أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - مصير العالم الثالث تحليل ونتائج وتوقعات توما كوترو و ميشيل إسُّون















المزيد.....


مصير العالم الثالث تحليل ونتائج وتوقعات توما كوترو و ميشيل إسُّون


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3902 - 2012 / 11 / 5 - 12:45
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مصير العالم الثالث
تحليل ونتائج وتوقعات
توما كوترو و ميشيل إسُّون
عرض: خليل كلفت
(فى مجلة العربى الكويتية، العدد 440 يوليو 1995)

يشتمل هذا الكتاب، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، على قسمين يتألف كل منهما من ثلاثة فصول. والقسم الأول بعنوان: حالة العالم الثالث، والقسم الثانى بعنوان: التنمية المستعصية.
وإذا أردنا التعرف بسرعة على موضوعات فصول الكتاب، يمكن القول إن الفصل الأول يتناول مفهوم وواقع العالم الثالث اليوم: هل ما يزال هناك عالم ثالث أم أنه انفجر إلى ثلاثة عوالم ثالثة؟
ويتناول الفصل الثانى المسألة السكانية: النمو السكانى - أهو نعمة أم نقمة بالنسبة للفقراء؟
ويضعنا الفصل الثالث أمام محاولات إجابة على أسئلة حاسمة: هل من الممكن تغذية هذه الكتل البشرية بصورة سليمة؟ وأين من ذلك الزراعة والفلاحون فى العالم الثالث، سواء على الصعيد التقنى أو الاجتماعى أو البيئى؟ وأية سياسات زراعية من شأنها تلبية متطلبات كل ذلك؟ والمعونة الغذائية، وبصفة أعم: معونة التنمية، أهى نعمة أم أداة للمزيد من استعباد البلدان الفقيرة؟
وينقلنا الفصل الرابع إلى قطاع الصناعة وإلى مزيد من الأسئلة المصيرية: ماهى الدروب التى سلكتها البلدان التى رغبت فى التحرر من خضوعها إزاء الأسعار الزراعية العالمية كما رغبت فى تنويع هيكلها الإنتاجى؟ والتجربة الناجحة للبلدان الصناعية الجديدة (وخاصة التنانين أو النمور الآسيوية الأربعة)، هل تصلح كمثال يُحتذى؟ وهل هناك إستراتيچيات أخرى من شأنها أن تقدم بديلا؟
ومع الفصلين الخامس والسادس نصل إلى فكرة من الأفكار الأساسية لهذا الكتاب: لا يكمن جوهر التخلف فى المجادلات التقنية حول "الثورة الخضراء"، أو إحلال الواردات، أو الانتقال السكانى. إن ما هو جوهرى يتمثل فى الإجابات التى يقدمها كل بلد من بلدان العالم الثالث على سؤالين: ما هى القوى الاجتماعية التى تدفع النمو الاقتصادى؟ (موضوع الفصل الخامس) وما مدى اندماج كل بلد من هذه البلدان فى الاقتصاد العالمى؟ (موضوع الفصل السادس).
ويرى المؤلفان الفرنسيان أن الطريقة التى يجيب بها كل بلد على هذين السؤالين معا تؤثر تأثيرا حاسما على مصير سكانه.
وفى مقدمة بعنوان له مغزاه العميق هو: الثالث المرفوع، والمقصود بذلك بطبيعة الحال هو العالم الثالث، يشير المؤلفان إلى انهيار الحقائق اليقينية مع نهاية الثمانينات مع سقوط نظام توازن القوى العالمى السائد منذ الحرب العالمية الثانية ومع الشك العميق فى الإيمان السابق بالتقدم والعلم كدواء لأدواء البشر ومع الشك فى وجود "نموذج للمجتمع" بخلاف الديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها الشكل الذى لا يمكن تجاوزه للتنظيم الاجتماعى، كما يدّعى أنصار نظرية "نهاية التاريخ".
ثم يؤكد المؤلفان أن سياسات التنمية لا تفلت من هذه المجزرة للأفكار السائدة.
والحساب الختامى مثير للذهول.
