أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعدي عبد اللطيف - كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ ترجمة سعدي عبد اللطيف - الفصل الثاني















المزيد.....



كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ ترجمة سعدي عبد اللطيف - الفصل الثاني


سعدي عبد اللطيف

الحوار المتمدن-العدد: 3877 - 2012 / 10 / 11 - 18:32
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    



كتاب: "كارل ماركس - قصّة حياة" Karl Marx - A Life
تأليف: فرانسيس وين Francis Wheen
ترجمة سعدي عبد اللطيف
تقديم: د. حسين الهنداوي
لندن / ٢٠١٢

المحتويات
- المقدمة
- الفصل الاول: التحفة المجهولة
- الفصل الثاني: الحمل الطويل
- الفصل الثالث: الولادة
- الفصل الرابع: ما بعد الحياة

الفصل الثاني:
الحمل الطويل
رغم أن رأس المال يعد مؤلفا اقتصاديا عادة، إلا أن انكباب كارل ماركس على دراسة الاقتصاد السياسي جاء لاحقا على قضائه لسنين طويلة في دراسة معمقة للفلسفة والادب.اذ لم ترتفع دعائم مشروع حياته ذاك الا على تلك الأسس الفكرية، فيما منحته تجربته في الاغتراب رصانة رفيعة في تحليل النظام الاقتصادي الذي حول البشر الى غرباء عن بعضهم البعض كما عن العالم الذي يعيشون فيه، العالم الذي تستعبد الانسان فيه السلطة المفرطة البشاعة والعديمة الروح لرأس المال والبضاعة.

لقد كان ماركس نفسه مغتربا منذ لحظة ولادته في 5 آيار/ مايو 1818 في مدينة تريير الكاثوليكية لكن المنتمية الى دولة بروسيا البروتستانتية الأنجيلية في مذهبها الرسمي. ورغم ان منطقة الراين الحقت بفرنسا اثناء حروب نابليون، الا أنها ضمت الى بروسيا الامبراطورية قبل ثلاث سنين من ولادته. فلا عجب ان يكون كارل ماركس الشاب قد أطال التفكير في مفهوم الأغتراب مبكرا. اذ كتب في خاطرة مدرسية تعود الى السابعة عشرة من عمره:’نحن لا نستطيع دوما بلوغ الموقف الذي نعتقد بوجوب أن نوصف به، وذلك لأن علاقاتنا مع المجتمع تبدأ بتأسيس نفسها، الى حد ما، قبل أن نصل الى المرحلة التي نتمكن فيها من تحديد شكل هذه العلاقات.

بدأ ماركس الاستغراق في القراءة منذ طفولته، فيما ساعد الألحاق السابق لمدينته بفرنسا في انتشار شغف فرنسي الميل نحو مجالات السياسة والدين والحياة والفن. أما التأثير الفكري الآخر الذي لعب دورا في حياة الصبي ماركس فقد جاء من معلمه الخاص البارون لودفيغ فون فستفالم الليبرالي الواسع الثقافة الذي درسه (مع ابنته جيني فون فستالن، زوجة كارل ماركس في ما بعد) الشعر والموسيقى. وأثناء جولات المشي الطويلة، كان البارون ينشد مقاطع شعرية من هوميروس وشكسبير، سرعان ما حفظها رفيقه الفتى عن ظهر قلب، ليستخدمها لاحقا كتوابل أساسية في كتاباته. وسبق لماركس ان استعاد، في شبابه، ذكريات تلك الجولات الجميلة مع البارون حينما كان ينشد مشاهد شعرية من شكسبير او دانتي او غوته أمام افراد عائلته وهم يتنزهون، أيام ألعطل، في حدائق هامبستيد هيث الساحرة. وقد كتب البروفسور س. س. برور أن كل فرد من عائلة ماركس كان مضطرا للعيش في ظل أجواء مثيرة من اشارات متواصلة الى الأدب الانجليزي، اذ لكل مناسبة ثمة مقتبس أدبي: لمسح الأرض بخصم سياسي، لأعادة الحياة الى نص متخشب، لضخ الدفء في نكتة، لبث المصداقية في الاحاسيس- أو لبعث النبض في مفهوم تجريدي لاروح فيه، كما هو الحال (في المجلد الأول من رأس المال)عندما جعل رأس المال يتكلم عبر صوت شايلوك (مسرحية تاجر البندقية لشكسبير) مبررا استغلال عمل الاطفال في المصانع.

فعندما احتج العمال ومفتشو المصانع عليه مستندين الى قيم اخلاقية وصحية، تصدى رأس المال مجيبا:

أنا وحدي المسوؤل عن افعالي
اريد تطبيق القانون وتوقيع العقوبة
وتطبيق احكام العقد

وللبرهنة على أن النقود تلعب دورا جذريا كرافعة، يورد ماركس مقتطفا من تيمون الأثيني (شكسبير)’النقود هي البغي المشتركة بين البشر‘، يليه مقتطف آخر من أنتيغونا سوفوكليس (النقود! النقود هي لعنة الانسان، ليس هناك لعنة أكبر!/ النقود هي من يخرب المدن، من ينفي الرجال من أوطانهم/ تغوي وتخدع الارواح الفائقة الصفاء/تدفع الناس الى طريق الخسة والعار...‘). كما شبه الأقتصاديين الذين يقدمون تحليلات تنطوي على مفارقات تاريخية بـ دون كيشوت الذي ’انزل به القصاص لأنه تخيل خطأ بأن ترحال الفرسان الهائمين على وجوههم يتناغم بشكل متساو مع كل الاشكال الاقتصادية للمجتمع‘.

كانت طموحات ماركس، في البداية، أدبية محضة. فعندما كان طالبا للحقوق في جامعة برلين ألف ديوانا شعريا، ومسرحية شعرية وحتى رواية بعنوان العقرب وفيلكس كتبت على عجل في نوبة من نزوات الانتشاء اثر وقوعه تحت سحر الرواية الكوميدية المشهورة تريستان شاندي التي ألفها الروائي البريطاني لورنس ستيرن (1713-1768). لكن ماركس اعترف بالهزيمة بعد هذه التجارب: ’فجأة، كما لو أنها لمسة سحرية – آه، كانت اللمسة أول ضربة ساحقة – وقع نظري على المملكة النائية للشعر الحقيقي مثل قصر ناء لعبقر واستحالت مخلوقاتي الى لاشيء...اسدلت الستارة، وأقدس أقداسي تحطم الى شظايا، وتوجب رفع آلهة جديدة.‘ وبعد تعرضه الى مايشبه الانهيار العصبي، أمره الطبيب أن يتوجه الى الريف للأخلاد الى فترة نقاهة طويلة، وهناك استسلم، في النهاية، الى الصوت الحميم ل جورج فيلهلم فريدريك هيغل، استاذ الفلسفة في برلين الراحل للتو الى العالم الآخر، لكن الذي غدت مؤلفاته موضوعا لنقاشات ساخنة بين مريديه من الطلبة وكذلك اساتذتهم. وهيغل كان في شبابه مثاليا ونصيرا متحمسا للثورة الفرنسية، بيد أنه تحول، في كهولته، ليغدو رخي البال لينا ومؤمنا ان الانسان الناضج حقا يجب ان يسلم بـ ’الضرورة الموضوعية لعالمنا ومعقوليته كما يجدها‘. فوفقا لهيغل، ’كل ما هو واقعي معقول‘، ولذا فقد جادل أنصار هيغل المحافظين بان الدولة البروسية مادامت واقعا فهي موجودة بهذا المعنى، دون أي شك، وبالتالي فانها معقولة وفوق أي نقد. أما اولئك الذين ظلوا يؤمنون بمفاهيم هيغل المبكرة ويطلق عليهم –’الهيغليون الشباب‘– وكانوا أكثر راديكالية بكثير، فانهم فضلوا الأستناد على النصف الثاني من ذلك المفهوم الذي ينص على ان:’كل ما هو عقلاني واقعي.‘ فنظام ملكي مطلق دعامته الاساسية مراقبو المطبوعات والشرطة السرية لايمثل العقلانية باي شكل صريح ولذلك فهذا النظام غير واقعي، انما مجرد سراب سيتلاشى حالما يجرأ أحد على المسّ به.

