أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعدي عبد اللطيف - كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ الفصل الثالث















المزيد.....



كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ الفصل الثالث


سعدي عبد اللطيف

الحوار المتمدن-العدد: 3881 - 2012 / 10 / 15 - 17:08
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ الفصل الثالث

كتاب: "كارل ماركس - قصّة حياة" Karl Marx - A Life
تأليف: فرانسيس وين Francis Wheen
ترجمة سعدي عبد اللطيف
تقديم: د. حسين الهنداوي
لندن / ٢٠١٢

المحتويات
- المقدمة
- الفصل الاول: التحفة المجهولة
- الفصل الثاني: الحمل الطويل
- الفصل الثالث: الولادة
- الفصل الرابع: ما بعد الحياة

الفصل الثالث
الولادة


كتب كارل ماركس في مقدمة رأس المال محذرا من ان ’البدايات صعبة دائما في جميع العلوم‘. وربما أحب ان يضيف: والنهايات صعبة كذلك!. فلقد كان المجلد الاول هو الوحيد الذي اكمله قبل وفاته. اذ ان سنوات البحث والدراسة ومواجهة عسف شتى الدول، والكفاح السياسي على مختلف الأصعدة، وآلام المنفى، وموت الأبناء ومشقة الحياة في ظل استمرار ضنك وفقر شديدين، تركت ماركس مرهقا جسديا وذهنيا.

ففي شهر اكتوبر/ تشرين الاول عام 1868 كتب ماركس الى ناشركتبه الروسي:’ ينبغي الا تنتظر المجلد الثاني، فقد يتأخر نشره لستة اشهر اخرى. اذ لا يمكنني اكماله الا بعد اكمال ونشر ابحاث رسمية محددة باشرت بها فرنسا والولايات المتحدة وانجلترا اثناء العام الماضي (وعام 1866).‘ وفي 1870 قدم عذرا جديدا عن التأخير:’لم يعيقني المرض طوال الشتاء، فحسب، بل وجدت انه من الضروري تحسين معرفتي بالروسية، لأن التعامل مع مشاكل الاراضي، يتطلب امرا حاسما، وهو دراسة علاقات ملكية الاراضي في روسيا استنادا على المصادر الروسية الاصلية.‘ وخلال السنوات التالية قام ماركس بجمع أكداس من أرشيف المؤلفات الروسية والاحصائيات- وكان هذا مثار استياء أنجلز كثيرا حتى انه عبر عن رغبته ب ’رمي كل هذه التلال الى النار‘. اذ راودت أنجلز الشكوك بأن ماركس يستخدمها متراسا يحميه من استغاثات الاصدقاء والناشرين المثيرة للشفقة للتعجيل بنشر المجلد الثاني.

أما شكوك انجلز فقد كانت مبررة تماما. فعندما بدأ بجمع مواد المجلد الثاني، بعد نبش تلال من الاوراق التي تركها ماركس بعد وفاته عام 1883 ، وصف انجلز المهة الضخمة الملقاة على عاتقه في رسالة الى الاشتراكي الالماني اوغست بيبل قائلا:

’هناك، الى جانب الاجزاء التي اكتملت تماما، مجرد مسودات، فكل الاوراق مسودات ماعدا فصلان ربما. اما المقتطفات المأخوذة من المصادر فليست منظمة، فهناك اكوام منها تختلط ببعضها، جمعت ببساطة للنظر فيها واختيار المناسب منها في المستقبل. اضافة الى ذلك هناك مشكلة خط يده الذي لايمكن لأحد بالتأكيد فك خيوطه سواي ولكن ليس من دون صعوبة. قد تسأل لماذا أنا، من دون الناس، لم اكن اعرف كيف ستصل الامور الى هذا المآل: لو كنت أعرف لحاصرته ليل نهار وواصلت تقريعه حتى يكمل كل هذا وينشره. وماركس كان يعرف هذا افضل من أي شخص آخر‘.

و في عام 1885 ظهر المجلد الثاني، ثم في عام 1894 تبعه الثالث (الذي جمعه انجلز أيضا). أما ما سمي غالبا ب’المجلد الرابع‘ عن نظريات فائض القيمة فقد ظهر عام 1905 اذ قام كارل كاوتسكي بتحريره معتمدا على ملاحظات دونها ماركس في اواسط 1860 تتعلق بتاريخ الاقتصاد تمكن من تأليفها اعتمادا بشكل واسع على مقتطفات من منظرين سابقين مثل آدم سميث و ديفيد ريكاردو.

وباختصار، ان رأس المال عمل غير كامل ومتشظ. وينبغي التذكر ان خطة ماركس الاصلية هدفت الى تأليفه من ستة مجلدات. فكما قال عنه الباحث الماركسي ماكسميلين روبل:’ليس بين أيدينا انجيلا ماركسيا يحتوي على قوانين أزلية منظمة‘. و هذا مايجب التأكيد عليه، لأن العديد من الشيوعيين يتعاملون مع رأس المال كما لو أنه كتاب مقدس، مصرين على اعتبار ان كل ماقاله ماركس صحيح وكل ما لم يقله خاطئ. وكلا الرأيين لايحتمل: هناك، في رأس المال امور مسكوت عنها وحذوفات كثيرة كان على ماركس، لو امتلك الطاقة أو فسحة عمر أطول، ان يعلن عنها أو يستكملها. وهناك امور غير صائبة وافكار خاطئة تلقفها نقاده تلقف المنتصر، هؤلاء النقاد الذين يجب الأعتراف بفضلهم من لدن المعجبين حقا ب رأس المال. وهو ما أوضحه الأقتصادي ميشيل ليباوتز بقوله’ليس المقصود ان ماركس اكتشف بعبقريته قارة جديدة حقا، لكن لا شك انه اكتشف بصواب كل تفاصيلها.‘

تلك القارة المجهولة التي انهمك ماركس في الكشف عنها كانت العالم الجديد للرأسمالية الصناعية – وهو مشهد لم يتعرف عليه آدم سميث- حيث ينذر ماركس قراءه منذ البدء انهم سيدخلون أرض عجائب لا يبدو على حقيقته فيها شيئ. ولنتأمل كيف اختار أفعال جمله الاولى ذاتها ل رأس المال:
’ تبدو ثروة المجتمعات حيث يسود نمط الانتاج الرأسمالي ك "كمجموع من بضائع هائلة"، و تبدو البضاعة الفردية في شكلها الاولي‘

ورغم أن ما مر يبدو أقل دراماتيكية من الجملة الافتتاحية المشهورة ل البيان الشيوعي (هناك شبح يجول في اوربا...) فان الجملتين السابقتين تقودنا الى نفس المعنى: ان ندخل في عالم من الاشباح والغرائب. كما تتناثر بين ثنايا صفحات رأس المال عبارات تعبق بنكهة التوابل مثل’ موضوعية تحاكي الشبح‘، و’طيف بلا أساس ، و’وهم محض‘ و’مظهر مزيف‘. وفقط بالتوغل مخترقين حجب الأوهام يمكننا الكشف عن طبيعة الاستغلال التي لا تحيا الرأسمالية بدونه.

يحاجج ماركس بان للبضاعة خاصيتان: القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية. وان منفعة بضاعة ما واضحة بما يكفي: فالمعطف يوفر لنا الدفء، ورغيف خبز يوفر لنا القوت. واذا اعتبرنا قيمة التبادل كمقياس للمنفعة، سيطالب رغيف الخبز بسعر اعلى بكثير جدا من، ولنقل، معطف فرو نادر.. الامر الذي لايقبله كمعقول احد، فكيف عندئذ تأسست قيمة التبادل فيه اذن؟

لنأخذ بضاعتين، مثلا الذرة والحديد. سنجد، ومهما كانت علاقة التبادل بينهما، ان تمثيلهما يجري دائما بمعادلة تساوي فيها كمية ما من الذرة بكمية ما من الحديد، كالقول مثلا، ان ربع كيلو من الذرة يساوي ربع كيلو من الحديد. لكن ما الذي يدل هذا التساوي عليه؟ انه يدل على وجود عنصر مشترك من حجم متشابه في شيئين مختلفين، هما ربع كيلو من الذرة وربع كيلو من الحديد. كلاهما، اذن، متساويان امام شيئ ثالث، هو بذاته، ليس هذا ولا ذاك. لذلك يجب اختزال كل واحد منهما الى هذا الشيئ الثالث، ماداما قابلان للتبادل كلاهما.

ان العنصر المشترك الوحيد الذي تتقاسمه البضائع يتمثل في انها منتوجات العمل. لذلك، فان قيمة اية بضاعة يجب ان تعكس كمية العمل’المتضمن‘ فيها- أي العمل المنفق مباشرة في صنع بضاعة ما، اضافة الى العمل الذي ينتج المكائن المستخدمة في عملية التصنيع والعمل المبذول في الحصول على المواد الخام. (وهنا يستدرك ماركس بسرعة ليوضح ان مايعنيه هو’وقت العمل الضروري اجتماعيا‘- أي، تلك الساعات التي يتطلبها اكمال العمل من العامل المتوسط. والا سيتوهم الواحد منا ان قيمة أي بضاعة ينتجها عامل عابث او كسول ستكون اعلى ما دام انتاجها يستغرق وقتا أكثر من المطلوب.)

حتى الآن، هذا الامر مألوف جدا:لأن’نظريات قيمة العمل‘ مشابهة اجترحها آدم سميث، ديفيد ريكاردو والعديد من الاقتصاديين الكلاسيكيين الآخرين. فقد بدأ آدم سميث كتابه ثروة الأمم بالتأكيد التالي:’ان العمل السنوي لأي امة يتمثل في الصندوق المالي الذي يجهزها اصلا بجميع الضروريات ووسائل الحياة...‘ بيد ان ماركس يذهب ابعد من ذلك. اذ ولأن البضائع تحمل صفة مزدوجة، باعتبارها تمتلك القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية معا، لذلك فان العمل ذاته يمتلك طبيعة مزدوجة. فما يخلق قيمة الاستعمال هو العمل’الملموس‘ أو’النافع‘ والذي عرفه ماركس ب’النشاط المنتج من نوع معين لانجاز هدف محدد‘ بينما تنشأ قيمة التبادل من عمل
’مجرد، أو’لاتميز‘ فيه، يقاس باطلاق على اساس المدة - وهناك توتر متأصل بين الأثنين. فالخياط، مثلا، قد يفعل مابوسعه لتفصيل افضل معطف يمكن لبسه لفترة طويلة جدا. واذا كان الامر كذلك فان المشتري لن يحتاج ابدا للعودة الى الخياط لشراء بديل آخر وهكذا تتعرض مهنة الخياط للخطر. وينطبق الامر نفسه على الحائك الذي يخلق القماش الذي خيط به المعطف. وتدخل الحاجة الى صنع قيمة استعمالية نفسها في صراع مع الحاجة الى الاستمرار في خلق قيمة التبادل.

ولتوضيح جانبي العمل هذين، انغمس ماركس في حالة تأمل طويلة ازدادت سريالية حول القيم النسبية للمعطف وعن عشرين ياردة من الكتان. فكتب قائلا:’المعطف، في اطار علاقة القيمة للكتان، يدل على شيئ اكثر من تأثيره الخارجي، وبالضبط كما يحضى بعض الرجال، بأهتمام اكثر عندما يرتدون أزياء مطرزة بالذهب اكثر مما في أزياء اخرى‘. وكقيمة استعمالية، فان الكتان هو شيئ ما مختلف بشكل ملموس عن المعطف كقيمة، لكنه الشيئ نفسه في الحقيقة، وتعبير عن عمل مجرد.’وهكذا يكتسب الكتان شكل قيمة يختلف عن شكله الطبيعي. فيما يتمظهر وجوده كقيمة في مساواته مع المعطف، بالضبط مثل طبيعة المسيحي الشبيهة بالخروف والتي تتجلى في تشابهها مع حمل الله.‘

ويترتب على هذا التشبيه المضحك تحذيرا مسبقا اننا نقرأ في الحقيقة قصة كلب اشعث في رحلة تشرد عبر عوالم الهذيان العليا. فعندما كان ماركس طالبا، سحرته رواية تريستان شاندي الزاخرة جدا بالاستطراد لمؤلفها الروائي الانجليزي لورنس شتيرن، الا انه وبعد ثلاثين عاما وجد موضوعا يسمح له بتقليد الاسلوب الفضفاض والمفكك الذي كان شتيرن رائدا له في عالم الكتابة. ف رأس المال، مثل تريستان شاندي مليئ بالتناقضات والافتراضات، وبتوضيحات عويصة و حماقات غريبة، واساليب سرد مكسرة وحالات شاذة غريبة.وبعد كل هذا وذاك يظل السؤال كيف كان بامكانه ان يقدم صورة منصفة عن منطق الراسمالية الغامض المقلوب على رأسه في أغلب الاحيان؟ وكما يلاحظ ماركس في نهاية حكايته المنهكة عن الكتان والمعطف:’تظهر البضاعة، لأول وهلة، كشيئ تافه بوضوح شديد. الا ان تحليلها يظهر انها شيئ غريب تماما، تعج ببراعات ميتافيزيقية وسمات لاهوتية انيقة.‘

