أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نافذ الشاعر - مفهوم الميثاق في سورة المائدة















المزيد.....



مفهوم الميثاق في سورة المائدة


نافذ الشاعر

الحوار المتمدن-العدد: 3911 - 2012 / 11 / 14 - 22:00
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


المحور الأساسي الذي ينتظم سورة المائدة من أولها إلى آخرها هو (الميثاق) الذي وضعه الله في النفس البشرية، وكيف أن هذا الميثاق يعرفه كل إنسان من خلال التفكر في ذاته.. وقد أشارت سورة المائدة إلى هذا الميثاق في الآية السابعة:
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)

فما هو هذا الميثاق؟.. لقد جاءت الإشارة إلى هذا (الميثاق) في سورة الأعراف:
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُواْ: بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) الأعراف 172
فالميثاق هو الفطرة الإنسانية السليمة في كل زمان ومكان؛ حيث أن الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفس كل إنسان ما يسمى بقانون الفطرة، أو الضمير؛ وكأنه ميثاق بين الإنسان وخالقه، وهو الذي يجعل الإنسان يشعر بالندم والحرج واللوم، عندما يرتكب معصية من المعاصي أو ذنبا من الذنوب حتى لو لم يكن هذا الإنسان مسلما.. فإن كان هذا الإنسان لم يسمع بالقرآن ولا بالإسلام، فإنه سيُحاسب يوم القيامة على هذا الميثاق الإلهي المركوز في فطرته، وسيكون عقابه أو ثوابه على قدر مخالفته أو موافقته لهذا الميثاق أو الضمير!.
فعندما يقوم الإنسان بفعل شيء يتناقض مع فطرته فإنه يشعر بالكآبة والقلق. وهذا القلق هو ما نسميه ( عذاب الضمير). وسبب هذه الكآبة والقلق هو مخالفة الفطرة؛ لأن باطن الإنسان جبله الله على النفور من الظلم والقتل والسرقة والكذب والخديعة.. وتلك خطوط أساسية حاضرة دوما في نفس الإنسان، يشعر بالقلق إذا خالفها أو عمل بما يناقضها، ويشعر بالراحة إذا سار على مقتضاها.. وهذا هو الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم منذ بدء الخليقة وهو الذي سيحاسب عليه يوم يقوم الحساب!


فسورة المائدة تبدأ بالحديث عن العقود، وليس معنى العقود هنا: "عقود البيع أو الشراء" إنما المقصود بالعقود كل شيء انعقد في النفس، فأصبح بمثابة (ميثاق)؛ إذا انكسر شعر الإنسان بالحرج وعذاب الضمير..
فتبدأ السورة بالحديث عن الأنعام التي أبيح للإنسان أن يأكلها دون أن يشعر بالحرج والإثم، لأن أكلها لا يعد كسرا للميثاق، إلا في حالات ستتلى في السورة بعد ذلك، كأن يكون الإنسان محرما، فإنه إن فعل ذلك، لابد أنه سوف يأثم ويشعر بعذاب النفس وتأنيب الضمير، لأن هذا من شعائر الله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)

وكذلك فإن الإثم وتأنيب الضمير يحيط بالإنسان إذا كسر ميثاقا آخرا، وهو منع الناس من تأدية شعائرهم المقدسة:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ) 2

والآن ستتلو السورة المحرمات من هذه الأنعام التي لا ينبغي للإنسان أن يأكلها فإنه إن فعل، سيكون قد كسر الميثاق، وهذا سيجعله يشعر بالإثم وعذاب الضمير:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ)3

وبالإضافة إلى بهيمة الأنعام التي أحلها الله للإنسان؛ هناك الكثير من المباحات التي إذا فعلها الإنسان لا يأثم ولا يشعر بعذاب بالضمير، لأنه لم يكسر الميثاق، كالطعام الطيب، وطعام أهل الكتاب، والنساء العفيفات من المسلمات والكتابيات:
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُل:ْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ، وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِين،َ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.. الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ، وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)

وأحيانا يضطر الإنسان لكسر (الميثاق) مرغما، فيلازمه شعور بالإثم.. فربما لم يتيسر له ماء للطهارة عندما يكون في سفر، أو بعد قضاء حاجته، أو بعد المعاشرة الزوجية.. فجاء العلاج لكسر هذا الميثاق:
(..وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى، أَوْ عَلَى سَفَرٍ، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ، أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ، فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ..) (6)

ويأتي تعليل السبب في نفس الآية بأنه لرفع الحرج وعذاب الضمير:
(..مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (6)

وتعود السورة ثانية للحديث عن الميثاق مرة أخرى، وتوضح بان هناك ميثاقا وضعه الله في النفس البشرية، تتأثم النفس إذا كسرته أو نبذته أو عملت بما يخالفه:
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)

