أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حسين علوان حسين - رد على د . مجدي عز الدين حسن : الإعتباطية و القصدية في اللغة















المزيد.....


رد على د . مجدي عز الدين حسن : الإعتباطية و القصدية في اللغة


حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)


الحوار المتمدن-العدد: 3920 - 2012 / 11 / 23 - 20:19
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


أولاً : مشكلة البحث
في الحوار المتمدن- العدد: 3879 - 2012 / 10 / 13 - 14:21 ، تفضل الأستاذ الدكتور مجدي عزالدين حسن المحترم بالعرض لموضوع مشكلة أصل اللغة في مقاله المعنون : ( في فلسفة اللغة (2): مشكلة أصل اللغة) . و قد تطرق في هذا المقال إلى موضوع القصدية في اللغة ، فقال :
وعلى مر التاريخ القديم والحديث لهذه المشكلة، نجد أن الباحثين فيها ـ سواء أكانوا علماء لغة أو فلاسفة أو رجال دين ـ قد تبنوا نظريات/فرضيات مختلفة. وعُبر عنها بالتساؤل التالي: اللغة توقيف أم اصطلاح؟ هل اللغة مواضعة واتفاق؟ وهي قضية قديمة وحديثة، فمن جهة أولى، لأنها شغلت قدماء الفلاسفة اليونان، وعبروا عنها بالسؤال: هل العلاقة بين الأسماء والأشياء علاقة طبيعية أم علاقة اتفاقية؟ (نظرية المحاكاة الطبيعية عند أفلاطون: الأسماء تُحاكي نفس طبيعة الأشياء) وفي العصر الإسلامي الوسيط، عبر عنها ابن جني بالسؤال: هل اللغة مواضعة؟ وعبر عنها فلاسفة اللغة حديثاً، بالسؤال: هل العلاقة التي تربط العلامة اللغوية بالشيء الذي تدل عليه، علاقة اعتباطية أم ضرورية؟ وعبر عنها فرديناند دي سوسير، مؤسس علم اللغة الحديث، بالسؤال: هل العلاقة التي تربط الدال بالمدلول، علاقة اعتباطية أم ضرورية؟ لن أتوقف عند الفرضية المتمثلة في أن أصل اللغة هو الوحي، والتي عرفت ب(نظرية الوحي والإلهام والتوقيف). والقائلة بأن الوحي أصلا للغة، وكذلك الفرضية القائلة بأن أصل اللغة يكمن في محاكاة طبيعة الأشياء، والتي عرفت ب(نظرية المحاكاة الطبيعية). سأركز هنا على الفرضية القائلة بأن اللغة الإنسانية تجد أصلها في الاصطلاح، والتي عرفت ب(نظرية التواضع والاصطلاح والاتفاق).
إنتهى .
بعدها يقدم الدكتور مجدي عزالدين حسن إجابته التي يعتقد بصحتها عن السؤال : هل العلاقة بين الأسماء والأشياء علاقة طبيعية أم علاقة اتفاقية بالقول :
وإذا توقفنا مع مؤسس اللسانيات الحديثة، عالم اللغة السويسري فرديناند دي سوسير، نجده ينفي إية رابطة طبيعية بين الدال والمدلول، بل على العكس من ذلك تماما، يرى (اعتباطية) العلاقة التي تربط بينهما. فالنظرية اللغوية عند "سوسير" تقوم على المبدأ القائل باعتباطية العلاقة بين الصوت والمفهوم أو بين الدال والمدلول. إن مبدأ القول باعتباطية العلاقة بين طرفي العلامة اللغوية يعني فيما يعنيه أن اللغة بوصفها نظام من العلامات يكتسب قوة العرف الاجتماعي عندما يتفق عليه مستخدمو اللغة، وأن هذا الاتفاق على نظام العلامات تم بصورة عفوية أو اعتباطية. بمعنى أكثر وضوحا فإن مبدأ اعتباطية العلاقة بين طرفي العلامة اللغوية يتلخص في عدم وجود أية رابطة ضرورية أو تلازم ضروري في العلاقة الجامعة بين الدال والمدلول، فمثلاً حينما نصدر الصوت الذي هو لفظ "قط"ـ الذي يمثل الدال هناـ فإن ذلك الصوت يشير أو يدل على مفهوم أو فكرة "القط"، في عقولنا، ذلك الحيوان الأليف ـ الذي يمثل المدلول هناـ في هذه العملية (عملية صدور الصوت من متكلم واستقباله من جانب شخص آخر سامع) لا يمكن أن يحدث تواصل ناجح بين طرفيها ما لم يكن