أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - ادوار الخراط وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى مقال عن مجموعة قصص قصيرة لكلٍّ منهم بقلم: آمال فريد ترجمة: خليل كلفت















المزيد.....



ادوار الخراط وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى مقال عن مجموعة قصص قصيرة لكلٍّ منهم بقلم: آمال فريد ترجمة: خليل كلفت


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3923 - 2012 / 11 / 26 - 08:59
المحور: الادب والفن
    


ادوار الخراط وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى
مقال عن مجموعة قصص قصيرة لكلٍّ منهم
بقلم: آمال فريد
ترجمة: خليل كلفت

1
ادوار الخراط
("ساعات الكبرياء")
كتب ادوار الخراط قصته الأولى فى عام 1943: ولم يكن لديه آنذاك سوى سبعة عشر عاما! ومنذ ذلك الحين لم يكف عن كتابة الدراسات النقدية، أو ترجمة قصائد الشعر، والروايات، والأعمال المسرحية. غير أنه لم ينشر إلا فى 1959 مجموعته القصصية الأولى "حيطان عالية" التى جمع فيها اثنتى عشرة قصة قصيرة. وقد رحّب بها النقِّاد ترحيبا حارّا حماسيّا لأنها قدّمت شيئا أصيلا، غير متوقع فى أدبنا العربى المعاصر. وقد تعرّف فيه كُتّاب كبار مثل يحيى حقى و نجيب محفوظ على كاتب موهوب يُسمعنا صوتا جديدا ولأسلوبه مذاق خاصّ.
وقد نوّه محمد مندور أحدُ أبرز نقّادنا نافذى النظر بالثقافة المزدوجة العربية والغربية ل ادوار الخرّاط. وهو يدين لثقافته العربية بلغة ذات ثراء مذهل وهو يستعملها بأستاذيّة كاملة. وفيما يتعلق بثقافته الغربية فقد سمحت له باكتشاف كبار أساتذة الآداب الأجنبية وعلى وجه الخصوص تقنيات الرواية الجديدة.
والواقع أن ادوار الخرّاط يعطى أهمية بالغة للوصف ولا شك فى أنه ينتمى إلى "مدرسة النظرة" التى تعطى للأشياء أهمية أكبر مما تُعطى للكائنات البشرية. وكما هو الحال عند روب-جرييه، على سبيل المثال، نشهد فى قصص ادوار الخرّاط امتزاج العالم الخارجى بالعالم الداخلى، والموضوعى بالذاتى. وهو يمزج كذلك وقائع فعليّة معيشة بوقائع خيالية، مُتصوَّرة. ويشعر المرء أن بطله، شأنه شأن بطل الرواية الجديدة، قد وقع فى قلب دوّامة، وأنه ضائع داخل متاهة جُرِف القارئ معه إلى داخلها. ثم إنه لم يعد لدى الخرّاط خيط أريانى... إن القارئ يحار أمام نص أراده المؤلف مُحيرّا... زدْ على ذلك أنه، عندما يُطلب منه توضيح، يجيب دائما بقوله: "لا أدرى. أقرءوا." وبالتالى سيجد كل قارئ هناك إجابة خاصّة به. وفى نهاية القصة، لا يكون قد تحقّق شيء، ويظلّ كل شيء جائزا؛ ولن يجد المرء ما كان يبحث عنه...
وفى عام 1972، نشر ادوار الخرّاط فى بيروت، دار الآداب، مجموعة قصصية ثانية هى ساعات الكبرياء: وقد جلبت له هذه المجموعة جائزة الدولة التشجيعية فى عام 1973. والواقع أن قراءة قصص المجموعة السبعة (تحت الجامع - آخر السكة - الأميرة والحصان - جُرح مفتوح - البرج القديم - محطة السكة الحديد - فى الشوارع) تتركنا متأثّرين حقا بالجوّ الذى يلُفّها. وفى عالم عبثى، قريب جدّا لعالم كامو نشهد صراع الإنسان مع قوى القدر التى لا ترحم إنه صراع يشعر فيه الإنسان مقدّما بأنه مهزوم لكنه يناضل رغم ذلك، إنه سيزيف جديد. ويجد الإنسان نفسه مسحوقا تحت قدر محتوم لا يرحم غير أنه لا يتخلّى عن النضال... ونشعر بأن المؤلّف يرتفع من الشقاء الخاص، الفردى، إلى الشرّ العريق الذى يفترس البشر. وهكذا، فى القصة المعنونة تحت الجامع، ينتزع صبى صغير من فتاة صغيرة مصاصتها ويبتعد جاريا. هذا الحادث الصغير العادىّ المبتذل، ومعاناة هذه الفتاة الصغيرة، يجرى دمجهما فى سياق إنسانى، يجرى توسيعهما ليشملا كل ألم الإنسان الذى يقع ضحية ظلم من المظالم. وألم هذه الفتاة الصغيرة "ينبض به قلب واحد ممدود داخل الأجيال جميعا"، كما يقول لنا المؤلّف. هناك إذن وحدة فى الألم الإنسانى عبر المكان والزمان. وعند ادوار الخرّاط نجد لحظات الزمان الثلاث متشابكة تشابكا وثيقا. ولا تكف الذكريات، المعيشة أو المتصوَّرة عن التدفّق، مموِّهة الحاضر. زدْ على ذلك أن الحاضر مُمَسْرَح بصفة خاصة: لا يحدّثنا المؤلّف إلا عن اللحظات المأساوية لمصير من المصائر. والحاضر مثقل دائما بالشقاء؛ مَا مِنْ لحظة وفاق فى هذا الكون! ويغمر المرء شعور بأنه يعيش كابوسا...
