أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جورج حداد - من التعددية الحضارية الى الآحادية القطبية الرومانية















المزيد.....


من التعددية الحضارية الى الآحادية القطبية الرومانية


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 3886 - 2012 / 10 / 20 - 18:19
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الحروب البونيقية أسست للاستعمار الغربي للشرق:


ـ القسم الثاني ـ
من التعددية الحضارية
الى الآحادية القطبية الرومانية
جورج حداد*
من اهم النتائج التي تمخضت عنها الحروب البونيقية وهزيمة وسحق قرطاجة هو انتقال العالم القديم من مرحلة التعددية الحضارية، الى مرحلة الآحادية القطبية والسيادة الآحادية للامبراطورية الاستعمارية الرومانية.
فقبل اندلاع الحروب البونيقية وخلالها، كانت الميزة الاساسية للعالم القديم هو التنوع والتعدد الحضاري. حيث ان كل قبيلة وكل مدينة ـ دولة او مدينة مستقلة ذاتيا، وكل اتنية، وكل شعب، وكل دولة كبيرة، ـ كان كل منهم يتميز بتقاليد اجتماعية، وعقائد وشعائر دينية، وفلسفة، وعلوم وضعية واجتماعية، ومنتوجات حرفية وزراعية، ولغة او لهجة وآداب، وموسيقى، وثقافة، وانجازات عمرانية وغيرها من معالم الحضارة، وكان الجميع يتخالطون، ويتبادلون، ويتتاجرون، ويتفاعلون، ويأخذ بعضهم عن بعض، ويندمج بعضهم ببعض، وينفصل بعضهم عن بعض، في لوحة فسيفسائية حضارية متجددة باستمرار، تعبر عن تنوع وغنى الحياة البشرية.
وكان الفينيقيون، المنتشرون على الشواطئ السورية واللبنانية والفلسطينية والشمال الافريقية، يضطلعون بدور ريادي مركزي في هذه العملية التفاعلية الحضارية، نظرا لموقعهم المتوسط وانفتاحهم على شعوب العالم القديم، ونظرا لاطلالهم على الجبال والسهول والصحاري العربية من جهة، وعلى البحار المفتوحة على كل العالم من جهة ثانية. وكان يرفدهم عن قرب في عملية التفاعل الحضاري شعب شرقي آخر هو الاغريق القدماء ابناء الجبل والبحر هم ايضا.

ونقدم فيما يلي مثالين يعطيان فكرة ملموسة عن التنوع والتفاعل الحضاري بين شعوب المنطقة، والتي كانت ولا تزال تعتبر "وسط العالم"، والممتدة من ما بين النهرين وفينيقيا ووادي النيل وشمال افريقيا، الى اقاصي شبه الجزيرة العربية، ومقابلها في الشاطئ الفارسي للخليج العربي، والشاطئ الافريقي للبحر الاحمر، وصولا الى جبال شبه جزيرة البلقان وشواطئها في البحر الابيض المتوسط وفي البحر الاسود:
المثال الاول ـ الاكتشاف الفينيقي للابجدية: ان اقدم اشكال الكتابة في المنطقة والعالم تعود الى الكتابة الهيروغليفية في بلاد القبط (مصر)، والكتابة المسمارية في ما بين النهرين (العراق). وكانت الكتابة الهيروغليفية تقوم على الكتابة الانطباعية التصويرية، التي ترسم "الحالة" و"الحركة" وتتضمن "الفكرة". وكانت الكتابة المسمارية تعتمد على الرسم الرمزي التجريدي، وتعبر عن "الحالة" و"الحركة" و"الفكرة" معا.
ولكن كلا من الكتابتين كانت تواجه صعوبة كبرى في الانتشار والتبادل. ولذلك ظل استخدامهما بشكل عام مقصورا على "بيئتهما الوطنية" ان صح التعبير. ولم تتحول اي منهما الى كتابة (او لغة) عالمية.