هناك اتفاق مسبق من قبل الجماعة المستخدمة للغة على أن لفظ (القط) يشير ويدل على مفهوم محدد يمثل في مثالنا السابق مفهوم (القط)، وقس على ذلك. وهذا يعني أن الجماعة المستخدمة للغة قد اتفقت اعتباطيا على الدوال التي يشيرون بها ويعبرون بوساطتها عن الأفكار والمفاهيم والتصورات، الأمر الذي يمكّن المرسل والمستقبل داخل هذا النظام اللغوي والمستخدم للغة من التواصل بشكل ناجح. وبالتالي فإن هذا الاتفاق لوحدات اللغة الأساسية المكونة لها، يعني أنها علامات تكونت بشكل اعتباطي باستنادها إلى العرف أو الاتفاق الاجتماعيين، ولكن أهم ما يميز تلك العلاقة الاعتباطية، أننا بمجرد أن نقيم ذلك الربط بين دال معين ومدلول معين، ويكتسب قوة العرف الاجتماعي، فلا يستطيع مرسل بمفرده أو مستقبل بمفرده أو الاثنان معاً تغيير تلك العلاقة دون أن تتفق الجماعة المستخدمة للغة على ذلك التغيير.
إنتهى .

و لكون الدكتور مجدي عز الدين حسن قد إكتفى في بحثه بترديد ما يقوله علماء و شراح علم اللغة الحديث بهذا الصدد من سوسير ( و هو – مع يسبرسن و ماثيسيوس - أحد العلماء الثلاثة الذين أسسوا دعائم علم اللغة الحديث و ليس المؤسس الوحيد ) إلى لايونز و كريب في توكيد وجهة النظر الأحادية القاصرة للغة باعتباطيتها و ذلك دون مقاربة مصادره نقدياً لتلمس الأوجه المختلفة للحقيقة اللغوية ، لذا فقد حاولت لفت نظر الباحث الكريم إلى الحقيقة التي باتت الآن معروفة لدى المتخصصين المطلعين في علم اللغة و التي مؤداها أن اللغة نظام مزدوج فيه الإعتباطي و فيه القصدي ، و أن توكيد سوسير الأحادي و القاطع على مطلقية الطبيعة الإعتباطية في اللغة هو تصور قاصر لكونه إختزالي لا ينطق سوى بنصف الحقيقة ، و أن هذا التفسير القاصر قد تجاوزه علم اللغة ، على الأقل منذ عام 79 - 1980 عندما نشر "ريدي" مقالته حول "استعارة القناة" (The Conduit Metaphor) للتعبير عن لغوياً عن الإتصال و ظهور كتاب ليكوف و جونسن الموسوم : الإستعارات التي نحيا عندها (Metaphors We Live By) و دراسة سويتسر (Mind as Body ) المعنونة (From etymology to pragmatics: metaphorical and cultural aspects of semantic experience ) و التي أثبتت كلها على نحو لا يقبل الدحض بأن مدارك البشر في كل العالم للمئات من المفاهيم و الحوادث المجردة تتحقق لغوياً عبر إحالتها إلى كليات مستعارة من العالم الملموس و من التجربة المادية مثل ربط المعرفة و الإدراك بحواس البشر و بالهضم ، و ربط الجنس بالطعام و الحرارة ، و ربط الحب و الزواج و الحياة بالسفر في رحلة ، و ربط الدلالة على الأكثرية و الأفضلية بمفهوم " الأعلى" و ربط الغضب بالسائل الذي يغلي ... الخ مثلما سيتضح بالتفصيل لاحقاً . لذا فقد سألت الدكتور الفاضل مجدي عز الدين حسن هذا السؤال في حقل التعليقات بتاريخ 13/ 10/ 2012:
سؤال : ما هو رأيكم الشخصي بخصوص إعتباطية اللغة و قصديتها ؟
في اليوم التالي ، أجابني الدكتور الفاضل مجدي عز الدين حسن مشكوراً بالقول :
أنا أرى التالي: ليس ثمة رابطة طبيعية أو تلازم طبيعي بين عنصري العلامة اللغوية (الدال والمدلول) وتقوم العلاقة الجامعة بينهما على أساس عشوائي اعتباطي، وهو ما يجعلنا ننظر للغة بوصفها مجموعة من العلامات تم الاتفاق عليها بشكل اعتباطي من قبل الجماعة المستخدمة لهذه العلامات اللغوية. فحينما نقول أو نكتب اللفظ (كتاب) فنحن داخل اللغة العربية نشير من خلال هذا اللفظ إلى مفهوم شيء بعينه. وليس ثمة أي تلازم طبيعي بين مفهوم الشيء وبين الدال الذي يشير إليه.