وفى قصة جرح مفتوح نرى البطلة "أجيّة" تستحم فى دمها. لكن من الذى هاجمها؟ عصابة من قطاع الطرق؟ قطيع من الذئاب؟ لا نعرف ذلك بصورة جليّة واضحة. وليس لذلك أهمية. زدْ على ذلك أننا لا نعرف كذلك ما هى علاقة "أجيّة" بالبطل: أهى زوجته؛ أم عشيقته، أم أمّه؟ إنها كلّ ذلك معا؛ إنها المرأة المحبوبة. إنها الأرض، إنها الوطن. وتكشف السطور التالية هذه الصلة المقدّسة التى تربطه بها: "كيف يمكن أن أتركها، فى دمى هى، فى عظامى، مجدولة بنسيج لحمى، التراب الذى فى يديها عالق بجدران قلبى. وجهى لا يعرف له مأوى إلا على فخديها، وتحت ثدييها. هناك، هناك فقط، على أرض لحمها الدمثة بَيْتى، فى تلك الخصوبة الكثيفة الزهمة. هناك تسقط عنىّ مخاوفى وعذاباتى، وأجد راحتى وأمنى".
وأعتقد أنه لن يكون أمرا زائفا أن نرى فى البطلة رمز الوطن الذى أراد المؤلف أن يتناول بحذر هزيمته فى عام 1967. وهكذا فإنه عندما ينوح على أجيّة الجريحة النازفة إنما ينوح أيضا على وطنه الذى تسربل بالعار: "كيف امتُهنت؟ كيف امتُهنّا؟ (...) يا بنى، كيف امتهنوك؟ (...) كيف سقطت؟ أبكى، كالطفل (...) كيف أبرأ؟ وتبرأين؟ بكاء السقوط يا حبّى، والامتهان. كيف تجفّ الدموع؟"
لقد سقطت أجيّة لكنها طاهرة؛ واغتُصبت لكنها شهيدة. وهكذا يستدعى المؤلف بكثير من الحذر شقاء وطنه المهزوم من خلال السرد المؤثر لسقوط أجيّة.
وفى القصة المعنونة "محطة السكة الحديد" يجد البطل - الذى لا اسم له - شأنه فى ذلك شأن أغلب أبطال الخرّاط - يجد البطل نفسه داخل قطار. إنه داخل عربة خانقة نشعر أننا معه فيها بفضل الأوصاف التفصيلية التى يقدّمها المؤلف. والواقع أن هذه الأوصاف تخاطب كافة حواسّنا دفعة واحدة. وتختلط الأصوات والصور والروائح جميعا. ويهتزّ المرء لحركة القطار، ويشعر بالانزعاج بسبب اختلاط كلّ هذه الموجودات التى تضغط علينا من كل جانب وبالألفة التى دخلناها على الرغم منا... وهذا التصوير الواقعى والحرّ للغاية يجعلنا نفكر فى تلك العربة الأخرى التى صَحِبْنَا فيها أيضا مُسافر السيد بوتور Butor فى "التغيير". والجوّ واحد فى العملين غير أن بطل ادوار الخرّاط يعانى من مشكلة مختلفة. إنه على وشك أن يعقد خطوبته ويحمل فى جيبه الماسة التى ينبغى أن يقدّمها إلى خطيبته. غير أنه يدرك فى اللحظة التى يدخل فيها القطار المحطة أنه فقد ماسته! والآن وقد استولى عليه الذعر، يقفز كالمجنون بحثا عن الخاتم المفقود. وترمز هذه الماسة إلى أنه يملك ما هو نفيس فى هذه الحياة. فإذا فقده فإنما يفقد حياته ذاتها. وهذه الماسة هى "حجر خلاصه وصخرة نوره". ويصوّر لنا المؤلّف البحث المحموم للبطل. فهو يندفع نحو القطار الذى نزل منه لتوّه، وهو يجرى فوق القضبان، ويسقط، وينهض، ويسقط مرة أخرى، ويفقد وعيه، وأثناء كابوس مرعب يرى نفسه مدفونا تحت جثث مجمّدة مبتورة الأعضاء. وفى هذه الصفحات، يعطينا المؤلف، بفضل مفردات ذات ثراء مذهل، بعبارات تثير الرعب، وبفضل ايقاع لاهث، إحساسا بأننا نعيش هذا الكابوس! وتنتهى القصة بهذه الرؤية المهلوسة: البطل محكوم عليه بالبقاء مغروزا تحت تلك الجثث المجمّدة التى تبدو، مع ذلك أنها لا تزال تنبض... هل سيجد ماسته ذات يوم؟ لا نعرف شيئا عن ذلك. غير أنه يمكن للعناد والصلابة اللّذين أبداهما أن يتركا لنا بارقة أمل... ومادامت الحياة قائمة داخل الجثث ذاتها، ومادام النور ينفذ عبر الظلمات الأشدّ كثافة، فلا بد أن ينير أمل لا يُقهر قلوبنا دائما.
