أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد الرازق أبو العلا - مسرحية جوركي الحضيض















المزيد.....


مسرحية جوركي الحضيض


أحمد عبد الرازق أبو العلا

الحوار المتمدن-العدد: 1133 - 2005 / 3 / 10 - 09:12
المحور: الادب والفن
    


الحضيض
والغوص في الأعماق السفلي
لمجتمع روسيا قبل الثورة

في السطور الأخيرة التي أنهي بها ( مكسيم جوركي) روايته ( طفولتي) ، وبعد أيام قليلة من تشييع أمه إلى مثواها الأخير ، قال له جده :
حسنا يا السكي ! أنى بالضبط لا أستطيع أن أسميك ميدالية معلقة حول عنقي !! ليس لك مكان بعد اليوم هاهنا ، فقد آن لك أن تخرج إلى مابين الناس لكسب القوت ..
يقول مكسيم : وهكذا خرجت إلى مابين الناس لكسب القوت !
اسمه الحقيقي هو ( الكسي مكسيموفيتش بيشكوف) ، واسمه المستعار -الأول – مكسيم هو اسم والده ، واسمه المستعار الثاني جوركي بمعني المر ، وكان يقول لقرائه عن نفسه – بالاسم المستعار – أنا كاتب مر ، وستذوقون مرارة النبيذ الذي خمرته ، وستسمعون مرارة الكلمة التي أقول !؟
إلا أن النقاد الذين تابعوا أعماله ، وكتبوا عنها قالوا له : " كلا ! لست كاتبا مرا ، انك عسلي المذاق ، ففيك حلاوة فرحة الحياة الحقيقية ، الفرحة الواعدة الوضاءة ، انك تغني مع الربيع الذي نعيشه الآن ، لقد بدأت أفضل الأزمان في التسعينيات ، بدأت كثبان الثلوج تتقلص ، وبدأ خرير بعض الجداول ، وغردت طيور جديدة ، وصوتك من بينها ، انه يبشر بالجديد ، وينطوي ذلك علي فرحة الربيع الطرية " (1)
ولعل العبارة التي صفقها الجد في وجه ( الكسي) المعروف بمكسيم جوركي " قد آن لك أن تخرج إلى مابين الناس لكسب القوت " ، لعلها هي التي غيرت حياته بالفعل ، لأنه حين خرج ليعيش بين الناس ، تعرض للإهانة والمهانة ، والتشرد ، ولم يجد لنفسه مكانا آمنا في مجتمع روسيا القيصرية ، ذلك المجتمع الذي لم ينتصر للفقراء ، مثلما انتصر للأغنياء وعلية القوم ، وكان فلاحو روسيا قبل ثورة أكتوبر سنة 1917 ، يعيشون كما كانوا يعيشون في القرن السابع عشر ن كما صرح – وقتها – بذلك جوركي نفسه .
حين عاش مكسيم بين الناس ، رأي الفلاحين الأرقاء ، وعلم أن سيبريا امتلأت بالمنفيين الثوريين الذين واجهوا ظلم وتعسف القيصر الذي حكم روسيا اعتمادا علي نظرية ( الحقوق الإلهية ) ، يعاونه – في ذلك – الجيش الذي يسيطر عليه النبلاء ، والمجمع المقدس ، وجهاز الموظفين البيروقراطي .
وحين خرج إلى مابين الناس ، انضم إلى عصابة من الصبيان أولاد المتسولين والمشردين كانوا يسرقون ألواحا من الخشب من مخزن الأخشاب الذي يحتفظ بها لحين بناء المعرض التجاري الموسمي الذي يقام ربيع كل عام ، يقومون ببيعها ليغطي عائدها مصروفاتهم طوال العام !!
أي حياة تلك التي عاشها ( مكسيم ) لكي تجعله كاتبا عظيما ؟!