وكان الفينيقيون على صلة وثيقة، تبادلية وتحالفية وعدائية في كل مرحلة من المراحل التاريخية، مع شعوب وادي النيل وميزوبوتاميا، وكانوا على اطلاع ومعرفة بالكتابتين الهيروغليفية والمسمارية. ومن خلال المعرفة المباشرة، والحاجة الملحة لوجود كتابة مبسطة يسهل تعلمها وتبادلها، اجترح الفينيقيون الابجدية، التي استقت الفكرة التأسيسية لكل من الكتابتين الهيرغليفية والمسمارية، اي استقت فكرة "الانطباع التصويري" للهيروغليفية وفكرة "التجريد الرمزي" للمسمارية، فكانت الاحرف الابجدية الفينيقية تمثل "تصويرا تجريديا رمزيا"، ولكن ليس للمدلول اي "الحالة" و"الحركة" و"الفكرة"، بل "للصوت". اي ان الابجدية الفينيقية قفزت من استخدام حاسة النظر في القراءة، الى استخدام حاستي النظر والسمع. ولهذه الغاية قامت بتفكيك ليس "الجملة" المؤلفة من عدة مدلولات (كلمات)، بل فككت "الكلمة" الواحدة المؤلفة من عدة اصوات، ورمّزت كل صوت مجرد في "حرف" (هو كناية عن رسم تجريدي)، ثم عادت فجمعت مختلف الاصوات الموجودة في الكلمة الواحدة والتي رمّزتها في "حروف"، جمعتها في "كلمة"، مميزة عن الكلمة التي تسبقها والكلمة التي تليها، ثم جمعت "الكلمات" المتتالية في "جمل" مفيدة لمعنى محدد، ثم جمعت مختلف "الجمل" في نص واحد.
وبفضل هذا البناء الابجدي للنص، اصبح بالامكان، وفي صفحة صغيرة واحدة، كتابة نص كان في السابق يحتاج الى كميات ومساحات واسعة من الجدران والصخور والاصباغ واللوحات الطينية المشوية، مما يصعب حفظه ونقله وتداوله وتبادله. وبوجود الابجدية تم تسهيل حفظ النصوص عن ظهر قلب، واصبح بالامكان نسخها ونقلها وتداولها وتبادلها، بسهولة.
وبنتيجة ذلك ظهرت في البداية مهنة النسخ، ثم مهنة الطباعة. وبدأ توليف ونسخ ثم طباعة الكتب. واشتهرت مدينة جبيل بنسخ وتوليف الكتب (ومن هنا اطلق عليها الاغريق اسم: بيبلوس Biblos، اشتقاقا من كلمة Bible اي: كتاب). وبنتيجة الانتشار الواسع للمسيحية قبل ولادة السيد المسيح ذاته (الايمان بمجيء المسيح المخلص) وبعد ولادته، كان اول واهم كتاب تم نسخه وتوليفه ونشره انطلاقا من مدينة "جبيل" هو الكتاب المقدس، الذي سمي اختصارا "الكتاب" Bible. ومن هنا الترادف بين اسم مدينة جبيل Biblos، واسم الكتاب المقدس Bible. وبفعل انتشار المسيحية وانتشار الكتاب المقدس، انتشرت على نطاق واسع اللغة الارامية (الكنعانية الفينيقية) التي كتب بها جزء من الكتاب المقدس وهي اللغة التي تكلم وبشر بها السيد المسيح، ـ انتشرت جنبا الى جنب اللغة الاغريقية، من اقاصي افريقيا الشمالية الى الجبال الايرانية الى التلة الاريترية ـ الحبشية الى شبه الجزيرة العربية وصولا الى جبال البلقان وشواطئ البحر الاسود.
ان اكتشاف الابجدية يكمن في اساس كل التطور الحضاري اللاحق، وهو يعادل في اهميته اكتشاف استخدام النار في العصور السحيقة في القدم.
فاكتشاف استخدام النار نقل الانسان البدائي من مستوى "الاجتماع الحيواني" الى مستوى "الاجتماع الانساني".
واكتشاف الابجدية نقل المجتمع البشري من حقبة او عصر ما قبل التاريخ حيث كانت الحضارة والتجارب البشرية والذاكرة الجمعية تندثر بشكل عام لانه كان يصعب تدوينها وتناقلها من شعب الى اخر ومن جيل الى اخر. فجاءت الكتابة الابجدية لتساعد الانسان في الانتقال الى عصر التاريخ، واساسه التدوين، ومن ثم الى بناء هذا الصرح العظيم الذي يسمى الحضارة الانسانية، والتي لا يمكن فصلها عن الكتابة، تماما كما لا يمكن فصل الروح عن الجسد الا بالموت.