غير أننا نلقى هذا الجوّ الكابوسىّ مرّة أخرى فى القصّة الأخيرة فى المجموعة وهى القصة المعنونة "فى الشوارع". وهذه القصة تبدأ بهذه الأسطر الملغزة: "كانت العينان اللتان تنظران إليه قاسيتين، معاديتين، يعرفهما طول عمره. تواجهانه، بصمت، من غير لغة. ولا يريد أن يردّ عليهما". مَنْ المقصود هنا؟ ومن الذى ينظر إلى هذا الشخص؟ وتوضِّح لنا الجملة التالية أن هناك رجلا - ليس له اسم شأنه شأن أغلب أبطال الخرّاط - يقف أمام مرآة؛ وهكذا فعيناه، هو، هما اللتان تنظران إليه. يرتدى هذا الشخص ملابسه ويخرج إلى الشوارع. ونعلم أن المدينة بأسرها فى حالة قلق. ويجرى البحث عن سفاح قد يكون وحشا. لا أحد يعرف على وجه الدقة. والشخص الذى يشير المؤلّف إليه بالضمير "هو" يبدو ضائعا فى المدينة، فى متاهة الشوارع. ونتابعه عندما يركب الأتوبيس. ونسمع الضوضاء المُصِمَّة للمدينة، والناس، وصرير الفرامل، ونرى الجمهور المضغوط، مبهور الأنفاس، الذى يرجّه الأتوبيس الذى يشقّ طريقه بعناء فى التراب، فى الوحل. ويحس المرء بالاختناق برائحة التراب والعفونة. إنه إعصار من الضوضاء، والروائح، والصور؛ ونحسّ بالحياة المذهلة التى تجرفنا مثل قشة فى مهب الريح. ونرافق البطل فى الشوارع، وفى الميدان الكبير. إلى أين يذهب؟ ما هى وِجْهته؟ لا أحد يعرف، لكنه ينبغى أن يسير. "ذهنه هادئ، فى بؤرة ثابتة من حرارة ساطعة، يَعُدُّ عُدّته لصراع لا يعرف أين يحدث، ولا كيف يخرج منه، ولكنه يعرف أنه سيذهب إليه، طائعا أوْ برغمه، ويخور قلبه عندما تطوف بذهنه نتائجه، لا يسلِّم أبدا بها، ولكنه يعرف أنها محتومة وضرورية، أيّا كانت. ويعرف أنه، طائعا أوْ برغمه، سيخوض غمرته".
وهكذا يهيمن قدرُ محتوم على عالم ادوار الخرّاط. غير أن بطله لا يتخلّى أبدا عن النضال. ويتواصل البحث عن الوحش. وهذا الوحش فى كل مكان بالمدينة، لكنه أيضا داخل كلّ واحد منّا. ولا بد أن نسير دائما على الرغم منّا. ويتحاور البطل مع مُحاور مُبهم ليس شخصا آخر سواه هو ذاته: "قال له إن المركب لا بدّ أن يسير؛ قال له: كلّنا لا بد أن نمرّ من الميدان...". وهكذا فليس لنا خيار. "الوحش سفينة تبحر بنا فى مياه مجهولة. والعالم وحش، والألم".
ويواصل البطل سيره وكأنما فى حلم. ويناديه صوت ( وأخيرا يعطى المؤلف بطله اسمه الشخصىّ الأوّل: ادوار). غير أن البطل لم يعد يعرف نفسه. أصبح اسمه غريبا عنه. ويواصل سيره وكأنه يسير نائما. "ودون أن يفتح عينيه، كان يبدو له أنّ البيت بعيد"...
تلك هى الكلمات الأخيرة فى القصة وكذلك فى مجموعة الخرّاط. "البيت بعيد". غير أننا لابدّ أن نواصل السير أيّا كانت الأهوال التى قد نلقاها فى الطريق، رغم الأخطار، ورغم العقبات. وهكذا يوجد فى العالم القاتم ل ادوار الخرّاط ضوء مُترنحِّ وبعيد يسير البطل نحوه متحسِّسا طريقه بعناء.
ولاشك فى أن الخرّاط يتميّز بين كُتّاب القصة القصيرة العربية الحديثة. الذين اتُّفق على تسميتهم جيل 1968 - بكونه خالق جوّ فذّ، ويتميز على وجه الخصوص بأسلوبه. ويشبه تصويره تطريزا رائعا لعمل دقيق وصعب، بألوان داكنة تارة، وزاهية تارة أخرى. أمّا التفاصيل الهائلة التى يقدّمها إلينا فتُعبِّر عنها كلمات تتجمع تحت ريشته فى تدفُّق رائع، تدفُّق يجرف القارئ معه، ويذهله، بل يرهقه أحيانا غير أنه يُثريه دائما! ومع أن ادوار الخرّاط لم يُصدر إلى الآن سوى مجموعتين من القصص القصيرة فالحقيقة أنه يمكننا القول إنه كاتب وُلد كبيرا.
إشارة
1: ميشيل بوتور michel butor، كاتب فرنسى ولد عام 1926 وقد نُشرت القصة المذكورة عام 1957 - المترجم.

*****
2
إبراهيم أصلان
("بحيرة المساء")
القصة القصيرة التى أسف الناس لتدهورها بل موتها، عرفت على العكس من ذلك، منذ عدة أعوام، فترة من الفترات الأكثر تألقا فى تاريخها. فمع عام 1968 - وهو العام الذى شهد، فى فرنسا كما فى مصر، رفض وتمرُّد الشباب - ظهر جيل جديد من الكتاب. جيل عقد عزمه على التعبير عن قلق وأسى، طموحات وأحلام الشباب؛ جيل اضطلع بمسؤولية كشف المشكلات الجديدة والصراعات الجديدة التى تُمزِّق عصرنا الحديث. وهكذا كان هناك إحساس بالحاجة إلى التجديد فى الأدب: إن وسائل تعبير جديدة أصبحت أمرا لا غنًى عنه. ويتحرّر الشعر العربى من نير القواعد الكلاسيكية ويكتب الشعراء الشبان منذ الآن "شعرا حرا". وتحدُث ثورة مماثلة فى القصة القصيرة وتصبح الشكل المفضل للتعبير لدى جيل 68. فيم تتمثل هذه الثورة فى القصة القصيرة العربية المعاصرة، وهى ثورة ينظر إليها بعض النقاد على أنها "نهضة" حقيقية؟ هذا ما سنراه فى الحال ونحن نتصفح معا هذه المجموعة القصصية ل إبراهيم أصلان وهو أحد الكتاب الشبان الأكثر تمثيلا لجيل 68 هذا.