إنتهى .
بتاريخ 16 / 10 علقت على رد الدكتور الفاضل مجدي عز الدين حسن بالقول :
الموضوع - في نظري المتواضع - هو أكبر و أعقد من إجابة سوسير الأحادية القاطعة و مثلها إجابتكم أعلاه . أسئلة مهمة : لماذا تقرن غالبية اللغات العِلْم (knowledge) بالرؤية ؟ و كيف نفسر هذا بدون القصدية ؟ لماذا يكون -أعلى- هو دائماً -أكثر- أو أحسن ، و –أدنى- هو دائماً -أقل- في وصف الكميات و الأشياء في كل اللغات ؟
هل أنتم مطلعون على اللغة السومرية الإلصاقية ؟ كل مقاطعها قصدية ، و هذا ما مكن علماء اللغة من فك رموزها .
الصحيح ، برأيي المتواضع - و هو رأي مطلع على آخر التطورات بهذا الخصوص - هو أننا لا نستطيع نفي القصدية و لا نفي التحكمية في اللغة ، كلاهما وجهان لحقيقة إجتماعية جدلية واحدة .
بتاريخ 18 / 10 تفضل و أجابني الدكتور الفاضل مجدي عز الدين حسن موضحاً :
هناك مجموعة من الاعتراضات يمكن أن تثأر في مواجهة القصدية، أجمل بعضها هنا وأصيغه في شكل التسأولات التالية:
هل تنطبق القصدية على اللغة السومرية الإلصاقية وحدها أم تنطبق على جميع اللغات؟
هل هذه الفرضية النظرية مكتفية بذاتها أم أنها تستند إلى نظريات أخرى؟
ألا يوجد فيها (بنظرك) أية جوانب قصور؟
من وجهة نظري، القصدية لا تصلح كنموذج تفسيري للتعميم على جميع اللغات، فهناك قدر كبير من الالفاظ لم يطلق على أساس قصدي، وإنما على أساس اعتباطي، وليس بوسعنا أن نتصور أن أسماء الأعداد، مثلا، في جميع اللغات يشابه كل أسم منها عدد بمفرده.ولهذا لا بد بجانب قبولك للقصدية أن تفسح المجال للقول بالاعتباطية. وأن
الكلام يتألف من أصوات اعتباطية لا تحمل علاقة بالأشياء والمفاهيم التي تمثلها، وعلى سبيل المثال لا تحمل كلمة (كلب) كما ننطقها أي شبه بذلك الحيوان أو بالأصوات التي يصدرها. أضف إلى ذلك، احتلاف الكلمات التي تشير إلى شيء واحد من لغة إلى أخرى، وبالطبع هناك استثناءات قليلة تجسد المحاكاة الصوتية، ولكن الجزء الأكبر من الأصوات الفعلية لكلمة لا يدل على طبيعة الشيء في ذاته.