وعن ايامه في الجامعة يقول ماركس:’عمدت، في العادة، على التقاط مقتطفات من جميع الكتب التي قرأتها‘- وهي عادة لم يتخل ماركس عنها مطلقا. وتظهر قائمة قراءاته في تلك الفترة مدى نضجه المبكر في حفرياته الفكرية. فحينما كان يكتب دراسة عن فلسفة القانون، قام بدراسة تفصيلية عن تاريخ الفن الذي ألفه وينكلمان، كما بدأ يعلم نفسه الانجليزية والايطالية، وترجم كتابي جيرمانيا ل تاسيتوس و الخطابة لأرسطو، وقرأ مؤلفات الفيلسوف الانجليزي فرانسيس بيكون، وقال:’قضيت وقتا طويلا ممتعا مع ريماروس، وانكب عقلي ببهجة على كتابه الذي يدور حول الغرائز الفنية للحيوانات‘. وهذا الاسلوب المتشعب المصادر، النهم القراءات، المهتم بتلمس كل جوانب الموضوع هو ذاته الذي استخدمه في بحثه حول رأس المال مانحا مجلداته اتساعا استثنائيا في مصادره. وفي اطروحته لنيل الدكتوراه المعنونة’ الاختلاف بين الفلسفتين الـديموقريطسية والابيقورية‘ يبدو توصيف ماركس ل ديموقريطس وكأنه رسم لصورة ملفتة للنظر لذات ماركس نفسه:’كان شيشرون يطلق على ديمقريطس تسمية:ضليع في الفيزياء، وفي علم الاخلاق، والرياضيات، وفروع المعرفة الانسكلوبيدية وفي كل واحد من انواع الفنون.‘

وبدا الدكتور* كارل مارس، لفترة من الزمن ، غير واثق من افضل السبل لأستخدام معرفته الموسوعية. فقد فكر، بعد حصوله على الدكتوراه، أن يعمل كمحاضر للفلسفة لكنه قرر، بعدئذ، أن قربه زمانيا ومكانيا من أساتذة الجامعات أمر لايمكن ان يطاق’من يريد ان يفرض عليه، دوما، التحدث مع مخلوقات فكرية لافائدة فيها، اناس واظبوا على الدراسة، فقط، من اجل التوصل الى غايات جديدة لاحياة فيها في كل زاوية من العالم!‘. اضافة الى ذلك، كانت أفكار ماركس تتحول، منذ تخرجه من الجامعة، من المثالية باتجاه المادية، من المجرد الى الواقع. وكتب عام 1842’مادامت كل فلسفة حقيقية ما هي الا خلاصة زمانها، يجب أن يأتي زمان تصبح فيه الفلسفة ليس على اتصال مع العالم الواقعي ليومها فحسب، بل ومتفاعلة معه، ليس فقط داخليا عبر مضمونها، بل خارجيا عبر شكلها أيضا.‘ وبدأ، في ذلك الربيع، يكتب في صحيفة راينسش زيتنغ الليبرالية الجديدة التي تصدر في كولون، وبعد ستة اشهر فقط عين رئيسا للتحرير فيها.
* الدكتور لقب يحرص بعض البريطانيين اطلاقه، تحببا، على ماركس .

واتسم عمل ماركس في الصحافة باندفاعه الجريء مما يفسر سبب امضائه معظم حياته في المنفى والعزلة السياسية. فمقالته الاولى ذاتها احتوت على هجوم ساحق على كل من تعصب للنظام الاستبدادي للدولة البروسية من جهة وعلى خصومها الليبراليين البلهاء من جهة اخرى. كما انه لم يكتف بخلق اعداء له بين اوساط الحكومة والمعارضين لها معا، بل استدار على رفاقه انفسهم، شاجبا لدى الهيغليين الشباب ’فظاظتهم وبذاءة لسانهم‘. وبعد شهرين فقط من تسنم ماركس لمسوؤلية رئاسة تحرير الجريدة، أمر حاكم المقاطعة من مسوؤلي رقابة المطبوعات في برلين بتقديمه للمحاكمة بسبب’نقده الوقح والمهين‘. فيما ناشد نيقولاي، قيصر روسيا، الملك البروسي الامر باغلاق الجريدة، بعد ان شن ماركس هجوما على القيصر وحكومته في مقالات ساخرة عنيفة. وهكذا صدر الامر باغلاق الجريدة في آذار/مارس 1843، حيث كان لماركس من العمر 24 عاما عندما جند قلمه لاشاعة الفزع في التيجان الجاثمة على دول أوربا مثيرا سخط ملوكها. وعندما ادرك ماركس ان لا مستقبل له في بروسيا قبل دعوة للأنتقال الى فرنسا للعمل كرئيس تحرير مشارك لجريدة جديدة يصدرها المنفيون الالمان باسم دويتش - فرانزوسش جاهربوشر. لكن ماركس ارسل توضيحا واحدا فقط :’عقدت خطوبتي واتهيأ للزواج، ولن استطيع ولا يجب ولن اغادر المانيا من دون خطيبتي.‘

تزوج كارل ماركس جيني فون فستفالن في حزيران/يونيو 1843. واثناء بقية فصل الصيف، عندما كان ينتظر استدعاء الجريدة له الى باريس، تمتع بقضاء شهر عسل طويل مع زوجته في منتجع كرويزناخ. وحينما كان لايمضي وقته بالتمشي غرب النهر، كان يلزم غرفته يقرأ ويكتب بنهم شديد. فقد كان ماركس يحب كتابة افكاره التي يتوصل اليها على الورق. وتظهر صفحة بقيت من دفتر ملاحظاته آنذاك صيرورة عمله:

"ملاحظة. تحت حكم لويس السادس عشر، الدستور نعمة على الناس من الملك (وثيقة فرضها الملك)، وتحت حكم لويس فيليب، الدستور نعمة من الناس على الملك ( وثيقة تفرض الملكية). وعموما يمكننا ملاحظة ان تحويل المسند اليه الى مسند، والمسند الى مسند اليه، وتبديل من يقرر الى ما يقرر، يمثل دوما ثورة قريبة جدا.... فالملك يضع القانون(الملكية القديمة)، القانون يصنع الملك(الملكية الجديدة).

بيد ان قلب القواعد البسيط هذا يكشف أيضا عن خلل في الفلسفة الالمانية. فقد افترض هيغل ان ’فكرة الدولة‘هي الفاعل والمفعول به هو المجتمع، في حين ان التاريخ اظهر ان العكس هو الصحيح. بيد ان قلب هيغل رأسا على عقب يحل بناتجه المشكلة:فالدين لا يصنع الانسان بل الانسان يصنع الدين، والدستور لايخلق الشعب بل الشعب يخلق الدستور. ورغم ان ماركس استلف الفكرة من لودفيغ فيورباخ ، الذي جادل في كتاب له أن’ الفكرة تنهض من الوجود، وليس الوجود من الفكرة‘ فان ماركس وسع منطقها من الفلسفة المجردة الى العالم المادي. وكما كتب في اطروحة حول فيورباخ نشرت عام 1845، ’ان الفلسفات لم تقم حتى الآن إلا بتقديم تفسيرات للعالم والمطلوب الآن تغييره.‘هنا، على شكل نطفة بعد، الاطروحة الاساسية لمجلدات رأس المال. فالرأسمالية تظل، رغم النجاحات الاقتصادية الباهرة والواضحة، تلعب دورا كارثيا لأنها تحول الناس الى مجرد سلع قابلة للمقايضة بسلع اخرى. وحتى تلعب الانسانية دورها المؤكد في كونها فاعلا للتاريخ وليس مفعولا به، فليس هناك مهرب من استبداد الراسمالية.

كان اعضاء الهيئة الثلاثية المشرفة على جريدة دويتش - فرانزوسش جاهربوشر، وهم كارل ماركس، والصحافي آرنولد ريوج والشاعر جورج هيروغ، قد وصلوا الى باريس في خريف عام 1843 واسسوا تعاونية اشتراكية أي كومونة في منطقة ريو فانيو، تلهمهم التعاليم الطوباوية للفيلسوف الاشتراكي الفرنسي شارل فورييه. وكانت حياة تجربة العيش في ظل الكومونة قصيرة الأمد مثل حياة الجريدة نفسها:بعد عدد واحد اختلف المحررون الثلاثة مع بعضهم وتفرقوا. بعد ذلك، قبل ماركس عرضا بالكتابة في جريدة فورفاتس الشيوعية النصف شهرية التي كان يصدرها المنفيون الالمان، والتي عرض ماركس على صفحاتها لاول مرة قناعاته بان الوعي الطبقي يمثل بذور الاخصاب للثورة. اذ قال فيها ان ’البروليتاريا الالمانية تلعب دور المنظر للبروليتاريا الأوربية، بالضبط كما تلعب البروليتاريا الانجليزية دورها الاقتصادي والبروليتاريا الفرنسية دورها السياسي‘. وذلك قبل ان يعلن أنجلز لاحقا ان الماركسية ذاتها هي مزيج من هذه الروافد الثلاثة. وكان ماركس، في هذه الفترة، احكم القبض على زمام الفلسفة الالمانية وعلم السياسة الفرنسي، وتوجب عليه بعدهما تثقيف نفسه بالاقتصاد البريطاني، فبدأ يقرأ مؤلفات آدم سميث ، ديفيد ريكاردو وجيمس مل مدونا بعجالة تعليقاته النقدية على كل صفحة يمر عليها في مؤلفاتهم. هذه التعليقات النقدية، التي جمعت في كتاب ونشرت تحت عنوان مخطوطات باريس تمثل المسودات الاولى لما غدت عليه لاحقا مجلدات رأس المال.