عندما يتحول الخشب الى طاولة، يبقى خشبا في احسن الاحوال - شيئ عادي، حسي. لكن عندما يتحول الى بضاعة يتغير الى شيئ ما يسمو على حسيته.’الطاولة لاتقف على أرجلها على الارض فحسب، بل انها في علاقتها مع جميع البضائع الاخرى، تقف على رأسها وتطلق من دماغها الخشبي أفكارا شوهاء تظل أكثر روعة بكثير مما لو بدأت بالرقص بارادتها الحرة المحضة‘. وما دامت البضائع المختلفة تعكس عمل منتجيها، فان العلاقات الاجتماعية بين الكائنات البشرية’تتخذ شكلا غرائبيا لعلاقة بين أشياء‘. أما التشابه الجزئي الوحيد الذي يتمكن ماركس من ايجاده لهذا التحول العجيب، فهو في عوالم الدين الضبابي:’هناك، منتوجات الدماغ الانساني[أي الآلهة] التي تبدو كأشكال مستقلة منحت حيوات ذاتية، وتدخل في علاقات بين احدها مع الاخر ومع الجنس الانساني. وكذلك الشيء في عالم البضائع مع منتجات أيدي البشر. أسمي ذلك ب الفتشسم (التوثين) الذي يلتصق بمنتجات العمل حالما تظهر المنتوجات كبضائع...‘

و الفيتشسم هو، بالمعنى الديني، أشياء تقدس لقوى خارقة فيها مزعومة، كما في شأن قدسية آثار القديسين في اوربا العصور الوسطى. ( في عام 1842، سخر ماركس الذي كان عمره 24 عاما من مؤلف الماني ادعى ان هذا الشكل من الفتشسم’يرفع الانسان فوق رغباته الحسية‘ وهكذا يصون الانسان من وجوده كحيوان ليس الا. وقد وجه ماركس هجاء لاذاعا قائلا ان هذا الامر أبعد مايكون عن الحقيقة، لأن الفتشسم لايرفع الانسان الى مكانة اسمى من الرغبات الحسية، لأنه هو دين الرغبات الحسية:’ فالفنطازيا النابعة من الرغبة تخدع عبدة الفتشسم بالأعتقاد بان الشيئ الذي لاحياة فيه سيتخلى عن خاصيته الطبيعية لكي يخضع لرغباتهم.‘) وفي الاقتصاد الرأسمالي، فان الفتشسم يتمثل في الأعتقاد بأن البضائع تمتلك قيما ما صوفية وجوهرية. وفي ما يخص عظام القديسين، فان الأمر لايتعدى الاوهام قليلا أو كثيرا. ولقد كتب ماركس’ حتى الآن، لم يستطع أي كيميائي أبدا ان يجد قيمة التبادل سواء للؤلؤ أو للماس. "

وهذا مثال غريب يختاره ماركس، لأنه يفضح محدودية نظريته ذاتها. واذا كان ماركس يلمح الى ان قيمة التبادل للؤلؤ او للماس تنبع، تماما، من وقت العمل المطلوب لأستخراجه وتحويله، لماذا، اذن، يدفع بعض الناس، أحيانا، مئات الآلاف من الجنيهات الاسترلينية لخاتم ماسي واحد او قلادة لؤلؤ؟ ألا يمكن أن يعود الغلاء الفاحش للماس واللؤلؤ الى قيمتها النادرة ربما، او الى فهم فائق للجمال او حتى للتباهي بالمنزلة الاجتماعية؟ واذا كان وقت العمل لوحده هو العامل المقرر، فان خربشة لبيكاسو على منديل مطعم، أو قبعة ارتداها، مرة، مغني البيتلز جون لنن لن تساوي، في هذه الحال، أكثر من بضعة جنيهات- وكذلك الامر في’ قيمة ‘ قنينة نبيذ معتقة بأمتياز من نوع كلاريت مطابقة لقنينة نبيذ من نوع أدنى، اذا كان كلاهما يجسدان نفس نوعية العمل.

أما حواريو ماركس الأكثر تبجيلا له فانهم يتعاملون مع هذه المشاكل برفضها على اعتبارها استثناءات غريبة ولا أهمية لها قياسا للقاعدة. اضافة الى ذلك، ألم يوضح ماركس، بنفسه، ان البضائع تمتلك’براعات ميتافيزيقية وسمات لاهوتية أنيقة‘؟ فنظرية قيمة العمل لاتساعدنا تماما في فهم لماذا غدت خصلات قليلة من شعر مغني الروك الفيس بريسلي، جمعها حلاقه، ممكنة البيع ب 115000 دولار في احد المزادات عام 2002؟ لكن من الممكن ربما لفكرة فيتشية البضاعة – ’ جعل السحر و استحضار الارواح يحيطان بمنتوجات العمل‘ أن توفر تفسيرا جزئيا على الأقل. فطبقا لماركس، فان فتشزم البضاعة، بالمعنى الأعم، يمثل’سلطة الشيئ على الانسان، العمل الميت على الاحياء و المنتوج على المنتج‘. ( هنا، ثانية، نرى التفتح البطئ لصورة بذرت منذ سنوات بعيدة. اذ تتعلق أحد اولى مقالاته في صحيفة راينسش زيتنك لعام 1842 بقانون جديد يحرم على الفلاحين جمع الخشب اليابس المتناثر في الغابات الخاصة، وهو حق تمتع به الفلاحون منذ القرون الوسطى. فقد كتب ماركس قائلا:’هناك امكانية ان تتعرض بعض الاشجار الفتية الى الضرر، ولا حاجة للقول، الا بصعوبة، أن آلهة الخشب المزيفة تنتصر ويجري التضحية بالكائنات البشرية!‘ وعادت هذه الفكرة بالظهور عام 1856 في خطاب أمام أنصار الحركة التشارتية (منظمة كان ينتمي اليها مصلحون سياسيون أنجليز) قال فيه:’يبدو كل شيئ حاملا لنقيضه في ايامنا هذه.. اذ يبدو أن كل اختراعاتنا و تقدمنا تؤدي الى منح القوى المادية حياة ثقافية، وتحويل الحياة الانسانية الى مجرد قوى مادية لامنطق فيها.‘) فبعد ان كان ماركس كتب سابقا في البيان الشيوعي : كل شيئ صلب تحول في ذوبانه الى هواء، نراه الآن في رأس المال يقول: يتحول كل شيئ انساني، حقا، في ذوبانه الى أشياء لاحياة فيها، لتكتسب الأشياء، في هذا الذوبان، برغم ذلك، حيوية وحياة مذهلتين.

وبرزت بوجه ماركس مشكلة اخرى كان يرغب في معالجة هذه المشكلة وجها لوجه: لماذا تستبد البضائع بالعمال وهم خالقوها وتجعلهم يشعرون بالاغتراب؟ واذا كان العمال هم من يخلق قيمة البضائع، لماذا لايحصلون تلك القيمة كاملة؟ ويجيب ماركس أن العمال في الاقتصاد المتخلف، غالبا، مايحصلون على القيمة كاملة. فيما كتب آدم سميث في ثروة الأمم قائلا:’في تلك الحالة الاصلية للأشياء والتي سبقت الاستيلاء على الاراضي وتراكم المخزون، كان منتوج العمل كله يعود للعامل. وليس له سيد او مالك للأرض ليشاركه منتوجه.‘ واذا باع نجار طاولة واستخدم المال لشراء كيس من الحنطة، يمكن وصف العملية بهذه الصيغة ب- ن- ب- بضائع (ب) جرى تحويلها الى نقود (ن)، والتي اعيد تحويلها الى بضائع اخرى. لكن هناك هيئة اخرى لدورة البضاعة تسود بازدياد في ظل الرأسملية الصناعية والتي يمكن كتابتها كالتالي: نقود (ن)- بضائع (ب)- نقود (ن). فالرأسمالي، هنا، يستخدم النقود لشراء مختلف البضائع – قوة العمل، المواد الخام، المكائن – والتي ينتج عنها بضاعة جديدة تباع بعدئذ.

هاتان الدورتان يمكن تقسيمهما كليهما الى نفس المرحلتين المتناقضتين - ب- ن (بيع) و ن – ب (شراء). وما يميز بينهما هو نظام التسلسل: ففي الحالة الاولى، فان نقطة البداية والنهاية للحركة هي البضائع، وفي الحالة الثانية النقود.

في دورة ب – ن – ب، النقود، في النهاية تتحول الى بضاعة والتي تستخدم كقيمة استعمال، لذلك، فالنقود صرفت مرة ولاجل ذلك. أما في الشكل المقلوب ن – ب – ن فالأمر معكوسا، فان المشتري ينفق النقود من أجل أن يسترد، كبائع، النقود لاحقا ....... هو يتخلى عن النقود، لكن، فقط، بهدف ماكر الا وهو استعادتها. النقود، لذلك، لم يجر صرفها، بل جرت زيادتها ليس الا.

لما كان في’الدورة البسيطة للبضائع‘ ممثلة ب: ب – ن – ب فان الأنزياح المضاعف لنفس كمية النقود يؤثر على تحويلها المحدد من يد الى اخرى، أما في ن – ب – ن فأن الانزياح المضاعف لنفس البضاعة يدفع بالنقود الى العودة الى نقطة رحيلها.

ليس هناك أي معنى في الدخول عبر هذه الاجراءات المعقدة المفصلة اذا عاد الاستثمار الاولي دون أن يصيبه اي تغيير. لذلك، يعيد ماركس كتابة الصيغة على شكل ن – ب – ن ، حيث ن تمثل المبلغ الاصلي من المال زائدا الربح.’انا أطلق على هذا الربح او الزيادة على القيمة الاصلية تسمية
" فائض القيمة ". ’وهذه الحركة من ن الى ن هي تحول النقود الى رأس مال. و ماركس يعترف، بالطبع، ’انه ممكن، أيضا، أن في ب – ن – ب ، أي الطرفين ب و ب ، لنقل الذرة والملابس، قد يمثلان مقدارين مختلفين كميا للقيمة. فقد يبيع الفلاح الذرة بمبلغ أعلى من قيمتها، أو قد يشتري الملابس بمبلغ أقل من قيمتها. من جانب آخر، يمكن لتاجر الملابس الاحتيال على الفلاح.‘ مع ذلك، اختلافات في القيمة كهذه هي ’أصداف محضة‘ ولا يمكن لها ان تنسخ الاختلاف الجوهري بين الصيغتين المارة ذكرهما. ان التداول البسيط للبضائع – البيع من اجل الشراء – يمثل وسيلة للوصول الى غاية، أي لسد حاجات. اما تداول النقود كرأسمال فهو غاية بحد ذاتها.

فائض القيمة هو ما يحول النقود الى رأس مال. لكن من أين يجيئ فائض القيمة؟ لقد تفحص ماركس هذا اللغز من منظور متدرب رأسمالي يدعى كيس النقود. كل مرحلة في التداول ن – ب و ب – ن ما هي الا مجرد تبادل لمتساويين. واذا جرى تبادل السلع على اساس قيمتها الحقيقية، يستحيل على كيس النقود تحقيق أي ربح. وربما ما هو مدهش اكثر فان الشيئ نفسه يبدو صحيحا حتى اذا لم يكونا كذلك:

لنفترض .... ان امتيازا، يتعذرتعليله، يسمح للبائع بيع بضاعته بسعر اعلى من قيمتها الحقيقية، بان يبيع ما قيمته 100 ب 110، هكذا ستظهر، لذلك، زيادة في السعر الأسمي تصل الى 10 بالمائة. في هذه الحالة سيدخل الى جيب البائع فائض قيمة من 10 . لكن بعد ان باع سيصبح مشتريا. الآن، سياتيه، كبائع، مالك ثالث للبضائع وهو، ايضا، من جانبه، يتمتع بامتياز بيع بضاعته بسعر يزيد 10 عن القيمة الحقيقية. صديقنا [كيس النقود] كسب 10 كبائع لمجرد ان يخسرها، ثانية، كمشتر. وتتمثل النتيجة الصافية، في الحقيقة، في ان جميع مالكي البضائع يبيعون سلعهم الواحد للآخر ب 10 فوق قيمتها، وهذا بالضبط الشيئ ذاته اذا باع كلهم بضاعتهم بالقيمة الحقيقية .. وسيبقى كل شيئ كما كان سابقا.