سكان الشمال (أو المركز أو البلدان المتقدمة) يمثلون 25٪ من سكان العالم ولكنهم يستهلكون 70٪ من الإنتاج العالمى للطاقة و75٪ من الإنتاج العالمى للمعادن. والبلدان التى يقطنها ال 20% الأغنى من سكان العالم تتصرف فى 83٪ من مجمل الإنتاج العالمى وعلى ال 20% الأفقر أن يقنعوا ب 1.4% من هذا الإنتاج. ونسبة ال 83% هذه فى 1989 كانت 70% قبل ذلك بعشرين سنة أما الخُمْس الأفقر الذين يحصلون الآن على 1.4% فكانوا يحصلون على 2.3% فى 1960. وخلال الثلاثين سنة الماضية تضاعف فارق فى الدخل بين الخمس الأغنى والخمس الأفقر من سكان العالم: فأصبح بنسبة واحد إلى 95 فى 1989.
وفى الثمانينات كان العالم الثالث ينمو بسرعة أقل من البلدان الصناعية بل هناك مناطق بأسرها كفت عن النمو حيث تراجع نصيب الفرد من الناتج. وفى بداية التسعينات ظل الدخل الحقيقى للفرد راكدا فى مجموع بلدان الجنوب (العالم الثالث)، بل بلغ هذا التراجع 6.4٪ فى سنتين بالنسبة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وباختصار توقف اللحاق وتتسع الفجوة طوال السنوات العشر الأخيرة.
ويلخص المؤلفان النتيجة الاجتماعية الجوهرية لعقود طويلة من التنمية فى العالم الثالث:
البلدان التى كانت متخلفة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم حققت للغالبية الساحقة من سكانها العيش فى شروط لائقة من ناحية التغذية والصحة والتعليم، بلدان تعد على أصابع اليدين.
فى آسيا: الصين الشعبية، وتايوان، وكوريا الجنوبية (كما يمكن إضافة هونج كونج ، وسنغافورة، وجزيرة موريشيوس).
فى أمريكا اللاتينية: كوستاريكا، و( بصورة مشكوك فيها أكثر فأكثر) كوبا.
فى أفريقيا: ولا بلد واحد.
ويتساءل المؤلفان عما هو مشترك فى السياسات المتبعة فى هذه البلدان المعدودة، والذى من شأنه تفسير نجاحها. ويخرجان بالاستنتاج الرئيسى للكتاب بكامله: " هناك سمتان على وجه الخصوص: هيكل اجتماعى وزراعى يقوم على المساواة نسبيا؛ حكومات فعالة ويقظة إزاء الاندماج فى السوق العالمية. وحتى الياپان، آخر بلد يدخل نادى القوى الصناعية العظمى خلال هذا القرن، حققت ذلك وفقا لهذا النموذج".
مفهوم وواقع العالم الثالث
يبدأ المؤلفان الفصل الأول بالتمييز بين تيارين فكريين بخصوص مشكلات التنمية.
والتيار الأول: بنيوى، كينزى، ماركسى، عالم-ثالثى، ويصف الاقتصاد الرأسمالى العالمى باعتباره بنية هيراركية تتألف من مركز (خاصة الولايات المتحدة، أورپا الغربية، الياپان) ومحيط ( أفريقيا، أمريكا اللاتينية، آسيا باستثناء الصين والياپان).
والتيار الثانى: ليبرالى المنحى، ولا يرى علاقة تبعية أو هيراركية بين الشمال والجنوب، بل ينطلق من النظرة الخاصة باقتصاد عالمى موحد لا يملك فيه كل بلد، وفقا للنظرية التى صاغها (ديڤيد ريكاردو) فى بداية القرن التاسع عشر، إلا أن يستغل "مزاياه النسبية" لكى يربح.
ورغم التباينات الضخمة بين بلدان العالم الثالث إلا أن هناك سمات مشتركة أكيدة تشكل الوحدة وسط هذا التنوع:
* نمو سريع للسكان.
* نسبة مرتفعة للسكان العاملين بالزراعة: فى المتوسط 30٪ فى الجنوب مقابل 7٪ فى الشمال.
* نقص توظيف قسم ضخم من السكان العاملين، ويرجع إلى بقاء العلاقات العتيقة فى الزراعة كما يرجع إلى الهجرة الجماعية الريفية الناشئة عن انهيارها. ويصبّ هذا فى تضخم فوضوى للمدن وكذلك فى " قطاع غير رسمى" مدينى ضخم وكذلك أيضا فى ضعف الحافز إلى التجديد التكنولوچى والاجتماعى.
