أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الأحمد - الجد وصحبة الغربة














المزيد.....

الجد وصحبة الغربة


محمد الأحمد

الحوار المتمدن-العدد: 3914 - 2012 / 11 / 17 - 18:18
المحور: الادب والفن
    


الكائنُ الذي يَجدُ نفسه في غربةٍ مستمرةٍ، ليعلم بأنه وَلَدها الذي جاء من رحمها.
***** ***** *****
بدأت معي حكاية الغربة منذ اليوم الأول الذي تخرجت فيه مودعاً الدراسة الإعدادية، ولم احصل حينها على معدل يؤهلني على مواصلة الدراسة. ربما دوّامة الحروب المتوالية، هي التي تضع قوانينها الصارمة، ومقاييسها المشددة، وتخيّم بكوابيسها الدموية على كل التطلعات، فتعيق الأحلام، والشباب، والحق الطبيعي بالعيش.
يومها أصرّ والديّ أن لا يمرّ اليوم التالي، إلا وأكون نازلاً عند رغبتهم بتزويجي، بعد أن وعدت غيوم الموت بنذورها الكابية، وغطّت سُحبها القاتمة، كل سماء، ترعد على كل مصائر الناس، والمعالم. أغلب الأقران استقر بهم الحال ما بين ليلة وضحاها في ربوع الجبهة المشتعلة بالبارود على امتداد الحدود، إذ تصيروا لها وقوداً، وجنوداً لا تعود إلى أهاليها إلا جرحى، أو في حاويات خشبية تسمى بالتوابيت، مخلفةً الغياب اللامنتهي، والجراح البليغة التي لا تلتئم.
فراح الآباء يحثون الأمهات على الإسراع بالخطبة والزواج، مخافة الغيوم الهمجية، ان تطال ما بقيّ عندهم من آمال، تغرقهم بالحزن المقيم، وضياع فرص الفرح منهم. ولأجل سلامٍ قد لا يحل، راحت الأمهات تُسلح بناتهن بمعرفة طرقٍ مثلى في كيفية وفرة الإنجاب، من اجل ضمان وفرة الأحفاد، ولم يتركوا للأبناء حرية اختيار المرأة، يومها لم أجد إلا أن أترجل من عليائي، رامياً عن كاهلي الاختيار برمته.. حتى اختاروا لي من أرادوها لي، يومها كنت قادماً جديداً من عالم الطفولة، ولم يمضِ طويلاً على وداع براءتها، ولم اعرف قبلها النظر إلى المرأة كامرأة، حتى حطّ طائر النصيب بي في حضن فتاة، بمثل براءتي، ولم تكن قد التقت بيّ، أو لفتي، كما أمسيتُ ألوم نفسي بعد كل التحاق من الإجازة، لِمَ نسيَّتْ حفظَ ملامحها، لون بشرتها، لون عينيها، وعمرها. كما أنسى سؤالها ان كانت من البنات اللاتي يترددن على أمي. كيف لا أتذكر ملامحها. فأعفو نفسي من الأشواق كما أعفاني أبي من كلفة الزواج ومصاريفه الجسيمة... حتى إعالتها زمن غير مسمى. كنت أشبه ما كنت منغمراً في وغرة صيف خانقة، لا أجيد حساب الأيام، والتواريخ على التقاويم. فما بين إجازة قصيرة والتحاق طويل، عرفت بأنها حامل، وما بين إجازة أخرى، والتحاق آخر حتى وجدتها قد أنجبت تحت رعاية والديّ، واختارا لأولادي أسماءاً لم تكن تروقني. حتى انتهت الحرب الأولى، والثانية بات عندي من البنات خمس وولد بكر. تدريجياً تقدم العمر بوالدي حتى أكلت الأمراض العضال معظم جسدهما، كما تأكل سوسة الأشجار العظيمة كل شجرة وارفة الظلّ...