وتقول بعض الروايات ان الذي اكتشف الابجدية هو اسير فينيقي كان يعمل كعبد في احد المناجم المصرية في سيناء. وبصرف النظر عن الصحة الحرفية لهذه الرواية، فمن الطبيعي جدا ومن المنطقي جدا ان الذي وضع الابجدية الفينيقية في صيغتها النهائية هو شخص واحد، او بضعة اشخاص قلائل كانوا يعيشون معا او على اتصال وثيق فيما بينهم. وقد وضع هؤلاء الاشخاص الرسومات ما قبل الاخيرة للابجدية، ثم تشاوروا فيما بينهم واجروا بعض التعديلات التي ارتأوها، ثم استقر رأيهم على الصيغة الاخيرة لرسوم الابجدية، فأطلقوها للاستعمال العام. ولكن حتى لو سلمنا جدلا بذلك واعطينا ذلك "الجندي المجهول" او "الجنود المجهولين" للحضارة الانسانية حقهم في التقدير، فهذا لا يمنع بل يؤكد ضرورة وضع الحقائق التاريخية الكبرى في نصابها الحقيقي. ومثلما ان اللحن الموسيقي الذي ينسب الى شخص معين او فئة معينة او منطقة معينة، هو جزء من التراث الموسيقي بمجمله، بحيث لا يمكن فصل الجزء عن الكل، فإن اكتشاف الابجدية الفينيقية هو ثمرة لعوامل حضارية شاملة نلخصها فيما يلي:
ـ1ـ النمو والنضج الحضاريان لشعوب المنطقة التي هي مهد الحضارة الانسانية العامة.
ـ2ـ التفاعل الحضاري الخلاق بين تلك الشعوب.
ـ3ـ ان الابجديتين الهيروغليفية والمسمارية كانتا قد بلغتا اقصى شأوهما، واصبحتا تقصّران عن مواكبة وتلبية الحاجات الحضارية للمجتمع البشري، وصار من الضروري ولادة ابجدية جديدة تلبي تلك الحاجات.
ـ4ـ ان واضعي الابجدية الجديدة كانوا على معرفة عميقة بالكتابتين الهيروغليفية والمسمارية وعلى صلة وثيقة بالمجتمعين اللذين يستخدمان هاتين الكتابتين. وهذا ما كان يتوفر تماما في الفينيقيين.
ـ5ـ بالاضافة الى كل ذلك فإن واضعي الابجدية الجديدة كانوا على اضطلاع وتعمق بفيزياء الحواس البشرية، وبجوهر فن الرسم والنحت، وبرمزية العلوم الرياضية، ولا سيما الجبر والهندسة، وبعلم الاصوات (الغناء والموسيقى). وهذا ايضا كله كان يتوفر في الفينيقيين.
بناء عليه يمكن القول ان الفينيقيين كانوا مؤهلين تاريخيا وعلميا لاكتشاف الابجدية (الفينيقية)، وان اكتشافهم للابجدية هو تعبير عن الضرورة التاريخية الانسانية العامة.
اما ان يكون هذا العبد الفينيقي او ذاك، هذا العالم الفينيقي او ذاك، هذه العائلة او المجموعة الفينيقية او تلك، هم المكتشفون المباشرون، فتلك هي "الصدفة الظرفية" التي تعبر عن وتجسد "الضرورة التاريخية".