* ضخامة التفاوتات الاجتماعية: ال 10٪ الأكثر غنى من السكان العاملين يتلقون حوالى 25٪ من الدخل الإجمالى فى البلدان المتقدمة، أما فى البلدان النامية فإنهم يحتكرون 44٪ فى ساحل العاج، و37٪ فى الفليپين، و40٪ فى المكسيك، و50٪ فى البرازيل.
* ضعف القدرة على التجديد التكنولوچى: وبالتالى تصبح كل بلدان العالم الثالث تقريبا تابعة للشركات عبر القومية، ويتركز 97٪ من الإنفاق العالمى على تنمية الأبحاث فى البلدان المتقدمة.
* تضخم الدولة.
فما منشأ هذا التخلف؟ وهل يرجع إلى أسباب داخلية أم خارجية؟.
يجيب المؤلفان كما يلى: " تجد علاقات التبعية منشأها فى الوجود المتزامن، فى سوق عالمية واحدة، لأمم تطورت داخلها علاقات الإنتاج الرأسمالية بصورة غير متساوية. وهكذا يمكن تعريف "التخلف" على أنه الصدام بين قانون المنافسة الذى ينظم السوق العالمية، ومجتمعات مجردة من التماسك الداخلى الوظيفى لهذا القانون". وبالتالى فإن جذور التخلف "لا هى داخلية ولا هى خارجية، بل هى داخلية وخارجية.. دوما ".
والحقيقة أن العالم الثالث ينقسم إلى ثلاثة عوالم ثالثة:
1 - اقتصاد الاستنزاف قبل الصناعى الذى يسود بلدان أفريقيا جنوب الصحراء (باستثناءات) بالإضافة إلى بلدان أخرى مثل هايتى وبورما وبنجلاديش.
2 - الاقتصاد الأولى التصديرى، حيث الانتشار الحاسم كيفيا لعلاقات الإنتاج الرأسمالية فى قطاعات مهمة وخاصة تصديرية، وتنتمى إليه بلدان پترولية مثل نيچيريا والجزائر والكونغو ومصر وإندونيسيا، ورغم أن السبعينات شهدت معدلات نمو مرتفعة أحيانا فى هذه البلدان إلا أن تراجع الثمانينات كان عنيفا ( مثلا؛ تراجع معدل نمو الصناعة الإندونيسية من 11.9٪ سنويا بين 1965 و 1980 إلى 5٪ منذ ذلك الحين). وفى بلدان أخرى تنتمى إلى هذا الاقتصاد ( مثلا؛ بوليڤيا، المغرب، سوريا) كان النمو أقل سرعة فى السبعينات وبطيئا جدا وحتى سلبيا منذ الثمانينات.
3 - البلدان الصناعية الجديدة أو البلدان شبه الصناعية، كما يفضل المؤلفان تسميتها: هناك فى المحل الأول التنانين أو النمور الآسيوية الأربعة لكن أيضا المكسيك والبرازيل وإن كان هذان البلدان يتجهان إلى الهبوط فى فئة البلدان الثقيلة الديون، كما يمكن إدراج الأرجنتين وتركيا وخاصة الهند فى هذه الفئة .
وتتميز هذه البلدان بامتلاك برچوازية صناعية تقف على أقدامها وطبقة عاملة تشغل مكانا مركزيا فى النضالات الاجتماعية والسياسية، وكذلك بنمو سوق داخلية حقيقية للمنتجات المصنعة لا ترتكز فقط على الطبقات السائدة بل كذلك على شرائح متوسطة مهمة.
ورغم هذا التنوع ورغم الواجهة الدعائية التى تمثلها النمور الأربعة، هناك ما يشكل وحدة هذه البلدان. فالأمر الجوهرى هو أن "عمليات التصنيع الجارية فى عدد من هذه البلدان هى واقع فعلى غير أن الأمر يتعلق، باستثناءات قليلة نادرة، بتصنيع ناقص، ومشوه، وتابع، وهش، ولم يرتكز على نمو السوق الداخلية وإشباع الحاجات الشعبية".
والنتيجة المنطقية والتاريخية هى أن بلدان العالم الثالث، بوجه عام، دخلت مع بداية الثمانينات مرحلة جديدة، هى مرحلة التراجع الاجتماعى: أصبح على عدد من بلدان المحيط، التى ترزح تحت عبء الديون، أن توقف نموها وأن تخصص جانبا مهما من مواردها لدفع فوائد ديونها.