فى هذه المجموعة، الصادرة فى 1971، جمع إبراهيم أصلان أربعة عشر قصة قصيرة سبق نشرها فى المجلات أو الصحف اليومية العربية فيما بين عامى 1965 و 1969. ولن نذكر سوى بعض عناوينها: الملهى القديم، البحث عن عنوان، بحيرة المساء، الرغبة فى البكاء، فى جوار رجل ضرير، المستأجر، العازف، الطوّاف، إلخ.. ومنذ الصفحات الأولى للمجموعة نجد مذاقا خاصا متميزا؛ يحس المرء بأنه نُقل إلى عالم غريب، شبيه بالوهم. ولا شك فى أن أصلان خالق فذ للجوّ. وهذا الجوّ قريب للغاية من ذلك الذى يلف عالم كافكا، عالم "الهناك" هذا. وقد استشهد ألان روب-جرييه، وهو يكتب مقالًا عن بيكيت، فى صدر مقاله بهذا القول المنسوب إلى هايدجر: "قدر الإنسان، هو أن يكون هناك".... وعندما تحدث عن عالمه الروائى الخاص قال روب-جرييه: "الإشارات والموضوعات ستكون "هناك" قبل أن تكون شيئا مّا.
وعالم "الهناك" هذا، عالم كافكا هذا حيث الإنسان سلبىّ، ولمّاح، وغريب عن كل ما يحيط به، وحيث تملك الأشياء وحدها حضورا هاذيا، وحيث تمارس هذه الأشياء سحرا غريبا، هذا العالم هو أيضا عالم إبراهيم أصلان. ولا شك فى أن كُتاب جيل 1968 كانوا متأثرين ب ألبير كامو: كان أغلب أبطالهم ينتمون إلى ميرسو. غير أنهم، عدا كامو، اكتشفوا كافكا، روب-جرييه، ساروت، الذين لهم تأثير ملحوظ للغاية فى القصص القصيرة العربية لهذا الجيل؛ على مستوى المحتوى وعلى مستوى التعبير على حدّ سواء.
والواقع أن أصلان، شأنه شأن كُتّاب الرواية الجديدة، ينتمى إلى ما يسمى بمدرسة "النظرة"، وهى تلك المدرسة التى وضعت نصب عينيها أن تقدم تسجيلا دقيقا، شبه فوتوغرافىّ، للأشياء والتى أعطت للحضور الموضوعى لهذه الأشياء الأهمية التى كانت تُعْطَى منذ عهد قريب للسيكولوچيا وللمغزى فى الرواية أو القصة القصيرة التقليديتين. ومع أصلان تدخل عالما مجرّدا من الطابع الإنسانى للشخصيات فيه حضور أقل من الأشياء. زدْ على هذا أن هذه الشخصيات، وهذا دليل على الأهمية الضئيلة التى يعطيها المؤلف إياها، لا تُسمَّى بأسماء محدّدة؛ مطلقا تقريبا. وعندما يخبرنا الكاتب بالاسم الأوّل لشخصية من هذه الشخصيات مثل هذا السيد، بطل قصة "التحرر من العطش"، فإنه يظل متواريا ومُبهما حتى نهاية القصة.
وإليك ملاحظة أخرى حول الشخصيات: إنها تُختزل إلى بعض الأنماط التى نلقاها فى كل القصص تقريبا. هناك قبل كل شيء الراوى الذى يختلط بكل جلاء بالكاتب. إنه كائن لمّاح وتعس تضجره صُحبة الآخرين. وهو يُلقى على الكائنات والأشياء التى تحيط به نظرة لا مبالية، لمّاحة، مجرّدة من الانفعال؛ إنه كائن لا مبالٍ = لا يعترض على شيء: إنه يقنع بكونه "هناك".... وهو يلاحظ ويصف بأدق التفاصيل ما يراه دون أن يكشف مطلقا عن مشاعره. وعلى مستوى الأسلوب، فإن هذا الكاتب الذى يتوخى عدم الانفعال يختار بالتالى لغة محايدة: كلمات تفتقر إلى الحياة وإلى الانفعال لتوصيل صورة للعالم بلا روح الذى يعيش فيه. وإيقاع السرد بطيء بصورة مقصودة؛ والحوار - وهو أسلوب يستخدمه أصلان كثيرا جدا - هزيل للغاية: يتبادل المتحاورون بالكاد بضع كلمات لا تكشف شيئا بصدد ما يدور داخل نفسهم...
وفيما عدا نمط الراوى، وهو نمط يتواتر غالبا، هناك نمط المجنون - وهو مجنون يبدو عاقلا تماما - الذى ينهمك فى التحادث، ويصغى باهتمام إلى ما يُقال له والذى لا يكتشف المرء جنونه إلا فى نهاية القصة إمّا عندما ينهض بغتة ويتجرّد من ثيابه ليقف عاريا كما ولدته أمه، أو عندما يتضح أنه تستحوذ عليه فكرة ثابتة غير معقولة مطلقا. وهكذا يبدو أن عالم أصلان يتذبذب بين العقل والجنون. ويظل أبطاله أغلب الوقت مشدودين بين بديلين: البقاء/الرحيل؛ الدخول/الخروج، إلخ... وهناك واقع مضحك: يحدث كثيرا أن تعقد مقابلة من الناحية الجسمانية بين الشخصيات؛ وعندئذ يصوِّرها الكاتب هكذا: "النحيل" و"البدين"... وينجذب انتباه القارئ نحو الجانب الجسمانىّ أكثر منه نحو سيكولوچية الشخصية التى يجرى إهمالها عمدا.
ولا تتغير مشاهد القصص كثيرا: نكون فى أغلب الأحيان داخل مقهى شعبىّ مناضده مرصوصة على الرصيف أو حتى فى زقاق مهجور حيث يتحادث صديقان، دائما على الرصيف أو أيضا داخل غرفة مفروشة على سطح.
وواقع أن عالم إبراهيم أصلان مختزل على هذا النحو يأخذه عليه بعضهم، مطالبا إياه بتنويع أعماله، حتى لا تنضب موهبته مطلقا. غير أن لدينا انطباعا بأن هذا التبسيط وهذا الإفقار يريدهما الكاتب. وهذه الكائنات التى نلقاها فى كل قصة، وهذه الأوساط التى هى ذاتها دائما، تسهم فى خلق جوّ أكثر تأثيرا حقا. وهذه الشخصيات بلا اسم، وبلا شخصية خصوصية تجسّد سعى الإنسان الهائم على وجهه فى عالم عبثى ورتيب والمحكوم على كل مساعيه للهرب بالإخفاق.