وتبدأ اول مخطوطة بتأكيد مباشر:’يحدد الاجور الصراع الضاري بين الراسمالي والعامل. ويكسب المعركة الراسمالي حتما. يستطيع الرأسمالي الاستمرار في الحياة مدة اطول من دون العامل، لكن العامل لا يقدر على ذلك من دون الراسمالي.‘ واذا كان رأس المال لاشيئ غير الثمار المتراكمة لجهود العمال، فاذن، فان روؤس اموال البلاد ودخلها لا تنمو الا عندما ’تستلب من العمال منتوجاتهم اكثر فاكثر، وعندما يواجه العامل باضطراد عمله كملكية غريبة عنه وتتركز تصاعديا وسائل وجود العمال وجهودهم بايدي الراسمالي‘. وحتى في اكثر الظروف الاقتصادية ملائمة، فان مصير العامل سيواجه، حتما ’ظروف كدح اشد، وموت مبكر، اختزاله الى آلة، وعبودية لرأس المال‘. ويصبح عمله كائنا خارجيا’يوجد خارجه، مستقلا عنه وغريبا عليه، ويبدأ بمواجهة العامل كسلطة ذات حكم ذاتي، والحياة التي نفخها العامل على الشيئ يواجهه ككائن عدواني وغريب‘. هذه الصورة استمدها من رواية فرانكشتاين(كتبتها ماري شيلي زوجة الشاعر الرومانطيقي الشهير شيلي) وهذه الرواية احد الكتب المحببة الى نفس ماركس، وتحكي قصة رجل يخلق في مختبره وحشا، فينقلب الوحش ضد خالقه. ورغم ان بعض الباحثين الكبار يدعون ان هناك’قطيعة جذرية‘ بين فكر ماركس الشاب وماركس الراشد، فان تحليلات ماركس وتعبيراتها المذهلة تشي بكل وضوح على ان كاتبها هو ماركس نفسه الذي جادل في رأس المال، بعد اكثر من 20 سنة، بان الوسائل التي تزيد الراسمالية بها الانتاج تتمثل بـ’تحويل العامل الى شبح لأنسان، تحط من انسانيته الى حد تحويله الى آلة، تدمر المضمون الحقيقي لعمله بتحويل هذا العمل الى نوع من التعذيب، وتدفعه الى الاغتراب عن الطاقات الفكرية الكامنة في صيرورة العمل.... تحول زمن حياته الى زمن للعمل، وتجر زوجته واطفاله الى مطحنة الراسمالية الساحقة‘.

في شهر آب/اغسطس 1844 عندما كانت جيني زوجة ماركس تزور امها في المانيا، جاء فردريك أنجلز، وكان عمره 23 عاما لزيارة ماركس في باريس. كان ماركس وانجلز قد التقيا، سابقا، بشكل سريع، لمرة واحدة فقط، في مكتب جريدة راينسش زيوتنغ، وكان ماركس معجبا بشكل عميق بكتاب انجلز المعنون ’نقد الاقتصاد السياسي‘ والذي قدمه الى جريدة دويتش– فرانزوسش جاهربوشر. ويستطيع المرء القول لماذا:رغم ان ماركس يعتقد ، لآن، بان القوى الاجتماعية والسياسية تحرك عجلة التاريخ، لكن مايفتقده هو المعرفة المباشرة بالرأسمالية في التطبيق. وكان أنجلز مؤهلا أن ينير له الطريق، فهو ابن ووريث الماني لصناعي يملك مصانع للقطن في مانشستر – قلب الثورة الصناعية ومولد الرابطة المناهضة لقانون الحبوب (تقييد حرية تصدير واستيراد الحبوب الذي أدى الى حركات احتجاج واسعة النطاق اذ ادت الى ارتفاع كبير في اسعار الخبز)، مدينة كبيرة تعج بالحركات التشارتية (منظمات انجليزية في القرن التاسع عشر هدفت الى تحسين اوضاع الطبقة العاملة من الناحتين الاجتماعية والصناعية)، أنصار روبرت أوين(مصلح اجتماعي واشتراكي بريطاني) والنشطاء الاشتراكيون من كل الالوان. انتقل انجلز الى مقاطعة لانكشاير في خريف عام 1842، ظاهريا، لتعلم مهنة العائلة ، وفي الحقيقة، قصد الأطلاع على العواقب الانسانية التي أدت اليها الرأسمالية في ظل العهد الفيكتوري. وكان انجلز، في النهار، مديرا شابا ماهرا في بورصة القطن، وبعد ساعات يغير وجهته، ويمضي وقته متحريا شوارع البروليتاريا واحياء الفقراء القذرة في المدينة لجمع مواد لرائعته المبكرة، وضع الطبقة العاملة في انجلترا (1845).

ورغم ان ماركس وانجلز قضيا سوية 10 ايام فقط في باريس، الا ان الجرد الوحيد لنقاشاتهم الملحمية وردت على شكل جملة واحدة فقط كتبها أنجلز بعد 40 سنة:’عندما زرت ماركس في باريس خريف عام 1844، غدا واضحا اتفاقنا التام في جميع المجالات النظرية وبدأ عملنا المشترك منذ ذلك التاريخ.‘ لقد اكملا بعضهما بشكل تام – ماركس بثروة معلوماته، وأنجلز بخبرته بالثروة. كان ماركس يكتب ببطء ومعاناة، وتتناثر على صفحات مخطوطاته كثرة من الاشياء المحذوفة بالحبر والتصحيحات، بينما كانت مخطوطات انجلز مرتبة و أنيقة وكأنه، حقا، من رجال الاعمال. كان ماركس يعيش حالة من الفوضى والفقر المدقع معظم حياته، فيما كان انجلز يتسلم راتبا ممتازا ويواصل انتاجا هائلا من الكتب والرسائل والمقالات الصحفية – ويجد ، في الوقت نفسه، الوقت للتمتع بمستوى عال من الحياة البرجوازية – اذ كانت هناك حصن في اصطبلاته والكثير من النبيذ في قبوه. ومع ذلك، برغم ايجابيات الحياة الواضحة لصالحه، كان أنجلز يعرف منذ البدء انه لن يكون ابدا الرفيق المهيمن في هذه الشراكة. وتقبل دون اية شكوى اوغيرة، بان واجبه يتمثل في أن يقدم الدعم الفكري والمادي الذي يجعل من حياة ماركس وعمله أقل عناء. وكتب يقول:’لا أستطيع، ببساطة، أن أفهم كيف يستطيع احد أن يحسد عبقريا، فالعبقرية شيئ خاص جدا، ونحن الذين لانملكها يجب أن نعرف، منذ البدء، انه حق لايمكن الحصول عليه، وعليه أن تكون حاسدا لعبقري فلا يعني ذلك الا أنك، بالتأكيد، صغير العقل بشكل مرعب.‘

لم تكن هناك بينهما أسرار أو محرمات:المراسلات بينهما ماهي الا مزيج لاذع من التاريخ ونقد الآخرين، اقتصاديات ملغزة ونكات تلاميذ المدارس. وأدى أنجلز دوره كراع بديل لماركس – يبعث له بالنقود ليقتات بها، يهتم أكثر ما ينبغي بتفاصيل حياته الصحية ويحذره دائما بالا يهمل ابحاثه. ومن أوائل الرسائل المتبقية في شهر تشرين الثاني /نوفمبر 1844، كان يحث فيها ماركس بالحاح، ودون تأخير، بتحويل ملاحظاته السياسية والاقتصادية الى كتاب للنشر:’اسع الى اطلاق المواد التي جمعتها الى العالم بسرعة. لقد أزف وقت ذلك، و أنت أدرى بذلك، بحق السماء!‘ وبدأ صبر أنجلز ينفذ بعد ثلاثة شهور:’حاول أن تكمل كتابك في الاقتصاد السياسي حتى لو كان الكثير فيه مما لايرضيك، لايهم الامر حقا، فالعقول قد نضجت ويجب أن نوجه ضربتنا مادام الحديد ساخنا...حاول، لذلك، أن تنهيه قبل شهر نيسان، نظم أمرك كما أفعل، ضع لنفسك موعدا أخيرا تكمل فيه الكتاب بلا ريب، وتأكد أن تدفعه الى الطبع سريعا.‘ ’ الا أن كل هذا ماهو الا أمل لايرتجى:اذ مرت 20 سنة قبل أن يسلم المجلد الاول من رأس المال الى المطبعة.