السكان: نعمة أم نقمة ؟
يمكن القول إن العالم يشهد اليوم مشكلتين سكانيتين لكل منهما خصائصها وأخطارها النوعية. وفى هذا العالم المنقسم إلى عالم البلدان الغنية أو المتقدمة أو المركز أو الشمال وعالم البلدان النامية أو المتخلفة أو المحيط أو الجنوب ( أى العالم الثالث)، نجد لكل عالم منهما المشكلة السكانية الخاصة به. وباختصار: ركود سكانى فى الشمال، وانفجار سكانى فى الجنوب.
وقد شهد التاريخ منذ بدايته فى كل مكان وإلى اليوم نوعين من الركود السكانى أو تباطؤ النمو السكانى. فمنذ بداية التاريخ وحتى بداية العهد الرأسمالى ساد ركود سكانى كان محصلة الالتقاء بين معدل مواليد مرتفع ومعدل وفيات مرتفع. وفى المجتمع الرأسمالى الناضج كما فى الشمال اليوم ( أو منذ عقود طويلة ) يسود ركود سكانى هو محصلة الالتقاء بين معدل مواليد منخفض ومعدل وفيات منخفض.
وبين هذين الركودين المختلفين نوعيا تمتد فترة، قد تصل إلى قرون، تتميز منطقيا وتاريخيا بانخفاض معدل الوفيات بفضل بعض التطورات الصحية والطبية فى البداية، ثم بفضل المزيد من التطور الاقتصادى والاجتماعى والصحى اللاحق. أما معدل المواليد فإنه يبقى على ارتفاعه على مر القرون إلى أن يبدأ الانخفاض التدريجى بفضل تطورات اقتصادية واجتماعية وعلمية وطبية بذاتها.
وبقدر ما يبقى معدل المواليد مرتفعا مع استمرار انخفاض معدل الوفيات، ومحصلتهما ارتفاع معدل النمو السكانى ونشوء هيكل عمرى جديد يتميز بارتفاع نسبة الشباب والأطفال، نكون أمام ظاهرة لا مفر منها: ظاهرة الانفجار السكانى.
أما التطور المنطقى اللاحق: استمرار انخفاض معدل المواليد مع استمرار انخفاض معدل الوفيات، بفضل تطورات تحديثية تاريخية، فإنه يتوقف على حدوث واكتمال ونضج هذه التطورات الأخيرة. وإذا كان هذا التطور قد حدث بالفعل فى البلدان المتقدمة مؤديا إلى الركود السكانى الراهن فى الشمال، فإن حدوثه واستمراره ونضجه واكتماله النهائى فى الجنوب أشياء تتوقف فى نهاية المطاف على استمرار أو انقطاع التطورات التاريخية فى الجنوب. وإذا كانت بعض مناطق الجنوب قد صارت من الآن أورپية من الناحية الديموجرافية (الصين بالذات) فإن الانفجار السكانى هو الواقع الفعلى إلى الآن، وإلى مستقبل طويل، فى أغلب المناطق الأكثر نموذجية فى تمثيل العالم الثالث.
وإذا كانت مشكلة الركود السكانى فى الشمال تنطوى على مشاكل اقتصادية ضخمة وثيقة الصلة بالشيخوخة الديموجرافية فى المدى القريب والمتوسط، وعلى مشاكل تتعلق بالبقاء ذاته فى المدى البعيد، فإن مشكلة الانفجار السكانى تواجه العالم الثالث بمشاكل تتعلق بالاقتصاد وبالبقاء فى المدى المباشر والقريب والمتوسط، إلى حد أن أفريقيا مرشحة لتدخل الضوابط المالتوسية وللتحول إلى قارة قليلة السكان نتيجة للمجاعات والحروب الأهلية.
ويرى المؤلفان أن الطريقة العقلانية تتمثل، بعيدا عن المالتوسية القديمة والجديدة، فى إدراك وتقييم مدى واتجاهات العمليات الديموجرافية وتقدير آثارها الاقتصادية والاجتماعية واستخلاص نتائجها على الاقتصاد العالمى.
البشر والأرض والجوع
فى أمريكا اللاتينية يعانى 14٪ من السكان الجوع رغم الكثافة السكانية المنخفضة والأراضى الواسعة القابلة للزراعة. وباستثناء المكسيك وكوبا، حيث جرت إصلاحات زراعية عميقة، يبرز دور التركيز العقارى وراء هذا الوضع (1.3٪ من الملاك يملكون 71.6٪ من الأراضى الزراعية).