لربما هناك لحظات معينة – كالأمر مع الفلاح وتاجر القماش – حين يجري عبر الحيلة استدراج رأسمالي بليد تماما الى شراء بضائع بسعر أعلى من قيمتها او بيع سلعه برخص كبير، لكن هذا المثال لايصمد كمبدأ أبدا ضمن النظام بأكمله. ومن اجل انتزاع فائض القيمة، يجب على صديقنا كيس النقود ايجاد بضاعة تمتلك خاصية معينة في خلق قيمة أكبر عند استهلاكها من كلفتها الحقيقية. ومن حسن الحظ بما فيه الكفاية، اكتشف كيس النقود بضاعة تمتلك هذه الميزة الفريدة – قوة العمل التي’تمتلك قابلية سحرية على اضافة قيمة على ذاتها. فقوة العمل تنجب ذرية أحياء، أوتضع، على الأقل، بيضا ذهبيا.‘

ووفقا لماركس، فان قوة العمل هي بضاعة – وفي حالتها يتم قياس قيمتها كأي بضاعة اخرى، من خلال قيمة وقت العمل الضروري لأنتاجها أو لأعادة انتاجها. (هذا، على أية حال، صدى آخر ل آدم سميث الذي كتب قائلا بأن’الطلب على العمال يتحكم بالضرورة على انتاج العمال، مثل أي بضاعة أخرى‘.) وربما يبدو الأمر غروتسكيا لتقدير قيمة الكائنات البشرية كما لو أنهم علبا للفاصوليا المطبوخة، لكن هذا بالضبط مايهدف اليه ماركس: بالنسبة لكيس النقود، فأن سوق العمل ليس أكثر من فرع لسوق البضائع. اذن، كيف يقدر كيس النقود قيمة هذه البضاعة المعينة؟

اذا بدأ مالك قوة العمل الاشتغال اليوم، عليه غدا، مرة اخرى، امتلاك القدرة على اعادة نفس العملية وبنفس الشروط فيما يتعلق بالصحة والقوة. يجب، من اجل ذلك، ان تكون وسائله للبقاء على قيد الحياة كافية للحفاظ عليه في حالة عادية كفرد عامل. وتختلف احتياجاته الطبيعية، مثل الطعام، الملابس، الوقود والسكن وفقا للخصائص المناخية والمادية الأخرى لبلاده. ومن جانب آخر، فأن عدد ومدى ما يطلق عليه الاحتياجات الضرورية، وكذلك، أيضا ، الطريقة التي يتم فيها اشباعها، هي، بحد ذاتها ، من منتوجات التأريخ .. والأمر معكوسا، لذلك، اذا ما قورن مع السلع الأخرى، فأن تحديد قيمة قوة العمل يحتوي على عنصر تأريخي وأخلاقي. وبرغم ذلك، فانه في بلد محدد، وفي وقت محدد، فأن متوسط الكمية لوسائل البقاء الضرورية للعامل ما هي الا معطيات معروفة.

ولأن العامل عرضة للموت، فأن تلك الخلاصة يجب أن تتضمن’الوسائل الضرورية لأستبدال العامل، أي، بجلب أطفاله للعمل بدلا عنه، من أجل أن يديم مالكوا هذا الجنس من البضاعة الفريدة حضورهم في السوق‘. ولربما يتطلب الأمر، أيضا، عنصرا آخر – ’شيئ قليل تماما يتعلق بقوة العمل العادية‘- مثل التعليم والتدريب.

وحسب ماركس رياضيا ان المجموع الكلي المطلوب للعيش يعادل ست ساعات من العمل في اليوم. لكن هل سيسمح كيس النقود لعماله بالتوقف عن العمل بعد ست ساعات من العمل الضروري؟ كلا بالتأكيد. ولكي يحصل العامل على أجره، يجب عليه العمل خمس أو ست ساعات أخرى من أجل توفير ’ فائض القيمة ‘ الذي يخلق الربح. ’ليست هناك ولا ذرة واحدة من [فائض] القيمة لاتكون مدينة بوجودها للعمل غير المدفوع الأجر‘، هذا ما استنتجه ماركس، مشبها هذا الأستغلال ب
’بنشاط الفاتح، في قديم الزمان، والذي يشتري بضاعته من الرازحين تحت نير الأحتلال بأموال أغتصبها، أصلا، منهم‘. أما الفرق الوحيد عن العصور الغابرة فيتمثل في الحيلة التي تخفى فيها عملية السرقة عن أعين الضحايا.

وحينما يكتشف كيس النقود هذا السر، يتمنى، وهذا أمر طبيعي، في الحصول على بيض أكثر من تلك الأوزات الذهبية. وتكمن الوسيلة الأشد وضوحا، على الأغلب، في جعل العمال يعملون ساعات أطول. ويظهر ماركس في الفصل 10 من رأس المال وتحت عنوان’يوم العمل‘ الكلفة الانسانية وفي صيغة ذات طابع غير شخصي.

لقد حدد قانون المصانع لعام 1850 ، في بريطانيا، ساعات العمل أسبوعيا بستين ساعة. ( ويجب أضافة: ستون ساعة من العمل الحقيقي يتخللها نصف ساعة للفطور الصباحي وساعة واحدة للغداء مما يعني نوبة عمل من 12 ساعة بين يومي الأثنين والجمعة وثمان ساعات يوم السبت ). وأوجد القانون، أيضا، جيشا صغيرا من مفتشي المصانع، والذين سلحت تقاريرهم النصف سنوية ماركس ببرهان مفصل عن ’شهية الرأسماليين الشرهة للعمل الفائض‘. هناك سرقات صغيرة لا تحصى من فترات تناول العمال لطعامهم وأوقات الأستجمام، والتي تضاف الى كيس الأرباح المنتفخ: ويتبجح أحد أسياد المصانع امام أحد المفتشين بأن تقصير فترة تناول الطعام بعشر دقائق في اليوم ’يدخل الفا من الجنيهات الاسترلينية سنويا في جيبي‘ وتوفر الصحافة البرجوازية مزيدا من الذخيرة. فقد كشفت جريدة الديلي تلغراف البريطانية في تقريرها عن تجارة المخرمات في مدينة نوتنغهام بأن
’الاطفال بين سن التاسعة والعاشرة من العمر يجرون من أسرتهم القذرة في الساعة الثانية أو الثالثة أو الرابعة صباحا ويجبرون على العمل حتى الساعة العاشرة أو الحادية العاشرة أو الثانية عشرة ليلا لقاء أجور لا تسد الرمق الا بالكاد مما يؤدي الى ذبول أطرافهم، تضاؤل أجسادهم، ابيضاض وجوههم وانحدار انسانيتهم بشكل مطلق الى بلادة تشبه الحجر، أمر مرعب كليا حين تتأمل فيه‘.

يوجد، هنا، صدى قوي لكتاب فريدريك أنجلز المعنون وضع الطبقة العاملة في انجلترا (1845)، والذي مزج فيه أنجلز ما بين ملاحظاته الشخصية والمعلومات التي توجه أصابع الأتهام والتي جمعها أنجلز من الصحف، لجان البرلمان، مفتشي المصانع ونشرات مؤسسة هانزارد. وكتب أنجلز ’أنا سعيد بشهادات خصومي‘ مندهشا بجذل بان المؤسسة الرسمية البريطانية تولت نشر أدلة دامغة كثيرة جدا ضد كيانها. وتشير الأستشهادات المأخوذة من ’ الكتب الزرقاء ‘ ومقالات مجلة الايكونومست المتناثرة بين دفتي رأس المال كم تعلم ماركس من استخدام هذا التكنيك.

فالفصل الذي يدور حول يوم العمل، وهو أطول فصل في الكتاب، هو عبارة عن خلاصة وافية لقصص الرعب، أطرها ماركس في اسلوب قوطي (متسم بخصائص الطراز القوطي ’في فن العمارة‘) مناسب. وكتب في فقرات الفصل التمهيدية مايلي:’الرأسمال عمل ميت، يشبه الفامباير (الجثة التي تفارق القبر ليلا لتمتص الدماء) ويعيش على امتصاص عمل الأحياء، وكلما عاش أكثر، كلما امتص من العمل أكثر‘. وبعد أكثر من سبعين صفحة، وبعد مأدبة من الدماء، يتوصل الى استنتاج ان هذا ’الفامباير لن يترك أحدا يستريح‘. وعلى العمال، من أجل حماية انفسهم من مصاص الدماء هذا أن ’يوحدوا عقولهم معا، كطبقة، وفرض سن قانون، يكون بمثابة قلعة اجتماعية كلية الجبروت، يمنع فيه العمال، على اساس هذا القانون، من بيع أنفسهم وعوائلهم الى العبودية والموت عبر فرض عقد طوعي مع رأس المال‘. لكن ماركس يعترف بان مثل هذا القانون لن يكون كافيا بذاته لوضع حد لجشع كيس النقود واصدقاءه الرأسماليين، لأنهم يمتلكون طريقة أخرى لزيادة الانتاجية وبالتالي لفائض القيمة.

اذا كانت قوة العمل بضاعة ثمينة فريدة، حقا، لربما يتوقع المرء حصول منافسة بين أصحاب العمل لرفع الأجور- وفي أوقات وجود عمالة كاملة، قد تصبح مسألة رفع الأجور، في الحقيقة، أمرا واقعا. وحينما ترتفع تكاليف العمل، على أية حال، يجد كيس النقود ان الاستثمار في المكائن التي تقلل من زمن العمل، والتي، لربما، كان ذات مرة، يبدو مسألة غير اقتصادية، يوفر، الآن، مردودا ماليا، خاصة اذا لم يعد بالأمكان اطالة يوم العمل. وكتب ماركس، ’رأس المال ... يمتلك دافعا متأصلا ، وتوجها دائما نحو زيادة انتاجية العمل، من اجل عرض بضائع رخيصة، وعبر هذه البضائع الرخيصة، يصبح العامل، ذاته، رخيصا.‘

تستطيع المكائن، نظريا، تخفيف العبء الجاثم على كاهل العامل. ويحاجج ماركس انه في نظام الانتاج الرأسمالي، فأن تأثير الآلات مهلك بشكل ثابت – برغم انها مفيدة بطريقة بالغة لكيس النقود. ( يبدأ فصل في رأس المال يدور حول المكائن الصناعية بمقتطف مأخوذ من كتاب مبادئ الاقتصاد السياسي من تأليف جون ستيوارت مل :’تحوم الشكوك حيال جميع المخترعات الميكانيكية التي توصلنا اليها حتى الآن، وفي ما اذا أدى وجودها الى تخفيف الكدح اليومي لأي كائن بشري.‘) فالماكنة، عندما تستبدل قدرتها الانتاجية المرعبة ذاتها بديلا عن القوة الانسانية المستقلة، تترك العامل، باضطراد، خاضعا لرأس المال.

فالعامل غدا بلا مهارة، تحديدا بسبب المهارة اللاانسانية للآلات الذاتية الحركة، وتضاءلت قدرته على الدفاع عن عمله عبر الارتباط بالعمال الآخرين – عبر الجمعيات الحرفية، مثلا، بينما توحد المكائن ذاتها قوة فعالة تزداد شراسة. أمامنا، هنا، كما ورد في مرات عديدة في رأس المال رؤيا لقصة من قصص الرعب:’هنا، امامنا، بدلا من الماكنة المنعزلة، وحش ميكانيكي يمتلئ جسده بمصانع باكملها، وقوته الشيطانية، التي أخفيت، في البداية، عبر الحركات البطيئة والمدروسة لأذرعه العملاقة، ينفجر أخيرا صاعدا باندفاع سريع ومحموم عبر أدواته العاملة التي لاتحصى.‘ وبقدر ما تستغني الماكنة عن الحاجة الى العضلات الانسانية القوية، تصبح، أيضا، وسيلة لتشغيل الأطفال الذين لايمتلكون الا بنية جسدية نحيلة لكن بأطراف مطواعة أكثر، وهكذا، تقوم الماكنة بأحداث ثورة في العقود المبرمة بين العامل والرأسمالي:

لنأخذ تبادل السلع كمبدأ أساسي، فأفتراضنا الأول كان يتمثل في أن الرأسمالي والعامل يجابه أحدهما الآخر كشخصين حرين، مالكين مستقلين، الأول يملك المال و وسائل الأنتاج، والثاني قوة العمل. أما الآن، فالرأسمالي يشتري الأطفال
واليافعين...

ويلاحظ ماركس ان الأعلانات الموجهة للعمال الأطفال، تشبه، على الأغلب، الأعلانات عن العبيد الزنوج التي ظهرت سابقا في الصحف الأمريكية، مستشهدا بواحد منها في تقرير لأحد مفتشي المصانع البريطانية:’مطلوب، أشخاص يافعين تتراوح أعمارهم بين 12 و 20 ، لا أقل مما يستطيع العبور ل 13 سنة. الأجور 4 شلنات في الأسبوع.‘ وتكمن أهمية العبارة ’ مما يمكنه من العبور ل 13 سنة‘ في أنه وفقا لقانون المصانع يمكن للأطفال من عمر أقل من 13 العمل لست ساعات فقط في اليوم. ويجب أن يعين طبيب بشكل رسمي للتثبت من أعمارهم، ويلاحظ ماركس ان الهبوط الواضح في عدد الأطفال تحت سن 13 العاملين في المصانع خلال خمسينات وستينات القرن التاسع عشر’يعود للجزء الأكبر منه، وفقا لشهادة مفتشي المصانع أنفسهم، الى عمل الأطباء الذين يصدقون على شهادات الأعمار، والذين كانوا يعدلون أعمار الأطفال بطريقة تتواءم مع جشع الرأسمالي من أجل استغلالهم واستغلال حاجة الآباء الى انخراط أطفالهم في مثل هذا الأعمال غير المشروعة‘.