وليس أنجلز نفسه برئ تماما من اللوم هنا. فبعد فترة قصيرة من لقائه بماركس في باريس، اقترح أنجلز التعاون معا في كتابة كراس قصير – لا يتعدى ال 40 صفحة يتضمن نقدا للهيغليين الشباب الأكثر حماسا. وبعد ان أكمل نصيبه مسطرا 20 صفحة في ايام معدودة، لم’تصب أنجلز الدهشة الا قليلا‘عندما عرف بعد عدة شهور الى ان الكراسة انتفخت، حينها، الى 300 صفحة. كان ماركس من نوع الكتاب الذي لا يستطيع مقاومة الاغراء، مفضلا قضاء متعة مباشرة في تسطير الكراسات والمقالات على الجهود الصامتة التي لا بهجة آنية فيها التي يتطلبها العمل في تحفته، التي عنونت,حينها، مؤقتا ب نقد الاقتصاد والسياسة.وبرغم وعده بتسليم المخطوطة الاقتصادية الى الناشر الالماني كارل ليسكه عند حلول نهاية صيف 1854، فانه وضع المخطوطة جانبا بعد ان كتب جدول المحتويات ليس الا. وأوضح للناشر ليسكه، ’الامر المهم جدا، كما يبدو لي، ان يسبق تطوري الايجابي تأليف تفنيد عنيف مثير للجدل ضد الفلسفة الالمانية والاشتراكية الالمانية حتى الوقت الحاضر. وهذا ضروري من اجل تهيئة الرأي العام لوجهة النظر التي تبنيتها في افكاري الاقتصادية، التي تتعارض تماما مع الابحاث الالمانية في ماضيها وحاضرها... واذا تطلب الامر، تستطيع الاطلاع على الرسائل العديدة جدا التى وصلتني من المانيا وفرنسا للبرهنة على ان هذا المؤلف ينتظره الجمهور على أحر من الجمر.‘ وهناك حكاية مشابهة:والامر يتعلق بكتاب الآيدلوجيا الالمانية الذي لم يجد ناشرا الا عام 1932.’لقد تخلينا عن المخطوطة كي تقضمها فئران النقد‘كتب ماركس’اما كل ماانجزناه، وبرغبتنا الجارفة له هدف اساسي – الا وهو القيام بتوضيح امور ذاتية. ‘

ومع ذلك، فما يزال ماركس، حتى الان، غير قادر أو راغب ان يولي مؤلفه الاقتصادي أدنى اهتمام. اذ ستتوالى الانقطاعات الفكرية المثيرة للجدل في السنوات المقبلة مرارا: بؤس الفلسفة ، كتاب تقريعي لاذع من 100 صفحة موجه ضد بيير جوزيف برودن ( فيلسوف فوضوي فرنسي، مؤلف كتاب فلسفة البؤس الذي اعتبر فيه ان الملكية سرقة)، رجال المنفى العظام عبارة عن هجاء مسهب ضد’المغفلين المعروفين‘ و’الديمقراطيين الأوغاد‘ المنتشرين بين الدياسبورا الاشتراكية، التاريخ الدبلوماسي السري للقرن الثامن عشر، ويتضمن هجوما عنيفا ضد الدولة الروسية، قصة حياة اللورد بالمرستون، الذي حاول ماركس فيه البرهنة على ان وزير الخارجية البريطاني كان عميلا سريا لقيصر روسيا و هر فوغت، وهو هجوم ساحق ضد بروفسور العلوم الطبيعية في جامعة بيرن الذي جلب على نفسه غضب ماركس فوصف فوغت بالدجال و الطفيلي. وترنم ماركس مع نفسه بمرح وهو يضيع الجزء الافضل من السنة على عداوته مع فوغت’ واحدة بواحدة ، اخذ الثأر يدفع العالم الى الدوران، ‘

وما عرقل تطوير عمله الغليانات الداخلية المتواصلة. ففي كانون الثاني/ يناير1845، احتج المبعوث البروسي الى الملك الفرنسي لويس فيليب ضد مقالة كتبها ماركس في مجلة فورفارتس يسخر فيها من الملك البروسي فريدريك ولهلم. وأغلق وزير الداخلية الفرنسي المجلة وأمر بطرد ماركس من فرنسا. والملك الوحيد في اوربا الذي قبل لاستضافته في بلاده كان ملك بلجيكا ليوبلد الاول، وفقط بعد ان استلم وعدا مكتوبا بان ماركس لن ينشر’أية مقالة تتطرق الى الاوضاع السياسيةالحالية‘. وأفترض ماركس ان ذلك لا يمنعه، بالضرورة، من المشاركة في النشاطات السياسية، فقام بدعوة أنجلز للالتحاق به في بروكسل، حيث أسسا لجنة المراسلة الشيوعية لضمان ’التبادل المتواصل للرسائل‘مع المجاميع الاشتراكية في اوربا الغربية. وفي عام 1847 حولت اللجنة نفسها الى فرع ل الرابطة الشيوعية المشكلة حديثا في لندن، والتي طلبت من ماركس تحرير مسودة بيان يوضح مبادئها. واستجاب بان قدم للرابطة بيان الحزب الشيوعي ، الكراس الذي هو، ربما، الأكثر انتشارا وتاثيرا عبر التاريخ كله.

وكان ماركس، عندما كتب المانيفستو في الاسابيع الاولى من 1848، يعتقد ان الراسمالية البرجوازية قد خدمت غرضها وسيجري، قريبا، دفنها جراء تناقضاتها ذاتها. فالصناعة الحديثة، بدفعها، حتى الآن، العمال المعزولين بعضهم عن بعض نحو المصانع والمعامل، خلقت الظروف ذاتها التي مكنت البروليتاريا من توحيد قوة لاتقاوم.’فالبرجوازية، لذلك، تنتج، فوق كل هذا، حفاري قبرها.‘ ولأن ماركس كان يعتقد انه يتمرن على خطبة الجنازة، لم يقدر، على أية حال، الا أن يكون كريما تجاه عدوته المندحرة. ووصف أحد النقاد البيان الشيوعي’كاحتفال غنائي بمآثر البرجوازية‘، والقارئ عندما يطلع ، لاول مرة، على البيان، سيصاب بالدهشة، على الاغلب، بالمديح الذي يكيله بسخاء على العدو البرجوازي:

لقد لعبت البرجوازية في التاريخ دورا ثوريا للغاية.

فحيثما استولت الرجوازية على السلطة سحقت تحت اقدامها جميع العلاقات الاقطاعية والبطريركية والعاطفية، وحطمت دون رأفة الصلات المزخرفة التي كانت في عهد الاقطاعية تربط الانسان ب ’سادته الطبيعيين‘ ولم تبق على صلة بين الانسان والانسان الا صلة المصلحة الجافة والدفع الجاف’نقدا وعدا‘. وأغرقت الحمية الدينية وحماسة الفرسان ورقة البرجوازية الصغيرة في مياه الحساب الجليدية المشبعة بالانانية، وجعلت من الكرامة الشخصية مجرد قيمة تبادل لاأقل ولاأكثر... ان البرجوازية لاتعيش الا اذا ادخلت تغييرات ثورية مستمرة على ادوات الانتاج، وبالتالي على علاقات الانتاج، أي على العلاقات الاجتماعية باسرها.

وسيكرر ماركس هذه الثيمات بطريقة اكثر عمقا وتعقيدا في رأس المال ، لكن لم يحن الوقت، الآن، بالتوسع في هذا الموضوع. فكلا من جملة البيان الافتتاحية (’هناك شبح يجول في اوربا – هو شبح الشيوعية‘) وجملة الختام المساوية في الشهرة (’فلترتعش الطبقات الحاكمة امام الثورة الشيوعية .... ياعمال العالم اتحدوا!‘) تؤكد ان هذه قطعة دعائية، وان تكن قطعة من ذكاء لانظير له، كتبت في عجالة في وقت بدت فيها الثورة وشيكة الحدوث.

ويا للحظ السعيد! فالثورة اشتعلت، حقا، في الاسبوع الذي نشر فيه البيان في شهر شباط/ فبراير من عام 1848، أولا في باريس، وبعدئذ، انتشر لهيبها بسرعة في أرجاء معظم القارة الاوربية. وعقب تنازل الملك لويس فيليب عن العرش واعلان الجمهورية الفرنسية، أمرت الحكومة البلجيكية التي اصيبت بالذعر ماركس بمغادرة البلاد في غضون 24 ساعة ومنعه من العودة الى الابد. ولحسن الحظ، فان ماركس كان تلقى، لتوه، دعوة من الحكومة المؤقتة في باريس:’ماركس الطيب والمخلص... الاستبداد نفاك، اما الآن، فان فرنسا الحرة تفتح ابوابها لك ولكل اولئك المناضلين من اجل القضية المقدسة، قضية الاخوة بين جميع الشعوب.‘ وتوجه، بعد مكوثه شهرا واحدا فقط في باريس، الى مدينة كولون املا في نشر الثورة في المانيا. أما سلاحه المفضل، كما في اغلب الاحوال، الكلمة المطبوعة:لذلك، أسس جريدة يومية جديدة، نيو راينسش زيوتنغ، والتي تعرضت الى مضايقات رسمية متواصلة عبر عمرها القصير. وتم تقديم ماركس، في شهر تموز/يوليو الى المحكمة ل’اهانته المدعي العام والتشهير به‘ وفي شهر ايلول/ سبتمبر، وبعد اعلان الاحكام العرفية، جرى تعليق اصدار الجريدة لمدة شهر، وفي شهر شباط/ فبراير التالي، وعندما انطفأت، تماما، أي امكانية للثورة، وجه اتهام لماركس ب ’تحريضه على الثورة‘لكنه استطاع اقناع هيئة المحلفين، عبر تقديمه خطبة رائعة من قفص الاتهام، باخلاء سبيله. واخيرا، قامت السلطات البروسية، في شهر آيار من عام 1849 بتقديم نصف هيئة التحرير الى المحاكم، وقررت طرد النصف الآخر الى خارج البلاد، ومن بينهم ماركس، الذي اسقطت عنه جنسيته.