الذي ساعده – في اعتقادي – أولا : قدرته علي الصمود والتحدي والمواجهة ، وثانيا : رغبته في أن يكون عضوا فاعلا ومؤثرا في مجتمع لا يريد له حق الوجود وحق الحياة .
وثالثا : أنه أعطي لنفسه فرصة التأمل والاندهاش ، والسؤال ، وأراد أن يحيل تأملاته ودهشته وتساؤلاته إلى موقف ورؤية ، تجاه الحياة التي يعيشها ويراها ، وتجاه الحياة التي يريدها أن تكون !! ، فلم يتنصل من هؤلاء الذين عاش معهم حياة التشرد ، وذاق بينهم مرارة الألم ، وواجه بهم عناد الحلم المستحيل ! ..
حوّل كل هذه الأحاسيس – وغيرها – إلى كتابات تعد وثيقة تاريخية هامة تدين وتُعري مجتمعا وواقعا يعكس أوضاعا اجتماعية واقتصادية وسياسية ، لها خصوصيتها ، وتُعد بمثابة مفجر موضوعي وحقيقي للإبداع الأدبي والفني الصادقين ، استحضر هؤلاء الذين عاشوا ما بين الناس ، لكنهم لم يجدوا لأنفسهم مجالا صالحا لإظهار إنسانيتهم ، وابراز قيمهم ، حيث تماهت إنسانيتهم وانمحت ، لأن المجتمع لم يساعدهم في أن يكونوا بشرا حقيقيين ، وبالتالي اختلت منظومة قيمهم، ونستطيع أن نقول : انعدمت ، أو تلاشت ، ولم يعد لها وجود ، أصبحوا في ( الأعماق السفلي ) لهذا المجتمع ، أصبحوا حضيضا ، لا قيمة لهم ..
اقرأ معي هذا الحوار المقتبس من هذه المسرحية :
يتحدث كستليوف - صاحب المنزل- إلى لوقا القسيس الحكيم قائلا وهو يهزأ منه : - أي نوع من النساك أنت ؟! انك لا تملك جواز سفر ، بينما الرجل الفاضل يجب أن يكون معه جواز ، فكل الأخيار معهم جواز سفر ، نعم ..
لوقا : هناك ناس وهناك مجرد رجال ..
كستليوف: لا تحاول أن تكون ظريفا ، لا تكلمني بالألغاز ، فأنا لست اغبي منك ، ماذا تقصد بالتفريق بين الناس والرجال ؟
لوقا : ليس هذا لغزا ، ما أعنيه أن هناك نوعين من التربة ، نوعا غير صالح للزراعة بالمرة ، وآخر خصبا ، كل ما تزرعه فيه ينمو ، هذا هو كل الفرق
كستليوف : حسنا وما معني هذا ؟؟
لوقا : لنأخذك أنت علي سبيل المثال ، إذا قال لك الله عز وجل " كن رجلا ياكستليوف " فلن يحدث كلامه أي أثر فيك ، وستظل كما أنت إلى أن تموت.
كلمات ( لوقا) الواعظ تعكس وجهة نظر ( جوركي) في الفرق بين الرجال ومجرد الرجال ، أي الفرق بين ناس وناس ، فعلي الرغم من البؤس والتشرد ، يمكن المحافظة علي سمات الرجولة التي تسمو بالإنسان ، فالإنسان عند جوركي ، لابد أن يكون موضع احترام ، لا موضع شفقة ، وهذا الإيمان هو الذي دفعه إلى الانتصار علي فقره ، وبؤسه ، وتشرده المبكر ، لأنه اكتشف مواطن الرجولة في داخله ، ولم يرض أن يكون مجرد واحد من الناس .