وفيما بعد قام الرومان بتدمير قرطاجة وسعوا لمحو كل اثر للحضارة الفينيقية، بدعوى ان الفينيقيين كانوا شعبا "متوحشا" و"بربريا" (حاول الرومان الغاء الهوية القومية للفينيقيين والقول انهم "بربر" وليس كنعانيين او فينيقيين، لتسهيل اتهامهم بالهمجية والوحشية. وهذه اكبر "هدية تاريخية" و"عرفان جميل" قدمهما الرومان للشعب البربري (الامازيغي) بعد ان كانت القيادة البربرية اختارت القتال الى جانب الرومان ضد القرطاجيين بقيادة هنيبعل. وهذا درس تاريخي لكل جماعة تسول لها نفسها ومصالحها الانانية الآنية السير في ركاب الاستعمار والامبريالية والصهيونية). ولكن في مراحل لاحقة اضطر الرومان للتنازل عن كبريائهم الاستعماري واخذوا الابجدية ("الفينيقية = البربرية" الاصل) ولكن من الاغريق. ومجرد اخذ الابجدية من قبل الرومان هو برهان تاريخي، كان ولا يزال، ان المتوحشين الحقيقيين لم يكونوا الفينيقيين الذين اعطوا الابجدية، كما اعطوا لاحقا السيد "المسيح"، للانسانية جمعاء، والذين دمرتهم روما وسحقتهم ثم اهانت وعذبت وصلبت "مسيحهم ـ مسيح العالم اجمع" ذاته، بل ان المتوحشين الحقيقيين كانوا ولا يزالون هم المستعمرون الرومان الذين دمروا قرطاجة، وخلفاؤهم الامبرياليون الغربيون والصهاينة الذين لا يفتأون يعملون على تدمير واستعمار ونهب الشرق العربي الوريث التاريخي للحضارة الفينيقية ـ المسيحية العظيمة، الام الحقيقية والاس الاساسي للحضارة العربية ـ الاسلامية القادمة.
الثاني ـ أسطورة "اوروبا" الفينيقية: وكان من طبيعة الامور ان اول شعب "اجنبي" نقل الابجدية عن الفينيقيين لم يكن المستعمرين الغربيين الرومان الذين كانوا يكرهون الفينيقيين والشرقيين جميعا ويحتقرونهم، ولهذا لم يعطوا الاهتمام الكافي للابجدية الفينيقية ("البربرية!")، بل كان شعبا شرقيا آخر هو الاغريق الذين اسسوا ابجديتهم على الاساس الفينيقي وعملوا على نشر الابجدية في كل اوروبا. وقد اخذ الشرقيون الآخرون البلغاريون والسلافيون عموما ابجديتهم المسماة "كيريليتسا"، التي اجترحوها استنادا الى الابجدية الاغريقية. واخيرا اخذ الرومان واللاتينيون ابجديتهم من الاغريقية ايضا. ومن اللاتينية، اخذت شعوب اوروبا الغربية ابجدياتها، انطلاقا من الابجدية اللاتينية المستندة الى الابجدية الاغريقية المستندة بدورها الى الابجدية الاصلية: الفينيقية. وأخذ الاغريق للابجدية الفينيقية، ومن ثم نشر الابجدية في القارة الاوروبية بأسرها، هو برهان تاريخي على التفاعل الحضاري الخلاق بين الفينيقيين وشعوب الشرق، من جهة، وبين شعوب اوروبا وبالاخص الاغريق وشعوب اوروبا الشرقية، من جهة ثانية.
وهناك اسطورة اغريقية تؤكد هذا التفاعل، الى درجة انها تؤكد ان اسم القارة الاوروبية ذاته ما هو الا اسم اميرة فينيقية اطلق على القارة.
وتقول الاسطورة ان ملكا فينيقيا اسمه اجينور كان له ابنة جميلة اسمها "اوروبا" وعدة ابناء احدهم اسمه "قدموس". ويوما رأى اله الآلهة الاغريق زفس او زيوس، رأى من اعلى جبال الاولمب "اوروبا" تلهو مع بعض رفيقاتها على الشاطئ، فأعجب بجمالها، فتنكر في شكل ثور وجاء الى الشاطئ الفينيقي حيث كانت تتنزه مع رفيقاتها وحملها على ظهره وفر بها الى بلاد اليونان حيث تزوجها. ومن بلاد اليونان قامت الاميرة "اوروبا" بزيارة مختلف اراضي القارة الاوروبية للاطلاع عليها. فكان ان اعطي اسمها للقارة التي اصبحت تسمى اوروبا. وانجبت الاميرة "اوروبا" من زفس اولادا حكموا القارة الاوروبية. وقد ارسل الملك اجينور ابنه قدموس للبحث عن اخته في اليونان. ولكن الآلهة لم تشأ ان يجدها، فبقي في اليونان وبنى مدينة طيبة التي صار اسمها فيما بعد سبارطة. وتقول الاساطير ان قدموس هو الذي علـّم اليونانيين الابجدية الفينيقية. ولذلك فإن اليونانيين والبلغاريين وغيرهم من الشعوب الاوروبية الشرقية يسمون قدموس "المعلم". وهذه الاسطورة ترمز الى العلاقات الثقافية العضوية بين الفينيقيين وبين الاغريق واوروبا الشرقية خاصة واوروبا عامة.