وعاد ماركس الى باريس في شهر حزيران/ يونيو 1849 ليجد المدينة تحت القبضة الحديدية للملكيين وانتشار وباء الكوليرا. وأصدرت السلطات امرا رسميا بنفيه الى منطقة موربيهان في مقاطعة بريتاني والتي تعاني من داء الملاريا، مما دفعه الى اللجوء الى البلد الاوربي الوحيد الذي لايمانع في استضافة الثوريين غير المرغوب بهم في بلدانهم. وهكذا ابحر يوم 27 من شهر أب/اغسطس 1849 متوجها الى بريطانيا التي بقي فيها حتى وفاته عام 1883. وكتب أنجلز رسالة الى ماركس من سويسرا التي كان يقوم بزيارتها يقول فيها’يجب أن تتوجه الى لندن فورا. ففي لندن سنبدأ بالتركيز على عملنا.‘
وبعد وصوله الى لندن بشهور قليلة، جذب انتباه كارل ماركس موديلا متحركا لماكنة قطار تعمل بالكهرباء كان معروضا في نافذة محل في ريجينت ستريت. ويورد شاهد ان’ماركس اصبح مهتاجا و ومستثارا‘، ليس من وقع الابتكار عليه بل من العواقب الاقتصادية التي يتضمنها. وأخبر زملائه المدهوشين’تم حل المشكلة – أما النتائج فيصعب التنبؤ بها.يجب أن تولد الثورة السياسية، بالضرورة، من رحم الثورة الاقتصادية، لأن الثورة السياسية ما هي الا تعبير عن الثورة الاقتصادية.‘ ولا يبدو محتملا أن اي شخص آخر توقف عند هذا المحل في ريجنت ستريت ليفكر في النتائج الاقتصادية والسياسية ل حصان طروادة الحديدي هذا، أما المهم، بالنسبة لماركس، فان موديل ماكنة القطار يمتلك قدرات هائلة من العسير تحديدها.

وبعد حصوله على هوية تتيح له دخول مكتبة المتحف البريطاني في شهر حزيران/يونيو 1850، قضى معظم السنة التالية يقرأ كتب الاقتصاد والاعداد السابقة لمجلة الأيكونومست. وادعى في شهر نيسان/ أفريل عام 1851 انه ’قرأ، لحد الآن، معظم مواد الاقتصاد بحيث سأنتهي، تماما، من قراءة بقية مواد الاقتصاد في غضون الخمسة اسابيع المقبلة. وبعد انجاز ذلك، سأكمل قراءة مواضيع الاقتصاد السياسي في البيت، لأتفرغ، بعدها، لدراسة فرع آخر من فروع المعرفة في المتحف البريطاني‘. وكان يجلس في غرفة القراءة في المتحف البريطاني من الساعة التاسعة صباحا حتى الساعة السابعة مساء في معظم الايام، لكن بدا له انه لاتوجد، هناك، نهاية للواجب الذي ألقاه على عاتقه. وكتب في شهر حزيران/ يونيو:’الموضوع الذي أعمل عليه معقد حد اللعنة، ومهما بذلت من جهود، لن أنتهي منه الا في غضون ستة الى ثمانية اسابيع على الاقل. وهناك، اضافة الى ذلك، معوقات دائمة ذات طابع عملي، وهي حتمية تتمثل في الظروف التعيسة التي تحاول فرض البلادة علينا هنا.... ‘

ومنذ لحظة وصولهما الى لندن، جابه ماركس وزوجته جيني أزمة تلو اخرى. فهناك ثلاثة اطفال، ولد رابعهم في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1849. وجرى طردهم من سكنهم في تشيلسي في شهر آيار/مايو 1850 لعدم قدرتهم على دفع الايجار، ووجدوا سكنا مؤقتا في دين ستريت في حي سوهو، حيث قضوا صيفا تعيسا وصل الى حد الفقر المدقع قبل الانتقال الى مسكن دائم يقع في نهاية الشارع. واصبحت جيني حاملا مرة اخرى ومريضة على الدوام. وهب أنجلز الى انقاذهم بان ضحى بطموحاته الصحفية في لندن وعاد للعمل في مكتب أرمين وأنجلز في مدينة مانشستر حيث بقي هناك عشرين عاما. ورغم ان انتقال أنجلز الى مانشستر كان يهدف، في الغالب، الى تقديم العون لصديقه الألمعي المفلس، الا انه كان هدف آخر ايضا، يتمثل في أن يلعب أنجلز نوعا من دور فصيل استطلاع خلف خطوط العدو، كي يرسل الى ماركس تفاصيل سرية مهمة عن تجارة القطن وملاحظاته كخبير عن حالة الاسواق الدولية – اضافة الى دفعات منتظمة من النقود تتسرب من صندوق الادخار البائس او من الارباح الحرام الموجودة في الحساب المصرفي للشركة.

و بقيت عائلة ماركس، حتى مع هذه الاعانات النقدية، تعيش مستوى من الفقر يصل الى حدود اليأس. فالأثاث وتجهيزات الغرفتين كلها مكسورة وبالية او ممزقة، وتوجد طبقة كثيفة من الغبار على كل شيئ. وينام جميع من في الشقة – الوالدان، الاطفال ومدبرة المنزل – في غرفة صغيرة في الخلف، أما الغرفة الاخرى فتستخدم للدراسة، للعب الاطفال وكمطبخ. واستطاع جاسوس للشرطة البروسية، عبر الخداع، من القيام بزيارات عدة الى شقة ماركس، فكتب تقريرا رفعه الى أسياده في برلين يقول فيه أن ماركس’يحيا حياة فكرية بوهيمية حقيقية...ورغم انه لايعمل احيانا لأيام عدة، لكنه يعمل، في الغالب، ليل نهار دون كلل وبصبر كبير عندما يجد أمامه اعمال كثيرة عليه تنفيذها. ولا يتبع أوقات محددة للأخلاد للنوم أو الاستيقاظ. ويبقى يعمل، أغلب الاحيان، طوال الليل، ثم يتمدد عند الظهر، بكامل ملابسه، على الاريكة، ليغط في نوم عميق، غير آبه برواح ومجيئ العالم كله.‘ وتتخلل، هذا الوجود الفوضوي، مآس منزلية. فقد توفي، فجأة، الطفل الاصغر غايدو جراء نوبة من التشجنات في تشرين الثاني/ نوفمبرعام 1850، وتوفيت ابنتهما فرانسيسكا التى تبلغ عاما واحدا في عيد الفصح عام 1850 بعد نوبة حادة من الالتهاب الشعبي، وتوفي الابن المحبوب الاخر ادغار، جراء داء السل، في شهر آذار عام 1855. وفقد ماركس صوابه من الحزن وتقدم الى الامام، عندما كان الكفن ينزل في القبر، وكاد يرمي نفسه في القبر مع ابنه، وفزع المعزون ومنعته الأيادي في اللحظة الاخيرة.

وكتب أنجلز رسالة تعزية بعد موت فرانسيسكا’ليت أن هناك سبيلا ما تستطيع من خلاله الانتقال الى منطقة ذات جو صحي أفضل ومسكن اكثر رحابة.‘ واذا كان الفقر المدقع قتل فرانسيسكا أم لا، هيمنت هذه الفكرة، بالتأكيد، على حيوات عائلة ماركس. فالدائنون الغاضبون–القصابون، الخبازون وموظفوا المحاكم المكلفين استرداد الديون–واصلوا، كل يوم تقريبا، طرق الباب الامامي مطالبين بدفع الديون. وكتب ماركس في شهر شباط/ فبراير 1852 قائلا ’وصل الامر، الاسبوع الماضي، الى حد مضحك، بحيث لم أعد استطيع الخروج من الشقة لعدم قدرتي على استرداد معطفي الذي وضعته قيد الرهن، ولم اعد آكل اللحم لعدم استطاعتي الاقتراض، ‘. وكشف لأنجلز، بعدفترة من السنة نفسها’لم أعد أطعم عائلتي، في الايام الثمانية الماضية، الا الخبز والبطاطا فقط، اما اذا كان بمقدوري، اليوم، اطعام عائلتي أيا من الخبز والباطا، فاني اشك في ذلك....كيف استطيع ايجاد مخرج من هذه الورطة الجهنمية ؟‘. في ذلك الوقت، كان ماركس يحصل على مرتب منتظم كمراسل في اوربا لصحيفة نيويورك ديلي تربيون حيث كان يكتب مقالين في الاسبوع لها مقابل جنهين استرليين(2 باوند)، لكن حتى مع معونات أنجلز الاضافية لم يكن هذا يسد رمق العائلة–مما أضاف سببا آخر على عجزه عن تركيز ذهنه على تحفته الاقتصادية.