وهكذا نرى فى قصة "فى جوار رجل ضرير" رجلا أصابه الضجر. ففى حياته لا يحدث شيء أو تحدث أشياء قليلة جدا. وهو يدرك بوضوح لا جدوى، وتفاهة، وجوده. والقصة، التى تتخذ شكل يوميات يكتبها البطل، تبدأ بهذه الكلمات: "لم يحدث شيء". ورغبة فى كسر هذه الرتابة، ولإحساسه بحاجة إلى الهرب، يهجر البطل بيت الأسرة ويستأجر غرفة مفروشة على سطح بيت مالكه رجل ضرير. غير أنه، هناك أيضا، ليس سعيدا؛ ولا يصل إلى التكيف مع حياته الجديدة. ثم ها هو المسافر بلا حقائب والذى لا يملك فى هذه الدنيا سوى قوقعة يستخدمها منفضة سجائر، وتمثال صغير من الخشب... ها هو يرحل... وهذا الشاب، مقطوع الصلات، اللمّاح، لديه مشكلات وهموم وأمانىّ الإنسان المعاصر. وإذا كان حاضره أشدّ بؤسا من ماضيه فماذا سيكون مستقبله؟ وتخبرنا السطور الأخيرة من القصة بأن قوقعته انكسرت، لكنْ يبقى له على الأقل تمثاله الخشبى الصغير: لم يضع كل شيء... ومثل كتاب الرواية الجديدة، لا يقوم أصلان بأىّ تعليق، وهو لا يعطى حلًّا أبدا؛ وهو يترك لقارئه مهمة التفكير واستخلاص استنتاجاته الخاصة.
وتصوّر لنا قصة أخرى وهى قصة "العازف" استغلال الإنسان للإنسان. ومن المفترض أن يؤدى البطل نمرة فى أوركسترا، فهو لا يجب أن يعزف بل يجب أن يكون هناك وحسب، مؤديا حركات عازف الكمان. ونشاهد ضربا من الپانتوميم؛ ويبدو كل شيء ضربا من الوهم. والواقع أن الشاب ليس العازف المزيّف الوحيد، فالباقون، بدورهم، يلعبون أدوارا فى المهزلة. إننا إزاء خدعة كبرى يتخطى المسرح مشهدها ليشمل العالم. و إبراهيم أصلان ينزع القناع هنا عن استعباد الإنسان الذى يُعامل بوصفه موضوعا دون أية مراعاة لكرامته الإنسانية. و"العازف" قصة تعكس الاضطهاد المعنوى الذى يقع بعض الناس ضحايا له؛ إن الرأسمالية هى المتَّهمة. ويحث الكاتب بصورة ضمنية على الثورة، ويكشف لنا السرد والحوار عن دراما الإنسان المُهان والمجبر على بيع نفسه لكى يعيش.
وفى بحيرة المساء، يصوّر أصلان حياة مجموعة من اللاعبين فى المقهى، لا مبالين بكل شيء سوى لعبة الطاولة التى يلعبونها. وفى وجه هذه اللامبالاة يبرز الكاتب لنا الجدية التى يتكلم بها مجنون يرغب فى نقل عظام الأموات من أفراد أسرته لأنه تقرّر هدم الجبانة التى يرقدون فيها...
ومن قصة "المستأجر" نأخذ فقرة يقدّم إلينا المؤلف فيها وصفا موضوعيا بالغ الدقة ليدٍ، يده هو؛ غير أن هذه اليد موصوفة كشيء غريب عليه تماما، كشيء لا ينتمى إليه... "رأيتها وهى ملقاة أمامى محمرّة على السطح الخشبى الداكن، وقد غطتها الخطوط الخفيفة المتشابكة. قرّبتُ وجهى منها. كانت الأصابع مرتفعة ومائلة إلى ناحيتى، وكانت تُلقى بظلال منحرفة على باطن اليد الموضوعة. وفى الجانب القريب منِّى، عند الرسغ، كان عدد من الأوردة الرفيعة الزرقاء يتقاطع فوق شريان منتفخ قليلا، بعد أن ثبّتُّ عينى لاحظت أن هذا الشريان كان ينبض فى انتظام، ويحرّك بداية الخط العميق. تتبعت هذا الخط العميق المزدوج. كان يقسّم اليد المحمرّة ويتقدم منحرفا إلى الناحية اليسرى، وينتهى فى ذلك المكان الموجود بين الإصبع القصيرة الوحيدة، وتلك الإصبع الأخرى القريبة من بقية الأصابع الطويلة." إلخ...
وفى هذا الوصف التفصيلى الذى يذكّرنا بتلك الأوصاف التى نلقاها فى أعمال روب-جرييه نلاحظ أن الكاتب لم يقل "يدى" أو "أصابعى" عن عمد... وأنه يستخدم كلمات محايدة وباردة، جديرة بكتيّب فى البيولوچيا!
وفى ختام هذا الدخول العابر فى عالم إبراهيم أصلان: ما هو الانطباع الذى نحتفظ به منه؟ حقا إن الأمر يتعلق بعالم مظلم وحزين غير أنه يتصاعد منه شعر عميق. ويتجنب أصلان كل تدفقٍ للمشاعر، وهو لا يحبّ أن يتغرغر بالكلمات، وهو يؤثر تأثيرا أكبر بفضل كتمانه، وهذا العالم الذى يشجب أصلان سخفه، ويرفض نفاقه وظلمه، هذا العالم لم يتخلَّ الكاتب عن جعله أفضل. لكن ما العمل؟ إبراهيم أصلان لا يقول ذلك. وعلى كل واحد منّا أن يجد حلّه!