بعد حين افتعلوا فينا الحرب الثالثة، والرابعة كإعصار ساحق ماحق، أكل مني الوَلَدَ، والتَلَدْ. جرفت جثتهُ الرياح ضمن مئات الآلاف من الجثث من بعد أن ضيعت الجيرة، وشتت الإخوة، والأصدقاء، واختلقت الأعداء. مثلما ضاعت الخطوة الآمنة، ما عادت الخطوة خطوة، ولا الهواء هواء. إذ عصفتْ المخاوف من المفخخات، والاغتيالات مقتلعة جذور ما تبقي فيّ من وطنّ، ووطنية كما تقتلع العواصف سقوف المنازل الآمنة. وجدتُ نفسي قد هَرِمتُ أكثر مما يجب، بعد أن غزى الشيب قلبي، وحشاشتي وتاهت بوصلتي. يومها تفاجأتُ بان البنات قد أصبحن نسوة، تزوجن تباعاً، وفرغ البيت منهن، إذ خلَفن لأزواجهن صبيان وبنات لدرجة لم أميز إي ولد من أولادهن، عندما يملئوا البيت صخباً وعبثاً في كل زيارة. وتعودتُ افتقداهن كلما أخذت زياراتهن تتباعد مع كل زيارة وأخرى..
وكلما فرغ البيت، وبقيت مع الزوجه، نعاني النسيان.. وحدينا لبعضينا خير معين في تمزيق أوصال وحش الغربة. أبتسم لها مبتئساً كل يوم، وأحسنُّ معاملتها تمام الإحسان، معوضاً إياها الأيام السيئة التي كنت فيها افرّغ على رأسها كل ما تسلطت على رأسي الضغوط. يومها اكتشفنا عَهِدنا مع الأمراض التي أخذت تتصاعد فينا كلما تقدمنا في العمر.. صَفَينا بالعجزِ متقابلين، نصارع متابعة مشاكل الأحفاد، ومتاعب الأمهات. نتابعهن ونراعي أولادهن بينما رفيقة دربي التي كنت أراها تذوي بصمت مثل شمعة ليس لدي غيرها في ظلام دامس..
يوماً بيوم أمسيتُ متوكئاً على عصاة وجدتها رفيقه ثانية قاسية من بعد أن ودعتني الرفيقة الناعمة الأولى. فكبر الأحفاد، صاروا هم أيضاً لا يهتمون بأهاليهم، مثلما أولادنا باتت لا تهتم بنا، وكما تركتنا الحرب نُهمِل الذين ظهرنا من صلبهم.
بقيتُ أتارجح في سقمِ غربةٍ تعيثَ بيّ خراباً متواصلاً يُسلمني تارة لأنازعَ الموتَ، وافلت منه، دون أن اعرف متى تأتي لحظة مفاجئة يحكم قبضته عليّ، وينتهي مسار الغربة الأليمة..
***** ***** *****
الكائن الذي يَعهد الغربةَ بلاده، ليعلم بأنه مقيم فيها، ولا يمكن أن يُحتسب مواطناً بين مواطنيه، ولا يَستحقَّ حقوقاً كما يَستَحقّون.
***** ***** *****
يوماً بعد يوم وجدتُ قلبي يتفتتُ، ويذوبَ حُزناً وكمداً على ما راح، وما حَدَث. فلم يكن ملك أمري ما أحتكم عليه، سوى الاستسلام، والخنوع لخارطة الغربة مثل ما حدث، ويحدث.
***** ***** *****
حَدَثَ أني ولدتُ وعشتُ ومتُّ، كما يولد "المولودون"، ولكني عشتُ، ومتُّ كما لم يَعِشْ العائشون، ولا الميتون. فالغربة التي لا تحتويني وطناً، لا يعوّل على مسارها.
‏15- تشرين الثاني‏-12



#محمد_الأحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هيرودوتس في المتاهة
- عن رواية تحسين كرمياني الموسومة بحكايتي مع راس مقطوع
- أوديسا التعددية الثقافية
- مسرحية الأطباء.. وعقل الشيطان
- الضلال الطويلة رواية تشهد على الزمن اللا مٌسرد
- رواية (ورد الحب... وداعا) سيرة حرب
- الصندوق الاسود ... وعاء الافكار الجديدة أم جدليتها الحيوية
- جاء الفيس بوك يارك الحاسبة
- فرن الخواجة
- اين السارد من المسرود في الحلم بوزيرة
- كيف بدأت مع عالم الكتب، وأين تكمن قيمة أي عمل أدبي؟
- كتاب جديد للدكتور فاضل عبود
- العقل المريض بجماله
- رسائل قرة العين
- كنت شيوعياً
- فليم حسن ومرقص
- كونشيرتو النسيان
- المثقف العربي في زمن الانحطاط العربي: على أي جانبيه يميل..؟
- علم الاجتماع الآلي
- الترفع غربة المثقف العراقي المقصي


المزيد.....




- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الأحمد - الجد وصحبة الغربة