وفي المرحلة الكلاسيكية للتاريخ القديم، تأسست قرطاجة الفينيقية في افريقيا الشمالية، وتطورت واكدت ذاتها بوصفها مركزا للحضارة الفينيقية في غربي البحر الابيض المتوسط. وقد قابل الوجود الحضاري الفينيقي في غربي المتوسط الوجود الحضاري الاغريقي (الهيلينستي) في مصر وشرقي المتوسط وشبه جزيرة البلقان. وامتد الوجود القرطاجي الى صقلية وسردينيا وكورسيكا واسبانيا وجنوب ايطاليا وغيرها من المناطق الاوروبية في غربي البحر الابيض المتوسط.
ولا بد هنا من تسجيل ملاحظة في غاية الاهمية وهي ان الوجود القرطاجي في غربي البحر الابيض المتوسط كان اول وجود شرقي (عربي قديم) في اوروبا الغربية. وهذا ينافي النظرة الاستعمارية "الغربية" السائدة (وصداها "الاسلاموي" المسطح والمزيف)، وهي النظرة التي تربط الوجود الشرقي (العربي) في اوروبا الغربية بالفتح العربي الاسلامي لاسبانيا وتقرنه باستيلاء العثمانيين على القسطنطينية، وتضعهما معا في خانة واحدة تحت عنوان الصراع المسيحي ـ الاسلامي.
ومن وجهة نظر تاريخية معينة يمكن القول إن المرحلة التي سبقت سحق قرطاجة على يد الامبراطورية الرومانية كانت احدى اهم المراحل الذهبية في تاريخ البشرية، التي كان الطابع الغالب فيها هو التعددية القطبية والتفاعل والتبادل الحضاري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والتجاري.
وبعد هزيمة هنيبعل الساحقة للجيش الروماني في معركة كاناي في اب 216 ق.م كانت طريق هنيبعل الى روما مفتوحة تماما. وارتفعت في روما عبارة الذعر "هنيبعل على الابواب!" "Hannibal ad portas" . ولكن هنيبعل امتنع عن استباحة روما ونهبها وسلبها. وهناك آراء متعددة في تفسير موقف هنيبعل. وأحد هذه الآراء، وهو ما نميل الى الاخذ به، هو الرأي القائل ان هنيبعل، الذي لم يكن قائدا عسكريا فذا وحسب، بل وكان "وطنيا" صادقا وذا قناعات "تحررية" (بمفاهيم زمانه) ومثقفا بالثقافة الفينيقية والاغريقية ويتقن لغات عديدة، ومن ثم فهو ـ بموجب هذا الرأي ـ لم يكن يقاتل من اجل السلب والنهب والاستعمار والاستعباد، بل من اجل "قضية"، ولم يكن يريد "شطب" روما من المعادلة الحضارية العالمية. ومن ثم لم يكن يريد كسر، او فتح الطريق لكسر، المسار التاريخي الحضاري، القائم على "توازن القوى" العالمي والتفاعل الحضاري. ولذا كان هنيبعل، حتى وهو في اوج انتصاراته، يطمح ليس الى سحق روما والقضاء عليها، بل الى التضييق عليها، لفرض سلم ملائم عليها.
ولكن الموقف الحضاري النبيل للقائد الفينيقي التاريخي هنيبعل من روما، لم يغير بشيء الطبيعة الاستعمارية الاساسية للدولة الرومانية القديمة. وموضوعيا اصبحت قرطاجة تقف حجر عثرة ليس فقط امام تحقيق مطامع روما في المناطق التي تتواجد فيها قرطاجة بالذات، بل واساسا امام مطامع روما في تحقيق السيادة الاستعمارية الدولية.