*****
3
جمال الغيطانى
("أوراق شاب عاش منذ ألف عام")
النقاد الذين تحدثوا عن الأزمة التى تجتازها القصة العربية حيّوا بحماس هذه المجموعة القصصية ل جمال الغيطانى. وكانت هذه المجموعة تمثل فى نظرهم، فى سياق تاريخ القصة العربية المعاصرة، الممثل الأكثر جدارة لتيار جديد يناظر ما يدعى فى السينما "بالموجة الجديدة". ظهرت "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" فى فبراير 69 عن "كتاب الطليعة" وقدمت إلى جمهور القراء موهبة حقيقية، وفكرا مبكر النضج، وعلى وجه الخصوص شكلا أصيلا مبتكرا.
و جمال الغيطانى، الذى ولد فى مديرية سوهاج فى قلب الصعيد، نشأ فى القاهرة، فى حىّ شعبىّ هو الجمالية حيث لا يزال يعيش. ولمّا كان يعيش فى حىّ تاريخى فقد دفعه ذلك إلى دراسة تاريخ بلاده، وإلى كشف وجه مصر القديمة، وفى محاولة للسيطرة على الزمن، هذا الزمن الذى يجرفنا إلى الأبد، قرّر الغيطانى أن يستمدّ موضوعات قصصه من التاريخ. وفى إنتاجه، يقودنا الكاتب، وراءه، عبْر متاهات التاريخ القديم، عائدا بنا إلى العصور الوسطى. ويختار الغيطانى من التاريخ المشكلات والأزمات ذات الأثر العميق فى عصرنا الحديث. ويقدم الغيطانى إلينا المشكلات الخالدة التى طرحت نفسها على البشر فى العهود الغابرة والتى تطرح نفسها بحدّة على البشر فى عصرنا. وقد فرض عليه اختياره للموضوعات التاريخية شكلا ملائما لها: فهو يقلّد أسلوب المؤرخين القدامى ويكون لدى المرء انطباع عند قراءة أغلب قصصه بأنه يقرأ وثائق يعلوها الغبار...
وتشتمل مجموعة جمال الغيطانى على القصص التالية: أوراق شاب عاش منذ ألف عام، عودة ابن اياس إلى زماننا، أيام الرعب، ما جرى فى المقشرة(1)، مأساة ابن سلام. وسنحاول الآن أن نقدّم تحليلا تفصيليا للقصتين الأكثر أهمية فى هذه المجموعة وكذلك لمحة موجزة عن القصص الثلاث الأخرى.
فى كبرى هذه القصص، وهى المعنونة " أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، يُطلعنا الكاتب على أوراق مبعثرة كتبها هذا الشاب بعد نكسة يونيو 1967، وقد اكتُشفت هذه الأوراق نحو عام 2967! وهذه "الألف عام" لا تنتهى إذن فى الوقت الحاضر، كما قد يدفعنا العنوان إلى الاعتقاد؛ فهذه الألف عام لا تشكّل عصرا غابرا بل "مستقبلا تاريخيا"... والواقع أن ذلك الشخص - من أحفادنا - الذى يقدّم أوراق هذا الشاب، يعلن أنها كُتبت أثناء حرب بين مصر ودويلة صغيرة جدا كانت تُدعى فى سالف الزمان إسرائيل، وهى دويلة لم تعد موجودة الآن، أىْ فى عام 2967.... ونعلم كذلك أن هذه الفترة ذاتها شهدت انتشار الاشتراكية على كامل كوكب الأرض.
ولما كان الأمر يتعلق بأوراق صغيرة، فقد سمح ذلك للكاتب بألَّا يضع فى اعتباره التتابع المنطقى للأحداث. ويجد المرء كل شيء فى هذه الأوراق: فهو تارة يخبرنا بعدوان إسرائيلى على الأراضى المصرية: وهو يجعلنا نشاركه قلقه فى الشوارع المظلمة حيث تنتصب البيوت مثل الأشباح فى صمت الليل. وهو تارة أخرى يجعلنا نسمع الإذاعة التى تذيع نشيدا وطنيا أو نشرة الأخبار وهى تعلن انسحاب قواتنا إلى الضفة الغربية... والكاتب لا يعلّق على الهزيمة لكنه يعمد ببراعة إلى أن يُتْبِع هذه العبارات من أوراق الشاب المجهول بأخرى مأخوذة من التاريخ القديم تصف فترة من القحط والبؤس: "ونزل الوباء فى الناس، فكادت مصر أن تخلو من سكانها": هذا ما نقرأ فى هذه الوثيقة التاريخية. وليس بالأمر الصعب أن يعقد المرء الصلة بين هذه النازلة وبين النازلة الإسرائيلية.
والأسلوب الذى ينتهجه الكاتب والذى يتمثّل فى مزج الحاضر والمستقبل بالماضى دفعة واحدة، بموضوعية مقصودة، هذا الأسلوب، المستخدم بكثرة فى سيناريوهات أفلام "الموجة الجديدة"، أكثر إيحاءً، وأكثر تأثيرا، وأكثر فصاحة رغم إسراره وكتمانه ورصانته من كل وصف واقعىّ، ومن كلّ بوْح مباشر.
وتُحدِّثنا صفحات الأوراق أيضا عن الحالة الروحيّة للشاب الذى - بعد النكسة - يجوب مضطربا شوارع مدينته الصغيرة حيث استُؤنفت الحياة الطبيعية: يذهب الناس إلى السينما ويأكلون البطيخ. أمّا هو فيختنق وحده بطعم المرارة. وفى تضاعيف صفحات اليوميات يُدْرج الكاتب آية قرآنية، مقتَطفا من قصيدة فرعونية أوْ من أسطورة قديمة، بضعة أسطر من جريدة صادرة فى يونيو 67 حيث، إلى جانب أخبار ڤيتنام، يجرى حث الشباب على التطوع فى حركة المقاومة الشعبية. وهكذا وجد الشاب المخرج الذى كان يبحث عنه: سيسافر إلى الإسماعيلية، سيسافر إلى الجبهة، لاستئناف القتال. وكلمته الأخيرة: "سأرحل" تذكّرنا هنا بعبارة "إنّى راحل" التى أطلقها بعزم وتصميم فى نهاية قصة نجيب محفوظ المعنونة "يُحْيِى ويُمِيت"، البطلُ الشابُ الذى قرّر أن يذهب ليقاتل العدوّ الإسرائيلى حتى آخر قطرة من دمه.