يولد استخدام الرأسمالي للتكنولوجيا شكلا من حركة دائمية. فالماكنة التي تشتغل 16 ساعة في اليوم ولفترة سبع ونصف سنوات تنتج كمية من البضائع بقدر ما تنتجه نفس الماكنة التي تعمل
لمدة ثمان ساعات يوميا، فقط ، ولفترة 15 سنة. وبرغم ان الماكنة لاتنقل الى المنتوج النهائي فائض قيمة أكثر، الا انها تسمح للرأسمالي استيعاب ذلك الربح مضاعفا وبسرعة. لذلك، هناك حافز لأستعمال الماكنة أكثر ساعات ممكنة في اليوم عبر اطالة نوبات مشغلي المكائن – وهؤلاء العمال ليسوا في وضع يسمح لهم بالأعتراض أو المقاومة، لأن الأتمتة شددت من المنافسة على فرص العمل، بخلقها ما يطلق عليه ماركس ’جيشا من الأحتياط الصناعي‘ من العاطلين عن العمل. فائض جماهير العمال هذا ليس منتجا جانبيا ضروريا، فحسب ، للرأسمالية الصناعية، بل أصبح أيضا، بالمعكوس ، رافعة للتراكم الرأسمالي عبر توفير ’كتلة من المادة الأنسانية المهيأة، على الدوام ، للأستغلال‘. وعندما يتوسع السوق بسرعة أو يفتح فروعا جديدة، كما هو الحال مع السكك
الحديدية ، ’يجب أن تكون هناك امكانية لألقاء، وعلى نحو مفاجئ، باعداد هائلة من الرجال في المجالات الحاسمة دون احداث أي ضرر في نطاق الانتاج في الميادين الأخرى. ويوفر السكان الفائضون هذه الجماهير.‘ ان نمط الدورة للصناعة الحديثة – فترة من النشاط المتوسط، يعقبها انتاج تحت ضغط عال، أزمة ثم ركود يعتمد على التشكيل الدائم لجيش الأحتياط الصناعي، امتصاصه وأعادة تشكيله. وتجند المراحل المختلفة للدورة فائض السكان لكنها تصبح، أيضا ، وكالات مفعمة بالحيوية لأعادة الأنتاج.

وينظم فائض العمل، بدوره، الحركات العامة للأجور. وكتب ماركس:

يرهق جيش الأحتياط الصناعي، أثناء فترات الركود والرخاء المتوسط، جيش العمال النشط ، ويضع، أثناء فترات الأفراط في الانتاج، كابحا على مطالبهم العمالية. لذلك، يمثل فائض السكان النسبي خلفية يعتمد عليه قانون العرض والطلب في أداء عمله.

ولم تراود ماركس أية أوهام فيما يتعلق الأمر بالتناسق المقدس المفترض لقانون العرض والطلب. فالطلب على العمل ليس متطابقا مع زيادة في العرض للرأسمال، لأن’الأمر ليس مسالة قوتين مستقلتين تعمل الواحدة منها على الأخرى. فزهر النرد مشحون بالتوتر.‘ هنا، يوجه ماركس لكمات عنيفة ضد ’واحدة من المآثر العظيمة للمدافعين عن التبريرات الأقتصادية‘- النظرية التي روج لها عدة اقتصاديين في أواسط العصر الفيكتوري القائلة بان ادخال الماكنة الجديدة، أو توسيع ما قدم منها، ’سيجعل‘ العمال’أحرارا‘. ويؤكد ماركس صحيح ان العمال أطلق سراحهم ولكن بمعنى واحد، فقط، الا وهو أنهم جميعا اصبحوا بدون عمل، ’وكل مفصل جديد من رأس المال يتطلع حوله لتأدية عمل معين بامكانه من انتهاز الفرصة لاستغلال العمال‘. وحالما تجد الايدي العاملة فرص عمل، ينتابهم خوف من الالتحاق مجددا بجيش الاحتياط من العاطلين عن العمل، ويتركهم هذا الخوف ثمارا أكثر نضجا للأستغلال. ويتوصل ماركس، لذلك، الى الاستنتاج الى انه كلما اصبحت انتاجية العمل أعظم، تعاظمت بشكل أكبر ’الكتلة النسبية‘ لجيش الأحتياط الصناعي. ويترتب على عاقبة زيادة الثروة الأجتماعية، بالتالي، الى الزيادة الرسمية في الفقر المدقع. ويعلن ماركس، بصوت صاخب وبحروف مائلة شديدة البراعة’ هذا هو القانون العام المطلق للتراكم الرأسمالي، ‘- لكنه يقوض ، بعدئذ، هذا الأعلان في الجملة التالية ذاتها وبطريقة عاطفية:’ ومثل جميع القوانين الأخرى، تدخلت ظروف عديدة لتلطيف عمل هذا القانون، لكن لا يهمنا، هنا، تحليل هذه الظروف.‘

ويتابع ماركس، بعد ان يتجنب أي أعتراضات قد تثار، بطرح واحد من أكثر التؤكيدات شهرة في رأس المال قائلا: ان الرأسمالية تقودنا الى ’حياة البؤس‘ تدريجيا أو افقار البروليتاريا. وفهم نقاد عديدون ان هذا يعني ان انتفاخ ثروة الرأسمالية يتحقق عبر الأنقاص المطلق لأجور العمال ومستوى المعيشة، مما سهل على النقاد ممارسة الأستهزاء. انظر الى الطبقة العاملة، اليوم، وهي تمتلك السيارات وأفران المايكرويف: هم لايعيشون في فقر مدقع، أليس كذلك؟ وصرح الأقتصادي الأمريكي بول ساميولسن بأن كل أعمال ماركس الكاملة يمكن، ونحن مطمئنون، اهمالها لأن عملية أفقار العمال’وببساطة‘ لم تحدث أبدا‘- ولأن كتب ساميولسن المدرسية غدت، منذ فترة،
المصدر الرئيسي للقوت الفكري لأجيال من طلاب الجامعات في بريطانيا وامريكا، غدا هذا القوت هو الحكمة بعينها التي لا يعترفون الا بصحتها.

لكن هذه الحكمة ليست الا خرافة، نهضت على أساس القراءة الخاطئة ل’القانون العام للتراكم الرأسمالي‘ المتضمن في الفصل 25 من المجلد الأول. وكتب ماركس’يشكل الفقر المدقع شرطا للأنتاج الرأسمالي، ومن النمو الرأسمالي للثروة. فهو يشكل جزءا من الحسابات العرضية للأنتاج الرأسمالي: لكن رأس المال يعرف، عادة، كيف ينقل تلك الحسابات من على كتفيه ذاتهما ليضعها على كاهل الطبقة العاملة والبرجوازية الصغيرة.‘ وماركس، في سياق الكلام هذا، لايشير، كما هو واضح، الى البروليتاريا ككل، بل الى ’أدنى مستويات‘ المجتمع، مثل العاطلين، دوما، عن العمل، المرضى، القطاعات الرثة – الطبقة التي نراها موجودة حتى الآن، والتي غالبا مايطلق عليها اليوم، بتعبير منافق، ب الأندركلاس أي اؤلئك الذين يحيون في مستوى أقتصادي، اجتماعي و تعليمي أدنى من الطبقة الوسطى. ( وقال أحد المشردين فيما مضى ’سيكون الفقر معكم على الدوام‘، لكن لم يقترح أي أقتصادي لحد الآن بأنه يجب الشك بتعاليم المسيح كلها لتنبؤه بأزلية الفقر المدقع. وحتى لسزك كولاكوسكي، واحد من أكثر نقاد ماركس تأثيرا في القرن العشرين قدم تنازلا حين قال بان ’ فكرة الأفقار المادي لم تكن مقدمة منطقية ضرورية سواء لجهة تحليل ماركس عن كيفية قيام العمل المأجور بتجريد العامل من انسانيته أو من جهة نبوءته عن انهيار الرأسمالية الذي لامفر منه‘.)

ماقاله ماركس، بالتأكيد، بانه في ظل الرأسمالية سيكون هناك ضعف تدريجي نسبي - غيرمطلق – للأجور. وهذا أمر صحيح يمكن اقامة الدليل عليه: ليس هناك مصنع يتمتع بزيادة قدرها 20 بالمائة من فائض القيمة يقوم بتسليم كل الغنيمة الى قوته العاملة على شكل زيادة في الأجور قدرها 20 بالمائة. وكتب ماركس، ’ وهذا يؤدي، بالتالي، وبالتناسب حينما يتراكم رأس المال، الى حتمية أن ينحدر وضع العامل، سواء ارتفعت اجوره أو انخفضت، نحو الأسوأ.‘ والعبارة الحاسمة، هنا’سواء ارتفعت اجوره أو انخفضت‘:لأن العمل يتخلف أبعد فأبعد خلف رأس المال، بغض النظر عن عدد السيارات او افران المايكروييف التي يستطيع العمال شراؤها.

وفوق ذلك، قدم ماركس توضيحات وفيرة في نفس الفقرة تفيد ان تعريفه للفقر (على شاكلة المسيح) يذهب بعيدا متخطيا الجنيه الأسترليني والبنس: فتعريفه يدور حول سحق الروح الأنسانية. فالعامل مقيد بأغلال الرأسمالية بطريقة ’أكثر صرامة من الأوتاد التي قيد بها بروميثيوس (سارق النار من السماء ومعلم البشر استعمالها) الى الصخرة من قبل هيفستاس (اله النار والمعادن)‘، فبؤس البعض يصبح شرطا ضروريا لتنامي ثروة الآخرين:

توضع، ضمن النظام الرأسمالي، جميع الوسائل، التي تؤدي الى زيادة الانتاجية الأجتماعية للعمل، قيد التنفيذ على حساب العامل المفرد.... وهذه الوسائل تشوه العامل وتحوله الى مجرد جزء من انسان، تنحط به الى مستوى يكون فيه العامل مجرد جزء ثانوي من الماكنة، تدمر المحتوى الحقيقي لعمله عن طريق تحويل العمل الى نوع من التعذيب، تجعل العامل يشعر بالأغتراب عن الامكانيات الفكرية الكامنة في صيرورة العمل بنفس النسبة التى تجري فيها عملية زج العلم في هذه الصيرورة على اعتبار العلم قوة مستقلة، تمسخ الظروف التي يعمل العامل في ظلها، تخضعه خلال صيرورة العمل الى الأستبداد، وأكثر مايكرهه العامل يتمثل في دناءة هذا الأستبداد، تحول زمن حياته الى زمن للعمل وتجر زوجته واطفاله وتضعهم تحت عجلات القوة الماحقة لرأس المال... تراكم الثروة في قطب واحد، هو بالتالي، وفي الوقت نفسه، تراكم للتعاسة، تعذيب العامل، العبودية، الجهل، الوحشية، والانحطاط الأخلاقي في القطب المعاكس، أي، على جانب الطبقة التي تنتج منتوجها ذاته ك رأس مال.

والجملة الأخيرة، اذا اخذت لوحدها، يمكن ايرادها كنبوءة أخرى لأفقار العمال بشكل مطلق، لكن ليس الا الأبله، فقط - أو مدرس جامعي للأقتصاد – بامكانه الأيمان بهذا التفسير بعد قراءة الخطبة المدوية المفعمة بالتقريع وقارص الكلام التي سبقت هذه الجملة الأخيرة.

في سبعينات القرن الماضي، دار كلام كثير عن ’عصر خال من العمل‘ قريب الحدوث بفضل الأتمتة ، وباننا نادرا ما سنعمل - وأطل علينا فيض من الكتب التي تطيل التفكير جديا بالكيفية التي علينا فيها ملء وقت الفراغ المستجد دون ان نصبح بلداء ميئوس منهم, وأي واحد تقع عيناه، اليوم، على تلك الكتب المنسية، في دكان للكتب المستعملة، سيضحك والشكوك تغزو عقله. فالمستخدم البريطاني المتوسط يصرف، الآن، 80224 ساعة من حياته في العمل مقابل 69000 ساعة عام 1981. ويبدو اننا، بعيدا عن فقداننا أخلاقيات العمل(بالمعنى البروتستانتي)، اصبحنا عبيدا للعمل أكثر فأكثر. أما الموضة الجديدة فتتمثل في الكتب التي تسأل بقلق كيف بامكاننا تحقيق ’التوازن بين الحياة والعمل‘ في عصر لا يمتلك فيه الناس وقتا لأي شيئ عدا العمل والنوم.

وهذا الأمر لن يدهش كارل ماركس مطلقا. ففي الفصل 12 من رأس المال يفضح ماركس زيف الاطروحات الاقتصادية التي ظهرت أواسط العصر الفيكتوري التي ’ نقرأ، ربما في صفحة واحدة فيها ان العامل مدين بالأمتنان الى رأس المال لتطويره انتاجيته، لأن وقت العمل الضروري قد جرى تقصيره، وفي الصفحة التالية نقرأ ان العامل، للبرهنة على امتنانه، يجب عليه العمل في المستقبل 15 ساعة بدلا من 10‘. ويقول ماركس ان مايهدف اليه الأنتاج الرأسمالي لا يكمن في انقاص يوم العمل بل الى التخفيض الى الحد الأدنى من وقت العمل الضروري لأنتاج بضاعة ما.