إنتهى
لاحظت أن الدكتور الفاضل مجدي عز الدين حسن يفهم الإعتباطية في اللغة بكونها لا تنصرف إلا على المستوى التعبير الصوتي عن المفردات المعجمية ، و لا يتصور أننا عندما نقول باعتباطية اللغة فأن هذا القانون يجب أن ينصرف على كل مستويات التعبير في اللغة بضمنها علم الدلالة و التداول ، فحاولت الإشارة إلى ذلك مع إعطاء بعض الأمثلة الصوتية لدلالات قصدية صرفية مشتركة بين عدة لغات بالقول :
شكراً على إجابتكم و التي تجنبت التطرق إلى ربط اللغات للمعرفة بالنظر و مفهموم التحت بالدونية و الأعلى بالعكس . إذن ، على الأقل في هذين الحقلين الدلاليين - وهناك عشرات غيرهما - توجد قصدية لا يمكن - ببساطة - كنسها تحت البساط و القول بمطلقية الإعتباط في اللغة .
كما لا يمكن كنس واقع أن أغلب اللغات تربط مفهوم العلا أو السماء بالله ، و الأحمر بالخطر ، و النجم بعشتار مثال : stern, astre, sitara, star, astera الخ .
معلوم أن هناك في كل اللغات كلمات تحاكي أصوات الطبيعة مثل القَط cutو صوت مواء القطة (ميو) و غيرها كثير و هي موجودة مع بعض التلوينات الفونومورفيمية عبر اللغات و لا يمكن تجاهلها مثلما فعل سوسير و غيره .
أما موضوع قصدية الإلصاق ، فهو مبدأ عام ينطبق على اللغات كافة التي توظف الإلصاق في صياغة المفردات . عندما تلصق مورفيمين إعتباطيي المعنى لتكون منهما كلمة جديدة ، فأن هذه الكلمة الجديد ستمتلك رابطاً دلالياً ضرورياً مع كلي جزئيها ، و هذه ظاهرة عامة لا يمكن تجاهلها جملة وتفصيلاَ . لاحظ كيف أن الإعتباطي يتحول هنا إلى قصدي .
يرجى مراجعة Sweetser , 1992; Bybee and Plungian, 1994
انتهى .
بتاريخ 18 / 10 ، رد علي الدكتور الفاضل مجدي عز الدين حسن متجاهلاً كل أقوالي السابقة بإعتباره لها بكونها غير ذات موضوع ، و أن أفضل إجابة علمية على الأسئلة مثل أسئلتي بهذا الصدد يجب تتم عبر طرح الأسئلة المضادة من طرفه و ليس إجابته على أسئلتي المطروحة عليه : يقول الدكتور الفاضل مجدي عز الدين حسن :
سأسوق تدليلا على مبدأ إعتباطية الإشارة اللغوية، يثبت أنه ليس ثمة أية رابطة طبيعية بين الدال وما يدل عليه من مفهوم، من نصوص التعليقات السابقة التي تفضلت بها، هل ترى وجود رابط طبيعي بين الدوال التي وظفت في سياق التعليقات وبين المفهوم الذي تشير إليه؟ هل الرابط بين الدال (شكراً) وبين مدلوله قائم على أساس قصدي أم اعتباطي؟ وقس على ذلك الدوال
على/ إجابتكم/ التي/ تجنبت/ التطرق/ إلى/ ربط/ اللغات/ المعرفة/ النظر/ مفهوم/التحت/ الدونية/ الأعلى/ العكس/إذن/ الأقل/ في/ هذين/ الحقلين/الدلاليين/ هناك/ عشرات/ غيرهما/ توجد/ قصدية/ لا/ يمكن/بساطة/ كنسها/ البساط/القول مطلقية/ الإعتباط/ اللغة/كما/ واقع/ أن/ أغلب/ العلا/ السماء/ الله/ الأحمر/ الخطر/ النجم/ عشتار/ مثال/ astre /sitara / astera/ الخ/
معلوم/ أن/ هناك كل/ كلمات/ تحاكي/ أصوات/ الطبيعة/ مثل/ القَط /cut صوت/ مواء/ القطة/ (ميو)/ كثير/ هي/ موجودة/ مع/ بعض/ التلوينات/ ......وهكذا إلى النهاية. وأعتقد أن الفكرة قد وضحت: والسؤال هو :
هل العلاقة بين أياً من هذه الدوال وما تشير إليه من مفاهيم قائم على أساس قصدي أم اعتباطي ؟
انتهى .