وكتب ماركس في شهر حزيران/يونيو 1851’لكن، برغم كل ذلك، فاني اوشك، سريعا، على الانتهاء من تأليف الكتاب، و تجيئ أحيانا فترات اجبر فيها على الانقطاع عن الكتابة.‘ ويظهر هذا جانبا كوميديا من عدم معرفة الذات: فماركس يستطيع الانقطاع تماما عن الاصدقاء وارتباطاته السياسية، لكنه لا يتمتع، ابدا، بترف الانقطاع عن الكتابة–وعلى الاخص ألانقطاع عن الاستمرار في تأليف هذا الكتاب، الذي يمثل خلاصة وافية واسعة من الاحصائيات واالتاريخ والفلسفة التى كشفت للعيان، ولاول مرة، الاسرار المخجلة للرأسمالية. وكلما توسع ماركس في البحث والكتابة كلما ابتعد موعد اكمال تأليف الكتاب. وكتب أنجلز في شهر تشرين الثاني/ نوفمبرعام 1851 ناصحا ماركس’اكرر ان أهم شيئ يجب ان تفعله، ودون اي تأخير، ان تنشر علنا وبكتاب يزخر بالتفاصيل... من الجوهري تماما أن تكسر سحر الترقب الذي خلقته بغيابك الطويل عن سوق الكتب في المانيا.‘ ووضع المشروع، جانبا، مرة اخرى، ضحية، ل’الانقطاعات المستمرة‘. فبعد الانقلاب، مباشرة، والذي جرى في فرنسا في شهر كانون الاول/ديسمبرعام 1851 انكب ماركس على كتابة مؤلفه الشهير الثامن عشر من برومير للويس بونابرت بطلب من الاسبوعية الامريكية الجديدة داي رفلوشين. وبذرت السنوات القليلة التالية، على الاغلب، في الخصومات وتسديد النقاط في مواضيع مثيرة للجدل مع زملاءه المهاجرين. وجادل ماركس أن هذه كانت تدخلات سياسية جوهرية اكثر من كونها تجليات عن غضبه لأن مسيحيي الاشتراكية الدجالين –اذا ماتركوا دون فضح– سيجتذبون الى صفوهم جماهيرا أكثر مما تفعله الملكيات الاصيلة. وأعلن ماركس’انني منهمك في صراع حتى الموت مع هؤلاء الليبراليين المزيفيين، ‘.

وما دفعه الى الرجوع، في آخر الأمر، الى دراساته الاقتصادية الوصول الجلي للزلزال المالي الدولي في خريف عام 1857 والذي جرى انتظاره طويلا. ابتدأ الزلزال بانهيار بنك في نيويورك، لتنتشر الازمة، كأنها القيامة تعدو باقصى سرعتها، في النمسا، المانيا، فرنسا وانجلترا. وهب أنجلز، الذي كان يتماثل للشفاء من مرضه، بالعودة سريعا الى وظيفته في مدينة مانشستر ليكون شاهدا على المهزلة–هبوط الاسعار المريع، الافلاس اليومي لاصحاب المال والذعر الذي عصف على الاسواق المالية. و كتب أنجلز’كان الجو العام، هنا، في بورصةٍ[القطن] يبعث على البهجة حقا. أما زملائي فقد سخطوا تماما على تفجر معنوياتي العالية المفاجئ والمتعذر تفسيره لهم.‘ واصابت ماركس، ايضا، عدوى لحظة الروح الميلودرامية. وانهمك كل يوم، طول شتاء 1857-1858، في دراسته حتى الساعة الرابعة صباحا، مقارنا بين نصوصه الاقتصادية’من أجل ان أتأكد، على الاقل، من وضوح الخطوط العريضة قبل أن يجيئ الطوفان‘. لكن الطوفان لم يجئ ابدا، غير أن ماركس واصل بناء سفينته، مقتنعا انه سيحتاجها عاجلا أم آجلا. وعندما برهنت حساباته الاولية عدم ملائمتها للصيغة الاقتصادية المعقدة، انهمك في دورة مراجعة سريعة لعلم الجبر موضحا انه’وفقا للمصلحة العامة يتعين عليه، وهذا أمر أساسي مطلق، بحث المادة تفصيليا‘.

أما كتاباته التي سطرها اثناء الليل والتي بلغت 800 صفحة، فهي لم تر النور الى ان أطلقها من الارشيف معهد ماركس وانجلز في موسكو عام 1939، ولم تصبح متوفرة على نطاق واسع الا عند نشر طبعة المانية عام 1953 بعنوان(خطوط عامة في لنقد الاقتصاد السياسي). ورغم سعة الكتاب، فان هذه الغرونديسة تمثل عملا مؤلفا من شظايا–وصفه ماركس نفسه بانه خليط من الافكار–لكنه كان بمثابة الحلقة المفقودة بين مخطوطات باريس عام 1844 واول مجلد ل رأس المال لعام(1867) والذي يقدم توضيحا لاستمرارية افكاره. وفي الغرونديسة مقاطع طويلة عن الاغتراب، الديالكتيك ومعنى النقود والتي تردد صدى مقاطع من مخطوطات عام 1844، أما الفرق الملفت للنظر، تماما، فان ماركس مزج، هنا، بين الفلسفة والاقتصاد في حين كان يتعامل بين هذين العلمين كفرعين منفصلين.(كما لاحظ الكاتب الالماني فرديناند لاسال فان ماركس، هنا’هيغل وقد استحال اقتصاديا، و ريكاردو وقد استحال اشتراكيا‘.) وفي مكان آخر من هذا المؤلف، يمكن قراءة تحليل العمل–القوى و فائض القيمة كانه مسودة للشرح الكامل لهذه النظريات في رأس المال.

وكان ماركس يشير، غالبا الى جهوده في هذه الفترة بانها’خربشات في الاقتصاد‘و تتضمن عبارة الاستخفاف هذه، بالتأكيد، احساس بالذنب. فحتى عام 1845 كان يتظاهر بانه على وشك الانتهاء من بحثه في الاقتصاد السياسي، ويكرر، في السنين الثلاث عشرة التالية، وينوع، في أوقات مختلفة، من ثيمات هذه العبارة بحيث تصاعدت توقعات اصدقاءه الى مستوى لايطاق تقريبا. وبالحكم على الوقت الذي امتد طوله، أفترض هؤلاء الاصدقاء ان هذاالمؤلف سينطوي، حقا، على حزمة من المتفجرات المدوية ستؤدي الى هد صروح الرأسمالية التي لاأساس لها. وساعدت مراسلات ماركس المنتظمة مع أنجلز في مانشستر على ادامة الاوهام على ان بحث ماركس يتقدم بخطوات واسعة. فقد أعلن ماركس، بابتهاج شديد، في شهر كانون الثاني/يناير عام 1858 انه ’اكمل عملية تدمير نظرية الربح كما تصورتها حتى الآن، ‘ أما في الواقع، فان كل مافعله ماركس بعد تلك الايام الطويلة المضنية في المتحف البريطاني، والليالي الاكثر طولا التي صرفها في شقته، كان عبارة عن أكوام من الملاحظات المتناثرة لم يجر نشرها، ملأى بافكار موجزة كيفما أتفق.

وعرض فرديناند لاسال عام 1858 ترتيب عقد لماركس مع ناشر في برلين يدعى دنكر. وأخبر ماركس الناشر بأن’كشفه النقدي لنظام الاقتصاد البرجوازي‘، سيتوزع على 6 كتب، يجب نشرها تباعا–1- رأس المال (ويحتوي بضعة فصول تقديمية).2- ملكية ملاكي الارض.3-العمل المأجور.4- حول الدولة.5- التجارة الدولية.6- السوق الدولية.‘ وسيكون المجلد الاول حاضرا للطبع في شهر آيار/مايو، يتبع ذلك المجلد الثاني في غضون بضعة أشهر وهكذا دواليك. على اية حال، وحالما يواجه ماركس، على الاغلب، مواعيد نهائية، ينتفض جسده احتجاجا. وأفضى ماركس بسره الى أنجلز في شهر نيسان/ابريل عام 1858 ’اشتد علي المرض، هذا الاسبوع، من آلام الكبد بحيث لم أعد قادرا على التفكير، القراءة، الكتابة او عمل أي شيئ حقا، ‘. ووجد آلام الكبد موجعة الى حد انه كلما جلس وكتب بضع ساعات ’توجب عليه التمدد للراحة التامة لعدة أيام‘.