’حقيقة ان العامل عندما تزداد انتاجية عمله، يقوم بانتاج عشرة أضعاف من البضائع التي كان ينتجها في السابق، وهكذا يصرف وقتا يعادل عشرا من زمن العمل على كل بضاعة، لكن لن يمنعه هذا، بأية حال، من مواصلة العمل 12 ساعلة كما في السابق، ولا من انتاج 1200 مادة بدلا من 120 في تلك الساعات 12. ولربما سيطول، حقا، يوم عمله في الوقت نفسه، لكي يجبر على انتاج 1400 مادة خلال 14 ساعة.‘ وهدف هذه العملية يتمثل في’تقصير ذلك الجزء من يوم العمل الذي يتوجب على العامل أن يعمل من أجل ذاته وتطويل، في ما يتصل بذلك، الجزء الآخر من اليوم، يكون فيه العامل حرا للعمل من اجل الرأسمالي‘.

لكن اذا غمرت كل هذه البضائع الأضافية السوق بينما العمال هم ( بدورهم كمستهلكين ) ليسوا أكثر غنى من السابق، يترك الرأسمالي بكمية هائلة من البضائع الكاسدة. ماذا يحدث بعدئذ؟ لقد لفت ماركس عام 1848 في البيان الشيوعي الأنتباه الى ’الأزمات التجارية التي تضع عودتها الدورية، في كل مرة وبطريقة تهديدية، وجود كامل المجتمع البرجوازي في محنة خطيرة. و في هذه الأزمات، تجري، وعلى نحو دوري، عملية تدمير ليس فقط الجزء الأعظم من المنتوجات الموجودة فحسب، بل أيضا القوى المنتجة التي خلقت سابقا. في هذه الأزمات هناك يندلع وباء يبدو، قياسا الى العهود السابقة، أمرا سخيفا ومنافيا للعقل – ألا وهو وباء الأفراط في الأنتاج.‘ ويحاجج ماركس بأن ظروف المجتمع البرجوازي هي، ببساطة، أكثر ضيقا من أن تستوعب الثروة التي خلقتها هذه الظروف. والرأسمالية أمامها طريقان للتغلب على هذه المشكلة:’بالتدمير الأجباري لكتلة القوى المنتجة، من جانب، والأستيلاء بالقوة على أسواق جديدة من، وبالأستغلال الأكثر شمولا للأسواق القديمة . أي يمكن القول، تمهيد الطريق لأزمات أكثر سعة وأكثرها تدميرا، واضعاف الوسائل التي تمنع بها الأزمات. هذه هي الدورة من’الأزدهار الأقتصادي والأزمة الأقتصادية‘ والتي تجاهد الحكومات للأفلات منها منذ ذلك الحين. ووفقا لماركس ليس هناك مهرب من هذه الدورة مادامت الراسمالية سائدة: فالتواتر العاصف من التوسع والركود الأقتصاديين شيئ متأصل في نظام له ميل طبيعي نحو الأفراط في الأنتاج. وكتب ماركس في المجلد الثالث من رأس المال ان’العائق الحقيقي للأنتاج الرأسمالي هو رأس المال ذاته.‘ واذا كان الحفاظ على قيمة رأس المال يعتمد على مصادرة الملكية وافقار الجماهير افقارا شديدا، فأن الحفاظ على قيمة رأس المال لابد له، دائما، من الدخول في صراع، في الوقت نفسه، مع دافع رأس المال المتجه نحو الاتساع اللامحدود واللامشروط في الأنتاج.’ويبقى، دوما، السبب الأخير لجميع الأزمات الحقيقية فقر الجماهير وقيود الأستهلاك المفروضة عليها مقارنة بميل الأنتاج الرأسمالي لتطوير القوى المنتجة بطريقة تكون فيها، فقط، السلطة المطلقة لفرض الأستهلاك على المجتمع بأكمله، هي ما تمثل الحد الأقصى.‘

فالرأسمالية، اذن، مهددة بجروح مميتة، أوقعتها في جسدها، اسلحتها ذاتها. وبعد فشل ثورات
1848 حاجج ماركس بأن اندلاع ثورة جديدة أمر ممكن الحدوث’فقط نتيجة لأزمة [أقتصادية] جديدة‘، وكان ينتظر بفراغ صبر، منذ ذلك الحين، وصول الطلائع المحفزة للثورة. وتنبأ ماركس في أعياد الكرسمس لعام 1851 بأن’زمن اندلاع الثورة لن يتعدى الخريف التالي... وأنا مقتنع أكثر من أي وقت مضى بانه لن تندلع ثورة حقيقية دون وقوع أزمة تجارية.‘ وكان أي أرتباك في الأسواق أو أي سلسلة متلاحقة من حالات الأفلاس يغري ماركس باطلاق تكهنات جذلانة.’وعلى رأس ذلك، هناك الأزمة التجارية التي تلوح في الأفق مقتربة والتي تتفجرأعراضها المبكرة في كل مكان. .....؟‘(1852).’ الظروف الحالية..... برأيي يجب أن تؤدي، قريبا، الى احداث زلزال، (1853). وما يعزز، على الدوام، توقعاته فريدريك أنجلز ممثله في قلعة الرأسمالية الذي أخبره عام 1856 أنه في غضون العام القادم سيجيئ’يوم العقاب الذي لم يخطر على بال احد أبدا، سيحل الخراب في الصناعة الأوربية بأكملها، ستفيض جميع الأسواق بالبضائع المخزونة الكاسدة... ستحشر جميع الطبقات المالكة في مأزق وخيم وستتعرض البرجوازية الى الأفلاس التام، أما الحرب والتبذير ففي أعلى درجاتهما.‘ وكما رأينا، فأن ماركس في شتاء عامي 1857-1858 كان يعمل بضراوة على مخطوطته الأقتصادية التي أطلق عليها لاحقا اسم الغرونديسة من أجل التوصل، على الأقل، الى الخطوط التمهيدية الواضحة قبل أن يحل الطوفان‘. وعاد الى هذه الثيمة في ملحق للطبعة الثانية للمجلد الأول من رأس المال (1873)، كتب الملحق للدفاع عن الأسلوب الديالكتيكي للمجلد الأول:

يمثل شكله العقلاني ٍ[الديالكتيكي] فضيحة ومقتا شديدا للبرجوازية والناطقين النظريين اللاعمليين باسمها، لأنه يتضمن في فهمه الأيجابي عما يوجد من الأعتراف، في الوقت نفسه، بنقيضها، ودمارها الحتمي.. والحقيقة بأن حركة المجتمع الرأسمالي مليئة بالتناقضات تؤثر بنفسها، وبأقصى صورة ملفتة للنظر، على البرجوازية العملية في التحولات في الدورة المتكررة في فترات نظامية والتي تمر، من خلالها، الصناعة الحديثة الذروة التي تؤدي الى الأزمة العامة. هذه الأزمة، تقترب ثانية من جديد....

وأضاف ماركس وعندما تصل الأزمة الى شدتها وشموليتها فانها’ستصعق ب ديالكتيكها حتى روؤس المغرورين المتسلطين على الأمبراطورية الألمانية – البروسية الجديدة المقدسة‘.

وهذا أمل مختال: فبعد قرن ونصف تقريبا، يظل استخدام ماركس للديالكتيك في رأس المال مثار جدال ساخن. فالطريقة التي استنبطها من دراسته الأولى لهيغل، الذي ركب سابقا عدة أشكال من الديالكتيك – من تناقضات زينو ( فيلسوف أغريقي ) حتى المفاهيم النقدية للفيلسوف
كانط – وصقلها فيما يمكن اختصارهذه الأشكال، على أفضل مايكون، على انها صيرورة للعقل تولد ذاتيا. وهيغل، ذاته، سماها’فهم التعارضات في وحدتها أو فهم الأيجابي في السلبي‘، أي السعي وراء التناقضات واندماجها الى أفكار جديدة أكثر تكاملا. فكل فكرة ثمرة لمرحلة اقل تطورا من تلك الفكرة، لكنها تضم في داخلها بذرة فكرة أكثر تقدما.

و ما هو وثيق الصلة بالموضوع، وضوح مفهوم ماركس ذاته عن التطور الأقتصادي بما فيه الكفاية – رغم أن هيغل، بأعتباره مثاليا وليس ماديا، سيحتج، دون شك، على قلب تكنيكه رأسا على عقب. فبالنسبة لهيغل، فان العالم الحقيقي لاشيئ سوى تعبير عن ’ الفكرة ‘، في حين أنه، وفقا لماركس فان الفكرة لاشيئ غير العالم المادي معكوسا في العقل الأنساني ومترجمة الى أشكال من التفكير. وقال ماركس قائلا ان’ديالكتيك هيغل يمثل الشكل الأساسي لكل الديالكتيك، لكن بعد تجريده من شكله الغامض فقط، يصح تمييزه، على وجه الضبط، عن طريقتي ذاتها.‘ وفي ذلك الملحق عام 1873، يعيد ماركس الى الذهن انه قام بتوجيه نقد الى الجانب المبهم في ديالكتيك هيغل قبل 30 سنة تقريبا، في وقت كان فيه ديالكتيك هيغل مايزال الموضة السائدة.

لكن، بالضبط وعندما كنت اعمل على المجلد الأول من رأس المال كان رديئو الطبع، المتعجرفون، والطفيليون السطحيون اؤلئك يهلوسون بتبجح بين أوساط المثقفين الألمان وبدأوا يشعرون بالأبتهاج في التعامل مع هيغل... على انه’كلب ميت‘. لذلك، جاهرت علنا بنفسي بأنني ما أنا الا تلميذ نجيب لذلك المفكر الجبار، وحتى عملت، هنا وهناك في الفصل المتعلق بنظرية القيمة، على استحضار نمط التعبير الذي يتفرد فيه هيغل.

وكان ماركس يعرف، على أية حال، ان هذه الفخاخ الديالكتيكية تمتلك قيمة استخدام أضافية. فبعد كتابته مقالا عن الأنتفاضة في الهند عام 1857 ، موحيا بأن البريطانيين سيبدأون بالأنسحاب من الهند حالما يجيئ موسم الأمطار، أعترف لأنجلز:’من الممكن اني سأ صير من نفسي وكأني أبدو متعنتا، لكن في تلك الحالة يستطيع المرء الأفلات من هذا الأمر بقليل من الدياكتيك. لقد قمت، بالطبع، بصياغة افتراضي، بحذر شديد، بحيث يبدو صحيحا في كلتا الحالتين.‘ وعندما يطبق الديالكتيك بهذه الطريقة، فيعني ذلك انك لن تعترف، أبدا، ان احدى الحالتين هي خاطئة.

وحتى أكثر النبوءات وضوحا التي لايعتريها الغموض في رأس المال – أي الزوال الوشيك للرأسمالية – بامكانها، بالتالي، الافلات من المطرقة النقدية لأولئك الذي يسعون الى تزييفها. وأكد ماركس في الخاتمة الرصينة للمجلد الأول ان التنافس بين الرأسماليين يؤدي الى تركيز الأنتاج الى وحدات تتوسع دوما، مما يقود الى تشديد اضطهاد العمال واستغلالهم، ’ولكن مع هذا تتنامى ثورة الطبقة العاملة، هذه الطبقة التي تتنامى أعدادها، على الدوام، وتزداد انضباطا ووحدة وتنظيما نتيجة للميكانزم ذاته لصيرورة الأنتاج الرأسمالي نفسه.... ليقرع، بالنتيجة، ناقوس نعي الملكية الخاصة لرأس المال.‘ يستنتج معظم القراء من ذلك بأن ماركس ظن ان الرأسمالية تتمدد، وقتها، على سرير الموت – وهذا استدلال معقول اذا أخذنا بالأعتبار الأبتهاج بالرؤيا النبوئية والتي يستقبل بها ماركس بهتافات الأستحسان كل أزمة مالية جديدة. (’الظروف الحالية.... برأيي يجب أن تؤدي، قريبا، الى احداث زلزال.) ومع ذلك، سيكون، هذا، افتراضأ مدهشا بالنسبة لماركس، أكثر من أي شخص آخر، أن يعلنه جهارا. فوصفه، ذاته، للمراحل التاريخية المختلفة للأنتاج الأقتصادي – المشاعية البدائية، ... الأقطاع، الرأسمالية يشير الى ان كل عصر امتد لعدة قرون، وأحيانا حتى لألف سنة قبل ان يحل عصر محل عصر آخر. ويدرك ماركس تماما ان الرأسمالية البرجوازية أكثر ديناميكية وقوة الى حد بعيد من أي نمط آخر سبقها: وكما كتب في البيان الشيوعي ، ’ انها أنجزت العجائب فاقت كثيرا الأهرامات المصرية، وقنوات الماء الرومانية والكاتدرائيات القوطية، وسيرت حملات تضاءلت ازاءها كل ماسبقها من عمليات نزوح الأمم والحروب الصليبية.‘ كيف بامكانه، بعدئذ، الأعتقاد بأن هذه القوة العاتية ستضمحل بعد 100 أو 200 سنة فقط؟