وفى آسيا نجاح أكيد ولكنه جزئى من خلال زراعة كثيفة فى العمل ومقتصدة فى رأس المال ومن خلال ثورة الأصناف الجديدة من الحبوب الغذائية ومكافحة الطفيليات وتحسين أساليب الرى واستخدام الأسمدة.
أما أفريقيا فتمثل كارثة حقيقية حيث يعانى أكثر من 300 مليون أفريقى من أصل 650 مليون سوء التغذية (الفاو). ويتواصل تفاقم انعدام الأمن الغذائى، كما أنه يمكن أن ينقلب إلى مجاعة فى حالة الحرب الأهلية، كما كان الحال فى الصومال.
فهل تشكل معونة التغذية أو معونة التنمية حلا؟
فى الواقع، يرتفع باستمرار المبلغ الإجمالى المخصص لمعونة التنمية: من 14 مليار دولار فى 1975، إلى 27 مليار فى 1980، إلى 51 مليارا فى 1988. فإلى أين تذهب هذه الأموال؟ الواقع أن المعونة الدائمة تهم حكومات البلدان المانحة والمستفيدة أكثر مما تلبى مصالح السكان المعنيين بل هى ضارة بهم.
فالمعونة الغذائية الدائمة تنافس المحاصيل المحلية وتنافس العادات الاستهلاكية لصالح الأغذية المستوردة من الغرب (وخاصة القمح)، وتقلص أسواق تصريف الزراع المحليين بسبب رخص المواد الغذائية المستوردة، ويؤدى هذا إلى هبوط الأسعار الزراعية الداخلية الأمر الذى يؤدى إلى تقليص الإنتاج المحلى وبالتالى تزايد المعونة والواردات.
الطريق الضيق إلى التصنيع
خلال قرابة ربع قرن بعد الحرب العالمية الثانية تضاعف نصيب الفرد من الإنتاج الصناعى: 3 أضعاف فى أفريقيا، و 3.8 فى آسيا، و 2.7 فى أمريكا اللاتينية، و 3.2 فى أورپا، وأكثر من 18 ضعفا فى الياپان.
وبرغم تباين مستويات الانطلاق والوصول، تجرى عملية لحاق حقيقية فينمو نصيب العالم الثالث فى الإنتاج العالمى كما فى صادرات المنتجات المصنعة.
هكذا تغيرت صورة المحيط المتخصص فى المواد الأولية (الزراعة والمناجم) والمركز الصناعى. ويتعلق الفارق الرئيسى بنسبة صناعات التجهيزات ومعدات النقل إلى الإنتاج الصناعى (40٪ فى المركز مقابل 25٪ فى المحيط)، وبالمقابل يكون للصناعات الزراعية الغذائية وصناعات السلع التقليدية أو الوسيطة وزن أكثر أهمية فى المحيط.
ويتضح اتساع نطاق التصنيع فى المحيط من واقع أنه حيثما يحدث التصنيع هناك ينتج عن ذلك تقارب فى هيكل الإنتاج الصناعى بين المركز والمحيط. ولكن هيكل صادرات المنتجات المصنعة هو الذى يحدد بدقة ملامح عملية التصنيع. ورغم أن حصة هذه الصادرات تضاعفت من 26٪ إلى 53٪ بين 1965 و1989، إلا أن حصة السلع التجهيزية تطورت بسرعة أقل من المجموع، كما أن تطورها تركز فى عدد قليل جدا من بلدان العالم الثالث. وفضلا عن ذلك، أدى نمو صادرات النسيج إلى ظهور تخصص للجنوب على أساس هذه المرحلة التصنيعية ذات المحتوى التكنولوچى الهزيل.
وقد وصلت بلدان الجنوب إلى هذه النتائج من خلال شروط موضوعية متباينة وإستراتيچيات اقتصادية مختلفة: الصناعات التصنيعية، إحلال الواردات، التصنيع بتنمية الصادرات.