هذه المناحة كانت مألوفة. وعلق أنجلز بعد مرور سنين عديدة عندما كان يعيد قراءة بعض الرسائل القديمة ’باللعجب، اعتدنا تماما على هذه المعاذير لعدم اكماله المجلدات‘. وأعترف ماركس نفسه بأن ’العلة تتوالد، دائما، في ذهني‘. لكن عدم مواظبته على العمل، كانت له، أحيانا، تبريرات حقيقية: فمرة يهجم على ابنته اليانور السعال الديكي، وتطرح زوجته’نوبات عصبية‘, والمسترهن والبائع بالتقسيط يطالبان صارخين بدفع ديونهم. وكتب ماركس مداعبا بحزن، ’لا اعتقد أن أي احد جرب الكتابة عن"النقود" وهو مفلس تماما.‘ ورغم عدم تسطيره أي شيئئ ، تقريبا، خلال الصيف كله، الا انه وعد في نهاية شهر ايلول/سبتمبر 1858 بأن المخطوطة ستكون جاهزة لأرسالها بالبريد في’غضون أسبوعين‘– لكنه أقر بعد شهر أن’أسابيع عدة ستمضي قبل أن يكون بمقدوره ارسالها بالبريد‘. وتآمركل شيئ ضد ماركس:حتى أزمة الاقتصاد الدولي التي تلاشت بعد وقت قصير، مما اشعلت فيه مزاجا حادا ادى الى’وجع اسنان مريع جدا‘.

وفي أواسط شهر تشرين الثاني/نوفمبر، بعد مرور ستة اشهر على الموعد النهائي الاولي تساءل لاسال من ماركس، برقة، نياية عن الناشر الالماني فيما اذا اقترب موعد الانتهاء من الكتاب. وأجاب ماركس بان المماطلة في الموعد ’لا تدل الا على المعاناة التي يمر بها والثمن المستحق مقابلها‘. وأوضح ذلك بالقول:

يبدو اسلوب أي شيئ كتبته أفسدته آلام الكبد. وعندي دافع مضاعف بالا أسمح بهذا العمل ان يتلف على اساس طبي :
فهو ثمرة جهود خمس عشرة سنة من البحث، أي، أفضل سنوات العمر.
يحتوي على وجهة نظر مهمة عن العلاقات الاجتماعية مدعمة بحجج علمية ولأول مرة. لهذا السبب أكون ممتنا ل الحزب أن لا يتعرض هذا المؤلف لأي تشويه عبر اسلوب خشبي ثقيل يتساوق مع كبد عليل....

ساكمل الكتاب في غضون اربعة اسابيع من الآن، لاني بدأت، توا، الكتابة الحقيقية.

وتوجب على لاسال أن يصاب بالدهشة، فقد جرى تطمينه في شهر شباط/ فبراير الفائت بان النص يمر في’مراحله النهائية‘. وأصيب أنجلز، أيضا، بالصدمة. وبعد ارسال ماركس الرزمة آخر الامر، الى برلين في شهر كانون الثاني/ينايرعام 1859 أخبر أنجلز:’أن عدد صفحات المخطوطة يصل الى [192] صفحة – ولا تصاب بالحيرة اذا قلت لك ان عنوان الكتاب هو" رأس المال بوجه عام "، ولا يتضمن شيئا ذا بال، حتى الآن، فيما يخص موضوع رأس المال‘. وبعد كل تلك الجعجعة الصاخبة والمديدة، لم يقدم ماركس أي شيئ ماعدا كتاب نحيف، نصفه عبارة عن ملخصات لنظريات اقتصاديين آخرين، أما القسم الوحيد الذي مايزال يحتفظ بحيويته فهو عبارة عن مقدمة لسيرته الذاتية عن كيفية قراءته ل هيغل و كيف ان عمله الصحفي في جريدة راينسز زيتنغ قاده الى الاستنتاج بان’التحليل البنيوي للمجتمع المدني يمكن االعثور عليه في الاقتصاد السياسي‘.

وأحكم ماركس رباطة جأشه متباهيا بمبالغة، عندما بدأ يلوح في الافق يوم نشر الكتاب الاول، مصرحا بتوقعاته أن يترجم الكتاب – الذي اصبح عنوانه الآن اسهامة في نقد الاقتصاد السياسي – وسيتم الاعجاب به في أرجاء العالم المتحضر. لكن اصدقاء ماركس اصيبوا بالصدمة :فالاشتراكي الالماني المعروف ولهلم ليبكنخت (اغتيل لاحقا مع روزا لوكسمبورغ) قال أن الكتاب كان مخيبا جدا للآمال. ونشرت عروض قليلةعنه. واشتكت جيني ماركس قائلة’ان الامال التي رعيناها خفية تجاه كتاب كارل تحطمت جميعها بمؤامرة صامتة حاكها الالمان‘.

أما الكتاب الثاني فقد ايقظ الغارقون في سبات عميق.

كان من المفروض نشرالكتاب الثاني بعد بضعة شهور. وقام ماركس، الآن، بتعديل الموعد النهائي قليلا، فارضا’حدا اقصى‘ يتمثل في شهر كانون الاول/ ديسمبر عام 1859 لأكمال طريحته عن رأس المال التي جرى حذفها، دون تعليل، من اسهامته النقدية. لكن ملاحظاته الاقتصادية في السنه التالية بقيت على مكتبه دون أن تمس لأنه واصل الكتابة ضد كارل فوغت البروفسور في جامعة بيرن عبر مقالات في الصحف ومجابهة دعاوى في المحاكم بتهم التشهير ونشر كتاب كامل حول الموضوع. وحالما انتهى ماركس من هذه المعركة الجانبية، احتفل ملك بروسيا الجديد بتتويجه واصدر عفوا عن جميع اللاجئين السياسيين، مما أنعش امال ماركس بالعودة الى الوطن واطلاق جريدة على غرار نيو راينسش زويتنغ. وحثته هذه الاخبار على محاولة طويلة - وغير مجدية – لجمع مايكفي للتوجه الى المانيا في ربيع 1861، رحلة يمولها فرديناند لاسال، تتبعها ضيافة بالمقابل عندما قرر لاسال المجئ الى لندن من اجل المعرض الثاني العظيم عام 1862. وتذمر ماركس خلال الاسبوع الثالث من محنته، ’لقد ضيع هذا الزميل وقتي والاكثر من ذلك عبر عن رأي أبله بالقول انني مادمت غير منشغل ب"التأليف" في الوقت الراهن، بل في مجرد" العمل النظري" فمن المستحسن، بالتالي ، قتل الوقت معه!‘

ان سخرية لاسال تجاه’ النظري‘ تحولت الى المهماز الذي يحتاجه ماركس لاكمال كتبه والتي عطلها بشكل كارثي في مبارزته مع البروفسور فوغت. وبعد فراغه من تكليفات صحفية قليلة، التجأ، مجددا، الى غرفة القراءة في المتحف البريطاني، لجمع الذخيرة لشن الهجوم الاخير على الرأسمالية. وملأت الملاحظات التي دونها بين عامي 1862 و 1863 1500 صفحة. وأوضح قائلا’ساتوسع في هذا المجلد مادام اؤلئك الالمان الاوغاد يحترمون قيمة الكتاب على أساس سعته التكعيبية‘. أما المشاكل النظرية التي مني بالهزيمة امامها، حتى الآن، فقد أصبحت واضحة وشفافة ومنعشة مثل كأس من النبيذ الابيض. خذ مثلا مسالة الايجار في الاراضي الزراعية–او ’مشكلة الايجار الخرافية‘، كما وصفها.’لقد ساورتني، لفترة طويلة، شكوك في الصحة المطلقة لنظرية ريكاردو(اقتصادي بريطاني 1722–1823)، وغصت عميقا الى قاع هذا المحتال.‘ وريكاردو لم يفعل أي شيئ عدا انه، ببساطة، خلط خطأ بين القيمة وسعر الكلفة. فأسعار المنتوجات الزراعية، برأيه، أعلى من القيمة الحقيقية (اذا قيست بالزمن–العمل المتضمنة فيها) وبالتالي فمالك الارض يحشو في جيبه الفرق في شكل الايجار الاعلى، لكن في ظل نظام اشتراكي فان فائض القيمة هذا سيجري اعادة توزيعه لمصلحة المزارعين. وحتى لو بقي سعر السوق كما هو، فان قيمة البضائع–’خصوصيتها الاجتماعية‘- ستتغير تماما.