ربما لم يكن ماركس يعتقد بهذا الأمر بتاتا. قد يبدو المجلد الأول وكأنه يدق ناقوس نعي الراسمالية، لكن الفصل الأخير من المجلد الثاني يقدم’عرضا تخطيطيا‘ لحساباته الأفتراضية لنموذج أقتصادي لأقتصاد رأسمالي والذي ينمو بثبات من دون أزمات متكررة دوريا وبامكانه، نظريا، الأستمرار دون نهاية. ورغم أن ماركس كان يتوق الى انهيار الرأسمالية ونهاية الأستغلال – توق يتفجر، أحيانا
بنبوءات موتها بصورة مروعة – ولا تكتسب قوة ماركس البلاغية أهليتها وفروقها الدقيقة التي تكاد لا تدرك في معانيها الا اذا تعمق المرء في دراسة اعماله بالكامل. لقد أعتاد البعض، أغلب الأحيان، تصوير ماركس كمنظر للحتمية الميكانيكية الذي يرى العالم بمنظار قوانين حديدية ونتائج لامفر منها، لكن هذا التصوير مثير للضحك لسطحيته. صحيح ان ماركس ادعى في البيان الشيوعي ان زوال النظام الرأسمالي وانتصار البروليتاريا مسألة ’حتمية بشكل متساو‘. لكنه أضاف، على أية حال، في الثامن عشر من برومير لويس بونابرت(1852) بأن’البشر يصنعون تأريخهم بانفسهم، لكنهم لايصنعوه كما يشتهون على وجه الضبط، ولا يصنعوه في ظل ظروف يختارونها بأنفسهم، لكن في ظل ظروف تواجههم مباشرة، خصصت لهم ورحلت اليهم من الماضي.‘

لقد وعدت المقدمة الأصلية ل رأس المال لتقديم مخطط تمهيدي ل’ لقوانين الطبيعية للأنتاج الرأسمالي... التي تؤدي دورها بنفسها من خلال الضرورة الحديدية‘. مع ذلك، لكون ماركس، ذاته، طالبا للقانون في السابق، كان يعرف ان مجرد وجود قانون ، لنقل مثلا، ضد السرقة فلا يعني ذلك ان تتوقف جميع السرقات. وهذا واضح، بخاصة، في ما يتعلق بأكثر صياغاته اثارة للجدل، الا وهو قانون انخفاض نسبة الربح.

ان فكرة انخفاض نسبة الربح عندما ينمو اقتصاد ما أمر مألوف بين جميع الأقتصاديين الكلاسيكيين ومن بينهم آدم سميث وديفيد ريكاردو رغم عدم اتفاقهما عن السبب الذي يؤدي الى هذا الانخفاض. وعزا سميث هذا الأمر الى تناقص الفرص المربحة، بينما أعتقد ريكاردو ان التجهيز المحدود للأرض يؤدي الى ارتفاع الأيجار، وبالتالي الى انقاص هامش الربح. أما رواية ماركس كما أوضحها في المجلد الثالث فانها تفيد بأن التنافس بين أصحاب المصانع سيجبرهم على أستثمار أكثر في ’رأس المال الثابت‘ (المصنع والماكنة) وبناء عليه بصورة أقل بالتناسب على
’رأس المال المتغير‘( الأجور). وكما أعتقد ماركس اذا كان العمل الأنساني هو مصدر قيمة التبادل، اذن، يجب أن تنخفض نسبة الربح – ان لم يكن الأجمالي الحقيقي .’ وهذا الأمر ، في ما يتصل بذلك، برهن على ضرورته المنطقية ففي أثناء نموه يجب على النسبة العامة المتوسطة لفائض القيمة ان تعبر عن نفسها عن طريق النسبة العامة لأنخفاض الربح.‘

وواجه ماركس عدة حملات نقد حادة ضد هذا التأكيد الجرئ الذي لاأساس نظري له، ويبدو انه كان يتوقع ذلك. وحاول في ذات الفصل التالي أيجاد أسباب لماذا لاتنخفض نسبة الأرباح، عمليا، كما تفرضه نظريته. . احد هذه الأسباب هو: التجارة الخارجية: فألسلع المستوردة المنتجة بتكاليف رخيصة تسمح بوجود هامش أعلى للربح. وهناك، أيضا، المسألة المألوفة التي تتعلق بوجود جيش صناعي احتياطي: فالأنتاجية الزائدة تؤدي الى جعل العمال زائدين عن الحاجة وتدفع الأجور الى الانخفاض، وتبطئ، الى حد بعيد، الميل نحو استبدال العمل الأنساني من خلال احلال الماكنة ذات الكلفة المادية الباهظة. وباختصار، توجد هناك ’تأثيرات مضادة تفعل فعلها والتي تقاوم تأثيرالقانون العام وتلغيه، والتي لا تمنحه الا مجرد خاصية الميل‘. وحقا، فأن ’نفس التأثيرات التي تنتج ميلا في النسبة العامة للربح نحو الأنخفاض، تحشد، أيضا، التأثيرات المضادة، والتي تقوم بكبح واعاقة وشل هذا الأنخفاض جزئيا‘. ومرة أخرى، يبدو الأمر كما لو أن ماركس يعيد صياغة كلمات فرضيته من اجل ان تظهر صحيحة في كلتا الحالتين.

ويمكن ايجاد مؤهلات لماركس مماثلة عند مناقشته تلك الأزمات المستعصية لحالات الأفراط في الأنتاج (أو، اذا نظرت اليها من جانب آخر، يمكن وصفها بقلة الأستهلاك). فالنتيجة الأولى للركود عندما يحل يتمثل بانخفاض هائل في الأسعار وحدوث نقص في رأس المال. لكن هذا الأمر يعوض نسبةالربح ويسهل من فرص الأستثمار ويبدأ النمو الأقتصادي مجددا. أو، كما وضعه ماركس في المجلد الثالث من رأس المال :’ يمهد حدوث الركود في الأنتاج الطريق لتوسع تال في الأنتاج – في نطاق امكانيات الرأسمالي. وهكذا ندور، نحن، حول الدائرة كلها. جزء من رأس المال الذي انخفضت قيمته من خلال توقفه عن أداء وظيفته يعيد استعادة قيمته القديمة. وبصرف النظر عن ذلك، نقوم ، نحن، مع ظروف توسع الأنتاج، وأسواق أكثر اتساعا وزيادة في الأنتاج، بممارسة نفس الدورة من الأخطاء من جديد.‘ ألا يستطيع المرء، لذلك، من أعتبار هذه الهزات الدورية كلا شيئ أكثر من ميكانيزم لتصحيح الذات، كافلا البقاء الدائم للنظام مفضلا على ذلك التعجيل بالأطاحة به؟ وبكلمات ليون تروتسكي، ’الرأسمالية تحيا، بالتأكيد، على الأزمات وفترات الأزدهار الأقتصادي كما يحيا الكائن البشري على الشهيق والزفير‘.

ولم يوضح ماركس في أي مكان في رأس المال لماذا وكيف – واقل من ذلك، مايزال، متى – سيحطم، في النهاية، النظام نفسه. فهو يصرح بها، ببساطة، على أعتبار أنها قناعته الشخصية: كل هبوط جديد في الأسعار يؤدي الى تركيز أعظم ل رأس المال، وهذا الأحتكار يصبح قيدا على نمط الأنتاج ’ حتى يصل’التمركز، أخيرا، لوسائل الأنتاج وجماعية العمل نقطة تصبح فيه متعارضة مع المظلة الرأسمالية.. وتنفجر هذه المظلة الى شظايا... وتحل عملية مصادرة الملكية من المصادر لها,‘ ويختتم ماركس بهذا المشهد السعيد المجلد الأول (والوحيد المكتمل) ل رأس المال.
.
حسنا، تقريبا. فبعد خاتمة الخطبة الباهرة، قرر ماركس اضافة تقفيلة ساخرة على شكل فصل بعنوان ’النظرية الحديثة عن الأستعمار‘ مصمم للكشف عما يحدث اذا تحرر عمال الأجر بعد تحطيم أغلالهم. ففي دول مثل أنجلترا، أخضع النظام الرأسمالي لنفسه، بالكامل تماما، مصادر الأمة والتي يعتبرها الأقتصاديون كجزء من النظام الطبيعي. لكن ماركس لاحظ ’والأمر ذاته، وبطريقة أخرى، في المستعمرات‘، حيث يجابه كيس النقود معارضة من مستوطني الطبقة العاملة الذين يستخدمون عملهم لأغناء أنفسهم بدلا من الرأسمالي. ( وكتب أنجلز الى ماركس في شهر أيلول/ سبتمر عام 1851 بعد أكتشاف الذهب في جنوب أستراليا قائلا:’أنه لأمر رائع، سيجري طرد البريطانيين من استراليا، والأمم المتحدة، المكونة من المبعدين وهم من القتلة، اللصوص، المغتصبين والنشالين ستذهل العالم بالبرهنة كيف ان دولة تتكون من هولاء الأوغاد المكشوفين ستجترح العجائب.‘)

أما الحتوتة التوضيحية في هذا الفصل الأخير فتتمثل في الحكاية الكوميدية – التراجيدية للسيد بيل ، الذي أخذ معه من أنجلترا الى مقاطعة سوان ريفير في غرب استراليا 50000 جنيها أسترلينيا نقدا و 3000 من رجال الطبقة العاملة ونساءها وأطفالها. غير أن شيئا واحدا فات انتباهه: الحاجة الى ابقاء عماله بعيدين عن وسائل الأنتاج. وعندما وجد العمال أرضا متوفرة مجانا لأي أحد في هذه المنطقة الخالية فأنهم هجروا السيد بيل ولم يتركوا له حتى خادما واحدا ليرتب له سريره أو يجلب له الماء من النهر. وكتب ماركس قائلا:’ يالحظ السيد بيل التعيس الذي وفر كل شيئ عدا تصدير علاقات الأنتاج الأنجليزية الى مقاطعة سوان ريفير!‘

وعثر ماركس على قصة السيد بيل في كتاب ألفه رجل الأعمال أدوارد جيبون ويكفيلد والذي استشهد به ماركس كمثال على النتائج الوخيمة للأستعمار العفوي غير المنظم. وعند مستوطنة سوان ريفر اشتكى ويكفيلد قائلا:’لقد ضاعت كمية كبيرة جدا من رأس المال، البذور، الأدوات، والماشية جراء الحاجة الى العمال لأستخدامها... ولم يدخر أي مستوطن من رأس المال أكثر كي لايجبر الا على استخدام يديه‘. أما في الولايات الشمالية لأمريكا، أيَضا، ’ربما من المشكوك فيه لو قلنا انه يمكن توصيف عشر السكان على انهم عمال مأجورين‘. وعندما تحين الفرصة لأي عامل، فانه يمتنع عن أن يصبح عامل بالأجرة ويتحول الى منتج مستقل – ولربما حتى’يدخل في منافسة في سوق العمل مع أسياده السابقين‘. وطالب ويكفيلد مدافعا، من أجل معالجة مثل هذه الأمور المثيرة للصدمة ب ’استعمار منظم‘، يضمن توفير عمال خانعين وتابعين، لايختلفون، بأي حال، عن العبيد في وظيفتهم ومنزلتهم. ويمكن انجاز ذلك، وبسهولة، بوضع سعر اصطناعي عال على الأراضي البكر، مما يضعها في مستوى أغلى ثمنا بكثير مما يستطيع دفعه كاسب الأجور العادي وهكذا يجبرون على العمل تحت أمرة المسكين السيد بيل.

وبمستطاع المرء ان يرى لماذا يسعى ماركس الى هكذا متعة أمام مثل هذا الأعتراف الصريح بحتمية هذه الشروط الأساسية للنظام الرأسمالي. وكتب معقبا:’ ان اي.ج. ويكفيلد يتمتع بميزة عظيمة لأنه أكتشف، ليس شيئا ما جديد عن المستعمرات، بل، الحقيقة السائدة عن العلاقات الرأسمالية في البلد الأم... الا وهي ان نمط الأنتاج الرأسمالي وتراكمه، وبالتالي الملكية الخاصة للرأسمالية أيضا، تمتلك للحفاظ على الشرط الأساسي لوجودها، الحق في أبادة تلك الملكية الخاصة التي ترتكز على عمل الفرد نفسه، وبكلمات أخرى، الحق في مصادرة العامل.‘وحقيقة ان ماركس أختار هذا كجملة ختامية لمجلده تقول لنا الكثير حول نواياه التأليفية. ولو كان أنتهى بمظلات تنفجر شظايا و من يصادر ينتهي بمصادرته من قبل آخرين، لربما يمكن اعتبار رأس المال، جوهريا، بمثابة عمل نبوئي حول الزوال المحتم للرأسمالية. بدلا من ذلك، يلتفت، ثانية، نحو الضحايا لا الى المضطهدين، تاركا أيانا مع تصريح، مرة اخرى، عن الدافع المهيمن: مهما كان قدرها، فان
الرأسمالية، سواء استمرت في الحياة 100 سنة أو 1000 ، لاتحيا الا بالاستغلال.

والآن عدنا الى حيث بدأنا، الى جهنم أرضية تشابه النسخة الدنيوية ل جحيم الكاتب الأيطالي العظيم دانتي (1265 – 1321) في ملحمة " الكوميديا الآلهية ". هنا يسأل فيرجيل دانتي في النشيد رقم 5 من فصل المطهر ’ما ذا يهمك ما يتهامس الناس به هنا؟ أتبعني ودع الناس يتكلمون........