وساتين – في المسرحية – يعكس إيمان جوركي بالإنسان ، مؤكدا – من خلاله – علي تلك القيمة ، حين يقول مخاطبا البارون : " إن الإنسان حر فيما يفعل ، وهو نفسه الذي يدفع الثمن ، ثمن الإيمان وثمن الكفر ، ثمن الحب وثمن الذكاء ، وهذا هو سر حريته .. الإنسان هذه هي الحقيقة ، ما هو الإنسان؟؟ ، انه ليس أنت ولا أنا ولا هم ، لا أنه أنت وأنا وهم ، والعجوز ونابليون ، ومحمد .. الكل في واحد ( يخطط بيديه في الهواء شكل إنسان ) أفاهم أنت ؟؟ انه شيء هائل ، فيه البدايات وكل النهايات ، كل شيء موجود في الإنسان ، وكل شيء موجود من أجل الإنسان ، لا موجود إلا الإنسان ، وكل ما عداه فمن صنع يده وعقله ، الإنسان !! ما أروعه !! في اسمه رنه زهو عجيبة ! الإنسان يجب أن نحترم الإنسان لا أن نشفق عليه، أو نحط من قدره ، أن نحترمه ، هذا هو واجبنا ، فالشرب نخب الإنسان يا بارون ! ( ينهض) ما أجمل أن يشعر الواحد منا بآلامه إنسان يا بارون "
في الحضيض نتعرف علي نماذج متباينة من البشر ، يمثلون شرائح مختلفة في مجتمع روسيا القيصرية ، كتبها جوركي في عام 1902 ، أي قبل الثورة الروسية بخمسة عشر عاما ، وتعد الثانية – من حيث الترتيب – في أعماله المسرحية ، وأصدر قبلها : البرجوازيون 1901 (2) وفيما بعد صدرت له : المصطافون 1904- أبناء الشمس 1905 – الأعداء 1906-(3) والعجوز . وأصدر بعد الثورة مسرحيتين هما : أيجور بوالتشوف والآخرون 1932 – و دستوجايف في نفس العام ، ومات بعدهما بأربع سنوات (4)
هؤلاء المنبوذون والهاربين من العدالة ، يعبرون عن ذوات بعضها مريض وبعضها الآخر صحي ، فالبارون الذي كان يعمل موظفا في الدولة إلا أنه كان يحلم بالعيش كما يعيش البالونات ، ودفعه هذا الحلم إلى اختلاس أموال الحكومة ، فدخل السجن وحينما خرج لم يجد مكانا يأوي إليه إلا هذا القبو ، وهو ما يزال يعيش الحلم القديم ، أن يكون بارونا !! والممثل هو الآخر يعيش حلما لا يتحقق - رغبته الدائمة في التمثيل- ولا يملك شيئا يتيح له فرصه الانطلاق في هذا المجال الذي يحبه ، فيعيش حالة التمثيل مع نفسه داخل القبو ، وحين لايجد أحدا يعيره اهتمامنا ، وبأن الحياة لم يعد فيها ما يستحق أن يعيش من اجله ، أقدم علي الانتحار في نهاية المسرحية .
وساتين الذي قتل رجلا اعتدي علي شقيقته ودخل السجن وخرج منه ، ولم يجد مكانا آخرغيرهذا القبو الذي تدور فيه الأحداث ، نراه يواجه العالم المحيط به بالسخرية اللاذعة والمرارة التي تصل إلى حلوقنا معه .
وفاسيلي الشاب اللص ، والمرأة التي تعاني آلام المخاض ، وتموت ولا أحد يهتم بها ، وصاحب المنزل الذي قتله عشيق زوجته .. واليوشكا الإسكافي الذي لا يستطيع مواجهة الحياة بأي شكل ، وكذلك ( كلستشن) مولف المفاتيح الذي يسحر من كل شيء ..
كل هؤلاء قدمهم جوركي في مسرحيته ، ولم يكن متعاطفا معهم تعاطفا تاما ، ولم يكن ضدهم أيضا ، بل قدمهم اعتمادا علي رؤية مؤداها : أن هؤلاء يعبرون عن حالتين إنسانيتين: بعضهم – برغم الحاجة والعوز - يتحولون إلى نمور بشرية ، انهم ميالون إلى الإجرام ، لا يؤمنون بالأخلاق ، ولا يمكن لهم التماهي في المجتمع الحر لكي يصبحوا إنسانيين برغم فقرهم ، ويصبحوا اجتماعيين برغم عوزهم بمعني آخر : لن تستطيع السيطرة عليهم أبدا .