ولا شك فى أن "أوراق شاب عاش منذ ألف عام" تُعَدُّ بين أصدقِ ما كُتب عاطفة وأكثرِه أصالة وابتكارا من ناحية الشكل فى الأدب الذى استلهم كارثة يونيو 1967.
وفى الحكاية المعنونة "عودة ابن اياس إلى زماننا" يتخيّل الكاتب أن المؤرّخ ابن اياس عاد من الماضى ليعيش فى عصرنا الحديث، وليعيش على وجه التحديد محنة 1967 القاسية. غير أن ابن اياس يحس بالضياع فى الشوارع المكتظة السكان بالقاهرة، وهو يحس بالغربة إزاء هذا الحشد من البشر الذين لم يأت ليشاركهم همومهم، والذين لا يفهم مشكلاتهم الجديدة. وهو لا يحلم بأكثر من أن يغادر هذا العالم ليستأنف نومه الأبدىّ الذى قطعه هذا الهرب المؤقت إلى الأرض...
و"أيام الرعب" هى القصة الوحيدة(2) التى جعلت الحاضر إطارها. وبعد العودة صوب الماضى والتسلّل إلى المستقبل، ها هو أخيرا واقع الحياة اليومية المعتاد. وفكرة "أيام الرعب" ليست جديدة، غير أن أسلوب الكاتب وهو يقصّ علينا قصة الثأر التقليدية هذه أسلوب جديد. والواقع أنه لا يقصّ علينا مجرّد قصة، بل يكشف لنا قبل كل شيء حالة روحية، يكشف لنا المحنة الإنسانية التى يمرّ بها البطل محروس فياض سلامة. وهذا الأخير شاب صعيدى يعيش فى القاهرة حيث يعمل موظفا. يصله خطاب من الصعيد يطلب فيه جدّه منه أن يحترس لأن قاطع الطريق الشهير الذى ينشر الرعب فى أنحاء الصعيد، عويضة، خرج من السجن وسافر إلى القاهرة باحثا عنه، ليقتله. وهكذا سيكون بمقدور عويضة أن يثأر لموت خاله، الذى قتله منذ عشرين عاما أحد أفراد أسرة محروس(3). وتبدأ "أيام الرعب" بالنسبة ل محروس منذ أن يقرأ هذا الخطاب الذى يحمل نذير الموت. ويشعر الشاب. التعيس أنه حيوان مطارد. ويجعلنا الكاتب نتغلغل داخل هذه النفس التى يخنقها القلق، والتى يملؤها خوف بشع: وهو يُسْمِعُنا الحوار الداخلى ل محروس، هذا المحاصر بالموت. وقد كتب يقول: "أدرك أن حياته فى خطر. كأنه لم يعرف هذا من قبل. ربما مات الآن.. بعد ساعة، بعد يومين. حتما سيحدث هذا. بل إن أىّ شيء يمكن أن يقع الآن: تستحيل البيوت إلى ضباب أزرق فاقع.... يتحول الناس إلى ذرات صغيرة... أىّ شيء يمكن أن يقع.. انغراس الجسم المعدنى فى لحمه هو.. عظامه هو.. لكن متى!! كيف.. أين!! لا يدرى، عندئذ يغمض عينيه.. ولا يطلّ على شيء فى الدنيا.. أبدا.. أبدا.."
ويعرف محروس أن عويضة سيلاحقه بلا كلل وأنه سينتهى إلى الانقضاض عليه كما ينقض حيوان مفترس على فريسته... قد يلوذ بالفرار، لكنْ هل يمكنه أن ينجو من مصيره؟ إن عويضة، بالنسبة له، مصير محتوم، وهو تجسيد قدر لا يرحم! وها هو الكاتب يُسْمِعُنا مرة أخرى، حتى فى هذه القصة التى تنفرد بأن موضوعها غير مستمد من التاريخ، هذه الصيحة التى يُطلقها البطل "لو هناك حياة غير الحياة، لو عاش إنسانا آخر فى عالم ثانٍ". ويعبّر البطل الشاب على هذا النحو عن حنينه إلى عصر آخر يكون بالنسبة له ملاذا، ومرفأ أمان. ونلقى دائما هذه الفكرة الأثيرة لدى الكاتب: الهرب فى الزمن، ماضيا كان أم مستقبلا، للإفلات من الحاضر القاسى. غير أن محروس يدرك تماما أن ما يتمناه عبث باطل؛ وحينئذ فإنه - كىْ يتخلص من عذابه، وفى حالة من اليأس - يستسلم. وفى ميدان سيدنا الحسين، يخلع ثيابه، ويلوّح ببطاقته الشخصية وهو يزعق: "أنا واحد وثمانين ستة وستين.. جمالية.."(4) وألقى بطاقته على الأرض.. بوسع عويضة أن يلتقطها، وبوسعه أخيرا أن يطعنه ليضع حدا لعذابه! ويعتقد الناس من حوله أنه مجنون. "وسمع عويضة يشقّ الزحام واثقا، ثقيل الخطى لا يُوقفه أحد". هل سمع محروس فعْلا خطى عويضة أم أن ذلك مجرد هذيان؟ هل قُتل محروس على الفور أم أن سيرزح طويلا تحت هذا الخوف الذى يعذّبه؟ الكاتب لا يقول لنا شيئا عن ذلك. وعلى أية حال، لاشك فى أن الرعب الذى يعيش فيه أكثر حدَّةً بالقطع من الجسم الحديدى، وأكثر يقينا من رصاصة، وأقسى قلبا من عويضة ذاته...