وليس الميثاق ميثاقا ماديا يخص الأكل والشرب والزواج فقط، إنما للميثاق صور معنوية أيضا، إذا كسرها الإنسان، فإنه يأثم ويشعر بعذاب الضمير، كخيانة قاض عادل لنزاهته أحيانا؛ فلا يحكم بالعدل الذي اعتاد أن يحكم به بين الناس، وهذه العادة بمثابة ميثاق أخذه على نفسه.. وهو يناقض سلوكه المعتاد في العدل بسبب كراهة أو خصومة أو عداوة بينه وبين احد المتخاصمين:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ، شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ،وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (8)

وهذا الميثاق ليس ميثاقا لأمة الإسلام فقط، وإنما هو ميثاق قائم في نفوس الأمم جميعا، وفي النفس البشرية جمعاء على امتداد التاريخ، من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة. وابرز الأمثلة على ذلك بني إسرائيل من اليهود والنصارى، الذين قال الله لهم إنني أؤيدكم وأنزل السكينة في قلوبكم ما دمتم تلتزمون بالتكاليف الشرعية التي أصبحت بمثابة ميثاق بيني وبينكم:
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاة،َ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ، وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا..)(12)

لكن بني إسرائيل خالفت هذا الميثاق عن قصد وعمد، فكانت النتيجة لهذه المخالفة لعنتهم وقسوة قلوبهم، وجرأتهم على تحريف كلام ربهم، وبغض بعضهم بعضا:
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ، وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(13)
(وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (14)

ونتيجة لهذا الانحراف والتحريف المقصود وإخفاء الحقائق المتعمد؛ ضاعت الحقيقة واختلط الحابل بالنابل، ولا يمكن أن تعود الفطرة النقية إلى النفس البشرية إلا ببعثة رسول جديد يعيد كل شيء إلى نصابه الصحيح:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (16)

ومن العجيب أنهم مع هذا الانحراف الكبير، فإنهم لا يشعرون بما هم عليه من انحراف الفطرة واضطراب السلوك، بحيث أنهم ومع ذلك كله، يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه..! والدليل على كذبهم في هذا الادعاء، أن الله جعلهم يشعرون بالإثم وعذاب الضمير عندما يرتكبون الذنوب أو يقترفون المعاصي، مثلهم في ذلك مثل جميع الناس عندما يلمون بذنب أو معصية:
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ! قُلْ: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟! بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (18)

وهاهي نماذج من كسر اليهود لميثاقهم مع موسى عليه السلام:
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (21)

ثم قالوا كلمتهم النهائية في هذا الأمر الإلهي، وهو اعتراف يشي بشكل ضمني أو صريح بعدم التزامهم بالميثاق:
(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ) (24)

وكسر هذا الميثاق تم منذ بدء الخليقة، في نفس الإنسان عندما هبط إلى سطح الأرض، من قابيل أحد أبناء آدم عليه السلام ، حيث أقدم على قتل أخيه، ضاربا بهذا الميثاق عرض الحائط، وعند ذلك شعر بالندم وعذاب الضمير من ارتكاب هذا الجرم، لأن القتل من أعظم الجرائم التي تشعر الإنسان بغضب الله:
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ: يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي. فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

والندم وعذاب الضمير لا يكفي وحده لعلاج من يقدم على كسر هذا الميثاق ويرتكب هذه الجرائم الشنيعة المخالفة لفطرة الله التي فطر الناس عليها.. إنما يجب إنزال أشد العقوبات في هؤلاء المخالفين ردعا لهم وعقابا على جرائمهم:
(إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (33)

وليس عذاب الضمير الناتج عن كسر هذا الميثاق ومخالفته هو العذاب الوحيد لهذه الجرائم، إنما هناك عذاب آخر يفوق كل عذاب. لدرجة أن الإنسان لو امتلك كنوز الأرض كلها لافتدى نفسه بها من هذا العذاب الرهيب:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)

ومن المعلوم لدي كل إنسان أن من يحوز شيئا أو يكسبه بجهده وكده، يصبح له دون سواه.. وهذه فطرة إنسانية وميثاق يدركه كل إنسان. أما الذي يسلب ممتلكات الآخرين فقد انحرفت فطرته وكسر الميثاق في نفسه قبل أن يكسره مع ربه، ولا علاج لهذا الانحراف إلا بقطع أيدي هؤلاء اللصوص كي يثوبوا إلى رشدهم ويرتدعوا عن ارتكاب أمثال هذه الجرائم:
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (38)

إلا أن رحمة الله عز وجل تطل علينا، من خلال آية كأنها محطة نقف عندها نلتقط الأنفاس ونتفيأ في ظلالها بعد هذا العرض الشامل لتخبر مرتكب هذه الجرائم، إن هناك رحمة وتوبة من الله وراء ذلك كله:
(فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)

