أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلعت رضوان - شاى الأصدقاء : قصة قصيرة















المزيد.....

شاى الأصدقاء : قصة قصيرة


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 3905 - 2012 / 11 / 8 - 11:51
المحور: الادب والفن
    


شــــاى الأصدقــــــــاء
قصة قصيرة
مُهداة لروح الشاعر عبدالصبور منير والسيدة الفاضلة والدته
ــــــــــــــــــ
حط بصرى عليها فرأيتها كتلة سوداء من الصمت وسط معزوفة العويل ، يجمعها بباقى الكتل المُلتصقة سواد المآزر وزرقة الوجوه .
رقد الجسد فى مثواه الأخير ورشّ التربى الماء ونثر الأهل الورد ، وانتشر أطفال الرحمة.
تحلـّـق المقرئون حول المدفن ، تتمايل الرؤوس والأجساد ، يتوحّد إيقاع الحركة ، ويتناثر الترتيل فى غير نظام .
أطلقتُ عينىّ للبحث عنها . رأيتها جالسة بين النسوة المولولات ولاتبكى . قامت تغرز أصابع كفيها فى الأرض . فكتْ اشتباك الساقيْن فانغرزتْ الركبتان فى توازٍ مع أصابع كفيها. علا الظهر المُقوّس تدريجيًا . نزعتْ ابنتها ثديها من فم رضيعها وجرتْ إليها . تناولتْ يدها وساعدتها على القيام . صلبتْ الأم عودها الهش . همستْ ابنتها فى أذنها . دفعتها الأم بطول ذراعها . حاولتْ ابنتها منعها من الحركة. وكزتها الأم بكوعها واندفعتْ نحونا .
خطاها كبكبة. ينغرز مشطا قدميها فى التراب فيتناثر مُزوبعًا. أحسستُ كأنّ كرات نار تتـّجه نحونا. هل تـُحرّم علينا وداعه ، كما كانت تـُحذره من صداقتنا ؟ وقفتْ أمامنا بهامتها الهشة ، تلك الهامة التى أحببناها وخشيناها . تخيلتُ أنها تتساند على تيارات الهواء المُعربدة فى خلاء الحوش. مشتْ بعينيها على وجوهنا وقالتْ (( عاوزاكم الليله فى بيتى ))
صوتها فى أذنى يحمل طابعه وتفرده : تلك الحدة القاطعة التى تـُخفى فى طياتها شيئـًا أخفقتُ دومًا فى تحديد اسمه. تتبعتها عيناى ، رأيتها تـُوزع نقودها على المُقرئين وأطفال الرحمة.
التقتْ عيناى بعيون الأصدقاء. سرنا فى اتجاه باب الحوش . أوقفنا صوتها ((ماشيين ليه ؟))
تراجعنا إلى حيث كنا . انحسر ظل النخلة واتسعتْ بقع الشمس . قال عادل ((فاكرين وصيته لنــا ؟)) حام الصمت حولنا . أخرج عادل القنبلة الموقوتة من عقولنا . دارتْ العيون فى حومة الصمت. أكانتْ وصية حقــًا ؟ كان يُمازح الموت ، وكنا نطرب من فكاهته ونستخف بوصيته.
ذات مرة أوقف ضحكاتنا. غطى كتفىّ بكفيه وقال (( إنتَ تقدر تنفذها )) قلتُ (( بلاش نخلط الجد بالهزل)) اختفتْ سمات وجهه البشوشة. طالتْ أصابع كفيه عظام الكتفيْن . قال ((إزاى أقدر أقنعكم برغبتى ؟)) قلتُ ((طلبك هوّ المستحيل بعينه)) خلـّـص أصابعه من كتفىْ . جرتْ الدماء فيهما. ابتعد عنى قليلا . بدا صوته ساخرًا ممرورًا ((تحلمون بالحرية والمساواة ، وتعتبرون الموسيقا وقراءة الشعر على قبرى من المُستحيلات ؟)) تدخل أمك الحجرة . يتجسّد ما حدث أمامى كأنى أرى حلمًا يتكرر. أراكَ تجلس حزينـًا شاردًا. وأرى عيون الأصدقاء مُعلقة على جدار لحظة توقف الكون عندها. نختنق بالصمت. نتنفس بوهن. تتقدّم هى بصينية الشاى . نـُتابع جسدها النحيل المُقوّس. تضع الصينية على مكتبك وتسألنا ساخرة ((مين مات لكم ؟)) أكابد كبت ضحكة مُتفجرة. تستدير وتواجهها ((السياسة ياما خرّبت بيوت)) تخرج أنتَ من حزنك وتـُداعبها كعادتك ، فتلكزك فى صدرك كعادتها وتقول ((إنتم شباب . انتبهو لمستقبلكم) ها هى تحمل أعقاب سجائرنا . نتأهب للتنفس . عند باب الحجرة قالت ((أنا عارفه إنكم موش مجانين ولا دراويش))
تأملتُ أصدقائى ، فارتطمتْ العيون بجدار الصمت .
صديق يرحل وجرح يسد فوهة الحزن . أتداوى ببعض كلماته ((أنا شمعة. بقايا احتراقى ليست نفايات . إنها تتجمّع . تنتصبْ من جديد))