ويمكن القول، بدون اي مبالغة، ان معركة زاما، التي هزم بها هنيبعل في تشرين الاول 202 ق.م، كانت بمثابة نقطة التحول التي تغيرت معها وجهة التاريخ العالمي برمته، حتى ايامنا الراهنة.
فبعد هزيمة هنيبعل في معركة زاما فرضت روما على قرطاجة اتفاقية سلام مذلة، تقضي بدفع "تعويضات حرب" هائلة وبمنع قرطاجة من اقتناء جيش واسطول قادرين على شن الحرب ومنعها من خوض اي حرب خارج القارة الافريقية وحتى منعها من خوض اي حرب في افريقيا ذاتها بدون موافقة مسبقة من روما. واذا راجعنا اتفاقيات الهدنة او وقف اطلاق النار الاسرائيلية ـ العربية، نجد انها نسخ معدلة عن اتفاقية السلام بين روما وقرطاجة بعد معركة زاما، مع فارق واحد هو ان تمويل اسرائيل من قبل البلاد العربية لا يتم عن طريق الدفع المباشر لاسرائيل، كما دفهت قرطاجة لروما، بل يتم "بالواسطة!" اي ان الدول الامبريالية هي التي تنهب مباشرة البلدان العربية وتقوم بالتالي بتمويل وتسليح اسرائيل على حساب العرب.
وبعد ان قضت روما على القوة القرطاجية، توجهت بكل قوتها ضد الاغريق واحتلت شبه جزيرة البلقان وسيطرت على المستعمرات الاغريقية في شمالي افريقيا وفي صقلية وغيرها من الاراضي الاوروبية بما في ذلك المدن او المستعمرات الاغريقية التي كانت موجودة على الارض الايطالية ذاتها.
وعملت روما على فرض سطوتها على القوى العظمى الاخرى في المنطقة مثل مملكة مقدونيا الهلنستية وسرقوسة والإمبراطورية السلوقية.
ومنذ معركة زاما بدأ انتقال العالم القديم من مرحلة العالم متعدد الاقطاب، الى مرحلة العالم آحادي القطب؛ ومنذ هذه المعركة بدأت قسمة العالم الى: شرق وغرب، والى: مركز واطراف، واخيرا: الى بلدان استعمارية وبلدان مستعمرة.
وبالرغم من ان قرطاجة لم تعد تشكل اي خطر عسكري او سياسي على روما، بعد معركة زاما واتفاقية السلام المجحفة التي اعقبتها، فإن روما لم يهدأ لها بال، وظلت تخطط للقضاء التام على قرطاجة وازالتها من الوجود.
وبعد ان قام السيناتور الروماني زعيم حزب القوميين مارك بورتسي كاتون "كاتون الكبير" بزيارة لقرطاجة، عمد الى رفع شعار "قرطاجة يجب ان تدمر!" (Carthaginem esse delendam!) في مجلس الشيوخ (السينات) الروماني. وكانت اقوى حجة له لدعم رفع هذا الشعار هي اكواز التين التي حملها معه من قرطاجة، وكانت اكواز تين شهية لا تضاهيها اكواز التين الايطالية. وقد رفع "كاتون الكبير" هذه الاكواز امام السيناتورات الرومان "كدليل دامغ" ان قرطاجة تعود الى الازدهار، وان ازدهارها يشكل خطرا على روما. وبالفعل قرر مجلس السيناتورات الروماني الموافقة على خطة تدمير قرطاجة. فتمت محاصرتها وتجويعها مدة ثلاث سنوات ثم تدميرها التام سنة 146 ق.م.
وحتى بعد تدمير قرطاجة وابادة القرطاجيين وبيع من تبقى منهم احياء عبيدا للنخاسين اليهود، فإن روما لم يهدأ لها بال الا بعد ان عمدت الى تشويه التاريخ وتصوير الشعب القرطاجي الفينيقي بأنه لم يكن سوى شعب "بربري". و اصبحت كلمة "بربري" لا تعني الشعب المعروف، بل تعني "الهمجي" الشرقي ايا كان انتماؤه القومي.