والشخص الرباني الذي يكون على درجة عالية من نقاء الفطرة وصفاء الضمير، لابد أن يحزن عندما يرى الإنسان يخالف أوامر الله ويكسر وصاياه ولا يلتزم بهذا الميثاق، وأول من أصابهم الحزن والأسف هو الرسول صلى الله عليه وسلم:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ..) (41)

أما الأشخاص غير الربانيين كاليهود فقد اعتادوا على كسر الوصايا ومخالفة المواثيق وتحريف كل شيء:
(وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا..) (41)

والعجيب أنهم مع هذه المخالفة الظاهرة لكتابهم ووصاياه يجيئون إلى النبي زاعمين أنهم يطلبون حكم الله ليلتزموا به:
(..فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (42)
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (43)
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ..)(44)

وكذلك فعل النصارى فخالفوا ميثاقهم وكسروا أوامر كتابهم:
(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)

وبناء على ما تقدم فليحذر المسلمون من تقليد الأمم السابقة في أتباع الهوى وكسر الميثاق كما فعل اليهود والنصارى:
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)

وليحذر المسلمون كذلك من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (51)
وهذا بمثابة ميثاق للأمة الإسلامية، ومن يتولى اليهود والنصارى برغم معرفته لكل هذا، فلابد أن يكون منحرف الفطرة في قلبه مرض:
(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (52)

فإن أطعتم أيها المسلمون والتزمتم بهذا الميثاق فبها ونعمت، وإن توليتم فإن الله سوف يستبدل قوما غيركم:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (54)

ومن أهم أسباب كراهية أهل الكتاب للمسلمين، هي نجاح المسلمين في لجم أهوائهم وكبح عواطفهم وعدم مخالفة ميثاق ربهم، في حين أن أهل الكتاب أخفقوا في ذلك:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) (59)

وقد عاقب الله أهل الكتاب لتغييرهم لفطرتاهم ومسخها.. فكان العقاب لفريق منهم هو قلب صورهم الإنسانية ومسخها، والجزاء من جنس العمل:
(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ؛ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ.. أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) (60)

وهناك عقاب ثان لفريق آخر بان أصبحوا منافقين، يختلف ظاهرهم عن باطنهم، فهم يظهرون الطاعة وهم يبطنون الكفر:
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
ومن يصلح الملح إذا الملح فسد؟ فبرغم كل هذه الموبقات والشناعات التي يرتكبونها جهارا نهارا لا تجد من العلماء والأحبار من ينهاهم عن شيء من ذلك:
(لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (63)

فكيف ترتجى صلاح أقوام هذه حالهم وتلك صفاتهم، فإن آيات الله لا تؤثر فيهم ولا تطهر قلوبهم. لا بل وتزيدهم إثما وعصيانا:
(..وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا..) (64)
والسؤال هنا لماذا سلكوا هذه السبيل؟ أليس حبا في الدنيا ونعيمها؟ أليس طلبا للثراء والجاه والسلطان؟ ومع ذلك لو أنهم اتقوا ربهم وعملوا بشرعه لأعطيناهم في الدنيا ونحن عنهم راضون ، أكثر مما أخذوا منها ونحن عليهم ساخطون:
(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) (66)

ومن يكسر وصايا شريعته وينحرف ضميره هذا الانحراف الخطير، فليس ثمة طريقة لعودة فطرته إلى عهدها الأول من النقاء والصفاء، إلا بتقويم الاعوجاج ورد كل شيء إلى مكانه الصحيح:
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ..) (68)
ومعنى إقامة التوراة والإنجيل هو إقامتها وتقويم اعوجاجها بعدما ما دخلها الكثير من التحريفات والتفسيرات الباطلة من الأحبار والرهبان، والتقويم في اللغة تعديل الأركان، وتقويم العود إزالة اعوجاجه فهو قويم، يقول صاحب تفسير بيان المعاني (ملاحويش آل غازى عبدالقادر) «حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» كما أنزلا ، وتعملوا بما فيهما حقيقة، وترجعوا عن كل ما حرّفتموه وغيّرتموه منهما «وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» من الكتب الأخرى فتقيمونها أيضا على ما كانت عليه. واعلموا أن إقامتها لا تكون إلّا بإعادتها على ما كانت عليه عند نزولها ومراعاتها والمحافظة عليها، ومنه الحديث الذي في البخاري في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى يُقيمَ به المِلَّةَ العَوْجاء" يعني مِلَّة إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم التي غَيَّرَتْها العَرَبُ عن اسْتِقامَتِها.. ووصفها بالعوج لما دخل فيها من عبادة الأصنام.