والبعض الآخر رائعون إنسانيا ، يملكون القدرة علي الحلم ، ويسعون إلى تحقيقه لكن تشردهم وسكرهم نشأ بسبب عدم القدرة علي تحقيق الحلم ، وهو ما دفع الممثل إلى الانتحار -كما أشرنا من قبل – الجمع بين الحالتين المتناقضتين ، أو بمعني آخر الجمع بين تلك المشاعر المتناقضة والمتباينة في بيئة واحدة هو ما أدي إلى طغيان الصدق الفني حين قدم جوركي شخوص مسرحيته ، انه عمل مسرحي يحتفي بالشخصية الإنسانية ، ربما أكثر من احتفائه بالحدث المسرحي ، وعلي الرغم من أن بعض النقاد قد اخذوا علي أعمال جوركي المسرحية ، إنها تتبع الأسس التقليدية للبناء المسرحي ، من عرض وعقدة وحل ، كما فعل من قبله أعمدة المسرح الحديث : ابسن – برنارد شو – بيرندولو – بر يخت ، إلا أننا نري أن احتفاءه بالشخصية ، لم يُضعف بناء النص ، صحيح أنه جعل الشخوص يتحدثون كما أرادوا تماما وبتلقائية وعفوية تقترب من الطبيعية كأسلوب (5)، إلا أن تلك التلقائية نجحت تماما في إبراز أبعاد الشخصية الدرامية ، ويمكن الاستفادة من ذلك حين نود التعرف علي الطريقة التي يتم بها تقديم الشخصية الدرامية بشكل خاص ، أي أنها صالحة كنموذج فني نقيس عليه ، والتحلل من القيود الكلاسيكية للمسرح ، ليس عيبا يؤخذ علي جوركي ، أو غيره من الكتاب ، لكن العيب ، ألا يكون الكاتب قادرا علي معالجة موضوعه أو فكرته بشكل درامي ، انساني حقيقي ، فأعمال تشيكوف(6)واسترا فسكي(7)الروسيان ، لم يحتفيا بذلك البناء الكلاسيكي المتعارف عليه ، وهذا هو السبب الذي جعل ناقدا مثل د. محمد مندور يعتبر أن
" مسرح جوركي ليس إلا امتدادا لأوتشرك تشكيوف (8)،بفارق واحد هو وضوح الرؤية الثورية عند جوركي ، نظرا لامتداد العمر به بعد وفاة تشيكوف سنة 1904 ، ليشهد ثورة 1905 ، التي لم تنجح ، والروح الثورية المتأججة بين صفوف الشعب الروسي ، وكذلك ثورة 1917"(9)
إن الخلل الذي أصاب منظومة القيم – لدي هؤلاء الذين يعيشون في الأعماق السفلي للمجتمع الروسي – والتي أشرت إليها في بداية هذه المقدمة - يرجع إلى فساد القيصر ، وحاشيته ، وحين يستشري الفساد في أي مجتمع من المجتمعات ، فان منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية يصيبها العطن ، ومن الصعب – في هذه الحالة – أن يكون هناك معني لقيم : الشرف أو الضمير أو الحقيقة أو الحق أو العدل أو الحب أو الحرية .، كلها تصير إلى عدم ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، ربما يكون هناك استثناءا علي القاعدة ، لكننا – هنا – نتحدث عن القاعدة وليس عن الاستثناء .
وسوف أضرب أمثلة لتوضيح ذلك المعني :
فاسيلي الشاب الذي يعمل لصا يتساءل: "ما قيمة الشرف أو الضمير ، انك لا تستطيع أن تلبسهما في قدميك بدل الحذاء ، الشرف والضمير مهمان بالنسبة للأقوياء القادرين فقط ".