عاشق الحياة يُمازح الموت دومًا ((سوف أراكم من قبرى حيث تتسلل موسيقا الطفل المُعجزة موتسارت أو صوت خالد الذكر سيد درويش . أو وأنتم تتلون على قبرى أبياتـًا من شعر ناظم حكمت أو..)) نقطع عليه استرساله فقال (( لماذا تضحكون؟ ألا يحق للإنسان أنْ يختار طقوس عزائه؟)) أكنتَ تـُمازح الموت أم تـُمازحنا ؟ ولكنك كنتَ تؤكد دائمًا ((إنها وصيتى الوحيدة للأصدقاء)) تذكرتُ بعض أبيات الشعر المُحبّبة إليه. نظرتُ فى عيون أصدقائى ، كانت مُغلقة. أغمضتُ عينىّ وأدركنى يقين أنّ كتل الصمت تتفتــّتْ تحت أقدامنا .
000
بيوتنا مُتباعدة وضيقة. جلسنا فى مقهى نتشاور فى أمر الذهاب إليها. حلّ المساء ولم نحسم أمرنا. صوتها يقتحم غرقى فى بحر السكون ((عاوزاكم الليله فى بيتى)) قرّرنا الذهاب إليها : نفتقد القدرة على التراجع ، ونفتقد القدرة على المواجهة. ونفتقد القدرة على عصيان أوامرها .
يستقبلنا الوجل ونحن نقترب من الحارة التى ألفتْ أقدامنا. شغل الرجال نصف الحارة ، وعلى بُعد خطوات تلاصقتْ كتل السواد فلمحتها بينهن . نصبتْ عودها وأقبلتْ نحونا . أشارتْ إلينا أنْ نتبعها . حرّكتْ كبكبة خطاها شيئـًا غامضـًا فى وجدانى لم تمسكه ذاكرتى . فى الممر الضيق جلستْ بعض النسوة وقد وسدّنَ أفخاذهن لصغارهن . جلابيب الصغار مُشجّرة وزاهية على كتل السواد . اقتربنا من الغرفة التى شهدتْ ضحكاتنا وأحلامنا . فتحتْ الباب فأخذنا نتبادل النظرات . أشارتْ لنا بالدخول وتركتنا ومضتْ . جلستُ على أقرب كرسى وأغمضتُ عينىّ غير قادر على التحديق فى محتويات الغرفة. كنتُ أفكر فى أشياء كثيرة ولا أمسك بشىء .
طال انتظارنا فأدرتُ بصرى علـّـنى أوقف طنين الصمت : المكتب الذى تبادلنا الجلوس أمامه. الرفوف التى صنعناها معًا للكتب ، الكتب التى اشتركنا فى شرائها ، السرير الذى امتصّ متاعبنا.
دخلتْ تحمل الشاى فانتصبنا وقوفـًا. خفّ سمير إليها وتناول الصينية وأسرعتُ بتقديم كرسى لها. سبقنى الأصدقاء والتفوا حولها. مدّتْ ذراعيها لرأفت الذى أراحها على الكرسى. تراجعنا إلى الوراء وانتظرنا. شدّتْ ذراعيها على فخذيها فاستقامتْ القامة وأصبح الجسد قوسًا مُنفرجًا. رفعتْ رأسها إلى مستوى وجوهنا وقالت ((المرحوم ساب لى وصيه تخصكم)) ودسّتْ كفها فى طوق جلبابها. التقتْ عيناى بعيون الأصدقاء. خرجتْ الكف من الصدر بورقة كراسة مطوية. مدّتْ ذراعها نحو بهاء وأمرته بقراءة الوصية. ركزتُ بصرى على بهاء فرأيتُ الورقة ترتعش بين يديه وهو يفرد طياتها ، ورأيتُ عينيه تـُطاردان الكلمات . تنحنح . قالت بصوتها القاطع ((إقرا)) أخذنا نُتابع صوته الذى بدأ مُتحشرجًا ثم مُتهدّجًا ثم رائقـًا :
أوصيكِ يا أمى ..
إنْ دام صمتى ورحيلى ..
أو استقر سكنى على صدر سحابة فضية..
أو تناثرتْ ذراتى فوق سنابل القمح ..
أنْ تفتحى غرفتى للشمس وللأصدقاء ..
أوصيكِ يا أمى بأصدقائى ..
لا حـُرموا شايك .. لا حـُرموا حنانك ..
لما توقف ساد صمت سميك. أحسستُ كأنى شربتُ خمرتى الأولى ، وسرى فى رأسى خدر غيّم الوجوه والوجود ، حتى انتبهتُ على صوتها المُميز فى أذنى ((جرى لكم إيه؟)) التقتْ عيناى بعيون الأصدقاء. لم تـُمهلنا . صوتها يشدنا إليها ((دى رغبة ابنى . كلمنى عنها كتير ووصانى بيها فى جواباته. مره فى جواب من جبهة القتال ، ومره فى جواب من المعتقل ، والتالته فى جواب من غربته)) تفاعلتْ أذنى مع طبقة الصوت . أدركنى ذاك الشىء الذى أرهقنى تحديد اسمه ، كان فيضـًا من شجن يسرى فى طيات الحدة القاطعة.
أشارتْ إلى رأفت أنْ يقترب منها وطوّقتْ رسغيه بكفيها . تحاملتْ بهما على ساعديه حتى انتصبتْ. مشتْ بقامتها المقوّسة ورفضتْ مساعدته. عندما اقتربتْ من الباب أدارت وجهها إلينا وقالت ((اشربو الشاى قبل ما يبرد)) بعد خروجها نبّهنا بهاء إلى أكواب الشاى المُستكينة فى أيدينا . عندما رفعتُ كوبى إلى فمى ، سرى بخار واهن فى أنفى . كان السائل قد برد قليلا ، لكننى استشعرتُ الرائحة والطعم المُميّزيْن . أصغيتُ لأصوات الرشفات شاردًا. انتبهتُ على صوت سمير الرائق يتلو قصيدة الراحل (ما تيسّر من سورة العبور) عندما انتهى أخرج عادل علبة سجائره ودار بها علينا . تجمّعتْ الأكواب فى الصينية ودار عود ثقاب يُشعل سجائرنا .
***