إذن فالحوار قد تحول من التوجه العلمي المبني على منهج الشك في كل شيء سبيلاً للوصول إلى اليقين (سوسير ليس الله !)، إلى التمسك المتموضع بالخنادق بأي ثمن ، و تجاهل الحقائق و الظواهر المضادة للنتيجة المستخلصة ، و الضرب عرض الحائط بمبدأ وجوب أن يأخذ الباحث العلمي بعين الإعتبار كل أوجه الموضوع المدروس . الحقائق هنا مطلقة و مفروغ منها و لا تبديل و لا تعديل لها ، و أبواب الإكتشافات الجديدة المغايرة مغلقة . و باعتبارنا طلاباً مستجدين في معبد علم اللغة ، يجب علينا الإيمان بكلام سوسير و شراحه ، و منهم الدكتور الفاضل مجدي عز الدين حسن ، مثل وجوب أيمان المسلم المتقي بوحدانية الله ، و إلا فنحن من المهرطقين .
و عليه ، فقد قررت كتابة ما سييسره لي الوقت بهذا الخصوص بهيأة مقالات توضح حالة معرفة علماء اللغة (state of art) بهذا الخصوص . علقت بتاريخ 19/10 بالقول :
نعم ، توجد علاقات قصدية بين عدة دوال و مفاهيم في نصي الذي تفضلت باقتباسه ، و سأحاول الرد بمقال منفصل و لكن بعد حين . يبدو لي - و أرجو أن أكون مخطئاً - أنكم غير قدرين عن نزع جلباب دوسوسير .
كان ياكوبسن أول من رفض فكرة الإعتباطية في المداليل اللغوية و في وقت مبكر خلال عشرينيات القرن الماضي و ما بعدها . و مع كتابات :
Sweetser ; Lakoff and Turner حول مفهوم الإستعارة الذهنية Conceptual Metaphor و شيوع مفهوم المفردات الشفافة المعنى Transparent Words ، فقد أعيد النظر في النفي المطلق للقصدية في اللغة . في المثال الذي إقتبستموه عن نباح الكلب : barking ، لا يستطيع لا سوسير و لا أي عالم لغة آخر أن ينفي أو يؤكد وجود القصدية أو لا في كل دال آخر في أية لغة من اللغات لسبب بسيط و هو أن أحداً منهم لم يكن موجوداً عند صياغة و إستخدام المفردة أعلاه لأول مرة في التاريخ كي يستطيع التثبت من نفي القصدية من عدمه ، و لذلك يصر سوسير على دراسة اللغة في راهنها و ليس تاريخها :
synchronic rather than diachronic language study
انتهى .
و ستكون هذه هي أولى المقالات في هذه السلسلة .
ثانياً / التعريف بمصطلحات الورقة
ما المقصود بإعتباطية اللغة (language arbitrariness) ؟
لدينا هنا مفردتان : "اللغة" و "الإعتباطية" ؛ و سأعرض المقصود في كل واحد منهما بشيء من التفصيل عملاً بمبدأ وجوب قيام الباحث بتعريف مصطلحاته أولاً قبل البناء عليها .
1. : اللغة ، و هي كل منظومة تواصل بين البشر عبر الإشارات الصوتية . و بهذا المعنى ، فإن مفردة اللغة لا يقصد بها أي لغة معينة بالذات ، بل كل لغات العالم قاطبة . و لذلك ، فعندما يتكلم عالم اللغة عن "القانون اللغوي" (language law) أو عن الكونيات اللغوية (language universals) فالمقصود هنا هو بالضبط القانون العام الذي ينطبق بلا إستثناء على كل لغة تكلمت أو تتكلم بها أي مجموعة بشرية . و علم اللغة العام أو علم اللسانيات الحديث (linguistics) هو علم دراسة القوانين الفاعلة المفعول في كل لغات البشر . أما الفيلولوجيا "philology" فأنها علم دراسة المصادر التاريخية المدونة للغة ، و هذا ميدان بحث خاص يجمع بين علم التاريخ و الدراسات الأدبية و علم اللغة .