وفي موضع آخر من المسرحية نراه يقول : "أحاول أن اسري عن نفسي ، بتذكر أولئك الذين يسرقون أضعاف ما أسرق، ويحاطون بالاحترام والتقدير ، ولكن ذلك لا يسري عني لأنه ليس الحل لما في نفسي .. وأنا حينما أقول ذلك ، لست مدفوعا بما يسمونه الضمير ، فأنا لا أومن به ، شيء واحد اعلمه جيدا هو أن هذا الطريق ليس طريق الحياة الحقة ، أريد أن أحيا حياة افضل ، ويجب علي أن أحيا بطريقة تدعوني إلى احترام نفسي. “ وهذا ديالوج آخر يدور بين التتري – الذي يعمل حمالا في الميناء- وساتن القاتل ولوز الذي يعمل حمالا أيضا في الميناء .
التتري ( متحمسا ) : يجب أن تلعبوا بأمانة ..
ساتن : لماذا ؟؟
التتري : ماذا تعني ؟؟
ساتن : لا أعني إلا ما قلته .. لماذا يجب أن نلعب بأمانة ؟ التتري : ألا تعلم لماذا ؟
ساتن : أنا .. لا . هل تعلم أنت ؟!
( يبصق التتري باحتقار شديد ، بينما يضحك الآخرون منه )
جويتر أو لوز ( مازحا ) : يالك من إنسان مضحك أيها التتري ، ألا تفهم انهم لو بدأوا يعيشون بشرف وأمانة ، فسيموتون من الجوع بعد ثلاثة أيام ..
وكلستش صانع المفاتيح (10) يندهش من الذين يبحثون عن الحقيقة ، ويتساءل وهو في حالة منْ اشتعلت فيه النار : أي حقيقة ؟؟ أين الحقيقة ؟؟ لا عمل ولا قوة ولا مكان أعيش فيه ، كل ما بقي هو أن أموت كالكلب ، أليست هذه هي الحقيقة ؟! يارب رحمتك ، ما قيمة الحقيقة بالنسبة إلى ؟؟أنى أريد أن أ تنفس بحرية اكثر ، هذا هو كل ما أريده ، أي ذنب جنيته ؟ وما قيمة هذه الحقيقة التي تتشدقون بها ؟ ليست لدي فرصة للحياة يارب يا قادر .. ليست هناك أي فرصة !! هذه هي الحقيقة .
- ويسرد الواعظ ( لوقا ) حكاية طريفة من حكاياته ، يدلل بها علي مفهومه للعدل ، وللحق ، ومفهوم زملائه من ساكني القبو تجاه تلك القيم ، يقول : حضر إلى سيبريا عالم نفته الحكومة ، وكان يحمل معه كثيرا من الخرائط والكتب ونحوها ، فقال له رجل كان معه : هل تصنع فيّ معروفا وتدلني علي مكان أرض الحق والعدل ، وطريق الوصول إليها ؟ ففتح العالم كتبه ، واستشار خرائطه ، بحث هنا ، وبحث هناك ، فلم يجد أرص الحق والعدل ، لا هنا ولا هناك ، كل شيء في مكانه ، وكل البلاد والأراضي واضحة في أماكنها ، أما أرض الحقيقة والعدل فلا وجود لها . . لم يصدقه صاحبه وقال له : لابد أنها موجودة ، حقق النظر مرة ثانية ، وإلا فكتبك وخرائطك ، لاقيمة لها إذا ما فشلت في إرشادنا إلى أرض الحقيقة والعدل ، فغضب العالم وقال : إن خرائطي أدق خرائط في العالم ، أما أرض الحقيقة والعدل ، فلا وجود لها في أي مكان ، فغضب صاحبنا وقال محتدا : لقد عشت وقاسيت كل هذه السنوات ، معتقدا في وجودها ، ثم تأتي خرائطك لتدحض هذا الاعتقاد .؟ هذه سرقة أيها القذر الحقير ، أنت لص ولست عالما ، وضربه بقبضته علي أنفه مرتين ، ثم تركه وعاد إلى غرفته ، حيث شنق نفسه .