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يوتوبيا سيادة المسلمين على العالم
- مساحات الظل
- مدينة طفولتى - قصة قصيرة
- تلك اللوحة
- حالة تلبس : قصة قصيرة
- محمود سلام زناتى : من سمع بهذا الاسم ؟
- لماذا فقد حورس عينه : المعرفة قبل العاطفة
- مصر فى عيون العالم (موسوعة للأطفال)
- موسوعة الفن المصرى وفن الكتابة للأطفال
- موسوعة تاريخ الأفكار للشباب
- أمنيات الزمن الضائع للأديبة هدى توفيق
- الموالد المصرية وأبعاد الشخصية القومية
- مظاهر الليبرالية المصرية قبل يوليو1952
- ربوة منصر القفاش - قراءة فى مجموعته نسيج الأسماء
- الشخصية المصرية وتعاملها مع القهر فى مجموعة (الحنان الصيفى)
- الأسطورة والواقع فى أطفال بلا دموع
- وصف اللغة بالفصحى غير علمى لأنّ الفصاحة للإنسان
- علم الآثار وغياب الحس القومى
- رؤية الواقع ورؤى الخيال فى (أغنية الدمية)
- أسماء المصريين بين المُعلن والمسكوت عنه


المزيد.....




- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلعت رضوان - شاى الأصدقاء : قصة قصيرة