ومع الهزيمة النهائية لقرطاجة في 146 ق.م وسحقها وتدميرها النهائي، صار الغرب – للمرّة الأولى في التاريخ – هو القوّة المسيطرة على البحر المتوسط وأغلب العالم القديم، ووضعت الاسس الاساسية والخطوط العريضة للانتقال من العالم متعدد الحضارات والاقطاب، الى العالم آحادي القطبية الذي يقوم على القضاء على الحضارات الاخرى والقضاء التام على اي قوة تقف بوجه الآحادية القطبية للاستعمار بدءا من روما وانتهاء بواشنطن.
وبانتصار روما في الحروب البونية وضع حد نهائي لعصر التفاعل والتبادل والعلاقات الحرة، الندّية، بين الشعوب والمجتمعات، وتكرست على الارض المبادئ "الاخلاقية" اليهودية: اي "مبادئ" التمييز العنصري، وسيطرة القوي على الضعيف، والغزو والسلب والنهب والاستعباد والاستغلال والاستعمار....
وان مأساة تدمير قرطاجة تبين بوضوح ان الاستعمار الروماني لم يكن يخشى فقط القوة العسكرية لقرطاجة، بل وكان يخشى ايضا (اكواز التين الشهية) اي الازدهار الاقتصادي والتقدم العلمي والحضاري. ومنذ ذلك الحين والغرب الاستعماري ينهب الشرق، بالتعاون مع عملائه المحليين، بطريقة يُدفع معها الشرق باستمرار في وهاد التدهور الاقتصادي والتخلف العلمي والحضاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاهمية التاريخية للحروب البونيقية
- بدايات الصراع القومي مع الامبريالية الغربية (تدمير قرطاجة، س ...
- الجذور التاريخية للصراع القومي في العالم القديم
- مأساة غزة وظاهرة الحرب الاستعمارية والابادة الجماعية
- الصراع الوجودي المستمر مع الصهيونية
- من رسالة الى الاتحاد البلغاري للمناضلين ضد الفاشية
- مجزرة اطفال بيت لحم
- جلادو المسيح والمسيحية الشرقية
- التبعية لاميركا تأخذ اوروبا الى القاع
- اميركا تبيع الاوهام القاتلة لحلفائها وروسيا تستنفر قدراتها ا ...
- الدور -العثماني الجديد- للطورانية الاسلامية الكاذبة!!!
- ازمة المديونية تهدد العالم الرأسمالي الغربي
- تقرير بيلاطس البنطي عن قضية صلب السيد المسيح
- التعاون التكنولوجي العسكري بين ايران وروسيا يرعب اميركا
- الحرب السرية الاسرائيلية ضد ايران وحزب الله
- فلاديمير بوتين الفائز الاول في الانتخابات الروسية
- الصين ترفض الوجود الاميركي في آسيا
- اوروبا تترنح امام الازمة الاقتصادية
- السياسة الاميركية في مواجهة الاحتجاجات في الداخل والخارج
- سوريا امام فرصة تاريخية


المزيد.....




- لماذا تهدد الضربة الإسرائيلية داخل إيران بدفع الشرق الأوسط إ ...
- تحديث مباشر.. إسرائيل تنفذ ضربة ضد إيران
- السعودية.. مدير الهيئة السابق في مكة يذكّر بحديث -لا يصح مرف ...
- توقيت الضربة الإسرائيلية ضد إيران بعد ساعات على تصريحات وزير ...
- بلدات شمال شرق نيجيريا تشكل وحدات حماية من الأهالي ضد العصاب ...
- أنباء عن -هجوم إسرائيلي محدود- على أهداف في العمق الإيراني و ...
- قنوات تلفزيونية تتحدث عن طبيعة دور الولايات المتحدة بالهجوم ...
- مقطع فيديو يوثق حال القاعدة الجوية والمنشأة النووية في أصفها ...
- الدفاع الروسية: تدمير 3 صواريخ ATACMS وعدد من القذائف والمسي ...
- ممثل البيت الأبيض يناقش مع شميغال ضرورة الإصلاحات في أوكراني ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جورج حداد - من التعددية الحضارية الى الآحادية القطبية الرومانية