والكذب الذي يلجأ إليه هؤلاء البؤساء ، إنما يتخذونه ستارا لخداع غيرهم ، ولكن الإنسان المستقل - كما يقول ساتين القاتل في المسرحية – سيد نفسه ، الذي ليس عالة علي أحد ، هذا الإنسان يستطيع أن يستغني عن الكذب ، لأن الكذب عقيدة العبيد والأسياد ، أما الصدق فهو اله الإنسان الحر ..
إن الجو العدمي ، الكابوسي الذي يقدمه ( مكسيم جوركي) في هذا النص باستعراضه لتلك النماذج التي تعتمل فيها المشاعر المتناقضة من الخير والشر ، والقبح والجمال ، والحب والكراهية ، والدنس والطهر ، يعريها أمامنا ، ويكشفها من اجل التغيير ، أو قل الرغبة في التغيير ، انه حال المجتمع الروسي قبل الثورة ، ذلك المجتمع الذي شهد عدة اضطرابات مهدت للثورة البلشفية ، وجعلت مكسيم جوركي كاتبا منحازا للطبقة المطحونة ، التي ظلت لسنوات طويلة وقودا للأغنياء والنبلاء ، وقد يري القارئ لأعماله ، إن شخوصه يرددون الشعارات ، فتصبح المسرحية وكأنها دعائية ، إلا أننا نستطيع أن نقول : انه استطاع أن يستدعي إلى خشبة المسرح أشخاصا حقيقيين يتحدثون بتلقائية كما يحسون ، رغبة منه في إحداث التغيير بهم ، فها هو ساتين يتحدث في الفصل الرابع ، وقبل نهاية أحداث المسرحية بوقت قليل قائلا : انه سأل الواعظ ( لوقا ) مرة : " لماذا يعيش الناس أيها الجد ؟؟ فأجاب : يعيشون في انتظار حدوث شيء أفضل يا صاحبي ، خذ النجارين مثلا ، انهم يعيشون كلهم حياة قذرة تافهة ، ولكن سيأتي يوم يولد فيه نجار لم تشهد له الأرض مثيلا ، ليس له نظير ، فيغمر ضؤ وه الجميع ، ويقلب صناعة النجارة رأسا علي عقب ، فإذا تتقدم عشرين عاما في قفزة واحدة ، وهذا شأن سائر الناس ، هذا شأن الحدادين وصانعي الأحذية وغيرهم من العمال والفلاحين كذلك ، وحتى الأسياد ، كلهم يعيشون في انتظار حدوث شيء أفضل ، يعيشون مائة عام ، وربما اكثر من ذلك في انتظار ظهور رجل أفضل ممن حولهم " .


أحمد عبد الرازق أبو العلا























هوامش :

1 – أناتول لونا تشارسكي – من مقدمة كتاب ( مكسيم جوركي) طفولتي - ترجمة : سهيل أيوب – دار التقدم – موسكو – 1981- ص 12
2- البرجوازيون صدرت الترجمة العربية لها في عام1971 – ترجمة :أبو بكر يوسف حسين ، وصدرت ضمن سلسلة مسرحيات عالمية التي كانت تصدرها الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر – العدد رقم 73 3- ترجمها فؤاد دوارة تحت عنوان ( الهمج ) في نفس العام الذي ترجم فيه مسرحية الحضيض عام 1953
4- ولد جوركي في عام 1868 وتوفي في عام 1936 ، أي أنه عاش ثمانية وستين عاما .