ولأن ما يحتاجه ماركس هو شخص مثل فيرجيل كي يقوده، ينقح السطر في مقدمته للمجلد الأول من رأس المال لكي يحذر انه لن يقدم أي تنازل لأنحيازات الآخرين:’الآن، كما دائما، فأن مبدأي الأساسي هو مثل مبدأ ذلك الفلورنسي العظيم:[امض في طريقك ودع الناس يتكلمون.]‘. فمنذ البدء، اذن، جرى تصور الكتاب(رأس المال) بمثابة نزول باتجاه المناطق السفلية، وعمل ماركس، حتى في غمرة التجريدات النظرية المعقدة، على توصيل احساس مفعم بالحيوية بالمكان والحركة:

دعونا، لذلك، ترك هذه المنطقة الكثيرة الضجيج من السوق، حيث كل مايجري ينفذ أمام الأعين المفتوحة على اتساعها، حيث يبدو كل شيئ مكشوفا ومن غير مواربة. وسنتبع مالك النقود ومالك قوة العمل الى الزاوية المخفية من الأنتاج، عابرين عتبة الباب حيث كتب عليها, ’ ممنوع الدخول لغير البزنس‘. هنا سنكتشف، لا كيف ينتج راس المال فحسب، بل، أيضا، كيف يتم انتاج رأس المال، نفسه. وسنكتشف، أخيرا، سر صناعة فائض القيمة.

وسيجري، غالبا، استرجاع الأحداث الأدبية في مثل هذه الرحلة حينما يمضي ماركس في كتابة عمله. فيحنما يصف مصانع عود الثقاب الأنجليزية، حيث يبلغ عدد الصبيان العاملين نصف عدد العمال (وبعضهم أطفال في سن السادسة من العمر) وظروف عملهم مروعة بحيث ان ماركس كتب قائلا: ’ليس غير الجزء الأكثر تعاسة من الطبقة العاملة، والأرامل اللواتي على حافة الجوع وهلم جرا هم من يدفع الأطفال الى هذه الأماكن، ‘ وأضاف:

وفي يوم عمل يتراوح بين 10 و14 أو 15 ساعة، عمل في الليل، وجبات طعام بلا انتظام، ووجبات تؤخذ، معظمها، الى غرف العمل نفسها حيث السموم والفسفور، فأن دانتي سيجد في هذه الصناعة أسوأ قصص الرعب تفوق في قسوتها أكثر بكثير مما يحدث في جحيمه.

وتصور آخر ان الجحيم يوفر اطارا ثانيا لصورته عن الواقع التجريبي:

من الحشد المتنافر للعمال من جميع الحرف والأعمار والجنس، والذين يتدافعون حولنا بالحاح أكثر مما تدافعت ارواح المذبوحين حول عوليس، والذين نرى، وبنظرة عجلى، آثار العمل الأضافي بادية عليهم، و من دون الأشارة الى الكتب الزرقاء تحت آباطهم، لنختر شخصين آخرين حيث يبرهن التناقض الصارخ ان الرجال، كلهم، متشابهون أمام وجه رأس المال – صانع القبعات النسائية و حداد.

هذه هي كلمات قصة تدور حول ميري آن ولكلي، شابة في العشرين من عمرها ماتت’بعد عمل دون انقطاع لأكثر من 26 ساعة وهي تصنع القبعات لضيوف حفلة راقصة أقامتها أميرة ويلز عام 1863. صاحبة عمل ميري (’سيدة ذات اسم لطيف هو أليز‘، كما أشار اليها ماركس بسخرية) أصابها الفزع لأنها اكتشفت ان الشابة ميري ماتت دون أن تكمل جزءا من الملابس المبهرجة التي كانت ميري تطرزه.

واذا لم تكن هذه الشخصيات موجودة، لربما أضطر الروائي الكبير تشارلز ديكنز على خلقها. هناك نكهة ديكنزية في الكثير من صفحات رأس المال وكان ماركس يعبر عن ايماءات واضحة، بين الفينة والفينة، الى مؤلف لطالما أحبه.هنا، مثال عن كيف يمسح فيها ماركس الأرض بالمدافعين عن البرجوازية الذين يدعون ان توجيهه النقد الى تطبيقات معينة للتكنولوجيا تفضحه كعدو للتقدم الأجتماعي الذي لايريد استخدام الماكنة على الأطلاق:

هذه، بالضبط، محاججة بل سايكس السفاح الشهير. ’سادتي المحلفون، لاشك ان رقبة هذا الرحالة التجاري قد ذبحت. هل يجب من أجل ازعاج مؤقت كهذا، تحريم استخدام السكين؟ فكروا فحسب! ماذا سيكون عليه أمر الزراعة والتجارة من دون وجود السكين؟ اليست السكين مفيدة في الجراحة وذات مهارة، كذلك، في علم التشريح؟ وهي، ايضا مساعدا طوعيا على مائدة العيد؟ اذا الغيتم السكين – فأنكم ستقذفون بنا الى الوراء لنرجع الى أعماق عهود البربرية.‘

وبل سايكس لم يلق مثل هذه الخطبة في رواية أوليفر تويست التي كتبها ديكنز: هذا مجرد تقدير استقرائي ساخر دبجه ماركس. وسيقول ماركس أحيانا’ أنهم عبيدي‘ وهو يومئ الى كتبه المصفوفة على الرفوف، مضيفا:’ويجب أن يتولوا خدمتي كما أريد.‘ ومهمة قوة العمل هذه
(الكتب) التي تعمل دون أجر، ان تقوم بتوفير المواد الخام التي تمكنه، عندئذ، من تشكيلها لأغراضه الخاصة. وكتب احد صحفيي جريدة شيكاغو تربيون الأمريكية والذي زار ماركس عام 1878 وأجرى مقابلة معه قائلا:’ حديث ماركس لايجري في وتيرة واحدة فقط، بل يتنوع تنوع مجلدات الكتب على رفوف مكتبته، وبالامكان الحكم على أي انسان، عموما، من خلال الكتب التي يقرأها، وتستطيع تشكيل استنتاجك الخاص عندما اخبرك ان نظرة عجلى عفوية على رفوف مكتبة ماركس كشفت لي عن شكسبير، ديكنز، ثاكاري، موليير، راسين، مونتيني، بيكون، غوته، فولتير، توماس بين، كتب أنجليزية، أمريكية وفرنسية زرقاء، مؤلفات فلسفية وسياسية باللغات الروسية، الألمانية، الأسبانية، الأيطالية، الخ، الخ.‘ الى آخره حقا: ففي عام 1976 كتب البروفسور أس. أس. براور مؤلفا من 450 صفحة مكرس كليا لأشارات ماركس الأدبية. فاثمر المجلد الأول من رأس المال مقتطفات من الأنجيل، شكسبير، غوته، ميلتون، فولتير، هوميروس، بلزاك، دانتي ، شيلر، سوفوكليس، افلاطون، ثوسيديديس ( مؤرخ أثيني 460؟ - 400 ؟ ق.م. )، زينوفون ( مؤرخ وقائد عسكري يوناني 431 – 355؟ ق.م. )، ديفو، سرفانتس، درايدن، هاينة، فيرجيل، جوفينال ( شاعر روماني 60؟ - 135؟م.)، هوراس، توماس مور، صاموئيل بتلر – اضافة الى اشارات ضمنية الى حكايات الرعب تدور حول مصاصي الدماء والأشخاص الممسوخين ذئابا، كتب الفتيان الألمانية، الروايات الأنجليزية الرومانطيقية، الأغاني الشعبية، الأغاني و الأغاني المقفاة، الميلودراما والمسرحيات الهزليةالساخرة، الأساطير والأمثال.

ماهي المنزلة الأدبية ذاتها ل رأس المال؟ كان ماركس يعرف ان منزلته لن تكون ثانوية لأن رأس المال لم يقم الا بمجرد عرض مقتطفات باهرة من نتاجات الآخرين الأدبية. وقام ماركس في المجلد الأول من رأس المال بالأعلان عن استهانته بأولئك الأقتصاديين الذين ’يتخفون وراء استعراض متبجح للمعرفة الواسعة للتاريخ والأدب، أو عبر خليط من المادة الغريبة، واحساس بعجزهم العلمي ووعيهم الخفي بأن عليهم تقديم تعاليم للآخرين فيما هم أحسوا فيه على اعتباره موضوعا غريبا حقا‘. وكان ماركس يعتريه الخوف انه لربما أقدم، هو نفسه، باقتراف مثل هذه الأساءة وقد يوضح هذا سبب اعترافه المفعم بالألم في خاتمة الطبعة الثانية ل رأس المال بانه’ لن يستطيع أحد أن يشعر بمواطن الضعف في رأس المال شعورا قويا أكثر مني‘. مع ذلك، من المدهش انه حتى القلة القليلة جدا من الناس لم يخطرعلى بالها ان تعتبر رأس المال ك كتاب أدبي. لقد حوم رأس المال على نصوص لاتحصى من أجل تحليل نظرية ماركس قيمة العمل أو من أجل قانونه عن تضاؤل نسبة الربح، لكن حفنة من النقاد، فقط، قد أولوا انتباها جديا الى طموح ماركس الأدبي المعلن – ألا وهو، وعبر رسائل عديدة الى أنجلز – سعيه وراء انتاج عمل فني.


لربما يوجد عائق واحد يتمثل في أن بنية رأس المال المتعددة الطوابق تستعصي على أي تصنيف سهل. اذ يمكن قراءته على اعتباره رواية قوطية ضخمة حيث يستعبد ابطال الرواية ويدمرون من قبل وحش هم خلقوه ( ’ رأس المال الذي جاء الى العالم ملطخا بالدم المتخثر من أعلى الى اسفل ويرشح دما من كل مسامة في جسده‘)، أو ك ميلودراما من العصر الفيكتوري ( وحتى الكاتب أس. اي. هامان أقترح في دراسته لعام 1962 المعنونة البنك المعقد: داروين، ماركس، فريزر وفرويد كمؤلفين واسعي الخيال عنوانا ينم عند ذكاء لهذه الدراما:’ الرهن العقاري لقوة العمل محبوسا‘)، ويمكن أيضا قراءة رأس المال ك مسرحية هزلية ساخرة سوداء، لأن ماركس (في فضحه زيف ’الموضوعية الشبيهة بالشبح‘ للبضاعة والتي تفشي أسرار الأختلاف بين المظهر البطولي والحقيقة المخزية، يستخدم الأساليب الكلاسيكية ل لكوميديا، معريا درع الفارس الشهم ليكشف عن رجل صغير بدين لا يغطي عيوبه غير سرواله التحتي)، وبالمستطاع من زاوية أخرى قراءة رأس المال ك تراجيديا اغريقية. وكما كتب سي. فرانكل في مؤلفه ماركس والفكر العلمي المعاصر ( و مثل اوديب فان الممثلين في مسرحية ماركس عن التأريخ الأنساني هم في قبضة الضرورة التي لاترحم والتي تكشف عن نفسها مهما فعل الرجال. ومع ذلك، فأن كل ما يربطهم بهذا القدر هو عماهم التراجيدي ذاته وافكارهم الثابتة ذاتها، مما يمنعهم من رؤية الحقائق الا بعد فوات الأوان‘). او لربما ان رأس المال ليس الا يوتوبيا هجائية مثل أرض هوينهنمس في رواية رحلات غوليفر التي الفها جوناثان سويفت حيث تبهج كل مشاهدها عدا الانسان الذي لايعرف الا الخسة: وفي نسخة ماركس عن المجتمع الرأسمالي، كما هو الحال مع الفردوس الزائف الفروسي ل سويفت حيث جرى خلق جنة عدن كاذبة عن طريق مسخ البشر العاديين الى منزلة الياهو (واحد من جنس البهائم له شكل الأنسان وجميع رذائله) العاجزين جنسيا والذين يسحقهم الأغتراب.