ويقف المؤلفان عند النموذج الكورى (الجنوبى بالطبع) ويخرجان بدروس مهمة قد تصدم أولئك الذين يعولون عليه والذين لا يدركون جيدا أن النموذج الكورى يتميز بشروط وخصوصيات تاريخية واجتماعية لا تتفق مع تصوراتهم عنه أو بالأخص مع مصالحهم المباشرة: دور المعونة الخارجية الضخمة، دور الإصلاح الزراعى الجذرى الذى فرضته قوات الاحتلال الأمريكية هناك لصد الخطر الشيوعى، الدور الكبير للرأسمالية المحلية. ويرفض المؤلفان أسطورة أن كوريا لم تكن سوى قاعدة تصدير لأمريكا والياپان والشركات المتعددة الجنسيات، ويؤكدان واقع أن تفاوت الدخول فى كوريا الجنوبية أقل من بقية بلدان العالم الثالث باستثناء الصين أساسا، وواقع أن الاقتصاد الكورى كان اقتصادا مخططا إلى حد بعيد ولم يكن اقتصادا ليبراليا على الأقل خلال مرحلة النهوض والهجوم على السوق العالمية.
وبالتالى فإن الطريق الكورى ليس طريقا ملكيا يسهل لبلدان العالم الثالث أن تسلكه من خلال مجرد تطبيق تدابير ليبرالية، وذلك لأسباب تاريخية واجتماعية وإيكولوچية.
وأخيرا فليس هناك نموذج عام للعالم الثالث كله اليوم. وإذا كانت بلدان النمط قبل الصناعى - حتى الپترولية منها بسبب هبوط أسعار البترول - تجد نفسها عاجزة أمام مهمة إعادة انتشار جهازها الإنتاجى صوب صناعات أخرى، وإذا كانت الاقتصادات الأولية التصديرية تتعرض لدفع قوى من جانب البنك الدولى إلى التخلى عن طموحاتها فى التصنيع وإلى التركيز على مزاياها النسبية التقليدية، فإن البلدان شبه الصناعية تجد نفسها فى مواجهة مشكلة خاصة بالتماسك الاجتماعى والسياسى (كوريا الجنوبية، البرازيل، المكسيك).
النماذج الاجتماعية
لا يشهد العالم الثالث انفجار سكانيا فقط بل يشهد كذلك انفجارا سرطانيا فى نمو سكان المدن والمدن الضخمة (الميجاپولات) Mégapoles. وفى العقد الأخير كان نمو السكان بمعدل 2٪ ونمو سكان المدن بمعدل 6.9٪ سنويا. وفى 1965 كان 24٪ من سكان البلدان النامية من سكان المدن فأصبحوا 41٪ فى 1988.
ولا تصبّ هذه الهجرة الريفية الضخمة فى عملية تحديث حقيقية بل تقذف بها التكنولوچيات المستوردة فى صناعات البلدان النامية إلى النمو الانفجارى للبطالة المدينية وتهديد الاستقرار الاجتماعى. كما يصبّ كل هذا فى انخفاض الأجور (الذى يعنى أيضا انخفاض الإنتاجية) وتدهور مستويات المعيشة والعمل العرضى الدائم والواسع النطاق وفيما يسمى بالقطاع غير الرسمى، الأمر الذى يؤدى إلى تحولات ضخمة فى سوق العمل وفى تكوين الطبقات العاملة والشعبية.
وفى ظل سيطرة نخبة صغيرة، كثيرا ما تكون بيروقراطية حكومية أو عسكرية، على الاقتصاد، وفى ظل دولة كلية الوجود حيث ينبغى ألا تتدخل، وعاجزة حيث ينبغى أن تفعل، وفى ظل تركيز متعاظم للموارد والسلطة، لا تؤدى إستراتيچيات وسياسات التنمية إلى إزالة العراقيل من طريقها، بل إلى إعادة إنتاج المنطق الداخلى للتخلف.
اندماج الثمانينات
تبقى مسألة أساسية هى تلك المتعلقة باندماج بلدان العالم الثالث فى الاقتصاد العالمى. وفى بداية الثمانينات ساد تطلع متفائل إلى "تقسيم دولى جديد للعمل". والنتيجة فى نهاية الثمانينات هى ظاهرة المديونية الثقيلة للبلدان المرشحة للتنمية التى يتمثل أحد مظاهرها فى انقلاب صافى التحويل (القروض الجديدة مطروحا منها الفوائد والسداد) ليصبح إيجابيا لصالح البلدان الغربية، أى أن العالم الثالث، بما فى ذلك أفريقيا، هو الذى "يساعد" اليوم البلدان الغنية، بما يؤدى إليه من تراجع كل تصنيع طموح أو تنمية حقيقية. ومن هذا الباب يدخل التكيف الهيكلى برعاية منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية وصندوق النقد الدولى والبنك الدولى، والمقصود: خفض قيمة العملة، إلغاء تدابير الحماية الجمركية، تقليص الدولة، أى تقليص الإنفاق العام والقطاع العام والدعم. غير أن إدراك واقع الاقتصاد العالمى باعتباره اقتصادا هيراركيا يؤدى إلى استنتاج لا مفر منه: التكيف الهيكلى لا يقدم إمكانية حقيقية للتنمية.
