسي ، وهي تراجعات حصلت بالسجن ومن خارجه ، فان مبارك فشل في القضاء على حركة الاخوان التي تمكنت في عهده من الحصول على اكثر من ثمانين مقعدا بالبرلمان ، وهو ما جعل منها قوة عنيدة استطاعت تحدي نظام مبارك رغم القمع الذي كانت تسلطه عليها اجهزة الرئيس البوليسية ، والمحاكمات المختلفة التي شملت القيادات مثل القواعد . اضافة الى الاستماتة الاخوانية واعتمادها تكتيكا مهادنا يقتصر على الفضح ولا يصل الى العنف ، وباعتبار التغلغل القوي والكثيف وسط الشرائح الدنيا من الشعب ومن البرجوازية الصغيرة والبرجوازية ما فوق الصغيرة ، وأمام افلاس الاحزاب السياسية القومية الناصرية التي كانت مقسمة الى ثلاثة احزاب تم تجميعها مؤخرا في حزب واحد ، وبسبب ضعف الحزب الشيوعي الستاليني والحركة الاشتراكية الثورية بسبب القمع المسلط حيث الاعتقالات والمحاكمات ،، وجد الحزب الاخواني الذي اسس لحزب الحرية والعدالة المتحالف مع حزب النور السلفي والأحزاب والتنظيمات الاسلاموية ، الساحة فارغة للسيطرة على الشارع المصري وتمكنهم من سرقة نتائج الانتفاضة التي ’اجهضت ولم تصل الى مرحلة الثورة .
ان هذا الوضع الذي لم يكن مفهوما و لا بالجديد في الصراع السياسي المصري ، اعطى لحزب العدالة والحرية وللأحزاب التي تشاركه نظرته الاركاييكية للدولة ، فرصة اقتناص الوضع ، للتأسيس لدولة فاشية تعتمد دستورا اخوانيا وليس دستورا مصريا ، يعطي للرئيس كامل السلطات لبسط قبضته على الدولة التي يجري الآن اسلمتها لتتحول الى دولة الاخوان لا دولة المصريين .
السؤال هنا ، امام اصرار الشارع المصري على محاربة الفاشية الجديدة ورفض توريث جديد للإخوان ومن معهم من الاتباع ، وفي حالة ازداد تعقد الازمة السياسية بسبب الانقسام الحاصل في الشارع المصري ، واذا حصل ما من شأنه ان يفشل مرسي وحزبه من الاستفراد بالدولة و ’اجبر على المغادرة ، فان السيناريو المحتمل لمستقبل مصر قد يكون بعث جديد لتنظيمات السلفية النصية والجهادية ، وهذه المرة انتظار ردود فعل جد متطرفة من طرف اعضاء وقواعد الاخوان والنور لإدخال مصر في نفق الجزائر بعد اجهاض العسكر لفوز الجبهة الاسلامية للأنقاد ، اي ان الساحة المصرية اضحت مفروشة بطفيليات السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي . ويبقى انتظار دور الجيش في حماية الجمهورية والديمقراطية ووحدة الوطن ، فهل الوضع يفرش لتحرك ضباط احرار جدد لقطع الطريق على المخططات والمؤامرات التي تحاك بمصر وبجيشها وبأمنها القومي ؟ وهل الجيش يستطيع التحرك منفردا ، ام في انتظار الاشارة من واشنطن القادرة على تزكية كل الخطوات بما ’يبقي الوضع ستاتيكيا ، ودون خروجه عن المألوف الذي قد يهدد المعادلات المتحكم فيها لصالح مصالح واشنطن والدولة العبرية ؟ .
( يتبع يتبع )



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملف عن السلفية الاسلاموية ( 1 )
- النخبة وزمن التّيه السياسي
- الثورة آتية لا ريب فيها
- عودة كريستوفر رووس الى المنطقة
- في الثقافة الوطنية القومية الاصيلة
- الماركسية والتراث والموقف من الدين
- تسعة واربعين سنة مرت على حرب اكتوبر . ماذا بعد ؟
- الموقع الطبقي لحركة الضباط الاحرار
- لبنان وسورية في فوهة البركان الصهيوني
- عالم آخر ممكن
- اتجاه العنف في الاستراتيجية الامبريالية الامريكية
- البنك العالمي للانشاء والتعمير في خدمة الادارة الامريكية
- ( الدولة اليهودية ) ومفهوم الحدود الآمنة
- حركة التحرر العربية : ازمة عارضة او بنيوية ؟ الربيع ( العربي ...
- الصهيونية العالمية والنازية وجهان للصهيونية الاخوانية
- ميكانيزمات التحكم في القرار السياسي بالبلاد العربية
- في بناء الحزب العمالي الثوري (منظمة الى الامام) ( وجهة نظر )
- الطائفية الورم الخبيث بالوطن العربي
- ازمة منظمة ( التحرير ) الفلسطينية -- دراسة تحليلية ونقدية لم ...
- البومديانية وتجربة التنمية الجزائرية المعاقة


المزيد.....




- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة إسرائي ...
- وزير الخارجية الأيرلندي يصل الأردن ويؤكد أن -الاعتراف بفلسطي ...
- سحب الغبار الحمراء التي غطت اليونان تنقشع تدريجيًا
- نواب كويتيون يعربون عن استيائهم من تأخر بلادهم عن فرص تنموية ...
- سانشيز يدرس تقديم استقالته على إثر اتهام زوجته باستغلال النف ...
- خبير بريطاني: الغرب قلق من تردي وضع الجيش الأوكراني تحت قياد ...
- إعلام عبري: مجلس الحرب الإسرائيلي سيبحث بشكل فوري موعد الدخو ...
- حماس: إسرائيل لم تحرر من عاد من أسراها بالقوة وإنما بالمفاوض ...
- بايدن يوعز بتخصيص 145 مليون دولار من المساعدات لأوكرانيا عبر ...
- فرنسا.. باريس تعلن منطقة حظر جوي لحماية حفل افتتاح دورة الأل ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - التيار السلفي في مصر ( 2 )