5- تنتمي مسرحية الحضيض لمكسيم جوركي الي المنهج الطبيعي في الكتابة المسرحية ، ذلك المنهج الذي آمن وقدم به أعماله المسرحية الكاتب ( اميل زولا) 1840 – 1902 وكان يري أن الفن يجب أن يكون علميا في موضوعه ومنهجه ، ويأتي الموضوع – في رأيه – من مصدرين : أن يكون من نتائج الكشوف العلمية ، أو أن يكون تسجيلا صادقا لظروف الواقع المعاش ، ولهذا فان علي الكاتب الدرامي – الطبيعي – أن يختار شريحة من الحياة اختيارا موضوعيا ، وأن يجعل شخصيتها تتفاعل مع الأحداث طبقا للقوانين الخاصة بالوراثة والظروف الاجتماعية ، تلك القوانين التي تحكم الإنسان وتكسبه كل سلوكياته وأفعاله ، كما ينبغي أن تكون نتيجة تفاعلات الشخصيات مع أحداثها ، مطابقة للكشوف العلمية . أنظر في هذا الشأن وبالتفصيل معجم المصطلحات الدرامية – د. إبراهيم حمادة –صفحة 300 وما بعدها .
6- انطون بافلوفتش تشيكوف( 1860 - 1904)الذي يرى فيه معظم النقاد قمة الطبيعية، ومن أعماله المسرحية : مسرحية (بستان الكرز) التي تعد من أعماله الهامة، فالمسرحية قصة رمزية مفعمة بالحنين عن الضياع الذي يحل بطبقة النبلاء الروسية وعجزها عن الالتقاء والتفاهم مع العالم الحديث. ومن أعماله الأخري: (الخالة فانيا) و(النورس) و (الشقيقات الثلاث) .
7- (الكسندر أوستروفسكي ( 1823 - 1886) يختلف عن جوجول وبوشكين اللذين لم يكتب كل منهما أكثر من بضع مسرحيات ،لكنه ألف – وحده - أكثر من أربعين مسرحية .ومن مسرحياته (لكل حكيم غلطة).
8- الأوتشرك – يعني الاستطلاع أو الريبورتاج .
9- د. محمد مندور – الأصول الدرامية وتطورها – مقال – مجلة المسرح – العدد السابع – يوليو 1964
10- عمل جوركي في شبابه صانعا للمفاتيح مثل كلستش .



#أحمد_عبد_الرازق_أبو_العلا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحضيض والغوص في أعماق المجتمع الروسي قبل الثورة
- ثقافة العنف والإرهاب الديني والسياسي في مسرحية - السحرة
- الأيدي الخفية في مهرجان المسرح التغريبي
- حفل موسيقي ياباني مصري قليل من الفن .. كثير من الضجر
- الواقع ومتغيراته
- مسرحيات ( محمد كمال محمد ) المشاعر الإنسانية : بين الحضور و ...
- مقدمة في القصة القصيرة
- ندرة الكاتب المسرحي: الصحفيون والمسرح .. و يا قلبي لا تحزن!!
- من المحروسة 61 إلى المحروسة 2015 والتعبير عن هموم الوطن
- بين النهر والجبل .. رواية تتحدث عن النوبة القديمة
- عن تحديات العولمة .. والرغبة الآثمة في قمع الشعوب
- المهمشون يدفعون الثمن في مجموعة ( عبق الشوارع) .. للكاتب - أ ...
- ازمة النوايا الطيبة في قصص قصيرة من السعودية
- عن رشاد أبو شاو وروايته - البكاء علي صدر الحبيب
- هل تأثرت الثقافة في مصر عقب أحداث 11 سبتمبر 2001؟؟
- استجابتنا للشعر من أين تبدأ؟؟
- إسرائيل والتطبيع وعلي سالم - حول كتاب رحلة إلى إسرائيل
- القمع في الخطاب الروائي العربي
- حول الحوار المتمدن
- ثقافة العنف والإرهاب


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد الرازق أبو العلا - مسرحية جوركي الحضيض