و لكن للبشر لغات أخرى غير لغة الكلام أو الإشارات الصوتية ، و هذه "اللغات" تستخدم منظومات رمزية شتى ، قد تكون لونية مثل أضوية السير في الشوارع ، أو إشارية بالأصابع أو النقاط مثل لغة البكم و البصيرين ، أو صورية مثل علامات المرور و الأعلام و أبواب غرف المغاسل و اليافطات الدعائية ، أو رقمية- رمزية كالإشارات الدلالية على الأماكن و لغة الرياضيات المجردة . كما و نستطيع أن نتكلم عن "لغة العيون" ، و لغة حركات الأعضاء الجسدية للبشر من العينين و الرأس حتى الساق و الأقدام . كل أدوات التعبير هذه ، و غيرها ، هي أنظمة تواصل سيمائي (semiotic) خاصة لا تكون عادة هي المقصودة عندما يتكلم علماء اللغة عن "اللغة" ( language) ؛ كما و تستبعد من اللغة طرق التواصل بين المخلوقات الأخرى من غير البشر .
ثانياً : الإعتباطية (arbitrariness) أو التحكمية ، و هي عكس القصدية (motivation , motivated) . عندما يُقال أن اللغة إعتباطية ، فأن المقصود بهذا الوصف هو كون منظوماتها الداخلية كافة هي تحكمية و ليست قصدية . ما معنى "الإعتباطية" ؟ الإعتباطية معناها بالضبط هو أن كل سؤال عن أية ظاهرة لغوية يبدأ بكلمة "لماذا هي هكذا و ليست هكذا ؟" لا يمكن تقديم أية إجابة عنه إلا بالقول : نحن لا نعرف ؛ هكذا يتكلم الناطقون بهذه اللغة . مثال : لماذا تسمي العربية ( العين) عيناً و ليس أية كلمة أخرى مثل (طسل) أو (لسط) أو ...؟ لماذا كلمة (باب) لها معنى في معجم العربية و كلمة (ببا) ... لا معنى لها ؟ الجواب على العدد اللانهائي لمثل هذه الأسئلة بخصوص كل لغة من اللغات هو : هكذا أصطلح الناطقون بهذه اللغة . سأعود بعدئذ لمفردة (الإصطلاح) المهمة . إذن ، فالنظام التحكمي يعني غياب كل تفسير سببي طبيعي من خارج اللغة لأية نتيجة أو حقيقة لغوية عدا علة التحكم الإعتباطي . و بكلمة أخرى ، فالإعتباطية تعني غياب الرابط الطبيعي الضروري بين العنصر اللغوي في كل الأنظمة الداخلية للغة من جهة و دلالاته الإشارية الكائنة خارج اللغة .
و لكن ما هو المقصود بالأنظمة الداخلية للغة ؟ كل لغة هي نظام كلي شامل معقد تنتظم فيه عدة أنظمة داخلية . و لهذا يقال أن اللغة هي نظام الأنظمة (system of systems) . فمن المعلوم أن كل لغة هي نظام تراتبي متداخل يشتمل على خمسة أنظمة داخلية أو مستويات من التعبير : النظام الصوتي (phonology) و وحدته الأساسية هي الصويتة (phoneme) ؛ النظام الصرفي (morphology) و وحدته الأساسية هي الصرفيم (morpheme) ؛ النظام النحوي (syntax) و وحدته الأساسية هي الجملة (clause) ؛ النظام الدلالي (semantics) و يعنى بالمعاني ؛ و النظام التداولي (pragmatics) و يعنى بالتوظيف الإستعمالي للغة لأغراض بناء العلاقات الإجتماعية . العلاقة بين الأنظمة الثلاثة الأولى هي علاقة الجزء بالكل ، أي أن الأجزاء التي يبنيها مستوى تنتظم مع بعضها لتكوِّن العناصر المكونة للمستوى الأعلى : فالصويتات تنتظم بشروط مع بعضها لتؤلف الوحدات الصرفية أو المفردات المعجمية (lexical items) ، و المفردات المعجمية تنتظم بشروط فيما بينها لتؤلف منها الجمل . أما النظامان الدلالي و التداولي للغة فهما شموليان .