فكان لابد من دعوة بني إسرائيل لإقامة اعوجاج التوراة بعدما انكشفت حقيقتهم بعد نزول القرآن وعرفت الدنيا أنهم نقضوا الميثاق وقتلوا الأنبياء وغيروا الشرائع:
(لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) (70)

وكذلك النصارى لم يلتزموا بهذا الميثاق ونقضوه:
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ) (72)

وليس القرآن هو أول من لعن اليهود والنصارى، فقد لُعنوا على لسان أنبيائهم بعصيانهم ومخالفتهم ميثاق ربهم:
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (79)..

ومن آثار هذه اللعنة تحول الكثير منهم إلى منافقين، وسارعوا إلى مولاة الكافرين، لأن هذه اللعنة أفقدتهم الاهتداء إلى الصواب:
(تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (81)

وعداوة اليهود والنصارى والمشركين للمؤمنين بقدر بعدهم أو قربهم من الميثاق؛ فكلما ازداد ابتعادهم عن الميثاق، ازدادت عدواتهم للمؤمنين، وكلما اقتربوا من الميثاق اقتربوا من المؤمنين. لذا فقد كان اليهود والمشركون أكثر ابتعادا عن الميثاق؛ فاشتدت عداوتهم للمؤمنين. وكان القسس والأحبار أقرب للميثاق فكانت عدواتهم أقل:
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (84)

وليحذر المؤمنون من مخالفة الميثاق ومخالفة الفطرة السليمة كما فعل أهل الكتاب من خلال إباحة الحرام أو تحريم المباح:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) (88)

أما الميثاق الذي يفرضه الإنسان على نفسه ويُلزم نفسه به، فإنه يشعر بالإثم وعذاب الضمير إذا خالفه، كأن يقطع على نفسه من خلال القسم على فعل شيء ثم لا يبر بقسمه. وقد جعل الله كفارة لذلك ليتخلص المسلم من إثم النفس وعذاب الضمير:
(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ، أَوْ كِسْوَتُهُمْ، أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ..) (89)

وهناك الكثير من المنكرات التي تؤدي إلى مخالفة الفطرة والميثاق الذي وضعه الله في نفس الإنسان، كشرب الخمر ولعب القمار وتقديم الذبائح والنذور للأصنام:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (91)

ومن سنن الله في الكون أن يتعرض الإنسان بين الحين والآخر لابتلاءات لمعرفة مدى قوة الميثاق في نفسه أو هشاشته، كأن يشتهي المسلم الصيد أثناء الإحرام فيقدم على صيده.. وهذه من الابتلاءات التي إذا فعلها الشخص شعر بعذاب الضمير.. لذلك إذا وقع المسلم وقع في هذه المخالفة لن يتركه الله نهبا للاثم وعذاب الضمير، وإنما يرشده إلى ما يرفع هذا الإثم:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ؛ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ؛ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

ومخالفة الميثاق تكون في بعض الأماكن أشد حرمة من أماكن أخرى:
(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
و كل من أوتي حظا من نقاء الفطرة وصفاء النفس يميز هذه الأمور بيسر وسهولة، فلا يستوي لديه الخبيث والطيب:
(قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (100)

أما الأشياء التي يحرمها الإنسان وينظر إليها كأنها ميثاق يحرم عليه كسره، مدعيا أنها من عند الله فليس هذا من الميثاق في شيء. فهذه أمور باطلة لا يُلتفت إليها، مثل جعل المشركين من بعض الأنعام محرمات يحرم الانتفاع بها، زاعمين أنها من تحريم الله:
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (104)

وشهادة الزور ومخالفة ما ينطوي عليه الضمير.. هذا كسر للميثاق أيضا:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) (106)
ويوم القيامة لابد من العرض على الله عز وجل في ساحة القضاء الإلهي، وإحضار الأقوام مع رسلهم ليشهدوا عليهم أنهم غيروا المواثيق والعهود، وأن هذه العقائد الفاسدة من وضع أهوائهم الفاسدة:
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
ومن النماذج عيسى عليه السلام مع قومه:
(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (116)



#نافذ_الشاعر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مفهوم الفتح في سورة الفتح
- التعرّف لا التعارف
- دوافع التطرف في العصر الحديث
- البهائية ونشأت العقائد الدينية
- كيف تنشأ العقائد الدينية (الشيعة نموذجا)
- خلق لكم من أنفسكم أزواجا
- في الجنة زواج لا نكاح
- الفرق بين النكاح والزواج في القرآن
- مثنى وثلاث ورباع..
- التشات والمسنجر والفيسبوك
- ميرزا غلام أحمد (1)
- في بلاد الحرمين (4)
- في بلاد الحرمين (3)
- مفهوم النسخ في القرآن
- في بلاد الحرمين (2)
- في بلاد الحرمين (1)
- خلق القرآن
- شقراء لرجل أحدب (نقد)
- مفهوم ليلة القدر
- رواية ستائر العتمة (نقد)


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نافذ الشاعر - مفهوم الميثاق في سورة المائدة