وولدت بهجة ماركس في تقدم ابحاثه تفاؤلا مفرطا.وكتب، في نهاية عام 1862، الدكتور لودفيغ كوغلمان، وهو أحد المعجبين باعمال ماركس، من هانوفر، يسأله متى يتوقع اكمال بقية اسهامة في نقد الاقتصاد السياسي فاجابه ماركس’أما الجزء الثاني فقد انتهيت منه، الان، أخيرا، ولم يبق غير كتابة نسخة نظيفة ووضع اللمسات الاخيرة قبل أن يذهب الى المطبعة.‘ وكشف، ايضا، ولأول مرة ، انه تخلى عن العنوان الثقيل والذي كان يحمل اسم اسهامة في نقد الاقتصاد السياسي، المجلد الثاني. وبمنطق ما معكوس، فان الكتب الكبيرة تستحق عناوين قصيرة، وهكذا’سيظهر الكتاب تحت عنوان رأس المال.

في الواقع، يتطلب الامر كثيرا من اعمال النجارة قبل أن تكون هذه الاخشاب غير المصقولة جاهزة ل’لمسات الاخيرة‘، وسرعان ما جره ما يلهيه عن مشغله. كان ماركس قد امتنع عن جميع الدعوات للأشتراك في المجموعات السياسية الجديدة منذ تفتت الرابطة الشيوعية عام 1850 ل’اعتقادي الجازم بان دراساتي النظرية لها منافع عظيمة للطبقة العاملة أكثر بكثير من الانخراط في منتديات وصلت، الآن، الى أوج ازدهارها‘، لكن الفضول اجتاحه، في شهر سبتمر/ايلول عام 1864، عندما وصلته دعوى من الاجتماع الافتتاحي ل الجمعية الدولية للشغيلة، وهي تحالف انجليزي – فرنسي للنقابيين والاشتراكيين. ورغم حضوره كمراقب غير مشارك فقط، انتخب كعضو جديد في المجلس العام واصبح عام 1865 ، عمليا، زعيما للتحالف.

وكانت هذه الزعامة التزاما اخذت من وقته الكثير. وتصف رسالة كتبها ماركس الى أنجلز في شهر آذار عام 1865 نماذج من انشغالاته خلال الاسبوع:صرفت مساء الثلاثاء وقتي مع المجلس العام، في جو من الجدال استمر حتى بعد منتصف الليل، أعقبه، في اليوم التالي، اجتماع عقد في منطقة كوفنت كاردن احتفالا بمناسبة ذكرى الانتفاضة البولندية، أما يومي السبت والاثنين، فقد كرسا لاجتماعات اللجنة دارت حول’المسألة الفرنسية‘، كلا الاجتماعين استمرا حتى الساعة الواحدة صباحا، وكذلك يوم الثلاثاء الذي شهد مشادة كلامية طويلة وحامية بين أعضاء المجلس العام الانجليز والفرنسيين. وأثناء هذه الاجتماعات’يقتحم آخرون اجتماعاتنا لرؤيتي‘بموضوع يرتبط بمؤتمر حول حق المرأة بالاقتراع يعقد في عطلة نهية الاسبوع القادم. ويتأوه ماركس صارخا:’يا لضياع الوقت!‘. وكذلك كان أنجلز يعتقد أيضا. لماذا يتوجب على صديقه ماركس أن يقضي ساعات للتوقيع على بطاقات العضوية والدخول في معمعة الجدال بين اعضاء اللجنة المشاكسين، في الوقت الذي كان بمقدوره الجلوس على طاولة الكتابة لأكمال رأس المال؟ وحذر أنجلز ماركس بعد نوبة اخرى من المعارك الشرسة بين اعضاء الجنة الفرنسيين’فكرت، على الدوام، بان الرفاقية الساذجة بين اعضاء الجمعية الدولية للشغيلة لن تستمر طويلا، فهذه الرفاقية ستمر بمراحل عديدة اخرى وستستهلك جزءا كبيرا من وقتك.‘

وانتابت ماركس طوال صيف 1865 حالات تقيؤ كل يوم (نتيجة للطقس الحار واضطراب المادة الصفراء) وابتلاءه بالدمامل. وتكلل كل ذلك بفترات انقطاع اجبارية عن الكتابة ضايقت ماركس كثيرا لأن-أخا جيني جاء من المانيا، وزوج الاخت من جنوب افريقيا، وابنة الاخ من ماسترخت. وهناك، ايضا، طابور الدائنين المألوف’يدقون على بابي بالحاح كل يوم، ولم أعد اطيق ذلك ابدا‘. ومع ذلك، وهو في خضم هذه العواصف الهوجاء، كان على وشك الانتهاء من تحفته المجهولة. وفي نهاية السنة، كان رأس المال عبارة عن مخطوطة من 1200 صفحة، مجموعة من أشياء مختلطة بغير انتظام ومن كلمات متقاطعة، وخربشات يتعذر حل الغازها وفي نهار رأس السنة 1866، جلس ليخط نسخة نظيفة، ’لاحسا المولود تنظيفا بعد آلام مخاض طويل‘. ولم يستغرق هذا الامر الا عاما واحدا فقط. ولم تجعله آلام الكبد والدمامل يحيد عن هدفه:أما الصفحات القليلة المتبقاة فقد كتبها وقوفا على طاولة الكتابة عندما أدى انفجار الدمامل الى جعل جلوسه أمرا شديد الأيلام.(أما مادة الزرنيخ، المسكنة المعتادة للآم فانها’تشيع في حالة من البلادة الى حد كبير احتاج فيها الى بذل جهودا مضاعفة لأبقاء عقلي يقظا‘.) والتقطت عينا أنجلز الخبيرة، فورا، مقاطع معينة في رأس المال حيث تركت الدمامل آثارها المزعجة، واتفق ماركس في الرأي معه بان الدمامل، ربما، صبغت بعض مقاطع نثره بالوان شاحبة. وصاح ماركس لاعنا’على اية حال، يراودني الامل أن تتذكر البرجوازية دماملي في لحظات احتضارها، أي ملة من الأوغاد هؤلاء البرجوازيون!‘

واختفت الدمامل حالما اكمل الصفحة الاخيرة. وقال له انجلز’كان يراودني، دوما، احساس بان مؤلفك اللعين الذي استغرق منك وقتا طويلا لانجازه كان أساس سوء طالعك، وانك لن تخرج من دوامتك هذه الا بعد ان ترميه عن كاهلك.‘ وبعد الاحساس’بعافية وقوة تعادل 500 فرس اصيل‘ توجه ماركس الى مدينة هامبورغ، في المانيا، في نيسان/ابريل عام 1867 لتسليم المخطوطة والاشراف على طباعتها. ولم تؤثر على معنوياته العالية حتى الاخبار التي أفادت ان الناشر يتوقع استلام المجلدين التاليين قبل نهاية السنة. وافاد ماركس متنبئأ’آمل واعتقد، بكل ثقة، بانه في غضون سنة، سيعترف بي الجميع، ‘. وشجعته ردود فعل قليلة من اؤلئك الذين سمح لهم بالقاء نظرة على اجزاء من مؤلفه بالأمل على أن اسمه وشهرته ستدويان في ارجاء اوربا كلها. وكما جاء في كلمات جوهان جيورج اكاريوس، حليف ماركس القديم في الرابطة الشيوعية والجمعية الدولية للشغيلة:’يشهد المعلم الملهم، الآن، وبنفسه، طبع خلاصة الحكمة برمتها.‘







#سعدي_عبد_اللطيف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب : -كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ الفصل ...
- كتاب : -كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين
- من أجل السلام الذي ترعاه: أحمد مختار مشرفاً موسيقياً في مشرو ...


المزيد.....




- مصدر إسرائيلي يعلق لـCNN على -الانفجار- في قاعدة عسكرية عراق ...
- بيان من هيئة الحشد الشعبي بعد انفجار ضخم استهدف مقرا لها بقا ...
- الحكومة المصرية توضح موقف التغيير الوزاري وحركة المحافظين
- -وفا-: إسرائيل تفجر مخزنا وسط مخيم نور شمس شرق مدينة طولكرم ...
- بوريل يدين عنف المستوطنين المتطرفين في إسرائيل ويدعو إلى محا ...
- عبد اللهيان: ما حدث الليلة الماضية لم يكن هجوما.. ونحن لن نر ...
- خبير عسكري مصري: اقتحام إسرائيل لرفح بات أمرا حتميا
- مصدر عراقي لـCNN: -انفجار ضخم- في قاعدة لـ-الحشد الشعبي-
- الدفاعات الجوية الروسية تسقط 5 مسيّرات أوكرانية في مقاطعة كو ...
- مسؤول أمريكي منتقدا إسرائيل: واشنطن مستاءة وبايدن لا يزال مخ ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعدي عبد اللطيف - كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ ترجمة سعدي عبد اللطيف - الفصل الثاني