وهكذا فرغم نجاح عدد ضيق من البلدان أو حتى أجزاء من بلدان، يتجه العالم الثالث بمجمله أكثر فأكثر إلى التهميش من وجهة نظر مساهمته فى الاقتصاد العالمى الذى أصبح يتميز بشكل ثلاثى الأقطاب حيث تنظم كل قمة من قمم "الثالوث" مناطق خاصة بها. وتتجه الولايات المتحدة إلى إعادة فتح القارة الأمريكية، بينما يصبح العملاق الياپانى مركزا تنتظم حوله آسيا بصورة هيراركية، فيما تتجه أوروپا نحو المناطق ذات الأجور المنخفضة للجنوب والشرق.
أما بقية الجنس البشرى، غالبيته فى الواقع، فليست مدعوة إلى أن تلعب دورا فعالا، ومن وجهة النظر هذه يمكن حقا "إلغاء العالم الثالث" على حد تعبير مقال لمجلة "نيوزويك" بتاريخ 27 أبريل 1992.
إشارة
1: عرضى لكتاب: Thomas Coutrot et Michel Husson, Les destins du Tiers Monde, analyse, bilan et perspectives, Éditions Nathan, 1993. بمجلة العربى الكويتية العدد 440 يوليو (تموز) 1995؛ وقد صدر الكتاب المذكور بالعربية: توما كوترو و ميشيل إسُّون: مصير العالم الثالث، ترجمة: خليل كلفت، دار العالم الثالث، القاهرة، 1995؛ والعرض منشور هنا كما كتبته وليس كما نُشر فى المجلة.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأساطير والميثولوچيات السياسية(1) راؤول چيرارديه عرض: خليل ...
- تفسير الرئيس المصرى الدكتور محمد مرسى لآية الله والعلماء
- زيارة جديدة إلى -مزرعة الحيوانات- رواية -مزرعة الحيوانات- چو ...
- عوالم عديدة مفقودة
- الشرف والغضب لا يكفيان [مراجعة لكتاب: نعوم تشومسكى:-الحيلولة ...
- الكتب معرفة ومتعة - الجزء الأول
- حول الأسلوب فى السينما - أندريه بازان
- جنوب أفريقيا عصر مابعد سياسة الفصل العنصرى (الأپارتهيد)
- إلا الرسول الكريم
- هل انتصرت الثورة المضادة فى مصر؟
- حروب القرن الحادي والعشرين مخاوف وأخطار جديدة
- بورخيس - كاتب على الحافة
- عالم جديد - الجزء الرابع - فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الثالث- فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الثاني - فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الأول - فيديريكو مايور
- بدلا من صَوْمَلَة سيناء
- طبيب الأمراض العقلية - ماشادو ده أسيس
- سوريا: الطريق إلى الجحيم
- حدث 25 يناير 2011: ثورة أم ليست ثورة؟ (مفهوم مختلف للثورة ال ...


المزيد.....




- هل تصريح نتنياهو ضد الاحتجاجات في الجامعات يعتبر -تدخلا-؟.. ...
- شاهد: نازحون يعيشون في أروقة المستشفيات في خان يونس
- الصين تطلق رحلة فضائية مأهولة ترافقها أسماك الزرد
- -مساع- جديدة لهدنة في غزة واستعداد إسرائيلي لانتشار محتمل في ...
- البنتاغون: بدأنا بالفعل بنقل الأسلحة إلى أوكرانيا من حزمة ال ...
- جامعات أميركية جديدة تنضم للمظاهرات المؤيدة لغزة
- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل كلفت - مصير العالم الثالث تحليل ونتائج وتوقعات توما كوترو و ميشيل إسُّون