وفى القصة المعنونة "ما جرى فى المقشرة"، يجعل الكاتب السرد على لسان آمر ذلك السجن فى زمن المماليك. ويقصّ هذا الآمر قصص التعذيب الذى يعانيه السجناء التعساء: عندما هرب أربعون منهم من السجن، أمر الآمر بإلقاء القبض على أربعين من الأبرياء الذين يسيرون فى الشارع، لتسليمهم إلى الأمير القاسى. وآمر السجن هذا الذى يرسل الأبرياء إلى الموت لا يفوته أبدا أن يتلو صلواته ساعة موتهم: وحيث صارت القسوة بالنسبة له نوعا من الواجب المهنىّ، فإن ضميره لا يعذّبه مطلقا!
و جمال الغيطانى يحاكى هنا لغة الوثائق التاريخية: إنه يقدّم لنا رواية للأحداث التى جرت فى عصور قديمة، غير أن هذه الأحداث ليست غريبة عن عصرنا الحديث، عن هذا العصر المتميز بالصراعات والكوارث التى تملأ النفوس كآبة.
وفى "مأساة ابن سلام"(5) يستدعى الكاتب ذكرى هزيمة المماليك على أيدى العثمانيين من خلال شخصية من عامة الشعب هى شخصية ابن سلام، الذى يمثل رمز الشعب البائس، المضطهد، المقهور. وعلى رأس الشعب ثار ابن سلام ضدّ طغيان الزينى بركات بن موسى، غير أنه قبض عليه وحكم عليه بالإعدام. وقد أعُدِم فى الميدان العام وظلّ جسده، طوال ثلاثة أيام، معلّقا فوق باب زويلة. و ابن سلام ليس فقط شخصية تاريخية، فهو يظل رمز النضال، والمقاومة، ليس فقط فى ذلك العصر الحزين فى تاريخ مصر، عصر الاحتلال العثمانى، بل كذلك وبصفة خاصة فى هذه السنوات التى نعيشها الآن. وإذا كان ابن سلام قد مات، فإن النضال لم ينته، وسيتولى التغيير آخرون، وسيواصل آخرون بعناد النضال الصلب الذى بدأه...
واللافت للنظر فى إنتاج الغيطانى هو أننا نجد فيه - من خلال هذا الشكل التاريخى - صدى صادقا للأزمات والمشكلات التى هى أزماتنا ومشكلاتنا. وهرب الكاتب فى الزمان لا يمنعه من أن يكون - شأنه فى ذلك شأن بقية الكتاب الشبان من أبناء جيله - كاتبا ملتزما، يطلعنا على التجربة الإنسانية لشباب اليوم. هذا الشباب الذى يُلقَّب "بجيل الثورة"، والذى يحسّ بالحاجة إلى أن يصرخ بمعاناته، وإلى أن يعبّر عن مرارته وقلقه، وإلى أن يبوح بأمانيّه وأحلامه: وقد أصبح جمال الغيطانى ناطقا بلسان جيله، وهكذا أثرى أدبنا العربىّ المعاصر مضيفا إليه قوة تعبير جديدة وبصفة خاصة مجدِّدا ببراعة وسائل التعبير فى القصة العربية.
إشارات
1: عنوانها الكامل: هداية أهل الورى لبعض مما جرى فى المقشرة - المترجم.
2: المقصود أنها القصة الوحيدة فى المجموعة فللغيطانى قصص كثيرة ذات موضوعات معاصرة - المترجم.
3: الواقع أن جدّ محروس، والد أبيه، قتل خال عويضة منذ أربعين عاما - المترجم.
4: بطاقته الشخصية رقمها 8166 وهى صادرة عن قسم الجمالية - المترجم.
5: عنوانها الكامل: كشف اللثام عن أخبار ابن سلام - المترجم.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عملية -عَمُود السَّحَاب- وأقدار مصر وسيناء وغزة بقلم: خليل ك ...
- روبرت ڤالزر (مقالان: 1: سوزان سونتاج، 2: كريستوفر ميدل ...
- كتاب سيد عويس: التاريخ الذى أحمله على ظهرى
- غزة وما بعد غزة
- بعيدا عن تأسيسية الدستور ودستور التأسيسية ضرورة الإطاحة السل ...
- كيف كتب دوستويڤسكى رواية الجريمة والعقاب؟ -إعادة قراءة ...
- مارسيل پروست (مقالان: مقال: أناتولى لوناتشارسكى، ومقال: أندر ...
- مصر وبلاد النوبة تأليف: والتر إمرى، ترجمة: تحفة حندوسة مقدمة ...
- مصير العالم الثالث تحليل ونتائج وتوقعات توما كوترو و ميشيل إ ...
- الأساطير والميثولوچيات السياسية(1) راؤول چيرارديه عرض: خليل ...
- تفسير الرئيس المصرى الدكتور محمد مرسى لآية الله والعلماء
- زيارة جديدة إلى -مزرعة الحيوانات- رواية -مزرعة الحيوانات- چو ...
- عوالم عديدة مفقودة
- الشرف والغضب لا يكفيان [مراجعة لكتاب: نعوم تشومسكى:-الحيلولة ...
- الكتب معرفة ومتعة - الجزء الأول
- حول الأسلوب فى السينما - أندريه بازان
- جنوب أفريقيا عصر مابعد سياسة الفصل العنصرى (الأپارتهيد)
- إلا الرسول الكريم
- هل انتصرت الثورة المضادة فى مصر؟
- حروب القرن الحادي والعشرين مخاوف وأخطار جديدة


المزيد.....




- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...
- -كنوز هوليوود-.. بيع باب فيلم -تايتانيك- المثير للجدل بمبلغ ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - ادوار الخراط وإبراهيم أصلان وجمال الغيطانى مقال عن مجموعة قصص قصيرة لكلٍّ منهم بقلم: آمال فريد ترجمة: خليل كلفت