إذن ، عندما يقول عالم اللغة بأن اللغة إعتباطية فهذا يعني عدم وجود علاقات ضرورية طبيعياً تربط الدال بالمدلول عبر كل هذه المستويات : من مستوى تركيب المفردة ، إلى الجملة ، إلى الدلالات و التداول . هنا لا يكفي القول – مثلما يفعل سوسير منذ عام 1903و الدكتور الفاضل مجدي عز الدين حسن و غيرهما – بأن نباح الكلب أو الشجرة أو المنضدة إلخ لا رابط يربطهم بالمفردات اللغوية التي تدل على النباح أو الشجرة أو المنضدة .. إلخ بدليل أن كل لغة تستخدم تعاقبات صوتية مختلفة و متباينة للتعبير عن نفس النباح أو الشجرة أو المنضدة ، إلخ . كما لا يكفي القول بأنه يوجد في كل لغة عدد محدود من الكلمات التي تحاكي بنيتها الصوتية شكلها الطبيعي – مثل مواء القطة – و لكن مثل هذه الكلمات – الحكاية - محدودة العدد و متباينة البنية الصوتية من لغة لأخرى ، و لذلك فهي لا يعتد بها . مثل هذا القول لا يمثل غير نصف الحقيقة ، و ينطوي على الطفر الإستعلائي فوق الوقائع اللغوية المشهودة مثلما سنرى . إذا كانت كل اللغات في العالم تستخدم البنية الطبيعية للمفاهيم لتشكيل البنية اللغوية المعبرة عن نفس تلك المداليل ، إذن فالقصدية موجودة في اللغة مثل وجود التحكمية . هنا النقاش يجرنا إلى وجوب تعريف القصدية أولاً ، و تبيان درجاتها ثانية ، و من ثم تلمس تجلياتها ، و هذا ما سيكون موضوع الورقة القادمة . يلاحظ عرضاً بمناسبة ورود الجملة الأخيرة كيف أن مفهوم الإدراك يعبر عنه هنا بالإستعارة من التجربة الحسية : تلمس / رؤية / تبين الحقيقة . في كل لغات العالم يرتبط مفهوم المعرفة بعمل الحواس ، لماذا ؟ بسبب القصدية بالضبط . في كل لغات العالم يقول الحبيب لحبيبته : أنت وردة ، للتعبير عن جمالها ، لماذا ؟ بسب المطابقة الذهنية بين جمال الورد في الطبيعة من جهة و بين التعبير اللغوي عن جمال الحبيبة . إذن القصدية موجودة في الدلالات اللغوية ، و لا ينفع صم الأذان و غلق الأعين هنا في تطور علم اللغة بشيء ( يلاحظ القاريء الكريم الوظيفية الكونية للإستعارة من التجربة الحسية للتعبير عن "الفهم/الإدراك / المعرفة " و "عكسه" هنا ) .



#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)       Hussain_Alwan_Hussain#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شيخ المتقين و الخنازير
- شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 3-3
- شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 2-3
- شَعَبْ و أبو وطن : قصة قصيرة / 1-3
- كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 12
- كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 11
- كنوت هامسون : رواية نساء المضخة / 10
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 9
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 8
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 7
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 6
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 5
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 4
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 3
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 2
- كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 1
- السيد و العمامة
- يوم اختطاف دولة رئيس الوزراء
- كلاب أولاد كلب
- بغداد : 6./ 6. /6.


المزيد.....




- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - حسين علوان حسين - رد على د . مجدي عز الدين حسن : الإعتباطية و القصدية في اللغة