وأشبع ماركس، من أجل انصاف المنطق المعتوه للراسمالية، نصوصه بالتعابير الساخرة، تعابير فاتت، مع ذلك، على انتباه معظم الباحثين الكبار لمدة 140 سنة. اما الأستثناء الوحيد كان الناقد الأمريكي أدموند ويلسون الذي حاجج في كتابه باتجاه محطة فنلندا: دراسة في كتابة وتمثيل التاريخ (1940) بأن قيمة تجريدات ماركس – رقصة البضائع، القيمة المهرجة ذات القطبة المتصالبة – هي أساسا عبارة عن تعبيرات ساخرة، توضع كما هي الى جانب المشاهد المثيرة للأشمئزاز الموثقة جيدا للتعاسة والقذارة التي خلقتها عمليا قوانين الراسمالية. وأعتبر ويلسون رأس المال بمثابة باروديا (محاكاة تهكمية) للأقتصاد الكلاسيكي’وحالما نقرأ[ه] مرة واحدة لاغير ، فأن الأعمال التقليدية التي تدور حول الأقتصاد لن تبدو لنا أبدا انها الشيئ نفسه مرة أخرى: نستطيع، دائما، ان نرى عبر مجادلاتهم وأرقامهم حقائق العلاقات الأنسانية الخام والتي تضع القناع على أغراضهم أو آثارها‘. واعتقد ويلسون انه لم يمتلك أحد، أبدا، مثل هذه البصيرة السايكولوجية المعصومة عن الخطأ والتي استطاعت ان تخترق القدرات اللانهائية للطبيعة الأنسانية والتي تسعى الى البقاء غير واعين أو لامبالين للآلام التي نلحقها بالآخرين عندما تسنح لنا الفرصة للأستيلاء على شيء ما من الآخرين لصالح أنفسنا.’وأصبح كارل ماركس، بتعامله مع هذه الثيمة، واحدا من العباقرة العظام لفن الهجاء. وماركس، بالتأكيد، أعظم كاتب ساخرمنذ جوناثان سويفت، ويمتلك الكثير من الخصائص المشتركة معه.‘

يبدو هذا الثناء متسما بالغلو تماما أو لايمكن تصديقه أبدا بحيث يحتاج الى أدلة داعمة. لذلك لنتوجه الى كتاب نظريات فائض القيمة ، الذي يطلق عليه بالمجلد الرابع من رأس المال والذي نشر بعد وفاة مؤلفه ففيه يروي ماركس المحاولات المختلفة للأقتصاديين الكلاسيكيين التمييز بين العمل ’المنتج‘ و’غير المنتج‘. ووضع آدم سميث، في الخانة الثانية(غيرالمنتجة)’رجال الدين، المحامين، الأطباء، رجال الأدب من جميع الأنواع، اللاعبين، المهرجين، الموسيقيين، مغني الأوبرا، راقصي الأوبرا...الخ‘ وهؤلاء جميعا’يمكن اعالتهم من قبل قسم من الأنتاج السنوي من صناعة الناس الآخرين‘. لكن هل هذا التمييز واضح تماما، حقا، وبسيط؟ ويقترح ماركس بأن أي مهنة يمكن تصورها تستطيع ان تكون منتجة، وانطلق في اثبات ذلك بمثال مضحك بشكل واضح:

ينتج الفيلسوف الأفكار، الشاعر القصائد، القس المواعظ، البروفسور الكتب وهكذا. المجرم ينتج الجرائم. واذا نظرنا بعناية أكبر قليلا العلاقة بين الفرع الأخير من الأنتاج والمجتمع ككل، سنقوم بتخليص أنفسنا من احكام مسبقة عديدة. فالمجرم لاينتج جرائم فحسب بل قانون جرائم أيضا، وكذلك أيضا البروفسور الذي يلقي المحاضرات عن قانون الجرائم واضافة الى ذلك هذا الكتاب المحتم الذي سيدون فيه نفس البروفسور محاضراته وينشره ليطرح في السوق العام ك’بضاعة...‘

وينتج المجرم، علاوة على ذلك، الشرطة برمتها، النظام القضائي، مسوؤلي الأمن، القضاة، الجلادون، المحلفين...ألخ وكل هذه الأنواع المختلفة من المهن، والتي تشكل بالتساوي فئات عديدة من تقسيم العمل الأجتماعي، تطور طاقات مختلفة من الروح الأنسانية وتخلق حاجات جديدة وطرقا جديدة لأشباعها. والتعذيب، لوحده، قدم دافعا لظهور أكثر المخترعات الميكانيكية براعة، واستخدم حرفيين شرفاء عديدين في انتاج آلات التعذيب.

وينتج المجرم انطباعا أخلاقيا جزئيا ومأساويا جزئيا، كما تظهر هذه الحالة، وتقدم بهذه الطريقة بهذه الطريقة’خدمة‘ بأستثارة مشاعر الجمهور الأخلاقية والجمالية. ولم يقتصر ماركس على انتاج الكتب عن قانون الجريمة فحسب، ليس فقط حول مجموعة قواعد الجزاء ومعها تشريعات المشرعين في هذا المجال، بل أنتج، أيضا، كتبا عن الفن، الأدب المحض، الروايات وحتى التراجيديات، ليس فقط عن عرضي سشولد لمولنر و راوبر لشيلر بل، أيضا، في اوديب(سوفوكليس) وريتشارد الثالث(شكسبير).[ لوكان ماركس حيا، اليوم، لكتب مضيفا انه لولا وجود الجريمة لما وجد في الوقت الحاضر روائي الجريمة البريطاني جون غريشام ولا مسلسل المحقق البوليسي الأنجليزي مورس ولا توني سوبرانو بطل مسلسل المافيا الامريكي المشهور ولا حتى الجاسوس البريطاني جيمس بوند.] فالمجرم يكسر رتابة الأمن اليومي للحياة البرجوازية. ويقي المجرم، بالتالي، هذه الحياة من حالة الركود ويكون باعثا على مستوى من التوتر القلق والحذر والذي من دونهما سيصاب حتى حافز المنافسة بالبلادة...

يمكن عرض تأثيرات المجرم على تطور قوة الأنتاج وبالتفصيل. هل كان بأمكان الأقفال ان تصل، أبدا، الى درجتها الحالية من الأتقان لو لم يكن هناك لصوص؟ هل بامكان عملية صنع الأوراق النقدية ان تصل الى مرتبتها الحالية من الكمال لو لم يوجد مزورون؟... واذا تركنا عالم الجريمة الخاصة: هل بمستطاع السوق العالمي، أبدا، ان يظهر الى الوجود لولا وجود الجريمة على المستوى الوطني، وهل بأمكان حتى الأمم، في الواقع، ان تظهر؟ أليست شجرة الخطيئة هي نفسها شجرة المعرفة منذ أيام آدم؟

وكما قال أدموند ويلسون، هذا يمكن مقارنته بأقتراح جوناثان سويفت المتواضع لعلاج تعاسة آيرلندا عن طريق أقناع الفقراء الذين يتضورون جوعا بأكل اطفالهم الفائضين.

لكن حتى ويلسون ضاعت في النهاية عليه، على أية حال، حبكة الموضوع. فبعد بضع صفحات فقط من كيل المديح لبصيرة ماركس السايكولوجية الحاذقة ورفعه الى مصاف عباقرة الهجاء، يعلن احتجاجه على’فجاجة الدافع السايكولوجي الذي يشكل الأساس لوجهة نظر ماركس عن العالم ‘ ويرفع شكواه بأن النظرية التي أقترحت في رأس المال هي’ ببساطة، مثل الدياكتيك، نظرية ابتدعها ميتافيزيقي لم يعلن أبدا تنازله عن العرش أمام الأقتصادي في ماركس‘. ويبدو هذا التصريح مثل تلك المراجعات النقدية التي دبجها الألمان عند صدور المجلد الأول من راس المال، والذين أتهموا ماركس ب’ السفسطة الهيغلية ‘- تهمة ما أسعد ماركس، وقتها، بأن يعلن بانه مذنب بها، معترفا بأنه قام باستلهام أسلوب هيغل في التعبير في مقاطع عديدة من رأس المال. أما أساليب الغزل الديالكتيكية مع هيغل والتي ضايقت مشاعر أدموند ويلسون فجميعها تتجانس مع التعابير الساخرة التي يكن لها ماركس اعجابا رفيعا جدا: كلا التكنيكين يمثلان واقعا واضحا لفضح أسرار ذنوبه. وكما علق الفيلسوف الأمريكي روبرت بول في محاضرة له عام 1984 ’ انه نوع غريب من الأطراء أن تطلق على كاتب أنه أعظم متهكم منذ جوناثان سويفت، وبعدئذ تحكم على أكثر جهوده الفكرية جدية بأنها ميتافيزيقيا غريبة الأطوار‘.

ماالذي، اذن، يربط بين خطاب ماركس الأدبي الساخر وروايته ’الميتافيزيقية‘ عن المجتمع البرجوازي؟ أو، كما وضع وولف السؤال: لماذا توجب على ماركس الكتابة بالطريقة التي فعلها اذا كان عليه انجاز المهمات الفكرية التي وضعها لنفسه، لو كان يرغب بأنتاج نصا مباشرا من الأقتصاد الكلاسيكي كان بوسعه فعل ذلك – وهو فعل ذلك حقا. ألقى ماركس محاضرتين في شهر حزيران/يونيو عام 1865 طبعتا لاحقا في كتاب تحت عنوان القيمة، السعر
والربح ، وتقدم هاتان المحاضرتان خلاصة مختصرة ورائقة للنقاط الأساسية لنظريات ماركس التي تدور حول البضائع والعمل:’رجل ينتج مادة من أجل استخدامه المباشر، لكي يستهلكها بنفسه، يخلق منتوجا لكنه ليس بضاعة... بضاعة ما لها قيمة لأنها تمثل الخلاصة المتبلورة عن العمل الأجتماعي ... أما السعر موصوفا بذاته فهو لاشيئ غير التعبير النقدي للقيمة... وما يبيعه العامل ليس عمله بشكل مباشر، بل قوة عمله، بيع مؤقت يعرضه على الرأسمالي...‘ وهكذا. ومهما تكن مزاياه كتحليل أقتصادي والذي يمكن لطفل ذكي يمكنه أن يفهمه: لا استعارات معقدة أو ميتافيزيقيا، لا أستطرادات ملغزة أو نزهات فلسفية ولا تبجحات أدبية. اذن، لماذا رأس المال الذي يمسح نفس الأرض مختلف تماما في الأسلوب؟ هل فقد ماركس، فجأة، موهبة الكلام الواضح. ونقول بجلاء تام: كلا. فالوقت الذي ألقى فيه ماركس هاتين المحاضرتين كان يكمل، أيضا، المجلد الأول من رأس المال. يمكن ايجاد مفتاح اللغز في واحدة من المتشابهات الجزئية القليلة ذاتها التي سمح ماركس لنفسه بأيرادها في كتاب القيمة، السعر والربح عندما كان يوضح اعتقاده بأن الأرباح تظهر من خلال بيع البضائع بسعرها’الحقيقي‘ وليس كما قد يفترض أحد من أضافة ثمن أضافي. وكتب ماركس قائلا:’ يبدو هذا تناقضا وعلى الضد من الملاحظة اليومية. ومتناقض، أيضا، أن تدور الأرض حول الشمس، وأن الماء يتكون من غازين سريعي الأحتراق جدا. ان الحقيقة العلمية متناقضة على الدوام، اذا تم الحكم عليها استنادا على التجربة اليومية والتي تقبض، فقط، على الطبيعة المضللة للأشياء.‘

ان وظيفة المجاز تكمن في دفعنا للنظر الى شيئ ما بشكل جديد بتحويل خواصه الى شيئ ما آخر، تحويل المألوف الى شيئ غريب والعكس بالعكس. واقترب لودوفيكو سيلفا الناقد المكسيكي لماركس الى المعنى الاتيمولوجي (دراسة اصل اللغات وتأريخها) لل ’ استعارة ‘ على انها عملية انتقال للمحاججة بأن الرأسمالية ذاتها هي استعارة، صيرورة تغريب والتي تزيح الحياة من كونها فاعل الى كونها مفعول بها، من قيمة استعمال الى قيمة تبادل، من الأنساني الى الأشد بشاعة. وبهذه القراءة فان الأسلوب الأدبي الذي تبناه ماركس في رأس المال لم يكن مظهرا خادعا زاهي الألوان يجري تطبيقه على لوح كالح من نوع آخر للشرح الأقتصادي، انها اللغة الوحيدة المناسبة التي يجري عن طريقها التعبير عن ’ الطبيعة المضللة للأشياء ‘، مشروع أنطولوجي (ذو علاقة بعلم الوجود) لايمكن تقييده في نطاق حدود وأعراف اي نوع بحثي قائم مثل الأقتصاد السياسي، علم الأنثروبولوجي أو التأريخ. أن مجلدات رأس المال ، بأختصار، هي عمل فريد برمته. ولا يوجد أي عمل يماثله في العبقرية، على أي مستوى، سواء في ما مضى أو منذ صدورها – ولربما هذا هو السبب في انه يجري، على الأغلب، اهمالها، أو يساء فهمها أو تفسيرها.



يتبع الفصل الرابع



#سعدي_عبد_اللطيف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ ترجمة س ...
- كتاب : -كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ الفصل ...
- كتاب : -كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين
- من أجل السلام الذي ترعاه: أحمد مختار مشرفاً موسيقياً في مشرو ...


المزيد.....




- في نطاق 7 بنايات وطريق محدد للمطار.. مصدر لـCNN: أمريكا ستقي ...
- المبعوث الأممي إلى ليبيا عبد الله باتيلي يستقيل ويعتبر أن -ل ...
- لجنة أممية تتهم إسرائيل بعرقلة تحقيقها في هجمات 7 أكتوبر
- فيديو: -اشتقتُ لك كثيرًا يا بابا-... عائلات فلسطينية غزة تبح ...
- برلين ـ إطلاق شبكة أوروبية جديدة لتوثيق معاداة السامية
- رئيسي: ردنا المقبل سيكون أقوى وأوسع
- نتنياهو: حرب غزة جزء من تهديد إيرن
- -حزب الله- يستهدف مقرات قيادة ومراقبة جوية للجيش الإسرائيلي ...
- الجيش الأردني يكثف طلعاته الجوية
- مناورات تركية أمريكية مشتركة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعدي عبد اللطيف - كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ الفصل الثالث